إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإمبراطور فردريك الثاني والحضارة العربية الإسلامية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإمبراطور فردريك الثاني والحضارة العربية الإسلامية

    الإمبراطور فردريك الثاني والحضارة العربية الإسلامية



    لا أظن أحداً من أباطرة الغرب، في العصور الوسطى، كان شديد الإعجاب بالحضارة العربية
    الإسلاميةوتأثر بها تأثراً عميقاً، كما هو حال الإمبراطور فردريك الثاني، الذي لم يقتصر تأثره بها على حياته الشخصية وبلاطه فحسب، وإنما امتد ليشمل مؤسسات دولته العلمية منها والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.. فمن هو فردريك الثاني هذا؟ ولماذا انفرد عن معظم معاصريه من ملوك أوربا في موقفه من الحضارة العربية الإسلامية؟ وما أهم الميادين التي تجلى فيها إعجابه وتأثره ودولته بهذه الحضارة؟

    ولد فردريك الثاني في باليرمو، عاصمة صقلية، عام 1194م، من أب ألماني، وهو الإمبراطور هنري السادس ابن الإمبراطور فردريك بربروسا، ومن أم نورمانية، وهي كونستانس، ابنة الملك النورماني روجر الثاني ووريثته على عرش صقلية وإيطاليا الجنوبية. وحمل فرديريك الثاني من الألقاب ما لم يحمله أحدٌ سواه، حيث تُوج ملكاً على صقلية عام 1198م، وملكاً على ألمانيا عام 1212م، وإمبراطوراً على الدولة الرومانية المقدسة عام 1220م (التي كانت تضم ألمانيا وإيطاليا وصقيلة)، وملكاً على بيت المقدس عام 1229م. ولكن على الرغم من ذلك كله فقد نشأ فردريك الثاني وترعرع في صقلية وأمضى معظم حياته فيها.

    عوامل التكوين

    والواقع هناك ثلاثة عوامل رئيسية شكلت موقف فردريك الثاني الإيجابي من الحضارة العربية الإسلامية وهي:


    1- تربية فردريك الثاني وثقافته: حيث لم يخضع لتربية ديرية صارمة ومتعصبة، مثل أقرانه من أبناء ملوك وأمراء العصور الوسطى في الغرب؛ وإنما كانت تربيته بعيدة كل البعد عن المؤثرات الكنسية. ومع أنه اطلع على كتابات آباء الكنيسة، وبخاصة مؤلفات القديس أوجسطين (ت430م)، فقد كان يغلب على ثقافته الطابع العلماني، حيث كان لتراث الإغريق دورٌ في تكوينها، فقد قرأ مؤلفات أرسطو رغم تحريم البابوية لها ومصادرتها وإحراقها. كما درس تراث الرومان، ولاسيما ما كتبه فرجيل وشيشرون وقيصر وماركوس أوروليوس وغيرهم. إن هذه المؤثرات الثقافية ساعدت على تفتح عقله الفضولي على عوالم فكرية بعيدة عن فكر المدارس الأسقفية والديرية الضيقة التي كانت منتشرة في أوربا في عصره.


    2- ما ورثه فردريك الثاني عن أجداده ملوك صقلية النورمان من مآثر حضارية: إذ كان لهؤلاء النورمان فضل في الحفاظ على حضارة العرب في صقلية بعد استيلائهم عليها عام 1091م. إذ ظل العرب في الجزيرة أكثر العناصرتحضراً، وظلت لهم السيادة المعنوية فيها، حيث اعتمد عليهم الملوك النورمان - الذين لم تكن لهم حضارة - في إدارة دولتهم وتنظيم بلاطهم وتطوير علومهم وإدارة اقتصادهم وقيادة أسطولهم. ومن منا لا يعرف المكانة الكبيرة التي حظي بها الشريف الإدريسي في بلاط الملك روجر الثاني (ت 1154م) في باليرمو، حيث وضع له عدة خرائط، وألف له كتابه المشهور «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» الذي غدا عمدة أوربا في الجغرافيا. وتؤكد المصادر أن ثلاثة من ملوك النورمان في صقلية اتخذوا ألقاباً عربية وظهرت على نقودهم ونقوشهم. وكانت اللغة العربية من اللغات المعتمدة في الدولة النورمانية إلى جانب اللاتينية واليونانية. إن السر في بقاء الحضارة العربية حية في صقلية هو سياسة التسامح التي انتهجها الملوك النورمان تجاه المسلمين في الجزيرة. وقد أكد هذه الحقائق كلها الإدريسي وابن جبير الذي كان قد زار صقلية أيام النورمان. ويهمنا أن نؤكد أن فردريك الثاني لم يرث عن أجداده النورمان في صقلية دولة وقد اصطبغت في معظم مقوماتها بالطابع العربي الإسلامي فحسب، وإنما ورث عنهم أيضاً مخزوناً ضخماً من العلاقات الطيبة مع المسلمين فيها.

