إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اقرأ مالا تعرفة عن اليهود(الموسوعة اليهودية)

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    حياك الله اخي ابو الهدى مازال للموضوع تكملة ووجودك يسعدنا دوما
    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
    http://www.rasoulallah.net/

    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

    http://almhalhal.maktoobblog.com/



    تعليق


    • #17
      بسم الله الرحمن الرحيم

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

      اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

      الله يعطيك العافية الصراحة لم اقرأ الموضوع كاملا

      تصفحته اليوم ولكن لنا عودة ان شاء الله

      سلمت يمينك
      مهما كان حجم المؤامره كبير

      سنبقى اقوى من كل الظروف



      sigpic

      تعليق


      • #18
        أخي المهلهل ،،،

        الموضوع رائع و مفيد ،،، بده أعده طويلة


        تعليق


        • #19
          شرفنا مرورك اختنا حواء
          اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
          http://www.rasoulallah.net/

          http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

          http://almhalhal.maktoobblog.com/



          تعليق


          • #20
            بارك الله فيك اخي المهلهل

            لكن يجب تسميتها
            الممسوخه اليهودية
            حرقهم الله

            سلمت يمناك لكل ماهو جديد

            سأحمل روحي على راحتي ---
            والقي بها في مهاوي الردا
            فأما حياة تسر الصديق واما ممات يغيض العدا
            *****

            تعليق


            • #21
              الصوفيــة اليهـودية (القــبَّالاه)
              (Jewish Mysticism (Kabbalah


              يُعرف التـراث الصـوفي اليهـودي باســم «القبَّــالاه» التي مرت بمراحــل عديدة أهمــها «قبَّــالاة الزوهار» وتُسمَّى أيضاً «القبَّالاه النبـوية»، و«القبَّالاه اللوريانية» التي يمكن أن تُسمَّى «القبَّالاه المشـيحانية».أما كلمـة «الصوفية»،فلها (داخل النسق الديني اليهودي) دلالات خاصة،فهذا النسق يتَّسم بوجود طبقة جيــولوجية ذات طابع حلولي قوي تراكمت داخله،ابتداءً من العهد القديم، مروراً بالشريعة الشفوية،وقد انعكست هذه الحلوليـة من خـلال شـيوع أفكار، مثل:الشعب المختار، وأمة الروح، والأرض المقدَّسة.

              وتراث القبَّالاه الصوفي تراث ضخم وضع أسس التفسيرات الصوفية الحلولية في الزوهار والباهير وغيرهما من الكتب، وحل محل التوراة والتلمود. ومن الملاحَظ أيضاً انتشار الحركات المشيحانية الصوفية الحلولية بين الجماعات اليهودية في العالم عبر التاريخ. فكان التفكير الفلسفي بين اليهود نادراً، ولم يظهر إلا تحت تأثير الحضارات الأخرى، كما أنه كان ينحو منحى حلولياً في أغلب الأحيان. ففيلون السكندري، مثلاً، كان واقعاً تحت تأثير الحضارة الهيلينية، ولم يكن يعرف العبرية مطلقاً، ومع هذا فإن ثمة نزعة حلولية قوية في فلسفته، ولم يترك فكره الفلسفي أي أثر في تطور اليهودية اللاحق. وكذلك موسى بن ميمون، بطل كل المفكرين العقلانيين اليهود، فقد كان متأثراً تأثراً عميـقاً بحضارته العـربية الإسـلامية. أما في العصر الحديث، مع ظهور فكر فلسفي يهودي حديث، فإننا نجد إسبينوزا بفلسفته الحلولية على رأس المفكرين. كما أن أهم مفكر ديني يهودي، مارتن بوبر، كان مهتماً بالتصوف أشد الاهتمام، بل نجده أحد عُمُد التصوف في تاريخ الفكر الحديث في الغرب. والواقع أن الفكر الديني اليهودي الحديث ينحو، في جوهره، هذا المنحى الصوفي الحلولي، والصهيونية هي النقطة التي تظهر عندها الحلولية بدون إله.

              ويمكن التمييز بين نمطين من التصوف: واحد يدور في نطاق إطار توحيدي، ويَصدُر عن الإيمان بإله يتجاوز الإنسان والطبيعة والتاريخ، ومن ثم يؤمن بالثنائيات الدينية الفضفاضة (سماء/أرض ـ إنسان/طبيعة ـ إله/إنسان). وتتبدَّى هذه الرؤية في تدريبات صوفية يقوم بها المتصوف ليكبح جماح جسده تعبيراً عن حبه للإله وعن محاولته التقرب منه وهو يعرف مسبقاً استحالة الوصول والتوحد مع الإله، فالحلول الإلهي يتنافى مع الرؤية التوحيدية، ووحدة الوجود قمة الكفر. والمتصوف الذي يدور في إطار توحيدي يعبِّر عن حبه الإلهي عن طريق فعل في التاريخ والدنيا يلتزم فيه بقيم الخير ويُعلي به من شأن القيم المطلقة المُرسَلة للإنسان من الإله ويصلح به حال الدنيا.

              أما النمط الثاني من التصوف فيدور في إطار حلولي يصدر عن الإيمان بالواحدية الكونية حيث يحل الإله في الطبيعة والإنسان والتاريخ ويتوحد معها ويصبح لا وجود له خارجها، فيُختزَل الواقع بأسره إلى مستوى واحد يخضع لقانون واحد. ومن ثم، يستطيع من يعرف هذا القانون (الغنوصي) أن يتحكم في العالم بأسره. وهذا هو هدف المتصوف في هذا الإطار. فبدلاً من التدريبات الصوفية التي يكبح بها الإنسان جسده ويطوع لها ذاته، يأخذ التصوف شكل التفسيرات الباطنية وصنع التمائم والتعاويذ والبحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها التأثير في الإرادة الإلهية، ومن ثم التحكم الإمبريالي في الكون. وحتى لو أخذ هذا التصوف شكل الزهد، فالهدف من الزهد ليس تطويع الذات وإنما الوصول إلى الإله والالتصاق به والتوحد معه والفناء فيه ليصبح المتصوف عارفاً بالأسرار الإلهية، ومن ثم يصبح هو نفسه إلهاً أو شبيهاً بالإله. والمتصوف في إطار حلولي لا يكترث إلا بذاته، ولذا فهو لا يتحرك في الزمان والمكان الإنسانيين ولا يأتي بأفعال في التاريخ ولا يهتم بإصلاح الدنيا بل يضع نفسه فوق الخير والشر وفوق كل القيم المعرفية والأخلاقية. فالتجربة الصوفية التوحيدية تطويع للذات وطاعة للخالق وإصلاح للدنيا، أما الثانية فهي تحقيق للذات وتطويع للخالق وبحث عن التحكم في الدنيا. ورغم استخدام لفظ واحد («تصوف») للإشارة إلى التجربتين، إلا أنهما مختلفتان تمام الاختلاف. والتصوف الحلولي، وخصوصاً في أشكاله المتطرفة، هو شكل من أشكال العلمنة. فإذا كان الإله أو الخالق هو مخلوقاته، فإن مخلوقاته هي هو. وإذا حل الإله في المادة، فإن الطبيعة تصبح هي الإله (كما يؤكد إسبينوزا)، كما أن صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون. ويمكننا هنا أن نرى ملامح سوبرمان نيتشه، الذي لا يؤمن إلا بإرادة القوة ويتجاوز أخلاق الضعفاء.

              ويمكننا القول بأن التصوف اليهودي (على وجه العموم) من النمط الحلولي وأنه ذو اتجاه غنوصي قوي. فالمتصوف اليهودي لا يتجه نحو تطويع الذات الإنسانية الفردية وخدمة الإله، وإنما يحاول الوصول إلى فَهْم طبيعة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص أو العرفـان) بهـدف التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الواقع. ومن هنا، كان ارتباط التصوف اليهودي أو القبَّالاه بالسحر، ومن هنا أيضاً كانت علاقة السحر بالعلم والغنوصية. وقد وصف العالم جيرشوم شوليم الصوفية اليهودية بأنها «ثيو صوفية»، أي أنها معرفة الإله من خلال التأمل والمعرفة الإشراقية الكونية (الغنوص) أو العرفان. ومن ثم، فهي تبتعد عن التمرينات الصوفية وعمليات الزهد ومحاولة الذوبان أو إفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية. ولكن هذا الوصف ليست له مقدرة تفسيرية عالية، فالتصوف اليهودي الحلولي يتجه نحو الاتحاد مع الإله والالتصاق به (ديفيقوت)، وهو اتحاد يؤدي إلى وحدة الوجود (ووحدة الوجود يُفترض أنها تؤدي إلى الكشف الصوفي لطبيعة الإله وإمكانية التواصل معه ثم التحكم فيه!). ولعل سمة التصوف اليهودي الأساسية أنه يدور في معظمه في إطار حلولي، الأمر الذي يجعله يختلف عن التصوف الذي يدور في إطار توحيدي. ولذا، فنحن نؤثر أن نشير إلى التصوف اليهودي بكلمة «قبَّالاه»، فهي أكثر دقة وتفسيرية.

              القبَّـــالاه: تـاريــخ
              Kabbalah:History


              «القبَّالاه» هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مُشتَّق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي «التقاليد والتراث» أو «التقليد المتوارث». وكان يُقصَد بالكلمة أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني، من أواخر القرن الثاني عشر، «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة» (إلى جانب مدلولها الأكثر عموماً باعتبارها دالاً على سائر المذاهب اليهودية الباطنية منذ بداية العصر المسيحي). وقد أطلق العارفون بأسرار القبَّالاه («مقوباليم» بالعبرية و«القبَّاليون» بالعربية) على أنفسهم لقب «العارفون بالفيض الرباني».

              ومصطلح «قبَّالاه» واحد من مصطلحات أخرى تشير إلى المدلول نفسه، فالتلمود يتحدث عن «رازي هتوراه»، أي «أسرار التوراة». وقد كان يُشار إلى المتصوفين بعبارات «يورديّ مركافاه»، أي «النازلون إلى المركبة»، و«بعلي هاسود»، أي «أسياد أو أصحاب الاسم»، و«إنشي إيموناه»، أي «رجال الإيمان»، و«بني هيخلاه دي ملكا»، أي « أبناء قصر الملك».

              وكان القبَّاليـون يرون أن المعـرفة، كل المعـرفة (الغنوص أو العرفان)، توجد في أسفار موسى الخمسة، ولكنهم كانوا يرفضون تفسير الفلاسفة المجازي، وكانوا لا يأخذون في الوقت نفسه بالتفسير الحرفي أيضاً. فقد كانوا ينطلقون من مفهوم غنوصي أفلاطوني مُحـدَث يُفضـي إلى معـرفة غنوصـية، أي باطنية، بأسرار الكون وبنصوص العهد القديم وبالمعنى الباطني للتوراة الشفوية.

              والتوراة ـ حسب هذا التصور ـ هي مخطَّط الإله للخلق كله، وينبغي دراستها. لكن كل كلمة فيها تمثل رمزاً، وكل علامة أو نقطة فيها تحوي سراً داخلياً، ومن ثم تصبح النظرة الباطنية الوسيلة الوحيدة لفهم أسرارها. وقد جاء أنه، قبل الخلق، كُتبت التوراة بنار سوداء على نار بيضاء، وأن النص الحقيقي هو المكتوب بالنار البيضاء، وهو ما يعني أن التوراة الحقيقية مختفية على الصفحات البيضاء لا تدركها عيون البشر. ويقول القبَّاليون إن الأبجدية العبرية لها قداسة خاصة، ولها دور في عملية الخلق، وتنطوي على قوى غريبة قوية ومعان خفية، وبالذات الأحرف الأربعة التي تكوِّن اسم يهوه (تتراجرماتون)، فلكل حرف أو نقطة أو شرطة قيمة عددية. ومن هذا المنطلق، فإن الحروف تنقسم بصفة عامة إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى الهمزة (رمز الهواء)، والمجموعة الثانية الميم (رمز الماء)، والمجموعة الثالثة الشين (رمز النار). وبإمكان الإنسان الخبير بأسرار القبَّالاه أن يفصل الحروف، ويجمع معادلها الرقمي ليستخلص معناها الحقيقي، كما كان من الممكن جَمْع الحروف الأولى من العبارات، وأن يُقرَأ عكساً لا طرداً ليصل المرء إلى معناها الباطني. وكانت هناك أيضاً طريقة الجماتريا.

              وبذلك تصبح كلمات التوراة مجرد علامات، أو دوال، تشير إلى قوى ومدلولات كونية وبنى خفية يستكشفها مفسر النص الذى يخترق الرداء اللفظي ليصل إلى النور الإلهي الكامن. ومن خلال هذا المنهج التفسيري، تَمكَّن القبَّاليون من فرض رؤاهم الخاصة على النصوص الدينية وإشاعتها، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لكل الآراء الحلولية المتطرفة.

              وإذا كانت الديانات التوحيدية، وضمنها اليهودية، التي تدور حول إله مفارق يتجاوز الطبيعة والتاريخ ترى أن ثمة مساحة تفصل بين الخالق والمخلوق، وبين الإله والكون، فإن التراث القبَّالي ينزع نزوعاً حلولياً واضحاً نحو تضييـق المسـافة بينهما، حتى تتلاشى تماماً في نهاية الأمر. والواقع أن الإله، حسب التصور القبَّالي، ليس الإله المفارق المتسامي الذي ليس كمثله شيء، وإنما يُنظَر إليه من منظورين: باعتباره (أولاً) الإله الخفي والجوهر الذي لا يستطيع الإنسان إدراك كنهه، وهذا هو إله الفلاسفة؛ الإله الواحد الذي لا يتجزأ، وهو في رأي القبَّالاه حالة ساكنة تفتقد إلى الحيوية، وهو الخالق في حالة انكماش قبل عملية الخلق، وهو العدم واللاوجود (فهو يشبه من كثير من الوجوه إله الغنوصية الخفي)، كما يُنظَر إليه باعتباره (ثانياً) الإله القريب الحي؛ القريب بسـبب وجـوده الذاتي وتعـدديته، فهو بنية داخلية، مركبة ودينامية، وهو عملية عضوية تؤثر في العالم وتتأثر به، وهو تَجسُّد مادي (لوجوس) يحل في المادة (سواء كانت الشعب اليهودي أم الظواهر الطبيعية أم اسم الإله الأعظم من يكتشفه يتحكم في الكون بأسره). والإله يتسم بسمات عديدة اشتقها القبَّاليون من خلال قراءتهم الغنوصية الدينية اليهودية السابقة، ومن خلال تجاربهم الصوفية (فهو يشبه من بعض الوجوه الإله الصانع في المنظومة الغنوصية والطبيعة الطابعة في المنظومة الإسبينوزية).

              وبينما حاول الفلاسفة اليهود والحاخامات تفسير ما يرد في العهد القديم من خلع صفات بشرية على الإله وتجسيمه بأنها من قبيل المجاز، فإن القبَّاليين أخذوا ما جاء في سفر التكوين (1/28) من أن الإله قد خلق الإنسان على صورته، وفسروه تفسيراً حرفياً ثم فرضوا عليه كثيراً من المعاني حتى توصلوا إلى فكرة آدم قدمون، أي الإنسان الأصلي، ومفادها أن جسم الإنسان يعكس في سماته بناء التجليات النورانية العشرة (سفيروت). وهذا مثل جيد للمنهج الذي يُفسِّر القبَّاليون به العهد القديم بطريقة ليست مجازية ولا حرفية، وإنما عن طريق فرض المعنى الذي يريده المفسر.

              وقد أصبحت القبَّالاه في نهاية الأمر ضرباً من الصوفية الحلولية ترمي إلى محاولة معرفة الإله بهدف التأثير في الذات العلية حتى تنفذ رغبات القبَّالي أو المتصوف حتى يتسنى لصاحب هذه المعرفة السيطرة على العالم والتحكم فيه. ولذا، فإن القبَّالاه تتبدى دائماً في شكل قبَّالاه عملية، وهي أقرب إلى السحر الذي يستخدم اسم الإله والمعادل الرقمي للحروف (جماتريا) والأرقام الأولية والاختصارات (نوطيرقون) للسيطرة. وترتبط القبَّالاه في وجهها العملي بعدد من العلوم السحرية، مثل: التنجيم، والسيمياء، والفراسة، وقراءة الكف، وعمل الأحجبة، وتحضير الأرواح. ومع ابتعادها عن التقاليد الحاخامية الدراسية استوعبت عناصر كثيرة من التراث الشعبي تمثل الازدهار الأقصى للتفكير الأسطوري والحلولي في اليهودية.

              ورغم تأكيدنا أن القبَّالاه ثورة على التراث الحاخامي إلا أنها تضرب بجذورها في الطبقة الحلولية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي منذ البداية في العهد القديم، حيث يتوحد الإله مع شعبه. وهو توحُّد كان يأخذ شكل العهد المتجدد بين الإله والشعب، والتدخل المستمر للإله في التاريخ لصالح شعبه، وتجسُّده في شكل عمود نار ليقودهم، وغضبه منهم وحبه لهم وغزله فيهم ومعهم. وقد عبر الحلول الإلهي وعشقه لبنت صهيون عن نفسه في نهاية الأمر في شكل العبادة القربانية المركزية حيث كانت تتم لحظة الحلول والالتحام بين الإله والشعب والأرض في يوم عيد الغفران حين كان كبير الكهنة يدخل إلى قدس الأقداس لينطق باسم يهوه.

              ورغم حرب الأنبياء ضد الأفكار الحلولية إلا أنها زادت ترسخاً في القرن الأول قبل الميلاد، وعبَّرت عن نفسها في جماعة مثل جماعة الأسينيين، وفي أسفار الرؤى (أبوكاليبس) مثل كتاب حنوخ وفي الكتب الخفية (أبوكريفا)، وفي الغنوصية اليهودية وغير اليهودية. كما ترسخت الطبقة الحلولية بترسُّخ مفهوم الخلاص المشيحاني باعتباره خلاصاً قومياً لا فردياً. ويُلاحَظ أن ثمة تشابهاً بين القبَّالاه وكُتب الرؤى في عدة أوجه من أهمها رؤية الخلاص، فالخلاص لن يتم الوصول إليه من خلال عملية أخلاقية تاريخية تدريجية، وإنما من خلال معجزة خارجية وتَدخُّل إلهي فجائي، عندما يظهر الماشيَّح ويشع بضوئه على العالم بأركانه الأربعة عند نهاية التاريخ وتحقُّق الفردوس الأرضي. كما أن الأفكار الثنوية الرؤياوية التي تساوي بين الجوهر الإلهي وجوهر آخر، وهي فكرة ذات أصول فارسية، وجدت طريقها إلى القبَّالاه أيضاً، في تفرقتها بين عالَم الدنس والرذيلة والموت الحالي من ناحية وعالم الخير والطهارة والوجود الأبدي الآتي بعد ظهور الماشيَّح من ناحية أخرى.

              ومن المصادر الأخرى الأساسية للقبَّالاه، فكرة الشريعة الشفوية التي تضاهي الشريعة المكتوبة وتتفوق عليها، فهي فكرة حلولية متطرفة تساوي بين الخالق ومخلوقاته. وقد تَعمَّق التيار الحلولي الذي يسري في العهد القديم وازداد كثافة في التلمود حتى اكتسب أبعاداً متطرفة في كثير من الأحيان. ولكن النزعة الحلولية في التلمود ظلت مختلطة بعناصر أخرى توحيدية تحددها وتحد منها. وما فعله القبَّاليون، فيما بعد، هو أنهم اقتبسوا من التلمود المقاطع والآراء ذات الطابع الحلولي ونزعوها من سياقها ودفعوها إلى نتيجتها المنطقية المتطرفة. وهذا يُفسِّر وقوف المؤسسة الحاخامية ضد القبَّاليين بعض الوقت، ويفسر التوتر بين الفريقين، ولكنه يفسر في الوقت نفسه سرّ انتشار الشبتانية (الحلولية) بين كبار العلماء التلموديين في القرن الثامن عشر، كما أنه يُفسِّر كيفية تَحوُّل القبَّالاه، في نهايـة الأمر، إلى جزء أسـاسي من الشريعـة الشـفوية.

              ويظهر ارتباط التلمود بالقبَّالاه من خلال دراسة تاريخ التصوف اليهودي، فقد تشكلت حلقات من أتباع يوحنان بن زكاي، وهو من معلمي المشناه (تنائيم) ومن مؤسسي حلقة يفنه التلمودية في القرنين الأول والثاني. وحاولت هذه الحلقات أن تغوص في أسرار الخلق أو ما يُسمَّى عمل الخليقة (بالعبرية: معسيه بريشيت)، وفي طبيعة العرش الإلهي (أو المركبة) (بالعبرية: معسية مركافاه). وقد ساهمت كتاباتهم في وضع أسس أدب الهيخالوت الصوفي، أو الحجرات السماوية، الذى ازدهر في بابل بيزنطة في القرنين السابع والثامن، والذي يصوِّر سبعة قصور أو عوالم سماوية تسكنها الملائكة التي تسبِّح بحمد الإله. ويوجد عرش الإله، حسبما جاء في قصص هذا الأدب، في العالم السابع، أي في السماء السابعة. وقد اعتقد أتباع هذه المدرسة أنه من خلال التدريبات الروحية الصارمة، ومن خلال الصوم وإرهاق الجسد، يمكن الوصول إلى الشطحات الصوفية التي تمكِّن الواصلين (أو مشاهدي المركبة) من أن يشعروا بروحهم وهي تصعد من خلال هذه السماوات حتى تصل إلى النقطة التي يطالعون فيها، وبشكل مباشر، التجلي أو الحضور الإلهي والعرش الإلهي. وبإمكان الأرواح التي تصل إلى هذه المنزلة أن تكشف أسرار الخلق وطُرق الملائكة وموعد وصول الماشيَّح. وينتمي كتاب سفر يتسيرا (كتاب الخلق) إلى هذه الفترة نفسها والتي تمتد بين القرنين الثالث والسادس، وهو يصف بنية الكون من خلال التجليات النورانية العشرة، أو قدرات الرب الكامنة العشرة أو القنوات العشر (سفيروت)، وحروف الأبجدية وقيمتها العددية وقوتها الخالقة.

              وقد انتقلت تقاليد أدب الهيخالوت إلى جنوب إيطاليا، ومنها إلى ألمانيا، حيث ظهر ضرب جديد من التقوى الصوفية وصل إلى قمته في القرن الثاني عشر يُسمَّى «أتقياء ألمانيا». وقد نادى هؤلاء بضرورة الاكتراث بالعواطف والرغبات الدنيوية. ومن أهم أعلام هذا الاتجاه يهودا هيحَاسيد (تُوفي عام 1217) مؤلف كتاب سفر حسيديم أي كتاب الأتقياء. وقد فرَّق أتباع هذا الاتجاه الصوفي بين الإله الخفي المتسامي الذي يتجاوز الإدراك البشري من جهة، وملاكه المخلوق أو جلال الإله (كافود) الذي هو تجلٍّ للألوهية من جهة أخرى. ويتكون هذا الاتجاه الصوفي من خليط من عقائد سفر يتسيرا، وأفكار صوفية المركبة، وأفكار أرسطية مشوهة، وعقائد سحرية. وقد كان للحركات الصوفية المسيحية في أوربا أثرها في أتباع هذا المنهج الذين لجأوا أيضاً إلى التأمل في الحروف العبرية وقيمها العددية، وهي طريقة في التأمل أصبحت منذ ذلك الوقت أحد ثوابت التراث القبَّالي.

              وعلى أية حال، فإن القبَّالاه، بمعناها الحالي، ظهرت في فرنسا، وكان من أهم العارفين بالقبَّالاه أبراهام بن داود وابنه إسحق الأعمى اللذان بدآ يتداولان كتاب الباهير (الذي ظهر أول ما ظهر في بروفانس؛ فرنسا) في القرن الثاني عشر. وانتقل مركز القبَّالاه بعد ذلك إلى إسبانيا حيث نشأت حلقات متصوفة تحاول أن تتواصل مع الإله من خلال التأمل في التجليات النورانية العشرة (سفيروت). كما كان هؤلاء المتصوفون يهدفون إلى تجديد تقاليد النبوَّة، وإلى الكشف الإلهي من خلال الشطحات الصوفية، ومن خلال التأمل في حروف الكتاب المقدَّس وقيمها العددية وأسماء الإله المقدَّسة. ومن أهم القبَّاليين أبراهام بن شموئيل أبو العافية (1240 ـ 1291). وقد وصلت الحركة القبَّالية إلى قمتها بظهور الزوهار الذي وضعه موسى دي ليون المتوفى عام 1305، والذي تستند إليه الأنساق القبَّالية التي ظهرت بعد ذلك. وكانت مدينة جيرونا في قطالونيا من أهم مراكز القبَّالاه في إسبانيا. وقد قام القبَّاليون بإنشاء مركز لهم في مدينة صفد في فلسطين عام 1421.

              وكان شيوع القبَّالاه في هذه المرحلة تعبيراً عن رفض التراث التلمودي الذي وضعه الحاخامات وعلماء الدين الذين ارتبطوا بالطبقات الثرية وبيهود البلاط في إسبانيا. وقد شجع أعضاء هذه الفئات الفلسفة العقلانية واتبعوا في حياتهم العامة والخاصة سلوكاً يتفق مع هذه الفلسفة، ولا ينم عن كبير احترام لبعض العقائد اليهودية (من وجهة نظر العوام على الأقل). وقد ساهمت القبَّالاه في عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن هذا التراث الفلسفي العقلاني الذي أشاعه موسى بن ميمون وغيره من الفلاسفة المتأثرين بكتابات الفلاسفة المسلمين العرب. وقد كانت كتب الفلسفة تُسمَّى «الكتب الشيطانية». وبعد ذلك، انتشرت التقاليد القبَّالية بعد أن أخذت شكلها المحدد في الزوهار، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر في إسبانيا ثم في كل إيطاليا وبولندا. وتُسمَّى القبَّالاه النابعة من الزوهار قبَّالاة الزوهار (ويسميها جيرشوم شولم «القبَّالاه النبوية»). وازداد الاهتمام بالقبَّالاه بعد طرد يهود إسبانيا وتَصاعُد الحمىَّ المشيحانية، وخصوصاً بما اشتملت عليه القبَّالاه من عقيدة خلاص جماعة يسرائيل. وقد وُجد واحد من أهم مراكز القبَّالاه في صفد، وكان يضم مجموعة من اليهود السفارد الذين طُردوا من إسبانيا، ومن هنا كان عمق إحساسهم بالكارثة التي حاقت باليهود وبعجزهم الكامل وعزلتهم عن أية مشـاركة حقيقيـة في العمليـات التاريخية.

              ومن أهم أعضاء هذه المجموعة إسحق لوريا الذي طوَّر المفاهيم القبَّالية فيما سُمِّي «القبَّالاه اللوريانية»، مقابل القبَّالاه التي سبقتها، أي القبَّالاه النبوية أو قبَّالاة الزوهار. ولعل أهم إسهامات لوريا مفهومه الخاص عن الشرارات الإلهية المتناثرة والمتبعثرة (نيتسوتسوت) ومن ضمنها مشاركة الإنسان اليهودي الحَرْفية مع الإله (وليس المجازية) في عملية الخلاص الكونية، وعودة جماعة يسرائيل وانتصارها كخطوة أساسية في هذه العملية. وقد ربطت هذه المفاهيم بين النزعة المشيحانية والنزعة الصوفية رغم تناقضهما الظاهري. فإذا كانت النزعة الصوفية الباطنية الحلولية تلجأ إلى التأمل والزهد لاكتشاف الأسرار الإلهية (وبالتالي، فإن توجُّهها المبدئي داخلي بهدف السيطرة الإمبريالية الفردية على الكـون)، فإن النزعة المشـيحانية تنعكـس في التاريخ مباشرةً، أي في العالم الخارجي، بهدف السيطرة الإمبريالية القومية أو الجماعية على الكون. ولكن لوريا ربط التدريبات الصوفية (الفردية الباطنية الداخلية التي يقوم بها اليهودي بمفرده) بعملية استرجاع الشرارات الإلهية وعملية خلاص الإنسان وخلاص الكون التي يقوم بها اليهود كشعب، ثم ربط كل هذا بعملية الاسترجاع المشيحاني والقومي لجماعة يسرائيل. فكأن لوريا جعل الطبقة الحلولية تعبِّر مرة أخرى عن نفسها على المستوى القومي بدلاً من المستوى الفردي. ومن هنا، كان التفجر الكامن في الصيغة الصوفية المشيحانية لما يُسمَّى «القبَّالاه اللوريانية» (التي يسميها جيرشوم شوليم «القبَّالاه المشيحانية»)، وهو ما ساعد على ظهور الحركات المشيحانية المتتالية ابتداءً من شبتاي تسفي، والتي لا يمكن فهمها أو فهم أنساقها الرمزية إلا في إطار القبَّالاه اللوريانية التي سيطرت على اليهود ابتداءً من القرن السادس عشر.

              وكان تأثير القبَّالاه على التشريع (هالاخاه) ضئيلاً، ولكن تأثيرها على الأجاداه كان قوياً حتى أنهما امتزجتا وأصبح من المستحيل تمييز الواحدة عن الأخرى الأمر الذي أدَّى إلى تأثير القبَّالاه تأثيراً عميقاً في الوجدان اليهودي. ويظهر أثر القبَّالاه في الصلوات والأدعية والتسابيح والابتهالات وشعائر السبت والأعياد والعادات والأخلاق، وفي الأفكار الخاصة بالملائكة والشياطين والماشيَّح والأفكار الأخروية بشكل عام ودور الشعب اليهودي في المنفى، أي أن تأثير القبَّالاه في الحياة اليومية يفوق في عمقه تأثيرها في الأمور ذات الطابع التشريعي والفقهي، وهي الرقعة التي تركوها لعلماء التلمود الذين كانوا يُصدرون فتاواهم الجافة المجردة التي لا حياة فيها لانفصالها عن الواقع.

              وقد تولَّد توتر بطبيعة الحال بين القبَّاليين (المدافعين عن التفسيرات الباطنية) والفقهاء الشرعيين (المدافعين عن الشريعة) إذ كان العالمون بأسرار القبَّالاه يعتبرون أنفسهم أعلى منزلةً، بل كانوا يسخرون من الحاخامات، فكانوا يقرأون الكلمة العبرية «حمور»، أي «حمار»، باعتبارها اختصاراً لعبارة «حاخام موفلآ في راف رابان»، أي «فقيه عظيم وحاخام الحاخامات». كما كانوا يطلقون على فقيه الشريعة مصطلح «الحمار المشناوي»، نسبة إلى المشناه، بل أشاروا إلى المشناه نفسها باعتبارها «مقبرة موسى». وكانوا يقتبسون عبارات سلبية (قدحية) من العهد القديم للسخرية بها من الدراسات التلمودية فكانوا يشيرون مثلاً بعبارة "فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم" (خروج 1/11)، إلى العلماء التلموديين (وهذا هو رأي إسبينوزا أيضاً في العقيدة اليهودية، فقد وصفها بأن الإله أرسلها عقوبة لليهود وثقلاً ينوءون بحمله). وكان بعض القبَّاليين يُصدرون فتاوى استناداً إلى الزوهار، ويعيدون تفسير الشريعة من منظور قبَّالي. وقد جُمعت بعض هذه الأحكام في كُتب. وكان بعضهم يعتبر أقوال لوريا أهم من الشولحان عاروخ.

              وقد سيطرت القبَّالاه، في نهاية الأمر، حتى على مؤسسة اليهودية الحاخامية نفسها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من اليهودية الكلاسيكية أو اليهودية المعيارية أو التلمودية، ويحدد جيرشوم شولم الفترة بين عامي 1630 و1640 على أنها الفترة التي أحكمت فيها القبَّالاه اللوريانية سيطرتها شبه الكاملة على الفكر الديني اليهودي. حتى أن الحاخام جويل سيركيس (1561 ـ 1640)، وهو من أهم علماء التلمود، قال إن من يعترض على العلم القبَّالي يُطرَد من حظيرة الدين. كما أن الشولحان عاروخ نفسه، أهم كتب المؤسسة الحاخامية الأرثوذكسية، يجعل الإيمان بالقبَّالاه فرضاً دينياً. وقد أصبحت القبَّالاه من اللاهوت اليهودي نفسه، ولم يَعُد بمقدور أي يهودي مهاجمتها. وحينما حاول موردخاي كوركوس عام 1672 أن ينشر كتاباً في البندقية يهاجم فيه القبَّالاه، منعه الحاخامات من ذلك.

