إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة الساحر والراهب ... و أصحاب الأخدود - دروس وفوائد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة الساحر والراهب ... و أصحاب الأخدود - دروس وفوائد

    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    هذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،


    روى الإمام مسلم في صحيحه (3005) عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال:

    (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر.

    فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه،

    فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.

    وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر،
    وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
    ورماها بحجرٍ فقتلها.
    فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.

    وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة،

    وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
    فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره.

    فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي.
    قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.

    فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى.

    فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا.
    فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه،
    ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه.

    وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا.
    فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل،
    فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت.
    فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو.

    فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.

    فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور
    -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه.

    فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.

    فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.

    ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به.

    فقال له: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة،
    وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.

    فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام،
    وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام.
    فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات.

    فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.

    فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا.

    قال: فماذا نفعل؟ قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار،
    فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها،

    حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق
    ).


    البلاء سنة من سنن الله:

    الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن،
    ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض،
    ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع،
    وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل،

    ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره-

    ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء.

    فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك.

    أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين.


    وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلمّ بالعبد في العقيدة.

    فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم.

    كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك،



    سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا.
    سواءً كان الإمام البخاري، أو الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي.

    ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق،


    ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً.

    فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري،
    المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال:
    {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].

    هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس.

    قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب.
    فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب،
    وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.



    ظهور الحق بقتل الدابة
    وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة،

    فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال:
    اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.

    فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية.


    ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك،
    فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛
    لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق.

    كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار،
    فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية.

    {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].

    فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد.
    فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.



    دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله:

    بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء،
    فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة،
    وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.
    فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.


    هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل:

    راقب كلام الغلام ! ولاحظ دقته في التعبير!

    قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك.

    فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.

    فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع،

    وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك،
    فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.


    ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال:
    (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر)

    وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.


    أما رفع اليدين، فقد
    روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال:
    (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).

    فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.


    قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.

    قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة).

    وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء.

    فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (
    أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) .

    وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين

    فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة.

    واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة).

    والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.

    قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.
    قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-.


    أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرّف رب العالمين للناس، فقال:

    {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].

    فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع
    ، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)،

    والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو:
    {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.

    فالهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.

    فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً،

    وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى،

    قال {
    وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52]، فأثبتها له،

    وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: {
    إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56]،

    إذاً:
    الهداية الأولى : هي هداية الدلالة والبيان،

    و
    الهداية التي نفاها الله عنه : توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.

    فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده،

    فأكدها بهذا الضمير: {
    الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره،

    من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.

    نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع،

    ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب،

    وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا ،

    الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.


    يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} هو الذي يشبعني،

    كما في الصحيحين:
    أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد.
    فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك،
    وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله،

    فقال صلى الله عليه وسلم:
    (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).

    فلما التبس هذا الأمر أكّده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام.

    ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].

    (وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).

    ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} انظر إلى الأدب!
    نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه،

    وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله،

    كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه،

    ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].

    نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى،
    فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.


    وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .

    كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني.
    وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل،
    اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.

    أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب.
    فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه.

    ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان.
    قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.

    كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز،
    وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.


    حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟!

    أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله،
    فلذلك أثبته بهذا الضمير:
    {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .

    ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.

    -يُتبع إن شاء الله-


    لاحول ولاقوة إلا بالله

  • #2

    انعدام صفة الوفاء والإخلاص عند كثير من الناس

    لما رد الله على جليس الملك بصره دخل على الملك وما كان أحد يقوده، فهال الملك ما يرى،

    فقال له: من رد عليك بصرك؟

    قال له: ربّي.

    فقال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، الله ربي وربك ورب العالمين،

    فأمر بتعذيبه.

