إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

البقعة العجيبة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البقعة العجيبة




    البقعة العجيبة



    أتت ذات صباح برفقة أبيها ، حدث ذلك منذ زمن بعيد ، كانت ترتدي ثوبا أبيض بسيط ينم عن فقر الحال ، أظنها كانت في العاشرة ، طفلة جميلة ذات شعر بني طويل وملامح رقيقة ، لكن تعابيرها لم تكن سوية ، كانت عيناها تطرفان باستمرار ، وعلى فمها المفتوح جزئيا ارتسمت ابتسامة بلهاء وسال اللعاب مسترسلا حتى الذقن ، حتى مشيتها لم تكن طبيعية ، كانت تخطو كالبطريق . سارت مع أبيها وهي تقبض على يده بقوة ، دخلا إلى حجرة واسعة ذات جدران بيضاء ناصعة ، كانت هناك سيدة مسنة تجلس وراء مكتب ضخم في طرف الحجرة القصي ، كانت ملامحها جامدة وقاسية ، تحدثت إلى الأب قليلا ثم قدمت له بعض الأوراق ، سحب يده من يد طفلته لمليء تلك الأوراق ، لكنها لم تتركه ، تعلقت بساعده ، وحين انتهى من ملئ الأوراق وإمضاءها أتت سيدتان ترتديان ملابس بيضاء طويلة ، فنظر الأب إلى طفلته بأسى ، احتضنها ثم طبع قبلة حارة على جبينها وأخبرها بأنه سيتركها مع السيدتين لبرهة قصيرة ، لكنها تشبثت بملابسه .. دفنت رأسها في حضنه واسترسلت بالبكاء ، غير أن السيدتان بالرداء الأبيض أمسكتا بها بقوة وقامتا بجرها خارج الحجرة عبر ممر طويل بينما وقف والدها عند الباب ينظر إليها بحزن وهي تبتعد .. الطفلة صرخت بصعوبة كبيرة .. "با .. با .. بابـ .. بابا .. " .. فأجابها وهو يلوح بيده .. "أذهبي معهم .. سأعود بعد قليل .. لن أترككِ يا عزيزتي"..
    وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي شاهدت فيها مارغريت شيليتغ
    (Margaret Schilling ) أبيها ..

    ومثل مارغريت ، وعلى مدى عشرات السنين ، أتى الكثير من الناس بأطفالهم وإبائهم وأمهاتهم وأشقائهم وشقيقاتهم إلى هنا .. هم أيضا قالوا بأنهم سيعودون بعد قليل .. لكن معظمهم لم يعودوا أبدا .. فأغلب الناس لا ترغب بزيارة مصحة عقلية ، لا يرغبون بتذكر حقيقة أن فردا من عائلاتهم يقبع هناك ، ويخشون أن يعرف الآخرون ، لئلا توصم العائلة بالجنون .
    المصحات العقلية ظهرت في أوربا العصور الوسطى ، كان عملها في البداية قائم على أسس خرافية وغيبية ، ظن الناس بأن الاضطراب العقلي يحدث بسبب السحر والمس الشيطاني والغضب الإلهي . كان التسبب بالجنون هو أحد التهم الرئيسية الموجهة للساحرات خلال فترة مطاردتهن وحرقهن في أوربا ذلك الزمان.



