إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مملكة الشيطان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مملكة الشيطان

    مملكة الشيطان





    الشخصية التي منحها الله تعالى خلوداً دنيوياً حتى قيام الساعة ، تلك الشخصية التي تتمتع بقوى غيبية مجهولة يستمد منها السحرة والمشعوذين قواهم وقدراتهم المزعومة، الشخصية التي تخوض حرباً ضروساً لا هوادة فيها ضد النور والإيمان، أين يمكن أن تكون ؟ وهل من الممكن أن يكون مكانها مجرد أبعاد قياسية عادية تسري عليها قوانين الطول والعرض والارتفاع والزمن ؟ وهل أصاب الخيال البشري حين جعل مكان الشيطان هو الجحيم ذاته باعتباره ملكاً عليه ؟ أم هل أصاب حين جعله سيدا لعالم من الملذات والمسرات الأرضية ؟ وفي كلا الحالتين ، أين توجد مملكة الشيطان ؟

    أين توجد مملكة الشيطان ؟
    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة "


    فالحديث الشريف هنا ينص صراحة على أمرين في غاية الأهمية : الأول هو أن إبليس صاحب عرش كعروش الملوك ، والأمر الثاني هو أنه يبعث ( سرايا ) أي أنه كالقائد الحربي الذي يرسل فرقاً واستطلاعات في مهمات محددة ، وهو الأمر الذي يستدعي تنظيماً خاصاً لهذه السرايا وتعيين قواد و وزراء ومبعوثين. . . الخ .


    - كما أن الحديث ينص على أن إبليس يضع عرشه على الماء، فأين هذا الماء ؟ وهل يصلح أي مسطح مائي ليكون مستقراً لعرش إبليس ؟ أم أنه مكان بعينه محيط أو بحر معين - لم ينص عليه الحديث الشريف ؟في الحقيقة لم يخصص صراحة بحراً أو محيطاً بعينه ليكون هو المكان المحدد لعرش إبليس ، غير أنة قد ذكرت عدة روايات تفيد أن هذه المسألة ليست حكراُ على إبليس وحده وإنما قد يشترك معه فيها بعض أبنائه أو بناته من ذوي النفوذ ،


    حيث روى محمد بن اسحق النديم فى كتابه الشهير " الفهرست " في سياق تفسيره لمصدر قدرات السحرة الذين يستعينون بالشياطين :" فأما الطريقة المذمومة وهي طريقة السحرة ، فزعم من يخبر ذلك أن ( بيذخ ) ابنة إبليس ، وقيل هى ابنة ابن إبليس وأن لها عرشاً على الماء وأن المريد لهذا الأمر متى فعل لها ما تريد ، وصل إليها وخدمته ما يريد وقضت حوائجه ولم يحتجب عنها . والذي يفعل لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق وأن يدع المفترضات ويستعمل كل ما يقبح فى العقل استعماله وقد قيل أن ( بيذخ ) هو إبليس نفسه . وقال آخر : إن (بيذخ ) يجلس على عرشها . فيحمل إليها المريد لطاعتها فيسجد لها ( تعالى الله وتقدست أسماؤه) وقال لي إنسان منهم أنه رآها في النوم جالسة على هيئتها فى اليقظة وأنه رأى حولها قوماً يشبهون النبط سوادية ، حفاة مشققى الأعقاب .


    ويبدو أن جميع الأماكن التي يندر وجود البشر فيها تصلح مستقراً لمملكة الشيطان ؟ حيث ينص الكتاب المقدس /العهد الجديد على أن الشيطان هو رئيس قوات ومملكة الهواء / الجو فنقرأ في " رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس " في الإصحاح الثاني الآية الثانية : " التي سلكتم فيها قبلاً حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذى يعمل الآن فى أبناءالمعصية " بل إن النظرة المسيحية تسحب سلطان إبليس لكي يغطي العالم كله ، على اعتبار أن هذا العالم الدنيوي هو مستقر الشرور والآلام فى مقابل عالم الآخرة الذي هو مستقر النعيم الحقيقي ؟حيث يورد إنجيل يوحنا الإصحاح 12 ، آية 31 ، مشهداً ليوم القيامة / يوم الدينونة حين ينهزم الشيطان ويطرد : " " الآن دينونة هذا العالم . الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً ) . وهذه النظرة التي ترى في إبليس رئيساً لهذا العالم هي التي توضح معنى ما حدث بين الشيطان وبين السيد المسيح ، حين أراد الشيطان أن يغويه ويضله عن أمانة الرسالة التي يحملها فعرض عليه أن ينصبه ملكاً على جميع ممالك العالم ، وهو الأمر الذي لن يحدث ما لم يكن إبليس متملكاً لها في الأصل .ورد ذلك في "إنجيل متى" - الإصحاح الرابع والآيات من 1 إلى 11



    هذا في الوقت الذي نصت فيه العديد من الأشعار والمعتقدات الشعبية الأوربية ، بل وبعض كتب السحر على أن عرش إبليس يقع فى أقصى الشمال الجغرافي للأرض ، ولذلك كان الشمال دائماً مرتبطاً بالشر فى أذهان الكثير من الناس .


    ومع تأمل المفاهيم السابقة التي وردت سواء ضمن نصوص مقدسة أو كمفاهيم شائعة نستخلص بصفة عامة أن المملكة الشيطانية ذات طابع أرضي مرتبط بهذا العالم الذي نعيش فيه ، وذلك على الرغم من إختفائها واختفاء سكانها عن الأنظار ، كما نستخلص أن هذه المملكة على شيئ كبير من النفوذ والقوة الأمر الذي يمكن كبار شياطينها من إمداد السحرة والمتقربين إليهم بقوة تدميرية - فضلا عن العرض الذي عرضه الشيطان على السيد المسيح بإعطائه ملك العالم - وهو الأمر الذى يتضح أيضاً من إمكانات الشيطان في تطويع سطح الماء كمستقر لعرشه .


    كما نخلص أيضاً إلى أن الأماكن التي تتميز بندرة الوجود البشري كالبحار وجو السماء وأقصى الشمال هي الأماكن المثالية لوجود مملكة الشيطان .


    مجتمع المملكة الشيطانية




    تعددت التصورات التى جعلت من كيانات قوى الشر الغيبية مجتمعأ له قوانينه وتقسيماته المهنية ورتبه ووظائفه وقواده وملوكه . وقد جعلت الكنيسة من كل إله قديم شيطانأ ولكن كان ينقصهم التدرج الهرمي



    .وشيئأ فشيئآ بدأت التصورات المتعلقة بتدرج المجتمع الشيطاني كما هي معروفة الآن تتضح فى المخيلة الأوروبية مساهمة في تكوين علم الديمونولوجي Demonology بشكل شمل كل ما يمكن أن يتعلق بعالم هذه الكيانات الشريرة الغيبية.


    وفي القرن السادس عشر، ظهر في ألمانيا كتاب مؤلف باللغة اللاتينية بعنوان بسيودو موناركيا دايمونيو Psudo Monarchia Daemonum يحتوي على صفات وأسماء 69 شيطاناً كتصور لمجتمع شيطاني أولي . ويعتبر هذا المؤلف أكثر المؤلفات شهرة من نوعه حتى كان عام 1863 : حيث ظهر كتاب القاموس الجهنمي Dictionaire Infernal في فرنسا على شكل مجموعة لوحات مطبوعة نفذها الحفار الفرنسي كوليندي بلانسى ( 1794 - 1881 ) معتمداً على مجموعة من الرسوم التوضيحية التى رسمها المتصوف الفرنسي لويس بيرتون ( 1785- 1849) ونشرت المجموعة مع وصف مختصر فى كتاب " القاموس الجهنمي " وقد طبع الكتاب باللغة الفرنسية وتجددت طباعته عدة مرات خلال القرن التاسع عشر . وقد احتوى القاموس الجهنمي على 69 لوحة حفر يمثل كل منها شيطانآ معينآ ويمثلون فى مجموعهم سادة العالم الشيطاني ،فظهر لوسيفر Lucifer امبراطور العالم السفلي وبعلزبوب Beelzebub الامير و "عشتروت " Ashtarot الدوق الاكبر ولوسيفوج Lucifug رئيس الوزارء وساتاناشيا Satanachia Nebiros قائد المعسكر وعشرات غيرهم. ولكل منهم علاماته و رموزه وإبتهالاته. - الصورة تبين مجموعة من الرسومات التي تمثل الشياطين في القاموس الجهنمي.


    سادة الظلام

    بالطبع لم تقتصر المملكة الشيطانية على المجموعة السابق ذكرها، فقد حوت في تكوينها ملايين الأفراد المقسمين إلى مراتب وتخصصات ، والذين يتميز كل منهم بسمات شكلية وأخلاقية معينة وبقدرات وطاقات ومواهب لا يشترك معه فيها غيره.إلا أن بعض هؤلاء نالوا الشهرة أكثر من غيرهم وذلك لعدة أسباب منها :- ورود ذكرهم فى سياق نص الكتب السماوية المقدسة .

    - كون بعضهم من آلهة الحضارات القديمة وأوثانها وتحولهم إلى أبالسة بتأثير قدوم الديانات السماوية ، مع استمرار إسناد أدوار الإفساد والغواية إليهم .

    - ورود بعضهم كشخصيات رئيسية فى صلب أعمال أدبية شهيرة ساعدت على انتشار شهرتهم بالتبعية .

    - ارتباط بعضهم بأدوار محددة فى أعمال السحر كما تراها كتبه ومؤلفاته ، وبالتالي انتقالهم إلى حيز الشهرة بتأثير تداول هذه الكتب والمؤلفات .

    من أشهر هؤلاء الأبالسة : لوسيفر / حامل الضياء و بليعال شيطان الفساد ، و مفيستوفيليس شيطانة الغواية ولوياتان تنين أعماق المياه المظلمة .

    1-
    لوسيفر Lucifer



    حامل الضياء من أسماء الشيطان التى دخلت في الدلالات اللغوية اسم لوسيفر Lucifer أو حامل الضياء، وهو في أصله اللاتيني يعني اسم كوكب الزهرة (نجمة الصباح والمساء) ، في بادئ الأمر لم يكن لذلك الاسم دلالة سيئة ولكنه جاء فى كلام النبي أشعياء فى معرض التبكيت لملك بابل الذي سمى نفسه بكوكب الصباح ، وفهم الحواريون من كلام السيد المسيح أنه رأى الشيطان كنجم سقط من السماء ، إن المقصود هو الزهرة وإنه كناية عن الخيلاء التي تقود صاحبها إلى السقوط . ويذكر سفر الرؤيا على لسان السيد المسيح أن إبليس تحدث عن نفسه فقال : "أنا كوكب الصبح المنير". وإذا وصف إنسان اليوم بأنه شبية لوسيفر فالمفهوم من هذ الوصف ، أنه يلمع ويتخايل باللمعان ويبلغ من العجب به حد السماجة والصفاقة، فهو الخطيئة الساطعة أو الخيلاء المتبجحة ، ومن كان كذلك فسقوطه أمل يود الناس أن يتحقق ،ولا يشعرون له بالرثاء الذي يصاحب المجد النهار وهو الشيطان الذي ذكرته " أعمال الرسل " على اعتبار أنه قادر هو وأتباعه على التشبه بملائكة النور .

    كما ورد ذكره فى ملحمة " الكوميديا الإلهية " الشهيرة باسم لوتشيفيرو ، حيث كان مستقره هو مركز الجحيم المظلم في كهف بارد ملىء بالثلوج.

    2-
    بليعال
    Belial





    بليعال شيطان الفساد ويتضمن اسمه معنى وظيفته ومصيره :، فمن المعتقد أن هذه الكلمة مكونة من كلمتين عربيتين أولهما بمعنى " بلا " أو " بدون" والثانية بمعنى فائدة فيكون معنى الكلمة : " بلا فائدة " ، أي " لا نفع فيه " . وفي التلمود يعتبرونها كلمة مرعبة بمعنى " بدون نير " وإن كان الكثيرون لا يقبلون هذا التفسير . ويرى آخرون أنها تعني من طرح عنه نير السماء . وهكذا أصبح جامحأ بلا قانون أو خارجأ عن القانون ، وسواء كان الرأي الأول أو الثاني فإنهما يؤديان نفس المعنى وهو البعيد عن رحمة السماء أو رحمة الرب بسبب الخروج عن دائرة الدين . وفي الكتابات اليهودية في العصور المتأخرة أصبحت كلمة بليعال تستخدم علمأ على الشيطان وتطلق كذلك على المسيح الدجال .