    صفات الوفاء والإخلاص وحفظ الجميل ليست عند هؤلاء، خلت قواميس هؤلاء من مفردات الوفاء،

    هذا صاحبك وحبيبك وتقعدون مع بعض! ومع ذلك فمع أول مخاصمة وأول نشوز عذبه!


    وصية الراهب للغلام

    انظر إلى الملك كيف يقطع الأرحام!

    ولا يبقي وداً بين والد وولد، ولا بين رجل وأخيه.

    قال الملك لجليسه بعد ذلك: هل لك ربٌ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.

    قال: فما زال يعذبهُ حتى دل على الغلام.

    هناك كلمة قالها الراهب للغلام عندما قتل الدابة، وصار له صيت، قال له:

    أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.

    استفدنا من هذه الوصية هذه ثلاثة أشياء:

    الشيء الأول:


    تواضع الأستاذ، يقول: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني.

    حسناً: فما هو فضل الغلام على الراهب؟! فضل الغلام أنه صغير السن، ومع ذلك قام بالدعوة إلى الله عز وجل،

    لكن الراهب ما استطاع أن يقوم بذلك، فهذا يدلنا على أن فضل العلم في نشره،

    وكلما نشرت العلم كلما يصير لك خصم؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا بريحه،
    لو أن إنساناً لديه زجاجة عطر ووضعها في جيبه لا يستفيد هو ولا غيره بها؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا إذا فاح، مثل العلم.

    مرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينما هو يتفقد الزكوات دخل إلى حجرة العطور،
    فأول ما دخل حجرة العطور أمسك أنفه، فقالوا له: إنما هو ريح -هواء-.

    فقال لهم: وهل ينتفع به إلا بريحه، وهذا عطر المسلمين، لله دره رضي الله عنه!

    الفائدة الثانية: قال: (وإنك ستبتلى).

    فهذا يدلك على أن الذي يدعو إلى الله عز وجل لابد أن يبتلى بأي بلاء دق أو جل،

    ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غار حراء ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك.

    فقال:
    أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عُودِي.

    سنة لا تتغير (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا
    عُودِي).

    إذاً:

    العداء لدعوة الرسل جزءٌ لا يتجزأ منها: {
    وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].

    فلا تطمع أن ينفك أعداء الله عنك.

    الفائدة الثالثة: فإذا ابتليت فلا تدل علي.

    وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للعبد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة،

    لكن إذا كان الأمر لا ينفك عن أذاه ولا مناص إلا من هذا البلاء ليبلغ الدعوة فعليه أن يفعل.

    مثل المشقة: بعض الناس يفهمون المشقة والأجر والرابط بينهما خطأً،

    مثلاً: رجل معه مال وأراد أن يحج وله القدرة على ركوب الطائرة ولكنه قال: أركب السيارة؛ لأن المشقة فيها أكثر،

    فهل يؤجر على هذا ؟
    لا
    لماذا؟
    لأن ديننا نفى المشقة، والله عز وجل قال: {
    وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

    متى تؤجر على المشقة؟

    إذا كان العمل لا ينفك عن المشقة، لا حيلة لك،

    عندما لا تملك المال الكافي لركوب الطائرة فتذهب بالسيارة فتتعب في سفرك،

    هذه هي المشقة التي قصدها الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال لـ عائشة رضي الله عنها: (
    أجرك على قدر نصبك).

    كذلك لا يجوز للمسلم أن يقصد البلاء قصداً، إنما يتحاشاه،

    كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
    لا تتمنوا لقاء العدو

    مع أن لقاء العدو هو الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولو مات المرء في الجهاد كان شهيداً،

    برغم أن الجهاد يوفر لك كل هذه المزايا، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)،

    لماذا؟

    لأنك لا تدري إذا لقيت العدو أتثبت أم تفر؟ والفرار من الزحف إثمه كبير جداً،

    وقد يدرك المرء جراحة من الجراحات فيقتل نفسه كما فعل بعض الناس،

    قتل نفسه بسبب الألم الذي ما تحمله، فأنت لا تدري ما يفعل الله بك، فلا تتمنى البلاء، هذا هو معنى الكلام.

    فهذا الراهب العالم يؤدب الغلام، قال: إن ابتليت فلا تدل عليَّ.

