إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم



    بسم الله الرحمن الرحيم





    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

    هذه سلسلة متتابعة عن سيرة سلفنا الصالح خاصة الأوائل الذين ضحوا بالغالي والنفس والنفيس في سبيل عزة الإسلام ورفعة رايته ، هذا السلف الذي تحمل من المتاعب والمصاعب وجعل جسده وفكره وماله وولده درعاً يحمي به الإسلام ويدافع عن هذا الجيل الذي لولا الله ثم هذا الإسلام لما وصلنا هذا النور هذا الجيل همه نصرة الدين ورفع الملة في كل مكان من أرض الله الواسعة وبسبب بعد الله أخرجت أمم هائلة من الشرك إلى الإسلام ومن الوثنية إلى التوحيد ومن التثليث إلى عقيدة التوحيد .
    هذا السلف الذي جعل همه نصرة الدين ورفع المِله في كل مكان من أرض الله الواسعة ، وبسببه بعد الله أخراج أمم هائلة من الشرك إلى الإسلام من الوثنية إلى التوحيد من التثليث إلى عقيدة التوحيد .
    وبسببه بعد الله وصل دين الله إلى باريس وبكين والأندلس وشمال أفريقيا وجنوبها وكثير من أرض الله الواسعة .
    ولنتذكر سوياً مقولة أحد هؤلاء الأبطال عندما فتحوا إحدى البلاد فحال بينهم وما بعدها بحر ، فنظر إليه يتعجب، وبما أنه لا يعرف الأقاليم والجغرافيا قال قولة تدل على التضحية والعزم والتصميم في خدمة دين الله تبارك وتعالى ، كلمة تدل على صدق النية والإخلاص لله ولرسوله وللمسلمين قال : ( والله لو أعلم أن خلف هذا البحر أحد من الناس لقطعته لإخراجهم من الظلمات إلى النور ) .
    نعم نحن أمة ليس لنا عزة إلا بالله ثم بالإسلام فإذا ما ابتغينا العزة من غيره سيذلنا الله .
    وهذا ما عبر عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال قولته المشهورة والتي صدرت من قلب مخلص ذو نية صادقة لنصرة الدين الإسلامي والذي هو آخر الأديان ولا يرضى رب العالمين ديناً سواه . قال تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) .
    إن سلفنا الصالح الذين أنار الله بصائرهم بدين الله تعالى وخاصة أولئك القوم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم علينا نحن المتأخرين حقوق كثيرة ولهم فضل كبير ومعروف عظيم بسببه يستحقون منا أن نتحدث عن سيرهم وأخبارهم والجهود التي قدموها خدمة للدين والعقيدة ، ودفاعًا عن الإسلام ورسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم .
    وأي أمة لا تحترم ماضيها ولا تلقي وزناً لرجالاتها المخلصين فهي أمة ضائعة وستزول عاجلاً أم آجلاً ، إن الحديث عن شخصياتنا الإسلامية العظيمة مما ينعكس فوائده على أمة الإسلام كالاعتراف بالجميل لأهله ورد الفضل إلى مستحقه ، عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكرُ الله من لا يشكرُ الناسَ» وربط الحاضر بالماضي ، ومن ثم ربطه بالمستقبل حتى تبقى الأمة الإسلامية متماسكة مترابطة بعضها يشد بعضاً ويتعاون بعضها مع بعض استجابة لأمره تعالى : (وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
    إن حق الأجيال الماضية علينا أن نترحم عليهم وندعوا لهم ونستمطر لهم رحمة الله تعالى وهذا لا يحصل إلا بالتذكير وعرض الأسماء أو الصفات والأعمال التي قاموا بها ، إنهم في أساتذة ومعلمون وفقهاء ورواد الإصلاح بشتى أنواعه لهذا يجب علينا نحن الأجيال المتأخرة أن نهتم بشخصياتنا الإسلامية خاصة الرعيل الأول الذين تحملوا العبء الأكبر من هذه الدعوة الإسلامية الإصلاحية .
    ما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى من يزيل عن تاريخ هذه الأمة الإسلامية ما علقه من الشكوك والشبهات التي كثيرأً ما يثيرها أعداء هذه الأمة من اليهود والنصارى والمستشرقين منهم خاصة والباطنية بجميع مللهم ونحلهم حيث يصورون تاريخ الأمة عبارة عن مجالس لهو ودعة وقصور وخمور ، ونحو ذلك مما يتجنون به على تاريخنا وحضارتنا .

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية


  • #2
    رجال حول الرسول
    كتاب يحتوي على سيرة ومواقف 62 صحابي مع الرسول صلى الله علية وسلم وأبدأها بإذن الله مع الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه .



    مصعب بن عمير
    أول سفراء الإسلام

    هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.
    غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
    يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..
    ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
    ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
    ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟
    بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
    انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
    ولكن أي واحد كان..؟
    ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
    لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
    "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.

    وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
    ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..

    ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
    هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.

    ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
    ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!

    كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
    ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
    فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
    أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
    ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
    وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..

    ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
    ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...

    ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
    وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
    ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
    وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..

    ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
    ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..

    خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
    ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
    وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
    " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!

    لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
    ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
    وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
    وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...
    أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!
    وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...

    وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
    كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
    وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..

    لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
    وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".
    لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
    فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..

    هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..
    ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
    ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
    ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..

    أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
    وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
    وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
    "ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
    وفي مثل هدوء البحر وقوته..
    وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
    "أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
    الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!

    كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
    هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
    ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
    ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
    "ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
    وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
    "يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".
    فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
    وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!

    لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
    وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
    وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
    حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
    وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
    يد تحمل الراية في تقديس..
    ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
    ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..

    لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
    يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
    [حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
    وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
    ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
    وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
    وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
    وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
    كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
    ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
    (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
    هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
    وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
    لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
    أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
    لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
    وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
    وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
    يقوا خبّاب بن الأرت:
    [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..
    وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
    وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
    على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
    أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
    (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
    ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
    وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
    "ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
    ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
    "أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..



    السلام عليك يا مصعب..
    السلام عليكم يا معشر الشهداء..
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..




    يتبع

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #3
      بسم الله الرحمن الرحيم
      الاخ الكريم ( ابو ابراهيم ) صباحو
      فعلا هي من القصص الرائعه والمؤثره وجزاك اللع عنا وعن المسلمين كل الخير
      ورحم الله مصعب بن عمير واسكنه فسيح جنانه
      اللهم نسالك علماُ نافعاً

      تعليق


      • #4
        أخي ابو رافت بارك الله فيك

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #5
          الباحث عن الحقيقة الصحابي الجليل سلمان الفارسي



          [SIZE="3"] من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..
          ومن بلاد فارس، عانق الإسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الإيمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..
          وإنها لإحدى روائع الإسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله ويثير في إعجاز باهر، كل نبوغها ويسخرّ: كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فإذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسامون..
          واذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الإسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والإرادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!
          لقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا بل وُعد به وعد صدقٍ من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الإسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..
          وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.
          كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
          ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!
          وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
          وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
          وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
          (اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).
          أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..
          وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الاسلام خطرا عليها.
          انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..
          ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
          وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
          وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
          هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.
          تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
          وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
          والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..
          ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!
          خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
          كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
          وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
          وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
          وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..
          وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فاذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
          ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
          "الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتي ظاهرة عليها"..

          ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت لظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:
          "الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء، وان أمتي ظاهرة عليها".

          ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون في إيمان عظيم:
          هذا ما وعدنا الله ورسوله.
          وصدق الله ورسوله..!!
          كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما إلى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مداءن الفرس والروم..
          رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
          رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!

          وها هو ذا جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى المسيحية، ثم إلى الإسلام..
          كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!
          كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
          كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟
          تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه..

          كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها "جي"..
          وكان أبي دهقان أرضه.
          وكنت من أحب عباد الله إليه..
          وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو..
          وكان لأبي ضيعة، أرسلني إليها يوما، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمهتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري...
          وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام..
          وقلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..
          فحاورني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..
          وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام..
          وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي وأتعلم..
          وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الإنس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه.
          ثم مات..
          وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..
          وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
          قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل..
          فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، سألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
          ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا.. يهاجر إلى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص إليه فافعل.
          وان له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
          ومر بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
          واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.
          وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
          وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
          واني لفي رأس نخلة يوما، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بني قبيلة اهنم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..
          فوالله ما أن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
          فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟
          أقبل على عملك..
          فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به..
          ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا..
          فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!
          ثم رجعت وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله..
          وأكل معهم..
          قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية..!!
          ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتلن مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي..
          فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..
          ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
          وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك"، فكاتبته، وأمر الرسول أصحابه كي يعينوني ، وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها.
          هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.
          هذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة..
          فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان..؟
          أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟
          أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعا مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، ينتقل من أرض إلى أرض.. ومن بلد إلى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس، والمذاهب والحياة.. ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمون يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!
          ماذا نتوقع أن يكون إسلام رجل هذه همته، وهذا صدقه؟
          لقد كان إسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده، وفطنته، وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب.
          أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.
          وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم، وكان نافلة..
          فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له..؟ّ
          فأجابه سلمان قائلا:
          إن لعينك عليك حقا، وان لأهلك عليك حقا، صم وافطر، وصل ونم..
          فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
          " لقد أشبع سلمان علما ".
          وكان الرسول عليه السلام يرى فطنته وعلمه كثيرا، كما كان يطري خلقه ودينه..
          ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..
          وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".

          وانه بهذا الشرف لجدير..
          وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:
          [ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟
          أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف].
          ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.
          ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، اذ جمع أصحابه وقال لهم:
          "هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
          وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
          لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا.
          وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.
          وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الإسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل الى المدينة فيئا وجزية، فتورّع الإنس في صورة أعطيت منتظمة، ومرتبات ثابتة.
          وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
          فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟
          افتحوا أبصاركم جيدا..
          أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
          انه سلمان..
          أنظروه جيدا..
          أنظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد إلى ركبته..
          انه هو، في جلال مشيبه، وبساطة أهابه.
          لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول:
          "أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!
          ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
          ثم ماذا يا شرف الإنسانية في كل عصورها وواطنها..؟؟
          لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر وإخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
          فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
          ما باله يرفض إمارة ويهرب منها ويقول:
          "إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
          ما باله يهرب من الإمارة والمنصب، إلا أن تكون إمارة على سريّة ذاهبة إلى الجهاد.. وإلا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها إكراها، ويمضي إليها باكيا وجلا..؟
          ثم ما باله حين يلي على الإمارة المفروضة عليه فرضا يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال..؟؟
          روى هشام عن حسان عن الحسن:
          " كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها.."
          "وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه..".
          ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وه الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة..؟
          لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
          دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
          قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
          فأجابه سلمان:
          " والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا، فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهاأنذا حولي هذه الأساود"!!
          يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
          قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله إلا جفنة ومطهرة، فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك، فقال:
          " يا سعد:
          اذكر عند الله همّتك إذا هممت..
          وعند حكمتك إذا حكمت..
          وعند يدك إذا قسمت.."
          هذا هو إذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموا%u

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #6
            الله يعطيك العافيه اخي صباحو



            تعليق


            • #7
              عافاك الله اخي الفقير الى رب العالمين

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #8
                أبو ذر الغفاري
                زعيم المعارضة وعدو الثروات

                أقبل على مكة نشوان مغتبطا..
                صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم، بيد أن الغاية التي يسعى اليها، أنسته جراحه، وأفاضت على روحه الحبور والبثور.
                دخلها متنكرا، كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام.. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه، أو طال به السفر والارتحال فأوى إليها يستريح ويتزوّد.
                فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمع إليه لفتكوا به.
                وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به، ولكن بعد أن يقابل الرجل إلي قطع الفيافي ليراه، وبعد أن يؤمن به، ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..
                ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد، وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر، حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد، وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.
                في صبيحة يوم ذهب إلى هناك، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالسا وحده، فاقترب منه وقال: نعمت صباحا يا أخا العرب..
                فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا أخاه.
                قال أبو ذر:أنشدني مما تقول..
                فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم.
                قال أ[و ذر: اقرأ عليّ..
                فقرأ عليه الرسول، وأبو ذر يصغي.. ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر:
                "أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!
                وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب..؟
                فأجابه أبو ذر: من غفار..
                وتألقت ابتسامة على فم الرسول صلى الله عليه وسلم، واكتسى وجهه الدهشة والعجب..
                وضحك أبو ذر كذلك، فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالإسلام أمامه إنما هو رجل من غفار..!!
                فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق..!!
                وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع.. إنهم حلفاء الليل والظلام، والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار.
                فيجيء منهم اليوم، والإسلام لا يزال دينا غصّا مستخفيا، واحد ليسلم..؟!
                يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه:
                ".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا، لما كان من غفار، ثم قال: إن الله يهدي من يشاء.
                ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى، وأراد بهم الخير.
                وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى، وأراد بهم الخير.
                وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين كانوا يتألهون في الجاهلية، أي يتمرّدون على عبادة الأصنام، ويذهبون إلى الإيمان باله خالق عظيم. وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصنام وعبّادها، ويدعو إلى عبادة الله الواحد القهار، حتى حث إليه الخطى، وشدّ الرحال.