    3-
    مفيستوفيليس
    Mephistopheles




    هو شيطان الغواية والداهية الذي لعب دورا ً أساسياً فى رواية " فاوست " العمل الأشهر لأديب ألمانيا "غوته " .


    ويقال أن كلمة " مفيستوفيليس" أنها مأخوذة من كلمة يونانية مركبة تفيد كراهية النور ولكن متفق على ان أصلها القديم مستمد من السحر البابلي الذي سرى إلى العرب على أيدي اليهود واليونان ، مفيستوفيليس هي ذهنية موسومة بعيوب الذهن في أسوأ حالاته من السخرية والاستخفاف والزراية بالمثل العليا واستباحة كل شىء بالحيلة والمكر والدهاء فهو ذهن يصنع الشر لأنه لا يبالي الشر والخير على السواء ، وإذا طلب له الخير فعله غير مغتبط بفعله ، كما أنه يفعل الشر ولا يلوم نفسه عليه.، و قد كان مفيستوفيليس فى القرون الوسطى شيطان السحر والمعرفة السوداء ، وكان رجال الدين يتخذونه مثالأ للعلماء الكفار الذين غرتهم المعرفة الدنيوية فانصرفوا إليها وشغلوا بها عن معارف الدين .

    4- لوياتان
    Leviathan




    كان لوياتان في الأصل وحشاً مخيفاً في الأساطير الفينيقية واسمه يعني " الملتوي على نفسه" ، انتقل بعد ذلك ليتجسد فى الأساطير الكنعانية في شخص " لوتان " الوحش ذو السبعة رؤوس كما انتقل إلى شخص تيامات Tiamat في الأساطير الرافدية . وهو في العهد القديم يمثل التنين الذي يصرعه الإله يهوة Yahweh، وكان فكاه أحياناً يمثلان بوابتي الجحيم وقد ورد وصفه فى العهد القديم كالآتي: " أتصطاد لوياتان أو تضغط لسانه بحبل . أتضع أسله فى خطمه أم تثقب فكه بخزامة . . . . . . ليس من شجاع يوقظه فمن يقف إذاً بوجهي . من تقدم منى فأوفيه . ما تحت كل السموات هو لي . لا أسكت عن أعضائه وحبر قوته وبهجة عدته . من يكشف وجه لبسه ومن يدنو من مثنى لجمته . من يفتح مصراعي فمه . دائرة أسنانه مرعبة فخذه مجان مانعة محكمة مضغوطة بخاتم . الواحد يمس الآخر فالريح لا يدخل بينها . كل منها ملتصق بصاحبه متلكدة لا تنفصل . عطاسه يبعث نورأ وعيناه كهدب الصبح . من فيه تخرج مصابيح . شرار نار تتطاير منه من منخريه يخرج دخان كأنه من قدر منفوخ أو من مرجل . نفسه يشعل جمرأ ولهيب يخرج من فيه . في عنقه تبيت القوة .... " .