              ورغم فشل حركة شبتاي تسفي المشيحانية، واعتناقه الإسلام، فإنه سيطر على تابعيه، وفُسِّر تحوُّله عن اليهودية بأنه نزول المخلِّص إلى عالم الذنوب والنجاسة ليخلِّص الشرارات الإلهية. وقد أدَّى هذا الموقف إلى ظهور النزعة المتطرفة المعادية للتشريعات (والتي يمكن أن نسميها «الترخيصية») والتي تحاول إسـقاط الشـريعة وتبـطل فعاليـة القانون الإلهي. وقد استمرت هذه النزعة داخل الحركة الفرانكية وبين الدونمه، وأخيراً في الحركة الحسيدية.

              ومع حلول القرن التاسع عشر، ظهرت الحركة الحسيدية التي اكتسحت يهود شرق أوربا (وهي تَصدُر عن الإيمان بعقائد القبَّالاه على وجه العموم والقبَّالاه اللوريانية على وجه الخصوص)، وأكدت مفهوم التوحد مع الإله والالتصاق به (ديفيقوت). ولكن الحسيدية، شأنها شأن كثير من الحركات الصوفية، تحولت بالتدريج إلى بيروقراطية دينية، وتحوَّل التساديك إلى وسيط، وظهرت أُسَر الحسيديين الحاكمة التي توارث أعضاؤها القداسة. ولكن العامل الأساسي الذي قضى على القبَّالاه وعلى التصوف الحلولي اليهودي هو ظهور العالم الحديث وحركة التنوير.

              والصهيونية وريثة التراث القبَّالي في بنيتها، فكما أن الحسيدية كانت هي الأخرى حركة مشيحانية كامنة ساكنة بدون ماشيَّح، فإن الصهيونية تحولت إلى مشيحانية نشيطة (بدون ماشيَّح أيضاً) إذ يؤكد الصهاينة عملية خلاص الشعب اليهودي الذي يأخذ شكل عودة إلى صهيون دون انتظار الماشيَّح (أي شكل التعجيل بالنهاية). والصهيونية، في نهاية الأمر، هي التعبير عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي، وهي طبقة عبَّرت عن نفسها في بداية الأمر من خلال رؤية حلولية تبشر بالخلاص القومي وترابط الثالوث الحلولي (الإله والشعب والأرض) ثم توارت قليلاً نتيجة القضاء على السلطة المركزية اليهودية فعبَّرت عن نفسها بشكل فردي من خلال القبَّالاه (التأملية والعملية) وهي تعود إلى سابق عهدها في العصر الحديث، حيث يصبح الخلاص مرة أخرى خلاصاً قومياً ويصبح التأمل الأيديولوجيا الصهيونية التي تستعيد تَداخُل النسبي والمطلق، وتؤكد ارتباط الشعب بالأرض نتيجة الحلول الإلهي أو سريان روحه المقدَّسة. والقبَّالاة العملية هي الاستيلاء على الأرض ونقل اليهود إلى فلسطين (ونقل العرب منها) وتصبح الدولة الهيكل الذي يتعبد فيه الصهاينة ويهود العالم ويقدمون له القرابين (فهي استعادة للعبادة القربانية المركزية).

              وعلى كلٍّ، فالنمط الصهيوني ليس مختلفاً عن الأنماط القومية العلمانية التي انتشرت في أوربا ابتداءً من عصر الملكيات المطلقة حين حوَّل الملك نفسه إلى مطلق، ثم حوَّلت الدولة نفسها إلى مطلق واحد أحد يدين له الجميع بالولاء، فهي محط الحلول الإلهي أو هي التعبير عن الحلولية بدون إله. وهدف هذه الدولة هو التحكم الإمبريالي في كل مواطني الدولة وشعوب الأرض عن طريق عمليات ترشــيدهم (فـي إطــار مــادي) من خلال المؤسسات التربوية والأمنية وقطاع اللذة والعلم والتكنولوجيا وأخيراً القوة العسكرية.

              وقد كان الحاخام الصهيوني (القلعي) من المهتمين بالحسابات القبَّالية. كما تأثر كثير من المفكرين الصهاينة بالفكر القبَّالي، ومن أهمهم الحاخام أبراهام كوك الذي توصَّل إلى صيغة صهيونية ليست قومية دينية وحسب، وإنما صيغة صهيونية قومية عضوية حلولية لا تقنع فقط بالرؤية التقليدية التي ترى أن الإله قد يجعل اليهود محط عنايته الخاصة بل تؤكد كذلك أن الإله يحل فيهم كجماعة حتى يشكِّل هو والشعب والأرض ثالوثاً حلولياً صهيونياً. وقد تأثر مارتن بوبر كذلك بالأساطير القبَّالية من خلال اهتمامه بالحسيدية. كما يُلاحَظ أثر القبَّالاه في فكر جماعة جوش إيمونيم. ويُعَدُّ الحاخام تسفي كوك، حفيد أبراهام كوك، من أهم مفكريها. وفي مقابلة بين كاتب إسرائيلي من رافضي الاستيطان في الضفة الغربية وأحد أعضاء جوش إيمونيم، قال الأخير: "انطلاقاً من تراث القبَّالاه، العالم مقسَّم إلى خمسة أقسام: الجماد والنبات والحيوان والناطق واليهودي. والتناقض الأساسي كامن بين الناطق واليهودي".

              وآخر كُتب القبَّالاه في العالم الغربي وضعه بالألمانية هيرتس أبراهام شيير، ونُشر عام 1875. ولكن، ظهرت كتب قبَّالية مختلفة في شرق أوربا والشرق الأوسط حتى الحرب العالمية الثانية. ولا تزال كتب القبَّالاه تُكتَب وتُطبَع وتُنشَر في إسرائيل. ويبدو أن القبَّالاه، بصورها المجازية ورموزها الجنسية، تركت أثراً في فرويد، وفي كثير من الأدباء اليهود مثل كافكا كما أن أساليب القراءات الباطنية التي تفصل الدال عن المدلول المباشر تركت أثرها في أتباع المدرسة التفكيكية.

              ومما يجدر ذكره أن هناك قبَّالاه مسيحية ظهرت منذ القرن السابع عشر، أي بعد الإصلاح الديني، وحاولت أن تستخدم المنهج القبَّالي في تفسير الكتب الدينية وتفرض عليها معنىً مسيحياً بحيث يصبح آدم قادمون هو المسيح على سبيل المثال. وقد كان كثير من القبَّاليين المسيحيين من اليهود المتنصرين. وقد تركت القبَّالاه المسيحية أثراً عميقاً في التصوف المسيحي في الغرب، كما استخدم بعض الشعراء الرومانسيين رموزها، مثل الشاعر الإنجليزي وليم بليك. ولا شك في أن انتشار القبَّالاه المسيحية ساهم في تهويد المسيحية وفي بعث الجوانب الغنوصية فيها.
              اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
              http://www.rasoulallah.net/

              http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

              http://almhalhal.maktoobblog.com/



              تعليق


              • #22
                أســباب شـعبية القبَّالاه وهيمنتهـا عـلى الوجدان الـديني اليـهودي ثم اختفائها
                Reasons for the Popularity of the Kabbalah, its Domination over the Jewish Religious Imagination, and its Eventual Disappearance


                يمكن القول بأن القبَّالاه وتراثها وطريقتها في تفسير النصوص اليهودية المقدَّسة، وإيمانها بالحل السحري وبالخلاص القومي، أخذت تسيطر بالتدريج على الوجدان الديني اليهودي ابتداءً من القرن الرابع عشر، وهيمنت عليه تماماً مع نهاية القرن الثامن عشر، وذلك للأسباب التالية:

                1 ـ كانت اليهودية، في الجزء الأول من تاريخها، ديانة تؤمن، رغم الطبقة الحلولية التي تراكمت داخلها، بشكل من أشكال التوحيد، في وسط وثني مشرك: آشوري أو مصري قديم أو يوناني أو روماني. وقد حاولت اليهودية آنذاك أن تُوسِّع الهوة بينها وبين أصحاب الديانات الوثنية الأولى بقدر المستطاع. ولذا، فإننا نجدها ترفض تماماً الفكر الأسطوري وقصص الخلق المستفيضة الموجودة في ديانات الشرق الأدنى القديم، وذلك رغم تأثرها بهذه الديانات في كثير من الوجوه، ورغم أن النسق الديني اليهودي (كتركيب جيولوجي) قد احتفظ بكثير من التراكمات الوثنية. ولكن، ومع ظهور الديانتين التوحيديتين الأخريين (الإسلام والمسيحية)، وسيطرتهما على المحيط الحضاري الذي كانت تتحرك فيه اليهودية، وجدت اليهودية نفسها دون وظيفة خاصة أو هوية مستقلة. ورغم هذا، وربما بسببه، استمر الحاخامات في توسيع الهوة بين اليهود وأصحاب الديانات التوحيدية الأخرى، فتبنوا الأسطورة كوسيلة لاكتشاف الواقع وبدأوا من خلال التلمود، ثم من خلال التراث القبَّالي، في نسج الأساطير. وتُعتبَر القبَّالاه، من هذا المنظور، استجابة اليهود لتغلغل الفكر العقلي والتوحيدي، وتعبيرهم عن محاولات الحفاظ على التماسك وعدم التفكك في وجه التحدي الذي أفقدها تميزها ووظيفتها. وقد أنجزت القبَّالاه ذلك عن طريق التخلي (إلى حدٍّ كبير) عن كثير من العقائد اليهودية الحاخامية، ومن خلال تأكيد بعض الأفكار التي كانت تشغل مكانة هامشية في النسق الديني اليهودي، وعن طريق الأساطير التي نسجها القبَّاليون من خلال منهج تفسيري تأويلي فريد.

                2 ـ لم تكن هناك مؤسسات دينية يهودية شاملة تضم كل يهود العالم، كما لم يكن هناك جهاز تنفيذي يضمن شيوع أفكار هذه المؤسسات ويقضي على النزعات الحلولية الوثنية الشعبية ويكبح جماح الهرطقة. وهذا ما سمح للقبَّالاه، بكل ما تشتمل عليه من هرطقات غنوصية، أن تنمو بهذا الشكل المتضخم.

                3 ـ كما أن تركيب اليهودية الجيولوجي جعل من اليسير على أي مفكر ديني، مهما كانت درجة تطرفه، أن يجد سنداً وسوابق لآرائه. وقد فتحت فكرة الشريعة الشفوية باب التفسير والتأويل على مصراعيه بحيث أصبح في مقدور كل يهودي أن يفرض رؤيته.

                4 ـ ومما لاشك فيه أن اضطلاع أعضاء الجماعات بدور الجماعات الوظيفية عَمَّق الاتجاهات الصوفية. فالجماعات الوظيفية تعيش خارج العملية الإنتاجية في المجتمع. ولكنها، لأنها ليست منه، نمت لديها عقلية مجردة لا علاقة لها بما هو متعيِّن. كما أن اضطلاع اليهود بدور التاجر ساعد في تعميق هذه الاتجاهات، والتجارة الدولية تُحطم فكرة الحدود وتُشجِّع النزعات الصوفية (والواقع أن العلاقة بين التجارة والصوفية أمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة). وتستند رؤية الجماعة الوظيفية إلى العالم إلى مركب حلولي، فتجعل من ذاتها مركز القداسة ومصدر المطلقية (مقابل مجتمع الأغلبية المباحة النسبية). وقد لعبت عقيدة الماشيَّح (الذي سيأتي في نهاية الأيام ليحرر اليهود ويعود بهم إلى صهيون) دوراً في تعميق هذا الاتجاه، فهي عقيدة تفصل اليهودي عن الزمان والمكان وتجعله ينتظر آخر الأيام بحيث يركز عيونه على البدايات والنهايات متجاهلاً التاريخ وتركيبيته. ولذا، يمكن القول بأن ثمة علاقة ما بين تحول الجماعات اليهودية التدريجي إلى جماعات وظيفية وذيوع القبَّالاه التدريجي بينها.

                5 ـ والقبَّالاه هي أيضاً رد فعل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي إزاء تدهور وضعهم وفقدانهم دورهم كجماعات وظيفية. فكلما ازدادوا بُعْداً عن مركز السلطة وصنع القرار، وكلما ازدادوا هامشية وطفيلية ازدادوا التصاقاً بالقبَّالاه التي كانت تعطيهم دوراً مركزياً في الدراما الكونية، وتجعل الذات الإلهية مرتبطة بهم ومعتمدة عليهم. والقبَّالاه، بذلك، هي تعبير عن حالة مرضية، ولكنها في الوقت نفسه استجابة لهـذه الحـالة أخذت شـكل الانسحاب من العالم إلى داخل القوقعة. ولذا، فبينما كان بعض الفلاسفة اليهود يؤكدون العناصر المشتركة بين اليهودية والديانات التوحيدية الأخرى (وعلى سبيل المثال، حاول ابن موسى بن ميمون، في مصر، أن يُطهِّر اليهودية من كثير من العنـاصر الغريبة فيـها بإدخال عناصر إسلامية على العبادة اليهودية، مثل السجود)، كان القبَّاليون يحاولون أن يبينوا الاختلافات العميقة بين الدور الذي يلعبه اليهود في عملية الخلاص ودور أصحاب الديانات الأخرى. وهكذا، بررت القبَّالاه لليهود ذلك العذاب، الذي كانوا يتصورون أنه يحيق بهم في كل مكان، باعتباره أمراً منطقياً ينجم عن مركزيتهم.

                6 ـ كان طَرْد اليهود السفارد من إسبانيا كارثةً عظمى رجت اليهودية رجاً، وبينت مدى هشاشة موقف أعضاء الجماعات اليهودية. وقد انتشر اليهود السفارد ونشروا معهم تعاليم القبَّالاه في مختلف أنحاء العالم، وبدأت الأيدي تتداول المخطوطات التي كانت مقصورة على العالمين بأسرار القبَّالاه، وخصوصاً أن كتب القبَّالاه تشبه من بعض الوجوه الكتب الإباحية، الأمر الذي زاد شعبيتها.

                7 ـ انتقل مركز اليهودية، بعد طرد اليهود من إسبانيا، إلى العالم المسيحي. ومع القرن السادس عشر، استقر أغلبية اليهود فيه. كما أن السفارد أنفسهم كانوا يعيشون، قبل طردهم، في بيئة كاثوليكية ثرية وتشربوا كثيراً من أفكارها. وثمة نظرية تذهب إلى أن اليهودية التي انتشرت في شبه جزيرة أيبريا كانت ذات طابع شعبي صوفي حلولي لا يُفرِّق بين الأنساق الدينية المختلفة كما هي عادة الديانات الشعبية. وقد أدَّى هذا إلى تسرُّب أفكار مسيحية كثيرة إلى الفكر الديني اليهودي. ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث لنسق ديني هو أن يتبنى أفكار دين آخر وصُوَره المجازية، فهذه الأفكار مرتبطة بأفكار أخرى، ولها دلالات مختلفة داخل نسقها، ولكنها حينما تُنقَل تصبح مثل الخلية السرطانية. وهذا ما حدث لليهودية، إذ تأثر الفكر القبَّالي بفكرة التثليث المسيحية وتحولت إلى فكرة التعشير، إن صح التعبير، أي أن يتحول الإله إلى عشرة أجزاء في واحد وواحد في عشرة، وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت). كما أن الفكر الديني اليهودي بدأ يتأثر بالمسيحية الشعبية بكل ما تحمل من أساطير واتجاهات غنوصية (وقد لاحَظ أتباع إبراهيم أبو العافية التشابه الشديد بين فكره القبَّالي والمسيحية، فتنصروا).

                8 ـ تزامن انتشار القبَّالاه مع ظهور المطبعة العبرية في القرن السادس عشر، فطُبعت من الزوهار طبعتان كاملتان بين عامي 1558 و1560، في كريمونا ومانتوا في إيطاليا، ثم تبعتهما طبعات أخرى في أزمير وسالونيكا وألمانيا وبولندا. وقد أدَّى كل ذلك إلى انتشار القبَّالاه على نطاق واسع يفوق انتشار التلمود. ومع حلول القرن السادس عشر، احتلت كتب القبَّالاه مكان الصدارة بين كل الكتب الدينية.

                كل هذه الأسباب المتصلة بأعضاء الجماعات اليهودية (وخصوصاً في الغرب) ساعدت على انتشار الرؤية الحلولية القبَّالية بينهم وهيمنتها عليهم. والرؤية الحلولية القبَّالية هي في جوهرها وحـدة وجود روحـية كاملة تحمل استعداداً للتحول لوحدة وجود مادية. وهذا ما حدث مع تَزايُد نزعات العلمنة في المجتمع الغربي وما واكب ذلك من انتشار الفكر الحلولي وتحوُّله إلى وحدة وجود مادية، وهو الأمر الذي أنجزه إسبينوزا في إطار الفلسفة الغربية. وقد حدث شيء مماثل داخل الفكر الديني اليهودي إذ بدأت وحدة الوجود الروحية تتحول إلى وحدة وجود مادية (من خلال مرحلة شحوب الإله والفكر الربوبي ثم مرحلة موت الإله). وقد دخلت القبَّالاه مرحلة وحدة الوجود الروحية الكاملة في حركات مشيحانية مثل الشبتانية والفرانكية التي تحولت تدريجياً إلى وحدة وجود مادية وبالتالي اختفت الديباجات الروحية ومعها الأساطير والصور المجازية القبَّالية وحلت محلها الأساطير والصور المجازية العلمانية فبدلاً من الصور المجازية الجنسية ظهر فرويد حيث تحل الإيد Id محل اليسود، وظهرت النزعة الطبيعية المادية حيث تحل قوانين الحركة وقوانين العود الأبدي محل الدورات الكونية، وظهرت الصهيونية حيث يحل الاستيطان في الأرض محل الالتصاق بالإله (ديفيقوت)، وظهرت ما بعد الحداثة حيث يحل الاخترجلاف محل تبعثر الشرارات وانفصال الدال عن المدلول محل الجماتريا.

                الموضوعـات الأساسـية الكامنـة في القبَّالاه وبنيـة الأفكـار
                Major Themes of the Kabbalah and Structure of Ideas


                تطورت القبَّالاه وتراثها، عبر مراحل تاريخية عديدة، من قبَّالاة الزوهار إلى القبَّالاه اللوريانية، وانقسمت إلى أشكال مختلفة من قبَّالاه نظرية أو تأملية إلى قبَّالاه عملية. وحفلت هذه الاتجاهات والحركات على اختلافها بمفكرين عديدين، لكلٍّ إسهاماته وتفسيراته. وهذا الأمر ليس غريباً على حركة ذات طابع حلولي غنوصي إذ تلفح المفسر لفحة من الحلول الإلهي فيصبح مقدَّساً وتكتسب تفسيراته قدراً من القداسة. ومع ذلك، تظل هناك موضوعات أساسية وبنية عامة كامنة (نموذج كامن) تعبِّر عن نفسها من خلال الكتابات القبَّالية. والواقع أن وجود مثل هذه الموضوعات وتلك البنية هو ما يبرر لنا استخدام كلمة «قبَّالاه» للإشارة إلى هذه الكتابات كلها.

                وتوجد في القبَّالاه رؤية فيضية للخلق، ورؤية للشر وللإنسان، ولعلاقة الإله بالإنسان، وللشعب اليهودي ووضعه في العالم. كما أن التراث القبَّالي يستخدم مجموعة من الصور المجازية ذات دلالات فلسفية ونفسية وكونية عميقة. وسنحاول في هذا المدخل أن نبين تلك الموضوعات والصور المجازية التي تشكل نسيج البنية العامة. ويمكننا، منذ البداية، أن نقول إن القبَّالاه تَصدُر عن رؤية واحدية كونية تستند إلى ركيزة نهائية غير متجاوزة للنسق وإنما كامنة فيه. والبنية العامة للفكر القبَّالي بنية حلولية عضوية دائرية مغلقة حتى أن كل ما يظهر فيها من تعدُّد وتنوُّع أمر ظاهري، فداخل البنية الحلولية المغلقة تُردُّ كل الظواهر إلى مستوى واحد وتُلغى كل الثنائيات وتصبح كل الأشياء متقابلة ومتساوية بعضها مع البعض الآخر، ومع المطلق الكامن وراء كل شيء والذي يحل فيه ويتجسد من خلاله. فإذا كانت هذه البنية مُكوَّنة من (أ) و(ب) و(جـ) و (د)، على سبيل المثال، فإننا سنكتشف أن (أ) هي، في نهاية الأمر، (ب)، وأن (ب) هي مقابل (جـ) ومساوية لها، تماماً كما أن (جـ) و(د) متصلان ومتقابلان ومتساويان. ومن ثم، فإننا نكتشف أن (أ) هي (ب) و(ب) هي (جـ) و(جـ) هي (د)، وهكذا، رغم كل التغيرات والتحولات. ولكن يُلاحَظ أن العكس يمكن أن يحدث أيضاً، فبدلاً من اختفاء الثنائيات وتَوحُّدها قد تتصلب وتتحول إلى ثنائية صلبة أي ثنوية. وهنا بدلاً من أن تكتسح دائرة القداسة الجميع نجد أنها تنغلق على نفسها تماماً ويتم تقسيم العالم على أساس قطبين متعارضين: الطاهر المقدَّس مقابل المدنَّس المباح.

                ويتبدَّى النسق المغلق في الرؤية القبَّالية لخلق العالم، فهذا الخلق لم يكن من العـدم، ولم يتم دفعـة واحدة كما هو الحال في الديانات التوحيدية، وإنما عن طريق الفيض الإلهي. وقد ذكر رفائيل باتاي أن رؤية القبَّالاه للإله تطورية، أي أن الإله وُجد، أو أوجَد نفسه على مراحل داخل الزمان. وقد تم خَلْق العالم من خلال عملية صيرورة مركبة بحيث يتحـول اللاشـيء الإلهي إلى الكيـان الإلهي، ويتجه من الداخل إلى الخارج. وتبدأ هذه العملية في جذر الجذور، أي في «الإين سوف» التي يمكن أن تُترجَم إلى «اللانهائي» (أو «اللامحدود» أو «العلة الأولى» أو «الذي لا نظير له») الذي لا يستطيع العقل الإحاطة به. ولكن «الإين سوف» هو أيضاً «الآيين» (أو «اللاشيء» أو «العدم» أو «التخفي الإلهي»). ولذا، فإنه يُسمَّى «الإله الخفي» الذي لا يمكن أن يكون إلهاً بالمعنى المألوف للكلمة، كما لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه. وقد أشارت إليه القبَّالاه بأنه «المطلق» الذي يقطن في أعماق العدم، وقد انبثق الآني (أي الأنا الإلهية) عن الآيين. ويشير القبَّاليون إلى أن الآيين والآني يضمان الحروف الساكنة نفسها وهو ما يشي بأن العدم والإله هما شيء واحد.

                وقد تمت عملية التحول هذه على شكل تطوُّر من الهو إلى الأنت إلى الأنا، على النحو التالي:

                الهو: الإله المتخفي المنفصل عن العالمين.
                الأنت: الإله الذي يعبِّر عن كيانه والذي يدركه الناس.
                الأنا: الإله المكتمل المتجلي الذي عبَّر عن كماله المطلق.

                وهذه هي المرحلة التي يمكن أن يقول فيها الإله لنفسه أنا، وأنا هذه هي الشخيناه، أي جماعة يسرائيل، وهي المرحلة التي يجد فيها الإله نفسه (وهذه الأفكار لها صداها في فلسفة مارتن بوبر الذي لم يكن يعرف التلمود، بل درس الفكر الحسيدي فقط وبالتالي الفكر القبَّالي). وهكذا انبثق الإله من ذاته وظهر الآني من الآيين، أي من العدم، وظهرت هذه الخاصية العلوية السماوية التي تشكل بداية الفيض الإلهي، وكان يُقال لها «الفكر الإلهي» (محشفاه)، ثم أُطلق عليها فيما بعد اسم «الإرادة الإلهية»، الأمر الذي يبين تحوُّل القبَّالاه عن العقل والتأمل الفكري إلى الإرادة والرغبة. عند هذه النقطة، تبدأ سلسلة الفيض التي تنبثق من الإرادة الإلهية (سفيروت)، وهي القدرات الإلهية الكامنة التي تتحول إلى القداسة المتجلية، والتي تأخذ شكل إشعاعات صادرة من النور الذاتي للإله على هيئة تجليات، وهذه الإشعاعات هي التي أوجدت العالم. ولذا، فإن السفيروت هي القوى الكامنة والتجليات النورانية نفسها، وهي أيضاً مراحل التجلي والبؤر والصفات الإلهية ودرجات الوجود الإلهي. لكن هذه الأشياء تشكل، أولاً وأخيراً، الوساطة بين الكون والإله وتكون بمنزلة حلقة الوصل بينهما، ولذا فإننا نترجمها بعبارة «التجليات النورانية العشرة».

                وإذا كان الإين سوف يَصعُب إدراكه، فإن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) على خلاف ذلك تماماً، فهي في مجموعها تشكل الإله الشخصي الذي يمكن إدراكه والذي يتوجه إليه المصلون (ويمكننا أن نرى الواحدية والازدواجية والتعددية). ولتأكيد الواحدية والتعددية في وقت واحد، يُشبِّه القبَّاليون السفيروت بالألوان التي يراها الإنسان في قمم ألسنة اللهب، ويقرِّرون أن عملية الفيض هذه هي الطريقة التي خلق الإله بها ذاته ثم خلق بها العالم.

                ودرجات السفيروت، أو التجليات النورانية العشر، هي:
                1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى، وهو أيضاً الإرادة المقدَّسة أو الرغبة المقدَّسة، ويشار إليه أحياناً بالتاج وحسب، ويساوي بعض القبَّاليين بين التاج والإله الخفي (ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) فهو الإين سوف وهو أحياناً الآيين.

                2 ـ حوخمه، أي الحكمة، أول التجليات المتعيِّنة، وهي الفكر الإلهي الكوني الذي يسبق الخلق، والذي لا يقبل التقسيم، وهي تحتوي على النمـاذج المُـثلى التي وضعها الخـالق لكل العوالم، وهي العلة الذكرية الأولى.

                3 ـ بيناه، أي الفهم، وهو عكس الحكمة، فهو العقل الذي يميز بين الأشياء، ولذا فهو المرحلة التي يتحقق فيها النموذج الخفي ويأخذ شكلاً محدداً وهي العلة الأنثوية الأولى.

                4 ـ جيدولاه، أي العظمة، وأحياناً يشار إليها بلفظ «حسيد»، وهي الحب الفائض للإله أو الرحمة.

                5 ـ جبوراه، أي القوة أو السلطة، وغالباً ما يشار إليها بلفظ «دين»، أي الحكم الصارم، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة.

                6 ـ تفئيريت، أي الجمال أو الجلال، ويُشار إليه أيضاً بلفظ «رحاميم» أي التعاطف، وهو الوسيط بين التجلي الرابع والتجلي الخامس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. ويُقال إن هذا التجلي أهم التجليات، ربما لتوسُّطه كل التجليات ولدوره في عملية الخلق.

                7 ـ نيتسح، أي التحمل أو الأزلية (أو النصر).

                8 ـ هود، أي الجلالة أو المجد أو العظمة.

                9 ـ يسود عولام، أي أساس العالم، ويُشار إليه أحياناً بلفظ «يسود» وحسب، أي الأساس، وكذلك على «التساديك»، أي الصديق، أو الرجل التقي، وهو الذي ترتكز عليه كل التجليات السابقة.

                10 ـ ملكوت، أي المملكة، أو عتاراه أي الجوهرة.

                وتفترض فكرة الفيض ثلاثة مفاهيم متناقضة: الواحدية والتعددية (أو الثنوية) والتقابلية. فالفيض يتم على مراحل تنتهي بجماعة يسرائيل ثم العالم. ولكل مرحلة من مراحل الفيض استقلالها وحيويتها ووظيفتها. ولكن فكرة الفيض تفترض أيضاً العكس، أي وجود وحدة تنتظم كل المخلوقات، وضمنها الإنسان، بل تنتظم الإله نفسه، بحيث يصبح الإله ومخلوقاته (أي الإله من جهة والإنسان والطبيعة من جهة أخرى) عناصر في وحدة متكاملة لها المصير نفسه ولا يفصلها فاصل. بل إن كل مراحل الفيض، رغم اختلافها، تصبح على مستوى من المستويات الشيء نفسه، وتحمل الصفات نفسها. ويرى القبَّاليون كذلك أن ثمة اتحاداً متوازياً، متقابلاً بين الإله وكل مخلوقاته، وأن السماء تشبه الأرض، والإله يشبه الإنسان، والتاريخ يشبه الطبيعة. وتقول إحدي أفكار التراث القبَّالي الأساسية:«كما في السماء كذلك في الأرض، كما في الداخل كذلك في الخارج». ومعنى ذلك أن أجزاء البنية متوازية ومتساوية متعادلة، فهي إذن بنية مغلقة لا ثغرات فيها.
                وتظهر التقابلية في جميع الرموز المتواترة في التراث القبَّالي، والذي يصوِّر الإله وعملية الخلق والتجليات العشرة على هيئة شجرة، وعلى هيئة إنسان.

                ويُشار إلى التجليات العشرة باعتبارها «آدم قدمون»، أي «الإنسان الأصلي» و«الإنسان الأزلي» الذي يُتوِّجه التاج، ويوجد الملكوت عند قدميه، وتشكل أعضاء جسمه التجليات العشرة. كما تشكل التجليات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي (عادةً المذكر)، والعاشر إما يشير إلى الصورة كلها أو يشير إلى الأنثى التي تصاحب الذكر أو يشير إلى عضو التأنيث. كما كان يُصوَّر الآدم قدمون وإلى يساره كل الصفات السلبية، مثل الصرامة والاحتمال، وإلى يمينه الصفات الإيجابية. والإنسان، من هذا المنظور، صورة مصغرة (ميكروكوزم) للعالم الأكبر (ماكروكوزم)، يكمن فيه كل من العالم السفلي المادي والعالم السامي الروحي وهو كذلك صورة مصغرة للإله.

                وتتكون الروح من ثلاث درجات يُطلَق عليها ما يلي:

                1 ـ «نيفيش»، أي «الحيوية»، وهي مصدر القوة الحيوانية والحيوية، وتقابل الحياة المادية.
                2 ـ «رُوَّح»، أي «الروح»، وهي مصدر السمات الأخلاقية.
                3 ـ« نيشماه»، أي «النفس»، أعلى الدرجات الثلاث، وهي تلك الدرجة التي تجعل الإنسان قادراً على دراسة التوراة وإدراك كنه الإله. ويرى القبَّاليون أنها شرارة من بيناه (الفهم)، وأنها غير قادرة على الخطيئة. وهذه الدرجة الروحية لا يصل إليها سوى التساديك (الصديق).

                وقد حاول القبَّاليون إماطة اللثام عن الروح، وفك القيود التي تربطها، بحيث يمكنها أن تتصل بالتيار المقدَّس الذي يجري في الكون كله. ويرى القبَّاليون أن العذاب في الجحيم سيحل بالنيفيش وحسب، وليس بالنيشماه. ويرى بعض القبَّاليين أن جسم الإنسان ما هو إلا رداء للشرارة الإلهية، ويرى البعض الآخر أنه جزء من الجانب الآخر، بينما يرى فريق ثالث أن وظائفه الجنسية هي الطقوس المقدَّسة التي تصوِّر ما يدور في العالم العلوي. ويظهر التقابل في نهاية الأمر في فكرة التماثل بين الإله وروح الإنسان والكون وفي تَداخُل هذه الأشياء، وهو تَداخُل ينم عن حلولية النسق.

                وقد تَعرَّض القبَّاليون لفكرة الشر، وحاولوا حلها من خلال إطارهم الحلولي الواحدي أو التعددي (الثنوي)، ثم من خلال فكرة التقابل. وكان القبَّاليون يقتربون من رؤية ثنوية للخير والشر، فالشر هو «السترا أحرا» (الجانب الآخر). بل إن بعض القبَّاليين يتحدثون عن تجليات اليسار، وهي تجليات مضادة؛ قوى مظلمة دنسة تعادي قوى القداسة والخير، وتدخل في صراع شديد معها للسيطرة على العالم. ومن هنا كان اهتمام القبَّاليين بالجن سمائيل (الشيطان) وزوجته ليليت في القبَّالاه.