    التطور الحقيقي في مجال الصحة العقلية حدث خلال القرن التاسع عشر . كان لبزوغ الثورة الصناعية وتعقد أسلوب الحياة أثرا بالغا في زيادة نسبة الاضطرابات العقلية بالمجتمع ، وأدى ذلك بالتالي إلى تعاظم الاهتمام بالمرض النفسي والعقلي ، فشيدت الكثير من المصحات العقلية الجديدة في أوربا ، وظهرت إلى الوجود نظريات جديدة واعدة في مجال الطب النفسي قائمة على أسس علمية وتجريبية . أما في الولايات المتحدة فقد زاد الاهتمام بالمرض العقلي بعد الحرب الأهلية الأمريكية (1861 - 1865) ، فأذى الحروب كما هو معروف لا يقتصر على الدمار والقتل فقط ، هي تترك وراءها أيضا أعدادا كبيرة من المضطربين نفسيا جراء الأحداث التي واكبوها والمشاهد التي طالعوها خلال الحرب . ولهذا شرعت الحكومة الأمريكية بعد انتهاء الحرب مباشرة بتشييد عدد من المصحات العقلية الجديدة . إحدى هذه المصحات بنيت في ولاية أوهايو ، تحديدا بالقرب من مدينة أثينا الأمريكية ، واستغرقت عملية بناءها ستة أعوام ، ابتداء من عام 1868 ، وجرى افتتاحها رسميا في عام 1874 تحت أسم مصحة أثينا العقلية (Athens Lunatic Asylum ) وتعرف أيضا بأسم التلال (The Ridges ) لوقوعها فوق مرتفع , وهي تمتد على مساحة شاسعة تقدر بحوالي 2000 دونم تبرع بها أحد الأثرياء المحليين .


    المصحة الجديدة ضمت أكثر من 500 غرفة لإيواء المرضى ، واحتوت على الكثير من الأقسام والبنايات الملحقة . وكانت تعتمد أسلوب الاكتفاء الذاتي ، ففيها بيوت زجاجية لإنتاج الخضر والفواكه ، وحقول دواجن ، وحظائر للماشية والأغنام ، ومعمل للألبان ، ومخابز . كانت مصحة نموذجية ، خصوصا خلال سنواتها الأولى حيث لم يكن عدد المرضى كبيرا . لكن الأمور تغيرت بصورة دراماتيكية خلال السنوات اللاحقة ، فمع ذيوع صيت المصحة كواحدة من أحدث وأفضل المصحات العقلية في البلاد بدأ الناس يتدفقون عليها من كل حدب وصوب لإيداع أقربائهم فيها ، وهكذا قفز عدد نزلاء المصحة من 200 إلى 2000 بنهاية القرن التاسع عشر . ومع زيادة العدد ساءت الأوضاع ، فاضطرت إدارة المصحة إلى توظيف عاملين غير مؤهلين من أجل العناية بهذا العدد الكبير من المرضى ، وبالتالي انخفضت مستويات الرعاية والعناية المقدمة ، وتم اللجوء لأساليب قاسية وغير إنسانية للسيطرة على النزلاء .
    أحد الأسباب الرئيسية التي أدت لزيادة عدد المرضى هو التعريف الفضفاض لمعنى الجنون والاضطراب العقلي في ذلك الزمان ، فالعديد من الحالات المرضية الجسدية والانحرافات السلوكية كانت تصنف ضمن نطاق الاضطراب العقلي ، كالصرع والشذوذ الجنسي وإدمان الكحول ومشاكل انقطاع الطمث والسلوك الإجرامي .. وحتى مرضى السل . والكثير من حالات الجنون كانت تنسب إلى أسباب غير واقعية ، كممارسة العادة السرية والخلاعة والانغماس في الملذات الحسية . وبدون تحديد وفهم موضوعي لسبب المرض كان الفشل هو الحليف الطبيعي للعلاج الذي أتسم غالبا بالقسوة والعبثية . فكان المرضى يوضعون في أحواض الماء البارد ، ويتعرضون بإفراط للصدمات الكهربائية ، وتقدم لهم أدوية مخدرة ومسكنة ذات تأثيرات جانبية خطيرة من اجل تهدئتهم والسيطرة عليهم . أما أسوأ طرق العلاج وأكثرها قسوة فهي ما كان يعرف بأسم جراحة فص المخ الأمامي (Lobotomy ) ، وهي طريقة ظهرت خلال عقد الثلاثينات من القرن العشرين ، وحاز مخترعها جراح الأعصاب البرتغالي ايغاس مونيز على جائزة نوبل في الطب ، وتقوم على إدخال مبضع معدني إلى داخل رأس المريض عبر فتحة بالجمجمة من أجل قص الأربطة العصبية التي تربط الفص الدماغي الأمامي مع سائر أجزاء الدماغ الأخرى . كانوا يعتقدون أن الكثير من الاضطرابات العقلية منشأها هذه المنطقة ، وبأن فصلها وعزلها عن باقي أجزاء الدماغ ستؤدي إلى تحسن حالة المريض . وخلال فترة الأربعينات أخترع طبيب أمريكي يدعى والتر فريمان طريقة مبسطة لإجراء العملية عن طريق قضيب معدني طويل يتم دفعه عبر محجر العين وصولا إلى الدماغ . هذه الطريقة لا تحتاج إلى تخدير المريض وثقب جمجمته ، ويمكن لأي طبيب إجرائها حتى في منزل المريض . وهكذا فقد توسع الأطباء في اللجوء إلى جراحة الفص الأمامي حتى أصبحت طريقة رئيسية للعلاج في الكثير من المصحات العقلية ، وخضع لها آلاف المرضى رغما عنهم .