  • #2
    الجزء 1

    مملكة الشيطان
    استدعى الملك وزيره ومستشاريه على عجل لنبأ هام وخطب جلل . دخل الوزير والمستشارون إلى قاعة الملك فوجدوه بصحبة كبير عرافي المملكة وقد خيم عليهما الوجوم والصمت .حيا الجميع الملك وقال الوزير : نحن رهن إشارتك يا مولاي . قال الملك مخاطباً كبير العرافين : اشرح لهم ما أشارت إليك النجوم وكن دقيقاً فيما تقول وحذراً فيما تنصح . قال كبير العرافين مخاطباً الجميع : لقد أنبأتني النجوم أن زمن دولتين عظيمتين قد آن آوان ظهورهما . دولة تدعو للخير فتهزم ودولة تدعو للشر فتنتصر . وقد أشارت إليّ النجوم بأحكام لا تدعو للجدل أو الشك أن مملكتنا مخيرّة بين أمرين إما أن تكون مملكة خير فتهزم أو أن تكون مملكة شر فتحكم العالم . قال الملك مخاطباً الوزير والمستشارين : ها قد استمعتم إلى نبوءة كبير عرّافي المملكة . وجميعنا نشهد له حنكته في مطالعة أحكام النجوم وقراءته التي لا ريب فيها . فأشيروا عليّ ما ترونه مناسبا ً.قال الوزير الحكيم : إن هذا الأمر لا يستحق كل هذا العناء يا مولاي , خاصة بعد أن نفلسف الأمور ثم نتعقلها .ثم أردف الوزير قائلاً : إن الحياة يا مولاي تقاد مشروطة بالثنائية . فكما تحكم الحياة الأرض بالليل والنهار والشتاء والصيف تحكمها أيضاً بالخير والشر والعدل والجور . وأرى في ذلك حكمة يا مولاي وهي تهذيب النفس الإنسانية وتعليمها اختيار العدل ومحاربة الشر . وما أراه من نبوءة العراف إن هو إلا امتحان لخياراتنا وكشف لحقيقة ما تخبئة بواطن نفوسنا.قاطع كبير المستشارين الوزير قائلاً : مسألة التسيير والتّخيير يا مولاي معضلة كبرى لا يستطيع عقل إنسان كان من كان حل طلامسها, إن الحكماء يا مولاي قد وصلوا إلى قناعة مفادها أن الإنسان مسيّر وغير مخيّر وكل ما يجري يا مولاي قد كتب في ألواح الغيب ولا يستطيع إنسان كائن من كان أن يغيّر ما في ألواح القدر قيد أنملة ، فما نراه شراً كالموت على سبيل المثال ما هو إلا العدل من وجه آخر .أضاف أحد المستشارين قائلاً: من يستطيع يا مولاي أن يفلسف ويحدد معنى الشر؟ ألا تأتي العواصف والبراكين من عند الله وتقتل آلاف الشيوخ والنساء والأطفال فهل نستطيع أن نقول أن الله يفعل الشر ؟. ألا يأتي إلى الحياة آلاف الأطفال من العميان وذوي العاهات , فهل نستطيع القول إن الخالق شرير؟. قال مستشار ثاني : الخير والشر يا مولاي مسألة نسبية . إن الخير الذي نعرفه في هذا الزمان إن توقف عن مسايرة التطور وبدأ بإعاقته يصبح شراً لأنه يقاوم مسيرة التطور . كان من بين المستشارين مستشار حكيمٌ عادلٌ . لم تمكنه غيرته على الحق من أن يستمر في صمته فانفجر في صوت مزلزل مقاطعاً كلام المستشارين وقال : يا أبناء الشياطين أتحرّفون معنى الشر وتزيفون الحقائق الأزلية وتدّعون الحكمة ؟ .ثم اتجه نحو الملك وخاطبه قائلاً: إياك يا مولاي أن تستمع إلى هذا الهراء فالشر يا مولاي معناه بائن ولا يمكن أن يتغير ولا يوجد معنى للشر سوى الجهل .تدخل الوزير قائلاً: لقد نطق لسان هذا المستشار بالحق . إياك يا مولاي أن تركب موج بحر هؤلاء الوصوليين فتقع في التهلكة . إن الهزيمة مع الخير والكرامة أشرف من نصر بشرٍ وخساسة . قاطع كبير المستشارين الوزير وخاطب الملك قائلاً: هؤلاء يا مولاي رأس الفتنة فإن اتبعتهم يا مولاي فسيصلون بك إلى الهزيمة وأنصحك أن تدق أعناقهم قبل أن تُدق أعناقنا جميعا ً.أضاف المستشار الأول : الحياة يا مولاي تخيّرنا بين أن نكون أو لا نكون . فكيف يكون الإنسان مع الهزيمة وكيف يكون بلا نصر وقوة ؟ . إن الحياة يا مولاي هي البقاء وليس إلا , فإن بقيت حيث أنت في سدة الملك تكون موجوداً .قال المستشار الثاني: إن الحياة يا مولاي تطرح مواضيعها في أمور الحياة وتستتر ورائها, فإن عرفت اختيار الموضوع المناسب بقيت حيث أنت في سلم المجد . فلا تفكر يا مولاي ولا تغرق نفسك في حسابات الخير والشر طالما أنك لا تختار إلا ما تفرضه عليك الحياة , لأن ما تدعوه الآن شراً ما هو إلا مقدمةً للخير , فإن رفضت أن تفعل ما تطلبه الحياة داستك الحياة وجاءت بمن يأتمر بأمرها, وهذا ما قصده وزيرك وهذا المستشار . فإنك يا مولاي إن أبقيت على عنقيهما فإن الحياة لا بد أن تأتي بمن يأتمر بأمرها ويدق أعناقنا جميعا ً. احتقن وجه الملك وخاطب الوزير والمستشار غاضباً : لقد بدأت الاقتناع بأن أفكاركما بدأت تجنح بنا للخروج من أمجادنا لهذا أمرت بسجنكما حتى أتبين الحقيقة . قال الوزير: إني أشفق عليك يا مولاي . قال المستشار : لقد بدأت نبوءة العراف بالتحقق وهاأنذا أشهد بداية مجد مملكة الشيطان الملطخة بدماء الأبرياء !. تقدم كبير الحرس وساق الوزير والمستشار إلى السجن . أصاب الملك حزن كبير ووقع في حيرة عظيمة فأمر الجميع بالانصراف واختلى بنفسه يفكر ويحلل ليتخذ القرار المناسب . مضى الليل ولاح الفجر وعينا الملك لم تغمضا قط وفكره لم يتوقف عن التفكير . وفي صبيحة اليوم التالي طلب الملك حضور الجميع وأملى عليهم قراره الآتي : قال الملك: لقد أمضيت الليل أقلب المسائل وأدقق فيما استمعت إليه وتبينت القرار التالي: إن الحياة هي البقاء والبقاء هو أن تظل موجوداً, ولكي تظل موجوداً عليك أن تختار المواضيع التي تفرضها عليك الحياة من أجل البقاء. وطالما أن الحياة هي التي تفرضها عليك فلا جناح عليك فيما تفعل وفيما لا تفعل لأن القضاء والقدر كفيلان بفعل أو عدم فعل ذلك .قال كبير المستشارين : جميعنا يشهد بحنكتك وخبرتك في تقدير الأمور. وما سمعناه منك يا مولاي كنا متأكدين من أن بصيرتك ستقودك إليه .قال العراف : إن الزمن يمضي يا مولاي , فإذا اخترت الطريق فامضي بالعمل. خاطب الملك مستشاريه قائلاً : أشيروا عليّ الآن كيف أبدأ العمل . قال كبير المستشارين : بداية هذا الطريق تلزمك يا مولاي بأن لا تتوقف عند الأسماء ومسمياتها . فلا تزعجك كلمة شر طالما أنك تفعل ما تفرضه الحياة عليك .قال أحد المستشارين : إن البناء والهدم في الحياة يا مولاي عمليتان لا تتوقفان فلا هدم دون بناء ولا بناء دون هدم . فلا تنزعج من عملية الهدم لأنها مقدمة للبناء .تدخل كبير المستشارين قائلاً: البناء الحالي للإنسان يا مولاي بناء هش ومتداخل ومعقد. فالعادات والتقاليد لدى كل قوم تختلف وتتناقض مع الأقوام الأخرى , وتأجج التناقضات الدينية والطائفية والعرقية الصراع في المجتمعات الإنسانية ليعم فيها الظلم والجور والحقد والفساد لهذا يتوجب عليك يا مولاي باسم الضمير أن تدك صروح تلك الأمم والقوميات والأديان وتسعى لإنشاء عالم جديد تغرس فيه ما تشاء من قيم , ودع القدر يفعل ما يشاء .قال الملك : وكيف أدك صروح حضارات سامية وهي في الأساس مناهل علم ومعارف إنسانية؟. ثم كيف أنهي أدياناً وهي كنوز روحية وأخلاقية؟. وكيف أستطيع أن أقود إنساناً دون أخلاق ودون حضارة؟. ثم أي قيمة لإنسان دون أخلاق ودون روحانية وأي مستقبل يمكننا أن نبني له؟.قاطع كبير الحراس الملك قائلاً: إنها الحياة يا مولاي والحياة تصرخ علينا في أن نكون أو لا نكون .غضب الملك من تدخل كبير الحراس وقال موبخا : ومتى كان الحارس يفهم في أمور السياسة وإدارة الملك. فإن أردت الإطلاع في هذه الأمور دع الحراسة وتعلم السياسة . قال كبير الحراس : عفوك يا مولاي إنها فرصة سانحة أمامنا ولا نريد منك أن تضيعها خاصة والمجد يفتح لنا ذراعيه .ولمَ تحمل هم هذا الإنسان طالما أن خالقه هو الذي يفرض عليه هذه الظروف؟ قال كبير المستشارين ِنعم الرأي يا مولاي . إن هذه المسألة لا تحتاج إلى حكيم أو مفكر إنها مسألة بديهية وكبير الحرس مخلص لك ويهمه أمرك .انزعج الملك ووقف وقال بأعلى صوته لكننا بشر...بشر...كيف أستطيع أن أحّول الكائنات البشرية إلى بهائم ووحوش؟. قال كبير الحرس لكن يجب عليك أن تفعل .قال الملك بصوت عال : لا أستطيع...لا أستطيع .تقدم كبير الحرس من الملك راكضاً بقوة ويده على خنجره وقال : هناك من يستطيع . وغرس خنجره في ظهر الملك!.جحظت عينا الملك وخطا مترنحاً نحو كبير المستشارين فغرس بدوره خنجره في صدر الملك قائلاً : علينا أن نستطيع . التفت الملك إلى إحدى المستشارين فغرس خنجره أيضاً في صدر الملك وقال : علينا أن نكون أو لا نكون .أقترب مستشار ثاني وغرس خنجره في ظهر الملك وقال : علينا أن نكون وأن نكون حتى نكون .سقط الملك على الأرض ميتاً وجلس كبير الحراس على كرسي الملك .صاح كبير المستشارين؟ وصل العرش إلى من يستحقه .صاح الجميع : عاش الملك…عاش الملك .وزف خبر اعتلاء الملك الجديد للعرش وجاءت الوفود من كل حدب وصوب تبايع وتهني الملك البطل الواعد وحاكم العالم .جمع الملك الجديد قادته ومستشاريه وخطب فيهم قائلاً: يا أبناء مملكتي العظيمة,. إن المجد يدعونا لتسنمه والعالم يتطلع إلى حكم أبطاله الميامين فلنكن أمة النصر والخلود. ثم خاطب مستشاريه قائلاً: لنبدأ العمل فأشيروا عليّ ما أستطيع في البداية فعله؟. قال كبير المستشارين : أعظم مسألة تضعها نصب عينيك يا مولاي هي أن حبّ النفس وحب الآخرين أمران لا يلتقيان على الإطلاق فإما أن تحب الآخرين وتضيع بينهم ، أو أن تحب نفسك وتسحق الآخرين . والمسألة يمكن أن تختصر بقول : إما أن تفترس الآخرين أو يفترسك الآخرون وعليك يا مولاي أن تتذكر دائماً أنك تعيش في عالم يسيطر عليه الحقد والكراهية والبطش لهذا فإنك مخيّر بين أن تبطش بالآخرين أو تنتظر الآخرين كي يبطشوا بك .لهذا فإني أشير عليك يا مولاي أن تحكم بالقوة والعنف .إبطش يا مولاي في أعدائك الظاهرين فيخافك أعداؤك المستورون لأنك إن لم تسرع بالبطش بهم أسرعوا للبطش بك . كن يا مولاي ماكراً وواسع الحيلة . اعتمد يا مولاي على الكذب والدجل والمداهنة من أجل الوصول إلى أغراضك , وإياك إياك أن تدع الرأفة أو الرحمة تتسلل إلى قلبك فيطيح أعدائك برأسك , اهدم يا مولاي الأديان وتزيّ بثياب الناسك الورع . أشعل نار الفتنة بين الأمم والقبائل وأنت تحمل غصن الزيتون . دمر العلوم والمعارف وتظاهر ببناء منارات العلم .قال الملك : أشيروا عليّ كيف أستطيع اختيار رجالي؟! قال كبير المستشارين : اختر يا مولاي المرتزقة والوصوليين فلن يعارضوك في أي قرار تتخذه . أطلق السجناء من اللصوص والمجرمين وسلمهم زمام السلطة . امنحهم الرعاية يمنحوك الحماية . قال الملك : وكيف آمن شر هؤلاء اللصوص والمرتزقة؟.أجاب أحد المستشارين : أطلق أيديهم في السلب والنهب والرشوة وإياك أن تكف أيديهم عن ذلك وإلا امتدت أياديهم إليك . إنك إن استطعت تسييسهم يا مولاي ألهوك.!! وجعلوا أخطاؤك حكمة…وعثراتك حنكة…وزلاتك مناورات…وهزائمك انتصارات…وكانوا لك أبواقاً في جميع الأقطار فإن سمعوا كذبك هتفوا باسمك الناصح الأمين وإن رأوا بطشك هتفوا بسعة صبرك وعظمة رحمتك . قال الملك : وكيف أستطيع تدبير القانون ؟ قال المستشار الثاني : لا بد لك من قضاة بلا ضمير يبيعون الأحكام كما تباع النخالة والشعير . فإن وصل المرتزقة إلى القضاء صار المجرم بريئاً واللص مسروقاً والظالم معتدى عليه . فإن أمسكت بزمام القضاء صار العالم ممسحة لحذائك..قال الملك : وكيف أسيطر على وسائل كسب العيش.؟قال كبير المستشارين: ارفع الضرائب على المزارعين ..انسف كبار التجار والحرفيين …دع الناس تأكل ما لا تزرع وتلبس ما لا تصنع . دع الطفيليين تمص دماء الجميع , فالطفيليّ وحده قادر على هدم عرش العالم . ثم أضاف كبير المستشارين قائلاً: لا بد لك يا مولاي من تشجيع نهم الإنسان للاستهلاك عد الإنسان من جهة وأن تبدد موارده من جهة اخرى . دع الفقر ينخر عظام الجميع، ليضحي الإنسان بكرامته كي يحصل على قمامة موائدك!.قال الملك : لكن طلاب العلم والمعلمين سيتصدون لي ويحبطون عملي . قال أحد المستشارين : لهذا عليك أن تسلط سيف الجوع على المعلم لأنه عندما يجوع المعلم يهدم صرح العلم . قال الملك : وهل سيتركني الشرفاء أفعل ما أريد ؟ قال مستشار ثاني : عندما تسلط سيف الجوع على الشريف فإنك ستدفعه إما للسرقة أو للرشوة .قال الملك: مع ذلك ستبقى به بذور الشرف؟.أجاب المستشار الثاني : مطلقاً يا مولاي . ثم أضاف قائلاً: يحكى أن أهل بلدة اجتمعوا لرؤية المال والعز والشرف حيث سألوهم إن أضعناكم فأين يمكننا البحث عنكم؟. قال المال : إن أضعتموني فابحثوا عني في خزائن المال فهناك تجدوني . وقال العز : إن أضعتموني فابحثوا عني في قصور الملوك والسلاطين فهناك تجدوني .وقال الشرف : يا أحبتي إن أضعتموني فلا تبحثوا عني لأنه من أضاعني مرة فقدني إلى الأبد . وهكذا عندما يبدد الشريف شرفه بالرشوة لأول مرة فإنه يفقد شرفه إلى الأبد .قال الملك : وكيف آمن غضب رجال الدين .قال كبير المستشارين : دع الزبانية تصل إلى منابر الأديان لتهدمها من الداخل وتتغنى أمام الجميع بتقواك وورعك . هنا تستطيع الزبانية أن تنسي الناس آلهتها وتربعك على عرش الإله الواحد . سحر الملك من كلام المستشارين وطلب منهم الانصراف ثم اختلى إلى نفسه يتأمل فيما استمع إليه . غرق الملك في تأملاته وإذ بمارد عظيم برز أمامه بعد أن اهتز له المكان .تجمد الملك في مكانه ، وخرس لسانه . ضحك المارد بصخب عظيم ثم راح شكله يتغير بصور تخطف العقول فبدا بصورة رجل رأسه كرأس التيس وقرناه كالثور , وأخرى بصورة تنين يقذف من فمه النار, وصورة أخرى لحسناء فاتنة عارية وراحت صور من عوالم اللذة والجمال تمر من أمام الملك , وراح الملك يتأمل فيما يشاهد وقد توقف عقله عن التفكير وأصبح عاجزاً عن معرفة ما يشاهد!.صاح المارد بصوت مزلزل : ما لك تنظر بي هكذا أيها الأحمق أما عرفتني بعد؟ قال الملك بصوت متقطع : عذرك يا مولاي…إني لم أشاهد في حياتي قط ما أشاهده الآن . قال المارد : أيها الغبي من يستطيع أن يريك ما أريتك أنا الآن سوى الإله !.سجد الملك عند قدمي المارد وقال : اعذرني يا مولاي وارحمني فإني لم اقتل الملك طمعاً في المُلك بل قتلته كونه أخل في واجب الوجود وتنحى عن المجد القومي فاغفر لي يا مولاي كوني قد ضحيت بفرد من أجل نجاة أمة . قبّل الملك قدمي المارد وقال : ارحمني يا أرحم الراحمين .صاح المارد بصوت عالٍ : توقف أيها الجبان الرعديد فأنا لم آتي لقصاصك بل لأجل تدريبك وتعليمك . فرح الملك وقبل قدمي المارد وقال : ما أعظمك يا عظيم . قال المارد : تأمل بي جيداً ثم قل لي من أنا ؟ قال الملك : أنت إلهي الحكيم العظيم .قال المارد : ماذا تقول إذا علمت أني الشيطان بعينه









    تعليق


    • #3
      الجزء 1

      مملكة الشيطان
      استدعى الملك وزيره ومستشاريه على عجل لنبأ هام وخطب جلل . دخل الوزير والمستشارون إلى قاعة الملك فوجدوه بصحبة كبير عرافي المملكة وقد خيم عليهما الوجوم والصمت .حيا الجميع الملك وقال الوزير : نحن رهن إشارتك يا مولاي . قال الملك مخاطباً كبير العرافين : اشرح لهم ما أشارت إليك النجوم وكن دقيقاً فيما تقول وحذراً فيما تنصح . قال كبير العرافين مخاطباً الجميع : لقد أنبأتني النجوم أن زمن دولتين عظيمتين قد آن آوان ظهورهما .

      دولة تدعو للخير فتهزم ودولة تدعو للشر فتنتصر . وقد أشارت إليّ النجوم بأحكام لا تدعو للجدل أو الشك أن مملكتنا مخيرّة بين أمرين إما أن تكون مملكة خير فتهزم أو أن تكون مملكة شر فتحكم العالم .
      قال الملك مخاطباً الوزير والمستشارين : ها قد استمعتم إلى نبوءة كبير عرّافي المملكة . وجميعنا نشهد له حنكته في مطالعة أحكام النجوم وقراءته التي لا ريب فيها . فأشيروا عليّ ما ترونه مناسبا .قال الوزير الحكيم : إن هذا الأمر لا يستحق كل هذا العناء يا مولاي , خاصة بعد أن نفلسف الأمور ثم نتعقلها .ثم أردف الوزير قائلاً : إن الحياة يا مولاي تقاد مشروطة بالثنائية . فكما تحكم الحياة الأرض بالليل والنهار والشتاء والصيف تحكمها أيضاً بالخير والشر والعدل والجور . وأرى في ذلك حكمة يا مولاي وهي تهذيب النفس الإنسانية وتعليمها اختيار العدل ومحاربة الشر . وما أراه من نبوءة العراف إن هو إلا امتحان لخياراتنا وكشف لحقيقة ما تخبئة بواطن نفوسنا.

