إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة ... (أرواح وأشباح)..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سلسلة ... (أرواح وأشباح)..


    سلسلة ....
    (1)


    أرواح وأشباح

    حوادث غامضة عجز الجميع عن تفسير كنهها فمطوا شفاههم يأسا واكتفوا بنسب الأمر برمته للأشباح..
    من ثم نعرج على جلسات تحضير الأرواح محاولين إماطة اللثام عما يكتنفها من غموض..
    ثم نتناول عالم الأرواح والجن والشياطين بالتفصيل..
    منذ قديم الأزل تعج الكتب بالعديد من حكايات الجن والأرواح..
    حكايات حار جميع من عاصروها في فهم كنهها أو معرفة كيفية حدوثها..فاكتفوا بروايتها كما هي ناسبين حدوثها إلى القوى الغيبية..منتظرين أن يفسرها من سيأتي بعدهم مستعينا بالتقدم العلمي الذي يمضي قدما مع الزمن..
    وأتت الأجيال الجديدة..واستعانت بالعلم..وبالفعل نجحوا في تفسير العديد من الأمور والحوادث التي كان الأقدمون ينسبونها للقوى الغيبية..

    ولكن.. ومع كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الرهيب..بقيت بعض الأحداث التي لم يستطع أحد إماطة اللثام عن الغموض الذي يكتنفها..فبقيت بلا تفسير حتى يومنا هذا..بقيت تنتظر من سيأتي بعدنا وينجح في حل لغزها وسبر غورها..
    ربما ينجح أحدهم في ذلك في المستقبل..هذا جائز..ولكن الأمر المؤكد أن هذا لم يحدث حتى الآن على الأقل..
    وربما لن يحدث أبدا...


    جمعية الموتى



    نحن الآن في (لندن).. و(لندن) كأي مدينة أخرى تعج بالمنازل القديمة التي يفوح من بين جنباتها عبق التاريخ..
    ومن المعتاد أن تتحول تلك البيوت بمرور الزمن إلى مزارات سياحية أو تترك مهجورة ليرتع فيها الصدأ والعطن كيفما شاءا..هذا فضلا عن بعض البيوت التي لم تزل مسكونة إلى الآن سواء من طائفة الفقراء والمشردين أو ممن آلت إليهم ملكية تلك البيوت إرثا فلم يشاءوا أن يهدمونها حرصا على تراث عائلاتهم من الاندثار..وسط تلك البيوت يقف بيتا قديما مثلها..عمره يربو عن الثلاثمائة سنة..

    بيت قديم ولكنه عادي..عادي جدا إن شئتم الدقة..صحيح أن بابه ضيق وسلالمه مظلمة وأبوابه تصدر صريرا حال فتحها وتفوح منه الروائح الكريهة وتغطي الأتربة المتراكمة على مر السنين كل شبر فيه..
    ولكن هذا لعمري هو حال كل البيوت القديمة..فلا جديد يذكر في هذا الشأن..
    ولكن لماذا يخشى الناس هذا البيت دونا عن بقية البيوت التي حوله؟..
    لماذا يحرصون على إصدار تعليمات صارمة لأطفالهم بعدم اللهو بجوار هذا البيت أو ولوجه؟..
    لماذا يمتنع المشردين عن المبيت فيه؟..

    الجميع بالتأكيد يعرف الإجابة..ولكن يفاجئك صمتهم عندما تسألهم عن سر هذا البيت..
    فقط تتسع عيونهم في خوف ظاهر وترتفع أكفهم منذرة وألسنتهم تصرخ فيك قائلة:
    (إلا هذا البيت..ابتعد عنه كأنما يطاردك ألف شيطان..لقد قمنا بواجبنا وحذرناك..وأنت حر في اختيار قدرك)
    وعندما تسألهم (لماذا لم تقم السلطات بإزالة هذا البيت وهدمه ومحو أثره طالما أن الناس يخشونه إلى هذا الحد؟؟)
    تجدهم يبتسمون ابتسامة شفقة مغلفة بالغموض ثم يقولون لك:

    وهل تظن أنهم لم يحاولوا من قبل؟؟..
    إن محاولات هدم هذا المنزل الملعون مستمرة منذ عهد الملك (جورج الثاني) وكلما هم أحدهم بتنفيذ الفكرة تجده يتراجع في آخر لحظة بشكل لا يثير الدهشة فقط وإنما يثير المزيد من الخوف من هذا البيت أيضا)
    هذا هو ما حدث مع السير(كيلي كوش) أستاذ الأدب الإنجليزي المعروف..والذي جمع قصة هذا البيت وغيره في كتابه الشهير (خرافات مفيدة) والذي أصدره في مايو عام 1940..


    يقول السير (كوش):
    (صدمتني إجابات الناس المبهمة في البداية..ولكن هذا ما زادني إلا إصرارا وتصميما على المضي قدما لمعرفة سر هذا البيت)..
    وبالفعل ذهب السير (كوش) إلى أرشيف جامعة (كامبردج)..وظل يبحث إلى أن عثر على تاريخ ذلك البيت..
    من ثم ذهب مجددا إلى البيت وقد قرر أمرا خطيرا..
    قرر أن يبيت في هذا البيت ليلة بمفرده..ليرى ويسمع ويدون بنفسه كل شيء..
    يقول السير (كوش) عندما وصلت إلى البيت وأخبرت الحارس العجوز بما أنتويه..انتفض من الدهشة واتسعت عيناه وهو يقول:
    (أأنت مجنون لتقدم على هذا الفعل الأحمق؟؟)
    فلم أرد إلا بابتسامة هادئة جعلت الرجل يقوم ضاربا كفا بكف ليقودني إلى مدخل البيت وهو يتمتم:
    (إن هذا العالم ملئ بالمجانين..لا ريب في ذلك)




    وعندما فتح الحارس الباب الصدئ الذي بدا وكأن أحدا لم يفتحه منذ مئات السنين بالفعل أصدر الباب صريرا مزعجا وتهاوت علينا بعض الأتربة والأحجار الصغيرة..وفر وطواطين للداخل هربا من الضوء المقتحم..
    وزكمت أنفينا الروائح العطنة..عندها قال لي حارس البيت بنبرة سخرية:
    (أنت مازلت شابا شجاعا باحثا عن الحقيقة..ولكنك تبدو متهورا ككل الشباب..أنت حر..ولكن قبل أن أتركك أريد أن أسألك سؤالا يا ولدي:ما هو نوع الزهور التي تحب أن أضعها على قبرك؟؟)

    فيضحك السير (كوش) ضحكة يداري بها الرجفة التي تعتريه ويقول:
    (أي نوع يا سيدي)
    ويبتعد الحارس متمتما ببضع كلمات خافتة لم يسمعها (كوش) وإن كان قد خمن معناها..ولكنه لم يلتفت إليها إذ يمم وجهه شطر المدخل وارتقى السلم الضيق ودخل المنزل..
    فماذا رأى؟؟..
    وماذا سمع؟؟..
    وماذا عرف؟؟..
    هذا ما سنعرفه الآن ونحن نقلب في صفحات كتابه (خرافات مفيدة)..فهيا بنا..



    يقول السير (كوش):
    من عادة الناس في (لندن) أن يكونوا جمعيات لكل رغبة خاصة بهم حتى لا يتهمهم أحد بالجنون أو بأنهم عنصر هدام في المجتمع..وحتى يستطيعوا ممارسة رغباتهم تلك دونما رقيب أو سخرية من أحد المتطفلين..
    وهذه الجمعيات قديمة قدم الدهر..وتشمل كل ما يمكن أن يخطر على البال..
    فتجد جمعيات تمارس أنشطة غريبة جدا..
    فهناك جمعية جامعي أغطية الزجاجات..وهناك جمعية جامعي الزجاجات الفارغة..وهناك جمعية النوم وحيدا حتى الموت ..وهناك جمعية محبي النوم في فراش الآخرين..إلى غير ذلك من المسميات والرغبات العجيبة..
    وقد اصطلح الجميع على تركهم يمارسون حرياتهم الشخصية طالما كانوا بعيدين عن إيذاء الآخرين أو إلحاق الضرر بهم..فحريتهم الشخصية تلك يكفلها القانون..بل وتحميهم الشرطة أثناء احتفالاتهم وتجمعاتهم درءا للفضوليين..
    ومعروف للجميع أماكن تجمع شباب تلك الجمعيات التي تكون إما منزل أحدهم أو ناد خاص..
    وكذلك طقوس احتفالاتهم وماذا يأكلون وماذا يشربون أثنائها..كل ذلك معروف..
    ومن وجد في إحدى تلك الجمعيات ما يوافق هواه فله أن ينضم إليها مباشرة..
    لذلك فلكل إنسان هناك جمعية يمارس من خلالها هواياته ويفرغ طاقاته المكبوتة ..
    كل هذا يبدو جميلا في مجتمع ديمقراطي تبدو فيه الصورة وردية وتمارس فيه الحريات الشخصية على أوسع نطاق تحت شعار أنت حر ما لم تضر)..

    في عام 1730 قرر سبعة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية والعشرين والثلاثين تكوين جمعية من تلك الجمعيات وسموها (جمعية السبعة الدائمين أحياء أو ميتين)..
    وقد اعتاد هؤلاء السبعة على أن يتلاقوا في هذا البيت يوم 2 نوفمبر من كل عام وهو (يوم الأرواح) طبقا للمعتقد الشعبي السائد آنذاك في (أوروبا)
    هؤلاء السبعة لم يكن لهم هدف محدد..ولم يكن لهم برنامج معين يناقشونه فيما بينهم..
    فاجتماعاتهم تقتصر على الأكل وشرب الخمر والغناء والرقص ولعن كل المقدسات وكل الأديان من أولها إلى آخرها..
    وفي ساعة متأخرة من الليل يهدأ الجميع ويعودون إلى بيوتهم على أن يلتقوا مجددا عشية اليوم التالي لتكرار ما فعلوه في يومهم هذا..وتستمر الاجتماعات لمدة سبعة أيام متعاقبة..وفي نهاية الأسبوع يتفرق الجمع الصاخب على أن يتواعدوا على الاجتماع مجددا عشية يوم 2 نوفمبر من العام التالي وهكذا دواليك..

    ومن الغريب أن هؤلاء الشباب كانوا يحتفظون بسجل ضخم يدونون فيه محاضر جلساتهم..وعندما عثرت عليه اندهشت بشدة..فكيف كان هؤلاء السكارى يدونون كل شيء يحدث بينهم بمنتهى الدقة والأناقة الظاهرة في ذلك السجل..
    فهاكم لائحة الجمعية الداخلية التي تتصدر أولى صفحات السجل وتنص على أن:

    1- تتكون الجمعية من سبعة أعضاء..أحياء أو موتى..فالذي يموت منهم يظل عضوا..فإذا مات جميع الأعضاء انحلت الجمعية ولم يعد لها وجود..
    2- الأعضاء دائمون وغير مقبول انفصالهم عن الجمعية فيما بعد..
    3- لا تقبل الجمعية أي عضو جديد
    4- تجتمع الجمعية سنويا في يوم 2 نوفمبر من كل عام ومن يتخلف عن الحضور لأي سبب يوقع عليه بقية الأعضاء ما شاءوا من عقوبات..
    5- في حالة إصابة جميع الأعضاء بالجنون المطبق وإيمانهم التام بأنه لا فائدة من الكلام أو عندما يفقدون أي رغبة في الحوار فيما بينهم فعليهم أن يصمتوا إلى الأبد ويتحول اسم الجمعية إلى (جمعية الأدباء الصامتين حتى الموت)
    وهاكم مثلا الحوار الذي دار بينهم في أول اجتماعاتهم بتاريخ 2 نوفمبر 1730
    يقول رئيس الجمعية (آلان ديرمو) وهو فرنسي من (باريس):
    (لقد قررنا أن نجتمع هنا اليوم..ثم ماذا بعد؟؟..لابد أن تكون هناك حكمة..لابد أن يكون هناك سبب وجيه لاجتماعنا هذا)..
    يرد عليه أحد الحاضرين قائلا:
    (ليس من الضروري أن يكون هناك سبب وجيه لأي شيء..فليس هناك سبب وجيه لكي تكون أنت أنت أو تكون موجودا..ولا أنا ولا أي شخص آخر..أليس هذا صحيحا؟؟)..
    ويقول آخر:
    (إذن فقد اجتمعنا هنا دون سبب!!)..
    فيلتقط (ديرمو) طرف الحديث قائلا:

    (ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببا..لقد اجتمعنا..وجلسنا..وها نحن أولاء نتناقش سويا..فقط لأننا بحاجة إلى الكلام..لأننا إذا لم نتكلم متنا..وواضح أننا لا نريد أن نموت..لقد ارتدينا ملابس ثقيلة خوفا من البرد..وأكلنا اتقاء للجوع..وشربنا بحثا عن دفء يسري في أوصالنا الباردة..وغنينا ورقصنا وضحكنا حتى لا يقضي علينا اليأس..وروى كل منا قصة غرامه اعتزازا برجولته الغضة..واضح أننا نريد كل الذي فعلناه وهذا يكفي)..
    ثم وقعوا بأسمائهم على محضر الجلسة وانصرفوا..
    والملاحظ أن محاضر الجلسات قد توقفت نهائيا يوم 2 نوفمبر عام 1766..وجاءت توقيعات الأعضاء في غاية الأناقة والوضوح..
    إلى هنا وكل شيء يبدو عاديا..ولكن ما سأذكره لكم الآن نقلا عن السجلات الحكومية الرسمية سيثير دهشتكم بشدة..وعندها ستعرفون السر...



    في يوم 30 أكتوبر من عام 1763..ثبت من السجلات الحكومية في (باريس) وفاة (آلان ديرمو) نتيجة اشتباكه مع أحد خصومه الذي طعنه بالسيف في بطنه فظل ينزف لدقائق فاضت روحه بعدها..
    إذن فرئيس الجمعية قد مات قبل موعد انعقاد الاجتماع السنوي في تلك السنة بثلاثة أيام..
    ولكن بالرجوع إلى محاضر جلسات الجمعية..التي انعقدت يوم 2 نوفمبر 1763 نجد أن الأعضاء قد اجتمعوا كعادتهم..وغنوا ورقصوا وأكلوا وشربوا ثم جلسوا وتناقشوا كعادتهم أيضا..ثم وقعوا بإمضاءاتهم السبعة على محضر الجلسة وانصرفوا..
    وبالاطلاع على ما دار في هذا المحضر نجد أن (ديرمو) كتب يقول:
    (إنني ملتزم باللائحة الداخلية للجمعية..فالعضو يظل عضوا بها حيا أو ميتا)..
    فسأله أحد الأعضاء:
    (وهل هذا معقول؟؟)..
    فرد عليه (ديرمو) قائلا:
    (طبعا معقول..أعطني شيئا معقولا واحدا في هذه الدنيا وسأجد فيه شيئا لامعقولا)..
    ولأول مرة بعد إغلاق محضر الجمعية وتوقيع جميع الأعضاء السبعة عليه
    وانصرافهم في الواحدة صباحا..يعودون لإضافة هامش أسفل توقيعاتهم يقرون فيه بوفاة رئيس الجمعية وأن عليهم انتخاب رئيس جديد..
    ثم يوقع السبعة مرة أخرى أسفل الهامش بتوقيت الثانية والنصف صباحا..
    فكيف عرف بقية الأعضاء الستة بوفاة (ديرمو) في (باريس) وهم يجتمعون في (لندن) في عصر كان نقل الأخبار فيه يحتاج لأيام وربما لأسابيع حيث لم تكن هناك أي وسيلة اتصالات ولا حتى التليفون ذاته..
    ثم وهذا هو السؤال الأهم..كيف يكون (ديرمو) معهم بعد وفاته؟؟ وإن لم يكن هو فمن أو ما الذي كان معهم؟؟ وكيف لم يلاحظوا أي فرق بينه وبين (ديرمو)..
    وبالعودة إلى السجل وجدت أن (ديرمو) قد أعلن في محضر اجتماع يوم 3 نوفمبر 1763 أنه قد أصبح عضوا ميتا..وأنه لم يعد يصلح لرئاسة الجمعية..وأجري تصويت بين الأعضاء وتم انتخاب الأستاذ (بلاسيس) مدرس الأدب الإنجليزي كرئيس جديد للجمعية...
    والغريب أن خط (ديرمو) لم يتغير بل ظل الخط الأنيق نفسه المكتوب في المحاضر السابقة..
    وعلى هذا تنتفي شبهة أن أحدهم قد انتحل شخصيته...
    ليس هذا فحسب..فالأغرب لم يأت بعد..
    في 2 نوفمبر من العام التالي اجتمع الأعضاء السبعة كاملين في ذات المكان..
    وفي محضر الاجتماع أعلن السيد (إدوارد ماكفيل) وهو أحد أعضاء الجمعية وكان ضابط بالحرس الملكي الإنجليزي..
    أعلن هذا العضو أنه قد أصبح عضوا ميتا نتيجة سقوطه من على صهوة جواده من فوق قمة أحد التلال قبل الاجتماع السنوي بأربعة أشهر تقريبا..

    وبالعودة للسجلات الحكومية ثبت هذا فعلا بتاريخ 5 يوليو 1764
    وبالعودة إلى سجل اجتماعات الجمعية..كان من الواضح كما تتوقعون أنه ذات التوقيع وذات الخط..
    وأكمل الخمسة الباقون اجتماعهم بصورة عادية..ولكنهم بالطبع أصيبوا بالرعب عندما اكتشفوا أنهم كانوا يأكلون ويشربون ويرقصون مع اثنين من الموتى..وعندما انتهى الاجتماع كانوا قد اتخذوا قرارا في محضر تلك الجلسة بعدم العودة لعقد الاجتماعات وتصفية تلك الجمعية..ووقع الخمسة الباقين أحياء على ذلك..
    ولكن في اليوم التالي وطيلة باقي أيام الأسبوع حضر الجميع..واستمرت محاضر الجلسات واستمر توقيع الأعضاء السبعة عليها كما هو..ولم يتغير شيء..
    وفي العام التالي حضر الجميع في نفس الموعد السنوي..وأعلن عضو ثالث أنه أصبح ميتا..واستمرت اجتماعات السبعة..وفي نهاية الأسبوع أعلن عضو رابع أنه قد أصبح ميتا..
    وبعده بشهرين توفي الخامس وبعد وفاته بثلاثة شهور توفي السادس..