    ليست من الشجاعة أن تقول: أنا في المكان الفلاني، وليس من العيب أن تهرب.

    سفيان الثوري رحمه الله مات هارباً في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي وكان يحيى بن سعيد القطان حاضراً وكلاهما من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله،
    فكان سفيان يحتضر ورأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وقد بكى بكاءً شديداً قبل موته فقال له عبد الرحمن: ممّ تبكي؟ أتخاف من ذنوبك؟ فتناول الثوري رحمه الله حفنة من على الأرض، وقال: لذنوبي أهون عليَّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة.

    وقال له يحيى بن سعيد القطان: لم تبكي؟ ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟! لماذا تبكي وأنت قادم إلى الذي كنت تعبده، وأنت هارب من أجله وطفت الدنيا تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتبلغ كلام الله عز وجل؟
    هذا الذي نصرت له وصبرت له أنت قادم عليه، من حقك أن تفرح.
    فلما قال له ذلك: سكن.

    فلا يحل لإنسان أن يقصد البلاء قصداً، ولذلك قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.



    إخبار الغلام بمكان الراهب

    عذب الملك الغلام حتى اعترف بمكان الراهب، قال أحدهم: كيف لم يحفظ الغلام وصيةَ شيخه،

    وقد قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.

    فكيف دل عليه؟!

    نقول : العزائم عند البلاء تنفسخ،
    والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (
    لا تتمنوا لقاء العدو)
    لأن العزائم تنفسخ وأنت لا تدري أتثبت أم لا؟

    وكان هناك رجل زاهد اسمه
    سمنون وكان يقول: يا رب! ابتلني وستراني صابراً.

    فابتلاه فحبس فيه البول فلم يتحمل، وجعل يدعو الله عز وجل أن يصرف عنه البول؛

    فلما صرف الله عنه ذلك كان يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم:
    استغفروا الله لعمكم الكذاب.

    الإنسان يسأل الله العافية؛ لأنه لا يدري أيصبر أم لا.

    فالغلام لما عُذّبَ عذاباً أليماً ما تحمل، لذلك لا يلام، لا يقال له: كيف خالفت وصية الشيخ؟

    فهذه المواضع لا يثبت فيها إلا من ثبته الله.

    وأنت عندما تقرأ محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكيف أن الله عز وجل رفعه إلى مراقي النجوم بعد هذه الشدة؛

    لأن الناس معادن، فقد تجد رجلاً يدخل الفتنة فيخرج منها أكثر لمعاناً وأشد بريقاً،

    وآخر يدخل الفتنة فلا يصبر،

    فالذهب لو أنك أخرجته من باطن الأرض وعرضته في الأسواق لا يساوي شيئاً، حتى تدخله النار فيصير ذهباً،

    وكل المعادن الأخرى التي تعرض للنار تحترق إلا الذهب، أما الذهب فإنه يزداد لمعاناً.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن داود عليه السلام كان أفضل بعد الابتلاء منه قبل الابتلاء.

    فأنت لا تدري إذا ابتليت هل تثبت أم لا.

    قال الإمام أحمد بن حنبل: جلدوني في يوم الإثنين ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليّ، ولم أدر ما صنع بي،

    وكان الأمير يقول: يا أحمد! قل: إن القرآن مخلوق.

    فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً أقول به.

    فأمر الجلاد أن يضربه ضرباً مبرحاً، فجلده ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليه.

    قال الإمام أحمد -قبل أن يقدم على الجلد- جاءني رجل لا أعرفه، فقال: يا أبا عبد الله! انظر.

    قال: فنظرت خلفي، فإذا أمم معهم المحابر والأقلام سيكتبون فقال: اتقِ الله في هؤلاء، سيكتبون ما تقول،

    ( إذا زل العالِم زل بزلته عالَم ) فصبر على الحق المر لأجل هدف عظيم.

    عندما قال الراهب للغلام: (إن ابتليت فلا تدل عليّ) إنما قال ذلك تجنباً للبلاء.

    وعندما جيء بالراهب قالوا له: ارجع عن دينك.
    قال: لا.
    فنشروه بالمنشار نصفين حتى سقط شقاه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سقط شقاه).