                أسلم أبو ذر من فوره..
                وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..
                إذن، هو قد أسلم في الأيام الأولى، بل الساعات الأولى للإسلام، وكان إسلامه مبكرا..
                وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا.. يهمس بها إلى نفسه، والى الخمسة الذين آمنوا معه، ولم يكن أمام أبي ذر إلا أن يحمل إيمانه بين جنبيه، ويتسلل به مغادرا مكة، وعائدا إلى قومه...
                ولكن أبا ذر، جندب بن جنادة، يحمل طبيعة فوارة جيّاشة.
                لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون.. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه.. حجارة مرصوصة، ميلاد عابديها أقدم من ميلادها، تنحني أمامها الجباه والعقول، ويناديها الناس: لبيك.. لبيك..!!
                وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.
                لقد توجه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فور إسلامه بهذا السؤال:
                يا رسول الله، بم تأمرني..؟
                فأجابه الرسول: ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري..
                فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد..!!
                ألم أقل لكم..؟؟
                تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة، أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به، وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع الى أهله صامتا.؟
                هذا أمر فوق طاقته..
                هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته:
                [أشهد أن لا اله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله]...
                وكانت هذه الصيحة أول صيحة بالإسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى..
                ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..
                وترامى النبأ إلى العباس عم النبي، فجاء يسعى، وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم إلا بالحيلة لذكية، قال لهم :
                "يا معشر قريش، أنتم تجار، وطريقكم على غفار،، وهذا رجل من رجالها، إن يحرّض قومه عليكم، يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا إلى رشدهم وتركوه.
                ولكن أبا ذر، وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله، لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد...!!
                وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف، واثلة) ودعواتهما، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان، ويهرول الرجال كالجراد، ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..
                وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله". ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل، بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه، حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..
                ويعود أبو ذر إلى عشيرته وقومه، فيحدثهم عن النبي الذي ظهر يدعو إلى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق، ويدخل قومه في الإسلام، واحدا اثر واحد.. ولا يكتفي بقبيلته غفار، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!
                وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة، ويستقر بها والمسلمون معه.
                وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان، أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..
                اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ووجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
                لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم، جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا، شيوخا وشبابا، وأطفالا..!!
                وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..
                فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن إسلامه وإيمانه، وقال معبّرا عن دهشته:
                "إن الله يهدي من يشاء"..!!
                أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في الإسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر، وتجيء معها قبيلة أسلم..
                ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
                أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟
                لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
                ونظر الى قبيلة غفار وقال:
                "غفار غفر الله لها".
                ثم الى قبيلة أسلم فقال:
                "وأسلم سالمها الله"..
                وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة، العزيز المنال.. ألا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟
                أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا، وتحيته مباركة..
                ولسوف يحمل صدره، ويحمل تاريخه، أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..
                ولسوف تفنى القرون والأجيال، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:
                " ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!
                ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه، حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..
                أصدق لهجة في أبي ذر..؟
                لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه، ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..
                فالصدق الجسور، هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
                صدق باطنه، وصدق ظاهره..
                صدق عقيدته وصدق لهجته..
                ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه، ولا يغالط غيره، ولا يسمح لأحد أن يغالطه..
                ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..
                انما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..
                الصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه..
                ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته، فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.
                وألقى الرسول يوما هذا السؤال:
                " يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟
                فأجاب قائلا:
                "اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي".!!
                فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
                "أفلا أدلك على خير من ذلك..؟
                اصبر حتى تلقاني".
                ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
                الأمراء.. والمال..؟؟
                تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
                ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال، ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..
                ولسوف يحفظ أبو 1ر وصية معلمه، فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
                أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم، فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..
                ولسوف يفعل..
                ومضى عهد الرسول، ومن بعده عصر أبي بكر، وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
                حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة، لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا.
                وأيامئذ، لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة...
                ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر، فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض، زهدا وتقشفا، وعدلا يكاد يكون فوق طاقة البشر..
                إن واليا من ولاته في العراق، أو في الشام، أ، في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة، لا يكاد يصل إليها نوعا من الحلوى، لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه، حتى يكون الخبر قد وصل إلى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي إلى المدينة ليلقى حسابه العسير..!!
                ليهنأ أبو ذر إذن.. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..
                وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقه استغلال السلطة، واحتكار الثروة، فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة، وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
                وهكذا تفرغ لعبادة ربه، وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت إذا رأى مخالفة هنا، أو هناك.. وقلما كان يرى..
                بيد أن أعظم، وأعدل، وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم، تاركا وراءه فراغا هائلا، ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به. وتستمر الفتوح في مدّها، ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها..
                ويرى أبو ذر الخطر..
                ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..
                ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري، توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..
                ان المال الذي جعله الله خادما مطيعا للانسان، يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد..ومع من؟
                مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة، في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه..!!
                ان خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا.. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية..
                ان السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار، تتحول الى سبيل للسيطرة، وللثراء، وللترف المدمر الوبيل..
                رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه، ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول، فأعاد السيف الى غمده، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
                (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ)
                ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض..
                وليس السيف أداة التغيير والتقويم، بل الكلمة الصادقة، الأمينة المستبسلة..
                الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها، ولا ترهب عواقبها.
                لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من أصحابه، أن الأرض لم تقلّ، وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..
                ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة، وصدق الاقتناع، فما حاجته الى السيف..؟
                ان كلمة واحدة يقولها، لأمضى من ملء الأرض سيوفا..
                فليخرج بصدقه هذا، الى الأمراء.. الى الأغنياء. الى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم الى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا، لا جابيا.. ونبوة لا ملكا،.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة، لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..
                فليخرج الى هؤلاء جميعا، حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق، وهو خير الحاكمين.
                وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة، يغزوها بمعارضته معقلاً معقلا.. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون.. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طاره اليها ذكره. وأصبح لا يمر بأرض، بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تساؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء.
                ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا، فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الانس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات:
                "بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"..!!
                لا يصغد جبلا، ولا ينزل سهلا، ولا يدخل مدينة، ولا يواجه أميرا الا وهذه الكلمات على لسانه.
                ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات:
                " بشّر الكانزين بمكاو من نار"..
                لقد صارت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها، حين رأى الثروات تتركز وتحتكر.. وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال.. وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع، وتفان وإخلاص..

                لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة.. هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلاد الاسلام خصوبة وخيرا وفيضا، وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب، يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة، ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو اليه طموحه البعيد.
                هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الدعوة، فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر..
                وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه، وسابق الريح الى الشام..
                ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق، والتفوا حوله أينما ذهب وسار..
                حدثنا يا أبا ذر..
                حدثنا يا صاحب رسول الله..
                ويلقي أبو ذر على الجموع حوله نظرات فاحصة، فيرى أكثرها ذوي حصاصة وفقر.. ثم يرنو ببصره نحو المشارف القريبة فيرى القصور والضياع..
                ثم يصرخ في الحافين حوله قائلا:
                " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الانس شاهرا سيفه"..؟؟!!

                ثم يذكر من فوره وصية رسول الله أن يضع الأناة مكان الانقلاب، والكلمة الشجاعة مكان السيف.. فيترك لغة الحرب هذه ويعود الى لغة المنطق والاقناع، فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط.. وأنهم جميعا شركاء في الرزق.. وأنه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى.. وأن أمير القوم ووليهم، هو أول من يجوع اذا جاعوا، وآخر من شبع اذا شبعوا..
                لقد قرر أن يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عامّا من كل بلاد الاسلام يكون له من الفطنة والمناعة، والقوة ما يجعله شكيمة لأمرائه وأغنيائه، وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم، أو محتكرة للثروة.