    3- إن تجربة فردريك الثاني نفسه مع العرب وحضارتهم شكلت عاملاً حاسماً في تشكيل موقفه الإيجابي من الحضارة العربية الإسلامية، فالقصر الذي استقر به في باليرمو، بعد أن تُوج ملكاً على صقلية، هو قصر أحد الأمراء العرب، وكان قد بُني عام 1000م على أيدي المهندسين العرب، الذين زينوه بالنقوش العربية وأثثوه على الطراز العربي. وأقام فردريك الثاني منذ طفولته علاقات طيبة مع أقرانه العرب في الجزيرة، وتعلم على أيدي عدد من العلماء العرب، وسمع عن أدباء العرب وفلاسفتهم من عرب صقلية قبل أن يقرأ مؤلفاتهم. ولا شك أن صور الطفولة وانطباعاتها تشكل اتجاهات الفكر والعقل. ثم أخذ اتصاله بالعرب وحضارتهم يتوسع ويتعمق مع إتقانه اللغة العربية وتوطد علاقاته مع سلاطين الأيوبيين في مصر والشام، أمثال السلطان الكامل وابنه الملك الصالح، ومع الخلفاء الموحدين في المغرب أمثال عبدالواحد الرشيدي. ثم ازدادت معرفته بالحضارة العربية الإسلامية عندما قاد حملته الصليببة المعروفة بالسادسة (1228-1229م) إلى الشام، هذا فضلاً عن الحوارات العلمية والفلسفية التي دارت بينه وبين العلماء المسلمين المشارقة منهم والمغاربة.

    احترام الإسلام
    وقد تجلى موقف فردريك الثاني الإيجابي من الحضارة العربية الإسلامية في احترام الإسلام والعرب المسلمين من ناحية والإعجاب بحضارتهم وتأثره بها والإفادة منها من ناحية أخرى

    . أما بالنسبة لاحترام الإسلام والمسلمين فقد ظهر واضحاً في الكثير من الوقائع نذكر منها على سبيل المثال:


    1- سياسة التسامح الديني التي انتهجها فردريك الثاني تجاه المسلمين في بلاده. ويقال إنه بعد أن تُوج ملكاً على صقلية قام بالطواف على أحياء المسيحيين والمسلمين في باليرمو كي يدرك الجميع أنه ملك الجميع، لاسيما أن مجلس الأساقفة الذي أدار صقلية أثناء الوصاية عليه كان قد أساء معاملة المسلمين فيها.

    2- إن تردد فردريك الثاني، ولمدة ثماني سنوات، في تنفيذ وعده للبابوية بالقيام بحملة صليبية ضد المسلمين، يدل دلالة قاطعة على عدم إيمانه بالمشروع الصليبي، بل لم يجد أساساً أو مبرراً أخلاقياً للقيام بهذه الحملة ضد العرب الذين نشأ في كنف حضارتهم وتعلم لغتهم وأعجب بثقافتهم وتقاليدهم. بل لقد حُرم فردريك الثاني من الكنيسة لأنه لم يفِ بوعده هذا. وأخيراً قاد حملته الصليبية التي عرفت بالسادسة (1228-1229م)، ونجح في الحصول على بيت المقدس دون أن يريق قطرة دم واحدة لمسلم أو مسيحي، وذلك عن طريق استعطاف السلطان الكامل الأيوبي. وأكد فردريك الثاني للسلطان أنه لا يرغب في القدس ولا في غيرها لولا خوفه على مكانته في العالم المسيحي من أن يعود فاشلاً في حملته.