    المؤسف في الأمر هو أن هذه الطريقة العلاجية كانت قائمة على جهل مطبق بآلية عمل الدماغ .. نعم كان بعض المرضى يتحسنون ، وبعضهم – في حالات نادرة قليلة – يتماثلون للشفاء ، لكن أغلبية المرضى واجهوا الأسوأ ، الكثير منهم ماتوا مباشرة بعد العملية جراء نزيف ، آخرون انتكست حالتهم وازداد اضطرابهم العقلي ، بعضهم أصيبوا بإعاقة دائمة . أما سبب نجاح بعض العمليات وفشل بعضها الآخر – معظمها – فهو أن الأطباء لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون أصلا ، كان الأمر عشوائيا ، أشبه بالحظ والنصيب ، كانوا يقطعون أوصال الفص الأمامي للمخ بمباضعهم من دون علم ومعرفة حقيقية بوظائف هذا الجزء الذي يعبثون به . الأمر أشبه برمي حجر في الظلمة ، ونادرا ما كان ذلك الحجر يصيب هدفه ، لهذا تم حضر هذه الطريقة في الستينات ووصفت بالبربرية والغير إنسانية .


    مصحة
    أثينا العقلية كانت واحدة من المصحات التي طبقت فيها كل الطرق سيئة الصيت التي ذكرناها أنفا . كانت تحتوي على أعداد كبيرة من المرضى ، وكان هناك أقسام وأبنية خاصة بكل صنف من المرضى . الرجال والنساء كانوا مفصولين عن بعض . وكان المرضى الأكثر اضطرابا يوضعون في الأجنحة القريبة من سكن الأطباء والممرضات لكي يكونوا تحت الملاحظة والمراقبة المستمرة ، أما المرضى العنيفين وذوي الميول الإجرامية فكانوا يوضعون في الأجنحة البعيدة . وكان مرضى السل – بعض الأمراض مثل السل والزهري (سفلس) قد تؤدي للاضطراب العقلي في مراحلها المتأخرة - معزولون في بناية منفصلة وبعيدة عن البنايات الأخرى خشية العدوى .

    هناك أيضا مقبرة واسعة ملحقة بالمصحة يذهب إليها الموتى من المرضى ، وفيها قرابة الألفين قبر مقسمة على ثلاثة مقابر تتصل مع بعضها بشكل دائري . أغلب القبور لا تحمل أسما وليس عليها سوى رقم . وقد تعرضت هذه المقبرة لإهمال كبير في العقود الأخيرة وتم العبث بها ، ويقال بأن الحلقة الدائرية التي يشكلها التقاء المقابر الثلاثة استعملت من قبل الساحرات في طقوس سرية تجري تحت جنح الظلام لتحضير الشياطين والأرواح الشريرة.


    مصحة أثينا العقلية أغلقت أبوابها عام 1993 بسبب تناقص أعداد مرضاها بشكل كبير خلال عقد الثمانينات من القرن المنصرم ، إذ كان لتطور أساليب العلاج دورا كبيرا في تقليص أعداد المرضى ، وبالتالي أصبح الأنفاق على مصحة عملاقة من أجل حفنة قليلة من المرضى أمر غير مجدي اقتصاديا .