                وفي أيام قلائل، كانت الشام كلها كخلايا نحل وجدت ملكتها المطاعة.. ولو أعطى أبو ذر اشارة عابرة بالثورة لاشتعلت نارا.. ولكنه كما قلنا، حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه، وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق.
                ولقد بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه، يوم ناظر معاوية على ملأ من الناس. ثم أبلغ الشاهد للمناظرة، الغائب عنها. وسارت الرياح بأخبارها..
                ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة، كما وصفه نبيه وأستاذه..
                وقف يسائل معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما، وعن ثروته اليوم..!!
                وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة، وعن قصوره بالشام اليوم..!!
                ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع.
                ثم يصيح فيهم جميعا: أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم..؟؟
                ويتولى الاجابة عنهم: نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن، وشهدتم مع الرسول المشاهد..
                ثم يعود ويسأل: ألا تجدون في كتاب الله هذه الآية:
                (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.. يوم يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون)..؟؟

                ويختلام معاوية طريق الحديث قائلا: لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب..
                ويصيح أبو ذر: لا بل أنزلت لنا ولهم..
                ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال.. وألا يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه..
                وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر..
                ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات:
                (بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)..
                ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، ولكنه يعرف له قدره، فلا يقرّ به بسوء، ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له:" ان أبا ذر قد أفسد الانس بالشام"..
                ويكتب عثمان لأبي ذر يستدعيه للمدينة.
                ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع..!!
                (لا حاجة لي في دنياكم)..!!
                هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل إلى المدينة، وجرى بينهما حوار طويل.
                لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه، ومن الأنباء التي توافدت عليه من كل الأقطار عن مشايعة الجماهير لآراء أبي ذر، بادراك صحيح لخطر دعوته وقوتها، وقرر أن يحتفظ به الى جواره في المدينة، محددا بها اقامته.
                ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا، رقيقا، فقال له:" ابق هنا يجانبي، تغدو عليك القاح وتروح"..
                وأجابه أبو ذر:
                (لا حاجة لي في دنياكم).!

                أجل لا حاجة له في دنيا الناس.. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح، ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا..!!
                ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له..

                ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله، حافظا في اعماق روحه النصيحة التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول رأى الغيب كله.. غيب أبي ذر ومستقبله، فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.
                ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لاشباع ولعهم وكيدهم.
                جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة، فزجرهم بكلمات حاسمة:
                " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أ جبل، لسمعت، وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي.."
                " ولوسيّرني ما بين الأفق الى الأفق، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي..
                " ولو ردّني الى منزلي، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي"..

                ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا، ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة.. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها.. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر، فتحاشاه أيضا، ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق، لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه..!
                لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل.

                وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال، فالحكم والمال يملكان من الاغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على اخوانه الذين حملوا راية الاسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.
                والحكم والمال أيضا، هما عصب الحياة للأمة والجماعات، فاذا اعتورهما الضلال تعرضت مصائر الناس للخطر الأكيد.
                ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول ألا يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة، وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى، وعبّادا لله..
                وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال، وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا.. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من اغراء الامارة ويقول عنها:
                ".. انها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة.. الا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها"...

                ولقد بلغ الأمر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم،لأنهم ولوا الامارات، وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..
                لقيه أبو موسى الأشعري يوما، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:" مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي".
                ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:
                " لست بأخيك، انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"..!
                كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا، ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:
                (اليك عني.. ألست الذي وليت الامارة، فتطاولت في البنيان، واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟
                ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..
                وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..
                ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه، ومع ايمانه، فأبو ذر يقف بأحلامه وأعماله.. بسلوكه ورؤاه، عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر..

                واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها، فان ابا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل، ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام، وصلوا وراءه، وجاهدوا معه، وبايعوه على السمع والطاعة.
                كما أنه يدرك بوعيه المضيء، ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصائر الناس، ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم، أو عدالة الثروة، يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.

                ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه، أمينا عليها، حارسا لها.. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الامارة والثروة،...
                عرضت عليه الامارة بالعراق فقال:
                " لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..
                ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:
                أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
                فأجابه أبو ذر: " يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني"..
                قال له: والله انك لمحتاج اليهما!!
                فأجاب أب ذر: "اللهم غفر.. انك لمعظّم للدنيا، ألست ترى عليّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟

                وجلس يوما يحدّث ويقول:
                [أوصاني خليلي بسبع..
                أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
                وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي..
                وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..
                وأمرني أن أصل الرحم..
                وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..
                وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
                وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله].

                ولقد عاش هذه الوصية، وصاغ حياته وفقها، حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..

                ويقول علي رضي الله عنه:
                "لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر"..!!
                عاش يناهض استغلال الحكم، واحتكار الثروة..
                عاش يدحض الخطأ، ويبني الصواب..
                عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير..
                يمنعونه من الفتوى، فيزداد صوته بها ارتفاعا، ويقول لمانعيه:
                " والذي نفسي بيده، لو وضعتم السيف فوق عنقي، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها"..!!

                ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه..
                إذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها، وعرّضت المجتمع والإسلام لأخطار، ما كان أقساها من أخطار.
                والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الاقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه، فتعالوا بنا اليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع، ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.
                ان هذه السيدة السمراء الضامرة، الجالسة الى جواره تبكي، هي زوجته..
                وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟
                فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت، وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!
                ".. لا تبكي، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين..
                وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري .. وهاأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق،، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين، فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
                وفاضت روحه الى الله..
                ولقد صدق..
                فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء، تؤلف جماعة من المؤمنين، وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.
                وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت، والى جواره سيدة وغلام يبكيان..
                ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان، حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر.
                وتفيض عيناه بالدمع، ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك".!
                ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...

                كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.
                وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
                وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
                ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين، تعللوا بشتى المعاذير..
                وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة، فجعل الرجل يتخلف، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول:
                " دعوه.
                فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..
                وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!
                وتلفت القوم ذات مرة، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:
                لقد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره..
                وأعاد الرسول مقالته الأولى..
                كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..
                وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..
                ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر، فنزل من فوق ظهر البعير، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه، مهرولا، وسط صحراء ملتهبة، كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..

                وفي الغداة، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
                وقال الذي رأى: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
                وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
                (كن أبا ذر)..

                وعادوا لما كانوا فيه من حديث، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم، وعندها يعرفون من هو..

                وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا، وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..
                وحين بلغ أول القافلة، صاح صائهحم: يار سول الله: انه والله أبا ذر..
                وسار أبو ذر صوب الرسول.
                ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية، وقال:
                [يرحم الله أبا ذر..
                يمشي وحده..
                ويموت وحده..
                ويبعث وحده..].

                وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد، مات أبو ذر وحيدا، في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده، وبطولة صموده..

                ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #9
                  بلال بن رباح

                  الساخر من الأهوال

                  كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:
                  " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
                  يعني بلالا رضي الله عنه..
                  وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
                  لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:
                  "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
                  فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
                  انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
                  انه احدى معجزات الايمان والصدق.
                  احدى معجزات الاسلام العظيم..
                  في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
                  أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!
                  وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبوا في سنوات دراسته الأولى في الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا....
                  في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
                  في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
                  فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
                  "أحد.. أحد.."
                  وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
                  لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
                  ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
                  بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
                  ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..
                  ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
                  فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
                  كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..
                  ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
                  أجل.. بلال بن رباح!
                  أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
                  انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
                  كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
                  ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
                  لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
                  وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
                  أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
                  ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
                  سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
                  عن وفائه..
                  عن رجولته وخلقه..
                  عن نزاهته ورجاحة عقله..
                  وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
                  وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
                  ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
                  عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
                  ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
                  ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!
                  أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..
                  لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
                  ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
                  لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..
                  لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
                  لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..
                  لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
                  ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..
                  ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
                  حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
                  نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"
                  يقولون له: قل كما نقول..
                  فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
                  "ان لساني لا يحسنه"..!!
                  ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".
                  وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
                  غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
                  فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".
                  ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
                  ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
                  "أحد.. أحد.."
                  ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
                  خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
                  ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
                  "أحد.. أحد.."
                  وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
                  ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
                  (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
                  ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
                  وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
                  لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
                  باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
                  وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
                  خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
                  وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
                  ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:
                  والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
                  وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
                  وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
                  فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
                  انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
                  لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
                  وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:
                  الله أكبر.. الله أكبر
                  الله أكبر .. الله أكبر
                  أشهد أن لا اله الا الله
                  أشهد أن لا اله الا الله
                  أشهد أن محمدا رسول الله
                  أشهد أن محمدا رسول الله
                  حي على الصلاة
                  حي على الصلاة
                  حي على الفلاح
                  حي على الفلاح
                  الله أكبر.. الله أكبر
                  لا اله الا الله...

                  ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
                  وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".

                  في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
                  ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
                  همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهذا، فإنما أنت من النساء..!!!
                  وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
                  ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
                  أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
                  لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
                  واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
                  كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
                  لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!
                  ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!
                  وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..
                  وبيد من..؟
                  بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
                  نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
                  مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
                  ولقد حدث هذا تماما..
                  وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
                  ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
                  "أحد..أحد"؟؟!!
                  أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
                  وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
                  وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..
                  وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.
                  وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
                  "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".
                  ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
                  "أي بلال.. انه أسيري".
                  أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
                  أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
                  لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..
                  سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!
                  ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
                  "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!
                  وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.
                  وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
                  "أحد.. أحد.."
                  لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
                  فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.
                  لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
                  السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.
                  وأين يبصره وكيف..؟
                  يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
                  في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
                  وتمضي الأيام وتفتح مكة..
                  ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
                  ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!
                  لقد جاء الحق وزهق الباطل..
                  ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..
                  ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!
                  ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل إبراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:
                  "قاتلهم الله..
                  ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".
                  ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.
                  ويؤذن بلال.. وفي روعة الزمان، والملكان، والمناسبة..!!
                  كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان وراء بلال.
                  والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
                  أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
                  أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
                  أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردناه، وقتلنا أحب الناس إليه..؟
                  أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:
                  "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!
                  ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
                  أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.
                  قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
                  لقد أكرم الله أسيادا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
                  أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!
                  وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
                  اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:
                  قد علمت الذي قلتم..!!!
                  ومضى يحدثهم بما قالوا..
                  فصاح الحارث وعتاب:
                  نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
                  واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:
                  " يا معشر قريش..
                  ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
                  الناس من آدم وآدم من تراب"..
                  وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..
                  وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..
                  لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!
                  ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
                  "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!
                  وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..
                  وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:
                  " يا خليفة رسول الله..
                  اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..
                  فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
                  قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت..
                  قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
                  قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
                  قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
                  قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..
                  قال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
                  ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
                  ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.
                  على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
                  ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
                  وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
                  ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
                  وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!

                  ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.

                  وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #10
                    بسم الله الرحمن الرحيم
                    بارك الله بك وجزاك كل الخير
                    اللهم نسالك علماُ نافعاً

                    تعليق


                    • #11
                      اشكر مرورك اخي ابو رافت ولك مثل ما قلت

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #12
                        عبد الله بن عمر

                        راهب الليل المثابر، الأوّاب

                        هو عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه - ويكنى بأبي عبد الرحمن، من أشهر رواة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                        يقول الإمام البخاري "أصح الأسانيد( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر )".
                        قال الإمام أحمد بن حنبل: أصح الأسانيد الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.
                        تحدّث ابن عمر وهو على قمة عمره الطويل فقال:
                        "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..فما نكثت ولا بدّلت إلى يومي هذا..وما بايعت صاحب فتنة..
                        ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..
                        في هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالإسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..
                        من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والإسلام..
                        ومن ذلك اليوم إلى اليوم الذي يلقى فيه ربه، بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما، سنجد فيه حيثما نلقاه، المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة، ولا يند عن بيعة بايعها، ولا يخيس بعهد أعطاه..
                        وان المزايا التي تأخذ الأبصار إلى عبدالله بن عمر لكثيرة.
                        فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..
                        كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة..
                        لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..
                        لقد أحسن كأبيه الإيمان بالله ورسوله.. ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..
                        فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة وإخبار..
                        هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
                        وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما...
                        وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبدالله جالسا..
                        وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..
                        بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
                        لكن عبدالله بن عمر لا يكاد يبلغ هذا المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين لله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..

                        لقد أثار فرط إتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:
                        "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".
                        ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
                        "اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".

                        وبقوة هذا التحري لشديد الوثيق لخطى الرسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا إلا إذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا.
                        وقد قال معاصروه..
                        "لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!

                        وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..
                        جاء يوما رجل يستفتيه، فلما ألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:
                        " لا علم لي بما تسأل عنه"
                        وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
                        "سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"..!
                        كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.
                        وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..
                        لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجدا..
                        ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء، وللجاه، وللمجد..؟!

                        دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب إليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره..
                        وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
                        فأجاب ابن عمر:
                        " كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..
                        قاض يقضي بجهل، فهو في النار..
                        وقاض يقضي بهوى، فهو في النار..
                        وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر..
                        واني لسائلك بالله أن تعفيني"..
                        وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
                        ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى إذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..
                        وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.
                        بيد أنه ليس كذلك، فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين، وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..
                        ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء، ولا إلقاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه، ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة، والمزيد من العبادة..
                        كما أنه في ذلك الحين من حياة الإسلام، كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال، وكثرت المناصب والإمارات.
                        وشرع إغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة، مما جعل بعض أصحاب الرسول، ومنهم ابن عمر، يرفعون راية المقاومة لهذا الإغراء باتخاذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المناصب الكبيرة، وقهر فتنتها وإغرائها...
                        لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..
                        ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله، ومناط غبطته وحبوره..

                        ولنصغ إليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:
                        "رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة إلا طارت بي إليه..
                        ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني..
                        فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                        نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"..
                        ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله..
                        فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.

                        يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:
                        (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..
                        فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
                        وجلس يوما بين إخوانه فقرا:
                        (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)..
                        ثم مضى يردد الآية:
                        (..يوم يقوم الناس لرب العالمين).
                        ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!
                        ولقد كان جوده، وزهده، وورعه، تعمل معا في فن عظيم، لتشكل أروع فضائل هذا الإنسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..
                        ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..
                        ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا، لأنه زاهد..!!