      قاطع كبير المستشارين الوزير قائلاً : مسألة التسيير والتّخيير يا مولاي معضلة كبرى لا يستطيع عقل إنسان كان من كان حل طلامسها, إن الحكماء يا مولاي قد وصلوا إلى قناعة مفادها أن الإنسان مسيّر وغير مخيّر وكل ما يجري يا مولاي قد كتب في ألواح الغيب ولا يستطيع إنسان كائن من كان أن يغيّر ما في ألواح القدر قيد أنملة ، فما نراه شراً كالموت على سبيل المثال ما هو إلا العدل من وجه آخر .أضاف أحد المستشارين قائلاً: من يستطيع يا مولاي أن يفلسف ويحدد معنى الشر؟ ألا تأتي العواصف والبراكين من عند الله وتقتل آلاف الشيوخ والنساء والأطفال فهل نستطيع أن نقول أن الله يفعل الشر ؟. ألا يأتي إلى الحياة آلاف الأطفال من العميان وذوي العاهات , فهل نستطيع القول إن الخالق شرير؟.

      قال مستشار ثاني : الخير والشر يا مولاي مسألة نسبية . إن الخير الذي نعرفه في هذا الزمان إن توقف عن مسايرة التطور وبدأ بإعاقته يصبح شراً لأنه يقاوم مسيرة التطور . كان من بين المستشارين مستشار حكيمٌ عادلٌ . لم تمكنه غيرته على الحق من أن يستمر في صمته فانفجر في صوت مزلزل مقاطعاً كلام المستشارين وقال : يا أبناء الشياطين أتحرّفون معنى الشر وتزيفون الحقائق الأزلية وتدّعون الحكمة ؟ .ثم اتجه نحو الملك وخاطبه قائلاً: إياك يا مولاي أن تستمع إلى هذا الهراء فالشر يا مولاي معناه بائن ولا يمكن أن يتغير ولا يوجد معنى للشر سوى الجهل .تدخل الوزير قائلاً: لقد نطق لسان هذا المستشار بالحق . إياك يا مولاي أن تركب موج بحر هؤلاء الوصوليين فتقع في التهلكة . إن الهزيمة مع الخير والكرامة أشرف من نصر بشرٍ وخساسة . قاطع كبير المستشارين الوزير وخاطب الملك قائلاً: هؤلاء يا مولاي رأس الفتنة فإن اتبعتهم يا مولاي فسيصلون بك إلى الهزيمة وأنصحك أن تدق أعناقهم قبل أن تُدق أعناقنا جميعا ً.أضاف المستشار الأول : الحياة يا مولاي تخيّرنا بين أن نكون أو لا نكون . فكيف يكون الإنسان مع الهزيمة وكيف يكون بلا نصر وقوة ؟ . إن الحياة يا مولاي هي البقاء وليس إلا , فإن بقيت حيث أنت في سدة الملك تكون موجوداً .قال المستشار الثاني: إن الحياة يا مولاي تطرح مواضيعها في أمور الحياة وتستتر ورائها, فإن عرفت اختيار الموضوع المناسب بقيت حيث أنت في سلم المجد . فلا تفكر يا مولاي ولا تغرق نفسك في حسابات الخير والشر طالما أنك لا تختار إلا ما تفرضه عليك الحياة , لأن ما تدعوه الآن شراً ما هو إلا مقدمةً للخير , فإن رفضت أن تفعل ما تطلبه الحياة داستك الحياة وجاءت بمن يأتمر بأمرها, وهذا ما قصده وزيرك وهذا المستشار . فإنك يا مولاي إن أبقيت على عنقيهما فإن الحياة لا بد أن تأتي بمن يأتمر بأمرها ويدق أعناقنا جميعا .

      احتقن وجه الملك وخاطب الوزير والمستشار غاضباً : لقد بدأت الاقتناع بأن أفكاركما بدأت تجنح بنا للخروج من أمجادنا لهذا أمرت بسجنكما حتى أتبين الحقيقة . قال الوزير: إني أشفق عليك يا مولاي . قال المستشار : لقد بدأت نبوءة العراف بالتحقق وهاأنذا أشهد بداية مجد مملكة الشيطان الملطخة بدماء الأبرياء !.

      تقدم كبير الحرس وساق الوزير والمستشار إلى السجن . أصاب الملك حزن كبير ووقع في حيرة عظيمة فأمر الجميع بالانصراف واختلى بنفسه يفكر ويحلل ليتخذ القرار المناسب . مضى الليل ولاح الفجر وعينا الملك لم تغمضا قط وفكره لم يتوقف عن التفكير . وفي صبيحة اليوم التالي طلب الملك حضور الجميع وأملى عليهم قراره الآتي : قال الملك: لقد أمضيت الليل أقلب المسائل وأدقق فيما استمعت إليه وتبينت القرار التالي: إن الحياة هي البقاء والبقاء هو أن تظل موجوداً, ولكي تظل موجوداً عليك أن تختار المواضيع التي تفرضها عليك الحياة من أجل البقاء. وطالما أن الحياة هي التي تفرضها عليك فلا جناح عليك فيما تفعل وفيما لا تفعل لأن القضاء والقدر كفيلان بفعل أو عدم فعل ذلك .قال كبير المستشارين : جميعنا يشهد بحنكتك وخبرتك في تقدير الأمور. وما سمعناه منك يا مولاي كنا متأكدين من أن بصيرتك ستقودك إليه .قال العراف : إن الزمن يمضي يا مولاي , فإذا اخترت الطريق فامضي بالعمل. خاطب الملك مستشاريه قائلاً : أشيروا عليّ الآن كيف أبدأ العمل . قال كبير المستشارين : بداية هذا الطريق تلزمك يا مولاي بأن لا تتوقف عند الأسماء ومسمياتها .

      فلا تزعجك كلمة شر طالما أنك تفعل ما تفرضه الحياة عليك .
      قال أحد المستشارين : إن البناء والهدم في الحياة يا مولاي عمليتان لا تتوقفان فلا هدم دون بناء ولا بناء دون هدم . فلا تنزعج من عملية الهدم لأنها مقدمة للبناء .تدخل كبير المستشارين قائلاً: البناء الحالي للإنسان يا مولاي بناء هش ومتداخل ومعقد. فالعادات والتقاليد لدى كل قوم تختلف وتتناقض مع الأقوام الأخرى , وتأجج التناقضات الدينية والطائفية والعرقية الصراع في المجتمعات الإنسانية ليعم فيها الظلم والجور والحقد والفساد لهذا يتوجب عليك يا مولاي باسم الضمير أن تدك صروح تلك الأمم والقوميات والأديان وتسعى لإنشاء عالم جديد تغرس فيه ما تشاء من قيم , ودع القدر يفعل ما يشاء .قال الملك : وكيف أدك صروح حضارات سامية وهي في الأساس مناهل علم ومعارف إنسانية؟. ثم كيف أنهي أدياناً وهي كنوز روحية وأخلاقية؟. وكيف أستطيع أن أقود إنساناً دون أخلاق ودون حضارة؟. ثم أي قيمة لإنسان دون أخلاق ودون روحانية وأي مستقبل يمكننا أن نبني له؟.قاطع كبير الحراس الملك قائلاً: إنها الحياة يا مولاي والحياة تصرخ علينا في أن نكون أو لا نكون .غضب الملك من تدخل كبير الحراس وقال موبخا : ومتى كان الحارس يفهم في أمور السياسة وإدارة الملك.

      فإن أردت الإطلاع في هذه الأمور دع الحراسة وتعلم السياسة .
      قال كبير الحراس : عفوك يا مولاي إنها فرصة سانحة أمامنا ولا نريد منك أن تضيعها خاصة والمجد يفتح لنا ذراعيه .ولمَ تحمل هم هذا الإنسان طالما أن خالقه هو الذي يفرض عليه هذه الظروف؟ قال كبير المستشارين ِنعم الرأي يا مولاي . إن هذه المسألة لا تحتاج إلى حكيم أو مفكر إنها مسألة بديهية وكبير الحرس مخلص لك ويهمه أمرك .انزعج الملك ووقف وقال بأعلى صوته لكننا بشر...بشر...كيف أستطيع أن أحّول الكائنات البشرية إلى بهائم ووحوش؟. قال كبير الحرس لكن يجب عليك أن تفعل .قال الملك بصوت عال : لا أستطيع...لا أستطيع .تقدم كبير الحرس من الملك راكضاً بقوة ويده على خنجره وقال : هناك من يستطيع . وغرس خنجره في ظهر الملك!.جحظت عينا الملك وخطا مترنحاً نحو كبير المستشارين فغرس بدوره خنجره في صدر الملك قائلاً : علينا أن نستطيع . التفت الملك إلى إحدى المستشارين فغرس خنجره أيضاً في صدر الملك وقال : علينا أن نكون أو لا نكون .أقترب مستشار ثاني وغرس خنجره في ظهر الملك وقال : علينا أن نكون وأن نكون حتى نكون .سقط الملك على الأرض ميتاً وجلس كبير الحراس على كرسي الملك .صاح كبير المستشارين؟ وصل العرش إلى من يستحقه .

      صاح الجميع : عاش الملك…عاش الملك .وزف خبر اعتلاء الملك الجديد للعرش وجاءت الوفود من كل حدب وصوب تبايع وتهني الملك البطل الواعد وحاكم العالم .جمع الملك الجديد قادته ومستشاريه وخطب فيهم قائلاً: يا أبناء مملكتي العظيمة,. إن المجد يدعونا لتسنمه والعالم يتطلع إلى حكم أبطاله الميامين فلنكن أمة النصر والخلود. ثم خاطب مستشاريه قائلاً: لنبدأ العمل فأشيروا عليّ ما أستطيع في البداية فعله؟. قال كبير المستشارين : أعظم مسألة تضعها نصب عينيك يا مولاي هي أن حبّ النفس وحب الآخرين أمران لا يلتقيان على الإطلاق فإما أن تحب الآخرين وتضيع بينهم ، أو أن تحب نفسك وتسحق الآخرين . والمسألة يمكن أن تختصر بقول : إما أن تفترس الآخرين أو يفترسك الآخرون وعليك يا مولاي أن تتذكر دائماً أنك تعيش في عالم يسيطر عليه الحقد والكراهية والبطش لهذا فإنك مخيّر بين أن تبطش بالآخرين أو تنتظر الآخرين كي يبطشوا بك .

      لهذا فإني أشير عليك يا مولاي أن تحكم بالقوة والعنف .إبطش يا مولاي في أعدائك الظاهرين فيخافك أعداؤك المستورون لأنك إن لم تسرع بالبطش بهم أسرعوا للبطش بك . كن يا مولاي ماكراً وواسع الحيلة . اعتمد يا مولاي على الكذب والدجل والمداهنة من أجل الوصول إلى أغراضك , وإياك إياك أن تدع الرأفة أو الرحمة تتسلل إلى قلبك فيطيح أعدائك برأسك , اهدم يا مولاي الأديان وتزيّ بثياب الناسك الورع . أشعل نار الفتنة بين الأمم والقبائل وأنت تحمل غصن الزيتون . دمر العلوم والمعارف وتظاهر ببناء منارات العلم .قال الملك : أشيروا عليّ كيف أستطيع اختيار رجالي؟!

      قال كبير المستشارين : اختر يا مولاي المرتزقة والوصوليين فلن يعارضوك في أي قرار تتخذه . أطلق السجناء من اللصوص والمجرمين وسلمهم زمام السلطة . امنحهم الرعاية يمنحوك الحماية . قال الملك : وكيف آمن شر هؤلاء اللصوص والمرتزقة؟.أجاب أحد المستشارين : أطلق أيديهم في السلب والنهب والرشوة وإياك أن تكف أيديهم عن ذلك وإلا امتدت أياديهم إليك . إنك إن استطعت تسييسهم يا مولاي ألهوك.!! وجعلوا أخطاؤك حكمة…وعثراتك حنكة…وزلاتك مناورات…وهزائمك انتصارات…وكانوا لك أبواقاً في جميع الأقطار فإن سمعوا كذبك هتفوا باسمك الناصح الأمين وإن رأوا بطشك هتفوا بسعة صبرك وعظمة رحمتك .