    مباني ومنشآت المصحة ضمت إلى جامعة أوهايو ، والكثير منها بقيت مهجورة ، ونظرا لمساحتها وقدمها فقد ظهرت حكايات لا تعد ولا تحصى عن أشباح مجنونة تظهر ليلا لتطوف في الردهات والممرات الخاوية ، وأخرى تتجول عند المقبرة القديمة . هناك من يزعم بأن أمورا فضيعة حدثت داخل المصحة خلال تاريخها الطويل .. اغتصاب .. قتل .. تعذيب .. إهمال المرضى .. تجارب سرية .. عقلاء سجنوا مع المجانين قسرا .. الخ .. وأن الأمور الغريبة التي تحدث في المصحة اليوم ما هي إلا انعكاس لتلك الموبقات والجرائم المنسية .

    وقد يظن البعض بأنها مجرد حكايات لا أساس لها من الصحة ، مثلها مثل الحكايات التي تلاحق أكثر المباني المهجورة .. لكن مصحة أثينا تخبأ في جوفها أمرا خارقا لا مثيل له في أي مكان مسكون آخر .

    تذكرون مارغريت .. تلك الطفلة التي حدثتكم عنها في بداية قصتنا حيث تركها والدها في المصحة .. لقد كبرت ، أصبح عمرها الآن 53 عاما ، لكنها ظلت بعقل طفلة .. ولأنها نزيلة قديمة وتعاني من اضطراب عقلي مزمن ، لكن مستقر ، فقد سمح لها الأطباء بالتجول بحرية في أرجاء المصحة ، وقد أحبها الجميع لكونها ودودة ولا تؤذي أحدا ، كانت تتجول في العنابر والردهات تحتضن دمية قديمة من القماش وتبتسم للأطباء وتمازحهم بأسلوب طفولي وتحاول اللعب مع الممرضات ، من دون أن يعيروها اهتماما كبيرا . وفي ذات يوم من عام 1978 أرادت مارغريت أن تلعب لعبة الاختباء (الغميضة - الاستغماية) مع الممرضات ، ولأن أحدا لم يكن يهتم لما تقوله أو تفعله ، لذلك لم يكلف أحدهم نفسه عناء البحث عنها ، ولم ينتبهوا إلى اختفائها إلا بعد مرور عدة أيام . فجرى البحث عنها في كل مكان .. لكن من دون أن يعثروا لها على أثر وتم إبلاغ الشرطة .




    من يبالي .. أذا كان أبوها نفسه قد تركها هنا ولم يكلف نفسه عناء السؤال عنها .. فمن يبالي بموتها .. أخذوا جثتها ودفنوها في أحد تلك القبور المجهولة التي لا تحمل أسما ، أصبحت رقما آخر في مقبرة المصحة .. مجرد رقم .
    وفي اليوم التالي أتى عدد من عمال النظافة وقاموا بغسل البقعة التي ماتت فيها ثم غادروا المكان .. أقفلوا الباب وانتهى الأمر .. نسي الجميع مارغريت وقصتها المفجعة .. لكن مارغريت أبت إلا أن تبقى في الذاكرة .. فبعد فترة فتح عامل صيانة باب تلك الحجرة التي شهدت موت مارغريت من أجل إجراء بعض التصليحات وذهل لما شاهده ، فعلى الأرض كانت توجد بقعة بيضاء في نفس المكان الذي ماتت فيه مارغريت ، والغريب أن البقعة اتخذت شكل امرأة نائمة .

    تم استدعاء عمال النظافة مرة أخرى ، غسلوا الأرضية مجددا ، استعملوا أقوى مستحضرات التنظيف ، لكن من دون فائدة .. فالبقعة تأبى أن تزول لسبب غير معلوم . ويقال بأن شبح مارغريت يظهر أحيانا في تلك البناية المتروكة التي شهدت موتها ، تحمل دميتها وتركض بين الحجرات والممرات المظلمة .. ربما مازالت تلعب الاختباء وتبحث عمن يجدها .