                وتوجد شجرتان في التصور القبَّالي: شجرة الحياة المقدَّسة التي هي خير خالص لا يختلط بها أي شر أو دنس أو موت، وهي الشجرة التي كانت تحكم العالم قبل السقوط. وهناك أيضاً شجرة المعرفة (معرفة الخير والشر، والطهارة والدنَّس، والفضيلة والرذيلة) وهي الشجرة التي تحكم هذا العالم، ولذا فإن الموت مرتبط بها. وترتبط بهاتين الشجرتين رؤية ما يُسمَّى بالتوراتين: توراة الفيض وتوراة الخلق. فهناك توراة واحدة (مكتوبة) لها معنى ظاهري مرتبط بهذا العالم ويشمل الأوامر والنواهي والوصايا والشرائع والتشريعات، وهذه الأشياء مرتبطة بشجرة المعرفة. أما التوراة الثانية، فهي توراة نورانية، توراة العالم الخالي من الدنَّس، ولذا فهي لا تحوي أي أوامر أو نواه بل تدعو إلى الحرية الكاملة وإلى خَرْق الشرائع، وهي مرتبطة بشجرة الحياة المقدَّسة، وهي توراة غير مكتوبة لا تدركها سوى عيون الماشيَّح والواصلون والعارفون بأسرار القبَّالاه. ويُلاحَظ أن الرؤية هنا رؤية ثنوية حادة تشبه من بعض الوجوه كتب الرؤى (أبوكاليبس).

                ولكن القبَّاليين حاولوا أيضاً الاحتفاظ بإطار من الواحدية يُفسِّر الشر باعتباره القشرة الخارجية لشجرة التجليات النورانية والمحارة الخارجية التي تلف أشكال الوجود الدنيوي أو النمو المتطرف للحكم الصارم (دين) حينما ينفصل عن تجلِّي الحب الخالص. فالحكم الصارم داخل الذات الإلهية هو مجرد قوة محايدة، ولكنه حينما ينفصل عنها يصبح قوة مدمِّرة. وفي إطار الواحدية، تذهب القبَّالاه إلى أن التجليات المظلمة والقوى الشيطانية نفسها نبعت من الإله ولكنها انفصلت عنه، وهي بانفصالها أصبحت قوى شريرة، أي أن الشر هو تحطيم مؤقت وعارض للواحدية الكونية والمطلقة (وهو، من هذا المنظور، ليس له وجود حقيقي، وهو فقط انفصال شـجرة الحيـاة عن شـجرة المعرفة). ومن هذا المنظور، يصبح الشر مجرد نتيجة جانبية وليس الجانب الآخر للقداسة الإلهية نفسها (مثل النفاية التي تبقى بعد تنقية الذهب أو الثُّفْل الذي يبقى بعد عصر الخمرة الجيدة). ولما كان الشر تفرعاً عن التجليات الإلهية، فقد كان القبَّاليون يعتقدون أن ثمة شرارة مقدَّسة حتى في الجانب الآخر. ويُلاحَظ أن الرؤيتين الثنوية والواحدية للشر (باعتبار أن الأولى ترى أن الشر له وجود مستقل ومساو للخير، والثانية لا ترى أي وجود حقيقي له) متصلتان تماماً ومتشابهتان، فكلتاهما تخلع حتمية على الشر، بل نوعاً من القداسة! وقد أدَّى هذا في نهاية الأمر إلى شيوع الفكرة القائلة بالوصول إلى الخير عن طريق الرذيلة، في أوساط الشبتانيين والحسيديين، وهذا تعبير عن البنية المغلقة على المستوى الأخلاقي.

                وإلى جانب الإطار الثنوي والواحدي، حاول القبَّاليون حل مشكلة الشر انطلاقاً من صورة التقابل المجازية: فالعالم السفلي يتأثر بالعالم العلوي وبالتجليات المختلفة، فيأتي السلام والخير بتأثير الحسيد أو سفيروت الرحمة، والحرب والجوع بتأثير سفيروت (جبوراه). ولكن العالم العلوي يتأثر بدوره بالعالم السفلي، فهما متقابلان. وثمة تفسير قبَّالي لقصة الشجرة التي أكل منها آدم وحواء باعتبارها الواقعة التي أدَّت إلى فصل التجليات السفلى (الملكوت) عن التجليات العليا، وإلى انفصال الإله عن الإنسان، ومن هنا تكون الخطيئة الأولى هي الانفصال الذي أدَّى إلى نفي الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) مع جماعة يسرائيل، أي أن خطيئة الإنسان قد أثَّرت في مصير الإله نفسه تأثيرها في مصير الإنسان. ومن هنا عظَم جُرم الإنسان الذي أدَّى إلى تَفتُّت الإله، ومن هنا أيضاً تأتي أهمية ممارسة الشعائر الدينية التي تجد صداها في العالم العلوي وتؤثر فيه. ولذا، يحاول أتقياء اليهود، من خلال صلواتهم وأفعالهم، أن يصلحوا الكون وأن يعيدوا الشخيناه من المنفى، وهذه هي الفكرة التي أصبحت أساسية في القبَّالاه اللوريانية ويُطلَق عليها عملية التيقون (الإصلاح)، أي إصلاح الانفصال ورأب الصدع الذي حدث بين الإله والإنسان نتيجة خطيئة قطع الشجرة. وهذه الفكرة هي أدق تعبير عن الحلولية القبَّالية. وقد وردت في الأجاداه فكرة أن الإله يعتمد على الإنسان، بل إن الإنسان شريك الإله في عملية الخلق (ولهذا، فبوسعه التحكم في الأشياء الصالحة، ومن هنا ارتباط القبَّالاه بالسحر). وفي القبَّالاه، تصبح مهمة الإنسان استعادة تناسق حياة الإله الداخلية التي تعتمد على إرادة الإنسان (ومرة أخرى، يبدو كلٌ من الإله والإنسان شريكاً في عملية الخلاص). والواقع أن هناك تقابلاً بين الإله والإنسان وامتزاجاً كاملاً بينهما في الرؤية القبَّالية.

                ولعملية السقوط والانفصال أصداء مختلفة، فهي سقوط آدم وهي أيضاً سقوط أو هدم الهيكل، بل هي سقوط الكون كله. لكن جماعة يسرائيل، كما تقدَّم، هي جزء من الإله تُوجَد داخله، فهي التجلي أو السفيروت العاشر الذي هو الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) التي يتم نفىها مع الشعب اليهودي، ولذا، فإن نفي اليهود خارج أرض الميعاد له دلالات خاصة تفوق حالة النفي الكونية العامة، فنفيهم يعني تفتُّت الإله وتبعثره بل نفيه. ولهذا، فإن اليهود لهم مكانة مركزية في عملية الخلاص، إذ أن عليهم أن يحيوا حياة القداسة، والتركيز الصوفي وتنفيذ التعاليم الإلهية والتمسك بالشريعة. وبذلك يأتي الخلاص لليهود وللعالم بأسره، بل للإله نفسه، إذ أن الشخيناه، وهي وجه من أوجه الإله، لن تعود إلا بعودتهم، ولن يتم اكتمال وحدة الإله إلا بهذه العودة. وبذا، فإن وجود اليهود، وكذا أفعالهم، تُشكل أساساً لاتزان الكون ولعملية الخلاص الإلهية والبشرية. بل إن رحمة الإله لا تفيض إلا بسبب أفعالهم الخيرة، فتتحول حياة اليهود العادية إلى عملية مقدَّسة يستند إليها خلاص الكون نفسه.

                ويظهر التقابل، بل التطابق الكامل، بين الإله والإنسان وبين العالمين العلوي والسفلي، في استخدام القبَّاليين صورة مجازية جنسية عند الحديث عن الإله أو عن عملية الخلق. فالابن ـ وهو رمز ذكري واضح ـ (السفيروت السادس) يفيض بالرحمة الإلهية التي تنزل على التجلي العاشر الذي هو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الإله، وهي أيضاً جماعة يسرائيل التي يُشار إليها بتعبير «بنت صهيون» (بات تسيون). ومن خلال التفاعل بين عناصر الذكورة وعناصر الأنوثة، تفيض الرحمة على العالمين، وتتحد الذات الإلهية، وبذلك يصبح سر وحدة الإله والكون هو نفسه الوحدة الكونية. وتُستخدَم صورة الزواج المجازية للحديث عن علاقة الإله بالشعب (ونشيد الأنشاد هو نشيد زفاف الشعب إلى الإله!). والواقع أننا نتحدث عن هذه الأفكار بوصفها صوراً مجازية، ولكن قد يكون من الأدق الحديث عنها باعتبارها مقولات إدراكية أو حتى وجوداً أنطولوجياً أكثر منها صوراً مجازية بالمعنى المألوف، إذ أن بعض القبَّاليين كانوا يدركون الإله على هذه الهيئة. والصورة المجازية الجنسية القذفية الفيضية تعبير عن البنية المغلقة.

                وقد ورد في إحدى الدراسات أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة كنه علاقات التجليات، الواحدة بالأخرى، وبالتالي فهي لا تَصدُق على علاقة الإنسان بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي حسب هذا الرأي يختلف عن التصوف المسيحي الذي يرمي إلى تحقيق الاتحاد بالإله، في حين تهدف التجربة الصوفية اليهودية إلى التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن، كما بيَّنا، تمثل الشـخيناه حلقـة وصل عضوية بين التجليـات المختلفة الإلهية والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما أن فكرة التقابل بين الإله والإنسـان تجعل الوحـدة والحلولية الكاملة أمراً بيِّناً. وعلى كلٍّ، أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين، وفي إدراك علاقة الإنسان بالإله.

                وإذا كانت الحلولية التلمودية قد أدَّت إلى العزلة والتعالي، فإن الحلولية القبَّالية المتطرفة أدَّت إلى عزلة وتعال متطرفين، فزادت عزلة اليهود عن العالمين، ولم يَعُد الاختلاف بينهم وبين الأغيار مسألة عقيدة وإنما أصبح مسألة أصول ميتافيزيقية مختلفة، فأرواح اليهود مستمدة من الكيان المقدَّس في حين تَصدُر أرواح الأغيار عن المحارات الشيطانية والجانب الآخر. وأعضاء الشخيناه هم أعضاء الجماعة اليهودية، أما الأغيار فهم أبناء الشيطان (نتيجة اغتصاب الشيطان الابنة/الماترونت/الملكة). (يُلاحَظ أن الماترونيت هي مؤنث متاترون). والخيِّرون من الأغيار هم في الواقع أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وإذا كان اليهود يعيشون في الظاهر بفضل الأغيار، فإن العكس في الواقع هو الصحيح، فاليهود هم وحدهم القادرون على التأثير في قنوات الرحمة التي عن طريقها سيرسل الإله رحمته إلى العالم، وهم وحدهم الذين يقفون كوسيط بين الإله والعالم، فأعمالهم الطيبة هي التي تجعل الخير يعم الجميع، وذنوبهم هي التي تأتي بغضب الإله عليهم. ويوجد في القبَّالاه أيضاً ذلك الإحساس الذي يسري في كثير من صفحات التلمود، بأن نهاية التاريخ ستشهد عُلو جماعة يسرائيل على العالمين ودمار أعدائهم من الشعوب الأخرى.

                وقد وصف الحاخامات الأرثوذكس النزعة القبَّالية بأنها تخلت عن التوحيد اليهودي، وأحلت محل الإله الواحد عشرة آلهة (التجليات النورانية العشرة). وهم محقون تماماً في هذا، فالخلق عن طريق الفيض يفترض عشرة تجليات يحمل كل منها قداسة إلهية، كما أن كلاًّ منها منفصل عن الآخر، فهي تكاد تكون عدة آلهة أو إله واحد قابل للانقسام إلى أجزاء. ويمكن القول بأن التجسد في المسيحية يحدث مرة واحدة عند نزول المسيح (ابن الإله) ثم صلبه (وهو ما نسميه «الحلول الشخصي المؤقت النهائي»). أما التجسد في حالة القبَّالاه، فهو حالة حلولية دائمة لا تنتهي وتستمر عبر التاريخ، كما أن الفكر القبَّالي يفترض الشراكة بين الإنسان والإله وينطوي على ضرب من المساواة والتعادل والتقابل بينهما.

                ولكن التنوع والتعدد في السياق القبَّالي هما في واقع الأمر من قبيل الوهم، فهما مجرد مراحل وحلقات تؤدي إلى الوحدة والواحدية المطلقة النهائية، وهي وحدة تنكر الثنائية (وليس الثنوية) التي تسم الديانات التوحيـدية كافة وتتمـثل في ثنائية الجسـد والروح، والدين والدنيا. وأكثر من ذلك، فإن القبَّالاه تنكر انفصال الإله عن الكون، وتنتهي إلى وحدة مغلقة لا يتجاوز الإله فيها مخلوقاته. لكن هذه الوحدة المطلقة النهائية تنطوي على إنكار أية دلالة تاريخية وأي وجود إنساني متعَيِّن، ذلك لأن كل الظواهر المادية والروحية والمعنوية تدخل في إطار هندسي جامد وتخضع للقوانين الصوفية أو الميكانيكية أو الرياضية نفسها، أي أن التفكير القبَّالي تفكير غير جدلي ولا يرى أي تناقض حقيقي بين الأشياء، فهو يذيب حدودها تماماً، ويذيب الهويات كافة، ومنها هوية اليهود كأفراد، ولا يُبقي سوى هوية (وحقوق) جماعة يسرائيل كمركز للكون والجنس البشري والوجود الإلهي.

                ولكل هذا، فإن التفكير القبَّالي يحوي داخله نقيضين: تعدُّداً من ناحية، يرى الإله أجزاء وتجليات مختلفة، ومن ناحية أخرى واحدية متطرفة لا ترى أي وجود للإله خارج مخلوقاته المادية، وهذه إحدى سمات الأنساق الدينية الحلولية المتطرفة.
                اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                http://www.rasoulallah.net/

                http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                http://almhalhal.maktoobblog.com/



                تعليق


                • #23
                  الباهير
                  Bahir


                  «باهير» كلمة عبرية معناها «الساطع» أو «المشرق»، وهي اسم كتاب مجهول المؤلف يُعَدُّ أقدم النصوص القبَّالية. وقد كان هذا الكتاب معروفاً في جنوب فرنسا في نهاية القرن الثاني عشر (في منطقة عُرفت بالنزعات الهرطقية)، وإن كان تاريخ تأليفه لا يزال مجهولاً، ثم انتقل إلى إسبانيا في القرن الثاني عشر أو في القرن الثالث عشر، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا. ويحتوي الكتاب على أول محاولة لشرح النظرية القبَّالية الحلولية في الفيض الإلهي، وفكرة تناسخ الأرواح، كما يحاول الكتاب وضع أسس التفسير الصوفي لحروف الأبجدية العبرية، كما ترد في الرموز الصوفية القبَّالية في شجرة الحياة مثلاً. وقد وردت فيه كذلك فكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تجلت من الإله الخفي. ويعتمد كتاب الباهير على كتاب سبقه هو سفر يتسيرا (كتاب الخلق) . وبينما يميل كتاب الخلق إلى تَبنِّي المنطق الرياضي في حساب التجليات العشرة ودور كل شيء فيها وطبائع الحروف (المائية والنورانية والهوائية) نجـد أن كتاب الباهير يميـل إلى القصص الأسطوري. وقد لوحظ التشابه القوي بينه وبين كتابات بعض الجماعات الغنوصية مثل الكاثاريين (المرأة مساعد للشيطان ـ الشر نتيجة المعاشرة الجنسية بين آدم وبعض الجنيات ـ الشمال مصدر للشرور). وقد كُتب الباهير بخليط من العبرية والآرامية، وبأسلوب غامض، وبناء الكتاب غير متماسك. ويبلغ عدد كلمات الباهير اثنى عشر ألف كلمة. وظهرت أولى طبعاته في أمستردام عام 1651، وظهرت طبعة جديدة في القدس عام 1951، وترجمه إلى الألمانية جيرشوم شوليم.

                  التجليات النورانية العشرة (سفيروت)
                  Sephirot


                  «التجلِّيات النورانية العشرة» هي المقابل العربي لكلمة «سفيروت» العبرية، وهي من الكلمة العبرية «سفيراه» من الجذر العبري «سافار» المرتبط بالكلمات التالية: «سابار» (رقم) ـ «سيفر» (كتاب) ـ «سيبر» (يحكي) ـ «سابير» (لمعان) ـ «سيبار» (حدود). وكلمة «سفيروت» تعني حرفياً «الأعداد» أو «الأرقام»، ثم أصبحت الكلمة فيما بعد تشير إلى التجلِّيات الإلهية (ومن ثم فهي من أهم المفاهيم أو الصور الحلولية في القبَّالاه). وقد كانت هناك مصطلحات أخرى في بداية الأمر لوصف السفيروت أو حالة الامتلاء، فكانت تُسمَّى «الصفات» (ميدوت) أو «القوى» (كوحوت) أو «الدرجات» (معالوت) أو «الخطوات»، كما سُمِّيت «الأسس» و«الأسـماء» و«التيجـان» و«السـمات» و«القنـوات»، وسُمِّيت أخيراً «سفيروت».

                  والسـفيروت تجلّيـات الإشـعاعات الصادرة من النور الذاتي للإله، وهي التي أوجدت العالم، فهي جذر المخلوقات، وهي الواسطة وحلقة الوصل بين الإله والكون، فإذا كان الإله هو نقوداريشوناه (النقطة الأولى) فإن التجلّيات هي النقط (نقودوت)، وهي أداته في خلق العالم وحكمه، وهي أيضاً الأوعية التي يفيض فيها الإله، ولذا تُسمَّى أيضاً «قنوات الفيض» (سفيروت هشيفع). وهي أيضاً القوى الكامنة ومراحل التجلِّيات أو التجلِّيات نفسها، وهي نواحي الخلق وبؤره أيضاً. والتجلّيات النورانية عشرة، تركز قبَّالاة الزوهار على التأمل فيها، كما تُعنَى بتصنيفها ودراسة العلاقات بينها والهيئات التي تتخذها.
                  والتجلّيات النورانية العشرة في القبَّالاه اللوريانية تقابلها الصور التي تسمَّى «البرتسوفيم» وعددها خمس. ودرجات التجلّيات النورانية العشرة هي:

                  1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى للإله، وهي أيضاً الإرادة المقدَّسة والعقل الفعّال (لوجوس)، ويُشار إليها أحياناً بالتاج وحسب، وهي أول مرحلة تخرج من الإين سوف أو الإله الخفي. ومع هذا، يساوي بعض القبَّاليين بين هذا التجلي وبين الإله الخفي نفسه، فهو متوحِّد تماماً مع العدم وليس بإمكان العابد أن يدركه أو يصلى له. ويخرج من هذا التجلي النوراني زوجان مختلطان جنسياً، فهو كائن خنثى.

                  2 ـ الحوخمه، أي الحكمة، وهو أول التجلِّيات المتعيِّنة التي انفصلت عن الإله المتخفي، وهو الفكر الإلهي الكوني (محشـفاه) الذي يسـبق الخلق، ولذا فهو يحتوي على النماذج المثلى التي وضعها الإله لجميع العوالم، ويُشار إليه بأنه الأب العلوي أو السماوي، وهو أيضاً العلة (الذكرية) الأولى. وقد تحوَّل فيما بعد من الفكر الإلهي إلى الإرادة أو الرغبة الإلهية.

                  3 ـ البيناه، أي الفهم أو الذكاء. وهو خلاف الحكمة، فهو العقل الذي يميِّز بين الأشياء والذات والمخلوقات. ولذا، فهو المرحلة التي يتحقق أو يولد فيها النموذج الخفي الكامن ويأخذ شكلاً محدداً. وهذا التجلي النوراني هو أيضاً الأم السماوية، وهو عملية الخلق نفسها، وهو أيضاً العلة الأنثوية الأولى، ويدخل التجليان النورانيان الثاني والثالث في علاقة جنسية خاصة إذ يتزاوجان فينجبان التجليين النورانيين السادس والعاشر، وهما أهم التجلِّيات على الإطلاق. ولكن الفيض الإلهي يستمر وتظهر التجلّيات الأخرى.

                  4 ـ جيدولاه، أي «العظمة». وأحياناً يشار إليه بكلمة «حسيد»، وهو حب الإله الفائض والرحمة.

                  5 ـ جبـوراه، أي الـقوة أو السلطة، وغالباً ما كان يشار إليه بكلمة «دين»، أي «الحكم الصارم»، وهو مصدر الحكم الإلهي والشريعة والأوامر والنواهي والوصايا، وخصوصاً النواهي.

                  6 ـ تفئيرت، أي الجمال، ويشار إليه أيضاً بمصطلح «رحاميم» أي «التعاطف». وهو أيضاً الشمس والابن والملك المقدَّس وعريس يسرائيل، وهو الوسـيط بين التجـليين الرابع والخامـس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. وهو، كما تقدَّم، أهم التجلِّيات النورانية. ويُلاحَظ أنه يتوسط التجلِّيات، ويلعب دوراً مهماً في عملية الخلق والخلاص (وثمة أصداء واضحة هنا لفكرة ابن الإله وابن الإنسان وهي فكرة مسيحية).

                  7 ـ نيتسح، وهو التحمل، أو الأزلية والنصر.

                  8 ـ هود، أي جلال الإله.

                  9 ـ يسود عولام، أي أساس العالم. وهو أساس كل القوى النشيطة في الإله، وهو الذي يصل بينه وبين الأرض، ويُشار إليه أحياناً بكلمة «التساديك» (الصديق) أي الرجل النقي. ويرتكز على هذا التجلي كل التجلِّيات السابقة، كما أن الفيض الإلهي يصل إلى الشخيناه من خلال يسود عولام. ولذا، فهو يأخذ شكل القضيب.

                  10 ـ ملكوت، أو المملكة. وهو أيضاً عَتَراه (أو عتيريت)، أي التاج المرصَّع بالجواهر، أو الإكليل، وهي الشخيناه والماترونيت وكنيست يسرائيل (جماعة يسرائيل).

                  وتُقسَّم التجلّيات النورانية إلى مجموعات تضم كل منها ثلاثة: أولها التاج أو الإدارة، والحكم، والفهم، وهذه تشكل الجانب الفكري في الكيان الإلهي. أما العظمة والقوة والجمال، فتشكل الجانب النفسي أو الأخلاقي. وأما التحمُّل والجلالة والأساس، فهي تمثل القوى المادية في داخل الطبيعة. أما التجلي العاشر فيخضع لتفسيرات كثيرة، وهو القناة الموصلة بين الإله والدنيا. وتظهر الدروب أيضاً على هيئة مثلثات أو دوائر متداخلة، أو هيئة شجرة كونية شامخة جذورها في الإين سوف في الأعالي، وتمتد ساقها وأغصانها في اتجاه العالم الأرضي. وقد تم الربط بين التجلِّيات والرياح الأربع والعناصر الأربعة، وأيام الخلق السبعة والدورات الكونية السبع. كما ظهرت التجلِّيات على هيئة الآدم قدمون أو الإنسان الكوني (الأول أو القديم). وفي هذه الصورة، تشكل التجلِّيات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي، والعاشر يشير إما إلى الصورة كلها أو إلى الأنثى التي تصاحب الذكر. وعلى يسار الآدم قدمون كل الصفات السلبية، وإلى يمينه الصفات الإيجابية.

                  وقد صدرت كل التجلّيات عن الإين سوف الذي هو أيضاً الآيين، أي «العدم»، والذي يمكن أن نترجمه بعبارة «الإله الخفي»، وهو إله لا يمكن إدراكه ولا الصلاة له. أما التجلّيات النورانية، فهي تجليات ذاتية له، وفيض منه، وهي طريقه إلى أن يخلق نفسه. وقد كان يُنظَر أحياناً إلى التجلِّيات باعتبارها جزء لا يتجزأ من جوهر الإله، وأن مراحل التجلي تمت داخل الذات الإلهية. ولكن الرأي الغالب هو أن يُنظَر إليها باعتبارها أوعية منفصلة عنه يفيض فيها. وهذا يبين تذبذب القبَّاليين بين الرؤية التوحيدية التي ترى الإله جوهراً واحداً لا يتجزأ والرؤية الثنوية التي تقبل التعددية، وإن أدركت القبَّالاه الوحدة فهي وحدة أحادية حلولية مادية. والتجلّيات النورانية العشرة تقابلها تجلّيات عشرة مظلمة، هي السترا أحرا، وهي تجليات اليسار التي استقلت عن الذات الإلهية.

                  وعلاقة كل تجلٍّ نوراني (سفيراه) بسائر التجلّيات موضع دراسة مستفيضة من القبَّاليين، إذ يُنظَر إلى هذه التجلّيات باعتبارها متصلةً بعضها بالبعض الآخر، من خلال الشيفع، أي الفيض ، فتسري فيه الرحمة الإلهية وكأنها النهر. وأهم العلاقات بين التجلّيات علاقة التجلي السادس بالعاشر. فالتجلي السادس، وهو مركز النظام القبَّالي كلـه، يتلقـى فيض القوى العليا، وينسـقها ويرسـلها إلى القوى السفلى، ويجسد المقدرة الإبداعية الحيوية للتجليات ويعبِّر عنها من خلال الرموز الأساسية للذكورة، فهو كما أسلفنا الشمس والملك والعريس. أما التجلي العاشر، أي الملكوت، فهو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الخالق، وهي الرحمة والقمر والملكة والعروس. ولكن، رغم أن التجلي العاشر يقع أسفل باقي التجلِّيات، فإنه ذو اليد الطولى في علاقته بالعالم السفلي (البشـري)، فيـتم تأكيـد جوانبـه الملكـية، ويصـبح هو الأم التي تتلقى سيل الرحمة التي تفيض من أعلى (من التجلي السادس).

                  ويتم التعبير عن العلاقة الأساسية بين التجلِّيات المختلفة من خلال صورة مجازية أو مقولة إدراكية جنسية واضحة. فالعلاقة بين الأب والأم (التجليان الثاني والثالث) علاقة جنسية واضحة، وهما في حالة مضاجعة دائمة وعناق أزلي، ومتى أراد الأب أن يقذف، فإنه يجد الأم على استعداد دائم (وهذا يذكرنا بالكاما سوترا الهندوكية). ويجب ألا ننسى أن الأب والأم هما النموذجان الأمثلان المتحققان. وقد حملت الأم من الأب، وأنجبت الابن والابنة، وكانا في الأصل كائناً واحداً أحادياً مخنثاً (ذكر/أنثى) يعبِّر عن الواحدية الكونية، ولكن الابن انفصل عن الابنة وبدأت قصة الحب بين الأخوين.

                  وابتعاد الأخوين هـو مصـدر الخلل الكوني، فإذا اجتمعا عمَّ السلام. وكان من المفترض، بعد عملية الخلق الأولى، أن يجتمع الابن والابنة بالمعنى الحَرْفي والجنسي، ولكن السقوط أدَّى إلى فراقهما وزاده. ويبدأ الملك في البحث عن الملكة (الماترونيت أو الشخيناه). وتصف القبَّالاه العلاقة بينهما، وكيف كان الملك يمسح ثدييها ويجتمع بها. ويصبح التجلي التاسع «اليسود» (تساديك) عضو التذكير الذي يصل بين الملك والملكة (وبالتالي يصبح شيفا الذي يفيض بالمنيّ في التراث الهندوكي). وقد خلق الإله الشعب اليهودي ليُصلح الخلل ويُقرِّب الابن والابنة. ولكن، بسبب ذنوب جماعة يسرائيل، هدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.

                  وبذلك تصبح الصورة المجازية الجنسية المقولة الإدراكية التفسيرية الكبرى في القبَّالاه، فهي تبيِّن سر الكون، ومصدر الوحدة بين الإله ومخلوقاته، وأصل مكانة الشعب المختار المتميِّزة، وهي أيضاً الطريقة التي تتوحد بها الذات الإلهية وتتحقق إذ أن توحُّد التجلِّيات هو توحُّد الإله واكتمال وجوده. وفي إحدى الدراسات، ورد أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة علاقة التجلِّيات، الواحد بالآخر، وبالتالي فهي لا تنطبق على علاقة المخلوق بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي يختلف عن التصوف المسيحي حيث يرى المؤلف أن هدف التصوف المسيحي هو الاتحاد بالإله بينما هدف التجربة الصوفية اليهودية هو التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن الشخيناه، كما بيَّنا، تمثل حلقة وصل عضوية بين التجلِّيات المختلفة والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل الواحد عن الآخر. كما أن فكرة التقابل بين الإله والمخلوقات، وهي فكرة أساسية في القبَّالاه، تجعل الوحدة والحلولية الكاملة أمراً واضحاً. وعلى كلٍّ أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين وفي إدراك علاقة الإله بالإنسان. وإن كان ثمة اختلاف بين التصوفين المسيحي واليهودي، فهو في الهدف من عملية التوحد وفي نتيجته. فالهدف في التصوف المسيحي هو الفناء في الذات الإلهية، والثمرة هي السكينة، أما في التصوف اليهودي فالهدف هو التوحد مع الذات الإلهـية للتأثير فيـها، والثمرة هـي التحـكم. والتجلّيات النورانية هي، ولا شك، تعبير عن عودة ما إلى التفكير الأسطوري والأساطير الإغريقية بآلهتها المذكرة والمؤنثة وتصوير زواج زيوس بجونو، وهي تشبه أفكاراً مماثلة في النسق الديني الهندوكي. وبإمكان الدارس أن يُلاحظ كيف تأثر فرويد بهذا الفكر القبَّالي الذي درسه. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تجنيس الإله وتأليه الجنس (بمعنى الغريزة الجنسية).

                  التوحد بالإله والالتصاق به )ديفيقوت)
                  Devekut


                  «التوحد مع الإله والالتصاق به» ترجمة لكلمة «ديفيقوت» التي تعني «الالتصاق بالإله». والكلمة تشير إلى الحب العميق للإله الذي يؤدي إلى التوحد معه، وهو مفهوم حلولي. والمصطلح يستند إلى تلك العبارة التي وردت في سفر التثنية (11/ 22): "لتحبوا الرب إلهكم وتلتصقوا به". وقد صار الديفيقوت مفهوماً مركزياً في القبَّالاه، وأصبح يشير عند إبراهيم أبى العافية إلى «الشطحة الصوفية». وهذا هو أيضاً معنى الكلمة عند الحسيديين الذين أصبح الدفيقوت هو العنصر الأساسي في عبادة الإله عندهم. ولكن الالتصاق بالإله لا يعني الخضوع له أو الفناء فيه وإنما يعني التوحد به، وهو توحُّد يـؤدي إلى معرفـة الإنسـان سـر الإله وطبيعته وكنهه بحيث يمكن التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الكون.

                  التفسيرات الرقمية (جماتريا)
                  Gematria


                  «التفسيرات الرقمية» هي الترجمة العربية لكلمة «جماتريا»، وهي كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني «جيومتري» ومعناه «هندسة». ومنهج الجماتريا هو منهج في شرح كلمات من العهدين القديم والجديد، ويستند إلى تحليل القيمة العددية لحروف الكلمات العبرية التي يعتبرها المفسرون القبَّاليون وغيرهم مقدَّسة. وقد ظهر هذا المنهج بين معلمي المشناه (التنائيم) في القرن الثاني الميلادي، وورد في التلمود مائة وخمسون حالة استخدام للجماتريا، ثم ساد هذا المنهج بين المفسرين بسيادة الفكر القبَّالي وطموحه الأساسي للوصول إلى العرفان أو الغنوص أو الصيغة الهندسية التي تؤدي إلى التحكم في العالم. وتُفسِّر العبارة التي وردت في سفر التكوين (14 /14) «318 عضواً في بيت إبراهيم» بأنها تعني «خادم إبراهيم»، لأن القيمة العددية لاسم هذا الخادم هي 318. وكلمة «ريدو»، وهي بمعنى «اهبطوا» الواردة في سفر التكوين (40/2) وتُفسَّر بأنها تشير إلى عدد السنوات التي قضاها شعب يسرائيل في مصر وقيمتها 210 سنوات (فالراء = 200، والدال = 4، والواو = 6). وقد استخدم القبَّاليون الجماتريا لتحديد تاريخ قدوم الماشيَّح. ويتميَّز منهج الجماتريا بأن المفسِّر الذي يستخدمه يمكنه أن يستخلص من خلاله أي معنى من أي نص. فالعهد القديم مليء بالكلمات التي يَسهُل اختيار المناسب منها لتتلاءم مع الرقم الذي يريده واضع الحساب. وكان هرتزل يكتب خطاباته أحياناً بطريقة لا يمكن فهمها إلا باستخدام منهج الجماتريا في التفسير.

                  التجلي الأنثوي للإله (شخيناه)
                  Shekhinah


                  «التجلي الأنثوي للإله» تعبير تقابله كلمة «شخيناه»، وهي كلمة عبرية تعني حرفياً «السكون»، أو «الهجوع». وهي تشير في الأدبيات الدينية اليهودية إلى الحضرة الإلهية، أو حلول الإله في الإنسان والعالم. ويرى بعض علماء الدين أن ثمة علاقة بين فكرة الشخيناه، وفكرة اللوجوس في فلسفة فيلون. ويرى باتاي أن الشخيناه ـ أصلاً ـ إلهة كنعانية قديمة هي ملكة السماء وأن اليهود قاموا بعبادتها في المملكة الجنوبية قبل سقوط أورشليم، ويُقال إن بعض اليهود الذين فروا إلى مصر استمروا في عبادتها مدة طويلة بعد ذلك.