    ربما يقول أحدهم: كيف تحمل الرجل نشر الجمجمة، ونشر هذا الجسم وهو حي؟!

    قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النسائي وغيره:

    ( الشهيد لا يجد مس القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة يقرصها),

    تحقيق الألباني : حسن صحيح، ابن ماجة (2802), الصحيحة الجزء الأول (960)
    الكتاب : صحيح وضعيف سنن النسائي .


    لأن الله عز وجل يدافع عن أوليائه، فإذا ابتلى أحدهم صبَّره فله الحمد في الأولى والآخرة،

    فهذا الصبر على الابتلاء المر فيه ذكرى وسمعة وسيرة،

    ها نحن حتى الآن نتكلم في سيرة الراهب، ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف نسبه، ولا نعرف إلى أي قبيلةٍ ينتمي،
    ومع ذلك نحن نحكي حكايته لله وفي الله.

    سبب تأجيل الملك قتل الغلام

    لماذا لم يأمر الملك بقتل الغلام وشقه نصفين؟ لأنه لو رجع عن قوله فإن المشكلة ستحل،
    ولكن لو أنه قتله فمن أين له بغلام مثله؟ فدخل في المساومات.


    محاولة قتل الغلام بإغراقه في البحر

    وعندما رجع الغلام إلى الملك قال له: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.

    كان هذا كاف ليرجع الملك ويرعوي، ولكنه دعا فوجاً آخر من جنوده وقال: خذوه في قرقور.

    فالماء معروف أنه لا ينجو منه أحد، بخلاف الجبل؛ لأنه قد يسقط من أعلى الجبل فلا يموت.

    حدث أن شخصاً في القاهرة الكبرى سقط من الدور العاشر، وبعد أن سقط من ذلك الارتفاع الكبير قام وكأنه لم يسقط، وعندما قام يمشي إذا بسيارة مسرعة ترتطم به فيسقط ميتاً، انظر كيف مات؟

    قال الملك بعد أن أمر بأخذه إلى البحر: فإن آمن وإلا لججوا به.

    يعني: أرموه في لجة البحر؛ لأنه لن يستطيع أن يعوم، وسيكون طعاماً للسمك.

    البحر مرعب دائماً، والذي يركب السيارة لا يخاف مثل ما يخاف من الباخرة
    لماذا؟
    لأنه عندما ينظر من شباك الباخرة ينظر إلى البحر الذي لا يدرك آخره بصره، فيحصل له الرعب.

    والعرب كانوا يخافون من البحر

    وقد كانوا يضربون به المثل في أشعارهم،

    يقال: أن رجلاً أتى
    أبا العباس المبرد رحمه الله، وكان إماماً في النحو واللغة،
    فقال: أريد أن أقرأ عليك كتاب سيبويه في النحو،
    فقال له أبو العباس: أي بني! هل ركبت البحر؟

    تريد أن تفهم كتاب سيبويه، ماذا تظن سيبويه هذا؟! هل تظن أنك ستذهب تفتح الكتاب وتقرأ فتفهم!

    إن كتاب سيبويه من أصعب الكتب منالاً،
    ولذلك سماه: "الكتاب"، لم يقل: كتاب النحو، ولا علم النحو، ولا أي شيء من هذا، بل قال: "الكتاب".

    إنما قال له: (أي بني! هل ركبت البحر؟) استعظاماً للكتاب!

    وسيبويه رحمه الله مات وعمره اثنان وثلاثون سنة، فالأمة هذه مليئة بالعظماء.

    المهم: الملك عندما أحب أن يعرضه لتهديد أشد من هذا - أن يرمى من الجبل-

    قال: لججوا به البحر، فلما وصلوا البحر قالوا له: آمن وإلا رميناك في البحر، فلم يؤمن لهم،

    وقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا.

    حسناً: كيف عاد الغلام؟!

    {
    مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]،

    رجع في معية الله، فالغلام عندما أخلص دينه لله، ترك مسألة الأمن لربه تبارك وتعالى فأمّنه،

    والمسألة كلها معلقة بهذا القلب.