    وفي يوم 2 نوفمبر عام 1766 ذهب إلى ذات البيت العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة..والعجيب انه كان الأستاذ (بلاسيس) نفسه..وكان في نيته أن يرقص ويغني ويأكل ويشرب لوحده ثم يحطم كل شيء ويشعل النار في المنزل..ثم يغادره إلى غير رجعة..
    وذهب..وجلس وفتح السجل وكتب:
    أنا العضو الوحيد الباقي حيا..لقد قررت أن أنهي كل شيء..وأن أحرق الوثائق التي تدل على هذا العمل الجنوني الذي لا أعرف كيف حدث..لم أكن أرغب في المجيء إلى هذا المكان مرة أخرى..ولم أدر كيف جئت..إنني أرى طريقا فأمشي..وأقف أمام الباب فينفتح..وأضع قدمي على أولى درجات السلم فيحملني السلم إلى أعلى..وأدخل غرفة الاجتماعات وأجلس على مقعد فيندفع بي إلى الأمام لأجد السجل مفتوحا ومدونا به تاريخ اليوم..وأمد يدي إلى القلم فيسبقني الأخير إلى الورق..وأكتب ما كتبت وأوقع باسمي لأفاجأ بأن الستة إمضاءات الأخرى للأعضاء المتوفين قد تراصت الواحدة بجوار الأخرى أسفل إمضائي..إنهم معي..إني أراهم وأتحدث معهم..إنهم يلهون معي كعادتهم دائما..ها هو (ديرمو) يربت على كتفي ويدعوني للرقص..وها هو (ماكفيل) يقدم لي كأس الشراب..إنهم يقهقهون ويرقصون في سعادة ويدعونني لمشاركتهم..ولكنني آسف لكم جميعا..فسأحرق وأدمر كل شيء)..
    انتهى كلام الأستاذ (بلاسيس) بتوقيت الثامنة وعشرين دقيقة كما دون هو بنفسه..
    ولكنه لم يستطع فعل أي شيء..

    فقد بقي السجل وأدوات الطعام وكئوس الشراب وأثاث الغرفة والبيت بكامله لم يمس..
    والأكثر غرابة أن المحضر الأخير جاء فيه بعد نهاية كلام الأستاذ (بلاسيس) ما يلي:
    (لقد حضر جميع الأعضاء في موعدهم السنوي واكتمل العدد القانوني..وعلى رئيس الجمعية أن يعلن نفسه عضوا ميتا)
    وأعلن الأستاذ (بلاسيس) أنه قد أصبح عضوا ميتا..
    وأعلن جميع الأعضاء أنهم قد أصبحوا كلهم موتى..
    ووقع جميع الأعضاء على محضر الجلسة بتوقيت الحادية عشرة وأربعين دقيقة..
    والثابت من أقوال شهود العيان أن الأستاذ (بلاسيس) قد غادر البيت إلى منزله في حوالي التاسعة وكان ساهما مضطرب الفكر زائغ النظرات محموما..ومات على فراشه في منزله في حوالي العاشرة مساء قبل وصول الطبيب الذي استدعته زوجته ليقوم بالكشف عليه ومعرفة ما دهاه...

    وفي 2 نوفمبر من كل عام ولمدة أسبوع يسمع الناس ضوضاء وأصوات احتفالات وأشخاص يعربدون في هذا البيت ويعيثون فيه فسادا كل ليلة..فإذا دخلوا لاستقصاء الأمر هدأ كل شيء ولم يجدوا أثرا لأي شيء..
    وإحقاقا للحق فإنني لم أر أو أسمع طيلة الليل ما يريب..بل غلبني النوم قرب الفجر فنمت ملئ جفني..ولم أستيقظ إلا والشمس في كبد السماء..
    لذلك فأنا لا أجد تفسيرا لما يرويه الناس في كل مكان..وأنا الآن في غاية الحيرة..
    لا أستطيع تكذيب ما سمعت وما يرويه الناس..ولكني لا أستطيع إثباته بالفعل..
    ربما لأنني اخترت ليلة خاطئة فلم يحدث شيء..
    ربما كان علي اختيار ليلة الثاني من نوفمبر أو أي ليلة في غضون أسبوع بعدها كما كان أعضاء الجمعية يجتمعون سنويا..
    حتما هذا هو التفسير الصحيح لعدم حدوث شيء..
    لذلك قررت أن أقضي ليلة الثاني من نوفمبر القادم في هذا البيت وحدي مرة أخرى..ربما أرى ما يميط اللثام عن هذا اللغز..

    انتهى كلام السير (كوش) عند هذا الحد..
    وبقي أن تعرفوا أن السير (كيلي كوش) توفي في فراشه في منزله في حوالي العاشرة مساء يوم الثاني من نوفمبر عام 1940



    الواقعة السابقة ليست محض خيال .. بل إنها حدثت بالفعل وتم إثباتها تاريخيا ..
    وحار العلماء والمهتمون إلى الآن في تفسيرها وغيرها من الوقائع الأخرى التي ساعرضها لكم تباعا بمشيئة الله..
    وفي النهاية..كل عام وأنتم بخير بمناسبة غرة ربيع الاول والعام الميلادى الجديد اعاده الله علينا جميعا بالخير واليمن والبركات

    وكل عام وانتم بخير



    المصدر:
    كتاب (أرواح وأشباح) تأليف الأستاذ (أنيس منصور)

    التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-03, 11:48 PM.

  • #2
    سلسلة ... (أرواح وأشباح)
    (2)


    وعد الحر دين عليه

    في يوم صحو من أيام صيف عام 1693 عاد السير الشاب (تريسترام) ذو الثلاثة والثلاثون ربيعا إلى قصره الضخم في (دبلن) في (أيرلندا) وسأل مشرفة القصر عن زوجته السيدة (نيكولا) فأخبرته أنها طريحة الفراش فهرع إليها جزعا وجلس بجوارها وقد هاله شحوبها وسألها بصوت مرتجف:
    ماذا ألم بك اليوم عزيزتي؟
    أجابته زوجته بصوت مجهد:
    لا تخش شيئا عزيزي..أنا بخير..ولكن أرجو منك لطفا ألا تسألني عن هذا الشريط الأسود الذي لففته حول ذراعي اليوم ولن أخلعه طيلة حياتي..
    فأجابها مهدئا:
    لك هذا عزيزتي ولكن هل أستدعي الطبيب؟
    فقالت بنبرة حزن:
    لا عليك..أنا بخير ولكني اليوم في حزن عظيم..فقد توفي اللورد (تايرون) منذ ثلاثة أيام..مات بالتحديد يوم الأربعاء الماضي في الرابعة عصرا..
    ضحك زوجها وقال:
    وكيف عرفت؟؟ عهدي بك متحررة التفكير..مقبلة على كل متع الحياة..فماذا دهاك اليوم؟؟
    فقالت الزوجة:
    لقد مات اللورد..هذا مؤكد..إنني أشعر بهذا..أنت تعلم أننا ولدنا سويا في عام واحد ونشأنا وتربينا سويا..كنا أخوين..بل توأمين..وكانت صلتنا عميقة..وأنت تعرف هذا الرباط الروحي الذي كان بيننا...
    يرد الزوج قائلا:
    دعك من هذه الوساوس ولا تصدقي تلك الخرافات..هيا فسآمر الخدم بإعداد الخيول وسآخذك في نزهة في الغابة لعل هواءها المنعش أن يذهب عنك ما يعتريك..
    فقالت الزوجة:
    أخشى أنني لن أستطيع الاستجابة لطلبك..فعندي خبر سيسعدك بالتأكيد..إنني حامل...
    افتر ثغر الزوج عن ابتسامة واسعة..وقام من فوره مناديا كل الخدم قائلا:
    لا خيول بعد اليوم..إن سيدتكم ستلزم الفراش طيلة الشهور القادمة..فنحن ننتظر حادثا سعيدا...
    فقالت الزوجة:
    والمولود سوف يكون ذكرا..
    ولم يشأ الزوج أن يعلق على كلام زوجته وإن أخذته الدهشة للحظات ثم عاد للضحك ناسبا الأمر لرغبة زوجته الداخلية..وانغمس كل من في القصر في الضحك والرقص والغناء ابتهاجا بسيدتهم..
    وانطلق الزوج يداعب زوجته ويعدها بمزيد من البنين والبنات والأحفاد..
    كان هذا حين جاء أحد الخدم يعلن أن رسالة قد جاءت من قصر اللورد (تايرون) في (لندن)..
    كانت الرسالة من سكرتير اللورد..وعندما قرأها السير (تريسترام) شحب وجهه..كانت رسالة مقتضبة يعلن فيها السكرتير عن وفاة اللورد يوم الأربعاء في الرابعة عصرا...
    ولكنه لم يتوقف أمام الأمر كثيرا بل عاد لابتهاجه وسروره بوليده المرتقب..
    وبعد شهور أنجبت السيدة (نيكولا) طفلها الأول..وكان ذكرا..سماه والده (ماركوس)
    وبعد ست سنوات بالتحديد..توفي السير (تريسترام)..



    وقررت الأرملة الشابة ألا تتزوج وأن تعتزل الحياة في قصرها وتتفرغ لتربية طفلها..ذلك على الرغم من أنها كانت في ريعان الشباب..حيث كانت في الرابعة والثلاثين من عمرها..وكانت تتمتع بجمل أخاذ..
    ولكن حتى الكنيسة اعتزلتها..ولم تكن تذهب لحضور الصلوات بها..
    وفجأة بعد بضع سنوات قررت (نيكولا) أن تستأنف حياتها بصورة طبيعية..فكانت تذهب إلى الكنيسة لحضور الصلوات بانتظام..وانبهر الناس بجمالها ورقتها..وكان من الطبيعي أن يتوافد عليها الخطاب ما بين نبلاء أو طامعين في ثرائها..وكان من الطبيعي أن تميل لأحدهم..ثم تتزوجه رغم كونه أصغر منها سنا..
    واتضح لها سوء اختيارها لأن زوجها كان طامعا في مالها..فعاشت معه ويلات وكابدت بسببه عذابات عديدة..
    إلى أن حملت منه وأنجبت له ابنه..فهدأت عاصفة نفسه..وهام بها حبا..واستمرت الحياة بلا منغصات..ومضت السنون..وعندما أتمت السيدة (نيكولا) الحادية والخمسين من العمر أرادت أن تحتفل بعيد ميلادها..ولكنها أرادته احتفالا ليس كأي احتفال..فقد كانت تحتفل بشيء آخر..كانت حامل..وكانت هي وزوجها في قمة السعادة..
    لذلك دعت كل المعارف والأقارب والأصدقاء..واستدعت ابنها (ماركوس) من (لندن) حيث كان يدرس..وطلبت منه ومن ابنتها بل وحتى الخدم والوصيفات أن يدعوا كل معارفهم وأصدقائهم..أرادته احتفالا عظيما..وكانت في قمة السعادة وضحكاتها المجلجلة تسبقها على غير عادتها الرصينة..وبدت للجميع كأنها ارتدت شابة..وسعد الجميع لسعادتها..فقد كانت عطوفة رءوفة بالكل..
    حتى كبير أساقفة (لندن) دعته ليباركها..
    وجاء كبير الأساقفة..ودخل عليها جناحها ليباركها..ونهضت لاستقباله هاشة باشة..فقال لها باسما:
    أنا سعيد برؤيتك يا ابنتي الصغيرة..كل عام وأنت بخير..
    فقالت ضاحكة:
    صغيرة!!..كم أنت مجامل يا أبتاه..أنا لم أعد صغيرة..
    فقال الأب:
    لا تبدو عليك سنك يا ابنتي..فأنت جميلة الوجه..شابة الروح..ومن يراك اليوم لا يمكن أن يتخيل أنك أتممت لتوك الخمسين من العمر..
    ضحكت السيدة (نيكولا) وقالت:
    بل في الواحدة والخمسين يا أبتاه..ألم أقل لك أنك مجامل..
    فقال الأب:
    بل أنا أعني ما أقول فأنت الآن في الخمسين من العمر..لقد حضرت تعميدك بنفسي..
    فقالت (نيكولا) وقد غاض وجهها واضطربت ضحكتها:
    بل في الخمسين يا أبتاه فقد ولدت مع اللورد (تايرون) رحمه الله في عام واحد..عام 1665
    فقال الأب:
    لا يا ابنتي..لقد ولدت بعد ذلك بعام واحد..ولدت سنة 1666..بعد أيام من الحريق الشهير الذي شب في (لندن) والذي كاد يفني المدينة كلها وقتها..
    وامتقع وجه السيدة (نيكولا) وتهاوت على فراشها..ولكنها تماسكت وعاونها الأب على الوقوف وقالت:
    يا أبي..لقد حكمت الآن بموتي..سوف أموت اليوم..لا شك في هذا..أرجوك أن تخرج الآن وتستدعي ابني وابنتي بسرعة..أرجوك فليس لدي وقت كاف..
    وخرج كبير الأساقفة..واستدعى الابن والابنة..ودخل الاثنان على والدتهما وهي طريحة الفراش لا تقوى على النهوض..فطلبت منهما أن يغلقا الباب جيدا حتى لا يدخل أحد ثم يقتربا ويستمعا لقصتها..ومضت تقول:
    ليس لدي متسع من الوقت..لأنني سوف أموت اليوم..أرجو أن تستمعا إلى قصتي..
    تعلمان أنني واللورد (تايرون) كنا صديقين ..بل أخوين توأمين وتربينا سويا وكان يشرف على تربيتنا أستاذ من أساتذة الفلسفة..وكان متحررا كافرا..لا يؤمن بالله ولا بأي دين..ولا بأي ثوابت مطلقا..كان يرى أننا نعيش في هذه الدنيا.. ثم نموت كما تموت الكلاب..ثم بعدها..لا شيء.. لا حساب..لا قيامة..لا ثواب ولا عقاب..بل لا إله من الأساس..لذلك فليس لنا غير هذه الحياة..ومن الأفضل أن نعيشها كما يحلو لنا..ونحن أحرار في حياتنا نفعل فيها ما نشاء وقتما نشاء..
    وقد حاول الرجل غرس تلك الأفكار في عقولنا..ولكن رغم أننا كنا أطفالا يتم تلقيننا بدون أن نفقه شيئا..إلا أن فطرتنا السوية كانت تأبى تلك الأفكار..لذلك فقد حرصنا على الصلاة والتقرب إلى الله سرا..واتفقنا سويا أن الذي يموت منا أولا يجب أن يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر..وهل نحن على صواب أم أستاذنا ومربينا؟؟..وأيهما أفضل..الكفر أم الإيمان؟؟؟..