                  وقد جاء في العهد القديم (خروج 25/8، ولاويين 16/16) أن الإله يسكن وسط شعبه. ويؤكد التلمود أن الحضرة الإلهية لا توجد إلا في وسط الشعب. ولعل الشخيناه تتلبس أيضاً في اليهودي حينما ينفذ التعاليم الإلهية. وهي تتحول إلى حقيقة فعلية، أي تتجسد في الأشخاص والأماكن والأشياء ذات القداسة، وخصوصاً في ساعات الدروس الدينية والصلاة، أي أنها تتجلى داخل الزمان والمكان وفي الشعب اليهودي بأسره، ويرمز الضوء عادةً للشخيناه.

                  وفي التراث القبَّالي، تُعَدُّ الشخيناه أهم التجلِّيات النورانية العشرة (سفيروت) على الإطلاق، فهي السفيراه أو التجلي العاشر والأخير الذي يربـط بين الإله ومخلوقاته لأنهـا الحلقة الأخيرة وأقربها إلى العالم الأرضي، وهي التعبير الأنثوي عن الإله الذي يتلقى الفيض الإلهي (أو المنيّ الإلهي) ويوزعه على العالمين، وهي الابنة والماترونيت والملكة والقمر الذي لا يشع نوراً وإنما يعكس نور الشمس. وهي أيضاً راحيل التي تبكي من أجل الشعب، وهي الشفيعة بين الإله والإنسان (وهي في هذا تشبه العذراء مريم في اللاهوت الكاثوليكي الذي تأثر به القبَّاليون). وهي أخيراً كنيست يسرائيل أو شعب يسرائيل أو جماعة يسرائيل، وأعضاء الشخيناه هي أعضاء الشعب اليهودي. ورغم أنها آخر التجلِّيات، فإنها ذات اليد الطولى في علاقة كل التجلّيات بالعالم السفلي البشري، كما تجري المساواة بين الشخيناه والتوراة ويُقرَن بينهما.

                  والشخيناه، باعتبارها ابنة أو ملكة، كانت جزءاً من كيان واحد مخنث يضم الابن/الملك المقدَّس (السفيراه السادس) الذي انفصل عن أخته، ولكنه يبحث عنها دائماً ويطاردها، ولن يتم إصلاح الخلل الكوني الناجم عن سقوط الإنسان إلا بالجماع (الجنسي) بينهما. وقد خلق الإله الشعب اليهودي لإصلاح الخلل، وكان الكون قد اقترب من لحظة الخلاص هذه، حين اتحد الابن/الملك (في صورة موسى) مع الشخيناه فوق جبل سيناء. وكاد ينصلح الخلل، ولكن خطيئة العجل الذهبي أعادته مرة أخرى. ومع ندم الشعب على فعلته، بدأت مرة أخرى عملية الإصلاح التي أخذت شكل غزو أو اقتحام كنعان (هذا الاقتحام الذي يكتسب هنا معنىً جنسياً)، ثم بناء الهيكل الذي حلت فيه الشخيناه وتوحَّدت بالشعب (ويُلاحَظ أن كلمة «يحوِّد» العبرية وتعني «توحد» هي الكلمة التي تُستخدَم في النصوص الشرعية القانونية للإشارة إلى الجماع). وبسبب ذنوب جماعة يسرائيل هُدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.

                  وهدف الحياة الآن هو توحُّد (يحوِّد) الابن مع الشخيناه، فكلما زادت ذنوب جماعة يسرائيل زاد نفي الشخيناه وزاد بعدها عن الابن، وكلما حافظوا على الوصايا والصلاة وتنفيذ تعاليم التوراة ازداد اقتراب الابن من الابنة. وحتى يقوم اليهودي بدوره في عملية اليحود (الاجتماع/الجماع)، فإن عليه أن يردد الدعاء التالي قبل أن ينفذ أحد الأوامر أو النواهي، وقبل أن يؤدي صلاته: «من أجل توُّحد (يحوِّد) الواحد المقدَّس، الحمد له مع أنثاه (الشخيناه)». والشخيناه المنفيَّة البعيدة عن الابن/الملك/الشمس، يهجم عليها الشيطان سمائيل ويغتصبها، بل يهجم عليها آلهة (أو أشباه آلهة) آخرون، ويتمكنون جميعاً من السيطرة عليها وتملُّكها والتمتع بها. وقد كانت ثمرة هذا الاغتصاب خلق الأغيار الذين يرضعون منها، تماماً كما كان يفعل اليهود حينما كانت الشخيناه بينهم. ورغم أن الشخيناه هي العنصر الأنثوي، فإنها العنصر الأقوى والأكثر فعالية من العنصر الذكوري. وحينما تحين لحظة الانتقام من معذبي اليهود، ستتحول الشخيناه إلى وحش كاسر تقود جنوداً خرافيين. وهي بذلك (حسب رأي باتاي) تصبح مثل آلهة العذاب التي تُلحق الأذى بالجميع دون تمييز، وتصبح المرأة الكونية المدمرة التي تبتلع آلاف الأنهار: تتجه أيديها وأظفارها في جميع الاتجاهات ولا يهرب من قبضتها أحد. وسيخرج من بين ساقيها شاب هو الملاك ميتاترون الذي سيدمر العالم. ويُقال إن الشخيناه، في حالتها هذه، هي «السترا أحرا» أي (الجانب الآخر من الذات الإلهية) «قوى الشر».

                  وقد أثارت فكرة الشخيناه قضية الشرك والتوحيد. فهي يُنظَر إليها أحياناً كمجرد تجلّ للإله أو حتى كأحد أسمائه. ولكن أحد كتب المدراش جاء فيه فقرة يُفهَم منها أن الشخيناه مادة منفصلة عن الإله، وأنه وضعها بين جماعة يسرائيل، وأنه يتحدث معها أحياناً. والشخيناه، كما تَقدَّم، حلَّت في الهيكل، ولذا فقد أدَّى هدمه إلى صعودها إلى السماء أو إلى نفيها مع الشعب (وهناك رأي يذهب إلى أن جزءاً منها بقي حالاًّ في حائط المبكى يتأوه ويبكي من أجل الشعب). وخلاص جماعة يسرائيل يعني أيضاً خلاص الشخيناه. وهناك عبارات وطقوس وأدعية كثيرة يُفهَم منها تَجسُّد الشخيناه وتَجزُّؤها. ولابد أن فكرة التجسُّد هنا صدى للاهوت المسيحي أيضاً.

                  وقد حاول الفلاسفة اليهود أن يعيدوا تفسير فكرة الشخيناه بحيث يبعدون عن الإله أي تشبيه أو تجسُّد. ولذا، قرر سعيد بن يوسف الفيومي أن الشخيناه كيان مخلوق منفصل تماماً عن الإله، وبهذا احتفظ للجوهر الإلهي بوحدته. وقد قال: إن الشخيناه، مثل الملائكة، وسيط بين الإله والإنسان، وهي النور الذي يراه الأنبياء أثناء الوحي الذي يأخذ شكلاً بشرياً أحياناً. وقد تبعه موسى بن ميمون في ذلك. أما نحمان كروكمال، فقد حاول تفسيرها تفسيراً هيجلياً، فهو يرى أن لكل شعب قوة روحية، ولكن قوة الشعب اليهودي الروحية متجذرة في الروح المطلقة نفسها، وتأخذ أكثر الأشكال صفاء ونقاء، وتُدعَى الشخيناه. وهذا، حسب رأي كروكمال، ما كان يعنيه الحاخامات، حينما كانوا يقولون إن الشخيناه كانت تسير مع الشعب اليهودي. فهي هنا مثل فكرة الشعب العضـوي (فـولك) الألمانية التي نبـع منها الفـكر النازي. أما هرمان كوهـين، ففسرها بأنهـا الراحة المطلقة والأساس الأزلي للحركة. أما بوبر، فيعود إلى فكرة الانقسام والثنائية الأولى، فالشخيناه تعني أن الإله لم يهجر شعبه قط رغم كل معاناته وإنما يحل فيه وبينه. وتزداد الحلولية عند روزنزفايج، فالشخيناه جسر بين «إله آبائنا» و«بقية يسرائيل»، أي البقية الصالحة، كما أن نزول الشخيناه إلى اليهود وسكناها بينهم يعني الانقسام داخل الإله نفسه، فهو ينزل ويعاني مع شعبه يتجول معهم في منفاهم، بل إنه في نهاية الأمر يعاني أكثر من الشعب وتتحمل البقية الصالحة في يسرائيل أحزانه (وفي هذا صدى لفكرة الصلب المسيحية).

                  الـدورات الكونية
                  Cosmic Cycles


                  لم تتناول القبَّالاه علاقة الإله بنفسه، أو علاقته بالبشر، ورؤية الكون وفكرة الشر، وحسب، وإنما حاولت أن تقدم رؤية للتاريخ أخذت شكل الدورات الكونية. وحسب هذا الرأي، يتكون الزمان الكوني، أي تاريخ الكون من البدء حتى النهاية، من سبع دورات تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام. وتتكون كل دورة من وحدات طول كل واحدة منها سبع سنوات، في نهاية كل منها تقع السنة السبتية أو سنة شميطاه. ويتحكم في كل دورة أحد الكواكب السبعة. وفي الدورة الخمسين (النهائية) سيحطم الإله العالم، فيعود إلى حالة الهيولي أو الفوضى الأولى، ثم تبدأ دورات أخرى.

                  وفي رواية أخرى، يتحكم في كل دورة كونية أحد التجلّيات النورانية العشرة (سفيروت) ابتداءً من التجلي الرابع، فالثلاثة الأولى خامدة كامنة خفيَّة، ولا تتحكم في أية عوالم خارجة عنها. وتخرج العوالم السبعة، التي تناظر التجلّيات النورانية السبعة (4 ـ 10)، من البيناه (الفهم)، وهي تُسمَّى أم العوالم. وبعد ستة آلاف عام، يحل الألف السابع، وهي مرحلة تحل فيها الدورة الكونية، ثم تظهر دورة كونية تالية تتحكم فيها السفيراه التالية حتى الدورة السابعة حينما ينحلّ كل الزمان في اليوبيل الكوني، ويعود الكون للبيناه، وتبدأ الدورات من جديد.

                  وكان الرأي الغالب بين القبَّاليين أن العالم الآن في دورة الجبوراه أي العدالة الصارمة، ولذا فإن الدورة السابقة كانت دورة حب الإله الفائض أو دورة الحسيد.

                  ولكل دورة تفسيرها الخاص للتوراة. فالكلمات باعتبار أنها دوال، تظل كما هي، أما المدلولات فتتغيَّر تماماً. ولذا، فتوراة الدورة السابقة لم تكن تضم أياً من الفرائض (الأوامر والنواهي). وقد ذكر القبَّاليون أن بعض أرواح الدورة السابقة ظهرت مرة أخرى في هذه الدورة، ولذلك يستطيع أصحاب هذه الأرواح أن يقرأوا التوراة السابقة، ويمكنهم كذلك أن يخففوا عبء الأوامر والنواهي بل أن يبطلوها تماماً. وهذا ما فعله شبتاي تسفي وفرانك وغيرهما من أصحاب الحركات المشيحانية الترخيصية.

                  ويمكن التوصل إلى أن الدورة الزمنية الأخيرة، دورة الشخيناه، سترى سيادة أعضاء جماعة يسرائيل، باعتبار أنهم متوحدون معها، وهكذا ينتهي التاريخ بانتصار اليهود. وترتبط فكرة الدورات الزمنية بأفكار أخرى مثل التناسخ والآدم قدمون. ومن الواضح أن فكرة الشعب المختار والعودة هي فكرة تعويضية يحاول اليهود أن يشكِّلوا من خلالها رؤية للتاريخ تحقق لهم ما لم يتحقق في التاريخ الفعلي. ويُلاحَظ أيضاً أن القبَّالاه بشكل عام، وفكرة الدورات الكونية بشكل خاص، تدل على أن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يشعرون بمدى ثقل الحمل الذي وضعته عقيدتهم على كاهلهم، وبدأوا يبحثون عن مخرج من هذه الورطة. وقد كانت الحركات المشيحانية الترخيصية تحقق لهم ذلك، ثم جاءت الصهيونية لتطرح نفسها بديلاً عن اليهودية، ولتضع اليهود فوق اليهودية، ولتجعل منهم شعباً مثل كل الشعوب لا شعباً مختاراً ينوء تحت نير الاختيار. وغنيٌّ عن القول أن فكرة الدورات الكونية تلغي أي إحساس بالتاريخ وتركز على البدايات والنهايات فقط، وهذه سمة أساسية في فكر الجماعات الوظيفية وفي الفكر الصهيوني.
                  اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                  http://www.rasoulallah.net/

                  http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                  http://almhalhal.maktoobblog.com/



                  تعليق


                  • #24
                    قبَّالاة الزوهار والقبَّالاه اللوريانية
                    Zohar and Lurianic Kabbalah


                    تنقسم القبَّالاه إلى تيارين أساسيين، أو هي تيار أساسي واحد تفرَّع إلى عدة تيارات. أما التيار الأول فهو قبَّالاة الزوهار نسبة إلى كتاب الزوهار. وحينما تكون الإشارة إلى القبَّالاه بشكل عام، أو إلى القبَّالاه دون تخصيص، فإن المقصود عادةً هو قبَّالاة الزوهار («القبَّالاه النبوية» حسب تعبير جيرشوم شوليم)، وليس «القبَّالاه اللوريانية» نسبة إلى إسحق لوريا («القبَّالاه المشيحانية» حسب تعبير جيرشوم شوليم نفسه).

                    والواقع أن البنية الفكرية لقبَّالاة الزوهار هي البنية العامة للقبَّالاه قبل دخول الأفكار اللوريانية عليها. ويمكن الرجوع إلى مدخل القبَّالاه اللوريانية لمعرفة الفروق العامة بين التيارين. ومن أهم مفكري قبَّالاة الزوهار إبراهيم أبو العافية، وكذلك موسى كوردوفيرو آخر ممثلي قبَّالاة الزوهار، وهو أستاذ لوريا مؤسس القبَّالاه اللوريانية.

                    الزوهار
                    Zohar


                    «زوهار» كلمة عبرية تعني «الإشراق » أو «الضياء». وكتاب الزوهار أهم كتب التراث القبَّالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات، إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وهو ما يحقق الاستقلال الفكري (الوهمي) لليهود، وكتابته بلغة غريبة، تحقق العزلة لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. ويُنسَب الكتاب أيضاً إلى أحد معلمي المشناه (تنائيم) الحاخام شمعون بن يوحاي (القرن الثاني)، وإلى زملائه، ولكن يُقال إن موسى دي ليون (مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر) هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا. والزوهار، في أسلوبه، يشبه المواعظ اليهودية الإسبانية في ذلك الوقت. وبعد مرور مائة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلة التلمود بالنسبة إلى الحاخاميين. وقد شاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود، حتى احتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وخصوصاً بعد ظهور الحركة الحسيدية.

                    ويتضمن الزوهار ثلاثة أقسام هي: الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه، ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار يأخذ شكل تعليق أو شرح على نصوص من الكتاب المقدَّس، وخصوصاً أسفار موسى الخمسة، ونشيد الأنشاد، وراعوث، والمراثي. وهو عدة كتب غير مترابطة تفتقر إلى التناسق وإلى تحديد العقائد. ويضم الزوهار مجموعة من الأفكار المتناقضة والمتوازية عن الإله وقوى الشر والكون. وفيه صور مجازية ومواقف جنسية صارخة تجعله شبيهاً بالكتب الإباحية وهو ما ساهم في انتشاره وشعبيته. والمنهج الذي يستخدمه ليس مجازياً تماماً، ولكنه ليس حرفياً أيضاً، فهو يفترض أن ثمة معنى خصباً لابد من كشفه، ويفرض المفسر المعنى الذي يريده على النص من خلال قراءة غنوصية تعتمد على رموز الحروف العبرية، ومقابلها العددي. وتُستخدَم أربعة طرق للشرح والتعليق تُسمَّى «بارديس»، بمعنى «فردوس» وصولاً إلى المعنى الخفي، وهي:

                    1 ـ بيشات: التفسير الحرفي.

                    2 ـ ريميز: التأويل الرمزي.

                    3 ـ ديروش: الدرس الشرحي المكثَّف.

                    4 ـ السود: السر الصوفي.

                    والزوهار مكتوب بأسلوب آرامي مُصطَنع، يمزج أسلوب التلمود البابلي بترجوم أونكيلوس، ولكن وراء الغلالة الآرامية المصطنعة يمكن اكتشاف عبرية العصور الوسطى. وهو كتاب طويل جداً، يتألف من ثمانمائة وخمسين ألف كلمة في لغته الأصلية.

                    والموضوعات الأساسية التي يعالجها الزوهار هي: طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص. ولما كانت كل هذه الموضوعات مترابطة بل متداخلة تماماً في نطاق الإطار الحلولي، فإن كتاب الزوهار حين يتحدث عن الإله، فإنه يتحدث في الوقت نفسه عن التاريخ والطبيعة والإنسان، وإن كان جوهر فكر الزوهار هو تَوقُّع عودة الماشيَّح، الأمر الذي يخلع قدراً كبيراً من النسبية على ما يحيط بأعضاء الجماعات اليهودية من حقائق تاريخية واجتماعية.

                    ويتحدث الزوهار عن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي يجتازها الإله للكشف عن نفسه. كما يشير الكتاب إلى هذه التجليات باعتبارها أوعية أو تيجاناً أو كلمات تشكل البنية الداخلية للألوهية. وتُعَدُّ هذه الصورة (رؤية الإله لا باعتباره وحدة متكاملة وإنما على هيئة أجزاء متحدة داخل بناء واحد) من أكثر أفكار الزوهار جسارة، كما كان لها أعمق الأثر في التراث القبَّالي.

                    وقد ظهرت أولى طبعات الزوهار خلال الفترة من 1558 إلى 1560 في مانتوا وكريمونا في إيطاليا. وظهرت طبعة كاملة له في القدس (1945 ـ 1958) تقع في اثنين وعشرين مجلداً، وتحتوي على النص الآرامي يقابله النص العبري. وقد ظهرت ترجمات لاتينية لبعض أجزاء كتاب الزوهار (ابتداءً من القرن السابع عشر). كما تُرجم إلى الفرنسية في ستة أجزاء (1906 ـ 1911)، وإلى الإنجليزية في خمسة أجزاء (1931 ـ 1934). ومن أشهر طبعاته طبعة فلنا التي يبلغ عدد صحفاتها ألفاً وسبعمائة صفحة.

                    القــــبَّالاه النبويــــة
                    Prophetic Kabbalah


                    «القبَّالاه النبوية» هي قبَّالاة الزوهار. ومن أهم دعاتها إبراهيم أبو العافية، وآخر ممثليها هو موسى كوردوفيرو، أستاذ لوريا وإسبينوزا.

                    إبراهـيم أبو العافـية (1240-1292)
                    (Abulafia (Abraham Ben Samuel


                    قبَّالي وُلد في إسبانيا، وانخرط في دراسة الشريعة والتلمود، وفي الدراسات والحسابات القبَّالية. وقد درس كذلك مؤلَّف ابن ميمون دلالة الحائرين ، ولكنه فسره وفق المنهج القبَّالي. سافر إلى فلسطين واليونان وإيطاليا، باحثاً عن أسباط يسرائيل العشـرة المفقودة. ولما بلغ أبو العافية الواحدة والثلاثين من عمره غلبته روح النبوة، وزَعم أنه وصل إلى معرفة الإله الحقيقي، وفي هذه الفترة قيل أيضاً إن الشيطان كان يشاغله عن اليمين بقصد فتنته وإرباكه، بيد أنه لم يشعر أنه بدأ يكتب بوحـي النبـوة إلا حـين بلغ الأربعين. وفي ذلك الوقـت، أي في عام 1280، عاد إلى إيطاليا حيث جذب عدداً كبيراً من العلماء اليهود الشبان الذين اتبعوا تعاليمه ثم وجدوا أن ثمة تشابهاً عميقاً بينها وبين المسيحية فتنصَّروا! وفي العام نفسه، قرر أبو العافية أن يقنع البابا بأن يتهوَّد، فقُبض عليه وصدر ضده حكمٌ بالقتل حرقاً ولكنه هرب من السجن. ثم ظهر مرة أخرى، بعد أربعة أعوام، في ميسينا (صقلية)، وأعلن أنه الماشيَّح. وقد تصدت له المؤسسة الحاخامية وفندت ادعاءاته. وربما كانت حروب الفرنجة الدائرة آنذاك تشكل السياق الدولي لدعاواه المشيحانية، كما كانت أزمة يهود إسبانيا المتزايدة تشكل السياق المحلي لدعواه. وقد كتب أبو العافية عدة مؤلفات عن القبَّالاه، وينسب إليه البعض تأليف الزوهار الذي ظهر في حياته (ولكن جيرشوم شوليم لا يتفق مع هذا الرأي). وقد أطلق شوليم مصطلح «القبَّالاه النبوية» على رؤية أبى العافية، فهو يرى أن النفس الإنسانية أصلها الإله، ولكن الحياة اليومية تستغرقها وتفرض الحدود والقيود عليها، وهي حدود وقيود لها قيمتها من حيث حفظها للفرد من أن يجرفه تيار الكوْن، ولكن كيما يتصل الإنسان بالتيار المقدَّس وبأصله الإلهي مرة أخرى، لابد من فك القيود وتجاوز الحدود. ويطرح الدكتور صبري جرجس في كتابه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي السؤال التالي «ألسنا نرى الصلة بين هذه النظرية ونظرية الكبت وضرورة التحرر منه إذا شاء الإنسان أن يتخفف من متاعبه النفسية التي تحد من شعوره بالتحرر والانطلاق؟». ثم يستطرد قائلاً: وانطلاقاً من هذا، يصبح هدف رسالة أبى العافية هدفاً نفسياً وهو إماطة اللثام عن الروح وفك القيود التي تربطها. وقد قدَّم أبو العافية في هذا الصدد نظريته عن تركيب الحروف بغرض ملاحقة الطريق الداخلي، وتُعرَف باسم «حوخمة هاتسيروف»، أو «علم تشابك الحروف» الذي يستطيع القبَّالي بمقتضاه أن يدرك منه اسم الإله الذي يعكس المعنى الخفي للكون.

                    «وثمة طريقتان لإبراهيم أبو العافية في التأمل بغية الوصول إلى ما يهدف إليه من تحرير الروح. الأولى هي الطريقة التفسيرية التي تستند إلى استخدام حروف الهجاء الأبجدية العبرية استخداماً حراً. وعند التأمل، كانت هذه الحروف تُفصَل ثم تُجمَع، وبعملية الفصل والجمع هذه كانت تظهر أفكار جديدة. وقد كان عند أبى العافية إحساس عميق بالمنطق الخفي للحروف، فترتيبها في نظره ليس مجرد عملية عرفية أو متعنتة، بل كان ترتيباً يتم وفقاً لقواعد عليا. ومن نتيجة حركات هذه الحروف، يستطيع المرء أن يصل إلى استبصار عميق بطبيعة الجوانب المقدَّسة ـ فهل من العسير علينا أن نرى، في نطاق هذا المفهوم، أن منطق عالم الإله الخفي عند أبى العافية قد أصبح منطق اللاشعور عند فرويد؟.

                    «وقد كانت هذه الطريقة في التأمل تمهيداً للطريقة الثانية التي عُرفت باسم التجاوز عن طريق «القفز والإغفال». ووصف باكان نقلاً عن شوليم هذه الطريقة بقوله: سيُدهش القارئ المعاصر حين يرى وصفاً مفصلاً لطريقة كان أبو العافية وأتباعه يسمونها «القفز والإغفال» للانتقال من فكرة إلى أخرى. والواقع أن هذا منهج رائع في استخدام الترابط كوسيلة للتأمل. ولا ترادف هذه الوسيلة منهج التداعي الحر المتبع في التحليل النفسي مرادفةً كلية، ولكنها تتضمن الانتقال من فكرة ما إلى أخرى وفقاً لقواعد معيَّنة تتسم بالمرونة. وكل قفزة تفتح ميداناً جديداً له خصائصه، ويستطيع العقل داخل هذا الميدان أن ينتقل بحرية من فكرة لأخرى، أي أن القفز يربط بين عناصر من الأفكار الحرة والموجهة ويؤدي إلى نتائج عجيبة من حيث توسيع دائرة الشعور، كما أن هذا القفز يدفع على الفور بعملية خبيئة في العقل، أي أنه يحـررنا من سـجن الدائرة الطبيعية وينتقل بنا إلى حدود «الدائرة الإلهية». ثم يتساءل باكان بعد ذلك قائلاً: "ألا يُذكِّرنا هذا التقييم من قبل شوليم بمنهج أبى العافية بشــأن «الترابط الحر» في التحليل النفسي، من حيث تُعَدُّ هذه النشوة مع مضمونها الذي ينطوي، فيما يزعم لها، على إدراك الإله، هي الهدف من التأمل عند أبى العافية، ونشوة الاستبصار مع مضمونها الذي ينطـوي على معرفـة الذات هي الهدف من التحليل عند فرويد".

                    "ويُعَدُّ المعلِّم القبَّالي أبو العافية شخصاً بالغ الأهمية بالنسبة لعملية التحويل التي ينبغي أن تحدث للشخص، وهذه العملية تحتاج إلى من يحركها من الخارج ومن يحركها من الداخل، والمعلم هو المحرك من الخارج. وفي حالة النشوة، يحدث نوع من التوحد مع المعلم يصبح بعد ذلك توحداً مع الإله وينتهي بتوحد سام مع الذات. وفي هذه الحالة، يكون التوحد قد تم أيضاً بين الإنسان والشريعة، ولعل هذا هو المقصود من قولهم إن الإنسان هو الناموس أو الشريعة. ويتساءل باكان أيضاً: ألا يذكرنا هذا بمعلم التحليل النفسي الذي يُعَدُّ شخصاً بالغ الأهمية في عملية التحويل التي لابد منها لمن يود ممارسة التحليل فيما بعد؟ أفلا يذكرنا ذلك أيضاً بنشوة الاستبصار التي تحدث أثناء التحليل التعليمي والتي يتم فيها نوع من التوحد مع المعلم الذي هو السبيل إلى معرفة الذات، أي السبيل إلى أن ينتقل الطالب من طور المران إلى طور الممارسة؟".

                    ومن المستبعد أن يكون فرويد قد درس فكر أبى العافية ومؤلفاته. ومع هذا، يجب أن نتذكر أن الفكر القبَّالي كان الفكر المسيطر على اليهودية في القرن التاسع عشر، وربما يكون فرويد قد انتظم في حضور محاضرات أدولف جيلينك الذي حرَّر أعمال أبى العافية. وفي الواقع، فإن أدولف جيلينك كان من أهم الحاخامات دارسي القبَّالاه، كما كان من أشهر الوعاظ في مدينة فيينا مسقط رأس فرويد والمدينة التي قضى فيها معظم حياته.

                    إسحق أبرابانيل (1437-1508)
                    Isaac Abravanel


                    يهودي بلاط في إسبانيا. وهو مفسر للعهد القديم، ومؤلف لكتب ذات طابع فلسفي. وُلد في لشبونة، وكان أبوه مسئولاً عن خزانة الدولة فيها. وقد تلقى أبرابانيل تعليماً دنيوياً ودينياً كاملاً، ثم التحق بخدمة ألفونسو الخامس ملك البرتغال، الأمر الذي كان يعني أنه أصبح قريباً من النخبـة الحاكمة. ولكن الوضـع تغيَّر حينما اعـتلى جون الثاني العـرش، فقد اتبع سياسة القضاء على النبلاء والجيوب المختلفة للسلطة ليركز كل شيء في يد الدولة، وقد ثار النبلاء ضد هذه المحاولة. ويبدو أن أبرابانيل كانت تربطه علاقة بهؤلاء النبلاء، وخصوصاً أن قائد التمرد كان صديقاً له، ففر إلى طليطلة (إسبانيا) عام 1483، حيث أصبح خازن فرديناند وإيزابيلا عام 1484. وقد عمل هو وصديقه أبراهام سنيور في جمع الضرائب. كما قام الاثنان بتمويل الحروب ضد آخر الجيوب الإسلامية في غرناطة. وحينما سقطت غرناطة، صدر مرسوم طرد اليهود، ونُشر عام 1492. فحاول أبرابانيل أن يغيِّر القرار بتقديم هدية إلى فرديناند، ولكنها رُفضت وتم طرد اليهود. واستقر أبرابانيل (هو وأسرته) في البندقية عام 1503 حيث مات فيها.

                    ولأبرابانيل دراسات في العهد القديم، تتسم بشيء من الطابع العلمي والمنهجي، وتحولت فيما بعد إلى نقد العهد القديم. وقد حاول أن يضع النصوص المقدَّسة في سياق تاريخي. غير أن فكره الفلسفي لا يتسم بأي عمق أو أصالة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، تبنَّى أبرابانيل رؤية صوفية، وزاد إيمانه بعقيدة الماشيَّح، ووضع ثلاثة كتب عن هذا الموضوع ( مصادر الخلاص، و خلاص الماشيَّح، و إعلان الخلاص) تُعَدُّ من أهم كتبه على الإطلاق، وتُوصَف أيضاً بأنها من أهم الكتب التي أشاعت الفكر المشيحاني وشجعت الحركات المشيحانية.

                    القــبَّالاه اللوريانيـة
                    Lurianic Kabbalah


                    أهم تطور حدث في داخل تاريخ القبَّالاه هو ظهور القبَّالاه اللوريانية (نسبة إلى إسحق لوريا). ولكن لا يمكن إغفال موسى كوردوفيرو الذي ساهم في صياغة أفكارها الأساسية (وقد تأثر إسبينوزا فيما بعد بأفكاره). ويمكن القول بأن القبَّالاه اللوريانية لا تختلف في أساسياتها عن قبَّالاة الزوهار، إذ أن البنية الحلولية القبَّالية العامة كامنة في القبَّالاه اللوريانية كمونها في قبَّالاة الزوهار. ولكن، مع هذا، يمكن أن نلخص بعض الاختلافات الأساسية بينهما فيما يلي:

                    1 ـ قبَّالاة الزوهار تعنى بأسرار الخلق، أي ببداية الكون، بينما تعنى القبَّالاه اللوريانية أساساً بالخلاص وبالنهاية. وينبع اهتمام قبَّالاة الزوهار بأسرار الخلق من اهتمامها بالخلاص المشيحاني بالنهاية، ولذا فهي تتناول البدايات كي تفسر النهايات.

                    2 ـ أسطورة الخلق في القبَّالاه اللوريانية أكثر تعقيداً وتناقضاً منها في قبَّالاة الزوهار.

                    3 ـ والاختلاف الأسـاسي هـو أن القبَّالاه اللوريانية تربط البداية بالنهاية، كما ربطت الباطن بالتاريخ والتأمل بالنزعة المشيحانية.

                    4 ـ الصورة المجازية الأساسية في قبَّالاة الزوهار هي الجنس، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تتمثل في كل من الجنس والنفي.

                    وتبدأ أسطورة الخلق في قبَّالاة الزوهار بفيض الإله الخفي، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تبدأ بعملية «تسيم تسوم» التي يمكن أن تُترجَم حرفياً بكلمة «انكماش» أو «تركُّز». ولكن يُستحسن تأدية معناها بتعبير «انسحاب نتج عنه تركُّز». فالإله المتخفي (الإين سوف) ينكمش داخل نفسه ليخلق فراغاً روحياً كاملاً. ويمكن تفسير هذا الانسحاب بأنه شكل من أشكال النفي، كأن الإله ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، بعـيداً عن وجوده الكلي. وقد نتج عن هذا الانسحاب ميلاد الشر، فالحكم الصارم (الحدود والقيود التي تُفرَض على الأشياء التي ستنبع منها الأوامر والنواهي والتشريعات) كان قبل الانكماش جزءاً من كل، قطرةً في المحيط، ولكنه بعد عملية الانسحاب يتبلور ويصبح هو المحور. ثم يرسل الإين سوف في الفراغ شعاعاً ودروباً من نوره الذاتي وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهي مرحلة الفيض الإلهي على الكون (وتُعرف في العبرية باسم «أتسيلوت») التي أدَّت إلى ظهور آدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبى البشر. ويُلاحَظ أن الإنسان الأصلي في قبَّالاة الزوهار هو رمز لبناء التجليات ككل. أما عند لوريا، فهو يظهر قبل التجليات، ثم تخرج أشعة النور الإلهي من عيون الإنسان الأصلي وأذنيه وأنفه وفمه. وهذا الضوء الخارجي الذي انبثق من الإنسان الأصلي، آخذاً شكل شرارات، كان من المفترض جمعه في أوعية (كليم) من ضوء تتخذ أشكالاً تتناسب مع عملها في مرحلة الخلق. ولكن هذه الأوعية تحطمت، حسب رؤية لوريا، أثناء ملئها. ويعود هذا إلى أن الضوء الإلهي كان أقوى من أن تتحمله الأوعية فتحطمت، الأمر الذي أدَّى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ويُشار إلى هذه الواقعة بمصطلح «حادثة تَهشُّم الأوعية» (شفيرات هكليم) وهي الأخرى حادثة نفي. وإذا كان الانكماش (تسيم تسوم) هو نفي من خلال الانسحاب، فإن النفي هنا يتم من خلال الانتشار والتشتت. وقد سادت الفوضى واختلط النور والظلام، والروحاني والمادي، وهكذا دخل الشر والظلام إلى العالم. وقد عاد كثير من الشرارات إلى مصدرها الأصلي، ولكن نحو 288 شرارة التصقت بشظايا الأوعية المهشمة، وأصبحت هذه الأجزاء هي القشرة الخارجية (قليبوت)، أي قوى الشر التي أحاطت بالشرارات الباقية وحبستها.