    3
    - أظهر فردريك احتراماً كبيراً للأماكن المقدسة الإسلامية في فلسطين أثناء زيارته للقدس بعد توقيع اتفاقية يافا بينه وبين السلطان الكامل عام 1229م. وتجلى ذلك واضحاً في الكثير من المواقف منها:
    1- كان الإمبراطور قد استأذن السلطان الكامل لزيارة القدس، فوافق الكامل وطلب من قاضي نابلس، واسمه شمس الدين، بمرافقة الإمبراطور في هذه الزيارة. وتروي المصادر أن السلطان كان قد طلب من القاضي ألا يصعد المؤذنون المنابر ولا يؤذنوا في الحرم أثناء زيارة الإمبراطور للقدس «إعظاماً واحتراماً له». ولكن القاضي نسي أن يبلغ المؤذنين أمر السلطان فصعد عبد الكريم المؤذن وقت السحر، والإمبراطور مقيم في بيت القاضي، وأخذ يقرأ الآيات التي تخص النصارى... فلما طلع الفجر استدعى القاضي المؤذن وعاتبه وأبلغه أمر السلطان. فلما كانت الليلة الثانية لم يؤذن عبد الكريم كالعادة، فاستدعى الإمبراطور القاضي شمس الدين وسأله معاتباً ومحتجاً أنه لم يسمع صوت المؤذن هذه الليلة، فأبلغه القاضي بأمر السلطان فرد الإمبراطور غاضباً: «لقد أخطأت بتصرفك هذا، لأن غرضي الأساسي من البقاء في القدس هو أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل، فهل يجوز أن تغيروا شعائركم لمجرد إرضائي؟ هل تظن أنك لو حضرت إلى بلدي سأمنع الكنائس من قرع أجراسها إرضاءً لك؟ لا والله».
    2- قام فردريك الثاني بزيارة المسجد الأقصى برفقة القاضي شمس الدين، وأُعجب بروعة البناء والمصابيح المعلقة والسجاجيد والفسيفساء، وقد خلع حذاءه قبل دخوله المسجد. ولاحظ فردريك الثاني عبارة منقوشة حول قبة الصخرة تقول: «لقد طهَّر صلاح الدين هذا البيت المقدس من المشركين» فسأل فردريك القاضي: «من هم هؤلاء المشركين؟». واضطرب القاضي واختلج ارتباكاً ثم قال له إن المقصود بالمشركين هم الصليبيون، فلم يظهر الإمبراطور انزعاجاً.
    3- قبل مغادرة الإمبراطور للمسجد الأقصى دُهش إذ رأى قسيساً يحمل الإنجيل، وقد انتعل صندلاً مترباً، واتخذ طريقه نحو قلب المحراب، فغضب الإمبراطور من هذا التصرف ولكمَ القسيس بقبضة يده فهوى على الأرض، وصاح به: «أيها الخنزير لِمَ جئتَ إلى هنا في هذا الوقت. لقد تفضل السلطان وسمح لنا بزيارة هذه الأماكن، ولكن لا يجوز بحال انتهاك هذا الحرم، وإذا جرؤ أحدكم على أن يدخل هذا المكان بطريقة غير لائقة وبغير إذن فسوف اقتلع عينيه واسلخ جلده حياً» فانصرف القس وهو يرتعد خوفاً. وكانت هذه الحادثة درساً بليغاً لكل الصليبيين.