    الجدير بالذكر أن بعض العلماء شككوا بقصة البقعة وظنوا بأنها مجرد خدعة لجذب الانتباه ، لذلك قاموا بفحص المكان بأنفسهم وتوصلوا في النهاية إلى أن البقعة حقيقة ، أي أنها لم تحدث بسبب حك الأرضية الأسمنتية أو رشها بمادة كيميائية ، وكان التفسير الأكثر منطقية برأيهم لظهور البقعة في المكان الذي ماتت فيه مارغريت هو حدوث نوع من التفاعل الكيماوي بين الأرضية الأسمنتية والإفرازات التي نتجت عن تحلل وتعفن جسدها خلال مدة الأربعين يوم التي بقيت فيها مسجاة فوق الأرضية . لكن ما يشوب هذه النظرية هو أن مارغريت ماتت في عز الشتاء ، في منطقة شديدة البرودة ، ولم تكن الحجرة مكيفة ، وهي امرأة ضعيفة البنية ، وعليه فمن المستبعد أن يكون جسدها قد تحلل بتلك الصورة التي يتحدث عنها العلماء .

    هناك نظرية أخرى ، يؤمن بها بعض الناس ، تزعم بأن موت مارغريت لم يكن عرضيا ، فقصة اختفائها وموتها في مبنى متروك لأنها تريد أن تلعب الاختباء تبدو ساذجة وغير قابلة للتصديق برأيهم ، هم يؤمنون بأنها تعرضت للاغتصاب على يد أحد العمال أو الحراس في المصحة ، خدعها واستدرجها إلى المبنى المتروك ، فهي لم تكن إلا طفلة بجسد امرأة ، وبعد أن قضى وطره منها قام بقتلها خشية افتضاح أمره . وبحسب المؤمنين بهذه النظرية فأن البقعة لم تظهر بفعل تفاعل كيماوي ولا غيره ، وإنما ظهرت بفعل قدرة وإرادة ربانية كبرهان ودليل على ما تعرضت له تلك المرأة المسكينة التي لم تكن تفقه شيئا مما يجري حولها .
    ما رأيكم أنتم ؟ ..

    منقول

    التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2013-10-19, 07:55 AM.

  • #2
    أسلوبك مميّز في سرد المواضيع بارك الله فيك
    العلم من الله
    نحن لا ندعي المعرفة
    بل على الأرض نلتقي
    لا خير في امرىء كتم علم
    احفظ ما شئت من الدنيا لكن لا تحفظ علما
    شء ما شئت فلن تنال غير الذي قدر لك
    و أطلب المنايا و لا تكن كالذي يقف بالهواء
    و أحلم ما استطعت و ما كتب لك فأنت آخذه

    قصة عشقي للإشارات قصة طويلة ، الابداع ليس غايتي و لكن الكمال نصب عيني ...

    تعليق


    • #3
      رائع جدا وقصه واسوب مشوق دائما .. تحياتى

      قال إبن القيم
      ( أغبي الناس من ضل في اخر سفره وقد قارب المنزل)

      تعليق


      • #4



        تعرض المرضى النفسيون عبر العصور وفي مختلف مناطق العالم للتحيز والرفض والخوف والاجتناب، فضلاً عن إساءة المعاملة والاستغلال. وعلى مدى قرون طويلة كان يُنظر إلى الاضطرابات النفسية نظرة غيبية، وكان يعتقد أن أسبابها ترجع إلى قوى خارقة للطبيعة: إما شيطانية شريرة أو إلهية مقدسة.

        وفي أوروبا شهدت العصور الوسطى قسوة شديدة في التعامل مع المرضى النفسيين، الذين كثيراً ما كان يتم تعذيبهم وقتلهم وحرقهم لطرد الأرواح الشريرة التي تسكنهم. وبحلول القرن السابع عشر تراجعت التفسيرات الغيبية للمرض النفسي وأصبح يعتبر خللاً عضوياً. إلا أن تلك التفسيرات أيضاً لم تكن تستجلب التعاطف أو التسامح، إذ اعتبر المريض مسئولاً عن مرضه وعن الاختلال في مشاعره، وبالتالي فهو يستحق العقاب. وبالفعل، فقد نال العقاب الكثير من المرضى، والفقراء منهم على وجه الخصوص، حيث كان يتم حبسهم في السجون العامة والمصحات والمشاغل والمعازل الفقيرة، وهناك يحيون معيشة غير آدمية وفي ظروف شديدة القسوة، ويتعرضون لكافة أنواع الإساءة والاستغلال.