                    ومنذ ذلك الوقت الذي حدث فيه هذا التهشُّم، لم يَعُد في الكون أي شيء كامل متكامل. فالنور الإلهي الذي كان يجب أن يستمر في مكان مخصص له، أي في الأوعية التي صنعها الإله، لم يَعُد في مكانه الصحيح لأن الأوعية تحطمت. وتظهر الخطة الإلهية للخلاص من خلال صور تُسمَّى «برتسوفيم» (حرفياً: «الوجوه» أو «السيمياء»، أي «القسمات» أو «ملامح الوجه») وهي مقابلة للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) في قبَّالاة الزوهار ولكنها تأخذ هنا شكلاً أكثر بشرية وعددها خمسة:

                    1 ـ أريخ أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الأنف الطويل» أي «الصبور» أو «المتحمل» أو «الذي عانى كثيراً» باعتبار أن الأنف دليل على الصبر)، وهو يقابل التجلي النوراني الأول «الكيتر» أو «التاج» في قبَّالاة الزوهار.

                    2، 3 ـ أبا وأما (الأب والأم). وهما يقابلان التجليين الثاني والثالث. وهما النمط الأعلى لهذا الزواج المقدَّس الذي يُعَدُّ نمطاً لكل وحدة فكرية وجنسية فيما بعد (ولنلاحظ هنا الأثر العميق للعقيدة والرموز المسيحية ولتواتر الصورة المجازية الجنسية في النسق الحلولي). وهذا التزاوج يزداد عمقاً بصعود الـ 228 شرارة التي تساقطت مع الأوعية المهشمة، والتي بعودتها إلى رحم البيناه تصبح قوة تبعث الحيوية، ولذا تُسمَّى «المياه الأنثوية» (ماييم نقفين).

                    4 ـ زعير أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الوجه القصير»، أي «الذي لا يطيق صبراً»، أو «نافد الصبر»). وهو عكس «أريخ أنبين» ويقابل التجليات الستة التي ترد بعد الثلاثة الأولى من الجبوراه حتى اليسود.

                    5 ـ نقيفاه دي زعير (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «أنثى زعير» أي «أنثى نافد الصبر»). وهي تقابل التجلي العاشر أو الشخيناه.

                    وتتخذ الذات الإلهية من خلال هذه القوى الخمس شكلاً محدداً، وتؤدي وظيفة محددة. والتجلي الأساسي للإين سوف يحدث من خلال زعير أنبين الذي وُلد من خلال اتحاد الأب والأم، ثم يكبر ليتزوج من الشخيناه ليُولِّد اتحاداً ووئاماً بين العدل والرحمة في الذات الإلهية. وتُلاحَظ مرة أخرى أصداء العقيدة المسيحية.

                    وتمثل هذه القوى في الحقيقة العملية التي يلد الإله بها نفسه. وحسب رؤية لوريا، كانت عملية جمع الشرارات (أي ولادة الإله واكتماله) على وشك الاكتمال حين خلق الإله آدم (أبا البشر) ليساعده في الجهد المبذول لاستعادة النظام والكمال ولهزيمة القوى الشريرة الشيطانية. وكان من المفترض أن يقوم آدم بالخطوات الأخيرة، ولكن خطيئته ومعصيته للإله أوقفت العملية، ونجم عن ذلك انتشار فوضى في الأرض تُماثل الفوضى الناجمة عن تَهشُّم الأوعية في الأعالي. فآدم، حينما خلقه الإله، كان يحوي كل أرواح البشر التي كانت توجد في حالة التصاق بالإله، وبسقوطه انفصلت الأرواح عن جذورها وتبعثرت ودخلت الأجسام المادية، وجاء الموت والشر والعالم وانحرف كل شيء عن موضعه، وأصبحت كل المخلوقات في حالة شتات دائم (جالوت)، وهي حالة مستمرة تنسحب على الكون كله وعلى الخالق نفسه الذي تبعثرت شراراته وتناثرت مرة أخرى. وقد سقطت الشخيناه ضمن ما سقط من شرارات. وما دامت الشرارات الإلهية لم تُجمَع، فإن الإله سيظل مجزأ غير مكتمل وغير متوحِّد مع نفسه.

                    وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن إصلاح هذا الخلل ورأب هذا الصدع، لابد أن نؤكد فكرة التقابل القبَّالية، وهي تقابل كل الأشياء واللحظات نتيجة توحُّدها النهائي. فالعالم العلوي يشبه العالم السفلي، والإله يشبه مخلوقاته، وعملية الخلق والتبعثر هي مقلوب عملية الخلاص، وطريق النهاية هو طريق البداية. ويقابل عملية الفيض الإلهي عمليات كونية مماثلة تغمر أربعة عوالم مختلفة. والنفس البشرية تشبه الذات الإلهية، ومستوياتها تشبه التجليات المختلفة، ولحظة التشتت الإلهية تشبه لحظة التشتت الفردية، ونفي الشخيناه يشبه نفي الشعب (ويُلاحَظ أن فكرة التقابل تُسقط فكرة الزمان والتتالي والاختلاف تماماً، فهي فكرة هندسية دائرية تحوِّل الزمان إلى ما يشبه المكان والبدايات تشبه النهايات). كما أن إصلاح الخلل الكوني، وعودة كل شيء إلى مكانه، وإنهاء حالة النفي الكونية، وخلاص الإله بل لادته ووجوده من جديد، هي عملية يُطلَق عليها الإصلاح (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارت الإلهية المبعثرة من اللحاء أو المحارات (قليبوت). وهي عملية كونية تاريخية باطنية شاملة يشارك فيها الإنسان ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، فاليهودي الذي يعرف التوراة ومعناها الباطني (وينفذ الأوامر والنواهي ويتلو الصلوات) بوسعه أن يسرع بعملية الإصلاح (تيقوُّن)، أي عملية ولادة الإله، كما أن بوسعه أيضاً أن يوقفها إذا هو أهمل تنفيذ الأوامر والنواهي وإقامة الصلوات. وهذا من الممكن إنجازه نظراً لتقابل العالم السفلي والعالم العلوي، والتأثير في العالم العلوي من خلال أفعال يقوم بها الإنسان (اليهودي) في العالم السفلي. لكن عملية الإصلاح تدريجية، وهي تُتوَّج بظهور الماشيَّح وبعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين، ومن هناك فإنه سيحكم العالم، وستسود جماعة يسرائيل على العالمين، هذا هو الجانب التاريخي. وإذا كانت حالة النفي مرتبطة بالانكماش والحدود والفرائض والانسحاب، فإن حالة التيقون مرتبطة بالتحرر الكامل من الحدود، كما أنها مرتبطة بالترخيصية والإباحية الكاملة، وهذا هو ما كان يفعله المشحاء الدجالون، وهو الجانب النفسي أو الأخلاقي للإصلاح (تيقون). وسينتهي التيقون بأن يُجمِّع الإله ذاته ويتوحد مع نفسه بعد تجميع الشرارات المبعثرة كما أنه سوف يتوحد مع شعبه (وسوف نكتشف أن الشعب اليهودي هو في واقع الأمر الشرارات الإلهية المشتتة). ومعنى هذا أن اليهود هم جزء من الإله، فهم الإله أو على الأقل أحد تجلياته. وهم إلى جانب ذلك الأداة التي تسترد بها الذات الإلهية وحدتها، فهم بذلك الأداة والغاية. وهم أيضاً سبب النفي (بذنوبهم)، وهم وسيلة العودة (بصلاحهم وتقواهم)، فاليهودي هو مركز الكون وسيده. وهكذا نُلاحظ دائرية النسق القبَّالي الحلولي المغلق.

                    ويُلاحَظ هنا كيف ارتبط التأمل في المعنى الباطني للتوراة، وكذلك تلاوة الصلوات وأداء الفرائض (وكلها أمور فردية ذاتية باطنية)، بحدث كوني مثل ولادة الإله، وكيف تتوحد ذاته من خلال حدث تاريخي هو ظهور الماشيَّح وعودة جماعة يسرائيل. وقد انعكس كل هذا مرة أخرى على عالم الفرد والباطن، بالترخيصية وإبطال الحدود والشرائع في العصر المشيحاني، فيتداخل الكون والإله والإنسان والزمان وكل شيء.

                    ومما يجدر ذكره أن تجربة يهود إسبانيا (طردهم منها) تشكل الصور المجازية الأساسية في القبَّالاه اللوريانية، فالنفي والتبعثر والتشتت كانت حقائق أساسية في حياتهم، وكان الاهتمام بالباطن دون الظاهر سمة أساسية لتجربة المارانو. وقد تبدَّى فقدانهم السلطة، مع رغبتهم الحادة فيها، في فكرة مركزية اليهود في الكون واعتماد الإله عليهـم، وتوقعهـم وصول الماشيَّح الذي سيجعلهم أسياد الأرض. ومع هذا، تظل الصور المجازية الأساسية الخاصة بالأب والابن والأم والشخيناه صوراً مجازية مسيحية.
                    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                    http://www.rasoulallah.net/

                    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                    http://almhalhal.maktoobblog.com/



                    تعليق


                    • #25
                      الانكماش )تسيم تسوم)
                      Tsimtsum

                      لفظة «الانكماش» هي الترجمة العربية لكلمة «تسيم تسوم»، وهي كلمة وردت في المدراش لتشير إلى عملية انكماش الخالق حتى يدخل قدس الأقداس في الهيكل، وهذا هو أصلها الحلولي. ولكن إسحق لوريا استخدم الكلمة بطريقة مغايرة أو بالأحرى عمَّق مدلولها الحلولي. فالانكماش عنده هو العملية التي من خلالها ينكمش الخالق إلى نقطة داخل نفسه (الوسط) وهو انكماش يَنتُج من تركُّز (وهذا بخلاف الانكماش في المدراش حيث ينكمش الخالق ليدخل في مكان آخر غير ذاته) ثم تَصدُر عنه التجليات النورانية العشرة بعد ذلك. ومن منظور لوريا، كان الخالق يملأ الوجود باعتبار أن الذات الإلهية لا نهائية ولا تقبل التجزئة، ولا يوجد مكان لا يملؤه الحضور الإلهي. وهذه الذات لا تسمح بوجود شيء آخر، ولتتم عملية الخلق كان لابد أن تنكمش هذه الذات. ولكن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الانكماش هو محاولة، من جانب الخالق، لا لخلق فراغ وحسب وإنما لتطهير ذاته التي كانت تضم عناصر غير إلهية. ومن ثم، فإن الذات الإلهية لم تكن قط لا طاهرة ولا متوحدة، كما أن عملية توحد الذات الإلهية وتخليصها مما فيها من أدران إن هي إلا عملية تاريخية تُستكمَل في نهاية التاريخ. والواقع أن هذه فكرة حلولية متطرفة يعقبها حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)، وأخيراً الإصلاح (تيقون).

                      ويمكن تفسير بعض مصطلحات دريدا ما بعد الحداثية في ضوء فكرة تسيم تسوم، فالانكماش والاختفاء هو الغياب الكامل (الذي يعقب الحضور الكامل أو حالة البليروما في المنظومة الغنوصية) وصدور التجليات النورانية هو بداية الحضور.

                      تهشم الأوعية (شفيرات هَكليم)
                      Chevrat Hakelim


                      «تَهشُّم الأوعية» هي ترجمة عبارة «شفيرات هَكِّليم» العبرية (من فعل «شافار» بمعنى «حطَّم»)، وتَهشُّم الأوعية مفهوم أساسي في القبَّالاه اللوريانية. وتقع حادثة تهشُّم الأوعية أثناء عملية الخلق، حينما تخرج من عيون الإنسان الأصلي أشعة النور الإلهي التي تأخذ شكل شرارات كان من المفترض أن تُجمَع في أوعية (كليم). ولكن الأوعية كانت أضعف من أن تتحمل هذا النور، فتهشَّمت وتبعثرت. والحادثة رمز شتات الشعب اليهودي، وهي فكرة حلولية مغالية تربط بين الوجود الإلهي والشعب. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول ثلاث أفكار: الانكماش (تسيم تسوم)، وتهشُّم الأوعية، وأخيراً الإصلاح (تيقون). وهو تكوين ثلاثي يشبه تكوين: الخطيئة ـ النفي ـ الإصلاح والعودة.

                      الشرارات الإلهية )نيتسوتسوت)
                      Nizozot


                      «الشرارات الإلهية» هي الترجمة العربية للكلمة العبرية «نتسوتسوت». والمصطلح تعبير قبَّالي يشير إلى الشرارات الإلهية التي تُحبَس في المادة بعد حادثة تهشُّم الأوعية حسب القبَّالاه اللوريانية.

                      إصلاح الخلل الكوني (تيِّقون)
                      Tikkun


                      «إصلاح الخلل الكوني» هي الترجمة العربية لكلمة «تيقون»، وهي كلمة عبرية معناها «إصلاح». وتتحدد عملية الإصلاح بعد تخليص الشرارات الإلهية المبعثرة بعد انكماش الإله (تسيم تسوم) وبعد حادث تهشُّم الأوعية. والهدف من عملية الإصلاح أن يصل الإله إلى وحدته ويعم الخلاص العالم، وهي عملية كونية تاريخية شاملة يشارك فيها الجنس البشري بأسره، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل. ويضمر المصطلح فكرة أن الذات الإلهية لا تشكل وحدة كاملة لا في الماضي ولا في الحاضر، وأنها ستصل إلى هذه الوحدة في المستقبل من خلال جهد الإنسان وهذه فكرة حلولية متطرفة.

                      موسـى كـوردوفيرو (1522-1570)
                      Moses Cordovero


                      عالم قبَّالي من أصل إسباني. تتلمذ على يد يوسف كارو، ويُعَدُّ حلقة الوصل بين قبَّالاة الزوهار (التأملية) والقبَّالاه اللوريانية (المشيحانية) إذ كان لوريا تلميذاً لكوردوفيرو. أهم أعماله برديس ريموُّنيم (حديقة الرمّان)، وهو عرض واف وواضح لتعاليم القبَّالاه يتناول فيه العلاقة بين اللامحدود والمحدود، والتجليات النورانية العشرة، وعلاقة الإله بالكون. وقد كتب موسى كوردوفيرو ثلاثين كتاباً آخر، من بينها تعليق على الزوهار، أحرز ذيوعاً بين أعضاء الجماعات. وهو يُعَدُّ آخر ممثل لقبَّالاة الزوهار التأملية.

                      ولم يبالغ كوردوفيرو في تأكيد أهمية الرموز والأساطير القبَّالية، وخصوصاً العناصر الجنسية وأسطورة قوة الشر (سترا أحرا). وتَوصَّل إلى أن الذات الإلهية خالية تماماً من الشر، وأن جذور الشر توجد في الكون، في اختيارات الإنسان الأخلاقية.

                      ويبدو أن إسبينوزا قد استقى رؤيته الحلولية للإله من كتابات كوردوفيرو، فقد كتب لصديقه أولندبرج أنه استقى أفكاره من فيلسوف يهودي قديم (وكان يعني كوردوفيرو). ويمكن هنا أن نرى أن الحلولية اليهودية تتسلسل من التلمود إلى القبَّالاه، ومن القبَّالاه تتفرع إلى لوريا وشبتاي تسفي، وإلى إسبينوزا والعلمانية.

                      إسحق لوريا (1534-1572)
                      Isaac Luria


                      ويُعرف لوريا أيضاً باسم «هاآري هاقدوش» أي «الأسد المقدَّس». ويشار إليه أيضاً باسم «الإشكنازي»، واختصار اسمه هو «آري». وُلد إسحق لوريا في القدس لأب إشكنازي يعمل بالتجارة وأم سفاردية. درس في مصر التلمود واشتغل بالأعمال التجارية، لكن الدراسات القبَّالية استغرقته تماماً. ويُقال إنه اعتكف في جزيرة الروضة في المنيل لمدة سبع سنوات حيث تأمل في الزوهار ودرس أعمال كوردوفيرو وعاش حياة الرهبان. وفي عام 1569، استقر لوريا، هو وأسرته في صفد حيث تجمعت حوله مجموعة من الطلبة والحواريين والمريدين، ومات في هذه المدينة بعد عامين.

                      ولم يكن لوريا مفكراً منهجياً، وإنما كان متصوفاً أضاف مجموعة جديدة كاملة من الصور والرموز إلى التراث القبَّالي، وذلك من خلال تفسيراته لكتاب الزوهار التي أعلن أنها كشف أتاه به إلياهو. ولم يبق مما كتب لوريا سوى بعض مؤلفات غير مهمة لا تتضمن أفكاره الجديدة، لأنه نقل القبَّالاه اللوريانية لطلبته شفهياً، فقاموا بتدوينها ثم تداولها الناس. وبرغم وجود اختلافات كثيرة بين الكتابات التي دوَّنها تلاميذه، فإن الموضوع الأساسي يظل واحداً وهو تأكيد فكرة الخلاص والعودة، الأمر الذي يعكس النزعة المشيحانية التي بدأت في صفد وغيرها من المدن في القرن السادس عشر.

                      وقـبل أن يبدأ في نشـر تعاليمه الصـوفية، كان لوريا يقرض الشعر. ويضع بعض القبَّاليين أقواله في مرتبة أعلى من الشولحان عاروخ (كتاب اليهودية الأرثوذكسية الأساسي). ومن أهم تلاميذ لوريا: يوسف بن طابول، وإسرائيل ساروج، وحاييم فيتال، أولئك الذين أشاعوا آراء أستاذهم.

                      حـاييم فـيتال (1543-1620)
                      Hayyim Vital


                      يهودي من أصل إيطالي، وأحد أتباع إسحق لوريا في صفد في آخر سني حياته (1570 ـ 1572). وبعد موت لوريا، أعلن فيتال أنه هو وحده المحتفظ بتعاليمه. وقد كان فيتال يتفاخر أمام تلاميذه بأن روحه هي روح الماشيَّح بن يوسف، وأنها معصومة من خطيئة آدم. وقد نُشرت مذكراته عن أسرار القبَّالاه اللوريانية، الأمر الذي أدَّى إلى ذيوعها، ولولاه لما أحرزت القبَّالاه اللوريانية هذا الانتشار، ذلك أن لوريا نفسه لم يترك أية نصوص مكتوبة إذ كانت الدروس التي يلقيها شفهية.

                      يوسـف بـن طـبول (1545- بداية القرن 17)
                      Joseph Ibn Tabul


                      قبَّالي، من أهم تلاميذ إسحق لوريا. جاء من المغرب (ولذا كان يُقال له يوسف المغربي)، وانضم إلى حلقة لوريا في صفد (عام 1570) حيث مكث بعد موت معلمه. ونشأت بينه وبين حاييم فيتال بعض المشـاحنات، فذهـب إلى مصر واسـتقر فيها بضـع سنوات في شيخوخته. ويُعَدُّ شرحه لأفكار لوريا من أهم مصادر القبَّالاه اللوريانية.

                      إسرائيل سروج (؟ -1610)
                      Israel Sarug


                      قبَّالي مصري، وُلد لأسرة حاخامية قبَّالية. تعرَّف إلى إسحق لوريا أثناء وجوده في مصر، ودرس تعاليمه. واطلع سروج على كتابات بعض أتباع إسحق لوريا (حاييم فيتال ويوسف بن طابول). وفي إيطاليا، نشر سروج تعاليم القبَّالاه اللوريانية بين عامي 1594 و1600، ومات عام 1610.

                      يعقـوب أبو حصـيرة (1807-1880)
                      Jacob Abu-Hasira


                      هو يعقوب (الثاني) ابن مسعود. من علماء القبَّالاه، وله عدة مؤلفات عن التوراة والقبَّالاه نُشرت كلها في القدس. سافر من المغرب إلى فلسطين، وفي الطريق، نزل دمنهور حيث عمل إسكافياً، وبدأت علاقته تتوطد مع اليهود المقيمين فيها وجمعته صداقة حميمة بأحد التجار من أعضاء الجماعة اليهودية. وبعد وفاته، صرح صديقه بأن ابن مسعود توقَّع موته قبل أن يموت بأيام، وهو ما أحاط موته بهالة أسطورية. ويُقال أيضاً إن أحد أصدقائه أراد نقل جثمانه إلى الإسكندرية، وأثناء نقل الجثة هطلت الأمطار بشدة، ففُسِّر هذا بأنه تعبير عن رغبته في أن يظل مدفوناً بقرية ديمتوه القريبة من دمنهور. ويُقال إنه سُمِّي «أبا حصيرة» لأنه أثناء سفره بحراً إلى سوريا تحطمت السفينة التي كانت تقله وهوت إلى القاع ومات كل من عليها إلا يعقوب الذي استطاع أن يطفو فوق حصيرة على سطح الماء حتى وصل إلى سوريا. ومن الواضح أن هذا تفسير شعبي أسطوري لأن اسم الأسرة يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. وهو من كلمة «حصير» العبرية وهي من كلمة «حضرة» أو بلاط الملك. و«حصيرة» على هذا تدل على أنه كان من عائلة مُقرَّبة من السلطان بالمغرب.

                      وقد بنى اليهود له ضريحاً في قرية ديمتوه وكانوا يذهبون إليه للتبرك به، واتخذوا من مقبرته ما يشبه حائطاً جديداً للمبكى حيث يُقام الاحتفال بمولده كل عام. وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، سمحت الحكومة المصرية للإسرائيليين بزيارة المقبرة، ويأتي لها مئات القاصدين من أنحاء العالم، وبالذات إسرائيل.

                      وقد هاجرت أسرة أبى حصيرة من المغرب إلى إسرائيل، ومن بين أفرادها كبير حاخامات الرملة وأحد الوزراء وهو أهارون أبو حصيرة مؤسس حزب تامي الذي يعبِّر عن مصالح اليهود المغاربة.

                      أدولـف جيلـينك (1820-1893)
                      Adolph Jellinek


                      واعظ وعالم يهودي عاش في فيينا. وُلد بالقرب من مدينة برودي، وتعلم تعليماً دينياً تقليدياً. وقد تشبَّع بالحلولية اليهودية، وبدأ يقبل علمنة اليهودية إلى أن تحوَّل لليهودية الإصلاحية، وعُيِّن واعظاً في معبد إصلاحي. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، تتداخل الحدود وتتآكل وتتساوى كل الأمور والعقائد. وقد أسَّس، هو وبعض الوعاظ المسيحيين، كنيسة عالمية تقبل عضوية اليهود والمسيحيين. وقد كان جيلينك عضواً قيادياً في مجلس رابطة الدفاع عن المواطنين الألمان في البلاد السلافية، أي أنه كان يدافع عن فكرة الشعب العضوي الذي لا يتغيَّر انتماؤه بتغير المكان، وهي فكرة حلولية أصبحت فكرة محورية في كلٍّ من النازية والصهيونية بعد ذلك. وفي عام 1857، عُيِّن واعظاً في أحد معابد فيينا.

                      وفي عام 1862، أسس جيلينك أكاديمية بيت هامدراش حيث كان هو ومفكرون يهود آخرون يلقون المحاضرات. وكان جيلينك يُعَدُّ من أكثر الوعاظ صيتاً في عصره، وقد نشر حوالي مائتي موعظة نُشرت ترجمات لها. وتتسم هذه المواعظ بأنها كانت تتناول قضايا معاصرة من خلال مناهج التفسير التلمودية الوعظية القصصية والمدراشية.

                      وكان جيلينك شديد الاهتمام بالقبَّالاه، فترجم دراسة عنها إلى الألمانية، وكتب عدة دراسات من أهمها الفلسفة والقبَّالاه ، كما حرَّر أعمـال إبراهيم أبى العـافية حيث بيَّن أن دي ليون هو مؤلف الزوهار. وحرَّر جيلينك كذلك معجماً بالمصطلحات الأجنبية في التلمود والمدراش والزوهار، وأعمال ابن فاقودة. وقد نشر جيلينك تسعة وتسعين موعظة (مدراش) قصيرة في ستة أجزاء تُعَدُّ في غاية الأهمية لدراسة القبَّالاه، وله دراسات أخرى تاريخية. وكان جيلينك أحد المسئولين عن مشاريـع البارون دي هـيرش التوطـينية، وقد تنـصَّر ابن جـيلينك بعد موته.

                      ويذكر الأستاذ الدكتور صبري جرجس في مؤلفه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي أن عظات جيلينك هي الرابطة بين أبى العافية وفرويد. ويطرح الدكتور جرجس السؤال التالي: إذا ما نظرنا إلى التشابه الكبير بين طريقة تفكير أبى العافية ومنهجه في التفسير من ناحية، ومنهج الترابط ومفاهيم اللاشعور والتوحد والاستبصار عند فرويد من ناحية أخرى، فهل من المحتم أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي كما وضعه أبى العافية نصاً وتفصيلاً ونقل عنه؟ والجواب المرجح الذي يطرحه الدكتور جرجس أنه "برغم تضلع فرويد في اليهودية وإلمامه إلماماً شاملاً وعميقاً بالتوراة، ورغم تعمقه في دراسة ما ظهر من مبادئ اليهودية وما خفي، فليس من الحتمي أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي تفصيلاً لينقل عنه أو ليتيسر له إعادة صياغة الكثير من مفاهيم ذلك التراث بلغة العصر وأسلوبه، حسبه أنه عاش أكثر من نصف حياته في القرن التاسع عشر حين قام فريق من علماء اليهود الأوربيين (ومن بينهم أدولف جيلينك) بدراسة طبيعة القبَّالاه بالمنهج العلمي الغربي الحديث، وحسبه أنه كان يعيش في فيينا حيث كان جيلينك يعيش، وحسبه أن تلك العظات التي كان جيلينك يلقيها كل أسبوع كانت تظل حديث الأسبوع كله بين سكان المدينة من اليهود، وحسبه أن هذه العظات قد امتدت سبعاً وثلاثين سنة (1856 ـ 1893)، وهي السنوات السبع والثلاثون الأولى من حياة فرويد. أجل، حسب فرويد أن تكون له كل هذه الارتباطات اليهودية الأصيلة والمتشعبة والعميقة لتظل صلته المباشرة أو غير المباشرة بالتراث اليهودي قائمة وفعالة، وحسبه أنه كان يعيش في المناخ الفكري والوجداني والروحي للبيئة القبَّالية التي سادت حياة اليهود في جاليشيا وانحدر منها هو وغالبية يهود فيينا، حسبه كل ذلك لكي يتوحد بتفكيره مع الأصول التي قام عليها التفكير القبَّالي في هذا العصر أو ذاك من تاريخه الطويل، ولكي يستمد الكثير من مفاهيمه مضامينها من الأيديولوجيا القبَّالية، حتى وإن اختلفت الصياغة وتباينت أحياناً وجوه التطبيق".
                      اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                      http://www.rasoulallah.net/

                      http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                      http://almhalhal.maktoobblog.com/



                      تعليق


                      • #26
                        السحر
                        Magic


                        «السحر» هو محاولة التحكم في الطبيعة عن طريق صيغ سحرية خفية. وإذا كانت الطبيعة تعبِّر عن سنن الإله في الكون، فإن تحدي قوانينها هو تحدٍّ للإرادة الإلهية وتحدٍّ لمقدرة الإله. وثمة تمييز دائم بين السحر الأبيض والسحر الأسود، فالأول يهدف إلى حماية الإنسان من الأرواح الشريرة ويهدف الثاني إلى إلحاق الأذى بالآخرين. ولكنه، مهما كان مضمون السحر، أبيض كان أو أسود، فهو يعبِّر عن رغبة إمبريالية فاوستية عارمة في التحكم في الإنسان والكون والإله. والمؤمن بالعـقائد التـوحيدية يؤمن بإله قـادر متجاوز للطبيعة لا يمكن تحدي مقدرته، ومن ثم فالسلوك الإنساني الأمثل هو سلوك أخلاقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). أما العقائد الحلولية، فترى أن الإله يحلُّ في الإنسان وتصبح إرادة الإنسان من إرادة الإله ومن ثم تصبح السيطرة على الإله ممكنة والوصول إلى الغنوص أو الصيغة السحرية أمراً متاحاً. ولذا، فإن العبادات الحلولية دائماً مرتبطة بالسحر.

                        ورغم أن الطبقة التوحيدية في التركيب الجيولوجي اليهودي تتبدَّى في الحث على السلوك الأخلاقي، فإننا نجد أن الطبقة الحلولية أكثر شيوعاً وتجذراً. وقد ساعد على شيوع السحر تَنقُّل العبرانيين بين شعوب وثنية تؤمن بالحل السحري (مثل المصريين القدامى والكنعانيين والبابليين ثم الفرس والمراحل الأخيرة من العصر الهيليني). وقد تبلور كل ذلك في الغنوصية التي تدور حول محاولة الوصول إلى الغنوص والحل السحري، والتي ضمت في صفوفها كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية.

                        ويوجد في العهد القديم هجوم على السحر والسحرة (لاويين 20/6، 27؛ تثنية 22/18) حيث يُعتبر السحر رجساً ونجاسة وزنى. ومع هذا، فهناك إشارات في العهد القديم إلى قبول السحر كوسيلة مشروعة. وهناك حادثة أليشع وهو ينصح الملك يوآش أن يتنبأ بفرص النصر ضد آرام عن طريق رمي السهام (ملوك ثاني 13/14 ـ 19). وقصة شمشون لا يمكن فهمها إلا في إطار أنها قصة ساحر يُعدُّ شَعره مكمن قوته وحياته بالنسبة إليه. ولعل أحجار أوريم وتوميم على رداء الكاهن الأعظم، وعمودي بوعز ويوقين في الهيكل، كانت لها وظائف سحرية. كما أن حادثة أصنام الترافيم تدل هي الأخرى على الإيمان بالسحر بشكل أو بآخر.

                        ويجب التمييز بين هذه الحوادث وأحداث أخرى في العهد القديم، خصوصاً في كتب الأنبياء، حيث يتنبأ الأنبياء لا كالعرافين والسحرة، وإنما انطلاقاً من إيمانهم بالإله الواحد ومعرفتهم لا بإرادته وإنما بنسقه الأخلاقي، فهو حتماً سيعاقب المذنبين ويثيب التائبين. وبالتالي، فإن التنبؤات الخاصة بسقوط القدس ليست عمليات تنجيم وإنما هي ما يمكن تسميته بـ «النذير». ويمكن رؤية معجزات الأنبياء والرسل في الإطار نفسه، فهي ليست تحدياً بشرياً للإرادة الإلهية بقدر ما هي تدخُّل إلهي يخرق سنن الطبيعة لتوصيل رسالة ما للبشر. والشعائر التي يقوم بها المؤمن تختلف تماماً عن الشعائر السحرية، فالشعائر التي يقوم بها المؤمن تهدف إلى إظهار طاعة المخلوق لخالقه ومحاولته التقرب منه، وجوهرها أن تتنازل الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية. أما الشعائر في الإطار السحري، فهي تهدف إلى التقرب من الإله ثم تحويل إرادته. ولعل هذا هو السبب في تأكيد الصراع بين يوسف وسحرة مصر (تكوين 41) ودانيال والسحرة في البلاط البابلي (دانيال2) والصراع بين موسى وهارون من ناحية وعرافي مصر وسحرتها من ناحية أخرى (خروج 7)، حيث يستخدم سحرة مصر سحرهم الخفي، أما موسى فيستغيث بالله الذي يغيثه. ولهذا، فإن نبوءات الأنبياء ومعجزاتهم والشعائر التي يؤديها المؤمنون مختلفة تماماً عن السحر والشعائر التي يقوم بها السحرة، بل تقف على النقيض منها.