      قال الملك : وكيف أستطيع تدبير القانون ؟ قال المستشار الثاني : لا بد لك من قضاة بلا ضمير يبيعون الأحكام كما تباع النخالة والشعير . فإن وصل المرتزقة إلى القضاء صار المجرم بريئاً واللص مسروقاً والظالم معتدى عليه . فإن أمسكت بزمام القضاء صار العالم ممسحة لحذائك..قال الملك : وكيف أسيطر على وسائل كسب العيش.؟قال كبير المستشارين: ارفع الضرائب على المزارعين ..انسف كبار التجار والحرفيين …دع الناس تأكل ما لا تزرع وتلبس ما لا تصنع . دع الطفيليين تمص دماء الجميع , فالطفيليّ وحده قادر على هدم عرش العالم . ثم أضاف كبير المستشارين قائلاً: لا بد لك يا مولاي من تشجيع نهم الإنسان للاستهلاك عد الإنسان من جهة وأن تبدد موارده من جهة اخرى . دع الفقر ينخر عظام الجميع، ليضحي الإنسان بكرامته كي يحصل على قمامة موائدك!.

      قال الملك : لكن طلاب العلم والمعلمين سيتصدون لي ويحبطون عملي . قال أحد المستشارين : لهذا عليك أن تسلط سيف الجوع على المعلم لأنه عندما يجوع المعلم يهدم صرح العلم . قال الملك : وهل سيتركني الشرفاء أفعل ما أريد ؟ قال مستشار ثاني : عندما تسلط سيف الجوع على الشريف فإنك ستدفعه إما للسرقة أو للرشوة .قال الملك: مع ذلك ستبقى به بذور الشرف؟.أجاب المستشار الثاني : مطلقاً يا مولاي . ثم أضاف قائلاً: يحكى أن أهل بلدة اجتمعوا لرؤية المال والعز والشرف حيث سألوهم إن أضعناكم فأين يمكننا البحث عنكم؟. قال المال : إن أضعتموني فابحثوا عني في خزائن المال فهناك تجدوني . وقال العز : إن أضعتموني فابحثوا عني في قصور الملوك والسلاطين فهناك تجدوني .وقال الشرف : يا أحبتي إن أضعتموني فلا تبحثوا عني لأنه من أضاعني مرة فقدني إلى الأبد . وهكذا عندما يبدد الشريف شرفه بالرشوة لأول مرة فإنه يفقد شرفه إلى الأبد .

      قال الملك : وكيف آمن غضب رجال الدين .قال كبير المستشارين : دع الزبانية تصل إلى منابر الأديان لتهدمها من الداخل وتتغنى أمام الجميع بتقواك وورعك . هنا تستطيع الزبانية أن تنسي الناس آلهتها وتربعك على عرش الإله الواحد . سحر الملك من كلام المستشارين وطلب منهم الانصراف ثم اختلى إلى نفسه يتأمل فيما استمع إليه . غرق الملك في تأملاته وإذ بمارد عظيم برز أمامه بعد أن اهتز له المكان .تجمد الملك في مكانه ، وخرس لسانه . ضحك المارد بصخب عظيم ثم راح شكله يتغير بصور تخطف العقول فبدا بصورة رجل رأسه كرأس التيس وقرناه كالثور , وأخرى بصورة تنين يقذف من فمه النار, وصورة أخرى لحسناء فاتنة عارية وراحت صور من عوالم اللذة والجمال تمر من أمام الملك , وراح الملك يتأمل فيما يشاهد وقد توقف عقله عن التفكير وأصبح عاجزاً عن معرفة ما يشاهد!.

      صاح المارد بصوت مزلزل : ما لك تنظر بي هكذا أيها الأحمق أما عرفتني بعد؟ قال الملك بصوت متقطع : عذرك يا مولاي…إني لم أشاهد في حياتي قط ما أشاهده الآن . قال المارد : أيها الغبي من يستطيع أن يريك ما أريتك أنا الآن سوى الإله !.سجد الملك عند قدمي المارد وقال : اعذرني يا مولاي وارحمني فإني لم اقتل الملك طمعاً في المُلك بل قتلته كونه أخل في واجب الوجود وتنحى عن المجد القومي فاغفر لي يا مولاي كوني قد ضحيت بفرد من أجل نجاة أمة .

      قبّل الملك قدمي المارد وقال : ارحمني يا أرحم الراحمين .صاح المارد بصوت عالٍ : توقف أيها الجبان الرعديد فأنا لم آتي لقصاصك بل لأجل تدريبك وتعليمك . فرح الملك وقبل قدمي المارد وقال : ما أعظمك يا عظيم . قال المارد : تأمل بي جيداً ثم قل لي من أنا ؟ قال الملك : أنت إلهي الحكيم العظيم .قال المارد : ماذا تقول إذا علمت أني الشيطان بعينه

      يتبع








      تعليق


      • #4
        الجزء 2


        قال المارد : ماذا تقول إذا علمت أني الشيطان بعينه ؟قال الملك : استغفرك مولاي بل الشيطان ملعون رجيم .غضب المارد وصرخ بصوت مزلزل فراح القصر يدور بالملك وصراخ الجن والعفاريت تصم الآذان وتفزع العقول وراحت الوحوش والأشباح تحوم حوله . سقط الملك على الأرض مغشياً عليه... وبعد زمن قصير أيقظ المارد الملك وهو يتمتم بكلام غير مفهوم . وعندما استعاد الملك وعيه ارتمى على قدمي المارد وراح يقبلها ثم قال : مولاي إنك أقوى مني فلا تذلني.قال المارد: الآن هل عرفتني من أكون أنا الآن؟.قال الملك : نعم يا سيدي إني أعرفك الآن .قال المارد : انطق باسمي , وقل أنا ربك . قال الملك : أنت ربي أيها ... واختنق صوت الملك. قال المارد: انطق ما أمليته عليك وإلا قتلتك . قال الملك : أنت إلهي أيها الشيطان . قال المارد: أما عرفت أن القدرة والعظمة لله فكيف تعبد الشيطان ؟.احتقن وجه الملك بالدم وراح قلبه يدق بسرعة ودارت الأرض به فارتمى على كرسي الملك . ثم ابتهل لله قائلاً: اللهم أجرني من ساعة غفلتي هذه .صاح المارد : قوِّ قلبك أيها الجبان الرعديد, واعلم ألا أحد يستطيع أن يقتل أي إنسان كان من كان دون أمري . إني أنا الذي أقتل، وأنا الذي أفني، وأنا الذي أبيد, وأنتم جميعاً في قبضتي تعملون بأمري , وإني أنا إلهكم !. تارة أبدو ملاكاً وأخرى شيطان!. أتظن أنه يمكن أن تقع أي مصيبة على الأرض دون إرادة المبدع الأحد؟. إلى متى أيها الأحمق ستظل تعتقد أن الله شيء والشيطان شيء آخر!!.ثم أضاف الشيطان قائلاً: اعلم أيها الغرّ أنه لا يوجد في هذا الوجود سوى الله وهو الأحد وعلّة العلل ولا أحد سواه . واعلم أن الوجود هو انعكاس لتجلي الإله وإنه صورة له وإن ما من شيء في الوجود إلا هو, وإن الوجود يعكس لنا مبادئه وصوره ونسبه , فعلامَ هذا الخوف وأنت لا تستطيع أن تخرج من قبضته أو تحيد عن إرادته؟! وأضاف الشيطان قائلاً: إن الوجود يقوم على عملية البناء والهدم فإذا خرج المعدوم من عملية الهدم صار منافساً لعلة العلل . لهذا اقتضت الحكمة أن آتي للهدم , وهذا الهدم لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة مقتضاه . لهذا يسمون عملية الهدم بالشر ويسمونني بالشيطان , فلولاي أيها الملك لأصبحت ديدان الأرض آلهة السماء ! .لهذا تجليت لك كي أخبرك أنه لا ضير عليك فيما تفعل . اقتل من شئت، واحرق ما تريد، ودمر ما استطعت ، فلا بد لك من أن تحكم العالم . أنصحك بتدمير الأديان لأنها منابر حقد,وأنصحك أيضاً أن تجوع الإنسان لأن الجوع يطهر النفس وأنصحك بتدمير جميع المعارف كي تدفع الإنسان للبحث عن الحقيقة . احرم الإنسان الراحة والطمأنينة فقد اختارك القدر لذلك . ثم اختفى المارد بعد أن خلف الملك مشدوهاً حيران لا يعرف صحة ما شاهد .تأثر الملك بالغ الأثر فيما شاهد وفيما استمع إليه وعلم أن معرفته وخبرته دون ذلك بكثير, لهذا طاف بنفسه بين الزهاد والحكماء باحثاً عن تحليل وتفسير لما شاهد وسمع . وقاده القدر إلى أن وصل إلى أحد الزهاد العظام فقص عليه حكايته ورجاه أن يفسر له الحقيقة .صمت الناسك طويلاً وغرق في تأملاته ثم قطب حاجبيه واحتقن الدم في وجهه وهزته رجفة عظيمة !.اهتز كيان الملك من تبدلات هيئة الناسك وراح ينتظر إجابته بكل خوف . لكن الناسك نظر إلى الملك بحاجبيه المقطبين وطلب منه الانصراف والعودة إليه بعد زمن حتى يتمكن من الحصول على الإجابة .انصرف الملك بخوف شديد ورجلاه تقصفان بينما غرق الناسك في تأملاته العميقة ، وبدأ العرق يتصبب من جبينه وفجأةً ظهرت له فكرة مجنونة هي أن يتكلم مع الشيطان بذاته . وما أن أقر الفكرة حتى ظهر له الشيطان في التو واللحظة !. دهش الناسك من سرعة حضور الشيطان وحاول تمالك نفسه ثم سأله قائلاً : ألم ترفض السجود لآدم بعد أن طلب الله منك ذلك؟.أجاب الشيطان : ألم يقل الله : وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه . فكيف تطلب مني السجود لآدم؟. قال الناسك : لكن الله هو الذي أمر . قال الشيطان : ألم تسمع بأن الله خير الماكرين !. كيف تريدني أن أسجد لسواه وأنا أعرف أن الوجود ما هو إلا امتحان . وأن الله يمتحنني في أن اسجد لمخلوق غير الله .قال الناسك : وما يضيرك فيما لو سجدت لآدم ؟. قال الشيطان : إلى متى أيها الناسك الطيب ستظل تشخص النواميس . ألا تريد أيها الطيب أن تخلّص ذهنك من الصورية وأن تدخل إلى فسيح جنان المعنويّة .ثم أضاف الشيطان قائلاً : أنا أيها الناسك أحد نواميس هذا الكون . فبدوني لن تكون لذّة جسدية أو معنوية . اعلم أيها الناسك حين تلتذّ جنسياً يكون فعلي الناموسي هو مصدر هذه اللذّة , وحين تشعر بالسعادة عندما تجد الناس تنحني أمامك وتقبّل لك الأرض يكون أيضاً فعلي الناموسي هو مصدر هذه السعادة .واعلم أيها الناسك لولا شعورك بأناك لما اتجّهت إلى فعلك في الحياة . فحين تفعل أكون أنا مفعول فعلك . فإذا سجدت لك أصبحت أنت إله وإذا سجدت لسلالة الطين أصبح كل فرد إله له أناه الخاصة والمتميزة . بهذا تتعدد الآلهة ويتهدم ناموس الكون .إذاً كيف تطلب مني أن اسجد لآدم بعد أن ثبت لي أنه امتحان؟.قال الناسك : ما أدهاك أيها الشيطان أتؤمن بالله وأنت مصدر وسبب كل رذيلة.قال الشيطان : ماذا أفعل لك أيها المكافح كي أخلص ذهنك من الصورية وأدخلك إلى فسيح جنان المعنويّة . في الحقيقة أيها الناسك أنك قرأت الحكمة وأقرّيت بالعجز عن فهم المطلق . وهاأنا ذا أسر لك بأعظم أسرار حكمتك. ولا أطلب منك أن تشكرني أو تعبدني ، بل أسر لك هذه الأسرار كي لا تعبدني وأنت تلعنني !!.إن غاية الفعل الكوني هو إظهار آيات جمال الكمال الإلهي وهذا الكمال يمرّ عبر أطوار وهذه الأطوار تتم عبر انبثاق طور من آخر. وهذا الانبثاق يقتضي دائماً الصراع والهدم . ولا تظن أنك في تنسكك هذا وبعدك عن مضمار الصراع والهدم تنجو منه, واعلم أنك تؤجل صراع اليوم إلى الغد , حتى إذا وصلت إلى قناعة أن الألم واللذة سيان ثم قدّمت الآلام على اللذة وقمت بتقديم الآنا كقربان للحقيقة وقمت بعملك بمقتضى الواجب ودون انتظار نتيجة , عندها تمحى أناك وتتخلّص من فعلي الناموسي , وتحقق أية (حتى محتك فأحيتك , فعلام هذا الوجد وأنت الوهم وأنت ما ترى وما لا ترى ظلال ظل هذه الصورة والحق هو المصوّر وهو ممسك هذه الصورة). استمع الناسك بإصغاء ثم سأل : هل تطلب منّي مغادرة صومعتي وأن أنزل إلى معترك الحياة؟. أجاب الشيطان : درب الحقيقة في كل مكان . فإذا كان دخولك الصومعة مفراً لك من الحياة , فصومعتك قبرك . وإذا كان اختلاء في النفس من أجل إعادة توازنها فأنت حكيم جاد . لكن لا مفر لك من العمل ، والعمل المقصود هو أن تعمل وأنت تلهو .ألا ترى ناموس الكون كيف يبني الطبيعة ويبدع مخلوقات وديعة وجميلة ، ثم يأتي بالكوارث ويدك الطبيعة بأسرها . فماذا يبقى إذاً من ثمار فعل الطبيعة سوى اختبار أفعال الكينونة التي تجلّت بها النسب والصفات الإلهية .وتستمر لعبة الإبداع والفساد حتى يصل الكون إلى يوم الحاقّة الذي لا ريب فيه ؟.تهتك فيه أستار الحجب ويسمو الروح الأمين , وتمتد الرقائق بالخلائق من الخلائق . يوم يتجلّى الشاهد المشهود وتأتي كل نفس معها سائق وشهيد . قال الناسك : ماذا سيحل يومئذ بقومك ؟. قال الشيطان : سيعلمون أن مقامهم الحق في الدرك الأسفل ويذوقون بأس بعضهم البعض . ويندمون يوم لا ينفع الندم. قال الناسك : وماذا تقول لهم إن سألوك عمّا فعلته بهم .قال الشيطان: سأقول لهم( لقد لحقتكم فاتبعتكم بشهب فاستعبدتكم واتخذتكم سخرية ً, وأوردتكم المهالك ببيت مالك , وتبرأت ثمة منكم . إني أخاف مولاي ومولاكم , وما أنا بمصرخكم بعد أن سربلت لكم الأقاويل المزورة , واعدت لكم المقاليد فنصبت لصيد عقولكم وشهواتكم ولما زينته لكم أحلامكم حبائل الجهالة وأسباب الخداع فأين الانفكاك وأنّى يستطاع .))قال الناسك : هل تحلم بالجنّة؟. قال الشيطان : بكل تأكيد لقد عرفت أسرار( كن ).قال الناسك : وما قصه بعل حمالة الحطب؟. أجاب الشيطان باستياء : لا تذكرني .ذكّر الناسك الشيطان قائلاً:.........وضع الشيطان يديه على أذنيه وصرخ : كفى كفى ثم اختفى . صلّى الناسك بحرارة قائلاً : اللهم أنت الشاهد والمشهود . أنت المكوِّن والمكوَّن وأنت خير الماكرين . فلا توكلني إلى نفسي ولا تحلني إلى حولي وقوّتي ليكفلاني في مرآة نفسي أمام لوح الذات . ولا تنزلني في جبال التيه كما أنزلت رموز التيه ولا تطعمني من شجرة المعصية كي لا تجعلني محدوداً ولا تنزلني في ظلمة نفسي كي لا تجعلني معدوماً ولا تجعلني أتطلع إلى جبل ذاتي كي لا تجعلني حجراً جلموداً.