        ومع بداية ظهور النزعة الإنسانية في منتصف القرن الثامن عشر ظهرت الدعوة إلى وضع حد لهذا التعامل غير الإنساني مع المرضى النفسيين. وتم بناء مصحات كبيرة لاحتوائهم بدلا من السجون. وبدأ تطبيق "العلاج الأخلاقي" الذي يهدف إلى تقديم الرعاية الإنسانية للمرضى وتشجيعهم على مناقشة متاعبهم وعلى التصرف بشكل "سوي". إلا أن الأحوال داخل هذه المصحات الكبيرة سرعان ما تدهورت، لتتحول بدورها إلى أماكن لعزل واحتجاز المرضى في ظروف شديدة السوء. واستمر هذا الوضع في القرن التاسع عشر، على الرغم من أن هذا القرن شهد بداية ظهور علم النفس كأحد فروع الطب.

        إلا أن المرضى النفسيين، وسواهم من أصحاب السلوك المخالف للسائد في المجتمع، استمروا يعزلون في مصحات كبيرة أو مؤسسات للرعاية تبنى على أطراف المدن ولا تختلف كثيراً عن السجون.

        وفي العالم العربي ارتبط المرض النفسي أيضاً بالقوى الخارقة أو بالتفسير الديني، وعلى وجه الخصوص بالجان الذين كان المرض النفسي ينسب إلى فعلهم. ورغم أن المرضى النفسيين كانوا يتمتعون بالقبول النسبي لهذا السبب، فقد تراوحت الطريقة التي تعامل بها الناس معهم بتراوح القيم التي سادت كل عصر، وإن استمر اجتنابهم واستخدام القسوة ضدهم في أغلب الأوقات. ويذكر أستاذ الطب النفسي الدكتور أحمد عكاشة أن أولى مستشفيات الأمراض العقلية في العالم بنيت في الشام ومصر في القرن الثامن الميلادي. وتعتبر المؤلفات الطبية لكل من الرازي وابن سينا، في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، من بين أولى الكتابات والتصنيفات الطبية في العالم عن الأمراض النفسية، والتي تعاملت مع "الجنون" باعتباره مرضاً يصيب العقل أو الدماغ ويؤثر في وظائفها، وصنفت الأمراض طبقا لهذا الفهم مع توصيف طرق علاجها.

        وفي القرن الرابع عشر بلغت مستشفى قلاوون بالقاهرة شهرة كبيرة، وكان بها قسم للأمراض النفسية إلى جانب الأقسام الطبية الأخرى، وتعتبر بهذا مثالاً مبكراً في تقديم الرعاية الطبية النفسية ضمن إطار مستشفيات الصحة العامة قبل وقتنا الحالي بستة قرون.

        وفضلاً عن أن هذه المستشفى كانت تقدم خدمات الصحة النفسية للفقراء، فقد كان المرضى النفسيون المحتجزون بها لا يتم عزلهم عن باقي المرضى إلا في حالات استثنائية. ويذكر المقريزي أن السلطان بنفسه كان شديد الاهتمام بها، وأنه كان يزور المرضى العقليين المحتجزين بها عند زيارته للمستشفى. غير أن العصور التالية شهدت تدهوراً في أحوال المرضى النفسيين وفقدت مستشفيات القاهرة مكانتها، خصوصاً مع مصادرة أموالها والأوقاف المخصصة لها.

        وفي ظل الاحتلال البريطاني، أنشئت مستشفى العباسية في عام 1883 لحجز المرضى النفسيين، تلاها في عام 1912 مستشفى الخانكة، وكلتاهما من المصحات الكبيرة التي ضمت أكثر من ألف سرير وبنيت على مساحات ضخمة على أطراف المدن (آنذاك)، لتماثل النموذج الغربي التي نقلت عنه.