    مرة وأنا مسافر في إحدى السفريات، وكان هناك رجل بجانبي في الطائرة،
    ويبدو على هذا الرجل أن يسافر بالطائرة لأول مرة.
    المهم: الطائرة بدأت في مغادرة المطار، فبدأ هذا الرجل يرتجف من شدة الخوف،

    فلما طارت الطائرة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه لا أحد سيخلصه،
    وقد وقع الفأس في الرأس، وصرنا في قبضة الملك.

    المهم: بعد أن تناولنا الطعام، أردت أن أتعرف على هذا الرجل،

    فقلت له: يا أخي! أنا سمعتك تقول كذا وكذا لماذا؟

    قال: أما ترى ما نحن فيه؟! نحن بين السماء والأرض.

    قلت له: نعم، نحن بين السماء والأرض فعلاً، لكن أنا سمعت منك كلمةً جميلة، قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.

    قال: نعم، وهل بيدنا شيء؟

    قلت له: وإذا مشيت على الأرض بقدميك هل بيدك شيء أيضاً.

    يعني: هل تظن عندما تمشي على الأرض برجليك أنك ملكت أمرك؟

    ولما كنت مثل الشعرة بين السماء والأرض لم تعد تملك أمرك؟!

    وهناك أناس يعاملون الله بهذه الطريقة، سبحان الله!

    ولذلك نحن في هذا الدرس العظيم أعظم شيء نأخذه:

    أن من كان في معية الله عز وجل يجد الله معه، وإن ابتلي وأهين وشرد

    فلما رأى الملك الغلام قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.

    ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تعقل ما آمرك به.

    فقال: وما ذاك؟
    قال: أن تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.

    فالرجل ظن أن المشكلة انتهت ولكنها ابتدأت !

    جمع الناس في صعيدٍ واحد، وفعل ما أوصاه به الغلام، فصلبه، ووضع السهم في كبد القوس،

    ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم حيث أشار الغلام، فلما وقع السهم في صدغه مات.

    فقال الناس جميعاً: ( آمنا بالله رب الغلام ).

    لماذا؟ لأن رب الغلام قادر، الملك حاول أن يميته أكثر من مرة وعجز،

    إذاً نحن مع القوي، والعوام مذهبهم، أن من يغلب يذهبون معه،

    يقولون: نحن مع القوي الذي يعطينا لقمة العيش والأمان !

    فلما ضربه ومات قالوا: آمنا بالله رب الغلام.


    لاحول ولاقوة إلا بالله

    تعليق


    • #3

      محاولة قتل الغلام بقذفه من الجبل


      فقال لجنوده: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن تاب وإلا اقذفوه من أعلى الجبل.

      المساومة إلى آخر الطريق، (إن تاب وإلا )

      يعني: المفروض أن يحاولوا معه أن يرجع عن دينه ويساوموه،

      لماذا؟

      لأن الملك يحتاج إليه، فالساحر شارف على الموت، فالملك إنما قتل الراهب وجليسه؛ لأنه لا يستفيد منهما؛ بخلاف الغلام.

      وعندما وصلوا إلى قمة الجبل، قال: رب اكفنيهم بما شئت.

      وذكرت هنا كلمةٍ لـ ابن الجوزي رحمه الله، يقول فيها:

      (رب لا تعذبني حتى لا يقولوا عذب من دل عليه).

      قال: رب اكفنيهم بما شئت -صدق رجائه بالله أتى بالثمرة- فتحرك بهم الجبل فسقطوا، وثبت الله قدميه.

      كلما صدق رجاؤك بالله أتى بثمرة، فأخلص دينك لله يكفيك العمل القليل،

      الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلبك، ويؤاخذك على ما كسب قلبك،

      فإذا انفعلت الجوارح بعد ذلك بعمل القلب يحاسب العبد: إن كان خيراً فخير، وإن شراً فشر؛

      لكن القلب هو الأصل.

      وانظر إلى مثال آخر يظهر فيه صدق الرجاء أكثر،

      وهي
      قصة جريج العابد، والقصة صحيحة: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال:

      تحدث بنو إسرائيل عن عبادة جريج، وهذا الرجل كان عابداً، اعتزل الناس وبنى له صومعة في خارج البلد،

      وحتى يجتنب الناس لم يصنع لهذه الصومعة سلماً، وكان يصعد إليها بالحبل ويسحب الحبل؛

      لكي لا يأتي عليه أي مخلوق فيقطع عليه خلوته.