        تعليق


        • #5


          جزء 3

          عاد الملك إلى صومعة الناسك فوجده غارقاً في أفكاره وتأملاته. شاهد الناسك الملك فانفض من مكانه قائلاً: أنت ما اخترت أيها الملك وليس على المكوَّن أن يتعدى حدود المكوِّن. فلا تسألني النصح لأني بدأت أدرك معنى إنَّ كل ما اعرفه هو أني لا أعرف شيء!ً. خرج الناسك من صومعته متّكئاً على عصاه مردداً كل ما اعرفه هو أنّي لا اعرف شيئا .جلس الملك مكان الناسك محبطاً وراح يتأمل في حاله وحال ملكه وناجى المولى قائلاً: اللهم لا حول ولا قوّة إلا بك فهب لي الخلاص من هذه الحيرة.وما أن أنهى الملك رجاه حتى هز الصومعة زلزال عنيف وعاد إليه الشيطان من جديد.صعق قلب الملك وتجمد في مكانه لكن الشيطان صاح به ما بال قلبك قد توقف أيها الجبان الرعديد أتظن أني سأدفعك لأمر أنت لا تحبه... ثم طمأن الشيطان الملك قائلاً: لا تخف فإني لن أطلب منك أن تفعل سوى ما اخترت أنت فعله في حياتك وتقلباتك السابقة.سأل الملك وهل كان لي خيارات وحيوات سابقة؟. انزعج الشيطان وقال : تباً لك أيها الغرّ أتظن أن الله يلعب بالنرد؟. أتظن أن الله يفتري على خلقه فيخلق أشراراً دون أسباب؟. قم إلى مجدك أيها الحقير لقد اخترت هذا المجد منذ أجيالك الأولى، وقد سجل مجدك في لوح الغيب ولا يجرؤ أحد أن يبدل هذا القدر. اعلم أيها الملك أنه قريباً سينحني لك العالم إكباراً وإجلالاً. وقريباً سيطأ حذاؤك العسكري أرجاء الأرض وقريباً ستستمع إلى أفواه سكان الأرض تسبح باسمك.قال الملك : لا تعظم امتحاني عليّ يا سيدي فإني اضعف من هذا الامتحان, فأنا يا سيدي لا أملك إلا القوة العسكريّة والجميع يعلم أن زمن احتلال القوة قد ولّى وذهب فكيف تطلب مني يا مولاي أن أجرّب أمراً مستحيلاً؟. قال الشيطان : إن جميع من حاولوا استعمال القوة قد فشلوا لأنهم حاولوا ذلك قبل الأوان, أما الآن فقد آن آوان استعمال القوّة.قال الملك : يا سيدي إن آلتي العسكريّة هي الأقوى في العالم, لكن قوّة إلة العالم العسكريّة أقوى من آلتي, فكيف أستطيع تحطيمها والانتصار عليها؟.قال الشيطان ساخرا ً: بهذا العقل الذي تفكّر به الآن لن تستطيع حكم وكر فأر!. فأين الحيلة وأين المكر؟. قال الملك: يا سيدي لقد علمتني كتب التاريخ أن للطموح حدود, فمن تجاوز هذه الحدود داسه التاريخ ورماه في قمامته. انزعج الشيطان وقال ثائرا ً: هراء هذا هراء فأي تاريخ تقصده؟! وأي تاريخ تعنيه؟! ثم أردف الشيطان قائلاً: التاريخ ليس سوى كذبه اخترعها عبيد السلطة فصدقها الأغبياء.ثم أضاف عليك أن تعلم أيها الملك أن التاريخ قد كتبه عبيد السلطة فاخترعوا الأكاذيب وزوّروا الحقائق فصنعوا من الأنذال أبطالاً ومن الأبطال أنذالاً. فلو تسنّى لك أيها الملك أن تطّلع على أكناه التاريخ الحقيقي لوجدته بحيرة أسماك أو شريعة غاب يأكل فيه الكبير الصغير, وينهش القوي لحم الضعيف. دول تبتلع بعضها البعض. حكام تنهش لحم بعضها البعض. أما الأبنية والرسوم والعلوم التي يحاول الملوك أن يتزينوا بها ويدّعوا أنها الحضارة فما هي بالحقيقة سوى رتوش وألوان خادعة تظهرها الحقيقة عندما توضع مصالح الحكام على المحكّ وتتعرض للخطر, عندها تظهر حقيقة طباع هؤلاء الملوك فتخلع عنها ثياب الأنس والتحضّر وتكشف عن أنيابها ومخالبها وتنهش لحم خصومها بشراسة ووحشيّة.وكما تملأ الغابات بالكلاب والغربان وبنات آوى. تملأ أيضاً قصور الحكام بهذه الكلاب والغربان. وتقوم بملئ قلب الحاكم بالأحقاد والأكاذيب فتفتري على الحق وتزيّن أخطاء الملك فيهب الملك لاعتلاء عرش الكون ليحمل عرشه الكلاب والغربان عندها يصبح لكتابة التاريخ ثلاثة أهداف الثروة والسلطة والمرأة.ثم سأل الشيطان الملك : وأي تاريخ حقير سافل له هذه الأهداف، تريد أن تتعظ منه أيها الحكيم الجاهل. ثم أضاف الشيطان قائلاً : اعلم أيها الملك أنه لا بد لك من الاعتماد على السياسة, فلولا السياسة لما كانت الأمم ولولا السياسة لما نشأت الأديان. واعلم إن قوة السياسة من قوة الاقتصاد, وإن القوة العسكريّة هي التي تحمي الاقتصاد والسياسة, فإذا توفرت لك هذه القوى الثلاث أصبح العالم رهن إشارتك. قال الملك : حسناً تقول يا سيدي فإذا اعتمدت على توجيهاتك في السياسة واعتمدت على نفسي في قيادة الآلة العسكريّة, لكن كيف أبني قوّتي الاقتصادية ومعاملي لا تنتج سوى السلاح؟. انزعج الشيطان من سطحيّة تفكير الملك وصاح: ألا تعلم أيها الغبي أن الاقتصاد في العالم يقوم على الطاقة والمواد الأولية والأسواق الدولية, ولكي يتسنى لك السيطرة على العالم ما عليك إلا السيطرة عليها عسكريّا .قال الملك : أرجوك لا تغضب مني يا سيدي فأنت تدفعني لاحتلال العالم عسكريّاً وقد قلنا إن هذا الأسلوب لم يعد الآن مجدياً فكيف أستطيع فهمك يا سيدي؟.قال الشيطان : اعتمد على السياسة. قسّم العالم إلى كتل متناقضة ومتصارعة, واحرص على بناء كل كتلة من هذه الكتل لقواعدها العسكريّة, وقم بتجارة السلاح وبيعه لها كي تنهب فائضها التجاري واحرص أيضاً على ألاّ تتفوق القدرة العسكريّة لكل كتلة منفردة على قدرتك العسكريّة. ثم أمسك أنت بميزان التوازن العسكري بين هذه الكتل وعليك دائماً بفتح جرح بين هذه الكتل واعمل على تخفيف حدته إذا احتدّ, وإشعاله إذ انطفأ. دع هذه الكتل تهرع إليك بهدف توازن القوة، عندها يمكنك استغلال منابع الطاقة والاستيلاء على الأسواق وعلى المواد الأوليّة في العالم عن طريق الاتجار بالمصالح القوميّة والإقليمية والدينية, في هذه الحالة ستشاهد أيها الملك إن كل ما في هذا الوجود قد تحول إلى سلعة بما فيها الديانة والتراث وكرامة الإنسان وستجد البشرية تنحني أمامك وتقبّل لك حذاؤك!!.قال الملك: هل تمنّ عليّ يا سيدي ببعض التفاصيل. كيف أستطيع تقسيم العالم إلى كتل، وما هو الميزان الذي أعتمده في إجراء هذا التقسيم؟.قال الشيطان : يمكنك تقسيم العالم إلى تكتلات دينية متنافسة ومتصارعة واعتمد دائماً على الفتنه من أجل إذكاء روح الحقد بين الأديان والطوائف وابحث دائماً عن اولائك المستعدين دائماً إلى بيع مصالحهم الدينية والوطنية مقابل تحقيق مكاسبهم الفردية.وعندما تجد أمماً قويّة اقتصادياً فاسع إلى تقسيمها إلى كتل اقتصادية متنافسة وأدخل في جميع هذه الكتل واعمل دائماً على زعزعة اقتصاد كل كتلة وهدد دائماً الاستقرار النقدي. أما الأمم التي تمتلك مواد أولية ومنابع طاقة وفائض مالي فاخلق لها صراعات دينية أو قومية أو عرقية وادفعها كي تلجأ إليك بهدف حماية وجودها, عندها تستطيع ابتزازها وسلب كل ما لديها. قال الملك: جميع ما تفضلت به جميل وممتع لكن في العالم الكثير من الدول الأصولية فكيف أستطيع أن أفرض هيمنتي عليها؟.قال الشيطان: بالمال… قدم لها المساعدات. قال الملك : كيف أقدم لها المال وخزائني منهكة من الإنفاق العسكري؟. قال الشيطان : ادفع لها هبات ومساعدات لقاء بعض التنازلات, ثم عيّن بموجب هذه التنازلات بعض اللصوص والمرتزقة في حكومات هذه الدول لتعمل على نهب أضعاف هذه المبالغ التي قدمتها وتعيدها إليك!!. قال الملك : عندها ستقع هذه الدول في العجز وتصبح غير قادرة على سداد ديونها وتتوقف التنمية ، وتقع المجاعات وسأجد نفسي مضطراً إلى إطعام مليارات الجائعين، وهذا أمر مهلك بالنسبة لي.قال الشيطان : هل أنت أحمق أم أنك تعتمد الحماقة أمامي؟. إن الأرض أغنى مما تتصور ولن تقع المجاعة. قال الملك: لكن المجاعة واقعة فعلاً.!. قال الشيطان : إن علاج المجاعات أبسط مما تتصوّر.قال الملك : أرجوك أشر عليّ بسرعة. قال الشيطان : ألا تعلم أن نصف ما تنفقه أنت على الكلاب والقطط تكفي لسد جوع مئات الملايين من جياع الأرض. ألا تعلم أن ما ترميه من فضلات طعام موائدك في القمامة يكفي لإطعام ضعف جياع العالم.قال الملك : عجباً هل أمري مكشوف لهذا الحد؟. قال الشيطان : أجل أيها الغرّ ولولا حراستي لك لانتهى أمرك. قال الملك : ماذا تنصحني الآن؟. قال الشيطان : تمسك بالقانون وتحكم بزمامه…دافع عن العدالة بكل قوّة. قال الملك : أرجوك يا سيدي لا تصعّب عليّ الامتحان, كيف تريدني أن أبطش بالعالم وأدافع عن العدالة بنفس الوقت؟. قال الشيطان : بالسياسة يا أحمق, كل ما عليك هو أن تعتمد المبدأ الذي يحمي المجرم ولا يعاقب إلا من يترك دليل الجريمة. هنا ستتطور فنون الجريمة وعلم إخفاء الأدلة فيبتلع المجرم القوي الضعيف وتتطور الجريمة إلى أن تصبح جريمة دوليّة منظمة يحميها قانون دولي يعتمد على آلتك العسكريّة لتحقيقه, عندئذ تستطيع نهب العالم وسلبه باسم القانون الدولي ويصبح همّك هو قمع الجريمة التي تعارض رغبتك الشيطانية.قال الملك : إنك تتناسى يا سيدي وجود حكماء وعقلاء يستطيعون إدراك أبعاد لعبتنا هذه وسيعملون على إحباط مخططنا .قال الشيطان : لهذا فإنك لن تستطيع أن تحلق في مجدك هذا إلا بجناحين, جناح الحاكم العميل وجناح التربية الفاسدة. وأنا أنصحك أن تتدخل في جميع دول العالم وأن تعيّن بنفسك الحاكم. قال الملك : ما المواصفات التي يجب أن توفرها في هذا الحاكم؟.قال الشيطان : عليك بالكذّاب...ثم الكذّاب...ثم الكذّاب. فالكذب نعمة لو عرفت قيمتها لاستغنيت عما سواها...فالكذّاب يكذب على نفسه لهذا سهل عليه أن يبيعك أي شيء حتى أرضه وعرضه وشرفه. والكذّاب جبان لا يقوى على مواجهتك وتراه دائماً يلعق لك حذاءك. والكذّاب لا شرف لديه لهذا يعطيك أيّ شيء ترغبه أو لا ترغبه. والكذّاب لا أمانة له لهذا يبيعك جميع مواثيقه وعهوده وتحالفاته. والكذّاب كالكلب تستطيع تسلطه على مناوئيك في أي وقت لينهش لحمهم، ويصفّيهم فكريّاً وجسديّاً.