        تطورات ايجابية

        مع نمو حركة حقوق الإنسان عقب الحرب العالمية الثانية، وتأكيدها على الحقوق والحريات الأساسية لجميع الأفراد دون تمييز، وما سعت إليه هذه الحركة من الكشف عن الانتهاكات التي يتعرض لها الأفراد، بدأ الكشف عن الانتهاكات البشعة التي كان المرضى النفسيون يتعرضون لها في المصحات النفسية ودور الإيواء. وصدرت شهادات حية وتقارير عديدة عن الظروف السائدة خلف أسوار تلك المصحات، والجرائم والانتهاكات التي ارتكبت بداخلها.

        ومع تواتر هذه التقارير والشهادات، تنامت الإدانة لنظم العلاج في المصحات التي شهدت انتهاكات مريعة لحقوق الإنسان من ناحية، وأثبتت فشلاً ذريعاً في النواحي العلاجية من ناحية أخرى. حيث أظهرت الأبحاث أن الأثر العلاجي لهذه المصحات ضئيل للغاية، بل وأنها قد تؤدي إلى تفاقم المرض نفسه أو إلى ظهور أنواع إضافية من المرض والإعاقة بسبب العزل لفترات طويلة.

        وأدى التقدم العلمي غير المسبوق في علوم الأعصاب والعلوم الكيمائية، إضافة للطفرة التي حدثت في اكتشاف أدوية وعقاقير الأمراض النفسية في النصف الثاني من القرن العشرين وظهور أشكال جديدة من العلاج النفسي والسلوكي إلى تغيير النظرة إلى الاضطرابات النفسية، فأصبحت تعتبر أمراضاً مثلها مثل الأمراض الجسدية، تحدث بسبب تفاعل مجموعة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، والأهم أنها أيضاً قابلة للعلاج وللشفاء كسائر الأمراض.

        وهكذا كان من محصلة الاعتراف بالحقوق الإنسانية للمرضى النفسيين، وتزايد الأدلة على فشل نظام المصحات النفسية، إلى جانب الاكتشافات العلمية والتقنيات الحديثة، أن حدث تحول جذري خلال النصف الأخير من القرن الماضي في النموذج العلاجي للاضطرابات النفسية: من العزل في المصحات النفسية ومؤسسات الإيواء المغلقة إلى الرعاية المفتوحة وإعادة الاندماج في المجتمع. وترتب على ذلك التوجه أن تناقصت أعداد المرضى الذين يعالجون داخل المصحات النفسية وفي بعض الأحوال تم إغلاقها كلية، كما حدث في ايطاليا، حيث نص قانون إصلاح الصحة النفسية الصادر عام 1978 على إغلاق المستشفيات النفسية واستبدالها بشبكة متكاملة من خدمات الرعاية المجتمعية. وانخرطت العديد من المجتمعات في الدول المتقدمة والنامية على السواء في عملية التحول من الاعتماد على نموذج العلاج في المستشفيات والمصحات النفسية لصالح توفير الخدمات التي تقدم الرعاية والعلاج النفسي داخل المجتمع، مثل العيادات الخارجية، وأقسام المستشفيات العامة، ومراكز الحالات الطارئة، والخدمات الطبية المتنقلة، وخدمات الإقامة النهارية، وخدمات دعم العائلات والقائمين على الرعاية المنزلية للمرضى.

        ويهدف نموذج العلاج داخل المجتمع، على عكس نموذج إبعاد المرضى وعزلهم داخل المستشفيات، إلى ضمان حصول غالبية المرضى على الرعاية الصحية التي يحتاجونها داخل مجتمعاتهم وأماكن إقامتهم، وهي الرعاية التي يجب أن تكون هذه الرعاية متاحة للأفراد المصابين باضطرابات نفسية، وأن تستجيب لاحتياجاتهم وتستعمل تقنيات علاجية فعالة تمكن من تعزيز قدراتهم على مساعدة أنفسهم. كما يجب أن تقوم الرعاية المجتمعية على إشراك العائلات والآخرين من القائمين على العناية بالأفراد المصابين باضطرابات نفسية في كافة الجهود المبذولة لمساندة المرضى، وتحفيز المجتمع من أجل القيام بدوره في هذا الصدد.




        تعليق

        يعمل...
        X