    وتعاهدنا على ذلك..وأقسمنا بكل عزيز وغال لدينا..
    ثم كبرنا..وافترقنا..فتزوجت السير (تريسترام) وانتقل اللورد (تايرون) ليعيش في (لندن) وانقطعت أخباره ولم أعد أراه..
    وفي إحدى الليالي كنت نائمة وحدي حيث كان أبوك يا ولدي يبيت بالخارج في مهمة خاصة بأعماله..وفجأة شعرت بوجود رجل في الحجرة واقفا بجوار فراشي..ففتحت عيني خائفة وإذا بي أرى اللورد جالسا على طرف السرير بجواري..ونظرت إلى اللورد (تايرون) غاضبة وهتفت به بانزعاج:
    كيف أتيت إلى هنا؟
    فقال بابتسامة هادئة وصوت بدا وكأنه يخرج من جب عميق:
    جئتك لتنفيذ الاتفاق السابق والعهد الذي قطعناه على نفسينا..
    قلت باضطراب:
    لا أفهم..
    فقال وابتسامته الهادئة تتسع:
    هل نسيت أننا اتفقنا في طفولتنا وتعاهدنا أن الذي يموت منا أولا يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر؟
    فقلت بدهشة:
    نعم..نعم..أذكر ذلك جيدا
    فقال:
    وأنا مت يوم الأربعاء في الرابعة عصرا..وجئت أخبرك بكل ما تريدين معرفته..
    فانعقد لساني من الدهشة للحظات..ثم إن لهفتي فاقت دهشتي فانطلقت أقول له:
    وما الذي رأيته وعرفته؟؟..
    فقال بهدوء:
    إن الإيمان بالله هو الطريق القويم..وإن هناك إلها..وإنه لا إله إلا الله..وإن الخير حق..والحب حق..والعطف والرحمة حق..وإن الدنيا زائلة..وإن هناك حياة أخرى أروع وأجمل مما تتصورين..
    أما عنك أنت فأنت حامل منذ شهر في طفل ذكر..وسيسميه زوجك (ماركوس) وأنك ستعترضين على الاسم لرغبتك في تسميته باسمي..
    وزوجك سيموت بعد ستة أعوام..
    وستعتزلين الناس..ثم تتزوجين من شاب يصغرك في السن..يذيقك صنوف العذاب إلى أن تنجبي له طفلة فيتغير وتعيشين معه سعيدة إلى أن تموتين يوم عيد ميلادك الخمسين وفي بطنك جنينا..
    فسألته:
    وهل أستطيع منع ذلك؟؟..
    فقال:
    ومن ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
    فقلت:
    وهل أنت سعيد في حياتك الأخرى؟؟
    فقال:
    بالتأكيد والحمد لله وإلا لما كنت أستطيع أن آتي إليك..
    فقلت:
    ولكن كيف لي أن أعرف أن الذي أراه الآن حقيقة وليس مجرد حلم أو وهم؟؟
    فقال:
    ألم أخبرك بأنني مت يوم الأربعاء في تمام الرابعة؟..ألا يكفيك هذا؟؟
    فقلت:
    لا يكفيني..إنني أعرف ناسا كثيرين يحلمون بمثل هذه الأحلام ويرون في أحلامهم العجب العجاب..
    فقال:
    إذن سأمسك سيخين من حديد تلك النافذة وأجدلهما كالضفيرة..وهذا ما لا يستطيع عمله البشر..
    فقلت باندفاع:
    بل يستطيع النائم أن يفعل أكثر من ذلك..لقد قرأت عن القوى الخارقة التي يتمتع بها النائمون دون أن يدروا بوجودها لديهم
    فقال وقد اتسعت ابتسامته:
    عهدي بك دوما عنيدة..لذلك سأترك على ذراعك أثرا لا يمحى..ولكن أرجو ألا يراه أحد ما دمت حية..
    ثم لمس ذراعي بأصابعه التي كانت كالرخام البارد..وبالفعل تركت أصابعه على ذراعي خمس علامات حمراء..
    وطلب مني أن أربط يدي بشريط أسود سيتركه لي على النافذة..ثم ودعني واختفى..
    وعندما قمت مشدوهة إلى النافذة وجدت سيخين منها وقد تم جدلهما كالضفيرة وقد التف حولهما هذا الشريط الأسود..فأخذته ولففته حول ذراعي لأداري به أثر يد اللورد كما طلب مني..ثم جلست في فراشي مذهولة مهمومة حتى دخل علي والدكما في الصباح بعد عودته..
    بعدها أنجبناك يا ولدي..وقد وجدت ما يدفعني لأن أطلب من والدك أن نسميك (تايرون) ولكنه كان قد قرر أن يسميك (ماركوس) بالفعل..ليس هذا فحسب..بل لقد توفي أبوك بعد ست سنوات في التوقيت الذي حدده اللورد بالضبط..مما أصابني بالرعب وأنا أستعيد كلمات اللورد في تلك الليلة..
    تذكرت أنه قال لي أنك ستتزوجين من رجل يصغرك..لذلك اعتزلت الناس وامتنعت عن الحياة الاجتماعية..بل وحتى الكنيسة لفترة..رغبة مني في عدم تحقق النبوءة..كنت خائفة للغاية..وكنت أحب الحياة وأرغب في أن أعيش طويلا..
    ولكن غمرني شعور رهيب بالتقصير في حق الله..فكيف امتنع عن الذهاب للكنيسة ثم أدعي الإيمان وأطلب من الله المغفرة؟؟..
    كنت أبكي وأصلي في صمت وأقول:
    يا الله..يا أقوى الأقوياء..يا أرحم الرحماء..اغفر لي تقصيري في حقك..إنني ضعيفة وأنت العظيم..ولا أعرف من عظمتك إلا أقل القليل..ولا ذنب لي في ذلك..فعقلي أصغر من أن يعي عظمتك وقدرتك..
    إنني نملة على جبلك الشاهق..إنني شمعة في شمسك المبهرة..ارحم ضعفي وتقصيري يا رب..
    هكذا كنت أصلي وأتعبد يوميا لله..ولكن هذا لم يمح شعوري الرهيب بالتقصير..فقررت الذهاب للكنيسة حتى لا أكون مقصرة..
    وفي الكنيسة رأيت أبوك يا ابنتي..كان شابا وسيما يصغرني بأربعة أعوام..ووقعنا فى هوى بعضنا من أول نظرة..وتعاهدنا على الزواج..وتزوجته رغما عني..فقد كنت أتهرب منه حتى لا نتزوج..ولكنه كان يحاصرني..وأخيرا تزوجنا..
    وعندما تزوجنا كنت أتهرب منه في الفراش حتى لا أحمل..
    وكنت أقول له يكفينا ابننا (ماركوس)..
    فكان يقول إنني أحب (ماركوس) لا شك في هذا ولكنه ابنك أنت..وأنا أرغب في أن يكون لي مولود منك..أخ أو أخت لماركوس..
    عندها كنت أتمنع عليه فكان يشتاط غضبا ويذيقني من صنوف العذاب ألوانا..حتى لقد اتهمني بأنني على علاقة بآخر..وهددني بالطلاق والفضيحة..
    فلم يكن هناك بد من أن أستجيب له..وحملت فيك يا ابنتي وأنجبتك..
    تماما كما قال اللورد (تايرون)..وأيقنت تماما صحة مقولته حين قال:
    من ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
    وعلى هذا جلست أنتظر ساعتي..وعندما أتممت عامي الخمسين ترقبت النهاية..ولكن مر اليوم دون أن يحدث شيء..وظننت أن نبوءة اللورد لن تتحقق..وكانت سعادتي لا توصف..
    وقبل أيام علمت أنني حامل في مثل سني هذا..ففاقت سعادتي السحاب..
    وقررت أن أحتفل بعيد ميلادي الحادي والخمسين احتفالا ضخما..كيف لا وقد كنت أشعر أنني قد ولدت من جديد..
    إلى أن جاءني كبير الأساقفة..وعلمت منه عام ميلادي الحقيقي..وعلمت أنني كنت مخطئة في حساباتي طيلة هذه السنين..
    لقد ولدت عام 1666 وليس 1665 كما كنت أظن..
    واليوم أتممت الخمسين من عمري..
    أنا لا أحتفل بعيد ميلادي..بل أحتفل بوفاتي..سأموت اليوم وفي بطني هذا الجنين..
    وأجهشت السيدة بالبكاء فاندفع إليها ابناها واحتضناها وقال (ماركوس):
    اهدئي يا أمي..إن اليوم عيد ميلادك..والناس كلهم ينتظرونك..أرجو منك أن تنزلي معنا لهم الآن..وسيكون لدينا متسع من الوقت لكل شيء..

    في حين قالت الابنة وهي تبكي:
    كثير على النفس هذا الذي قلتيه يا أماه..سوف نسافر معا بعد نهاية الاحتفال..سننتقل إلى منزل آخر.. مدينة أخرى..بل دولة أخرى..لن نتركك تعيشين في هذا القصر يا أماه..إن الحياة فيه قد تركت أثرا عميقا في نفسك..
    قالت الأم التي لم يبد أنها قد سمعت حرفا مما قاله ابناها:
    والآن يا ابناي قد حانت لحظة الوداع..شيء واحد فقط أرجوه منكما..
    فكا هذا الرباط الأسود وشاهدا معا أثر أصابع اللورد لتعلما أنني لم أكن كاذبة..
    فتقدم الشاب والفتاة وفكا الرباط وبالفعل رأيا الآثار واضحة..
    فابتسمت الأم في ارتياح وسهمت ببصرها وقالت بصوت ضعيف:
    بقي شيء هام نسيت أن أقوله لكما..
    مبروك يا ولدي (ماركوس)..سوف تتزوج (باتريشيا) ابنة اللورد (تايرون)
    والآن..اخرجا الآن واستدعيا خادمتي الخاصة..
    وخرج الابنان..واستدعيا الخادمة..ودخلت الخادمة ونزل الابنان إلى الضيوف..
    كان في نيتهما أن يقولا إن تعبا طارئا ألم بأمهما..وأنها ستكون بخير وتهبط للترحيب بضيوفها بعد قليل
    ولكن سبقتهما صرخة الخادمة المولولة:
    ماتت سيدتي..ماتت سيدتي..

    وفي جنازة السيدة (نيكولا) كان ابنها (ماركوس) يسير وبجواره شابة حسناء..وكان يقول لها:
    كنت أنتوي مفاتحة أمي في أمر زواجنا هذه المرة كما اتفقنا..كنت أظن أنها لم تكن تعلم بأمر حبنا..ولكن الحقيقة أنها كانت تعلم..والدك أيضا كان يعلم..وقد باركا زواجنا..
    وتقول الفتاة في ذهول: والدي كان يعلم..لم أفهم!!!
    فيربت (ماركوس) على كتفها ويقول:
    نعم والدك..إنها قصة عجيبة..سأرويها لك فيما بعد



    التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-03, 11:50 PM.

    تعليق


    • #3
      سلسلة ... (أرواح وأشباح)
      (3)




      ألف يوم




      في عام 1703م في مدينة (كوندييه) التي تقع على الحدود الفرنسية البلجيكية ولدت (إيبوليت لاكلايرون) أشهر ممثلة فرنسية في عهد الملك (لويس الخامس عشر)..
      ولدت كابنة غير شرعية لجاويش في الجيش الفرنسي وأم كانت تبيع جسدها مقابل لقيمات تسد بها رمقها..
      لذلك وكما هو متوقع عانت الصغيرة الجميلة شظف العيش منذ نعومة أظافرها..وانزوى جمالها خلف حجب الفقر والهوان..ولذلك وكما هو متوقع أيضا اكتسى قلبها بجدار القسوة..
      لذلك فما إن بلغت الثالثة عشرة حتى التحقت بفرقة (كوميدي فرانسيز) المسرحية..وما لبثت أن دفعت الثمن من جسدها لمدير الفرقة ليوافق على انضمامها..ولم تأبه بذلك..فقد قررت منذ الوهلة الأولى لدخولها الفرقة أن تكون ممثلة (فرنسا) الأولى..وبالفعل تحقق لها ذلك..بل وأكثر من ذلك..فلم تصبح الممثلة الأولى فقط بل أصبحت معشوقة الملك وحلم النبلاء..
      و قاومت كل رجال العصر.. ترامى الرجال عند قدميها وظلت عالية الرأس..تساقطت الورود حولها..
      وتحطمت القلوب عندها . ولكن كانت آمالها أعلى وأقوى من كل هذا الذي يلمع في عيون الناس ويبرق في أيديهم..وسدت أذنيها عن الكذب الجميل..فهي مشغولة عن كل شيء..إنها تريد أن تكون شيئا..تريد أن ترد اعتبارها وأن ترتفع بنفسها عن أصلها الوضيع .

      وقد طال عمرها وعاشت حياتها بالطول والعرض وقبل وفاتها بقليل كتبت مذكراتها..
      ولم تخف عن قرائها أي شيء..اعترفت بعشاقها وأسمائهم.. ولم تحاول أن تتستر على ضعف الرجال من النبلاء والأغنياء..
      وقد أدت هذه المذكرات إلى فضيحة الجميع .. فلم تكد تصدر حتى اختفت في أيام فقد أخفاها كل الذين وردت أسماؤهم فيها..بل إن أحد النبلاء قد اشترى أكثر من ألف نسخة خوفا على والدته التي لم تكن تشك مطلقا في إخلاص أبيه..ولكن تناقل الناس تفاصيل هذه المذكرات..بل إن هذه المذكرات قد أعيد طبعها وأضاف إليها الناشرون قصصا كثيرة من عندهم وراحوا يهددون بها الأسر النبيلة في (فرنسا) ..




      وسط تلك الحياة الصاخبة ظهر الفتى (سيمون)..و(سيمون) هذا شاب وسيم للغاية..عشق (لاكلايرون) ولا غرابة في هذا ولكن المثير أنها أيضا أحبته ومالت إليه منذ النظرة الأولى..وعرف الناس بقصتهما ولم تهتم لذلك..
      غضب منها النبلاء ولكنهم لم يقووا على الابتعاد عنها..بل عادوا يتساقطون تحت قدميها حاسدين الشاب على مكانته عندها..ولكنها أيضا لم تهتم..

      وكتبت عن ذلك في مذكراتها تقول:

      (تعلمت من الرجال ألا أشعرهم بأن هناك واحد أفضل من الآخرين..وإن كانوا يعلمون إنني لابد أن أختار واحد منهم لذلك يتصارعون تحت قدمي..لكن لا يحطم قلب الرجل إلا شعوره بأنه في منافسة..إن هؤلاء الرجال يفضلون أوهامهم الجميلة..ولكنهم لا يملكون الشجاعة الكافية..كم تمنيت ولو مرة واحدة أن أجد رجلا يمسك سوطا ويضرب كل هؤلاء الموجودين ويختارني بالقوة ويطردهم بعنف..ويسد الباب في وجه الدنيا..وأن يمنعني من الذهاب إلى المسرح..ولكن أحدا لم يفعل ذلك للأسف)

      لقد كانت ذكية بالفعل..ووصل بها ذكاءها إلى حد أنها استخدمت النبلاء للسؤال عن الفتى..وكان ما عرفته صعبا..
      فهو ليس من الأغنياء ، ولكنه حريص على أن يبدو كذلك..ثم هو يتنكر لأصله ويدعي أنه من سلالة ثرية أبا عن جد..ولكنها عرفت حقيقته..
      كان في استطاعتها أن تفهم لماذا يحاول إنسان فقير وضيع أن يبدو نبيلا غنيا فهو مضطر إلى أن يفعل ذلك لعله يلفت نظرها..أو يصرف نظرها عن مئات الأثرياء الحقيقيين الذين سدوا الطريق إليها..
      ولكنها كرهت أن يكذب الرجل في عواطفه أو في علاقاته الاجتماعية..
      لو قال لها : إنني فقير مثلك . حقير مثلك . ولكني أسمو على كل شيء بحبك.. لو قال ذلك لأحبته وضحت بالدنيا كلها من أجله..
      تقول (لاكلايرون) في مذكراتها:

      (الرجال يكذبون لكي يبدون أكبر..ولو صدق الرجال لكانوا اكبر..ولكن الرجال لا يعرفون المرأة..
      لا يعرفون هذا الطراز المسمى النساء . إنهم لا يعرفون بالضبط ما يعجبني..إنني رقيقة..هذا واضح ولكني أحب العنف.. إنني صريحة ولكني أحب أن أكذب وأن يصدقني الناس..وفي لحظة واحدة أحب أن أكون صادقة حتى آخر نقطة من دمي..أحب الكذب طول الوقت..وأحب الصدق العميق لحظة النشوة .
      أيها الرجال أنتم علمتم المرأة كل شيء ونسيتم أن تتعلموا من المرأة شيئا واحدا : متى يكون الكذب ومتى يكون الصدق؟؟)
      ولكن قلب المرأة يفتح إذا دقت الشفقة بابه..فالمرأة أم بطبعها..أم لأي رجل..أصغر أو أكبر منها..لذلك لم تتركه..بل قربته منها شفقة به..

      لكن الشاب أحبها بجنون و أرادها أن تكون له وحده..وعندما أحست (لاكلايرون) أنه سوف يعطلها عن العمل في المسرح أشارت إلى الذين حولها أن يبعدوا عنها الشاب..وبالفعل امتدت ملايين الأيدي وأبعدته..بل وحطمته
      ولكن تلك الأيدي لم تستطع أن تفعل نفس الشيء بقلبه..ولسوء حظ القلوب إنها أبعد من الأيدي . ولذلك إذا استقر فيها داء الحب فلا تستطيع أي يد أن تعالجه أو تحطمه..
      لذلك بقي الشاب متعلقا بها.. وراح يبعث لها خطابات طويلة..ولكن (لاكلايرون) تجاهلتها..
      وتكدست الخطابات . . ولم تكن تفتحها أو تلقي لها بالا..بالواقع كانت منشغلة بحياتها منغمسة في الحفلات والسهرات والملذات مع علية القوم..
      ولكن حب الاستطلاع دفعها يوما لتفتح واحدا منها..وكان ما توقعته..حب مجنون..
      ففي أحد خطاباته كتب يقول لها:




      (لولا أن الانتحار سوف يحرمني من العذاب لأنهيت حياتي..ولكن حياتي هي عذاب البعد عنك..ولذالك سوف أعيش مهما كانت هذه العيشة..فيكفيني أنني بقربك وأن روحي ستحرسك من الأوغاد)
      وفي إحدى الليالي جاءتها رسالة عاجلة في الليل مع سيدة عجوز . الرسالة كانت من (سيمون) ويقول فيها: (إنني مريض وأريد أن أراك فقط..هذا منتهى أملي)

      وكان في بيتها كالعادة عدد كبير من الضيوف..وتأثرت الآنسة بهذه الرسالة..وقررت أن تذهب لزيارة الشاب المريض ولكن ضيوفها منعوها..وعادت العجوز مع اعتذار رقيق..وعادت الآنسة إلى الحفل..وغنت ورقصت.. وانحنت لتحية ضيوفها عندما كانت الساعة تدق معلنة الحادية عشرة مساء..عندها سمع الجميع صرخة رهيبة مزقت أستار الليل..وجمدت الدماء في وجوههم وترامى بعضهم على أقرب مقعد..وتلفت الجميع حولهم..
      وأمسكوا المشاعل وراحوا يفتشون كل غرفة في البيت بل إن بعضهم خرج من البيت إلى البيوت المجاورة..
      ولكن لا أثر لأي أحد..



      وخافت (لاكلايرون) أن تبيت وحدها وطلبت من عدد من الموجودين أن يشاركوها المبيت وناموا حولها على الأرض وظلت هي على فراشها تتقلب حتى الصباح . وعند الصباح جاءت العجوز تقول لها:
      إن (سيمون) قد توفي أمس وهو يصرخ من الألم والهوان عند الساعة الحادية عشرة مساء...
      وتأثرت (لاكلايرون) قليلا ولكنها تناست الأمر سريعا ودعت الضيوف لحفل في المساء..
      وفي تلك الليلة أيضا وفي ذات الساعة سمع الجميع الصرخة الأليمة..
      وظن ضيوفها أنها نكتة سخيفة من واحد من الجيران فانطلقوا إلى الشارع ولم يجدوا أحدا..
      وقرر الجميع المبيت معها دون دعوة هذه المرة..
      وفي الليلة الثالثة وقبل الساعة الحادية عشرة بدقائق توزع الحاضرون في كل غرف البيت وأمام الباب . . وفي الشارع ..ولما حانت الحادية عشرة تعالت الصرخة تهز الجميع..

      وكان من المحتم الاتصال بالشرطة..
      وفي الليلة الرابعة جاء رجال الشرطة وتكررت نفس الصرخة في نفس التوقيت..وكانت دهشة رجال الشرطة أعنف..ولم يستطع أحد تفسير ما يحدث..