                        ومهما يكن الأمر، فقد أصبح السحر اليهودي انعكاساً للوثنية السائدة في الشرق الأدنى في العصور القديمة إذ سقطت في الحلولية والوثنية والسحر تدريجياً، ثم بشكل سريع ابتداءً بالكتب الخفية (أبوكريفا)، ثم التلمود وأخيراً القبَّالاه حيث تدور القبَّالاه العملية بأسرها حول السحر. ولكن المفارقة أن نصوص العهد القديم أصبحت المادة الخام التي تُستخدَم للوصول إلى الصيغة السحرية، ففي منظومة الحلولية عادةً ما يصبح النص المقدَّس موضع الحلول الإلهي ويصبح النص جسد الإله، ومن يتحكم في النص يتحكم في الخالق. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور مفهوم التوراتين (التوراة المكتوبة والتوراة الشفوية) الذي تطور ليصبح توراة الخليقة الظاهرة وتوراة الفيض الباطنية التي لا يصل إليها إلا من يمتلكون مقدرات خاصة على التفسير، وهي التوراة التي يمكن عن طريقها الوصول إلى الصيغة السحرية. ولذا، فقد كانت هناك فقرة (عدد 12/13) تصف شفاء مريم من البرص كتعويذة ضد الحمى. وكان مزمور 91 من أهم التعويذات على الإطلاق. وحتى لا تفهم الشياطين مضمون الفقرات التوراتية كان السحرة يلجأون إلى الاختصارات فكان يُنطَق بكلمة هي عبارة عن الحروف الأولى في الكلمات التي تشكل الفقرة التوراتية أو يُنطَق بحرف واحد يرمز للكلمة كلها (وهو أسلوب يعرف باسم «نوتاريكون») أو ينطق بالمعادل الرقمي للكلمة (أسلوب الجماتريا). وكثيراً ما كانت هذه التحويرات تستقل عن أصلها لتصبح كلمات مستقلة مثل كلمة «أبرا كادبراه abracadabra» التي يبدو أنها عبارة آرامية للإشارة إلى أحجار أبراكساس، وهي أحجار عليها حروف وأرقام كانت تُستخدَم لأغراض سحرية. وقد أصبحت كلمة «أبرا كادبراه» الصيغة المستخدمة لشفاء الأمراض.

                        وكان يُظن أيضاً أن اسم الإله، شأنه شأن التوراة، هو نفسه جسد الإله، ومن يتحكم في اسم الإله الأعظم (يهوه أو التتراجراماتون) يتحكم في الإرادة الإلهية. وقد استخدم اسم «شابريري» (شيطان العمى) فكان اسمه يُكتَب على هيئة مخروط مقلوب:

                        شابريري

                        شابرير

                        شابر

                        شا

                        وكان هذا المخروط المقلوب يُوضَع في حجاب يُلَف على رقبة المريض.

                        وإلى جانب السحر المرتبط بالنصوص والأرقام، يوجد السحر المرتبط بالحروف، وقد اكتسبت الأبجدية العبرية أهمية خاصة في السحر. ويُتداول حتى الآن في أرجاء العالم عدد كبير من التعاويذ والأحجبة التي تحتوي على حروف عبرية. كما أن نجمة داود نفسها كانت ذات دلالة بين المشتغلين بالسحر من اليهود وغير اليهود. بل إن الشعائر الدينية نفسها بدأت تتحول بالتدريج واكتسبت مضموناً سحرياً إذ أصبح الهدف منها السيطرة على الذات الإلهية أو على الأقل مساعدة الإله في إصلاح الخلل الكوني (تيقون) الذي يستعيد الإله من خلاله توحُّده ووجوده. ولذا، كانت الصلاة اليهودية تُؤدَّى باعتبار أنها تساعد في الزواج المقدَّس (زواج العنصر الذكوري في الذات الإلهية بالعنصر الأنثوي).

                        وبالتدريج، أصبحت صياغة الصلوات وطريقة تلاوتها أكثر أهمية من الرؤية الفلسفية الكامنة وراءها. وأصبح الإيمان بالملائكة ليس إيماناً بالغيب وبحدود ذات الإنسانية وإنما الإيمان بأرواح يمكن رشوتها وتوظيفها، والشياطين هي قوى يمكن خداعها عن طريق تلاوة الأدعية بالآرامية (مثلاً). بل إن كل الأوامر والنواهي فقدت مضمونها الأخلاقي الديني وأصبحت بمنزلة الشعائر السحرية. وظهرت شعائر مثل الـ «تشليخ» حيث يقوم اليهود بنفض ذنوبهم في الماء، وشعيرة «كاباراه» في ليلة يوم الغفران حيث تُذبَح دجاجة بعد أن تُمرَّر على رؤوس بعض اليهود لغسل الذنوب أيضاً. وقد وصلت كل هذه الاتجاهات إلى قمتها في الحركة الحسيدية حيث أصبح بوسع التساديك أن يغير الإرادة الإلهية عن طريق أداء بعض الشعائر والحركات، كما كان يبيع لأتباعه الأحجبة الكفيلة بتحقيق السعادة لهم فيما يشبه صكوك الغفران. ومع حركات شبتاي تسفي، يحل السحر تماماً محل الدين وتصبح الرقية والتعويذة والصيغ السحرية مركز العبادة. وقد وجدت قيادة الجماعة اليهودية منذ نهاية القرن السابع عشر تجارة رابحة في مثل هذه الأشياء. ومع حركة الاستنارة، بدأ ظهور العلم وبدأ البحث عن الصيغة العلمية لحل كل المشاكل، فتراجعت بالتالي الصيغة السحرية، إذ حلت الصيغة العلمية محلها.

                        وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في الوجدان الغربي بالسحر للأسباب التالية:

                        1 ـ لعل أهم الأسـباب هـو الرؤية التوراتية لليهود باعتبارهم شعباً مقدَّساً، فالشعب المقدَّس عنده مقدرات عجائبية ولا شك، فهو موضع الحلول الإلهي الذي يعيش خارج الزمان. وقد أصبح الشعب المقدَّس هو الشعب الشاهد الذي يعيش على هامش المجتمع مع الشخصيات الهامشية مثل العرافين والسحرة. وفي الرؤية البروتستانتية الألفية، تحوَّل اليهود أنفسهم إلى ما يشبه الصيغة السحرية، إذ أن الخلاص قمين بعودتهم إلى أرض الميعاد وتَنصُّرهم.

                        2 ـ وقد عمَّق من هذا كله تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تعيش في المجتمع دون أن تكون منه في وقت كان فيه أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية يعملون بالتجارة والربا. وفي المجتمع الإقطاعي، كان الفلاح يعمل بالزراعة والنبيل يعمل بالحرب والقسيس يعمل في الكنيسة، أي أن الجميع كانوا يعيشون من ثمرة عملهم. أما اليهودي، فكان يبدو وكأنه لا يعمل، فقد كان يحرك رأس ماله وحسب أو كان يحرك السلع من مكان لآخر ليحقق أرباحاً طائلة، فظهرت العملية كلها وكأنها سحر.

                        3 ـ ومما رسَّخ هذه الرؤية في الوجدان الغربي أن أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يعملون فعلاً بالسحر. والتلمود، في كثير من أجزائه، هو كتاب سحر، كما أن القبَّالاه العملية هي، أولاً وأخيراً، انشغال بالسحر وبمحاولة الوصول إلى الصيغة السحرية. وقد كانت الحركات المشيحانية، التي كانت تكتسح أعضاء الجماعات اليهودية من آونة لأخرى، حركات تعبِّر عن الإيمان بالحل السحري. ولعل ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالسحر في الوجدان الغربي، ومن ثم بالشيطان، هو أهم أسباب معاداة اليهود والدافع وراء كثير من الهجمات الشعبية عليهم.

                        الجولم
                        Golem


                        ««الجولم» في التراث الديني اليهودي هي الصورة الحية أو تلك الصورة التي مُنحت الحياة كنتيجة لاستخدام كلمات ذات قيمة سحرية وحلولية. وقد ظهر المُصطلَح في التوراة (الإصحاح 129/16) بمعنى المادة الجنينية غير المُشكَّلة. وبهذا المعنى يدعو التلمود آدم بالاسم «جولم» في ساعاته الأولى قبل أن تُنفَخ فيه الروح، وهذه المرحلة توصف بأنها المرحلة الثالثة في خلق آدم.

                        وتتم صناعة أو تخليق الجولم بصياغة المادة الخام أو الأرض أو الأدمة على الهيئة التي يرغبها الصانع ثم تُكتَب «الكلمة» أو «اسم الإله » على الرأس أو الموضع الأعلى، ومن ثم تكتسب المادة الخام القدرة على الحياة.

                        وحسبما جاء في الأساطير الشعبية للجماعات اليهودية في وسط أوربا وشرقها، يقوم الجولم بحمايتهم ومساعدتهم على التخلص من كثير من المصاعب، وهو الخادم المطيع الذي يسمع أوامرهم وينفذها، فالجولم لا يستطيع الكلام أو التعبير ولكنه مُنفِّذ لأوامر سيده. وثمة ارتباط بين كلٍّ من أسطورة الجولم ورؤى «الأبوكاليبس» ونهاية العالم، فمثلاً نلاحظ ازدهار الأساطير الجولمية في الوقت نفسه الذي ازدهرت فيـه رؤى الأبوكاليبـس والتبشـير بالخلاص. ففي نهاية العـصور الوسطى، مع ازدياد الإيمان بالسحر وازدياد الحاجة للخلاص وبداية تصاعد الحمى المشيحانية، انتشرت وسط جماعات يهود اليديشية أساطير الجولم وقدرة الخلق باستخدام الاسم أو الكلمة وقيل إن إلياهو الشلمي (وهو رجل دين عاش في القرن السادس عشر) قد خلق جولم باستخدام «اسم الإله الأعظم» حتى أنه لُقِّب بـ «سيد الاسم» أو «بعل شيم».

                        ومن أهم الشخصيات اليهودية المرتبطة بأسطورة الجولم في تاريخ يهود اليديشية الحاخام يهودا لوف البراغي (1513 ـ 1609). وقد ساعد هذا الجُولم الذي خلقه هذا الحاخام، كما تقول الحكايات، على إنقاذ اليهود من متاعب كثيرة وفضح كذب تهمة الدم التي وجهت إليهم. وقيل إن الحاخام قد خلق هذا الجولم بأمر إلهي، وكشف له في المنام عن الصيغة المقدَّسة لصياغة الجولم مع الأمر بأن تُشطَب تلك الصيغة عن الرأس يوم الجمعة لكيلا يُدنِّس الجولم السبت المقدَّس. ويُقال إن بقايا هذا الجولم ما زالت مدفونة تحت أنقاض معبد براغ القديم. ومن أشهر الذين قيل إنهم قاموا بتخليق الجولم كلٌّ من إلياهو (فقيه فلنا)، وإسرائيل بعل شيم طوف مؤسس الحسيدية.

                        ومن الملاحَظ أن الأدب الجولمي أو أدب الشخصيات المخلقة قد انتشر في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في وسط أوربا وشرقها (أي موطن يهود اليديشية) ونذكر على سبيل المثال قصة الجولم للبافاري جوستاف ميرينك وقصة «دراكيولا» ذات الأصل الترانسفالي وقصة فرانكنشتاين ذات الأصل البومراني (النسبة إلى مقاطعة حدودية تقع بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا وبولندا).

                        وقد ارتبط انتشار قصص الجولم وأساطير تخليقه بفترة ازدياد الاتجاه للعلمنة. فقبل القرن السادس عشر كان الجولم مجرد أسطورة تفسيرية، لكن الجولم تحوَّل بعدئذ إلى واقع متخيَّل. فهو تجسيد أسطورة الخلق العلمانية، فبالإمكان استخدام الاسم الأعظم أو «الكلمة» (أي المعرفة العلمية أو «القانون العلمي») لتكوين المخلوق، وهو الاتجاه نفسه الذي كان سائداً في أوربا منذ بداية عصر الإصلاح الديني حيث بدأ يسود الاعتقاد بأن الفرد (لا الكنيسة) هو موضع الحلول الإلهي وهو منقذ ذاته ومخلصها، وهي الفكرة التي أصبحت في السياق العلماني الإيمان بأن الإنسان مكتف بذاته وأنه العبد والمعبود والمعبد، وهو ما يمكن تسميته «تأله الإنسان». والجولم يعبِّر عن هذا الجانب من الحلم العلماني ولكنه يعبِّر في الوقت نفسه عن جانب آخر، وهو خوف الإنسان العلماني (وشكوكه العميقة) من هذه القوة التي ينسبها إلى نفسها. ولذا، فإن الجولم، شأنه شأن فرانكنشتاين، يمثل ازدواجية المنقذ المدمر. وهو، بالتالي، يتيح له إسقاط مخاوفه ومتاعبه على هذه الشخصية المُخلَّقة ويعطيه هذا إحساساً بالتجاوز وأيضاً إحساساً بالقدرة على الإنجاز في فترات عدم الإنجاز والانهيار الشامل. إن الجولم يجسد لكل فرد إمكانية أن يكون صانعاً للجولم في يوم ما أو أن يكون الإله أيضاً، وهو في الوقت نفسه الوسيلة التي يفرغ بها الإنسان مخاوفه من هذا الطريق الشيطاني. والجولم، بهذا المعنى، معادل وظيفي دنيوي للأيقونة المنقذة المدمرة، أو تلك الدمية التي يصنعها الساحر أو الشامان ويخزها ليدمر الآخر أو ينثر حولها البخور والقرابين ليقوي الذات ويُقدِّم رشوة للآلهة فيمكنه أن يسلبها قوتها أو يُسخِّرها لإرادته.ومن ثم يُمثِّل الجولم دعم الذات ودمار الآخر.وتُصبح الأسطورة في ذاتها مُولِّدة لأساطير أخرى ترتبط بها ويتم من خلالها تفسير سلوك الآخر في نظر الذات أو تفسير سلوك الذات في نظر الآخر.

                        نوسـتراداموس (1503-1566)

                        اسم الشهرة لميشيل نوستردام، منجِّم وطبيب فرنسي، وأحد أكثر شخصيات عصر النهضة في الغرب إثارة وغموضاً، اكتسب شهرة واسعة عبر التاريخ بسبب ما يُقال عن تَحقُّق نبوءاته. وُلد في مقاطعة بروفانس في فرنسا لعائلة من أصل يهودي حيث اعتنق جداه المسيحية بعد أن خضعت مقاطعة بروفانس للحكم الفرنسي عام 1482 وخيَّر لويس السابع رعاياه من اليهود بين الطرد أو التنصر. وقد اتخذ جده أبراهام سولومون دي سانت ماكسيمين، بعد اعتناقه المسيحية، اسم بيير دي نوستردام. وقد وُلد نوستراداموس مسيحياً ونشأ نشأة كاثوليكية وإن تلقَّى قسطاً من تعليمه على يد جديه (اليهوديين سابقاً). ودرس الطب في جامعة مونبلييه، وتخرج فيها عام 1529، واكتسب سمعة طيبة بعد نجاحه في علاج كثير من الأمراض، وخصوصاً الطاعون، باستخدام أساليب متطورة وغير تقليدية. ولكنه فشل في علاج زوجته وأولاده عندما أصابهم الطاعون وتوفوا عام 1538.

                        وقد أمضى نوستراداموس الفترة ما بين عامي 1538 و1547 متنقلاً من مكان إلى آخر، ويُقال إنه التقى في إيطاليا بيهود من القبَّاليين ثم عاد إلى فرنسا حيث اتجه اهتمامه إلى السحر والتنجيم وعالم القوى الخفية. وأصدر نوستراداموس عدداً من الأعمال في التنجيم، كان من أشهرها على الإطلاق نبوءاته التي صدرت عام 1555 وضمت 350 رباعية كُتبت بلغة فرنسية وبأسلوب مبهم وغامض. وقد نُظمت الرباعيات في مجموعات، تضم كل مجموعة مائة رباعية، ولذلك عُرف هذا العمل أيضاً باسم «المئويات». ولم يلق هذا العمل أي اهتمام إلا عندما تحققت إحدى نبوءاته وهي مقتل الملك الفرنسي هنري الثاني في حادث عام 1559. ومنذ ذلك الحين، بدأ الاهتمام الواسع بفك غموض نبوءات نوستراداموس ومحاولة تفسيرها. وقد عُيِّن نوستراداموس عام 1564 طبيباً للملك الفرنسي شارل الرابع ومستشاراً له.

                        وبرغم أن أغلب رباعيات نوستراداموس بالغة الغموض ومكتوبة بأسلوب يصعب فهمه، إلا أن بعض نبوءات نوستراداموس قد تحقَّق بالفعل؛ مثل أحداث ثورتي إنجلترا وفرنسا، وصعود وسقوط نابليون، ونجاح الإنسان في الطيران، وتخلِّي إدوارد الثامن عن العرش في إنجلترا، وصعود زعيم ألماني اسمه «هيستر» الذي سيتسبب في إراقة كثير من الدماء في أوربا قبل هزيمته، وهو ما اعتبر إشارة للزعيم النازي هتلر (ومع هذا، لم يقم أحد بدراسة النبوءات التي لم تتحقق وعددها ونسبتها إلى إجمالي عدد النبوءات).
                        ومن المعروف أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية يتجهون نحو الاشتغال بالسحر والتنجيم بسبب تأثير القبَّالاه ذات النزعة الحلولية. والواقع أن الأنساق الحلولية تجعل الهدف من وجود الإنسان ليس الاتزان مع الذات أو الطبيعة (من خلال الاعتراف بالحدود) وإنما التحكم في الواقع من خلال معرفة الإله الحالّْ في المادة والتاريخ). وكانت القبَّالاه قد بدأت في الهيمنة الكاملة على الفكر الديني اليهودي، وخصوصاً في منطقة مثل بروفانس لا تبعد كثيراً عن إسبانيا مهد القبَّالاه، حيث وُجد فيها أيضاً عارفون بالقبَّالاه وتزايد عدد اليهود المشتغلين بما يُسمَّى «القبَّالاه العملية»، ولعل نوستراداموس جزء من هذا الاتجاه.

                        وبتزايد أزمة اليهودية الحاخامية تزايد البحث عن الحل السحري،الذي يؤدي إلى التحكم الإمبريالي الكامل في الذات والطبيعة،بدلاً من التوازن معهما،وهو اتجاه استمر حتى العصر الحديث،حيث يُلاحَظ تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في الجماعات التي تبحث عن الحلول السحرية والتي يمكن عن طريقها حل كل المشاكل بضربة واحدة (جماعات التنويم المغناطيسي ـ العبادات الجديدة ـ التنجيم ـ الحركات السرية ـ الحركات الثورية المتطرفة).

                        صمويل فولك (1710-1782)
                        Samuel Falk


                        يهودي قبَّالي ومغامر يُعرف باسم «بعل شيم لندن». وُلد في جاليشيا، وكانت تربطه علاقة وثيقة بزعماء الحركة الشبتانية. وقد عُرف كساحر وهرب من وستفاليا خوفاً من تطبيق عقوبة الموت حرقاً عليه (وهي العقوبة التي كانت تُطبَّق على السحرة). وقد قام الأسقف حاكم كولونيا بنفيه، فوصل إلى لندن عام 1742 حيث مكث بقية حياته. وقد أحاطت به سمعة سيئة في الأوساط اليهودية والأوساط غير اليهودية لممارساته القبَّالية التي تستند إلى استخدام اسم الإله الأعظم الخفي، ومن هنا أصبح اسمه بعل شيم (صاحب أو سيد الاسم المقدَّس). وكان يمتلك في منزله معبداً يهودياً خاصاً، وأقام معملاً قبَّالياً أجرى فيه بعض التجارب التي تهدف إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. وقد أثارت التجارب بعض الاهتمام. ومن بين من انجذب إليه تيودور دي ستاين، وهو مغامر كان يدَّعي أنه ملك كورسيكا وكان يأمل أن يحصل على ذهب يكفي لاستعادة عرشه. وكان فولك على اتصال أيضاً ببعض أعضاء النخبة مثل دوق أورليانز والأمير البولندي تشارتوريسكي والماركيز دي لاكروا. ومن الشائعات التي انتشرت حوله أنه أنقذ المعبد الكبير في لندن من الدمار بالنار، وذلك من خلال بعض الكتابات السحرية التي كتبها على عتبته. ولكن الحاخام جيكوب إمدن هاجمه باعتباره مهرطقاً شبتانياً، ولكنه وقف إلى جواره في معركته مع عائلة جولد سميد. ويبدو أن فولك كسب مراهنة، أو لعل أحد الأسر اليهودية قد أعطته ثروة صغيرة، إذ أنه مات ثرياً. وقد أوصى فولك ببعض ثروته لأعمال الخير وللحاخامية الرئيسية في لندن.

                        القــبَّالاه المســيحية
                        Christian Kabbalah


                        مُصطلَح «قبَّالاه مسيحية» مُصطلَح يشير إلى مجموعة الكتابات التي وضعها مؤلفون مسيحيون تبنَّوا المنظومة المعرفية القبَّالية. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن القبَّالاه المسيحية ثمرة احتكاك الفكر الديني المسيحي بالفكر الديني اليهودي الذي سيطرت عليه القبَّالاه، وأن الفكر الديني اليهودي « أثَّر» في المسيحية. ولا شك في أن مثل هذا الاحتكاك كان له أكبر الأثر في شيوع الفكر القبَّالي بين المسيحيين. ولكننا، في الواقع، نميل إلى الأخذ بنموذج توليدي في التفسير، ونذهب إلى أن ثمة طبقة غنوصية حلولية كامنة في كل المجتمعات، وخصوصاً بين الطبقات الشعبية التي تجد أن من العسير عليها أن تتجرَّد من الواقع المباشر لتدرك العالم من خلال فكرة الإله الواحد المنزَّه عن المادة التي تُخلَق من العدم، فالكثرة المادية أمر تدركه حواس الإنسان بصورة أكثر يسراً من إدراك فكرة الإله الواحد المتجاوز، والكل أكثر صعوبة في إدراكه من الجزء إذ يتطلب تجرُّداً من الذات وتجاوزاً لها. وهذه الطبقة الغنوصية تولِّد أنساقاً دينية مختلفة، والنسق القبَّالي لا يعدو كونه أحد هذه الأنساق. ويُلاحَظ، على سبيل المثال، أن الفكر القبَّالي اليهودي قد ازدهر في مقاطعة بروفانس في الوقت الذي ازدهر فيه الفكر الغنوصي بين المسيحيين (الهرطقة الألبيجينية). وقد ازدهرت القبَّالاه اليهودية في شبه جزيرة أيبريا مع بداية ازدهار التصوُّف الحلولي المسيحي. كما أن كتاب الزوهار قد بدأ انتشاره مع ازدهار المتصوف الألماني المعلم مايستر إيكهارت Meister Eckhart (1260 ـ 1329). فالتربة التي ساعدت على ازدهار القبَّالاه الغنوصية بين اليهود هي نفسها التي ساعدت على ازدهار أنماط غنوصية في التفكير بين بقية أعضاء المجتمع، خصوصاً في الطبقات الشعبية. كما تنبغي الإشارة إلى أن الفكر الديني المسيحي نفسه دخلته عناصر غنوصية تبناها من الفكر الهيليني أو من العهد القديم. كما أن التأملات الثيو صوفية المسيحية مسألة تسبق ظهور القبَّالاه بزمن طويل. وقد كان الفكر الأفلوطيني (بكل منظومته الأسطورية) أمراً راسخاً هو الآخر في العقل المسيحي الرسمي والشعبي. ولعل أهم العوامل التي خلقت لدى الغرب المسيحي استعداداً كامناً قوياً لتَقبُّل القبَّالاه اليهودية هو اتجاهه نحو تبنِّي رؤية حلولية كمونية تجسدية للكون (مع نهاية العصور الوسطى)، ويتضح هذا في هيمنة الرؤية الهرمسية وشيوع فكرة اللاهوت القديم، أي أن كل الأديان تعود إلى أصل واحد، وتزايد ظهور الرؤية المعرفية الإمبريالية حيث يصبح هدف الوجود الإنساني السيطرة على الكون لا التوازن معه.

                        ويمكن القول بأن القبَّالاه المسيحية تعود إلى القرن الخامس عشر، وكانت تهدف إلى تحقيق عدة أغراض: محاولة تنصير اليهود عن طريق التوفيق بين أفكار القبَّالاه اليهودية والعقائد المسيحية، وإظهار أن المعنى الحقيقي للرموز القبَّالية يشير إلى اتجاه مسيحي. وهذه المحاولة لم تكن تبشيرية متعسِّفة كما قد يبدو لأول وهلة، فكثير من رموز القبَّالاه نشأت في تربة مسـيحية (إسـبانيا الكاثوليكية) وهي عبارة عن تشويه لهذه الرموز. كما أن الفكر القبَّالي فكر تجسيدي يجعله يقترب إلى حدٍّ ما من الفكر المسيحي. وبطبيعة الحال، فإن هناك الطبقة الغنوصية الكامنة في كلٍّ من النسق الديني اليهودي والنسق الديني المسيحي، تلك الغنوصية التي تزدحم بها صفحات العهد القديم؛ الكتاب المقدَّس عند المسيحيين واليهود جميعاً. وإلى جانب هذا، كانت هناك الرغبة في اكتشاف الصيغة السحرية التي يمكن التحكم من خلالها في الكون والتي عبرت عن نفسها في انتشار الرؤية الهرمسية واكتساحها كثيراً من المفكرين الغربيين. كانت هناك رغبة وثنية عميقة سادت أوربا مع بدايات عصر النهضة غايتها التوصل إلى كل الحقيقة من خلال دراسة نصٍّ ما، وقد كان ظهور القبَّالاه مناسباً لهذا الغرض. ومع تزايد معدلات العلمنة وتصاعد الرؤية المعرفية الإمبريالية، ازداد الاهتمام بالقبَّالاه باعتبارها مفتاحاً للعلم (كل العلم) والعالم (كل العالم) وهي الرغبة التي تحولت إلى المشروع العلمي الحديث الذي يتصور أن بوسع الإنسان الإحاطة بقوانين الحركة في الطبيعة والتحكم الكامل فيها عن طريق هذه المعرفة.

                        هذا هو الأساس التوليدي لتغلغل القبَّالاه، فهو استعداد كامن في الحضارة الغربية نفسها، كان قد بدأ يتحقق من خلال عدة عناصر داخلية. ولم يكن شيوع نصوص القبَّالاه اليهودية سوى عنصر مساعد ساهم في الإسراع بالعملية وساعد على بلورتها.

                        ويبدو أن عدداً كبيراً من اليهود الذين تنصروا قد ساهموا بشكل فعال في نقل الأفكار القبَّالية، ثم انضم إليهم العديد من يهود المارانو. ومن أهم مراكز الفكر القبَّالي المسيحي الأكاديميات الأفلاطونية التي شيدها آل مدتشي في فلورنسا والتي اكتشف علماؤها القبَّالاه اليهودية والنصوص الهرمسـية ورأوا أنها تحتوي على كشف إلهي للجنس البشري فُقد بعض الوقت وتم استرجاعه. وقد ذهبوا إلى أن العالم بوسعه فهم فلسفة فيثاغورس وأفلاطون بل العقيدة الكاثوليكية نفسها من خلال النصوص القبَّالية. ومن أهم الشخصيات التي ساهمت في نقل القبَّالاه إلى العالم المسيحي، اليهودي المتنصر فلافيوس مثراديتيس Flavius Mithradites (ويُقال إنه هو نفسه صمويل نسيم أبو الفرج الذي كان يعيش في صقلية في القرن الخامس عشر) والذي ترجم مقطوعات طويلة من القبَّالاه إلى اللاتينية لتلميذه العالم الفلورنسي بيكو ديلا ميراندولا Pico della Mirandola (1463 ـ 1494) الذي قام بصياغة 900 أطروحة طرحها للمناظرة العامة، كان من بينها 47 أطروحة مستقاة بشـكل مباشـر من القبَّالاه و72 أطروحة اسـتخلصها هو من قراءته للقبَّالاه. بل إنه ذهب إلى أن العلم القبَّالي (والسحر) أفضل السبل لإقناع الإنسان بألوهية المسيح. وتُعَدُّ هذه اللحظة النقطة التي وُلدت فيها القبَّالاه المسيحية كمنظومة تتحدى المنظومة المسيحية الأرثوذكسية أو تقوضها من الداخل (وهو الأمر الأكثر شيوعاً). وقد بيَّن بيكو أنه يمكن التدليل على صدق عقيدة التثليث والتجسد على أساس ما ورد في القبَّالاه.

                        ومن أهم تلاميذ بيكو ديلا ميراندولا، العَالم الألماني يوحانيس ريوشلين Johannes Reuchlin (1455 ـ 1522) الذي درس القبَّالاه بعمق ونشر كتابين باللاتينية عن الموضوع: الكلمة صادقة المعجزات (1494) أول كتاب باللاتينية في القبَّالاه، و في علم القبَّالاه (1517). وقد ربط ريوشلين بين مفهوم التجسد المسيحي وفكرة أسماء الإله المقدَّسة.

                        وقد اكتشف المسيحيون كلاًّ من القبَّالاه النظرية التأملية والقبَّالاه العملية (السحر). وتُعدُّ أعمال هنري كورنيليوس أجريبا النتيشيمي Henri Cornelius Agrippa von Nettesheim (1486ـ 1535) من أهم الأعمال التي تناولت القبَّالاه العملية. واستمر الاهتمام بالقبَّالاه في الأوساط المسيحية، فكتب الكاردينال إديجيو دا فيتربو Edigio da Viterbo (1465ـ 1532) عدة دراسات متأثرة بالزوهار، وألَّف الراهب الفرنسي فرانسيسكو جيورجيو البندقي Francesco Giorgio of Venice (1460 ـ 1540) كتابين ضخمين تشكل القبَّالاه فيهما الموضوع الأساسي. وقد كان جيورجيو أول كاتب مسيحي يقتبس من كتاب الزوهار باستفاضة. وتُبيِّن كتابات المتصوِّف الفرنسي جويوم بوستل Guillaume Postel (1510 ـ 1581) مدى اهتمامه بالقبَّالاه، فقد ترجم الزوهار وسفر يتسيراه إلى اللاتينية (حتى قبل أن يُطبعا بلغتهما الأصلية) وكتب لهما تفسيراً مستفيضاً. وقد نشر عام 1548 تعليقاً قبَّالياً عن المعنى الصوفي لشمعدان المينوراه. وقد ازداد الحماس المسيحي للقبَّالاه، حتى أن بعض المفكرين بدأوا في جمع النصوص القبَّالية التي كانت لا تزال مخطوطة. ومن بين هؤلاء يوهان ألبرخت ويدمانستتر Johanne Albrecht Widmanstetter (1506-1557) وقد ظلت مراكز دراسات القبَّالاه على يد المسيحيين في إيطاليا وفرنسا طوال القرن السادس عشر، ولكنها انتقلت إلى ألمانيا وإنجلترا في القرن السابع عشر.

                        وقد تبنَّى المتصوِّف الألماني جيكوب بومه Jacob Boehme (1545 ـ 1624) نسقاً قبَّالياً غنوصياً. ويتحدث بومه عن «أون جروند Ungrund» وهي الهوَّة (حرفياً: «اللا أرض»)، وهي أيضاً الإرادة الأولى أو العدم الأزلي، وكلها عبارات تذكرنا بالإيين والإرادة الإلهية الأولى في القبَّالاه. وقد شبه بومه اللا أرض هذه بالنار الخفيَّة التي توجد ولا توجد (وهي عبارة وردت في الزوهار). ويتضح النسق القبَّالي وبحدة في الثنائيات الصلبة التي تسم نسق بومه. كما أن مفهوم بومه الخاص بالسقوط باعتباره خللاً أو عدم اتزان بين عناصر الكون الأربعة يشبه تماماً فكرة الخلل الكوني في القبَّالاه (وعند هذه النقطة يصبح من العسير التحدث عن القبَّالاه مستقلةً عن النسق الغنوصي الذي يَصدُر عن فكرة أن السقوط ليس ناجماً عن الخطيئة وإنما عن خلل ما).

                        ومهما كان الأمر، فإن تبنِّي بومه لهذا النسق قد جعله من أهم القنوات التي تحولت من خلالها القبَّالاه إلى رافد أساسي في الفكر الديني المسيحي واليهودي. وقد بدأت الأفكار القبَّالية تتبدَّى في كتابات وأعمال بعض الفنانين مثل الفنان الألماني دورر Durer. وقد قام كريستيان نور فون روزينروث Christian Knorr Von Rosenrotth بنشر أجزاء ضخمة من الزوهار والقبَّالاه اللوريانية في كتابه كشف القبَّالاه (1684)، وقد حقق الكتاب ذيوعاً كبيراً بين أعضاء النخبة الثقافية في أوربا. أما العَالم اليسوعي أثاناسيوس كيرشر Athanasius Kirsher، فبيَّن التوازي بين مفهوم الآدم قدمون ومفهوم المسيح كإنسان أوَّل. وظهر اصطلاح «القبَّالاه المسيحية» لأول مرَّة في كتابات فرانسيسكوس ميركوريوس فان هلمونت Franciscus Mercurius Van Helmont، وهو عَالم دين هولندي يشكل حلقة وصل بين القبَّالاه وفلاســفة كمبردج الأفلاطونيين، وكذلك الذين تأثروا بالقبَّالاه مثل: رالف كدور Ralph Cudworth وتوماس فون Thomas Vaughn، وتوماس بيرنت Thomas Burnet.