    علماء البلاط


    أما تأثر الإمبراطور فردريك الثاني بالحضارة العربية الإسلامية فقد ظهر في الكثير من الميادين منها الميادين العلمية، وبدا ذلك واضحاً في:


    1 - استقدم فردريك الثاني إلى بلاطه في باليرمو عدداً من العلماء، الذين نقلوا له الكثير من مؤلفات الإغريق والعرب المسلمين، من العربية إلى اللاتينية. وكان في مقدمة هؤلاء العالم ميخائيل سكوت (الاسكتلندي) الذي منحه لقب «فيلسوف البلاط». وقد ترجم سكوت عدداً من كتب أرسطو من العربية إلى اللاتينية، منها: كتاب «الحيوان» و«الآثار العلوية» و«السماء والعالم» وغيرها. كما ترجم سكوت كتاب «علم الحيوان» لابن سينا، ومؤلفات كثيرة لابن رشد مثل: «شرح الميتافيزيقيا» و«شرح الآثار العلوية» و«في جوهر الكون» و«شرح السماء والعالم»، وكذلك كتاب في الهيئة (علم الفلك) للبتروجي. كما استقبل فردريك الثاني في بلاطه العالم الرياضي الإيطالي ليوناردو البيزاوي وشجعه على استخدام الأرقام العربية وعلم الجبر العربي والعزوف عن الأرقام الرومانية المربكة. وبالفعل كان لهذا التشجيع الفضل في إدخال الأرقام العربية إلى الغرب. كما جذب بلاط فردريك الثاني عدداً من العلماء العرب مثل ثيودور الأنطاكي الذي كان عالماً في الفلسفة والرياضيات والفلك والطب، وقد عمل ثيودور طبيباً خاصاً للإمبراطور وترجم له الكثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية.
    2 - أفاد فردريك الثاني من التراث العربي في تطوير التعليم الجامعي في بلاده. فقد طور مناهج كلية الطب في جامعة سالرنو (التي كانت قد أسست في القرن التاسع الميلادي) تطويراً كبيراً بناءً على ما سبق أن ترجمه قسطنطين الأفريقي (ت1087م) من مؤلفات طبية من العربية إلى اللاتينية. وشكلت سالرنو مركزاً مهماً لنقل علوم العرب الطبية إلى أوربا. كما حظيت العلوم التي نُقلت من العربية إلى اللاتينية بمكانة كيبرة في مناهج جامعة نابولي التي أسسها فردريك الثاني عام 1224م، لاسيما تلك المتعلقة بالطب والرياضيات والفلسفة، بل جعل فردريك من جامعة نابولي أكاديمية لنقل العلوم العربية إلى الغرب.
    3 - كان فردريك شغوفاً بالعلم والمعرفة، حتى أن حاشيته كانت تحمل له في كل أسفاره مكتبة متنقلة لا تقل محتوياتها عن مائة كتاب. وكان له اهتمام شخصي بالفلسفة اليونانية والإسلامية، وطالما أنه لم يكن في بلاطه، وفي أوربا عامة، من يشفي غليله العلمي، ويجيب عن تساؤلاته الفلسفية، فقد اعتاد الحوار مع الفلاسفة والعلماء العرب سواء في صقلية أو في خارجها. فمن المعروف أن فردريك بعث مجموعة من الأسئلة، عرفت بـ «المسائل الصقلية» إلى الخليفة الموحدي عبدالواحد الثاني الرشيدي (ت 1242م) والذي أحالها بدوره إلى الفيلسوف والصوفي ابن سبعين، وهي تتعلق بنظرية أرسطو حول أزلية العالم وقضية المقولات العشر وخلود الروح والعلم الإلهي...الخ. وقد كتب ابن سبعين رسالته المعروفة «الأجوبة على المسائل الصقلية» رداً على أسئلة الإمبراطور. كما اعتاد الإمبراطور أن يبعث إلى صديقه السلطان الكامل بمسائل في الفلسفة والهندسة والرياضيات فيعرضها بدوره إلى العلماء في مصر والشام أمثال، الشيخ علم الدين الحنفي، للإجابة عنها. وهذه الحوارات بين فردريك والعلماء العرب تكشف عن عمق ثقافة الإمبراطور من ناحية، وتدل على نبوغ العلماء والفلاسفة العرب المسلمين ودورهم في نهضة الغرب من ناحية أخرى.