                        وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، إنما كان يرسله غدقاً على الفقراء، والمساكين والسائلين..
                        يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة..
                        وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..
                        فذهب ابن وائل إلى أهل بيته وسألهم:
                        أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟
                        قالوا: بلى..
                        قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..
                        قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها. فقال: انه وهبها لفقير..!!
                        فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق توسط مكانا عالياً، وصاح في الناس:
                        " يا معشر التجار..
                        ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه ألف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!

                        إن من كان محمد أستاذه، وعمر أباه، لعظيم، كفء لكل عظيم..!!
                        إن وجود عبد الله بن عمر، وزهده وورعه، هذه الخصال الثلاثة، كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..
                        فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!
                        والذي يذهب برأيه وتوقيره والإعجاب به إلى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء، فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..
                        أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول، ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..
                        ولقد كانت الأموال تأتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..
                        ولم يكن جوده سبيلا إلى الزهو، ولا إلى حسن الأحدوثة.
                        ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام، أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه، حين يولمون للأغنياء، ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم:
                        "تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!
                        وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!
                        لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا،،
                        وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف..
                        ولم يكن ماله وحده، بل كان للفقراء فيه حق معلوم، بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..
                        ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا، ولا يسعى اليها، بل ولا رجو منها الا كا يستر الجسد من لباس، ويقيم الأود من الطعام..

                        أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:
                        لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، إذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل..
                        قال له ابن عمر: أرنيه إذن..
                        ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟
                        قال صاحبه: لا .. انه قطن.
                        وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهو يقول:"لا.إني أخاف على نفسي.. أخاف أن يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!
                        وأهداه يوما صديقا له وعاءً مملوءاً..
                        سأله ابن عمر: ما هذا؟
                        قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.
                        قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟
                        قال: يهضم الطعام..
                        فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ إني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!

                        إن هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما، لم يكن يترك الشبع خصاصة، بالزهد وورعا، ومحاولة للتأسي برسوله وأبيه..
                        كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:
                        (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..

                        كان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر سبيل..
                        ولقد تحدث عن نفسه قائلا:
                        "ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
                        ويقول ميمون بن مهران:
                        " دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!
                        لم يكن ذلك عن فقر.ز قد كان ابن عمر ثريا..
                        ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..زهداً في الدنيا، وازدراء للترف، والتزام لمنهجه في الصدق والورع..
                        لقد عمّر ابن عمر طويلا، وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..ومع هذا، بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا، لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.
                        وإذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:
                        "لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..
                        ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا، فيرفع يده الى السماء ويقول:
                        "اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".

                        أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا، لكان من الظافرين..
                        بل انه لم يكن بحاجة إلى أن يزاحم، فقد كانت الدنيا تسعى إليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..
                        وهل هناك كمنصب الخلافة إغراء..؟
                        لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا، وعنه إعراضا..!!

                        يقول الحسن رضي الله عنه:
                        " لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس..
                        قال: ان والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم..
                        قالوا: لتخرجن، أو لنقتلنك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..
                        فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!

                        وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى..
                        ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر..
                        بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..
                        وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة، فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها، ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائعين، مختارين، أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف، فهذا ما يرفضه، ويرفض الخلافة معه..
                        وآنئذ، لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله، وإجماع المسلمين على حبه وتوقيره، فان اتساع الأمصار، وتنائبها، والخلافات التي احتدمت بين المسلمين، وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب، وتتنادى للسيف، لم يجعل الجو مهيأ لهذا الإجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..

                        لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!
                        قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم..
                        قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..
                        قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم.
                        وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..
                        حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:
                        هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها..
                        قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
                        قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..
                        قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"..!!
                        فانصرف عنه مروان وهو ينشد:
                        إني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
                        يعني بأبي ليلى، معاوية بن يزيد...
                        هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف، هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية، موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:
                        "من قال حي على الصلاة أجبته..
                        ومن قال حي على الفلاح أجبته..
                        ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!
                        ولكنه في عزلته تلك وفي حياده، لا يماليء باطلا..
                        فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحدياتِ أوجعته وأربكته..
                        حتى توعده بالقتل، وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!

                        وذات يوم، وقف الحجاج خطيبا، فقال:" ان ابن الزبير حرّف كتاب الله"!
                        فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت، كذبت، كذبت".
                        وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..
                        ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج، وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب، فانك سفيه متسلط"..!!
                        ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه، حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب، رافضا أن ينحاز لأي فريق...
                        يقول أبو العالية البراء:
                        " كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه:
                        " واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"..؟!

                        وكان ينفجر أسى وألما، حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!
                        ولو استطاع أن يمنع القتال، ويصون الدم لفعل، ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.
                        ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه، بل وكان معه يقينه فيما يبدو، حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:
                        " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية"..!!

                        على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له، وكان الحق معه، فانه لم يفعل ذلك هربا، والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله، والفتنة كلها، وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك، بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..
                        ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟
                        فأجابه قائلا:
                        " يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..)
                        ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله،اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
                        لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب..
                        أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟!
                        هكذا كان منطقه، وكانت حجته، وكان اقتناعه..

                        فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه، لاهروبا، أ، سلبية، بل رفضا لإقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة، واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..
                        ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات..

                        لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء الومن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..
                        لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.
                        ووسط لجج الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.
                        ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا:
                        ( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)

                        بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:
                        ( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!
                        وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..
                        وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #13
                          سعد بن أبي وقاص
                          الأسد في براثنه

                          أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما جاءته بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم، والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه ليقود جيوش المسلمين، في معركة فاصلة ضد الفرس.
                          وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..
                          ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود، وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه.
                          وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف، معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والإسلام يعيش أيامه الفاصلة، عمل غير سديد..
                          أمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي: _الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب، فانتقل مع بعض أهل المدينة إلى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف، وقرر المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة، وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..
                          ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي، وعاد يسأل أصحابه:
                          فمن ترون أن نبعث إلى العراق..؟؟
                          وصمتوا قليلا يفكرون..
                          ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!
                          قال عمر: فمن هو..؟
                          قال عبد الرحمن: "الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."
                          وأيّد المسلمون هذا الاختيار، وأرسل أمير المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه إمارة العراق، وقيادة الجيش..
                          فمن هو الأسد في براثنه..؟
                          من هذا الذي كان إذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:
                          "هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله"..!!
                          انه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف، عم السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                          لقد عانق الإسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان إسلامه مبكرا، وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
                          " .. ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الإسلام"..!!
                          يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا إلى الإسلام..
                          ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول الله مبايعا..
                          وانّ كتب التاريخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا بإسلام أبي بكر وعلى يديه..
                          ولعله يومئذ أعلن إسلامه مع الذين أعلنوه بإقناع أبي بكر إيّاهم، وهم عثمان ابن عفان، والزبير ابن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.
                          ومع هذا لا يمنع سبقه بالإسلام سرا..
                          وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..
                          بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، الا بشيئين عظيمين..
                          أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا..
                          وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
                          " ارم سعد فداك أبي وأمي"..
                          أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين، ويلهج يشكر الله عليهما فيقول:
                          " والله إني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله".
                          ويقول علي ابن أبي طالب:
                          " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي"..
                          كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..
                          إذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. وإذا دعا الله دعاء أجابه..!!
                          وكان وأصحابه معه، يردّون ذلك إلى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له هذه الدعوة المأثورة..
                          " اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته".
                          هكذا عرف بين إخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد إلا مفوّضا إلى الله أمره.