                        ولكن هنري مور Henry More (1614 ـ 1697) هو أكثر فلاسفة كمبردج اهتماماً بالقبالاه وتأثراً بها. وقد تأثر مور بالفلسفة الفيثاغورسية وتقاليد اللاهوت القديم والأفلاطونية الحديثة (وحدة وجود روحية)، ولكنه تأثر أيضاً بالفلسفة الديكارتية (وحدة وجود مادية). وقد حسم هذا التناقض بأن جعل الحركة الآلية للمادة نتاج «روح الطبيعة»، أي الروح (الإلهية) التي تسري في المادة. وكانت القبَّالاه إحدى الآليات التي حسم بها هذا التناقض فكان يذهب إلى أن التقاليد القبَّالية (بتأكيدها على الجماتريا وغيرها من المفاهيم التي تنبع من رؤية واحدية كونية) تحوي داخلها المنظومة الديكارتية. وكان مور يرى أن القبَّالاه اليهودية أُعطيت لموسى حينما صعد إلى جبل سيناء. وأنها كانت تضم تلك الأسرار التي أتى بها فيثاغورس وأفلاطون من مصر ومن فارس. ولذا مزج مور بين تعليقاته القبَّالية وبين صوفية الأعداد الفيثاغورسية وتعاليم أفلاطون والأفلاطونية المحدثة. وهكذا تلتقي الحلولية الكمونية الروحية بالحلولية الكمونية المادية. وقد كتب مور كتاباً يُسمَّى الإشراقات القبَّالية وتظهر في كتاباته إشارات عديدة للقبَّالاه والصوفية المركبة.

                        وهناك كذلك إشارات للقبَّالاه في كتابات توماس ناش Thomas Nash وفرانسيس بيكون Francis Bacon، ففي كتابه أطلانطيس الجديدة (1627) ثمة وصف لجزيرة فيها مجتمع مثالي تضم جماعة يجتمعون في مجمع علمي يُسمَّى «بيت سليمان» ويتبعون تعاليم القبَّالاه. وهذا المجتمع يختلف تماماً عن الجامعات البريطانية في ذلك الوقت التي كانت لا تزال تُكرِّس جُلَّ وقتها للدراسات الإنسانية والفلسفية، على عكس مجمع أطلانطيس الذي كان يكرس وقته لمعرفة الأسباب والحركة الخفية للأشياء ويرمي إلى توسيع حدود الإمبراطورية الإنسانية حتى يؤثر في كل الأشياء الممكنة. وقد تبدى أثر القبَّالاه كذلك في منظومة الفيلسوف ليبنتس الحلولية. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن فلسفة إسبينوزا التي اكتسحت العالم الغربي بأسره هي فلسفة ذات أصول قبَّالية واضحة. ولعل إسبينوزا، الذي عَلمَن الخطاب القبَّالي والحلولي، هو أهم القنوات التي تدفَّق من خلالها الفكر الحلولي القبَّالي وخطابه على العقل الغربي.

                        ويُلاحَظ أنه منذ القرن الثامن عشر، بدأت تتضح للقبَّاليين المسيحيين العلاقة بين القبَّالاه والسحر ورموز علم الكيمياء في العصور الوسطى Alchemy والتي تتبدَّى في كتابات الدبلوماسي الفرنسي بليز دي فيجينير Blaise de Vigenere (1523 ـ 1596). ويصل هذا التيار إلى قمته في كتابات المتصوِّف الألماني فريدريك أتنجر (1702 ـ 1782) الذي تركت أعماله أثراً عميقاً في كتابات كثير من الفلاسفة الألمان مثل شلنج وهيجل.

                        وقد ذهب أوتينجر إلى القبَّالي اليهودي كويل هيخت المقيم في جيتو فرانكفورت طالباً منه المزيد من المعرفة عن القبَّالاه، فأجابه الأخير بأن ما كتبه المسيحيون عن القبَّالاه أوضح بكثير مما جاء في كتاب الزوهار، وكان على حق في هذا، فالقبَّالاه المسيحية كانت من الذيوع والوضوح بحيث أن كثيراً من المتصوفين اليهود الذين كانوا يريدون تعميق معرفتهم بالقبَّالاه كانوا يقرأون كتب القبَّالاه المسيحية بل كتب القبَّالاه اليهودية التي نشرها المسيحيون!

                        ويتضح هذا الاختلاط بين القبَّالاه والسحر في رموز الماسونيين الأحرار في منتصف القرن الثامن عشر. وقد ظهرت بعد ذلك أعمال مارتين دي باسكوالي Martin de Pasqually (1722 ـ 1774) التي تركت أثراً عميقاً في تلميذه الفرنسي لوي كلود دي سان مارتين Louis Claude de St. Martin، وهو من أهم المتصوفين الفرنسيين قبيل الثورة الفرنسية. وقد حامت الشكوك حول انتماء باسكوالي إلى يهود المارانو (وهي شكوك أيدتها البحوث الحديثة). ومن أهم الأعمال القبَّالية المسيحية، كتابات فرانز جوزيف موليتور Franz Josef Molitor الألماني (1779 ـ 1861).

                        وقد أصبحت القبَّالاه جزءاً لا يتجزأ من رؤية كثير من المثقفين الغربيين، أو النموذج أو الصورة المجازية الكامنة في فكرهم، حتى أنه لا يمكن الحديث عن أصولها اليهودية. فالمفكر الديني السويدي عمانويل سويدنبورج Swedenborg الذي أثَّر في ويليام بليك William Blake، الذي تشبع بالمنظومة القبَّالية حتى أصبحت منظومته الفكرية قبَّالية غنوصية دون أن يطلع على أية مصادر يهودية.

                        ويتبدَّى أثر قبَّالاة الزوهار على مدام بلافاتسكي Blavatsky وهي من أشهر المشتغلات بالتأملات الثيو صوفية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر (وكانت من جماعة الدوخوبور الروسية التي تركت أثراً عميقاً في مؤسسي اليهودية الحسيدية). وقد تركت القبَّالاه أثراً عميقاً في سترندنبرج الذي كتب في مفكرته السرية ما يلي: "فتحت الكتاب فوجدت القبَّالاه... وكنت أفكر أن يهوه إن هو إلا أيون سفلى". وقد طوَّر الشاعر الأيرلندي و. ب. ييتس W. B. Yeats نسقاً قبَّالياً غنوصياً. وكان كارل يونج، معجباً أيما إعجاب بالقبَّالاه وبخاصة فكرة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وكيف يشارك الإنسان في إصلاحها (تيقون) "فلأول مرة تنبثق فكرة أنه يجب على الإنسان أن يساعد الإله في رأب الصدع الحادث من عملية الخليقة".

                        وبإمكان الدارس أن يجد آثاراً عميقة كامنة للقبَّالاه في أدب فرانز كافكا وبورخيس، بل في مؤلفات الكاتب الألماني الماركسي وولتر بنجامين. ويُقال إن أشعار الشاعر الإنجليزي ناثانيل تارن Nathaniel Tarn وروايات الروائي الأسترالي باتريك وايت Patrick White، وخصوصاً روايته راكبو العربة (1961)، تُبيِّن الأثر العميق للقبَّالاه. ويتبدَّى أثر القبَّالاه بشكل واضح وصريح في كتابات الناقد الأمريكي المعاصر هارولد بلوم والفيلسوف الفرنسي ذي الأصل السفاردي جاك دريدا اللذين يؤسسان نقدهما الأدبي على أُسس غنوصية عدمية.

                        والواقع أن ذيوع القبَّالاه في الحضارة الغربية ليس مجرد تعبير عن تهويد المسيحية أو الحضارة الغربية، وإنما هي في واقع الأمر تعبير عن عنصر أكثر عمقاً وبنيوية، وهو شيوع التفكير الحلولي الكموني الذي يدور في إطار مادي تجسدي، بحيث يصبح اللوجوس كامناً في المادة لا متجاوزاً لها، ويصبح الإله متوحِّداً مع الطبيعة والتاريخ لا منزَّهاً عنهما. وهو توُّحد يتم تدريجياً إلى أن يتحقق تماماً في مرحلة وحدة الوجود التي يشحب فيها الإله ثم يموت ليبقى العالم المادي وحده واللوجوس (أو القوانين الطبيعية) الكامنة فيه. وهذا هو الإطار الذي حقَّق فيه المفكرون اليهود بروزهم، وهو إطار لا هو بالمسيحي ولا هو باليهودي، إطار معاد للتوحيد ومعاد للإله المنزَّه ويتجه نحو المادية والتجسد، وهو إطار معرفي إمبريالي علماني.

                        فلافيـوس ميثراديتـس (القرن الخامس عشر)
                        Flavius Mithradites


                        هو صمويل بن نسيم الفراج من صقلية. تَنصَّر وتَسمَّى باسم جوليلموس (أي الصقلي) علَّم العربية والعبرية والآرامية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وكان أحد مُعلمي بيكو ديللا ميراندولا. عُيِّن أستاذاً في روما وقام بترجمة عدة كتب من العربية والعبرية واليونانية إلى اللاتينية (وضمن ذلك أجزاء من القرآن). كما ترجم لديللا ميراندولا بعض التفاسير اليهودية للتوراة (المكتوبة بالعبرية)، وكتاباً لموسى بن ميمون عن البعث، وبعض الأعمال القبَّالية. وألقى موعظة أمام البابا عن عذاب المسيح على الصليب مستخدماً المدراش وبعض المصادر اليهودية. يُعدُّ ميثراديتس شخصية مهمة في تعريف العالم الغربي بالقبَّالاه ووضع أسس القبَّالاه المسيحية.
                        اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                        http://www.rasoulallah.net/

                        http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                        http://almhalhal.maktoobblog.com/



                        تعليق


                        • #27
                          بيكـو ديـللا ميرانـدولا (1463-1494)
                          Pico della Mirandola


                          مفكر إيطالي من عصر النهضة، ويُعدُّ أبا القبَّالاه. وُلد لأسرة إقطاعية كانت تحكم مقاطعة ميراندولا وكونكورديا في شمال إيطاليا. درس العربية والعبرية على يد مُعلمين يهود، فترجم له دبلميديجو كتاب ابن رشد ، وتعلَّم العربية والآرامية على يد فلافيوس ميثراديتس، الذي ترجم له أيضاً عدداً لا بأس به من الكتابات القبَّالية، والتي تُعدُّ المصدر الأساسي لكتـابات ديللا ميراندولا القبَّالية. وديللا ميراندولا له كتاب في القبَّالاه، يُسمَّى استنتاجات قبَّالية حسب رأيه الخاص.

                          قضى ديللا ميراندولا جزءاً كبيراً من حياته في فلورنسة حيث أصبح، مع فيشينو، عضواً في أكاديمية فلورنسة الأفلوطينية وهناك قابل سافونا رولا. أهم أعماله كتاب الخطب (1486) وأهم الخطب خطبة عن كرامة الإنسان (باللاتينية: أورايتو دي هومينيس ديجنيتاتي oratio de hominis dignitate).

                          وفي عام 1486، قدَّم ديللا ميراندولا 900 أطروحة استقاها من كل فروع المعرفة للدفاع عن المسيحية، ودعا إلى مناظرة عامة بشأنها، وكان كثير من الأطروحات ذا نزعة قبَّالية واضحة. وقد أحست الكنيسة أن هذه الأطروحات مُهرطقة فمنعت المناظرة. وتُعدُّ هذه الأطروحات البداية الحقيقية للقبَّالاه المسيحية. وفي كتابه عن كرامة الإنسان ضم 13 أطروحة من هذه الأطروحات التي رفضتها الكنيسة. وتقول إحدى الأطروحات: "ليس بإمكان علم أن يجعلنا أكثر إيماناً بألوهية المسيح أكثر من القبَّالاه".

                          ويظهر أثر القبَّالاه اليهودية كذلك في كتابه هيبتايلوس (1489) وهو تفسير من سبعة مستويات للخلق، وكتابات ديللا ميراندولا مليئة بالإشارات إلى مؤلفين يهود مثل عزرا وليفي بن جرشوم.

                          كان ديللا ميراندولا لا يؤمن بأن كل الأساطير والمدارس الفلسفية واللاهوتية تحتوي على جزء من الحقيقة العالمية (الطبيعية)، وتستحق الدراسة والدفاع عنها (وهو ما يُسمَّى باللاتينية: بريسكوس ثيولوجوس priscus theologus). ولذا، كانت كتاباته تشير إلى كثير من المصادر مثل كتابات الهرمسية والأورفية والقبَّالية وكتابات فيثاغورث وأرسطو وأفلاطـون وزرادشـت وابن رشـد وابن سـينا (وغيرهما من الفلاسفة العرب). وكان ديللا ميراندولا يرى أنها كلها غير متناقضة، ومن ثم كان يبذل قصارى جهده للتوفيق بينها كلها في ديانة طبيعية عقلية عالمية واحدة، ولذا كان اهتمام ديللا ميراندولا ينصب في واقع الأمر إما على الكتابات الحلولية بالدرجة الأولى (مثل النصوص الهرمسية) أو على الجوانب الحلولية في النصوص التي يدرسها.

                          وديللا ميراندولا، شأنه شأن فيشينو، كان يرى أن أفلاطون تعلَّم الحكمة من الكتابات الهرمسية والزرادشتية والأورفية وغيرها من المصادر الشرقية. فالأفلاطونية بالنسبة له (وكما هو الحال بالنسبة لكثير من كُتَّاب عصر النهضة) هي في واقع الأمر أفلوطينية غنوصية. وتوجُّهه الحلولي يُفسِّر اهتمامه العميق بالهرمسية وبالكتابات القبَّالية اليهودية. وقد لاحظ ديللا ميراندولا التشابه بين الكتابات الهرمسية والقبَّالاه في فكرة الخلق من خلال الكلمة، فزاوج بين هذه الكتابات والقبَّالاه، فبدأ بذلك التقاليد الهرمسية/القبَّالية والحلولية الكمونية الواحدية التي تجمع بين اليهودية والمسيحية وأية عقيدة توحيدية أو وثنية حديثة أو قديمة (وهذا هو جوهر فكرة اللاهوت القديم). ولكن ديللا ميراندولا هو أول عالم مسيحي يستخدم أدبيات القبَّالاه اليهودية وإطارها المعرفي في تفسير النصوص المقدَّسة وفي رؤيته للعالم. بل كان ديللا ميراندولا يؤمن بأن الكتابات القبَّالية تحتوي على معرفة سرية ثمينة، فالقبَّالاه في تصوُّره تنبع من روايات شفوية قديمة موغلة في القدم تعود إلى أيام موسى (كان الظن السائد في عصر النهضة أن موسى وهرمس هما شخص واحد أو أن أحدهما تعلَّم من الآخر)، ولذا فالقبَّالاه ـ بالنسبة له ـ كانت ذات حجية تماثل حجية كتابات هرمس وزرادشت والكتاب المقدَّس. بل يمكن القول بأن القبَّالاه، لأنها «أصلية»، أقدم من الكتاب المقدَّس. ولأنها سرية، بمعنى أنها تحمل المعنى الباطني بشكل مباشر، ولذا فهي أكثر حجية من الكتاب المقدَّس نفسه. وقد حاول ديللا ميراندولا أن يُبيِّن أنه لا يوجد أيُّ فارق واضح بين القبَّالاه واللاهوت المسيحي (شأنها في هذا شأن العهد القديم). وأنه يمكن النظر للقبَّالاه باعتبارها رؤية تُبشر بالعقيدة المسيحية وبرهاناً على صدقها. وقد وضع بذلك الأساس للقبَّالاه المسيحية التي دافع عنها كثير من المفكرين المسيحيين في القرن السادس عشر وبعد ذلك.

                          ويتضح أثر القبَّالاه في بيكو ديللا ميراندولا في تفسيره للعهد القديم، فهو يستخدم التفسيرات الرقمية (الجماتريا) ويستخلص المعنى الباطني من النص بأن يُحل كلمة محل أخرى، شريطة أن تكون قيمتهما الرقمية واحدة. كما أنه يعطي الكتاب المقدَّس معاني تتماثل مع أجزاء الكون المختلفة (وثمة تقابل بين العالم وجسد الإنسان في القبَّالاه، وهنا أصبح التقابل بين العالم والكتاب المقدَّس). ويُلاحَظ هنا كيف أن الحلولية أصبحت النقطة التي تلتقي فيها اليهودية بالمسيحية ويذوبان سوياً (مع أية تيارات وكتابات دينية أخرى) ويصبحان ديانة طبيعية علمانية واحدة!

                          وتظهر رؤية ديللا ميراندولا الحلولية في رؤيته للإنسان والكون، فالطبيعة بالنسبة له هي كلٌ متصل تسري فيه الحياة (كما هو الحال عند جيوردانو برونو)، وأجزاء الكون هي أجزاء من الكل الكوني وحسب ليس لها وجود مستقل، والإنسان جزء لا يتجزأ من الكون تسري فيه القوة الكونية.

                          هذه الرؤية الحلولية تترجم نفسها دائماً إما إلى تمركُّز حول الموضوع (تأليه الطبيعة) أو تمركُّز حول الذات (تأليه الإنسان). وهي تأخذ الشكل الثاني في حالة بيكو ديللا ميراندولا. فالإنسان، لأنه جزء من الكون تسري فيه القوى الكونية، قادر على اختراق كل طبقات السماء من خلال قواه ليصل إلى المصدر الإلهي لكل الحياة. وهو، لهذا، يستطيع إعادة صياغة العالم وإعادة صياغة ذاته، فالإنسان يمكنه أن يصبح ما يريد وأن يشغل المكان الذي يريد في الكون حسب مقدرته ومن خلال معرفته الغنوصية (كان ديللا ميراندولا يؤمن تماماً بالمقدرات السحرية للنصوص القبَّالية والغنوصية).

                          وينسـب ديلـلا ميراندولا إلى الإله هـذه الكلمـات في خطـابه لآدم: «إرادتك حرة لا تحدها حدود. أنت الذي ستُقرر لطبيعتك حدودها. أنت صاحب المقدرة على أن تهبط إلى أدنى أشكال الحياة، وأنت أيضاً صاحب المقدرة على أن ُتولَد من جديد في أسمى الأشكال العليا ـ الإلهية». أي أن الإنسان من خلال مقدرته يمكنه أن يصبح إلهاً. وهو المنطق الهيجلي الحلولي نفسه الذي يزيل أي حاجز بين المقدَّس والزمني أو الدنيوي.

                          وقد لاحظ كاسيرر أن إنسان ديللا ميراندولا ليس سليل آدم (أعطاه الإله المعرفة) وإنما هو سليل بروميثيوس الذي سرق النار (والمعـرفة) من الآلهـة، أي أنه سـوبرمان وليـس إنساناً. ولكن، في الواقع، يمكن القول بأن ما يظهر هو ثنائية السوبرمان (ما فوق الإنسان) والسبمان (ما دون الإنسان). فالذين يصلون إلى المصدر الإلهي ومصاف الآلهة ويتألهون ليس كل البشر وإنما نخبة من أصحاب العرفان، أما بقية البشر فيعيشون في الطبقات الدنيا وعليهم الإذعان والامتثال لأصحاب الغنوص. ويغيب في ثنايا كل هذا الإنسان الإنسان، الثنائي المركب.

                          باولوس ريسيوس ( ؟ - 1541)
                          Paulus Ricius


                          مترجم من دعاة الحركة الإنسانية. وُلد في ألمانيا وعُمِّد في إيطاليا عام 1505. عُيِّن أستاذاً للفلسفة والطب، وطبيباً خاصاً للإمبراطور ماكسيمليان وأستاذاً للعبرية في جامعة بافيا. ونشر ريسيوس عدة كتب من بينها ترجمات لنصوص إسلامية ويهودية، وكذلك بعض الأعمال الأدبية ذات التوجه الصوفي.

                          يُعَدُّ ريسيوس من مؤسسي القبَّالاه المسيحية. وقد استخدم النصوص القبَّالية اليهودية دليلاً على أن البشارات بالمسيح تُوجَد في تلافيفها وأن مفهوم التثليث المسيحي هو الآخر يوجد كامناً داخل رموزها.

                          يوحانيـس ريوشـلين (1455-1522)
                          Johannes Reuchlin


                          مفكر ألماني وأحد رواد الفكر الإنساني الهيوماني والفكر الاستناري والدراسات العبرية، وأحد واضعي أُسس القبَّالاه المسيحية.

                          درس ريوشلين العبرية واللغويات العبرية ونشر دراسة في الموضوع، كما نشـر نصاً عبرياً/لاتينياً لبعـض المزامير وكتب تعليقاً عليه. وعُيِّن أستاذاً للدراسات اليونانية والعبرية في جامعات هولندا وألمانيا.

                          ورغم أن ريوشلين لم يكن مهتماً بمصير اليهود كبشر إلا أنه كان مهتماً بشكل كبير بالكتابات اليهودية. وقد دخل فيما يُسمَّى «معركة الكتب» وهو الصراع الذي دار بين بعض دعاة حرق التلمود والكتب العبرية، والتي تزعَّمها يهودي متنصر في كولونيا وسانده الرهبان الدومينكان. ورغم أن ريوشلين كان مهتماً أساساً بالقبَّالاه، إلا أنه رفض الدعوة إلى حرق التلمود « لأننا لا نعرف ما جاء فيه » ولأنه يجب ألا يُحرَق سـوى الكتب المعادية للمسـيحية بشـكل واضح مثل توليدوت يشو.

                          وقد بدأ اهتمام ريوشلين بالقبَّالاه تحت تأثير بيكو ديللا ميراندولا (الذي قابله في إيطاليا عام 1490) ومن خلال طبيب فريدريك الثالث اليهودي. وقد أحس ريوشلين بالتشابه بين العناصر الأفلوطينية في الكتابات القبَّالية وكتابات الفيلسوف الألماني نيكولاس من كوزا (أي أنه أحس بوجود منظومة حلولية كمونية في كل من القبَّالاه وفي كتابات الفيلسوف الألماني).

                          وإعجاب ريوشلين بالقبَّالاه، الذي لازمه طيلة حياته، هو سبب أساسي وراء حماسه للدراسات العبرية. فالقبَّالاه في نظره منهج لقراءة نصوص العهد القديم (لا يعرفه سوى اليهود) الهدف منه هو معرفة سر اسم الإله الأعظم، وهي معرفة إن توصَّل لها الإنسان وصل إلى معرفة تشير إلى ما وراء العهد القديم، أي إلى العهد الجديد، أي أنها قراءة تفكيكية تركيبية. وقد توقَّع ريوشلين، شأنه في هذا شأن بيكو ديللا ميراندولا، أن يجد مسيحية سرية في حالة جنينية داخل الكتابات القبَّالية. ومثل هذا الفهم للقبَّالاه يعطي شرعية للتوراة ويُبيِّن صدقها، ولكن هذا الصدق محدود إذ أنها تحوي داخلها ما يشير إلى غيرها. ومن هنا احترام ريوشلين للقبَّالاه، ومن هنا أيضاً رفضه التلمود باعتباره العقبة الكؤود أمام تنصير اليهود.

                          نشر ريوشلين في بازل عام 1494 كتاباً باللاتينية عنوانه الكلمة صانعة المعجزات وهو أول كتاب باللاتينية يُكرَّس لموضوع القبَّالاه. وهو حوار خيالي بين المؤلف وفيلسوف أبيقوري ويهودي. يؤمن ثلاثتهم بأن كل الأديان، رغم اختلاف رموزها، تكشف عن الحقيقة الأزلية الواحدة نفسها. ولكن ريوشلين يبيِّن لهم أن المسيحية هي التعبير الأدق عن هذه الحقيقة. ومن خلال خطاب ثيو صوفي يربط ريوشلين بين مفهوم التجسد المسيحي وفكرة أسماء الإله المقدَّسة. فيبيِّن أنه يمكن تقسيم التاريخ الإنساني إلى مراحل. أولاها مرحلة الآباء حيث كشف الإله للإنسان عن نفسه تحت اسم «شدَّاي» ثم كشف لهم عن نفسه في مرحلة موسى تحت اسم التتراجراماتون (اسم يهوه). وأما في فترة الخلاص (الفترة المسيحية) فهو ليس يهوه YHWH وإنما يهشوه YHSHWH وهو الاسم العبري ليسوع المسيح (وإضافة الشين للاسم لإبراز دلالته هي إحدى الطرق القبَّالية لتفسير النصوص للوصول لمعناها الخفي أو لتوراة الفيض مقابل توراة الخلق). وحينما يصبح «يهوه» هو «يهشوه» فإن الشيم هامفوراش أو اسم الخالق الذي يُحرِّم التفوّه به يصبح مباحاً للبشر النطق به. ويُلاحَظ أن هذا التقسيم الثلاثي لتاريخ العالم يقابل تقسيماً يهودياً حيث يُقسِّم تاريخ العالم إلى: فوضى ـ توراة ـ عودة الماشيَّح. ويقابل هذا أحد التقسيمات المسيحية الثلاثية التي ترى أن تاريخ العالم مقسَّم إلى: حكم الأب ـ حكم الابن ـ حكم الروح القدس (وهو تقسيم ترك أثره في جدل هيجل الثلاثي الإيقاع).

                          وقد ذهب ريوشلين إلى أن العبارة العبرية «بريشيت برا إلوهيم» تشير في واقع الأمر إلى «الابن والروح والأب» باعتبار أن أول حرف في كلمة «بريشيت» هو الباء التي تعادل كلمة «بن» أي الابن، والحرف الثاني في «برا» هو الراء، والتي تعادل كلمة «روح»، أما الحرف الأول في كلمة «إلوهيم» فهو الألف والتي تعادل كلم «الأب» (وهذه قراءة تتبع نظام النوطريكون، أي التفسير بالحروف الأولى). ويُركِّز الكتاب أساساً على أسماء الإله وتضميناتها السحرية وكيف أنها مجرد إعداد للمسيحيين، فكأن ريوشلين هنا هو الساحر (ماجوس magus) المسيحي يفك اسم الإله الأعظم. وبالفعل، ينتهي الكتاب بتحوُّل الأبيقوري واليهودي إلى المسيحية، ويُطلَب من اليهود ترك التلمود.

                          وقد تَعمَّق ريوشلين بعد ذلك في القبَّالاه ثم كتب كتاباً جديداً في الموضوع وهو في علم القبَّالاه (1517) وأهداه للبابا ليو العاشر. ومرة أخرى، تبنَّى المؤلف أسلوب الحوار الخيالي ولكنه هذه المرة بين يهودي ومسلم وممثل للفلسفة الفيثاغورثية. ويتوحد ريوشلين هنا مع اليهودي القبَّالي ويُبيِّن علاقة القبَّالاه بفكر نيكولاس من كوزا، كما يُبيِّن العلاقة بين الاتجاهات الثيوصوفية في القبَّالاه وكتابات أبى العافية وجيكاتيلا ويشير إلى أسماء الإله وتحولاتها وكيفية استخدامها في السحر. وقد أصبح هذا الكتاب من كلاسيكيات القبَّالاه المسيحية.

                          ورغم اهتمام ريوشلين باليهودية إلا أن اهتمامه باليهود هامشي، بل إنه اهتمام ينم عن العداء الشديد، فهو يهتم بهم بمقدار إمكان تنصيرهم. وقد طالب بعتق اليهود فهم ليسوا عبيداً وإنما «مواطنون مثلنا» ويجب أن يصبحوا مواطنين في الإمبراطورية والمدن الألمانية. ولكن كل هذا محدود برؤيته الكلية، فاليهود شعب بائس، بؤسه عقاب له على خطيئته الجماعية (ضد المسيح)، وهم مواطنون مشاركون لنا في مملكة الدنيا ولكنهم أعداء في مملكة الرب. وهذا الخطاب يتأرجح بين الخطاب الديني التقليدي والخطاب الحديث. ولكن حداثة خطاب ريوشلين تظهر حينما يتحدث عن «ضرورة « إصلاح اليهود » (شأنه في هذا شأن دعاة الاستنارة). وقد جعل حصولهم على الحقوق مرتبطاً بمدى إصلاحهم لأنفسهم. ولخص ريوشلين موقفه في العبارة اللاتينية «ريفورماندي سيو إكسبلندي reformondi seu expellendi» ومعناها: إما أن تصلحوا أنفسكم أو تُطردوا. والإصلاح يعني ابتعادهم عن الأعمال الهامشية مثل العمل بالربا الذي يجب أن يقلعوا عنه.

                          إلياهــو دا نــولا (1530-1602)
                          Elijah Da Nola


                          هو إلياهو بن مناحم دانولا، حاخام وعالم طبيعة إيطالي يهودي، وكان أحد كبار الحاخامات في إيطاليا في أواخر القرن السادس عشر. ساعد في ترجمة العهد القديم إلى الإيطالية وعُيِّن معلماً للعبرية في الفاتيكان، وفي هذه الفترة، تنصر وعُيِّن مراقباً في مكتبة الفاتيكان حيث قام بنسخ المخطوطات العبرية.

                          نشر دانولا كتاباً عن دلالة الرقم سبعة في العهد القديم وآخر عن رحلته من اليهودية إلى المسيحية حيث بيَّن أنه لم يعتنق المسيحية لتحقيق أي ربح مادي وإنما بسبب إيمانه بأن المسيحية هي الدين الأسمى. كما استخدم دانولا كُتب القبَّالاه اليهودية ومنهج الجماتريا ليبيِّن أن هذه الكتب نفسها تحتوي على نبوءات تبشر بالمسيح.
                          اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                          http://www.rasoulallah.net/

                          http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                          http://almhalhal.maktoobblog.com/



                          تعليق


                          • #28
                            الشــــعائــــــــــــــر
                            Ceremonial Law; Religious Ceremonies

                            «الشعائر» في الخطاب الإسلامي هي ما دعا إليه الشرع الديني وأمر بالقيام به من صلوات وغيرها، مفردها «شعيرة»، و«شعائر الحج» هي مناسكه، ومواضع المناسك هي «المشاعر» ومفردها «مَشْعَر». وفي الخطاب الديني المسيحي يُشار إلى الشعائر بكلمة «الطقوس» ومفردها «طقس»، وهو نظام الخدمة والصلوات والاحتفالات الدينية. ويتم التمييز، في الفكر الديني عامة، بين «الشعائر» و«العقائد». وهي، في نهاية الأمر، تعبير عن ثنائية الجسد والروح (أو المادة وما وراء المادة) الكامنة في أي نسق ديني. ففي الإسلام، ثمة فارق بين الإيمان الداخلي وإشهار الإسلام الخارجي (دون أن يدخل الإيمان القلب). ولكن، مع هذا، نجد أن الثنائية داخل إطار الديانات التوحيدية ثنائية فضفاضة لا تؤدي إلى استقطاب حاد، ولذا تظل إقامة الشعائر والمناسك أمراً أساسياً إذ أنها وسيلة كبح الذات الإنسانية والتقرب بها إلى الله، فهي تنفيذ لتعاليمه والدليل الخارجي على الإيمان الداخلي. ويُلاحَظ أن هذا التمييز بين العقائد والشعائر يأخذ شكلاً متطرفاً في الدين المسيحي على وجه الخصوص، إذ تؤكد العقيدة المسيحية الجانب الروحي على حساب الجانب المادي، وهذا ما يجعلها تميل أحياناً إلى شكل من أشكال الثنائية الصلبة التي تؤدي إلى الاستقطاب.

                            وللشعائر تاريخ طويل في اليهودية، فهي تعود إلى أيام عبادة يسرائيل والعبادة القربانية. وقد استمر تراكم الشعائر، وإن كان بعضها قد تساقط بعد هدم الهيكل واختفاء العبادة القربانية وشعائرها المرتبطة بالزراعة والأرض، مثل: السنة السبتية، والخلط المحظور بين النباتات، وبعض الصلوات كصلاة الاستسقاء، والتضحية بكبشين في يوم الغفران، وتقديم أولى ثمار المحاصيل، وافتداء الابن الأكبر.

                            والشعائر اليهودية كثيرة وصارمة. ومن أهمها الصلاة التي لا يمكن أن تُقام إلا بوجود النصاب (منيان)، وعلى المصلين ارتداء شال الصلاة (طاليت)، وتمائم الصلاة (مزوزاه وجمعها مزوزوت)، وطاقية الصلاة (يرملك). وتصاحب الأعياد والأيام الخاصة (مثل يوم السبت) شعائر كثيرة، ربما كان أهمها وأكثرها تعقيداً شعائر عيد الفصح.