    الموكب والجيش


    كما تجلى أثر الحضارة العربية الإسلامية واضحاً في بلاط الإمبراطور وموكبه وجيشه، حيث اصطبغت كلها بالطابع العربي. فقد ضم بلاطه عدداً كبيراً من العلماء والأطباء والإداريين والخدم العرب المسلمين الذين كانوا موضع ثقته. وكان يصطحب بعضهم في حله وترحاله، فمثلاً عندما سافر إلى ألمانيا ليُتوج ملكاً عليها لم يرافقه سوى خدمه العرب، وذلك لثقته بأنهم لن يتآمروا عليه. كما كان رجال الحرس الخاص بحمايته من العرب. وكان هؤلاء إلى جانبه في كل خطواته، وظلوا أوفياء له حتى وفاته. وكان فردريك الثاني يظهر إعجابه بوسامتهم وشجاعتهم وإخلاصهم له. كما كان موكب الإمبراطور أقرب إلى مواكب سلاطين الشرق منه إلى ملوك الغرب. فطلائع الموكب كانت من العرب حملة الرماح الذين يمتطون الجياد العربية. كما اشتمل على فرقة من رماة السهام العرب الذين يحملون القوس الشرقي الذي يشبه الرقم ثلاثة اللاتيني. وضم الموكب أيضاً فيلاً على ظهره هودج جلس فيه سائس واثنان من العرب ينفخان الأبواق، وكان هذا الفيل هدية من السلطان الكامل، كما ضم زرافة كانت قد وصلته أيضاً هدية من السلطان نفسه. وقد دهش الأوربيون لأنهم لم يسبق لهم رؤيتها في بلادهم. وكانت الفرقة المكلفة بحماية مؤخرة الموكب من حملة الرماح العرب. هذا بالإضافة إلى أن العرب شكلوا طلائع جيش فردريك، لتميزهم بالشجاعة والمهارة في ركوب الخيل ورمي الرماح وعدم اكتراثهم بدسائس أعدائه، وبخاصة البابا ورجاله. وقد جهز فردريك هذه الفرقة العربية بالأسلحة الخفيفة من أجل سرعة الحركة، مثل الزرد الخفيف والدروع الرومانية والخوذات الفولاذية المدببة والتروس الرفيعة. ولم تلعب هذه الفرقة العربية دوراً حاسماً في المعارك فحسب، وإنما كان دورها مهماً في نشر الأمن الداخلي، حيث نجحت في القضاء على حركات التمرد والعصيان وقطاع الطرق. بل كان مجرد ظهور هذه الفرقة يشكل رادعاً لهذه العناصر.