                          من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:
                          " رأى سعد رجلا يسب عليا، وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينته، فقال له: إذن أدعو عليك، فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!
                          فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه إيّاهم، فاجعله آية وعبرة..
                          فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من إحدى الدور ناقة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس، كأنها تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..
                          إن هذه الظاهرة، تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق إخلاصه.

                          وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. وإخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال، فهو يرفض في اصرار عظيم كل درهم فيه إثارة من شبهة..
                          ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه الله الكثير، الحلال، الطيب..
                          وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاهيها، قدرته في انفاقه في سبيل الله..
                          في حجة الوداع، كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصابه المرض، وذهب الرسول يعوده، فسأله سعد قائلا:
                          "يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
                          قال النبي: لا.
                          قلت: فبنصفه؟
                          قال النبي: لا.
                          قلت: فبثلثه..؟
                          قال النبي: نعم، والثلث كثير.. انك ان تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك"..
                          ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..
                          كان سعد كثير البكاء من خشية الله ، وكان اذا استمع للرسول يعظهم، ويخطبهم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..
                          وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..
                          ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره الى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:
                          " يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة"..
                          وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..
                          وبعد حين قريب، طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.
                          ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا إياه في إلحاح أن يدله على ما يتقرّب إلى الله من عمل وعبادة، جعله أهل لهذه المثوبة، وهذه البشرى.. فقال له سعد:
                          " لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
                          غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".
                          هذا هو الأسد في براثنه، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..
                          وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..
                          كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الإسلام والمسلمين..
                          انه مستجاب الدعوة.. إذا سأل الله النصر أعطاه إياه..
                          زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..
                          وانه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..
                          وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                          وأخرى، لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور، تلك هي صلابة الإيمان..

                          إن عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
                          يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..
                          لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلاك..
                          كل ذلك وسعد لا يبالي، ولا يبيع إيمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..
                          وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله إليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..
                          وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..
                          بيد أن إيمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر، وعلى كل لاذ، فاقترب بوجهه من وجه أمه، وصاح بها لتسمعه:
                          " تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء..
                          فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!
                          وعدلت أمه عن عزمها.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد، ويؤيده فيقول:
                          ( وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)..
                          أليس هو الأسد في براثنه حقا..؟؟

                          إذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائة ألف من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب يومئذ، وأدهى دهاتها..
                          أجل الى هؤلاء في فيالقهم الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان، وشوق نادر وباهر الى الموت و الى الشهادة..!!
                          والتقى الجمعان.
                          ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..
                          وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى القادسية، فانها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:
                          " يا سعد بن وهيب..
                          لا يغرّنّك من الله، أن قيل: خال رسول الله وصاحبه، فان الله ليس بينه وبين أحد نسب الا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سوء.. الله ربهم، وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث الى أن فارقنا عليه، فالزمه، فانه الأمر."
                          ثم يقول له:
                          " اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟
                          وأين يكون عدوّكم منكم..
                          واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!

                          ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.
                          وينزل سعد القادسية، ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا، كما لم يتجمعوا من قبل، ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم "رستم"..

                          ويكتب سعد الى عمر، فيكتب اليه أمير المؤمنين:
                          " لا يكربنّك ما تسمع منهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله، وتوكل عليه، وابعث اليه رجالا من أهل لنظر والرأي والجلد، يدعونه الى الله.. واكتب اليّ في كل يوم.."
                          ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:
                          " ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".
                          ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..
                          ان سعد الفارس الذكي المقدام، خال رسول الله، والسابق إلى الإسلام، بطل المعارك والغزوات، والذي لا ينبو له سيف، ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى، ويقف وكأنه جندي عادي.. لا غرور القوة، ولا صلف الزعامة، يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد، فيرسل له كل يوم كتابا، ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب، المشورة والرأي...
                          ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده، ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب، أن يحرم نفسه، ولا أن يحرم جيشه، من بركة الشورى وجدواها، لا سيّما حين يكون بين أقطابها عمر الملهم العظيم..
                          وينفذ سعد وصية عمر، فيرسل إلى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه إلى الله والى الإسلام..
                          ويطول الحوار بينهم وبين قائد الفرس، وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:
                          " ان الله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الحكام الى عدل الاسلام..
                          فمن قبل ذلك منا، قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله.."
                          ويسأل رستم: وما وعد الله الذي وعدكم اياه..؟؟
                          فيجيبه الصحابي:
                          " الجنة لشهدائنا، والظفر لأحيائنا".
                          ويعود ليوفد الى قائد المسلمين سعد، ليخبروه أنها الحرب..
                          وتمتلىء عينا سعد بالدموع..

                          لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا، أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!
                          فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم، أولو أنها إستأخرت حتى يبل ويشفى، اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما الآن.. ولكن، لا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو هذه تعني العجز، والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة، ولا يعجز أبدا..

                          عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا، مستهلا خطابه بالآية الكريمة:
                          (بسم الله الرحمن الرحيم..
                          ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
                          وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
                          ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين، ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو، وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..

                          وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..
                          دمامله تنبح وتنزف، ولكنه عنها في شغل، فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!
                          وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل، يجعل من كل جندي فردا، جيشا بأسره..
                          وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح.ز وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!
                          وطارت فلولهم المهزومة بعد أن رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم، وطاردهم كالجيش المسلم عتى نهاوند.. ثم المدائن فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه، غنيمة وفيئا..!!

                          وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..
                          وكانت موقعة المدائن، بعد موقعة القادسية بقرابة عامين، جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين، حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي وبقاياه في المدائن نفسها، متأهبة لموقف أخير وفاصل..
                          وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..
                          هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!

                          ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر، ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!
                          وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..

                          وقبل أن يبدأ الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العدو حولها.. وعندئذ جهز كتيبتين..
                          الأولى: واسمها كتيبة الأهوال وأمّر سعد عليها عاصم ابن عمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها القعقاع ابن عمرو..

                          وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد أدوا العمل بمهارة مذهلة..
                          ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل له المؤرخون..
                          نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص نفسه..
                          وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة، ويقول:
                          " إن الإسلام جديد..ذلّلت والله لهم البحار، كما ذلّل لهم البرّ..والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا، كما دخلوه أفواحا"..!!
                          ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر دجلة أفواجا، خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا، بل لم تضع منهم شكيمة فرس..
                          ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه، فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء، فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله، ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!

                          وتصف لنا احدى الروايات التاريخية، روعة المشهد وهم يعبرون دجلة، فتقول:
                          [أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس وراءه، لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين، ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة، وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كأنهم يتحدون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!