      وأحست (لاكلايرون) بالحزن العميق لأنها لم تذهب إلى لقاء (سيمون) في تلك الليلة..وأيقنت أن روحه هي التي تصرخ..ولكنها كانت واقعية..لذا سرعان ما تجاهلت الأمر و اعتادت على الصراخ..
      وفي إحدى الليالي قررت أن تتأخر في المسرح إلى ما بعد الحادية عشرة مساء..وعندما وقفت على باب المسرح في انتظار عربتها التي تجرها الخيول جاء أحد عشاقها وعندما كان يودعها ويقبلها على خدها حدث شيء غريب..
      فقد أحس إن سيفا من الثلج يمر خاطفا في هذه المسافة الصغيرة بين شفتيه وخدها . وصاحبت السيف الثلجي صرخة عاتية..وسقط الرجل على الأرض فزعا وهربت هي إلى عربتها..
      ومرت الأيام..وفي أحد الأيام تم توجيه الدعوة لفرقة (كوميدي فرانسيز) إلى قصر (فرساي) لإحياء الاحتفالات لمدة ثلاث ليال ابتهاجا بزفاف ولي العهد..
      وذهبت معهم بالطبع (لاكلايرون) باعتبارها عضوة بالفرقة..وكانوا يبيتون كل اثنين في غرفة..وتشاركت (لاكلايرون) مع إحدى زميلاتها في غرفة..
      وقبل أن تنام قالت وهي تداعب زميلتها في الغرفة: كم أتمنى أن نسمع أي صوت في هذا الجو الخانق
      ولم تكد تكمل هذه العبارة حتى انطلقت الصرخة تزعزع كل من في القصر..حتى الملك قفز من سريره مذعورا..ولما سأل عن السبب وبالطبع لم يشأ أحد أن يقول للملك حقيقة ما حدث فقالوا له:إنه أحد الحراس السكارى تحت النافذة..فأمر الملك أن يضعوه في السجن فورا!!

      وبعد فترة اختفى صوت الصرخة..ولكن حل محله صوت طلق ناري!!
      ففي كل ليلة وفي نفس الموعد كانت (لاكلايرون) تسمع طلقا ناريا مدويا . وهو موجه إلى نافذتها . فإذا خرج أ الناس ليفحصوا النافذة لا يجدوا أثرا لأي شيء..وظلت هذه حالها ثلاثة شهور أخرى . . وقد تحرر بذلك محضرا في (باريس) في أغسطس سنة 1744 .
      وكالعادة اعتادت أيضا على هذا الصوت ولم تعد تفزع له بل أصبح نكتة تداعب بها ضيوفها فكانت تخرج بهم إلى الشرفة قبل الموعد المعروف..وعند الحادية عشرة تماما يدوي عيار ناري يفزع الضيوف وتضحك هي لذلك..وبعد ثلاثة شهور عاد صوت الصرخة مرة أخرى بدلا من صوت الطلق الناري..
      وفي إحدى الليالي جاءتها العجوز التي حملت لها رسالة العاشق المجنون.. وروت لها الحقيقة..قالت:

      ( كان يحبك . وكان يعلم صعوبة هذه العاطفة . ولكنه لا يدري ما الذي يفعله..إنه يحبك..هذا صحيح.. ولكنه في نفس الوقت يجب أن يعيش من أجل والدته المريضة لكي يعينها على الحياة..
      وكم عذبه هذا الصراع الداخلي الذي يعتمل في نفسه..
      هل يضحي بحبه من أجل والدته..أم يضحي بوالدته من أجل حبه..
      كان يحب والدته..هذا حق..ولكن كان من حقه هو أيضا أن يعيش . وشاء القدر أن تكوني حبه الأول والأخير..
      لذلك أصابه المرض وأقعده بعد أن حطمه رجالك.. وفي الليلة التي تمنى أن يراك فيها ..طلب مني أن أذهب إليك أستعطفك للحضور ليلقي نظرة أخيرة عليك لعلها تخفف من ألمه المضني..وعندما ذهبت إليك رفضتي أن تحضري معي..فرجعت إليه حزينة ولم أخبره..ولكنه فهم كل شيء فحاول أن يقف على قدميه وأن يذهب إلى بيتك ويموت بين يديك..ولكنه لم يستطع..وسقط من فراشه صارخا صرخة مزقت نياط قلبي..وكانت النهاية .
      وسألت (لاكلايرون): ولكن لماذا يطاردني هذا الصراخ؟
      قالت العجوز : سوف يظل هذا الصوت يطاردك بعدد أيام تعذيبك له..ألف يوم تماما..
      وبعد ألف يوم اختفى الصوت تماما..واختفت العجوز أيضا..
      وظلت (لاكلايرون) سيدة المسرح الفرنسي لأكثر من 22 عاما تالية..
      ثم اعتزلت المسرح سنة 1766..وافتتحت بعدها مدرسة لتعليم الفنون المسرحية..
      وعاشت طويلا حتى بلغت المائة عام من العمر حيث ماتت سنة 1803 .
      وعندما طالعوا مذكراتها اليومية وجدوها كتبت في آخر صفحاتها تقول:
      (عندي شعور غريب بأنني سوف أموت قريبا..لا أعرف سر هذا الشعور..ولكن الصوت الذي كان يسمعه الناس معي هذا الصوت أصبح يهمس في أذني ويقول: تعالي إنني أنتظرك..
      ومن الغريب إني أجيبه دون شعور مني:سوف آتي في الموعد تماما..
      ويهمس الصوت قائلا: بعد شهر واحد
      فأجيبه قائلة: لن أتأخر يوما .
      وماتت بعد شهر بالضبط..




      التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-03, 11:52 PM.

      تعليق


      • #4
        سلسلة ... (أرواح وأشباح)
        (4)

        شجرة العاشقين



        في إحدى ليالي صيف 1595 في مدينة (أوت) بإنجلترا توجه الصبي (جاك) ذو الثلاثة عشر ربيعا مع صديقه (مايكل) الذي يماثله في العمر إلى الغابة القريبة التي تتاخم حدود المدينة..
        كانت عيونهما تبرقان..وقلبهما يتواثبان من القلق..وبدا واضحا أنهما عقدا العزم على أمر ما..
        ذهبا وجلسا على مقربة من شجرة..
        شجرة عادية هي..هذا الذي يبدو للجميع نهارا..
        ولكن في الليل تكثر حولها الأقاويل..
        والناس يهربون من الطريق إليها أو حتى النظر إليها..
        بل ويحذرون أولادهم وخدمهم من اللهو بالقرب منها..
        فالحكايات كثيرة..
        يقال أن حريقا يشب فيها بلا دخان ولا نار..
        ويقال إنها تسطع بالنور أثناء الليل..
        ولكن لا شيء مؤكد..
        لذلك فقد عقدا العزم على أن يميطا اللثام عن تلك الشجرة..
        وها هما يجلسان على مقربة منها يرقبانها ويترقبان ما سيحدث بقلوب واجفة..
        وفجأة هز واحد منهما الآخر بعنف..
        لقد اختفت الشجرة..
        ونظر كل منهما للآخر كأنه يقول: هل ترى ما أرى؟
        ورددت الأعين نفس الإجابة في ذات اللحظة: نعم..
        وتسمر الشابان في مكانهما منبهرين..
        وفجأة ظهرت ورقة من أوراق الشجرة..لم تكن خضراء عادية بل كانت بيضاء تشع بالنور..
        الورقة تتثنى ثم تسبح قليلا في الهواء على أنغام موسيقي لا يسمعها أحد..
        ولكن حركتها الموسيقية بدت وكأنها مرسومة بعناية..
        ثم تلتها ورقة وراء ورقة حتى أصبحت الأرض مفروشة بأوراق مضيئة..
        وفجأة ظهر فرع شجرة أبيض وفرع آخر وثالث ورابع.. ثم ظهر جذع الشجرة..
        واستوت الشجرة في مكانها..
        ولكنها كانت تشع بضياء أبيض مبهر..



        وانفتح قلبها.. وخرج اثنان من الشباب. فتاة وفتى. يتلامسان. يتعانقان. خرجا إلى الغابة.. والضوء يتبعهما.. وتتبعت عينا الشابين هذين العاشقين.. وفجأة اختفى العاشقان..
        ونظر الشابان إلى مكان الشجرة فوجداها شجرة عادية.. وهدأ كل شيء..
        فركا أعينهما..وأعادا فتحها مرارا في ذهول..
        ولكن كان كل شيء قد انتهى..
        غمرتهما رجفة عنيفة هزت كيانهما من الخوف..
        فأطلقا ساقيهما للريح في نفس اللحظة..وعاد كل منهما إلى بيته لاهثا..
        وتدثرا بالأغطية ولكن الرجفة لم تفارقهما لحظة..
        وفي لحظة يقرر كل منهما أنه لا يستطيع أن ينام وحده..
        فيخرج كل منهما باتجاه بيت الآخر.. ويلتقيان في منتصف الطريق ليجلسا معا حتى الصباح دون كلمة واحدة..
        ولكنهما كانا قد عقدا العزم على تكرار التجربة..
        ويعود الشابان كل ليلة إلى هذه الشجرة..وتتكرر نفس الأحداث بحذافيرها..
        ويريان ويرجعان ولا يفهمان شيئا.. ولكنهما لا يرويان شيئا من ذلك لأحد..
        ولا ريب أن ما حدث كان أكبر من قدرتهما على الاحتمال..
        إذ مرض الشابان في وقت واحد.. وجاءهما القس.. وكان لابد أن يعترفا.. واعترفا..رويا كل شيء للقس..
        وسألهما القس: ولكن لم أخفيتم هذا عن الجميع؟
        فرد (جاك): وجدت نفسي عاجزا عن أقول أي شيء لأي أحد.
        -ولماذا؟
        -لا أعرف.
        يلتفت القس ويسأل (مايكل): وأنت ما الذي جعلك تسكت على هذه المعجزة التي رأيتها كل ليلة؟
        فيرد (مايكل): أريد أن أقول.. ولكن لا أجد لدي القدرة..أشعر أن هناك قوة تمنعني من الكلام.. ولكني لا أعرف ما هي؟
        - وكيف تقول الآن إذن؟
        - لا أعرف.. ربما لأنني سوف أموت الآن..ربما كان هذا هو السر.. إذا قلت مت.
        - وأنت ماذا تختار؟
        - لقد اخترت بلا إرادة مني..لقد قلت..وسأموت الآن..ينبغي أن أدفع الثمن..
        ومات الشاب بعد ذلك بلحظات..
        ومات الشاب الآخر بعد صديقه بلحظات..
        أما القصة فقد أصبحت معروفة بعد ذلك.. أو كانت معروفة ولكن أحدا لا يجرؤ على الكلام.
        القس بالتأكيد كان يعرفها.. والعمدة كذلك.. بل والمدينة كلها تعرفها..
        وانتشرت القصة في عموم (إنجلترا)..
        فما هي تلكم القصة؟؟
        هيا بنا نستعرضها سويا...

        (دوروثي سوثورث) شابة جميلة وكريمة المحتد..فهي ابنة (جون سوثورث) أحد رجال حاشية الملكة (إليزابيث الأولى) (1533-1603)..
        تلك الفتاة أحبت..والحب ليس خطأ في حد ذاته..ولكن الخطأ كان في اختيار الحبيب الذي لم يكن على هوى والدها..كيف لا والشاب الذي أحبته كان فقيرا من عامة الشعب..
        لذلك لكم أن تتوقعوا أن والدها لم يوافق على هذا الحب بأي حال..لا يمكن أن يسمح لشاب فقير أن يحب ابنته ولا أن تحبه هي.. ومستحيل أن يقترب منها أو يتزوجها.. إن موتها أهون من أي شيء آخر.
        لكن الفتاة أحبت هذا الفتى. وطفقا يلتقيان في الغابة سرا في الغابة تحت بعيدا عن أعين المتلصصين..تحت شجرة شهدت أول لقاء لهما سويا..
        ولكن من ذا الذي يستطيع الاختباء من أعين المتلصصين؟؟..
        وعرف الناس بحكايتهم..وبدؤوا يتهامسون..ثم يتكلمون..
        ووصل كلام الناس إلى الأب متأخرا.. بعد أن أصبح الوهم حقيقة..والحب تعاقدا على الزواج..
        وتشجع العاشق-وكل العشاق شجعان- وذهب إلى الأب.. وفوجئ الأب..
        ودار بينهما هذا الحوار الذي يحفظه الناس كما يحفظون الصلوات.
        الشاب: سيدي أنت تعرف لماذا جئت.
        الأب: لا أعرف. ولكني أريد أن أعرف. وصبري له حدود.
        الشاب: أنا أحب ابنتك. وهي أيضا.
        الأب: لا أسمح لها أن تحب. ولا أن تحبها.
        الشاب: ولكن الحب أقوى من الجميع.
        الأب: أنا أقوى من الحب. والتقاليد أقوى من الجميع.
        الشاب: الحب ينسف كل التقاليد
        الأب: لا أسمح لحقير مثلك أن يدخل بيتي. وإذا دخلته لا أسمح له أن يبقى أكثر من ذلك.
        الشاب: إنك تحطم قلب ابنتك.
        الأب: قلب ابنتي ملكي وأنا حر فيما أملك.
        الشاب: ولكنك لا تملك قلبها.
        الأب: لا أسمح لأحد أن يعلمني ما يخصني.
        الشاب: أنت تبني سطوتك على أوهام.
        الأب: ولا أسمح أن يقول لي كلب صغير مثلك هذه الكلمات الطائشة. ولا شيء يسعدني إلا خروجك فورا.
        الشاب: سأخرج ولكن يجب أن تعرف أن في ذلك شقاء لقلبين. وقضاء عليها
        الأب: أنت تتحدث عن نفسك. أخرج يا كلب يا كذاب.
        الشاب: لم أكذب عليك. إنما أنت الذي تكذب على نفسك. وتظن أن سلطاتك بلا حدود. ولكنك سوف تندم.
        الأب: أخرج. إنني أندم فعلا لأنني سمحت لوغد مثلك أن يدنس بيتي. أخرج.
        وخرج الشاب..
        وتحول البيت إلى سجن وأصبح محرما على الابنة أن تخرج..
        فكر والدها أن يدخلها الدير..
        وكان ذلك هو الحل الأمثل لمشاكل القلوب العاشقة في ذلك الوقت..
        ولكن جاء من يهمس في أذن الأب ويقول له:
        (بل إذا ذهبت إلى الدير فسوف يكون اللقاء أسهل. هل نسيت ما فعلته ابنة اللورد (...). أو ابنة الكونت(...)). ويتذكر أن بنات الدير أكثر حرية من بنات البيوت في ذلك الوقت. وفي كل وقت..
        ويكتفي الأب بأن يسجن ابنته.. يبقيها في بيته حبيسة غرفتها..
        حتى الطعام والماء كانا يلقيان إليها من تحت عقب الباب كما تعامل الكلاب..
        ولكن الفتاة امتنعت عن الطعام..وهزلت..
        ولكن كل من في البيت عطف على الفتاة الجميلة.. فهي لم تفعل شيء سوى أنها أحبت..
        لذلك ساعدوها سرا..
        وكان خروجها من السجن أسهل من أي وقت مضى..
        وكان البيت كله يتستر عليها..
        وكانت الفتاة تلتقي بحبيبها كل ليلة تحت الشجرة.
        وعلمت الابنة أن والدها سوف يسافر إلى (لندن) لبضعة أيام فكانت في منتهى الفرحة..
        و اتفقت هي وحبيبها على الهرب والزواج في أي مكان..
        والتقيا في الغابة.. وجلسا تحت الشجرة يناقشان كل شيء.. واتفقا على كل التفاصيل.. ثم عاد كل منهما إلى بيته لتجهيز حقيبته والنوم قليلا حتى الصباح..
        ولكن الفتاة لم تنم. لقد ظلت طول الليل ترتب فساتينها.. وأحست أنها عروس في ليلة حنتها.. وأغلقت عينيها تستعجل الصباح وقلبيها يتواثب من الفرحة...
        فلما أشرقت الشمس كانت في غرفتها قد ارتدت ثوب الزفاف..
        وعندما فتحت بابها كانت كل أبواب البيت مغلقة.. فقد أفسحوا لها الطريق.. وكانت قلوب الخدم تدق وراء الأبواب وتدعو لها بالسعادة..
        وخرجت إلى الغابة.. وكانت الأشجار هي الأخرى لا تتحرك. كأنها في حالة خشوع.. لا صوت.. لا همس.. ولا حتى هواء.. قلبها يدق كأنه قلب الكون.. وعند الشجرة وجدت حبيبها ومعه اثنان من أصدقائه..اقتربت منه.. أعطته يدها.. ومد يده يلتقطها..
        عندها انغرس سيف في قلبه..
        لقد كان أخوها يراقبها في الليلة السابقة واختفي وراء إحدى الأشجار.. وسمع اتفاقهما على الهرب والزواج فتسلل وراءها وفعل ما فعل..
        ولم يكن العاشق يحمل سلاحا ولا صديقاه.. ولكن أخاها قتل العاشق وقتل صديقيه..
        ووارى الثرى تحت الشجرة ثلاث جثث..وتكفل الليل بالتستر على الجرم الشنيع..
        أما الفتاة فأغمي عليها تماما.. ولم تفق إلا في اليوم التالي..وعندما أفاقت صرخت.. وعندما عرفت ما حدث بكت وفقدت وعيها مرة أخرى.
        لابد أن أخاها قد توهم بفروسيته الزائفة أن هذا العمل العنيف سوف يرضي أباه.. وسوف يجعله كبير عنده.
        بعدها قرر الأب أن يبعث ابنته إلى الخارج في رحلة نسيان. هو ينسى ولعلها هي تنسى أيضا.
        سافرت إلى (فرنسا)..ومضت شهور ولكن الفتاة لم تنس... وقيل إنها نسيت..
        وبعث الأب بقريبات لها كي يعرفن حالها ويخبرنه.. وعادت القريبات وقلن أنها توشك أن تنسى لكنها تريد أن ترى الشجرة وكل شيء سوف ينتهي بعد ذلك..
        ووافق الأب..
        ورجعت الفتاة إلى بيتها..
        واكتشف الأب أنها لم تنس..
        وطلبت الفتاة أن ترى الشجرة..
        وأضمر الأب أمرا..وراح يشرب الخمر..ويشرب..ويشرب
        وارتدت الفتاة ثوب الزفاف كما كانت ليلة ذهابها لحبيبها..
        كان هذا طلبها..ولم يعترض الأب..بل بدا متعجلا من أمره..
        وذهب الاثنان سويا تحت جنح الظلام إلى الشجرة..
        وما إن رأت الفتاة الشجرة حتى راحت تعانقها..ثم جثت بجوارها تبكي وتقبل الثرى..
        ثم اعتدلت جالسة ومازالت تواجه الشجرة ونظرت إلى السماء وقالت:
        هيا يا أبي..أنجز مهمتك..ألم أقل لك إن كل شيء سينتهي هنا؟
        يقول الأب في اعترافاته التي أفضى بها إلى القاضي فيما بعد:
        ولم أعرف إن كنت أنا الذي قتلتها؟
        أو كان معي سيف؟
        أو أنني وجدت السيف هناك..