      وكانت له أم تشتاق إليه، فجاءت في يوم فقالت: يا جريج ! أجبني، ووضعت يدها على حاجبها -

      قال أبو هريرة: فكأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده على حاجبه- فصادفته وهو يصلي،

      فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي - يعني أقطع صلاتي وأجيب أمي أم أكمل صلاتي وأتركها؟

      فاختار صلاته.

      فانصرفت الأم، وفي اليوم الثاني جاءته وقالت له: يا جريج! أجبني، يا جريج! أجبني.

      قال: يا رب أمي وصلاتي، أمي وصلاتي.

      فاختار صلاته، فتركته وانصرفت،

      وفي اليوم الثالث جاءته وقالت: يا جريج أجبني، يا جريج أجبني فلم يجبها،

      فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات.

      وأصبح الناس يتكلمون ويتعجبون من فعل جريج !

      ويقولون: ما هذا الصبر على الصلاة واعتزال الناس!

      حتى إنه لا ينظر إلى النساء ولا يرغب بزواج فقالت امرأة: أنا أستطيع أن أفتنه.

      فقالوا: أحقاً تستطيعين؟ فقالت: نعم.

      فقالوا لها: افعلي ذلك.

      فذهبت للصومعة تريد أن تصعد إليه، فوجدت أن جريجاً أخذ الحبل معه، ولا أحد يستطيع أن يصعد إليه،

      فمكنت راعي الغنم الذي كان يأوي إلى ظل الصومعة من نفسها، فحملت، وكانت حين تسأل تقول: هذا ابن جريج،

      والناس يقولون: هل يعقل أن جريجاً فعل هذه الفاحشة؟!

      حسناً: اصبري حتى تضعيه ونحن سنريه،

      فوضعت المرأة، فذهبوا إلى الصومعة وبدءوا في هدمها،

      وإذا بـ جريج يحس بالضرب في الصومعة، فينظر فإذا هم يهدون صومعته، قال لهم: على رسلكم.

      فقالوا: انزل يا فاجر

      فمد الحبل ونزل، فأمسكوا به وضربوه وكتفوه، وقالوا: ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا! فعلت وفعلت!

      وأخذوه لحاكم القرية - ذكر في شرح القصة أن المرأة الزانية بنت حاكم القرية -.

      المهم: أخذوه، والكل يتفرج، والمومسات هنا وهناك، فضحك، فقالوا: لماذا تضحك؟

      وهل هذا موقف يضحك المرء فيه؟!

      قال: أدركتني دعوة أمي.

      فأخذوه إلى حاكم القرية، فقال له: ما هذا يا جريج؟! كيف فعلت ذلك،
      لنقيمن عليك الحد.

      وترك المرأة ! كيف يقيم الحد عليه ويترك المرأة ؟ لأنهم يهود، وهذه أخلاقهم.

      فضحهم الله عز وجل في القرآن من أوله إلى آخره،

      ولكن الأمة الإسلامية عميت، كيف عميت عن الأوصاف الموجودة لليهود في القرآن؟!

      القرآن عربي مبين، واضح كالشمس، لا يحتاج إلى ترجمة، كل يوم تظهر صفاتهم التي ذكرها الله عز وجل في القرآن،

      والدعاة إلى الله عز وجل ما غيروا رأيهم في اليهود أبداً؛ لأنهم يجدونها مبينة في القرآن.

      فلما أرادوا أن يقيموا عليه الحد، قال لهم: حسناً، أتوضأ وأصلي ركعتين،

      فلما أكمل صلاته قال: أين الغلام؟

      فجيء به، فوضع أصبعه في بطن الغلام وهو مولود فقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي فلان،


      حينئذٍ أكبوا عليه يقبلون يديه ورجليه، وقالوا: اعذرنا يا جريج، نبني لك صومعتك لبنة من فضة ولبنة من ذهب!

      قال: لا، أعيدوها طيناً كما كانت.