قال الملك : وقانون حقوق الإنسان؟!. قال الشيطان : شعار مزيّف تستطيع استخدامه لضرب المتمردين عليك ولتأمين الذريعة المناسبة للتدخل في الدول المناوءة لك. قال الملك : لكنك يا سيدي تؤكد دائماً على الديمقراطية. قال الشيطان : دعك من هذا الهراء فالديمقراطية أيضاً شعار مزيّف تستطيع المنادات به من أجل أن تصل أنت وعملاؤك إلى السلطة.ثم أضاف الشيطان قائلاً: اعلم أيها الملك أنه لا ديمقراطية دون إنسان ديمقراطي ودون تكافؤ فرص بين الأحزاب وبما أن المنطق قد ربط بين الديمقراطية والحريّة لهذا عليك السيطرة على الحريّة فتستطيع أن تسيطر على الديمقراطية. قال الملك : هل تريد مني أن اعتمد القمع دائماً من أجل تسييس الشعوب؟.قال الشيطان : ليس دائماً ما زال لديك جناح التربية الفاسدة فإنه يغنيك عن أداة القمع.قال الملك : أرجوك تكرّم عليّ وقلّ لي كيف أفسد التربية.قال الشيطان : للتربية علاقة وطيدة بالاقتصاد والإعلام فهما يدفعان النفس للحياة عبر تحقيق الممكنات بهدف تحقيق الذات. دع الإعلام عبر الدعاية ينمي نهم الاستهلاك عند الإنسان. اربط دائماً بين الجنس واللذة. دع الإنسان لا يرى سوى الطعام والجنس والشراب الوسيلة الوحيدة لللذّة. دع الإنسان يصاب بهوس البحث عن اللذّة ومن جهة ثانية اخلق له الفقر والعجز عن طريق التضخم الاقتصادي ونهب موارده الطبيعية عندها يقع الإنسان بين ناري الفقر من جهة ورغبة العصرنة من جهة أخرى وهكذا تنهار التربية وتتهدم الأسرة خاصة عندما تربط بين التحضر البشري والحريّة الجنسية. هنا يتحطّم الإنسان وجدانياً وأخلاقياً وإنسانياً ولن يستطيع الاستفادة من الحريّة التي تمنحه إياها ويصبح أداة طيّعة بين يديك , وعبر وسائلك الإعلامية تستطيع توجيهه إلى حتفه بكل يسر وسهوله. سأل الملك : كيف أستطيع الاحتيال على الانتخابات الديمقراطية؟ قال الشيطان : يمكنك تقسيم العالم إلى قسمين هما: الدول الغنية والدول الفقيرة. ففي الدول الغنية اعتمد على بث عملائك وزبانيتك بين البشر لتشكل أحزاباً وتكتلات في الظاهر متصارعة ومتنافسة وفي الحقيقة متفقة على تنفيذ سياستك. دع الناس تنتخب من تشاء فالكل عائد إليك. سأل الملك : ألا يوجد أحزاب في الدول الغنية تنادي بفضح أسلوبنا وسياستنا؟ قال الشيطان : الإنسان الغني لا يفكر بحقوق الإنسان الفقير. دع إنسان الدول الغنية يفكر باللذّة والاستهلاك واعتمد على إعلامك في تشويه صورة وحقيقة الإنسان الفقير. هنا تستطيع أن تخلق نقمة بين الإنسان الفقير والإنسان الغني يمكنك استثمارها من أجل تحقيق مآربك.ثم تابع الشيطان قائلاً : في الدول الفقيرة تكمن صعوبة الاحتيال على القانون لأن الفقر سيدفع الناس إلى المنافسة على سدة الحكم هنا تبرز الحاجة الملحّة لوجود حاكم دكتاتوري عميل يستطيع نهش لحم الفقراء من جهة ومن جهة ثانية يستطيع تسييس الدولة عبر حزب وحيد. وتكون مهام هذا الحزب السيطرة على مؤسسات الدولة وضرب المؤسسات الخاصة كي تصبح لقمة عيش البشر بين يدي هذا الحزب الذي يختار رجالاته من اللصوص والمرتزقة.قال الملك : هنا ستقاطع الناس الانتخابات وسيسقط الستار عن وجه هذه الديمقراطية المزيفة. قال الشيطان : لقد تناسيت أيها الملك الغر أن هذا النظام هو الذي يتحكم في لقمة عيش الناس. هنا سيجد الإنسان نفسه مضطراً إلى المشاركة في الانتخابات رغماً عن أنفه. قال الملك : هذا إذا استطاع الحاكم تدمير القطاع الخاص لكن في الدول التي تعتمد على القطّاع الخاص يصعب تدميره بسهولة. هنا ستنشأ أحزاب وتكتلات معارضة للحاكم. قال الشيطان: إن أي تكتل ستظل غايته الوصول إلى السلطة عندها يستطيع الحاكم استثمار المصالح الخاصة ليفوز في أي انتخاب, وتأكد أنه بهذا الأسلوب ستتوارى الديمقراطية الحقيقية إلى الأبد.قال الملك : ما الأهداف التي يجب على النظام أن ينادي بها؟قال الشيطان : في البداية ينادي النظام بأي مبدأ يمكنه أن يلهب مشاعر الإنسان ويمنحه الأمل. وفي النهاية يدوس الحزب والحاكم هذه الآمال والمشاعر ويسفر عن وجهه الدكتاتوري. فالدكتاتورية وحدها القادرة على ضمان استقرار الدول من جهة ومن جهة ثانية تخلق لك أسباب التدخل في الدول التي تتمرد على مصالحك. قهقه الملك بصوت عالٍ ثم سجد تحت أقدام الشيطان وقال: ما أعظمك يا سيدي وأقسم أن أكرس نفسي في خدمة طموحاتك. قهقه الشيطان بصوت أعلى وقال : عندما يتسنى لكَ أن تفعل ما أشرته عليك, وتتسنم أعالي مجد الدنيا تكون قد خلصتني من قميصي الرث في هذا الدور، وقهقه من جديد قهقهةً اهتزت لها الأرض ثم اختفى!. تأمل الملك فيما حدث ثم قال : طالما أن هذا هو قدري فسأسير حيث أراد القدر. عاد الملك إلى قصره وراح يبني مملكة الشر, وكانت توجيهات الشيطان نصاً مقدساً سهل التنفيذ حيث كانت قيادة العالم سهلة جداً, واندفع العالم بكل طيش ورعونة ووقع في أفخاخ واشراك العالم الحضاري الجديد.ثم تكاثرت مملكة الشر وأصبحت ممالك متنافسة ومتصارعة حاولت كل مملكة ابتلاع الأخرى. وانقسمت الأديان واعتدت كل طائفة على الأخرى. وانتشرت الأفكار القومية المتعصبة والأفكار العنصرية وظهرت التكتلات الاقتصادية والقوّة العسكرية الغاضبة.وشاع الفساد في كل جانب وانتشرت الإباحيّة وتنظمت الجريمة وتهدمت القيم الأخلاقية وصار الإنسان مسخاً شيطانياً يقتات على الفضيلة.أما المخلوقات الإنسانية الشريفة فقد فشلت في مقاومة الظلم والاستبداد وهربت من البطش و القهر ولاذت بالفرار أمام آلة وعزم قوة الشر، ودخلت إلى قواقعها كما تدخل السلحفاة نفسها في قوقعتها عندما يهددها خطر داهم.توهمت قوة الشر أن الكون برمته قد خضع تحت أقدامها. وتوهمت أن الله بذاته لن يستطيع استعادت ملكه من بين مخالبها. لقد امتلكت قوة الشر القنابل النوويّة. وسيطرت على الهندسة الوراثية وظنت أنها قادرة على خلق كائن بشري جديد قادر على تحطيم الله ونسفه بقنابلها الذريّة. لقد أصبح كل شيء تحت سيطرت الأزرار والكمبيوتر وهي بكل بساطة تستطيع بكبسة زر أن تزيل من الوجود أمماً أو قارات بأكملها, وتستطيع أيضاً بالمال والاقتصاد أن تجوّع أعرق الحضارات وتصيّرها كلاباً جائعة وضالّة، وتستطيع عبر عصاها السحريّة العسكريّة أن تحول أعظم الأبطال إلى صراصير تلعن ساعة ولادتها. وتستطيع عبر الإعلام والمخدرات والبغايا أن تحوّل أتقى الشعوب وأعرقها قيماً وأخلاقاً إلى كائنات سافلة منحطّة تهتك بها الرذيلة من كل جانب فأين الإله من قوّتها وجبروتها.لكن المكر الإلهي كان بالمرصاد : فالعنف لا يولّد سوى العنف. والظلم لا يولّد سوى الظلم. والحقد لا يولّد سوى الحقد. لقد وحد الظلم العالم وجعله يحقد على قوة وحيد القرن. لكن وحيد الشؤم هذا لم يكترث بهذا الحقد وقد سمعه البعض يقول إن العالم يتعاطف مع الضعيف لكنه يقف حتماً مع القويّ فما دام المال والاقتصاد والجيش والإعلام وقوّة التجسس في يدي فإن كل صوت ضدي ما هو إلا نباح كلب على القمر. فالحقد الذي يكنه العالم لي لا يقل عن الحقد الذي يكنّه العالم لنفسه. كان الحكماء المتألهون ينظرون إلى هذا الكوكب الأسود المظلم ويتألمون لهذا الشر والبغي وقد تقطّعت قلوبهم آلاف المرات. وذات مرة , صرخ أحد الحكماء بصوت عالٍ وقد كاد أن يفقد عقله: مولاي أكاد أجنّ ولا يستطيع عقلي تحمل كل هذا البؤس. أجابه المولى قائلاً : أرى أن قلبك قد تقطع على من لا يستحق الرحمة!.قال الحكيم : أرجوك قل لي كيف أستطيع الاستمرار في الوجود؟ وكيف أستطيع أن أبرئ نفسي من مسؤوليّة وهول ما يحدث؟. قال المولى : إن كل مولود مصيره للموت وهذا العالم قد شاخ وهو يمارس مراحل ومبررات النهاية وها هو قد جاء دوركم فلتستعدّوا للنهاية.قال الحكيم : وكيف لي أن أبرئ نفسي من دم النساء والشيوخ والأطفال؟ قال المولى : واجبك العمل وحقك الوحيد أن تعمل أمّا ثمار عملك فليست من شأنك. اتجه في عملك لي متبرئاً من الألم واللذة, اعتمد الواجب دوماً تبرأ من الإثم. ثم أضاف المولى قائلاً : إن إسار السبب والنتيجة هو الذي سيقود كل فردٍ من أفراد البشريّة, فمن كانت كارماه موجبة فالفضيلة وحدها القادرة على حمايته ومن كانت كارماه سالبة فقانون العدل هو الذي سيقتص منه. لقد طلبت الأرواح السفلية ذات يوم أن تتساوى مع الأرواح العلوية وطلبت أحكم العالم أسوة بالأرواح الفاضلة.لقد منحناها فرصة حكم العالم لكن لفترة محدودة ومعلومة فانظر ماذا فعلت بالأرض وبالناس وبنفسها . لقد فعلت النفوس ما فعلت وحق قصاصها!. هزّ زلزالٌ عنيفٌ الأرض. فتح الحكيم عينيه فوجد النيران تبتلع مملكة الشيطان الأكبر!. وفتح البحر شدقيه وراح يبتلع من المملكة جزءاً بعد آخر. لم يجد الشيطان الأكبر مفراً من أن يستنجد بممالك الشر الصغيرة فهرعت إليه على وجه السرعة لا لمساعدته بل لتجتث قلبه ولتجهز على ما تبقى له. هلك الشيطان الأكبر ونظرت الممالك الشيطانية في وجوه بعضها البعض وهالها رؤية صورة الشيطان في كل وجه من وجوهها. هنا أرسلت حرابها إلى قلوب بعضها البعض فنشبت آلاف المعارك واحترقت مئات الأمم وانتشر الموت والجوع في كل جانب وأظلمت السماء فويل للمرضعات والحوامل. وبدت الأرض جحيماً يسأل عن حطب كلما هجعت نيرانه. انتشر الشياطين في كل مكان فكان في اليوم الذي يأتي شيطان فيه بنصر دامٍ يأتي الغد بشيطانٍ آخر ينتزع ملكه ويحيله إلى رماد. لقد بكت كل ذره من ذرات تراب الأرض. وتمزق قلب كل صخرة من هول ما رأت من فضائع ووحشية. وبدا العالم غارقاً في ظلامٍ ليس له نهاية. وفي السماء لمع نجم عظيم وجاء ملاك على غيمه وتردّد صوت في السماء: سنملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