                          ويوم ولى عمر سعدا إمارة العراق، راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة، وأرسى قواعد الاسلام في البلاد العريضة الواسعة..
                          وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد، فزعموا زعمهم الضاحك، قالوا:" ان سعدا لا يحسن يصلي"..!!
                          ويضحك سعد من ملء فاه، ويقول:
                          "والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله.. أطيل في الركعتين الأوليين، وأقصر في الأخريين"..
                          ويستدعيه عمر الى المدينة، فلا يغضب، بل يلبي نداءه من فوره..
                          وبعد حين يعتزم عمر إرجاعه الى الكوفة، فيجيب سعد ضاحكا:
                          " أتأمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟
                          ويؤثر البقاء في المدينة..

                          وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه، اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ستة رجال، ليكون اليهم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص.
                          بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة، أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..
                          فقد قال لأصحابه وهو يودعهم ويوصيهم:
                          " ان وليها سعد فذاك..وان وليه غيره فليستعن بسعد".

                          ويمتد العمر بسعد.. وتجيء الفتنة الكبرى، فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..
                          وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه، ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويقول له:
                          يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر.
                          فيجيبه سعد:
                          " أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، واذا ضربت به الكافر قطع"..!!
                          ويدرك ابن أخيه غرضه، ويتركه في عزلته وسلامه..
                          وحين انتهى الأمر لمعاوية، واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
                          مالك لم تقاتل معنا..؟؟
                          فأجابه:
                          " اني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ .. أخ..واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."
                          فقل معاوية: ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:
                          (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فان بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).
                          وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
                          أجابه سعد قائلا:
                          " ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".

                          وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للهجرة، وقد جاوز سعد الثمانين، كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء الله.
                          ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:
                          [ كان رأس أبي في حجري، وهو يقضي، فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟
                          ان الله لا يعذبني أبدا وأني من أهل الجنة]..!!
                          ان صلابة إيمانه لا يوهنها حتى رهبة الموت وزلزاله.
                          ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان.. وإذن ففيم الخوف..؟
                          [ ان الله لا يعذبني أبدا، واني من أهل الجنة].

                          بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها، ثم أخرجوا منها رداء قديما قي بلي وأخلق، ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:
                          [ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!

                          اجل، ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا، صادقا شجاعا!!
                          وفوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة، ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى الله، ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه.
                          وداعا يا سعد..!!
                          وداعا يا بطل القادسية، وفاتح المدائن، ومطفىء النار المعبودة في فارس الى الأبد..!!

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #14
                            صهيب بن سنان
                            ربح البيع يا أبا يحيى!!

                            ولد في أحضان النعيم..
                            فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..
                            وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..
                            ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.
                            ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيء له فرصة الاتجار معه.
                            وذات يوم.. ولندع صديق عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:
                            " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..
                            فقلت له: ماذا تريد..؟
                            فأجابني وما تريد أنت..؟
                            قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.
                            قال: وأنا اريد ذلك..
                            فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.
                            ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..
                            ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!

                            عرف صهيب طريقه اذن الى دار الأرقم..
                            عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..
                            فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!
                            عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..
                            وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..
                            واقتحام تلك العتبة، كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!
                            وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.

                            وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟
                            انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..
                            وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..
                            وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وافلاسه..
                            وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...
                            أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
                            وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!
                            ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
                            وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الاسلام فيقول:
                            " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..
                            ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..
                            ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..
                            ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أ، شماله..
                            وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..
                            ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..
                            وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!
                            هذه صورة باهرة، لايمان فذ وولاء عظيم..
                            ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين، أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يكين الرسول..
                            يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.
                            ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..

                            ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.
                            فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..
                            بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
                            ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..
                            وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..
                            بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:
                            " يا معشر قريش..
                            لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..
                            وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..

                            ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:
                            أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟
                            فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..

                            والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!
                            واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..

                            كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللا :
                            " ربح البيع أبا يحيى..!!
                            ربح البيع أبا يحيى..!!
                            وآنئذ نزلت الآية الكريمة:
                            ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)..

                            أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..
                            فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، اذا بقي له ايمانه، واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟
                            كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..
                            رآه الرسول يأكل رطبا، وكان باحدى عينيه رمد..
                            فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
                            فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!
                            وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
                            حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟
                            فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:
                            " خياركم من أطعم الطعام".

                            ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..
                            فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
                            وعندما احس نهاية الأجل، فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:
                            " وليصلّ بالناس صهيب"..
                            لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..
                            وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟
                            ان عمر وخاصة في تلك اللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..
                            ولقد اختار عمر صهيبا..
                            اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..
                            اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #15
                              معاذ بن جبل

                              أعلمهم بالحلال والحرام

                              عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهدوئه وسمته. فإذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!
                              ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
                              هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.
                              ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..
                              على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
                              بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:
                              " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..
                              وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سأله الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجهه الى اليمن:
                              " بما تقضي يا معاذ؟"
                              فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..
                              قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟
                              "أقضي بسنة رسوله"..
                              قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟
                              قال معاذ:" أجتهد رأيي، ولا آلوا"..
                              فتهلل وجه الرسول وقال:
                              " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".

                              فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.
                              ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".
                              وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
                              فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:
                              " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".
                              وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:
                              " دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".
                              وهذا شهر بن حوشب يقول:
                              " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له"..

                              ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..
                              وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:
                              " لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..
                              ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..
                              فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..
                              فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..
                              واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
                              فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:
                              " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..
                              ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي إجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
                              وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..
                              فلا يسأل عن شيء إلا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
                              ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..

                              وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!
                              ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..
                              كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب إثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..
                              وتركه عمر وانصرف..
                              وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
                              ولا يكاد يلقاه.. حتى دموعه تعنقه وتسبق كلماته وتقول:
                              " لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..
                              وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..
                              فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..
                              ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..
                              وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
                              وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.
                              ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
                              وكان عمر رضي الله عنه يقول:
                              " لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم"..
                              والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..
                              فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
                              لإاجاب قائلا:
                              " لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".
                              قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
                              " يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..
                              أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الإلحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..
                              ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
                              لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
                              "كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟
                              قال:
                              " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".
                              قال النبي:
                              :ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك"..؟؟
                              قال معاذ:
                              " ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..
                              ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..
                              وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..
                              وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
                              وأهل النار في النار يعذبون.."
                              فقال له الرسول:
                              " عرفت فالزم"..
                              أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..
                              ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:
                              "ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بإبراهيم عليه السلام"..
                              وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..
                              وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
                              " احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"..!!
                              وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..
                              قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
                              قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟
                              قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..
                              فقال له معاذ:
                              " صم وافطر..
                              وصلّ ونم..
                              واكتسب ولا تأثم.
                              ولا تموتنّ الا مسلما..
                              واياك ودعوة المظلوم"..
                              وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:
                              " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا"..
                              وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.
                              يقول الأسود بن هلال:
                              " كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..
                              ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..
                              وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...
                              وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..
                              وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
                              فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
                              " الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..
                              وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:
                              " مرحبا بالموت..
                              حبيب جاء على فاقه"..

                              وسافر معاذ إلى الله...

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق

                              يعمل...
                              X