        ولكنها سقطت على الأرض ودمها ينزف..
        ثم فاضت روحها وهي تنظر إلى السماء وتبتسم..ثم دفنتها في مكانها تحت الشجرة
        في ذات اللحظة بدا وكأن الشجرة قد تحولت إلى قطعة من النار أو النور. وانفتحت كأنها باب في حائط مضيء..
        ثم خرجت منها ابنتي وعشيقها متعانقين..وابنتي تقول لي:
        أشكرك يا أبي..أشكرك
        ثم صرخ الأب في قاعة المحكمة:
        كنت ثملا هذا حق..وكان يجب أن أكون ثملا حتى تطاوعني يدي على قتل ابنتي..ولكنني لم أقتلها..هي التي قتلتني..هي التي قتلتني..
        ثم هوى الأب في قاعة المحكمة ميتا..
        مضت مئات السنين..والقصة لم تنقطع على ألسنة الناس..
        ومع مرور الزمن تحولت هذه المنطقة من (إنجلترا) إلى حقول.. ونزعت كل الأشجار إلا هذه الشجرة..
        بل لقد أحيطت هذه الشجرة بعدد من الصخور.. وكانت هذه الصخور على شكل كف آدمي..
        فبدا المنظر للرائي وكأن هذه الشجرة تنبت في كف الحجر..
        ونبتت حولها بضع شجيرات أصغر في منظر طبيعي خلاب..وبقيت على هذا الوضع الغريب
        وفي سنة 1901 جاء شابان غريبان إلى هذه المنطقة..
        كان أحدهما اسمه (جاك) والآخر اسمه (مايكل)..
        كانا رسامين أرادا رسم هذا المنظر الطبيعي البديع..
        وجن عليهما الليل..
        ورأى الاثنان الشجرة تختفي ثم تتحول أوراقها إلى قطع من النور..
        وتبدلت الأحداث قليلا..إذ ثم تحولت جذوع الأشجار إلى فتيان وفتيات يتعانقون في خفة ومرح وصمت..
        وبعد لحظات انتهي كل شيء..
        وفزع الشابان..وأطلقا ساقيهما للريح..ولكنهما باتا ليلتهما وقد أضمرا أمرا..
        في الليلة التالية جاء الشابان ومع أحدهما سيف.. وفي الساعة المحددة خرجت الأضواء والفتيان والفتيات من الأشجار. وعندما أمسك الشاب بالسيف في يده لم يجده..
        لقد طار وانغرس في قلوب العاشقين واحدا بعد واحد وتساقط العشاق على الأرض..
        ومن العجيب أنهم كانوا يبتسمون للشابين وفي عيونهم نظرة امتنان وارتياح..
        واختفوا..
        وعاد السيف ليد الشاب..وساد الظلام..وانتهى كل شيء..
        منذ ذلك اليوم لم تعد تلك الأحداث تتكرر..
        وطوى النسيان كل شيء..
        ولم يعد للقصة أي أثر إلا في كتب التاريخ..
        وقلوب العاشقين
        فهاتين القصتين كسابقتيهما حقيقيتين..
        وقد وقعت أحداثهما بالفعل وسجلتهما كتب التاريخ..
        وكالعادة حار الجميع في تفسيرهما حتى الآن..

        قد يتسائل البعض إنها قصص رومانسية خيالية ليس مكانها ما وراء الطبيعة بل تصلح لأي موقع يروج للقصص العاطفية..
        ولكنى تعمدت اختيار تلكم القصتين لتناسبهما مع جو اعياد الميلاد وبعدها عن جو الرعب السائد فى هذا القسم من المنتدى وفضلا عن أن تلكم القصص قد وقعت بالفعل..فإنها تندرج تحت نوعية الرعب الرومانسي..
        وهو أشد أنواع الرعب إرعابا ان جاز التعبير..
        ولن يفهم قصدى إلا من شاهد أفلاما من نوعية أفلام الكونت (دراكولا) الذي كان يظهر في دور الثري الوسيم الذي يغري الفتيات للدخول إلى قلعته بكامل إرادتهن الحرة .. فقط ليكتشفوا أنهن ارتكبن خطأ مميتا..فلا يجدن الوقت حتى للصراخ..

        وهدفى مما قلتة هو أن نعي جميعا أن مفهوم الرعب تغير..
        حيث لم يعد من المخيف أن تطالع وجهك في المرآة لتجد شخصا آخر ينظر إليك بابتسامة ساخرة..
        أو تجد شيطانا يمد يده ليختطفك لداخل المرآة..
        إنما الرعب الحقيقي هو أن تشاهد في المرآة وجهك أنت..ولكن..على حقيقته



        المصدر:
        1- كتاب (خرافات مفيدة Useful Myths ) تأليف السير (كيلي كوش)



        التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-03, 11:53 PM.

        تعليق


        • #5
          سلسلة ... (أرواح وأشباح)
          (5)



          ومازلنا مع الأرواح والأشباح ووقائعهم المثيرة التي حارت في تفسيرها الألباب..كالعادة هي وقائع مثبتة وموثقة تمنعت على التفسير..





          أخطأت يا أماه


          عاشت السيدة (جان مورانييه) في سنة 1973 بعد شهورا قليلة بعد موت ابنها (جورج) الذي كان عمره 29 سنة وضعا نفسيا صعبا للغاية و تجربة مرعبة و مؤلمة أحدثت زلزالا عنيفا في كل معتقداتها و مفاهيمها للحياة والطبيعة..
          أترككم مع ما روته السيدة (جان) بنفسها في محاضر الشرطة..
          تقول (جان مورانييه):
          بعد ثلاثة أو أربعة شهور من موت ابني (جورج) لاحظت أن بعض الأشياء في شقتي تتحرك من تلقاء نفسها.. كنت أجدها من حين لآخر في أماكن غير تلك التي وضعتها فيها مسبقا .. ولكني لم أعر الأمر اهتماما في البداية..وأوعزته إلى الحالة النفسية السيئة التي انتابتني بعد وفاة ابني..
          ثم بدأت بين الحين و الآخر أسمع ضربات خفيفة جدا و يمكن وصفها بالضربات الخجولة على آلة البيانو بشكل خاص وكذلك على بقية أثاث المنزل..
          ذات ليلة بينما كنت أنا و زوجي نائمين بعمق..استيقظت على وقع صوت ضربة عنيفة دوت في أرجاء البيت.. حاولت إيقاظ زوجي (بول) ولكن بدون فائدة..
          قفزت من السرير مضطربة بعد أن سمعت عزفا موسيقيا كان صادرا بكل وضوح من آلة البيانو ..
          وفكرت..لابد أن لص دخل المنزل..استجمعت شجاعتي..وبشيء من الخوف اتجهت إلى الصالون..
          وكلما اقتربت انتابتني الدهشة.. لأن ذلك العزف الموسيقي ..بل تلك المقطوعة بالذات لم تكن غريبة عني ..نعم نعم إنه اللحن المفضل لدى ابني (جورج).. كان يحبه ويعزفه كثيرا..وصلت إلى البيانو..أصابتني الرجفة..شاهدت لوهلة أصابع البيانو تعزف لوحدها..لا أحد يجلس إلى البيانو..عقدت الدهشة لساني للحظات وبلا وعي هتفت:
          (جورج)..أأنت هنا؟..





          كنت مادية متحررة التفكير ولا أؤمن بوجود حياة أخرى بعد الموت..وفكرت أن ابني (جورج) طالما عاب علي هذا التفكير..فكنت أرد عليه قائلة:
          أعطني دليلا واحدا أو برهانا ساطعا وأنا على أتم الاستعداد للتخلي عن معتقداتي والإيمان بمعتقداتك..
          فهل يريد (جورج) أن يقدم لي الدليل على صدق معتقداته الآن؟..
          لحسن الحظ توقف العزف وانتهى كل شيء..
          نفضت عن رأسي كل الأوهام وعدت لاستكمال نومي..وفي الصباح ظننت أن ما مررت به كان مجرد حلم..
          وظننت أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد..ولكنني كنت واهمة..
          بعد أيام من تلك الواقعة..دخلت المنزل بعد عودتي من العمل لأفاجئ بفوضى عارمة تعم أرجاء المنزل..
          كل أثاث البيت كان مقلوبا ومبعثرا..أصابني الذعر..وأيقنت أن لصا قد دخل البيت في غيابي..صعدت للطابق العلوي الذي كان مبعثرا أيضا..ولكني وجدت النقود والمجوهرات في مكانها سليمة لم تمس برغم أن مكانها كان واضحا للعيان..هدأت نفسي قليلا..ولكن الدهشة أصابتني..من فعل ذلك ولماذا؟؟..فالأثاث برغم بعثرته سليم تماما..والمجوهرات والنقود في مكانها لم تمس..إن لم يكن لصا قد فعل ذلك فمن إذن؟؟
          فكرت أنه لص لم يجد الوقت الكافي للسرقة..ربما أحس بعودتي ففر من نافذة الطابق العلوي..
          أبلغت البوليس..وجاء خبير البصمات ليعلن أنه لا توجد بصمات غريبة..وقال المحقق لا ريب أن اللص كان يرتدى قفازا وأمن على وجهة نظري بخصوص فرار اللص ونصحني بزيادة الأقفال على الأبواب والنوافذ ثم انصرفوا جميعا..

          في اليوم التالي كانت السيدة (ماري) شقيقة (جورج) التي تسكن في الطرف الآخر من مدينة (باريس)..وحدها بمنزلها..وكانت تريد أن تأخذ حمامها اليومي المعتاد..بحثت عن روب الاستحمام كثيرا..وجدته أخيرا ملقى تحت منضدة المطبخ..
          أصابتها الدهشة.. ولكنها أخذته..وعندما همت بدخول الحمام رأت باب الحمام يفتح ويغلق من تلقاء نفسه بمنتهى القوة برغم عدم وجود أي تيار هواء في المنزل أو خارجه حيث كان الجو صحوا..صرخت بكل رعب..ثم أغمي عليها..ولم تدر إلا وهي على سرير غرفة النوم وزوجها يحاول إفاقتها..فتحت عينيها بإنهاك وطمأنته..ولم تشأ أن تخبره بما حدث..بل أخبرته أنها أصابها دوار مفاجئ وهي ذاهبة إلى الحمام ولم تدر بعدها بشيء..
          (جانين) الابنة الصغرى للسيدة (جان) و دون حتى أن تعلم بما كان يحدث في منزلي أمها و شقيقتها (ماري) منذ عدة أيام.. وجدت نفسها هي الأخرى أمام ظواهر عجيبة..
          ففي الغرفة المجاورة لغرفة نومها كان طفلها (إيريك) ذي الستة أعوام نائما بعمق..
          وفجأة سمعت (جانين) صوت جر سرير طفلها فهرولت باتجاه غرفة الطفل مذعورة..
          وفوجئت عندما وجدت السرير في مكان يبعد بثلاثة أو أربعة أمتار على الأقل عن مكانه الأول..
          ولحسن الحظ لم يصب الطفل بأي مكروه..وبقي نائما في هدوء كما تركته..
          اطمأنت أن كل أبواب ونوافذ البيت مغلقة بإحكام حيث كان زوجها مسافرا في مهمة خاصة بعمله..
          أخذت الطفل وأرقدته بجوارها..وما إن استلقت على السرير حتى سمعت صوت قذف وتهشم أواني المطبخ..

          هرعت إلى المطبخ لتجد كل شيء سليما..أصابها الرعب وأمضت باقي ليلتها ساهرة لم يغمض لها جفن..
          وما إن أشرقت الشمس حتى لملمت شتات نفسها وانطلقت مع طفلها صوب منزل أمها..لتفاجئ بوجود (ماري) هناك..
          (ماري) و(جانين) قصا على أمهما الوقائع التي حدثت لهما..
          واتفق الجميع على أنه من غير المستبعد أن يكون (جورج) هو الذي يفعل ذلك..
          حيث كانت البنتان - وبخاصة (جانين)- مؤمنتان بالحياة بعد الموت..
          ولكن الأم لم تقتنع..بل وسارعت بالاتصال بأحد علماء الميتافيزيقا الذي حضر إليهن وبعد مناقشة دارت بينهم أخبرهن بأنهن السبب فيما يحدث داخل بيوتهن.. وهذا تحت تأثير الصدمة النفسية العنيفة التي خلفها رحيل (جورج) المفاجئ..
          حيث تصدر أجسادهن طاقة لا شعورية كبيرة تحرك أثاثات البيت من مكانها..
          ونصحهن بترك بيوتهن والذهاب في رحلة استجمام بعيدا لينسوا ما حدث..
          ولكن الظواهر لم تنتهي..
          ففي نفس تلك الليلة وبعد عودة (جانين) وحيدة إلى منزلها .. كانت غرفة ابنها مسرحا لظواهر مرعبة ..
          استلقت (جانين) على السرير بإنهاك وأخذت طفلها بين أحضانها وذهبت في سبات عميق..فقد كانت مرهقة تماما من أحداث الليلة الماضية وما تلاها طيلة اليوم..
          ولكن فجأة استيقظت (جانين) من نومها على وقع أصوات غريبة.. فراحت تبحث عن مصدرها الذي تبين بأنه غرفة ابنها.. وهناك عاشت ما لن تنساه أبدا ما دامت حية..
          رأت ألعاب ابنها تتحرك و تتراقص أمام عينيها..
          سيارة صغيرة له ( لعبة ) راحت تسير ذهابا و إيابا بسرعة مدهشة..
          وكانت تتقدم صوب قدميها فانطلقت مهرولة وهي تصرخ بمنتهى الرعب..
          وفي الوقت الذي كاد قلبها يتوقف من شدة الهلع تذكرت شقيقها (جورج)..
          وتذكرت اعتقادها هي وشقيقتها بأن شقيقها هو السبب فيما يحدث..
          فتوقفت واستدارت تخاطب السيارة اللعبة قائلة بخوف امتزج بالحزن:
          (جورج) .. إن كنت أنت المتواجد هنا فأشعل المصباحين الأماميين للسيارة ثلاث مرات..
          وهذا ما كان فعلا إذ اشتعل مصباحا السيارة اللعبة ثلاث مرات..
          ثم توقفت السيارة تماما..وهدأ كل شيء..
          ولم يغمض ل(جانين) جفن طيلة الليل..بل انزوت فى حجرتها ترتجف رعبا وهي تحتضن طفلها بكل ما أوتيت من قوة..
          ومع أول ضوء للشمس هرولت باتجاه غرفة ابنها لرؤية تلك السيارة.. وجدتها في مكانها الأول تحت السرير وسط بقية اللعب..
          وحتى تطمئن أكثر، أخذت السيارة و تأملت فيها جيدا فاكتشفت ما أكد أكثر وبدون أدنى شك أن شقيقها (جورج) قد زارها فعلا بالأمس..
          ذلك أن السيارة لم تكن قديمة فحسب..بل كانت مفككة ومهشمة أيضا ( كما يفعل كل الأطفال بلعبهم)..
          بل أنها أيضا لم تكن بها بطاريات..
          ومن جديد انطلقت (جانين) صوب منزل أمها..واجتمعت الشقيقتان بأمهن..
          وتحت الضغوط اضطرت السيدة (جان مورانييه) إلى الرضوخ لرغبة ابنتيها وقررت الاتصال بوسيط روحاني شهير..الذي نصحها بإشعال شموع في بيتها أولا..وهذا ما نفذته السيدة (جان)..
          ثم حضر الوسيط الروحاني للمنزل..
          وطلب من الجميع أن يصلوا أولا قبل أن يشرع في محاولة الاتصال ب(جورج)..
          وأطفئت الأنوار إلا من نور أحمر باهت..وتحلق الجميع حول منضدة دائرية صغيرة..ودخل الوسيط في السنة..وحضر (جورج) وتكلم على لسان الوسيط




          فقال بصوت بدا وكأنه آت من جب عميق:
          مرحبا بكم..اشتقت لكم كثيرا..
          صاحت السيدة (جان):
          إنه (جورج)..إنه ابني..هذا صوته..
          ويرد (جورج):
          نعم يا أمي..أنا (جورج)..أنا هنا خصيصا من أجلك..
          صاحت السيدة (جان) بدهشة:
          من أجلي أنا؟؟
          رد (جورج):
          نعم يا أمي من أجلك..أتذكرين حديثنا سويا حول وجود حياة أخرى بعد الموت ورفضك لتلك الفكرة؟؟
          وتصيح (جان):
          نعم..نعم..
          ويرد (جورج):
          قلتي إنك تحتاجين إلى برهان لتغيير معتقداتك..وقد حضرت لأعطيك ذلك البرهان..
          نعم يا أمي..توجد حياة بعد الموت..حياة أجمل من أن توصف..
          يوجد رب ذو قدرة مطلقة هو الذي خلقنا جميعا وسيحاسب الجميع على أعمالهم بعد الموت..
          يجب أن يصلي الجميع للرب حتى يرحمهم..
          ولولا خوفي عليك يا أماه ما بقيت معكم ساعة..
          والآن..وبعد أن تمت مهمتي..سأتركك بعد أن اطمأننت عليك..
          أرجو أن تعي رسالتي جيدا..
          وداعا يا أماه..وداعا
          وأفاق الوسيط..وأضيئت الأنوار..وانتهى كل شيء..ولم يعاود (جورج) الظهور بعد ذلك مطلقا..
          لقد أبلغ رسالته..وأتم مهمته..
          وانتهى كل شيء...



          التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-03, 11:56 PM.

          تعليق


          • #6
            سلسلة ... (أرواح وأشباح)
            (6)



            لوحة



            يروي لنا هذه الواقعة الأديب الإنجليزي العظيم (تشارلز ديكنز)* (1812-1870)..
            الواقعة لم تحدث له شخصيا..ولكنه سمع تفاصيلها ممن وقعت لهم..من ثم صاغها بقلمه ونشرها في مجلة اسمها (على مدار السنة)..وهاكم تفاصيلها...
            أنا فنان مشهور أسكن في غرفتين.. إحدى الغرفتين هي التي أعمل فيها أو أتوهم أنني أفعل ذلك لأن الغرفتين متداخلتين فلا أعرف أين أعمل ولا أين أنام.. وهذا يسبب لي مشكلة خاصة عند النوم أو عندما يزورني أحد من الناس..
            في إحدى ليالي الشتاء جاءتني موديل كنت متفقا معها على أن أرسمها مقابل بعض المال..
            جاءتني تطلب جزء مما اتفقنا عليه فأعطيتها إياه ثم انصرفت..
            بعدها فوجئت بمن يطرق الباب..فقمت أفتح الباب لأجد رجلا وسيدة متأنقين..
            قدم الرجل لي نفسه قائلا:
            مرحبا سيد (جون كونستابل)** أنا السيد (كيرك) وهذه زوجتي..
            وقبل أن أعرب لهما عن دهشتي قال السيد (كيرك):
            سمعت عنك..وعرفت من الفتاة الموديل التي قابلتها في الشارع عنوانك وأنا في حاجة إليك..
            عرفت منهما أن عددا من أفراد أسرتهما في حاجة إلى أن أرسمهم...
            فعرضت عليهما نماذج من اللوحات والأساليب المختلفة ليختارا الأسلوب الذي يروق لهما..
            بعدها استأذناني للانصراف..وترك السيد (كيرك) بطاقته..على وعد بلقاء قريب..
            بعد أيام انتهيت من رسم الموديل وقررت أن أذهب للسيد (كيرك)..
            أخرجت بطاقته وقرأت عنوانه..وجدت أنه يسكن في مدينة في شمال (إنجلترا)..
            وجدتها فرصة للاستجمام كذلك..وقررت السفر بالقطار حيث إنني أعشق النظر من نوافذه وهو يطوي الطريق مسرعا بين الحقول الخضراء..يا له من منظر بديع..




            ركبت القطار.. ولحسن الحظ وجدت مقعدا خاليا بجوار النافذة..وجاءت سيدة بملابس سوداء..وجلست في المقعد المواجه لي. وقالت إنها في حاجة إلى أن يهب الهواء على وجهها..ثم أرجعت رأسها للوراء واسترخت..
            تطلعت لوجهها أتأمله..كانت مسبلة العينين وعلى وجهها هدوء عميق..
            كانت ملائكية الملامح..وكم تمنين أن أرسم مثل هذا الوجه..
            وبينما أنا غارق في خواطري إذ فتحت عينيها فجأة..وابتسمت في مودة..وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث..
            تحدثنا كأننا أصدقاء قدماء.. وكانت تحدثني في موضوعات فنية كأنها تعرفني.. أو كأنني أعرفها.
            بسرعة غريبة توقف القطار عند المدينة التي أريدها..ومدت يدها تسلم ..
            وقلت لها:أرجو أن أراك ثانية..
            فابتسمت وقالت:سوف تراني..تأكد من هذا..
            غادرت محطة القطار وصورتها لم تفارق خيالي..وركبت سيارة أجرة باتجاه منزل السيد (كيرك)..
            واستقبلني السيد (كيرك) وزوجته ورحبا بي..ثم جاءت الخادمة. وأشارت إلى غرفتي..
            وضعت حقائبي وبدلت ملابسي..وذهبت إلى الصالون..
            وهناك وجدت سيدة القطار ذات الفستان الأسود..وكانت مفاجأة..
            ولكن يبدو أنها لت تفاجأ بوجودي..حيث ابتسمت قائلة: ألم أقل لك إنك سوف تراني؟
            قلت لها: لو كنت أعرف أننا ذاهبان إلى نفس البيت لرافقتك..
            فقالت ضاحكة: إن طريقي صعب.
            لم أفهم..ولم يعنيني أن أفهم..كنت مأسورا بوجهها الملائكي وسحرها ورقتها..
            ثم قامت بخفة ووقفت أمام المدفأة..ثم بنفس الخفة التقطت كتابا من المكتبة وقدمته لي..
            وفتحت الكتاب على صفحة بها لوحة مرسومة بالألوان..وسألتني:
            هل هذه السيدة تشبهني؟
            فقلت: فعلا تشبهك. ولكن من هي؟
            قالت: إنها زوجة أحد اللوردات..
            قالت:هل تتذكر وجهي هذا؟
            قلت: لا أحد ينساه
            قالت: كنت أتوقع منك ذلك..ولكن هل تستطيع أن ترسمه من الذاكرة.
            فقلت: لو أعطيتني فرصة الآن لأراك أوضح لفعلت..لو جلست أمامي بعض الوقت.
            فاعتذرت وقالت: فيما بعد..وتذكر أن معك الكتاب..
            ثم انصرفت..
            وجاء السيد (كيرك) وزوجته..ودعتني السيدة (كيرك) إلى غرفة الطعام قائلة:إن العشاء جاهز
            وتناولنا العشاء وسط حفاوة بالغة منهما..كنت أريد أن أسألهما عن السيدة ولكنني آثرت الصمت..
            وذهبنا مجددا إلى الصالون..ثم تكاثر حولنا الأقارب رجالا ونساء و أطفالا يحيونني ويطلبون مني أن أرسمهم..
            ولكنني اعتذرت متعللا بإرهاق السفر على وعد مني بتنفيذ رغباتهم في الصباح..
            ذهبت إلى غرفتي ونمت وصورتها لم تبرح خيالي..
            وفي الصباح ترقبت ظهورها ولكنها لم تظهر..
            كنت أمني نفسي بأن أجدها وسط الحشد الذي سأرسمه..ولكنها طيلة مدة مكوثي في منزل السيد (كيرك) لم تظهر..وددت كثيرا أن أسأل عنها ولكني كنت أتراجع خشية من أن يتهمونني بالتطفل..
            وعندما عدت خائب الأمل إلى منزلي كان أول ما قررت فعله هو أن أرسمها كما وعدتها.. أخرجت الكتاب وبدأت أرسمها..وعندما انتهيت وتأملتها أيقنت بأنها من أبدع الصور التي رسمتها طيلة حياتي..
            وقررت الاحتفاظ بالصورة عوضا عنها ممنيا نفسي بأن أعثر عليها يوما..
            ومضت ستة شهور..
            ورأيت من المناسب أن أذهب إلى الشمال في رحلة استجمام..
            وركبت القطار كالمعتاد وأنا أستعيد الذكريات.. وتوقف القطار عند إحدى المدن الصغيرة وأفهمنا السائق أن هناك عملا في القطار وفي القضبان..وأنه لابد من البقاء أربع ساعات على الأقل..
            وتذكرت أن لي صديقا قديما في هذه المدينة وأن اسمه السيد (لوط)..
            وسألت ناظر المحطة..وقال إنه يعرفه..وبعث ناظر المحطة في طلب السيد (لوط)..
            وبعد ساعة جاء رجل في حوالي الخمسين من عمره..
            وقال: أنت تسأل عني؟
            قلت مندهشا: من أنت؟
            قال: أنا السيد (لوقا)
            اندهشت وقلت: ولكنني لا أعرفك..لقد أرسلنا في طلب رجل آخر..
            تضاعفت دهشتي عندما قال الرجل: بل أنت الرجل الذي أريده..أنت بالضبط..وأرجوك أن تقبل المبيت عندنا.. فأنا أقيم في بيتي وحيدا مع ابنة صغيرة لي..وأريدك أن ترسم لوحة لابنتي التي أحبها كثيرا..هذه اللوحة هي أعز ما سوف أملكه في هذه الدنيا..أرجوك
            ووضع الرجل رأسه بين كفيه وأجهش بالبكاء..
            أشفقت على الرجل وقررت الذهاب معه إلى بيته..
            هناك قابلتنا ابنته..اسمها (مريم)..في الخامسة عشرة من عمرها.. وهي من ذلك النوع من الفتيات التي اعتمدت على نفسها في سن مبكرة..ففيها شجاعة وسوء ظن بالناس..ولذلك ترفع الكلفة بسرعة إيمانا منها بأنه لا داعي للخوف من أحد..
            وقال لي السيد (لوقا) مبتسما: ابنتي (مريم) واقعية جدا..لن تحزن لفراق أحد..ولن يحزن لفراقها أحد..
            سبقتني (مريم) إلى غرفة نظيفة وقالت: هذه غرفتك..أما أبي فإنه لن يقوى على السهر معك هذه الليلة لأنه مريض..
            فقلت: آسف لإزعاجه. ولكنه هو الذي دعاني لكي أرسمك.
            فقالت: صورتي أنا؟ بل صورة أختي.
            فقلت: لا مانع..أنا على استعداد
            فقالت: لكن أختي ماتت من ستة شهور. وأبي مريض منذ ذلك الحين..فقد كان يحبها كثيرا..وكانت وفاتها أكبر صدمة له..لذلك تمنى لو يجد لها صورة.. أو يرسمها أحد..ولا ريب عندي أنه استدعاك لذلك الأمر..
            تأثرت بكلامها وسألتها: وهل تشبهين أختك؟
            قالت: أبدا.
            قلت. إذن حاولي أن تصفي لي أختك..وأنا أحاول أن أرسمها..
            أعجبتها الفكرة...وراحت تصف أختها وأنا أرسم..ولكني أعرف أن هذه المحاولات تنتهي بالفشل..
            فقد جربت ذلك كثيرا..وكانت النتيجة في كل مرة مخيبة للآمال..
            وكلما رسمت لوحة عرضتها على (مريم) فتقول: لا تشبهها..
            ثم بدا وكأنها تذكرت شيئا إذ قالت بتأثر:: آه.. أختي (كارولين) رحمها الله كانت تشبه صورة سيدة معروفة.. هذه الصورة كانت في كتاب تحتفظ هي به..ولكن بعد وفاتها اختفى هذا الكتاب..ولست أدري أين ذهب..
            قلت: أذكري لي اسمه أو اسم ناشر الكتاب وأنا أحاول العثور عليه..
            حاولت أن تتذكر في نفس الوقت الذي أضاء فيه عقلي بفكرة مجنونة..
            ذهبت مسرعا إلى غرفتي..وأخرجت صورة سيدة القطار التي أحتفظ بها..ولم تكد (مريم) تراها حتى صاحت:



            هذه هي أختي..هذه هي (كارولين)..ولكن كيف رسمتها؟..هل كنت تعرفها؟؟..
            لم أشأ أن أخبرها..ولكنها لم تنتظر إذ صاحت:
            سأذهب لأخبر أبي..إن سعادته ستفوق عنان السماء..
            وبعد لحظات جاء أبوها مستبشرا والسعادة وعلامات الارتياح تغمر وجهه..وبدا وكأنه استرد صحته وحيويته.. إذ ما إن شاهد اللوحة حتى أجهش بالبكاء واحتضنني بتأثر بالغ وهو يقول:
            كنت على يقين من أنه أنت..أنت
            قلت بدهشة: سيد (لوقا) أنا لا أفهم شيئا..
            فقال لي بصوت متهدج:
            اجلس يا ولدي..اجلس وسأخبرك بكل شيء
            جلست والدهشة تعتريني أكثر وأكثر..في حين استطرد هو قائلا:
            كانت لي ابنة جميلة اسمها (كارولين)..كنت أعشقها..وكانت تحبني بجنون..
            توفيت زوجتي بعد ولادة (مريم) بحمى النفاس..وكانت (كارولين) في السابعة من العمر..لم أتزوج بعدها ..وصارت (كارولين) هي سيدة البيت..وكانت برغم صغر سنها تعي المسئولية الملقاة على عاتقها..وكانت محبوبة من الكل..وكنا نعيش سعداء..
            كم من مرة دخلت البيت لأجدها في غرفتها تحتضن شال أمها وتجهش بالبكاء..فما إن تراني حتى تجفف دموعها بسرعة وتقوم لي لتحتضنني هاشة باشة..
            كانت تخفي أحزانها وتأبى أن يشاركها فيها أحد..في حين كانت تشارك كل الناس أحزانهم وتخفف عنهم مصابهم..
            ومضت الحياة..ولكن أبى القدر إلا أن يختطف منا السعادة..
            ففي يوم مشئوم كانت (كارولين) عائدة من عملها..دهسها القطار..ودهس معها كل سعادتي وأحلامي..
            وعندما وصلني الخبر..لم تقو قدمي على حملي فانهرت في غيبوبة عميقة..
            وعندما أفقت رأيتها..كانت تخطر في ثوب أبيض وقد أشرق وجهها..وقالت:
            لا تحزن على فراقي يا أبي..فأنت رجل مؤمن بقضاء الله
            قلت: وكيف لي ألا أحزن وقد فقدتك؟..ليتني مت قبلك
            قالت: ذاك هو قدرنا يا أبي..
            قلت: ولكنه قدر عابث..بأي حق يختطفك مني..بأي حق ينتزعك من أحضاني..لن أحتمل فراقك..سأموت حتما..
            آه لو كانت لدي صورة لك..ربما كانت ستخفف من لوعة فراقك التي تعتريني..
            قالت: إن كان هذا سيخفف عنك لوعة الفراق فثق أنني لن أذهب قبل أن ألبي لك رغبتك..
            جاهدت أن أقوم من السرير لأحتضنها ولكنها اختفت..
            صرخت أناديها وما من مجيب..
            بعدها كنت أرى أشياء لا يراها الناس حولي..
            خفت أن يتهموني بالجنون فاعتزلت الدنيا في غرفتي..
            ولكني كنت أرى كل شيء..
            رأيتك مع ابنتي في القطار وأنت جالس أمامها تتحدثان سويا..
            ورأيتها في بيت مضيفك تحادثك أمام المدفأة وتعرض عليك صورة زوجة اللورد..
            رأيتك وأنت ترسمها وتحتفظ بلوحتها هذه..
            ولما جئت إلى مدينتنا هذه كنت أنتظرك..وكنت أعلم أن حلمي على وشك التحقق..وأنك وحدك الذي ستحقق لي أعظم سعادة..
            الآن فقط أستطيع أن أكون سعيدا كما كنت سعيدا وهي ما تزال حية..
            هي الآن سعيدة لسعادتي..والآن فقط في استطاعتها أن تذهب بعيدا عني..إلى السماء..فقد كان حزني عليها هو الشيء الوحيد الذي يربطها بالأرض..
            أشكرك يا ولدي..أشكرك كثيرا..
            ثم قام وهو يحتضن الصورة وذهب إلى غرفته..
            ولم أجد بدا من الذهاب إلى غرفتي أنا الآخر..فاستأذنت (مريم) وتمنيت لها ليلة طيبة..
            وذهبت للنوم وأنا أفكر في كل تلك الأحداث العجيبة..
            في الصباح دقت (مريم) علي بابي وأشارت إلي أن أتبعها بهدوء إلى غرفة أبيها..
            دخلنا غرفته.. ووجدته في فراشه هادئا مبتسما وهو يحتضن صورة ابنته..
            وسألت (مريم): مات؟
            فهزت رأسها أن نعم..
            ولم أر حزنا على وجهها. إنها تماما كما وصفها أبوها..واقعية جدًا..ولن تحزن لفراق أحد..ولن يحزن أحد لفراقها..






            تعليق


            • #7

              سلسلة ... (أرواح وأشباح)
              (7)






              قدم الساحرة



              في نهايات القرن التاسع عشر..قامت في عموم (أميركا) حملة مسعورة لاصطياد السحرة وإعدامهم بعد تعذيبهم..
              وبالطبع كانت الحملة تلقي القبض على أي شخص لمجرد الاشتباه في ممارسته السحر..ثم يعدمونه حرقا بعد تعذيبه..
              وبالطبع راح ضحية ذلك آلاف المظلومين..
              وقد سار كولونيل (باك) مؤسس مدينة (باكسبورت) بولاية (مين) على نفس ذلك النهج.. فأباح إعدام من يمارسون السحر ..وأطلق الحملات سعيا لتطهير مدينته من السحرة..
              وكما هو معروف..كان ومازال التصور الشائع عن الساحرات في الغرب عبارة عن عجوز دميمة شعثاء الشعر ذات ذقن ناتئ وتصرفات غريبة الأطوار..كما نراها إلى الآن في قصص الأطفال والكارتون..
              وطبقا لهذا التصور العام لم يجد الكولونيل (باك) صعوبة في اختيار ضحيته الأولى..
              كانت امرأة مسنة وحيدة قد مات عنها زوجها المزارع فاعتزلت الناس في بيتها الفقير انتظارا لموعد لحاقها بزوجها..
              لذلك كانت أول المشتبه بهم..وألقى الكولونيل القبض عليها..
              وقد حاولت العجوز بكل وسيلة أن تنفي عن نفسها هذه التهمة الظالمة..
              لكن الكولونيل لم يستجب لاستعطافها..ومن ثم.. إعدامها..
              ودارت الأيام..وانتهت الحملة بعد أن قبضت أرواح المئات في تلك المدينة الصغيرة..
              وتكفل الزمن بإسدال ستائر النسيان على ما حدث..
              ونسي الناس..ولكن الكولونيل أبدا لم ينس..
              ظلت صورة العجوز تقض مضجعه بقية حياته..
              كان يصحو فزعا صارخا وقد تصبب جسده بالعرق..فتتجمع أسرته والخدم حوله..فيقول:
              لقد جاءت لتقتلني..لقد لفت يديها حول عنقي..توسلت إليها أن تبتعد عني..ولكنها كانت تضحك ساخرة وتقول:
              لا تخف..لن أقتلك..لن ألوث يدي بروح خبيثة مثلك..أنا فقط أنتظرك..أنتظرك..
              ثم تبتعد وهي تطلق الضحكات المجلجلة..