    الصناعة والفنون


    كما ظهر تأثر فردريك بالحضارة العربية الإسلامية واضحاً في ميدان الصناعة والفنون، فقد استمرت الصناعات الحريرية والنسيجية تحظى بمكانة كبيرة في دولته كما كان الحال عليه أيام أجداده النورمان، فالعباءة الملكية الفاخرة التي كان يرتديها فردريك عندما تُوج ملكاً على صقلية عام 1198م عربية الصنع، وهي عباءة جده روجر الثاني، ومصنوعة من الحرير القرمزي ورسومها مطرزة بالذهب، وتحتوي على آلاف اللآلئ الدقيقة والأحجار الكريمة، ورصعت عليها كتابة عربية بالخط الكوفي وختمت بالجملة التالية «صنع في عاصمة صقلية في سنة 528هـ» وهذا التاريخ يعادل 1130م وهي السنة التي تُوج فيها روجر الثاني ملكاً في باليرمو. كما أن العباءة التي كان يرتديها فردريك الثاني عندما تُوج إمبراطوراً في روما على يد البابا هونوريوس الثالث عام 1220م عربية الصنع وتحتوي على كتابات عربية ومصنوعة من الحرير وقد رُصع الصدر والأكمام باللآلئ وطرزت بالذهب وزينت بالأحجار الكريمة واحتوت تطريزاً من الذهب يمثل أسدين متقابلين، وقد تم صنعها عام 1181م في الورشة الملكية على يد الصناع العرب. كما كانت الوسائد المستخدمة في قصور فردريك الثاني وسائد حريرية ومطرزة بالتطريز العربي المتقن. وكان للفنون العربية أيضاً مكانتها في هذه الدولة، فقد عمل العرب في الورش الملكية المتخصصة بصناعة الفسيفساء. وكانت كنيسة القصر الملكي في باليرمو عبارة عن قاعة فخمة مذهبة تزينها الفسيفساء العربية واليونانية والنورمانية. كما ضمت فرق التمثيل والغناء الكثير من الفنانين العرب، هذا فضلاً عن انتشار العزف على العود الذي تعلمه فردريك شخصياً، في مقتبل شبابه، من العازفين العرب في باليرمو.
    وكان التجار العرب المسلمون قد حملوا الكثير من المصنوعات الشرقية إلى صقلية، ومنها انتقلت إلى أرجاء الغرب، فالسجاد الذي فرشت به قصور فردريك كان فارسياً وعليه رسوم شرقية، كما كان الورق المستخدم في دولته هو الورق الصيني الذي وصل إلى الغرب عن طريق العرب، أي أن صقلية عرفت مصانع الورق قبل أن تصدره إسبانيا إلى الغرب. وكانت البوصلة التي استخدمها بحارة فردريك في قيادة أسطوله في البحر المتوسط كان قد نقلها العرب من الصين إلى الغرب.
    ولا شك في أن الحملة الصليبية التي قادها فردريك الثاني إلى الشام (1228 - 1229م) قد حققت إنجازاً سياسياً كبيراً، باسترداد بيت المقدس، ولكنه كان إنجازاً سريع الزوال، حيث استعاد العرب المسلمون القدس بعد خمسة عشر عاماً من الحملة أي عام 1244م. ولكن ما تحقق لفردريك من حملته هذه، على الصعيد الحضاري، كان أكثر أهمية وديمومةً. فبالإضافة إلى الحوارات العلمية التي دارت بينه وبين علماء مصر والشام آنذاك، فقد اطلع أثناء وجوده في الشام على فن العمارة العربية الإسلامية، لاسيما القلاع التي أعجب بها أيما إعجاب، وأفاد منها في بناء الكثير من القلاع في صقلية وإيطاليا الجنوبية. كما مارس في الشام هواية «التصقر» (أي الصيد بالصقور) المفضلة عنده، وجمع معظم المادة العلمية لكتابه المعروف بعنوان «التصقر». هذا فضلاً عن أنه أعجب بغطاء عيون الصقر الذي كان يستخدمه الصيادون العرب، وهو مصنوع من الجلد الأسود الناعم تعلوه كرة من الريش، وقد أخذ فردريك الثاني معه من الشام عند عودته إلى أوربا كميات كبيرة من هذه الأغطية، بالإضافة إلى مجموعات من أفضل الصقور العربية.


    الخاتمة


    يهمنا أن نؤكد، في ختام هذا المقال، على حقيقتين، الأولى - أن موقف فردريك الثاني من الحضارة العربية الإسلامية شكل تحدياً صارخاً للقوى الصليبية في أوربا آنذاك، وفي مقدمتها البابوية، وبالتالي كان سبباً رئيسياً لقرارات حرمانه من الكنيسة التي أصدرها البابا جريجوري التاسع في الأعوام 1227م و1228م و1239م. وقد واجه فردريك هذه القرارات بشجاعة نادرة. أما الحقيقة الثانية - فهي أن الامبراطور فردريك لعب دوراً مهماً في نقل الكثير من إنجازات الحضارة العربية الإسلامية إلى بلاده وبقية أرجاء الغرب، ممهداًَ بذلك الطريق إلى عصر النهضة الأوربية الحديثة، الذي انطلق أساساً من بلاده في القرن الخامس عشر الميلادي، بل يعد فردريك نفسه واحداً من فرسان هذه النهضة وإن جاء قبلها بقرنين من الزمن.
    مات فردريك الثاني عام 1250م ودفن في كاتدرائية باليرمو إلى جانب والديه، وقد كفّن بأثواب عربية وبجواره سيفه في غمده العربي. حقاً لقد كان «أعجوبة الدنيا».



    ..........

    منقوووووول
    [CENTER] [/CENTER]
يعمل...
X