          تعليق


          • #6
            جــزء 4
            وفي السماء لمع نجم عظيم وجاء ملاك على غيمه وتردّد صوت في السماء : سنملأها قسطاً وعدلاً كما ملأت جوراً وظلماً.ثم ظهر من الأرض فجأةً عالم لم يكن قد شوهد من قبل, وظهرت جيوش سماويّة وأرضيّة, وازدانت السماء بشموس روحانية , وظهر الحكماء بلطافاتهم بعد أن كانوا مستترين بشخوص الزهاد والمعلمين . وأعلن صوت في السماء عن فتح محكمة الأمم . صعقت عقول وقلوب قادة الأمم وساروا إلى الملاك وقدموا إليه خضوعهم ورجوه كي يدخلهم في ملكوت الله .قال الملاك : دلّوني على من راعى حرمة الله وتقيد بالواجب وعرف الطريق إلى الحقيقة .تقدم كاهن قائلاً : أمتي يا مولاي من راعت حرمة الله وأخلصت كل الإخلاص لأسفارها . وبالرغم يا مولاي من عداء الأمم وقتلها وسبيها لنا لكنّنا أخلصنا أبداً لعقيدتنا وعدنا من التاريخ ونفضنا عن أنفسنا غبار السنين وحطّمنا أعداء الله وأعدائنا وأنشأنا مملكة شعب الله . إن أمة كأمتي حريّ بها أن تدخل ملكوت الله. أجاب الملاك قائلاً : الدين يا هذا ليس عنصريّة أو تجمعاً للأحقاد والضغائن. إن الدين ما هو إلا بوتقة تحتوي الأعراف والقيم والأخلاق, هدفها حماية الأمم من الانحلال والتفسخ. وتدعو كل من ارتقى بروحه وسما فوق تعاليم المدرسة الدينية إلى الاتحاد الروحي الذي يتجاوز جميع الديانات والأفكار ويوحّد الكائن البشري بنظام روحي سامٍ تعجز الأفكار عن إنشائه . ثم سأل الكاهن : ماذا استطعت أن تقدم للبشرية ؟ أجاب الكاهن : حافظت على الأسفار . دمرت أعداء معتقدي . سيطرت على اقتصاد وعقول العالم وأنشأت دولة شعب الله وجسدت رغبة الله على الأرض . قال الملاك : هل تدمير اقتصاد العالم فضيلة ؟ هل نهب العالم وتدمير أخلاقه وقيمه فضيلة ؟ هل اعتقادك أنك وعصبتك خيرة العالم وبقية العالم كلاب وحشرات لا قيمة لها فضيلة ؟. إنك لا بد قد أخطأت في هجائك ولقد خاب رجاؤك, إن السماء أطهر من أن تحتوي مثل هذه القيم والأفكار.خرج الكاهن وبعض من أمته, من محكمة الأمم غاضباً وساخطاً .تقدم كبير الكهنة من الملاك وقال : أمتي راعت حرمة الله وعرفت درب الحقيقة.. لقد نادت بالمحبة والتسامح والتبتل وحافظت على روح الدين فأدخلها في ملكوت الله .أجاب الملاك : ِنعم المناداة وِنعم المبادئ لكن ...ألم يقم بعض أشياعكم بمذابح شنيعة باسم الدين؟. ألم يخرج بعض أشياعكم مدججين بالسلاح لاحتلال العالم فهدموا حضارات ودمروا أمم؟ً. إن الدين المثالي لا يمكن أن يسمح لأمثال هؤلاء أن يخرجوا منه . قال كبير الكهنة: لكننا نؤمن بالشفيع والمخلّص .أجاب الملاك : إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله والشفاعة لا تلغي إسار السبب والنتيجة لأن إلغائها طمس الكون وإلغاء الصفات الآلهية التي تشكل محور هذا الكون . بل الشفاعة هي تجلي لصفة الكرم الذي لا يضر بنظام الكون .انقسمت أمّة كبير الكهنة فخرج من محكمة الأمم قسمٌ منهم راضياً فرحاً مستبشراً والقسم الآخر غاضباً ساخطاً.وتقدم كاهن آخر من الملاك وقال : أمتي استفادت من مسألة تطور الأديان وقد نظّمت المجتمعات وقامت بتضحيات وفتوحات عظيمة, وأنشأت محبةً الجهاد والتضحية, وحاربت الكافرين ونشرت المعرفة في كل مكان, فادخلها في ملكوت الله. أجاب الملاك قائلاً : ِنعم ما وصل إليكم , لكن ألم يتنازع السياسيون ومنتفعو المُلك دفة قيادة دينكم فقسموه إلى شيع وطوائف, فقتلوا أتقيائكم وسفكوا دماء بعضهم البعض, وكفـّروا وزندقوا أتقيائكم, وقادوا شعوبكم إلى الفقر والجهل والضياع, وجعلوها لقمة سائغة للوحوش البشرية ؟. إن أمّة مثل أمتك لا يمكن أن تدخل بجملتها إلى ملكوت الله .انقسمت أمّة الكاهن فخرج قسمٌ منهم فرحاً مستبشراً والقسم الآخر غاضباً ساخطاً .تقدم كبير المفكرين من الملاك وقال : أنا لم أخرج من رحم أي دين لكني خرجت من رحم السخط على الأديان، لقد ناديت بالعدالة والمحبّة والمساواة لكن الظلم هزمني وقهرني , لهذا فأنا أجد أن أتباعي أحق في دخول ملكوت الله لأنهم راعوا حرمته وتمسكوا بالواجب .أجاب الملاك : إن المجتمع الذي يخلوا من العبادة والروحانية مصيره الهلاك والدمار. إن سلبيات الأديان التي تخلقها الوصوليّة والانتهازيّة لا تبرر القضاء عليها . ثم تابع الملاك قائلاً : انظر إلى إنجازاتك بشعبك الذي أصبح الآن كالحيوانات الضالّة التي لا يحكمها قانون ولا عرف. فلو اعتمدت الروحانية والعبادة كما اعتمدت العدل والمساواة لتمكنت من حماية نظامك من وصول الزنادقة والمرتزقة الذين دمروا شعبك , واستطعت أن ترتقي بهم إلى مصافي الأمم الروحانية الراقية .قال كبير المفكرين : لكنك تنادي بالبراءة من الأديان!. أجاب الملاك: إن الأديان مدارس حضانة للروحانيين. حتى إذا ما تطور الإنسان الروحاني أدرك أن جميع المدارس والأديان عاجزة عن إدخاله التجربة الروحيّة , لأن الإشراق الروحي يسمو فوق كل المدارس والاعتقادات .قال كبير المفكرين: إذاً صف لنا مواصفات المدرسة الروحية المثاليّة .أجاب الملاك: إنها التي لا تستطيع أن تنمو فيها الحشرات والطفيليات , وهي دائماً كريمة سخيّة تغذي جميع المدارس والأديان والأمم وتبقى دائماً طاهرة نظيفة مقدسة منزهة على أن تنالها الكثافة أو يصلها انتهازي أو وصولي لأنه ويل لمن تزل له قدم!!.إنها المدرسة التي يَردها الحكماء عبر تغيرات مراحل الزمن. فترتقي بالأديان وتنير الأفكار وتستوعب جميع المتغيرات. وهي متأصلة دوماً بجوهر موضوعات الوجود .ثم صاح الملاك بأعلى صوته : من وجد نفسه قد مضى في هذا الطريق فليتبعني .صعد كبير الملائكة إلى السماء وتبعه من اكتشف في نفسه أنه قد سار في هذا الدرب منذ بدأ التكوين .وصدحت السماوات منشدة فرحة بالعائدين المنتصرين وتناثرت الورود,وأُعلن عن ِبدء كون جديد.
            النهاية

            تعليق

            يعمل...
            X