              ثم ينهار الكولونيل في البكاء..ويحاول الجميع تهدئته..ولكن بلا جدوى..ويجافي النوم عينيه إلى الصباح.. وقبل أن يموت الكولونيل كانت وصيته أن تكون أحجار قبره ناصعة البياض من الذي لا تشوبه شائبة..
              كيف لا وهو مؤسس المدينة وأغنى أغنيائها؟؟
              وعندما مات، بذل ورثته جهدا جادا في تنفيذ وصيته..
              وبعد اختيار أحجار القبر بعناية قام الورثة بوضع شاهد عند رأس القبر من الحجر الأبيض الناصع يرتفع عاليا في السماء تخليدا لذكرى الرجل..
              ومرت الأيام..وكان حارس المقبرة هو أول من لاحظ ما طرأ من تغير..
              من ثم أسرع إلى الكنيسة يبلغ القس الذي قام بدوره باستدعاء أقارب الكولونيل (باك)..
              لقد ظهر للجميع بوضوح تلك التغييرات التي طرأت على حجر المقبرة والتي رسمت إطارا باهتا لقدم امرأة.. وأخذ الإطار الباهت يزداد وضوحا يوما بعد يوم..
              أسرعت أسرة الراحل إلى استدعاء نحات الحجر الذي قام بنحت أحجار المقبرة من جديد، لإخفاء آثار قدم المرأة التي راحت ضحية الكولونيل الراحل.

              لكن..
              عادت الآثار للظهور بعد عدة أسابيع.. وانتشر الخبر بين الناس في المدينة..
              واستدعى الورثة النحات مرة أخرى..وطلبوا منه تغيير الحجر كلية والاستعاضة عنه بحجر جديد..
              ومع هذا ذهبت جهودهم سدى وعاد أثر قدم المرأة ليرتسم على الحجر من جديد وكأنه يتحدى الجميع..
              عندها توقفت جهود الورثة.. ورضخوا أخيرا للأمر الواقع..
              وما زال ذلك الحجر باقيا في مكانه حتى اليوم.. وقد انطبع عليه بوضوح ذلك الأثر..
              آثر قدم امرأة مظلومة...



              التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-04, 08:03 PM.

              تعليق


              • #8
                سلسلة ... (أرواح وأشباح)
                (8)



                شكرا أيها الملك



                السيد (ألان هاريس) أحد رجال حاشية الملك (جورج الثاني) ملك (إنجلترا) (1683-1760) كان كعادة النبلاء في ذلك الزمان يمتلك قصرا ريفيا محاطا بمزرعة مترامية الأطراف..فضلا عن قصره في (لندن) بجوار الملك..
                وأثناء اجتماع الملك مع حاشيته صبيحة أحد أيام عام 1729دخل كبير الياوران وسلم السيد (هاريس) رسالة عاجلة من المشرف على منزله الريفي..
                كانت الرسالة تقول:
                (احضر بسرعة يا سيدي التحف الذهبية التي تركها الغالي العزيز والدكم قد سرقت والتحف الفضية التي تركها الغالي العزيز علينا جميعا جدكم الكبير قد سرقت أيضا.. ونحن نأسف لما حدث.. ولكن حضوركم سوف يكون شمسا تشرق على الحقيقة لنعرف الجاني الأثيم)
                وأسقط في يد السيد (هاريس)..ولم يكن هناك بد من استئذان الملك في الذهاب إلى الضيعة..وأذن له الملك..
                فذهب من فوره مصطحبا زوجته..وهناك استقبله المشرف على ضيعته..وكان في حالة يرثى لها..
                وابتدره المشرف قائلا:
                إن هذا عار قد لحقني بصفة شخصية.. لأنني أغلق الأبواب والنوافذ كل ليلة وبإحكام شديد.. ولا أدري كيف حدث كل ذلك..
                كان في القصر الريفي طاه وثلاثة من الخدم وخادمتان..
                وسأله السيد (هاريس):
                كيف حدث ذلك؟
                قال المشرف:
                في إحدى الليالي وبعد أن أويت إلى فراشي..
                انتبهت إلى أصوات خافتة وجلبة مكتومة في غرفة التحف التي تقع تحت غرفتي مباشرة..
                واندهشت..وتساءلت في نفسي عن مصدر هذه الأصوات..
                وتوجست خيفة لأنه لا أحد من الخدم قد يكون السبب في تلك الجلبة لأني كنت على يقين من نوم الجميع..
                فأنا آخر من ينام في القصر بعد الاطمئنان إلى نوم الجميع وإغلاق كل الأبواب والنوافذ بإحكام وبنفسي..
                فارتديت ملابسي وامتشقت سيفي وهبطت الدرج بحذر واقتربت من الغرفة..
                وضعت أذني على الباب لعلي أستمع إلى شيء ما..
                كان الصوت الآن واضح تماما..إنه صوت الآنية الفضية وهي تعبأ في صناديق..
                وحاولت أن أقترب من الباب أكثر لعلي أسمع صوت الخدم الذين أفلحوا في التسلل في الليل إلى هذه الغرفة.. قال له السيد: لماذا لم توقظ الخادمتين، وتذهب أنت إلى رجال الشرطة؟
                قال المشرف: خطرت لي هذه الفكرة لولا أنني خشيت أن يخرج اللصوص ويعتدوا على الفتاتين ويهربوا.
                قال السيد: إذن لماذا لم توقظ الخادم والطاهي ليعاونوك في القبض على اللصوص؟
                قال المشرف: بل كنت أظن أن الخادم والطاهي هما اللذان تسللا إلى الغرفة..
                قال السيد:إذن ماذا فعلت؟
                قال المشرف:استجمعت شجاعتي..وأمسكت سيفي بقوة..واندفعت أفتح الباب عنوة
                سأله السيد: ومن وجدت؟
                قال: الشاب النحيف (هنري) واثنين آخرين..كانوا ملثمين..ولكني تعرفت على (هنري) من طريقة مشيته..
                سأله السيد: ومن هو (هنري) هذا؟
                فأجاب: إنه شاب استأجرنه في الأيام الأخيرة..وهو من أسرة فقيرة..ولكن أباه رجل طيب. وقد أحسن تربيته.
                ثم أكمل قائلا:
                لم أكد أفتح الغرفة حتى هجموا علي وأوثقوني إلى أحد المقاعد بالحبال وسدوا فمي وهربوا..
                اتجه السيد إلى بقية الخدم يسألهم عما حدث..
                فأجاب أحدهم بحرقة: بأنه من الضروري أن يقدم استقالته وكذلك سوف يفعل زملاءه..لأنهم يعملون في خدمة السيد منذ عشر سنوات ولم توجه إليهم هذه التهمة الشنيعة..
                أصر الخدم على أن يقدموا استقالتهم بعد هذه الإهانة البليغة..وحاول السيد أن يسترضيهم..وأفلح أخيرا في تهدئتهم بعد أن أضاف إلى مرتب كل منهم جنيهين فوافقوا على مضض.
                واعتذر لهم السيد عما حدث..وقال:





                إن التهمة غير مقصودة..ومشرف القصر كان في حيرة ولم يعرف بالضبط ما الذي يفعله..ثم إنه رجل كبير وهو في مقام الوالد للجميع..والآن هل لكم أن تقصوا علي ما حدث؟
                قال الخدم أنهم اعتادوا أن يصحوا في السادسة صباحا..وأن يعدوا طعاما لإفطار في السابعة إلا ربعا..وأن ينزل المشرف لتناول الإفطار في السابعة إلا خمس دقائق..
                ولكنه في ذلك اليوم لم يحضر في موعده..وأخذ الجميع ينتظرونه وهم يتعجبون لذلك ..
                فهذه أول مرة يخلف موعده منذ عشر سنوات..
                ثم أخذوا يتندرون فيما بينهم ويقولون:
                لابد أن الغطاء كان ثقيلا..أو أن الشراب كان غزيرا..أو أن المشرف مريض..
                ومع مرور الوقت شكوا أن شيئا غير عادي قد حدث له.. وتشاوروا فيما بينهم.. أيهم يذهب لإيقاظه بطريقة لبقة لا تسبب له أو لهم الخجل..واقترحوا أن تذهب إحدى الخادمتين وتدق بابه وتسأله كم الساعة الآن..
                وذهبت الخادمة..ودقت الباب مرة..مرتين..ثلاثا..ولكن المشرف لم يرد..
                فعادت بسرعة تروي لهم ذلك..
                فقاموا جميعا إلى غرفة المشرف وفتحوا الباب قسرا..ولم يجدوا المشرف.. وإن كانوا وجدوا مكانه خاليا على السرير.. واستنتجوا أنه نام في فراشه..ثم استيقظ مبكرا وخرج لسبب ما..
                وقرروا أن يسألوا (هنري) لعله يعرف مكان المشرف..اتجهوا إلى غرفته..ولكنهم لم يجدوا الشاب في فراشه.. واستنتجوا أن الاثنين قد خرجا إلى النزهة أو في أمر ما في ساعة مبكرة.. أو إنهما ذهبا إلى حظيرة الأبقار.. وأسرعوا إلى الحظيرة فلم يجدوا أحدا..
                ثم قرروا أن يفتشوا بقية غرف القصر..وعندما وصلوا إلى غرفة التحف وجدوا المشرف مقيدا بالحبال إلى أحد المقاعد..ووجدوه مكمم الفم وقد وضع القماش في فمه لمنعه من الصراخ..ففكوا الحبال وحرروا المشرف.. وراحوا يدلكون جسمه ليستفيق..ولكن الشاب (هنري) كان قد اختفى تماما..ولم يعثروا له على أثر..
                واستدعى السيد (هاريس) رجال الشرطة..وعاينوا كل شيء..وأحصوا المسروقات فكانت كثيرة..ومن بينها شمعدانات من الذهب الخالص أهديت إلى أسرة السيد (هاريس) من الملوك والأمراء. ومن بينها هدايا من كبير الأساقفة وكذلك لوحات فنية قيمة..والعديد من التحف الأخرى..
                وتم عمل محضر بذلك..وانصرف رجال الشرطة مع وعد بالبحث الجدي عن الجاني وتقديمه للعدالة..
                واتجهت كل الشكوك إلى الشاب (هنري) الذي اختفى تماما ولم يعثر له على أثر..
                وقيل إنه فر بالمسروقات لبيعها في مدينة أخرى في (إنجلترا) ثم الاستقرار هناك أو الهرب خارج (إنجلترا) إلى أي مكان آخر..
                ومضت شهور ولكن الشرطة لم تهتد إلى شيء..
                ولم يكن من الصعب على السيد (هاريس) أن يعرف أنه لا أمل في شيء..وأن الذي راح قد ذهب إلى غير عودة.. كما أن الشرطة لم تفلح في العثور على الشاب (هنري) برغم البحث المضني المكثف في طول (إنجلترا) وعرضها..
                ولم يصدق أحد هذه الدهشة والحزن الحقيقي والعار الذي أحس به والد (هنري)..
                فلم يتصور أن ابنه الذي رباه على الأخلاق الحميدة يستطيع أن يسرق..أو يشترك مع آخرين في السرقة..
                كان يحاول أن يدافع عن ولده ويدفع عنه العار..فلا يجد الجميع سوى مط شفاههم مشفقين عليه..
                ليس في إثبات السرقة فالكل على يقين من أن (هنري) هو السارق..ولكن تعاطفا معه في صدمته في ابنه..
                ومرت سنة..
                وفي إحدى اجتماعات الملك (جورج الثاني) مع حاشيته..
                قال الملك للسيد (هاريس): عندي شعور غريب بأنك سوف تعثر على مفقوداتك.
                وسكت برهة ثم استطرد يقول: لم تسألني كيف عرفت ذلك؟
                قال السيد (هاريس) بدهشة ممزوجة بالاحترام: إنها فطنة مولاي وبعد نظره بالتأكيد..
                فابتسم الملك وقال: رأيت في نومي ليلة أمس أن طائرا كبيرا قد هبط على قصرك الريفي ومعه الشمعدان الذهبي المسروق منك والذي أهديته لك..
                وعندما ألقى بالشمعدان فوق القصر انكسر الشمعدان..
                ثم اختفى الطائر والشمعدان كلاهما فجأة..وحاول كل أفراد أسرتك والخدم أن يعثروا على الشمعدان فلم يجدوه..إنها مرات قليلة التي حلمت فيها بأشياء أشعر أنها ستتحقق ثم تتحقق..
                كانت الحاشية كلها على علم بتلك القدرات العجيبة التي يتمتع بها الملك..لذلك أخذ السيد (هاريس) الكلام على محمل الجد..
                ومرت أيام..ثم سافر السيد (هاريس) مع أسرته في إجازته السنوية إلى قصره الريفي..
                وعندما وصل اجتمع بالمشرف على القصر..وطلب منه أن يعرض عليه كيف يحرس القصر وكيف يغلق أبوابه ونوافذه..
                وفوجئ السيد (هاريس) بأن المشرف يغلق كل شيء..الأبواب والنوافذ الخارجية وكذلك أبواب ونوافذ غرفة التحف والغرف الغير مستخدمة من القصر..وهو يفعل ذلك بنفسه..وبذلك لا يستطيع أحد أن يتحرك في أية غرفة غير غرفته أو غرف بقية الخدم أو المطبخ ودورة المياه بالطابق الأرضي.. فكل الغرف قد أقفلت ومفاتيحها في جيب المشرف.. وهو كذلك يوصد على نفسه غرفته قبل أن ينام..
                وذهب السيد (هاريس) إلى غرفته وقال لزوجته بدهشة: ما هذا الذي يفعله المشرف على قصرنا؟
                قالت الزوجة: وما الذي يفعله؟
                قال الزوج: إنه يغلق الأبواب والنوافذ..ولم يبق إلا أن يغلق أفواهنا أيضا.
                ضحكت الزوجة وهي تقول: ولكنه يا عزيزي يفعل ذلك منذ عشرة أعوام
                قال الزوج: لم أكن أعرف ذلك.
                قالت الزوجة: وما الذي تعرفه أنت في هذا البيت؟أنت تمضي طيلة الوقت مع الملك حفظه الله..
                وأوى السيد (هاريس) إلى فراشه وهو يفكر في هذا القصر الذي تغلق أبوابه ونوافذه بمثل هذا الإحكام منذ عشرة أعوام ومع ذلك استطاع اللصوص أن يتسللوا إليه..
                ولم يصل إلى شيء..وأحس بصداع شديد يكتنفه جراء حيرته..ونظر إلى زوجته فوجدها تغط في نوم عميق فقرر أن ينام..وغدا يوم آخر..
                وفي اللحظة التي امتدت يده فيها لكي تطفئ الشمعة رأى شابا نحيفا واقفا أمامه..وارتعد السيد (هاريس)..
                ولكن الشاب النحيف انحنى أمامه ليحييه في هدوء باحترام بالغ...
                فسأله السيد (هاريس) وهو في حالة فزع شديد: كيف دخلت إلى هنا؟ وماذا تريد مني؟
                أشار الشاب إلى فمه بما يدل على إنه لا يستطيع الكلام..وأشار إلى السيد (هاريس) أن يتبعه فقط..ونزل السيد (هاريس) من سريره وبسرعة سحب سيفه..ولكنه فوجئ بالشاب يفتح باب الغرفة الذي كان مغلقا بالمفتاح.. وخرج..
                ولم يجد السيد (هاريس) بدا من أن يتبعه برغم دهشته وخوفه..وقد طمأنه وجود السيف في قبضته وضعف الشاب الظاهر في مشيته الغريبة..
                وانطلق يتبعه..ولاحظ رغم خوفه الشديد أن هذا الشاب يمشي بلا صوت.. ولم يتبين قدميه في الظلام..وازدادت دهشته..ولكنه قرر المضي مع الشاب فإن شعر بأي بادرة غدر أغمد السيف في قلبه مباشرة..
                وقبضت يده على السيف بتوتر شديد..ولكنه اطمأن لأن الشاب كان يمشي أمامه..كما أن شيئا ما في مظهر الشاب أشعره بالهدوء..فالشاب بدا رقيقا ومهذبا للغاية..
                خرج الشاب من القصر واتجه إلى الحديقة.. ووراءه السيد (هاريس).. ثم اتجه إلى شجرة بلوط ضخمة في الحديقة..والسيد يتبعه..فتوقف عندها وأشار إليها بيده..
                وتقدم السيد (هاريس) إلى شجرة البلوط.. ونظر إلى الأرض..ولما حاول أن يستوضح كان الشاب قد اختفى..
                وارتجف جسد السيد..وفرك عينيه جيدا ثم عاد يفتحهما مرارا..وبحث عن الشاب في الحديقة كلها..ولكنه لم يعثر له على أثر..
                من ثم عاد من فوره إلى القصر وأيقظ الخدم.. وطلب منهم ألا يحدثوا أي ضوضاء حتى لا تصحو زوجته وأولاده..ثم طلب منهم أن يحملوا المعاول..واتجهوا إلى شجرة البلوط..وأمرهم أن يحفروا الأرض..