      فالغلام عندما نطق كانت هذه معجزة من المعجزات التي يؤيد الله بها عباده.

      جاء في الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:

      (بينما أمٌ ترضع ولدها)، وبينما الولد يرضع،

      مر رجل له شارة عظيمة، رجل يركب حصاناً، وحوله عشرون رجلاً من الإمام والخلف،

      فقالت الأم: اللهم اجعل ابني مثله.

      فترك الغلام ثدي أمه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ورجع يرضع مرة أخرى!

      قال: أبو هريرة: (فكأنني أنظر إلى إصبع النبي صلى الله عليه وسلم في فمه يمثل رضاع الولد)

      كل هذا لكي يقرب الصورة.

      ثم مرت فتاة يعذبونها ويضربونها إمام لأنها سرقت أو زنت فقالت الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها.

      فترك ثدي أمه وقال: اللهم اجعلني مثلها
      .

      فقالت له أمه: مه! -ما هذا الطفل؟! كلما قلت شيئاً قال عكسه،

      فقيل: إن هذا جبارٌ وتلك أمة مؤمنة.

      بقدر ما يكون لله من التعظيم في قلبك بقدر ما تؤيد بالدلالات والآيات،

      المهم أن تخلص دينك وقلبك لربك، والله سبحانه وتعالى شكور،

      الذي يخلص له ذرة يجدها عنده، فلا يضيعها عليه؛

      لأنه قضى أن الحسنات يذهبن السيئات، إلا سيئات الشرك والعياذ بالله فإنها تذهب بكل الحسنات،

      ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول - بعدما ذكر شفاعة المؤمنين والملائكة-:

      (
      يبقى أرحم الراحمين، فيقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً)؛ لأنه شكور،

      لا يضيع شيئاً استودعته عنده أبداً، فلماذا تفر منه؟! هو شكور،

      إذا رق قلبك لله عز وجل رأيت من الآيات البينات ما لم تجر به العادات.

      قال الغلام: رب اكفنيهم بما شئت، فارتج بهم الجبل، فسقطوا ورجع هو، فالله عز وجل يستخدمه،


      وإلا كان من الممكن أن يهرب ويذهب إلى أي مكان آخر، لكن رجع للملك، ونسأل الله عز وجل أن يستخدمنا في طاعته.


      بيان أن كل ابتلاء بعده نصر


      لو أن الملك ترك الغلام يدعو إلى الله والراهب يدعو إلى الله والجليس يدعو إلى الله

      هل يمكن أن يجعلوا هذه الجماهير كلها تؤمن؟

      أبداً،

      لكن انظر إلى الله عز وجل كيف يستدرج!

      ولو تركهم لعلهم لا يصلون أبداً إلى هذا العدد؛

      لذلك لحسن ظنك بالله قل: من المحن تأتي المنح، إذا ابتليت فاعلم أن وراء الابتلاء نصر.

      فعندما قال الجماهير: آمنا بالله رب الغلام، صدم الملك! مفاجأة ما توقعها!

      وقيل له: وقع والله ما كنت تحذر!

      حسناً: ماذا أفعل؟

      حفر الأخاديد على أفواه السكك - والأخاديد: هي الحفر العظيمة- وأضرم فيها النيران،

      وبدأ يعرض الناس على هذه الأخاديد، فمن آمن برب الغلام قذفه فيها، نسأل الله العافية!

      حتى جاء دور الأم مع رضيعها، فكلما همت أن تقذف نفسها في النار ذكرت ولدها الصغير فرحمته وتقاعست

      فأنطقه الله فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.

      خلاصة هذه القصة:

      أنك إذا بذلت نفسك لله لا يضيعك حتى في الدنيا فلم الفرار؟!


      فأنت إذا ابتليت في الله تبارك وتعالى فاصبر، وهذا هو أعظم الدروس المستفادة،

      بل هو محور الارتكاز للثبات على السنة: أن من ابتلي في الله فصبر رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة.

      أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم
      .


      منقول بإيجاز بسيط - من دروس مفرغة للشيخ المحدّث ابواسحاق الحويني .

      والله أعلم

      وفقكم الله

      لاحول ولاقوة إلا بالله

      تعليق

      يعمل...
      X