                وحفروا الأرض..وعثروا على سترة..ثم على جثة متحللة..
                وصرخ الخدم: إنه (هنري)..
                وأعادت الشرطة فتح التحقيقات..واعترف المشرف على القصر بالحقيقة..وقال:
                لقد اتفقت مع اثنين من اللصوص على سرقة التحف ثم بيعها واقتسام ثمنها فيما بعد..
                وكانت الخطة أن أنتظرهم بعد نوم الجميع..فيدخلا القصر ويجمعا كل التحف ثم يوثقاني إلى أحد المقاعد لإبعاد الشبهات عني..
                كنت أعلم أن الخدم سيستغربون تأخري وسيبحثون عني إلى أن يجدوني موثقا فيكونوا خير شهود يعضدون روايتي..
                وكان كل شيء يسير على ما يرام..ولكن فجأة خرج (هنري) من غرفته ورآنا..وأسقط في أيدينا..
                وحاولنا استرضاءه..ووعدناه بأن يقتسم ثمن المسروقات معنا..ولكنه أبى إلا أن يخبر الجميع ويفضحنا..
                فجن جنوننا..ولم يكن هناك بد من قتله..فقطعت لسانه تنكيلا به ثم قتلته ووارينا جثته تحت شجرة البلوط في الحديقة..
                وقررت إجراء تعديل طفيف بالخطة بإشراك (هنري) في الجريمة في أقوالي..فتتجه كل الشبهات نحوه..وبالطبع لن يعثروا له على أثر..من ثم تحفظ التحقيقات بعد فترة..
                وكان مما سيعضد أقوالي أن (هنري) شاب فقير ولم يمض على تعيينه في القصر سوى أسابيع قليلة..فلا ريب أن التحف قد زغللت عينيه فقرر سرقتها..وقلت لنفسي هكذا سيفكر الجميع..وبالفعل هذا ما حدث بعدها..
                وأصدرت محكمة (لندن) حكمها على المشرف على القصر واللصين بالإعدام شنقا.. وأعدموا..
                وبعد إعدام المشرف على القصر بيومين استدعى الملك (جورج الثاني) السيد (هاريس) في ساعة مبكرة من الصباح..ولما وصل السيد (هاريس) إلى قصر الملك وجد تعليمات بضرورة أن يدخل إليه في مخدعه مباشرة..ودخل على الملك في مخدعه..
                ولم يكد الملك يراه حتى قال له: هل تعرف شابا في بداية العشرينات من عمره..طويلا ونحيفا..وعينه اليمنى أصغر قليلا من عينه اليسرى..وإذا سار وضع إحدى يديه على معدته كأنه يشكو مغصا وانحنى قليلا للأمام؟؟
                قال السيد (هاريس) بدهشة: أعرفه يا مولاي..إنه الشاب (هنري) الذي قتلوه في قصري الريفي أثناء السرقة.. هنا اعتدل الملك في جلسته وقال: لقد صحوت من نومي على صوت باب المخدع وهو ينفتح..وعندما أخرجت رأسي من تحت الغطاء رأيت ذلك الشاب..
                اندهشت بشدة وسألته:من أنت؟ وكيف دخلت إلى هنا دون أن يعترضك الحراس؟
                ولكنه لم ينطق بكلمة واحدة..فقط أشار إلى فمه بأنه لا يستطيع الكلام..واقترب ببطء من السرير..
                أردت أن أصرخ مستدعيا الحراس..ولكن شيئا ما منعني..ربما هدوء الشاب ورقته..
                وكل ما حدث بعد ذلك أن الشاب اقترب من غطائي وانحنى عليه يقبله في امتنان..ثم اختفى
                بالواقع لست أدري لم فكرت في أنك أنت بالذات تعرف ذلك الشاب؟.. فقررت استدعاءك..وصدق حدسي
                نعم أيها الملك..
                لقد صدق حدسك..
                إنه (هنري)..جاء يشكرك لأنك انتقمت له..وقتلت قاتليه..
                وبعدها اختفى ولم يعد أحد يراه أو يسمع عنه بعد ذلك..
                لقد أنجز مهمته..ولم تعد له حاجة في دنيانا...





                التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-04, 08:27 PM.

                تعليق


                • #9
                  سلسلة ... (أرواح وأشباح)
                  (9)



                  دليل البراءة

                  (جون دافيز)..شاب إنجليزي فقير تقطعت به سبل العيش
                  كان هذا حين وجدته السيدة ( إليزابيث باكست..كان هائما شريدا في شوارع (لندن) في أوائل القرن التاسع عشر..وكان يتسول ليقتات لقيمات يقمن صلبه..ر)..وبدلا من أن تعطف عليه وتنصرف..وجدت فيه ضالتها..
                  فالسيدة (باكستر) كانت أرملة ثرية من (ويلز)..ورثت عن زوجها الراحل مزرعة مترامية الأطراف في مدينة (مونتجمري)..وكانت تبحث عمن يدير لها شئون المزرعة..لذلك وجدت ضالتها في (جون) وسرعان ما عرضت عليه الأمر فوافق على الفور..واصطحبته معها إلى (ويلز)..




                  ومارس (جون) عمله الجديد بكل همة ونشاط..وكان أمينا للغاية على المزرعة..فأحبته السيدة (باكستر) وقربته منها أكثر..مما أثار الضغينة في قلوب سكان المدينة..
                  كانوا يمقتون المكانة التي وصل إليها (جون) فضلا عن البغض الأزلي الذي يكنونه للإنجليز نتيجة النزعات والنزاعات القبلية القديمة بين السلت والساكسون..
                  لذلك لم يحظ (جون) بأي أصدقاء طيلة وجوده في (مونتجمري)..بل كان مكروها من الجميع..
                  وفي أحد الأيام..تأخر (جون) في المزرعة حتى غربت الشمس..وبينما كان عائدا إلى حجرته الملحقة بمنزل السيدة (باكستر) اعتدى عليه اثنان من اللصوص..استوليا على كيس نقوده وأوسعاه ضربا..حتى أغمي عليه..
                  وخوفا من أن يشكوهما إلى السلطات.. حملاه إلى مقر الشرطة..واتهماه بقطع الطريق على المسافرين..وحررا بلاغا بذلك..
                  عندما أفاق (جون) من إغمائه فوجئ بما حدث..
                  فثار وهاج وماج مقسما بأغلظ الأيمان أنه برئ وأنه هو المعتدى عليه وليس الجاني..محاولا بشتى السبل إثبات براءته ..ولكن..وكما لكم أن تتوقعوا..
                  لم يأخذ رجال الشرطة بأقوال ذلك الإنجليزي الغريب.. ومالوا إلى الأخذ بأقوال المعتدين لأنهما من أبناء (ويلز)..
                  وهكذا حكم على (دافيز) بالإعدام..وهي العقوبة المحددة لقطع الطريق في ذلك الوقت..
                  وهكذا وجد الشاب البريء نفسه معاقبا بالإعدام على تهمة لم يرتكبها..
                  لذلك لم ييأس الفتى..ومضى في احتجاجه على ذلك الحكم الظالم.. محاولا أن يبرئ نفسه من التهمة ولكن دون جدوى..
                  فلم يستمع إليه أحد..بل وجدها الجميع فرصة للتخلص من ذلك الإنجليزي وإشباع نوازعهم القبلية المحمومة..
                  وصبيحة يوم 2 سبتمبر 1821..حانت لحظة الإعدام..تجمهر الناس مطلقين صيحات الاستهجان أثناء اقتياد (جون) إلى المنصة..
                  وبعد أن وقف على المنصة.. رفع (جون دافيز) يده اليمنى إلى أعلى وصاح:
                  (سأموت وأنا أصلي طالبا من الله ألا ينمو زرع فوق قبري حتى يكون في هذا الدليل الدامغ على براءتي من التهمة التي ألصقت بي ظلما)..
                  وجرى تنفيذ الحكم..وأطلق الناس صرخات الانتصار..
                  وتم دفن الشاب في مدافن ساحة كنيسة (مونتجمري)..
                  ومرت أسابيع..
                  واكتشف أهل المدينة شيئا غريبا..
                  لقد كانت الحشائش تنمو فوق كل القبور وحولها..إلا قبر (دافيز)..
                  وانتشر الخبر بين أهل المدينة..وتذكر الجميع كلمات الفتى قبيل إعدامه..وسرى الاعتقاد ببراءته..
                  ولكن المسئولين لم يعترفوا بهذا الهراء على حد قولهم..وقرروا مجابهة الأمر بالعلم وعدم الاستسلام للخرافة..
                  فأسرعوا يأمرون بنقل تربة تنمو عليها الحشائش ووضعها فوق المقبرة..
                  وبدا الحل جيدا..




                  لكن الحشائش ما لبثت أن ذبلت وجفت..وعادت التربة فوق المقبرة جرداء بلا زرع..وبخاصة تلك الرقعة التي يرقد تحتها جثمان الفتى..
                  ولم ييأس المسئولون..
                  فأمروا بنثر أجود بذور الحشائش فوق التربة.. لكنها لم تنبت شيئا..
                  وبقيت المقبرة جرداء وكأنها تتحدى الجميع..
                  واستسلم الجميع للأمر..وحاولوا تناسي الموضوع برمته..وتشاغلوا عنه بأمور أخرى..ومرت السنون..
                  وفي عام 1851 عاد الموضوع ليطفو على سطح الأحداث من جديد..
                  سمع مسئول جديد بأمر المقبرة فتفتق ذهنه عن حل سحري..
                  لقد أمر بحرث تربة المقبرة بأكملها..وجرى تغطية المكان كله بتربة طازجة بارتفاع قدمين..وتم بذر أجود البذور بكثافة في التربة الجديدة..
                  وبالفعل في ظرف أسبوعين تحولت أرض المقبرة إلى بساط أخضر من الحشائش النضرة، فيما عدا الرقعة التي يرقد تحتها جثمان (جون دافيز)..
                  بل وفشلت كل الجهود المبذولة بعد ذلك في انتقاء أجود البذور وأجود أنواع التربة..وتغيير أنواع عدة منها..أو حتى تقوية التربة بأجود أنواع السماد..
                  فقد بقيت تلك الرقعة جرداء تماما..
                  وفي النهاية..اقتنع المسئولون والقساوسة الذين تعاقبوا على تلك الكنيسة بأن الأمر يفوق قدراتهم البشرية..
                  وقرروا أن يتركوا الطبيعة تأخذ مجراها..
                  كل ما فعلوه هو أن أحاطوا قبر (دافيز) بسياج خشبي..تم تركوا الفتى يرقد في سلام..
                  وهكذا بقيت تلك الرقعة من الأرض لا تنبت زرعا حتى يومنا هذا..
                  بقيت كدليل دائم على براءة ذلك الإنجليزي المظلوم..







                  التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-04, 08:29 PM.

                  تعليق


                  • #10

                    سلسلة ... (أرواح وأشباح)
                    (10)




                    شبح المحطة




                    في مدينة (طوخ) المصرية بمحافظة (الدقهلية)..حدثت واقعة أنقل في السطور التالية وقائعها كما سجلها القائم مقام (عقيد) (حسن إبراهيم الجارحي) في دفتر مذكراته وكان رحمة الله عليه قبل إحالته الي التقاعد عام 1948 من أكفأ رجال الشرطة المصرية..وقضي بقية عمره يروي ذكرياته ويكتب مذكراته حتى مات في يناير1965..
                    يقول القائم مقام (الجارحي):
                    (عندما تخرجت من (مدرسة البوليس) (كلية الشرطة) برتبة (ملازم ثاني) عينت في مركز (طوخ)..
                    وبعد أيام من تعييني..وفي عصر يوم من أيام الشتاء الباردة تعطل وابور (قطار) بضاعة قادم من (الإسكندرية) فتوقف علي الخط الرئيسي قبل محطة (طوخ) بحوالي ثلاثة كيلو مترات ولم يكن قد بقي علي مرور القطار السريع (الإكسبريس) المتجه إلى (القاهرة) سوى نصف ساعة..
                    إلا أن سائق قطار البضاعة تمكن من تنبيه سائق القطار السريع فخفف من سرعته حتى توقف..
                    ثم دفع قطار البضاعة أمامه حتى أدخله علي خط فرعي..ثم عاد ليواصل سيره بعد ذلك الي (القاهرة) بسلام..
                    وتقرر تخزين قطار البضاعة حتى الصباح انتظارا لمجيء قاطرة لجره..
                    كانت أول مشكلة تواجهني منذ تسلمت عملي كضابط.. فقد كلفني المأمور بحراسة القطار الذي تحمل عرباته آلاف الأجولة من القمح..
                    فقررت المبيت في غرفة ناظر المحطة لأتولى الإشراف علي الحراسة بنفسي..واصطحبت معي أربعة عساكر..
                    ووزعتهم على نقاط حراسة في المنطقة حول القطار..
                    في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تقريبا دوت صرخة استغاثة..
                    سمعت بعدها وقع أقدام تهرول علي رصيف المحطة..
                    على الفور انطلقت خارج حجرة الناظر مستقصيا الأمر..فلم أجد شيئا..
                    فتشت الرصيف ذهابا وإيابا وأنا أحمل مسدسي متحفزا..
                    ولكن لا شيء سوء الظلام والسكون..فازداد توتري..
                    جمعت العساكر الأربعة..وحذرتهم من مغبة أن يكون أحدهم قد أطلق الصرخة علي سبيل المزاح السخيف.. وهددت بسجن من يثبت أنه فعل ذلك فأقسموا جميعا ببراءتهم..
                    بل إن أحدهم قال إنه سمع مثل ذلك في ليال سابقة عندما كان يتواجد للخدمة في المحطة في بعض المناسبات.. ولكنه خشي أن يتكلم سابقا حتى لا يتم اتهامه بالجنون ويفصل من الخدمة..
                    ولكنني نهرته وطلبت من العساكر العودة إلي أماكنهم التي كنت قد حددتها لهم..وتوجهت إلي غرفة الناظر وأنا أعاني من إحساس حقيقي بالاضطراب المختلط بالخوف وجلست خلف المكتب متحفزا..
                    وبعد حوالي نصف ساعة حدث ما يلي..





                    انفتح باب الغرفة ببطء ليدخل منه ما بدا لي أنه جسد إنسان من ضباب ولكنه بغير رأس.. وتقدم نحوي بخطوات ثابتة، حتي توقف أمامي لا يفصله عني سوي المكتب..
                    ثم تناول القلم، وكتب علي ورقة بسرعة رهيبة وبخط مضطرب:
                    (أنا (عبد التواب مصيلحي).. ذبحني اثنين حرامية (لصان ملثمان) من 3 شهور..وسرقوا 3000 جنيه كنت واخدها من الحاج (أحمد عبد الغفار) اللي أنا شغال عنده عشان أحطها في حسابه في فرع (بنك مصر) ببنها.. ودفنوا رأسي علي بعد 6متر من رصيف المحطة من الجهة القبلية.. وحطوا جسمي على سكة القطر من غير ما حد يشوفهم.. عايز رأسي تندفن مع جسمي عشان أرتاح)
                    ويستمر كاتب المذكرات في روايته الغريبة فيقول:
                    سقط القلم فوق الورقة.. واختفى الجسد من الغرفة..كل هذا وأنا متجمد من الرعب لم أحرك ساكنا..
                    وإن كنت أقاوم بصعوبة بالغة شعوري بالغثيان والدوار الذي يكتنفني حتى لا أسقط مغميا علي ويفتضح أمري بين العساكر..
                    وبعد ثوان دوت الصرخة من جديد وتبعها صوت الأقدام تهرول بعنف علي الرصيف وأنا في مكاني فوق الكرسي لا اقوي علي الحركة..
                    ومع أول خيوط الفجر..أفقت من ذهولي وأحسست أن قلبي قد عاد ينبض من جديد..
                    كنت أتمنى أن يكون ما حدث مجرد حلم..ولكن الورقة التي أمامي تنفي ذلك نفيا قاطعا..
                    أمسكت الورقة بأصابع مرتجفة وقرأتها عدة مرات.. وبدأت أستعيد نفسي وأفكر بعمق..
                    كان من المستحيل بطبيعة الحال أن أرفض تصديق ما حدث بعد أن رأيته بعيني وسمعته بأذني..
                    وكان من المستحيل كذلك إبلاغ المأمور بما جاء في الورقة التي كتبها (عفريت)..
                    وبقيت أياما أعاني من التوتر والحيرة..قبل أن اهتدي الي الحل..
                    فكتبت علي الآلة الكاتبة بلاغا للنائب العام بتوقيع فاعل خير..
                    ذكرت فيه تفاصيل واقعة القتل والسرقة ومكان دفن الرأس..
                    وبالطبع دارت الأمور في دورتها الطبيعية..
                    وحضر رجال المباحث والنيابة لجمع التحريات وإجراء التحقيقات مع بعض الأشقياء المشتبه فيهم..
                    كنت حريصا علي مرافقتهم أثناء بحثهم عن الرأس المدفون بالقرب من رصيف المحطة..
                    وكانت المفاجأة مذهلة لي دون الجميع عندما تم العثور علي جمجمة في نفس المكان الذي حدده (العفريت)..
                    أما المفاجأة الثانية فكانت ما جاء في تقرير الطبيب الشرعي بعد ذلك..
                    فقد أفاد بأن الجمجمة هي لجثة القتيل (عبد التواب مصيلحي) التي تم العثور عليها ملقاة علي قضبان السكة الحديد منذ ثلاثة أشهر وقد مزقها القطار..
                    وتم التعرف عليها يومئذ بواسطة أسرته عن طريق الوشم المكتوب علي الساعد الأيمن
                    ويختتم القائم مقام الجارحي روايته بقوله:
                    أذنت النيابة بعد انتهاء التحقيق بتسليم الجمجمة إلي أسرة القتيل لدفنها مع جثته في قبره..
                    ومنذ ذلك اليوم اختفى تماما صوت صرخات الاستغاثة والأقدام المهرولة علي رصيف محطة (طوخ)..
                    أما الورقة التي كتبها (العفريت) فمازلت احتفظ بها معي..





                    التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2014-01-04, 08:29 PM.

                    تعليق

                    يعمل...
                    X