                            وعلى اليهودي أن يقيم شعائر كثيرة من المهد إلى اللحد، فبعد الولادة يجري ختان المولود وإطلاق اسم عليه، وعند بلوغه سن الثانية عشرة (سن التكليف الديني)، تُقام شعائر (أو بالأحرى احتفالات) البرمتسفاه. وعليه، طوال حياته، أن يتبع قوانين الطعام، وخصوصاً الذبح الشرعي. وعند وفاة أحد أفراد أسرته، عليه قراءة القاديش وإقامة مراسم الدفن. وإلى جانب هذا، هناك عشرات الشعائر الأخرى، مثل: شعائر الطهارة والنجاسة، والحمام الطقوسي، وتمائم الباب (مزوزوت) واللحية والسوالف. ويعد الكثير من الأوامر والنواهي (متسفوت) تنفيذاً لهذه الشعائر. والنساء غير مكلفات بالقيام بالشعائر المرتبطة بزمن محدد مثل إقامة الصلاة. ويُلاحَظ أن طريقة أداء بعض الشعائر عند الإشكناز تختلف عنها بين السفارد. كما أن شعائر الجماعات اليهودية الصغيرة المتفرقة، مثل يهود كوشين ويهود كايفنج ويهود الفلاشاه، تختلف جوهرياً عن شعائر اليهودية الحاخامية. واليهودية الحاخامية لا تعرف التفرقة بين الشعائر والعقائد، فهي لم تحاول توحيد اليهود عن طريق توحيد العقائد والرؤية والقيم الأخلاقية وتأكيد شموليتها وفاعليتها، وإنما حاولت أن تفعل ذلك عن طريق توحيد الشعائر وطريقة أدائها.

                            والشعائر تعزل اليهود وتوحِّدهم. وقد يُقال إن اليهودية تشبه، في هذا، الإسلام أو أي دين. ولكن ثمة فارقاً عميقاً، فاليهودية لم تحدد عقائدها الأساسية، الأمر الذي جعل الشعائر حركات خارجية لا تدل على شيء خارج نفسها (أي أنها دال دون مدلول). كما أن اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكمي، تحوي داخلها طبقات عقائدية غير متجانسـة بل متعارضـة. وفي غـياب سلطة دينية مركزية، اكتسبت الشعائر مضامين عقائدية مختلفة حتى صارت الشعيرة نفسها تحمل مدلولات مختلفة، ولكنها مع هذا ظلت تُؤدَّى بالطريقة نفسها. وأصبحت طريقة الأداء أهم من المضمون الديني أو العقيدي، بل أصبح بإمكان اليهود الملاحدة أن يؤدوا الشعائر دون الإيمان بالإله.

                            وقد تساءل كثير من الفلاسفة اليهود عن هذه الشعائر، وهل تتفق مع العقل أم أنها جزء من التقاليد الدينية أو من الأوامر الإلهية التي على المؤمن قبولها. وقد انقسموا في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام، فمنهم من نادى بأنها عقلية، ومنهم من قال إنها لا علاقة لها بالعقل، ومنهم من أخذ موقفاً وسطاً. والتلمود هو الكتاب الذي يضم هذه الشعائر ويفصل بين أحكامها بعناية وتفصيل. وقد قام يوسف كارو بتلخيص هذه الأحكام وتصنيفها في كتاب واحد هو الشولحان عاروخ الذي صار كتاباً معتمداً لدى اليهود.

                            وقد حاول بعض دارسي العقائد اليهودية تفسير ظاهرة تزايد الشعائر وصرامتها. ونحن نذهب إلى أن تزايد درجة الحلولية في الأديان يؤدي إلى موقفين من الشعائر متناقضين تماماً، ولكنهما، في الوقت نفسه، متماثلان تماماً ويؤديان إلى النتيجة نفسها (وهذا هو الحال دائماً مع الثنائية الصلبة، إذ يتقابل النقيضان). أما الموقف الأول، فهو تزايد هذه الشعائر بشكل متطرف، وهو أمر مفهوم باعتبار أن تزايد درجة الحلولية يتبعه تزايد معدلات القداسة التي يظن الإنسان أنه يتمتع بها. ومن ثم تصبح كل أفعاله، وضمن ذلك أدنى الأفعال الإنسانية وأحطها وأكثرها دناءة، مقدَّسة. ولذا، يجب أن تتبع هذه الأفعال نظاماً مقدَّساً محدداً، أي الشعائر. والشعائر هنا، في النسق الحلولي، تحل محل الأخلاق في النسق التوحيدي. إذ أن هدف الوجود في النسق الحلولي ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما التقرب من الإله والالتصاق به ثم التوحد معه عن طريق إقامة شعائر معينة، تنتهي في نهاية الأمر إلى التوصل إلى التحكم في الإرادة الإلهية (ومن ثم نجد أن هذه الشعائر ترتبط دائماً بالسحر). لكل هذا، تختفي النزعة الأخلاقية الروحانية تماماً وتكتسب الشعائر، خصوصاً شعائر الطهارة، أهمية بالغة. كما أن وظيفة الشعائر هنا تصبح عزل الإنسان (المقدَّس) عن محيطه الديني، التاريخي أوالنسبي أو الإنساني. ورغم أن الحاخامات لم يعبِّروا عن هذا الرأي بهذا الشكل المباشر، فإن كثيراً من أقوالهم الخاصة بأن الشعائر منزلة من عند الإله، حتى يقترب اليهود منه ويصبحـوا جزءاً منه ويعزلوا عن الأغيـار، تحمل هـذا المضـمون أو على الأقـل تتضمنه. وقد وصل هذا التيار إلى قمته في القبَّالاه اللوريانية التي جعلت حركات اليهودي وسكناته أموراً ذات دلالة شعائرية عميقة، وجعلت صلاته وسيلةً لإنجاز الزواج المقدَّس بين الابن (التجلي السادس) والابنة (التجلي العاشر) والذي يأتي بالخلاص لليهود ولكل البشر، بل للإله نفسه. وقد عَدَّل القبَّاليون بعض الشعائر، وأضافوا من الأدعية والبركات ما يؤكد ذلك المعنى.

                            ولكن النسق الحلولي لا يمكنه أن يفسر هذه الظاهرة بمفرده، فثمة عناصر في الواقع التاريخي ساعدته على التحقق. ويمكننا أن نقول أيضاً إن تحوُّل اليهود إلى جماعات وظيفية كان عنصراً حاسماً في هذه القضية، فالجماعة الوظيفية ترى أنها موضع القداسة، وتعاني من مركب الشعب المختار، كما أنها لابد أن تحافظ على عزلتها عن طريق العديد من الشعائر. وقد دعمت السلطة الحاكمة سيطرة القيادة الدينية على الجماعات اليهودية، حتى يتسنى لها أن تضرب سياجاً من حولها يضمن لها أداء وظيفتها. وإقامة الشعائر كانت وسيلة أساسية لإنجاز هذا الهدف. ومن هنا، كانت الحكومات غير اليهودية حريصة على أن يحافظ أعضاء الجماعات اليهودية على أداء الشعائر اليهودية وعلى أن يؤدوها بانتظام.

                            لكن ثمة جانباً آخر لتزايد النزعة الحلولية، وهو أنها تنتهي بانفجار مشيحاني يتبدى في شكل خرق سائر الشرائع وعدم إقامة الشعائر وإسقاطها. فحينما تزداد قداسة الإنسان، يزداد حلول الإله فيه ويصل الحلول إلى نقطة وحدة الوجود، وعند هذه النقطة يفقد الإله نفسه ويبدأ في الشحوب، إلى أن يحل تماماً في الإنسان وبذا يصير الإنسان هو نفسه إلهاً. ولكن الإله لا يحل في الإنسان وحسب وإنما في الطبيعة أيضاً. ومن ثم، فإن الإله والإنسان يُردّان إلى الطبيعة حتى نصل إلى درجة الواحدية المادية الكونية حيث تُختَزل كل المستويات (الإنسانية والإلهية) إلى مستوى كوني أو طبيعي واحد (ويصبح الإنسان إنساناً طبيعياً). ولذا، فإن الحلولية تؤدي إلى العلمانية والمادية وتأليه الإنسان وتطبيعه، أي دمجه في الطبيعة في الوقت نفسه، وهو اختفاء الجانب الروحي والأخلاقي. ومن ثم، تصبح إقامة الشعائر أمراً سخيفاً لا قيمة له. وهذا يتضح أيضاً في التراث القبَّالي وفي التفسيرات القبَّالية في الحديث عن توراة الفيض (مقابل توراة الخلق) وهي توراة لا يقرؤها إلا العارفون بأسرار القبَّالاه. وتتميز هذه التوراة بأنها لا تتضمن أية شعائر أو أوامر أو نواه (فالأوامر والنواهي تفترض الحدود، بينما العارفون بتوراة الفيض مقدَّسون لا حدود لهم ويتحكمون في الإرادة الإلهية نفسها). وقد تبدَّى هذا في الحركات الشبتانية حيث كان زعماء هذه الحركات يقومون بإبطال الشريعة والدعوة إلى خرق الشعائر. ولقد ذهب بعضهم إلى تحويل الوصايا العشر إلى نقائضها أو إلى إعادة تفسيرها. فوصية مثل «لا تسرق» تحولت إلى «لا تسرق إلا بحذر» أو «فلتسرق». والشيء نفسه يُقال عن الوصية الخاصة بالزنى. وقد وصل هذا إلى قمته في حركات مثل الدونمه والحركة الفرانكية.

                            ومرة أخرى، لم يكن النسق الحلولي يقدر بمفرده على أن يصل باليهود إلى هذه المرحلة الترخيصية دون وجود عناصر تاريخية وحضارية ساعدت على تَحقُّقه. ومن أهم هذه العناصر، انتشار يهود المارانو الذين لم يكونوا يعرفون الشعائر اليهودية، إذ كانت ديانتهم مجموعة من العقائد الخفية المنفصلة عن الشعائر التي لم يكن بوسعهم القيام بها. كما أن ضعف دور الجماعات اليهودية، كجماعة وظيفية، ولَّد لديهم رغبة في الانفـلات من العـزلة الجيتوية والشـعائرية التي فرضتها عليهم وظيفتهم. وأخيراً، كان عدد الشعائر قد تزايد بشكل رهيب مع بدايات القرن السابع عشر حتى صرح أحد اليهود، في منتصف القرن الثامن عشر، بأنه أصبح من الصعب على الإنسان أن يكون إنساناً ويهودياً في الوقت نفسه.

                            كما أن تزايد الشعائر سبَّب الكثير من المشاكل لأعضاء الجماعات اليهودية، فقد كان أعضاء الأغلبيات يتهمونهم بأنهم يعزلون أنفسهم عمداً عن بقية الشعب. بل يبدو أن تهمة الدم تعود إلى أن كثيراً من الناس لم يفهموا شعائر عيد الفصح البالغة التعقيد. ولعل أحد أسباب ظاهرة الجيتو هو حاجة اليهود، الواحد منهم إلى الآخر، حتى يتسنى لهم إقامة الشعائر الدينية.

                            وقد ظهر داخل اليهودية، منذ بداية تاريخها، نقد للتطرف الشعائري، فقد هاجم الأنبياء (المدافعون عن الفكر التوحيدي) الشعائر والقرابين وتكريس الذات لها بدلاً من الإيمان الحقيقي الداخلي. فالإله لا يُسرُّ بالذبائح وإنما بالعيش حسب قواعد الأخلاق. ويمكن القول بأن سبب الأزمات المختلفة التي واجهتها اليهودية كان يتمثل في تزايد الشعائر وصرامتها وجفافها على حساب العقائد. وقد انتصرت المسيحية على اليهودية في القرن الأول الميلادي لأن العبادة القربانية كانت قد تحولت إلى شعائر خارجية خالية من المعنى، وطرحت المسيحية بدلاً من ذلك فكرة الإيمان الذي يُفصح عن نفسه عن طريق قربان الشفتين والقلب (أي الإيمان والصلاة) وجعلته سبيل الخلاص.

                            ومع بدايات القرن السابع عشر، كانت اليهودية الحاخامية (كما أسلفنا) قد بدأت تواجه الأزمة نفسها مرة أخرى، إذ تزايدت الشعائر وتوارت العقائد وتراجع الإيمان. وقد شنت الحركات المشيحانية الهجوم على اليهودية الحاخامية، فكانت تخرق الشعائر وتبطلها تماماً. وقد ذهب مندلسون إلى أن اليهودية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه، فهي مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية السلوكية والشعائر المُرسَلة التي تهدف إلى وضع أسس لسلوك اليهود لا إلى تقنين تفكيرهم وعقيدتهم. أما العقائد اليهودية، من وجهة نظره، فهي أمور عقلية عامة وبديهية يستطيع العقل أن يصل إليها دون حاجة إلى دين مرسل. ومن هنا، فإن الشعائر تُجسد في نظره الخصوصية اليهودية (القومية)، أما العقائد فلا يوجد فيها ما يجعل اليهودية مختلفة عن غيرها من الديانات.

                            وقد تقبل اليهود الإصلاحيون هذه الأطروحة، ولكنهم خَلصوا منها إلى ضرورة الحفاظ على العقائد العقلية العامة وضرورة التخلص من الشعائر ومن الخصوصية ومن النزعة القومية التي تعزل اليهود وتمنعهم من الاندماج، وقد كان هذا الخط العام لحركة التنوير اليهودية. وذهب دعاة اليهودية المحافظة إلى ضرورة الحفاظ على الشعائر باعتبارها جزءاً من التقاليد اليهودية الشعبية، وعلى أساس أنه قد يكون من الضروري تغييرها وإعادة تفسيرها لتتفق مع روح العصر. ولكن عملية التغيير هذه يجب أن تتم بحذر شديد ومن خلال شكل من أشكال الاجتهاد أو الإجماع الشعبي.

                            وفي أواخر القرن الثامن عشر، وعبر القرن التاسع عشر، كانت الحكومات المطلقة في أوربا تحاول تشجيع أعضاء الجماعات بشتى الطرق للتخلي عن إقامة الشعائر، خصوصاً ما يعمق منها الهوية اليهودية ويعزل اليهود عن بيئتهم الحضارية، مثل إطلاق اللحية والسوالف. كما كانت تمنع أحياناً تعيين اليهود الذين يطلقون لحاهم، وتمنع تدريس التلمود في المدارس اليهودية.

                            وقد استجاب كثير من اليهود لهذه الدعاوى التنويرية، ولكن العقائد اليهودية ظلت غير واضحة أو مستقرة، ولم يتم تعريفها. ولذا، فإن اليهودي حينما يتخلى عن إقامة الشعائر لا يبقى له شيء من اليهودية. وهناك من السوابق التاريخية ما يبين أن التخلي عن الشعائر يؤدي إلى اختفاء اليهودية كما حدث مع يهود كايفنج مثلاً. ولعل هذا هو أيضاً ما حدث ليهود آشور بعد التهجير الآشوري. وهذا يفسر ارتفاع نسبة التنصُّر بين اليهود في العصر الحديث، أو تَحوُّل الأغلبية الساحقة منهم إلى يهود ملحدين أو لا أدريين أو مجرد يهود إثنيين. وفي هذه الحالة، يتحول ما تبقَّى من شعائر إلى مجرد رموز إثنية أو عرْقية قومية يتمسك بها كثير من اليهود الملحدين أو الإثنيين، لا إيماناً بعقيدة دينية أو قيمة أخلاقية وإنما تعبيراً عن الهوية. وبالتالي، تُفرَّغ الشعائر من مضمونها بل تكتسب مضموناً مناقضاً لمعناها الديني الأصلي. والواقع أن إقامة الشعائر هي، من المنظور الديني (التوحيدي)، محاولة لكبح الذات والتقرب من الإله. أما من المنظور الإثني (الحلولي)، فهي تأكيد للذات والتفاف حولها وتعبير عن توثنها. والصهيونية، في جوهرها، امتداد لهذا الموقف، فهي محاولة للاستمرار في الشعائر الدينية باعتبارها تعبيراً عن الروح القومية اليهودية، وهي لذلك شكل من أشكال توثن الذات.

                            ويُلاحَظ أن أهمية الشعائر تتحدد حسب شعائر مجتمع الأغلبية. ففي الولايات المتحدة، تآكلت شعائر السبت والطعام الشرعي تماماً (حيث لا يقيمها سوى قلة قليلة من يهود الولايات المتحدة لأنها تتناقض مع إيقاع المجتمع). ورغم أن عيد التدشين غير مهم من منظور اليهودية الحاخامية بالمرة، فقد اكتسب أهمية غير عادية بسبب وقوعه في التاريخ نفسه الذي يقع فيه الكريسماس (عيد الميلاد). بينما تراجعت أهمية عيد المظال مثلاً، برغم أنه من أعياد الحج الثلاثة، لأنه لا يتزامن مع أي عيد أمريكي ولا يقع بالقرب منه.

                            ويواجه بعض أعضاء الجماعات اليهودية صعوبة بالغة في تنفيذ الشعائر. ولعل قوانين الطعام أكثر الشعائر اصطداماً بالواقع العلماني الغربي، إذ يجد اليهودي صعوبة في الحفاظ عليها، فرغم تميُّز أعضاء الجماعات اجتماعياً، فإنهم لا يجدون جزاراً يقدم لهم لحوماً تتبع قواعد الذبح الشرعي. كما أن بعض الدول، مثل الدول الإسكندنافية، تحرم الذبح الشرعي باعتبار أنه يشكل قسوة ضد الحيوانات. وتشكل إقامة مظلة السوكاه (في عيد المظال) مشكلة بالنسبة إلى اليهود الذين يعيشون في البلاد الباردة، ويتم التغلب على هذا إما عن طريق إقامتها في المعبد اليهودي أو في الشرفة (وهي امتداد للمنزل) ويمكن تدفئتها.

                            وقد بُعثت في إسرائيل بعض الشعائر المرتبطة بالأرض، مثل لاج بعومير (يوم الحصاد) ورأس السنة للأشجار، كما يحاول بعض المتدينين تطبيق شعائر السنة السبتية وإن كانوا يجدون صعوبة بالغة في ذلك. وتحاول المؤسسة الدينية، من خلال أجهزة الحكومة، تذليل الصعوبات أمام من يود أن يؤدي الشعائر. وقد تأسس في إسرائيل معهد خاص يحاول التوصل إلى طرق يمكن بها تأدية الشعائر في المجتمع الحديث، فيمكن مثلاً برمجة أضواء كهربائية في ليلة السبت حتى تعمل آلياً في اليوم التالي. كما أن كثيراً من المصالح الحكومية تأخذ الشعائر في الاعتبار فلا تؤسس فنادق إلا وبها مطبخان حتى يمكن تنفيذ الشعائر الخاصة بالطعام. ومع هذا، لا يمكن القول بأن الإسرائيليين حريصون على أداء الشعائر، فهم يلتهمون كميات كبيرة من لحم الخنزير بشراهة غير عادية، وأصبح يوم السبت يوم عطلة نهاية الأسبوع يخرجون فيه ويمارسون سائر الأنشطة التي يمارسها الإنسان الغربي في المجتمعات العلمانية، كما يذهبون إلى دور العرض السينمائي. وإهمال الشعائر هو تعبير عن حلولية الإسرائيليين الوثنية. فالإله يحل في المستوطنين (الذين يحلون في أرض فلسطين). وهم بذلك يصبحون «قوة التشريع» ولذا تُعطَّل الشرائع. وكما تقول إحدى شخصيات رواية يائيل ديان طوبى للخائفين: "لا تقم الشعائر يا بني، فديننا هو أرضنا وتوراتنا هي الدولة، وعلمنا هو شعارنا وهو تميمتنا عوضاً عن المزوزاه". وهذا يخل باتفاق الوضع القائم (وهو ذلك الوضع الذي كان قائماً في فلسطين قبل عام 1948 بشأن تنفيذ الشعائر فيها حيث كانت الشعائر تُنفَّذ في بعض القطاعات وتُستبَعد في قطاعات أخرى، فمثلاً كان تُباح مشاهدة مباريات كرة القدم يوم السبت ولكن كان يُمنع عرض أفلام سينمائية). وحتى عهد قريب، كانت المدن الإسرائيلية مُقسَّمة حسب مدى التزامها بتنفيذ الشرائع، فكانت تل أبيب غير مكترثة بها، بينما كانت أعلى درجات الالتزام بالشعائر في القدس. وفي الآونة الأخيرة، بدأ الزحف العلماني نحو القدس. وقد تقدَّم أحد زعماء الجماعة اليهودية الأرثوذكسية المعادية للصهيونية بمذكرة إلى ياسر عرفات، يشكو فيها من إقامة محلات لبيع المواد الإباحية في القدس.

                            ويُصدَم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، من المتدينين وغير المتدينين، حينما يقومون بزيارة إسرائيل (فلسطين المحتلة) بسبب هذه الظاهرة. أما المتدينون، فيرون في هذا تراجعاً عن المثل الدينية، وأما غير المتدينين فيرون فيه تآكلاً للهوية. وقد صُدم يهود الفلاشاه أيضاً بهذه الظاهرة، وأشاروا إلى مفارقة أن المؤسسة الحاخامية لا تعترف بيهوديتهم رغم حرصهم على إقامة الشعائر بدرجة تفوق حرص الإسرائيليين.
                            اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                            http://www.rasoulallah.net/

                            http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                            http://almhalhal.maktoobblog.com/



                            تعليق


                            • #29
                              الأوامر والنواهي (متسفوت )
                              Mitzvot

                              «الأوامر والنواهي» هي المقابل العربي لكلمة «متسفوت» العبرية التي تعني أيضاً «الوصايا» أو «الفرائض». و«متسفوت» صيغة جمع مفردها «متسفاه». وللكلمة (داخل النسق الديني اليهودي) معنيان: معنى عام، وهو القيام بأي فعل خيِّر تمتزج فيه الأفعال الإنسانية بالقيم الدينية، فإذا ساعد يهودي أخاه منطلقاً من حبه له فهذه «متسفاه» (وتأتي عادةً في هذه الصيغة). أما المعنى الخاص للكلمة (ويأتي عادةً في صيغة «متسفوت») فهو الوصايا أو الأوامر والنواهي (متسفوت) التي تُكوِّن في مجموعها التوراة. وتشمل المتسفوت ستمائة وثلاثة عشر عنصراً، منها مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وثلاثمائة وخمسة وستون نهياً، وهي موجهة إلى اليهود وحسب (إذ أن أبناء نوح لهم وصايا خاصة بهم).

                              وقد صُنِّفت المتسفـوت إلى أوامر ونواهٍ توراتيــة وأخرى حاخامية. كما قُسِّمت إلى أوامر ونواه أقل أهمية وأخرى أكثر أهمية، وإلى أوامر ونواه عقلانية (أي تُفهَم بالعقل) وأخرى مُوحىً بها (أي يطيعها اليهودي دون تفكير). ومن التصنيفات الأخرى، أوامر ونواه تُنفَّذ بالأعضاء وأخرى بالقلب، وتلك التي لا تُنفَّذ إلا في فلسطين (إرتس يسرائيل)، وتلك التي تنفذ داخلها وخارجها. واليهودي البالغ ثلاثة عشر عاماً ويوماً يُكلف بتنفيذها، وكذلك اليهودية البالغة اثني عشر عاماً ويوماً. ومن هنا تسمية الصبي اليهودي الذي يبلغ سن التكليف الديني «برمتسفاه»، أما الفتاة فهي «بت متسفاه». والنساء غير مكلفات بتنفيذ الأوامر المرتبطة بزمن محدَّد أو فصل محدَّد، مثل إقامة الصلاة، وإن كن مكلفات بإقامة شعائر السبت برغم ارتباطها بزمن محدَّد، وكلٌ من الذكور والإناث مكلفون بالنواهي.

                              والأوامر تختص بالإله (1 ـ 9)، وبالتوراة (10 ـ 19)، والهيكل والكهنة (20 ـ 38)، والقرابين (39 ـ 91)، والإيمان (92 ـ 95)، والطهارة (96 ـ 113)، والهبات للهيكل (114 ـ 133)، والسنة السبتية (134 ـ 142)، وذبح الحيوانات (143 ـ 153)، والأعياد (154 ـ 170)، والجماعة (171 - 182)، والشرك (185 ـ 189)، والحرب (190 ـ 193)، والعلاقات الاجتماعية (194 ـ 208)، والأسرة (209 ـ 223)، والشئون الاقتصادية (224 ـ 231)، والعبيد (232 ـ 235)، والأذى (236 ـ 248).

                              أما النواهي، فتختص بالشرك (1 ـ 59)، والهرطقة (60 ـ 66)، والهيكل (76 ـ 88)، والقرابين (89 ـ 157)، والكهنة (158 ـ 171)، وقوانين الطعام (172 ـ 201)، ونذيرو الإله (202 ـ 209)، والزرعة (210 ـ 229)، والإقراض بالربا والتجـارة ومعاملـة العبيـد (230 ـ 272)، والعدل (273 ـ 329)، وجماع المحارم والعلاقات المحرمة الأخرى (330 ـ 361)، والملكية (362 ـ 365).

                              ومن أهم الأوامر، تلك الأوامر المتصلة بالختان وزراعة الأرض (السنة السبتية) والطعام والأسرة وغيرها. والواقع أن عدم الالتزام بالأوامر والنواهي يعني عدم الانتماء إلى الشعب اليهودي. ومن الملاحَظ أن كثرة الأوامر والنواهي والشعائر المرتبطة بها (في اليهودية) قد أدَّت إلى تكبيل اليهود وإلى زيادة سلطة الحاخامات، الأمر الذي جعل عملية تحديث اليهودية أمراً عسيراً.

                              ولا شك في أن تزايد الأوامر والنواهي وتقنينها تعبير عن عنصرين مترابطين أولهما الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. فالحلولية تتبدَّى دائماً في كثرة الشعائر وتطرفها، فهي شكل من أشكال تأكيد قداسة من يتمتع بالحلول الإلهي مقابل من يقع خارج دائرة القداسة، أما ثانيهما فهو تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وهي جماعات عادةً ما تفرض على نفسها عدداً هائلاً من الأوامر والنواهي حتى تحتفظ بهويتها المحايدة الضرورية للاضطلاع بوظيفتها.

                              وقد حاول الفلاسفة اليهود تفسير الأوامر والنواهي، ففسَّرها موسى بن ميمون بأنها تنازل من جانب الإله للعقل البدائي. وقد أصبحت المتسفوت، بالنسبة إلى القبَّاليين، مثل الأسرار الدينية أو التعويذات السحرية. وهي تشبه، في هذا، السر المقدَّس عند المسيحيين. ولما كان اليهود يشغلون، حسب الرؤية القبَّالية، مركزاً أساسياً في عملية الخلاص الكونية، فإن قيامهم بتنفيذ الأوامر والنواهي مسألة ذات أهمية كونية إذ يستطيع اليهود، من خلال قيامهم بها، أن يسرعوا بزواج الابن/الملك من الابنة/الملكة، أو الإله من الشخيناه، حتى يتوحدا معاً (بالمعنى الجنسي). ولذا، فإن على اليهودي قبل أن يقوم بتنفيذ إحدى الوصايا، أن يقول: «من أجل توحيد الواحد القدوس والشخيناه (أنثاه)».

                              وهناك كثير من الأوامر والنواهي (مثل تلك الخاصة بالملكية أو بالهيكل أو اللاويين أو الكهنة أو القرابين) ليس لها سوى أهمية جيولوجية تراكمية، بمعنى أنها مرتبطة بمواقف تاريخية سابقة لم يَعُد لها وجود. ومن ثم، لم يَعُد من الممكن تنفيذها رغم ورودها. ولعل أهم هذه الأوامر والنواهي تلك الخاصة بمؤسسة الملكية والهيكل، واللاويين والقرابين. ومع هذا، بدأت بعض هذه الأوامر والنواهي تدب فيها الحياة في إسرائيل مرة أخرى وتكتسب أهمية خاصة. فمع محاولات بعض المتطرفين الدينيين في إسرائيل أن يُعيدوا بناء الهيكل، بدأت إعادة بعث الشعائر الخاصة به، وأُسِّس معهد خاص لدراستها والتأكد من دقة تنفيذها. كما بُعثت بعض الوصايا الخاصة بالشعوب الأخرى مثل تلك التي تدعو اليهودي إلى أن يبيد الأقوام الكنعانية السبعة (187)، وإلى أن يمحو ذكرى العـماليق (188)، وإلى تَذكُّر ما فعـل أولئك بجماعة يـسرائيل (189)، وكذا الوصايا التي تَنْهَى عن الزواج من العمونيين أو المؤابيين (53)، أو عن عقد سلام معهم (54)، كما تَنْهَى عن نسيان ما فعله العماليق باليهود (59). ويعود بعث هذه الأوامر والنواهي إلى الجو العنصري المتزايد في التجمع الصهيوني الذي يعبِّر عن الحلولية الخالية من إله فهذه الأسماء مرتبطة في الوجدان الصهيوني بالعرب داخل أو خارج فلسطين، كما أن العرب يُشار إلىهم في أدبيات جوش إيمونيم بمثل هذه التسميات.

                              والأهم من كل هذا هو قضية التفسير، فكثير من هذه الوصايا والأوامر، في صيغتها المباشرة، تبدو كأنها مجرد أوامر ونواه ذات طابع أخلاقي عام يتعيَّن على اليهودي التمسك بها، ولكن التفسير يعطيها مضموناً مغايراً تماماً. وللبرهنة على ما نقول، يمكننا أن نشير إلى أحد كتب الأوامر والنواهي وهو كتاب التربية، الذي كتبه حاخام مجهول في القرن الرابع عشر، وصنف فيه الأوامر والنواهي بحسب ترتيب ورودها في العهد القديم ، وشرحها حسبما جاء في التلمود. ومن أهم أهداف هذا الكتاب تحديد المضمون الدقيق للوصايا والنواهي والمُصطلَحات المستخدمة فيها. ومن أهم هذه المُصطلَحات كلمة «أخوك»، أو كلمة «رجل» التي يفسرها بأنها تعني اليهودي وحسب. ولذا، فإن الأوامر والنواهي الخاصة بأن «تحب أخاك» وألا «تسرق أمواله» ولا «تزني بزوجته»، وكذلك ألا تخدعه أو تؤذيه أو تنتقم منه، لا تنطبق إلا على اليهود وحدهم. وتفسر الوصية الخاصة بضرورة إعتاق العبد اليهودي بأنها تعني ضرورة أن يظل العبد غير اليهودي عبداً أبد الدهر. ويُفسِّر الكتاب هذا التكليف الديني بأنه يستند إلى أن الشعب اليهودي أرقى الأنواع البشرية، وأن اليهود خُلقوا ليعرفوا إلههم ويعبدوه، ولذا فهم يستحقون أن يقوم عبيد على خدمتهم، وهم إن لم يستعبدوا الشعوب الأخرى سيضطرون لاستعباد إخوانهم في الدين. ويرى الكتاب أن هذا هو معنى الفقرة الآتية من سفر اللاويين (25/39 ـ 46): «وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد، كأجير كنزيل يكون عندك، إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته. وإلى ملك آبائه يرجع. لأنهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلط عليه بعنف. بل اخش إلهك. وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم. منهم تقتنون عبيداً وإماءً. وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم. وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك. تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو يسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف». وتُفسَّر الوصية الخاصة بأخذ فائدة على الأموال المُقرَضة للأغيار بأنها تعني ضرورة ألا يبدي اليهودي نحوهم أية رحمة (لأنهم لا يعبدون الرب). وتُفسَّر الوصية الخاصة بعدم اتباع عادات الأغيار بأنها لا تعني فقط أن يعزل اليهودي نفسه عن الأغيار وحسب، وإنما أن يتحدث عنهم بالسوء أيضاً.

                              وقد كانت مثل هذه الآراء المتطرفة حبيسة الكتب الفقهية التي كُتبت في جيتوات شرق أوربا (مثل كتاب التربية) والتي تشكِّل رغبة من جانب الضعيف في أن ينتقم من الآخرين على الورق، ولذا لم يكن يتداولها سوى بعض الحاخامات الأرثوذكس، وخصوصاً بعد أن رفضت اليهودية الإصلاحية والمحافظة هذه الأوامر والنواهي. ولكن، بعد حرب عام 1967، ومع النفوذ المتزايد للمؤسسة الأرثوذكسية الصهيونية، بدأت تظهر هذه الآراء في الصحف والمجلات الإسرائيلية، بل في الإذاعة والتليفزيون. وقد طُبع كتاب التربية طبعة شعبية مدعومة من الحكومة ويُوزَّع على طلبة المدارس. ويستخدم أعضاء جماعة جوش إيمونيم ما جاء في هذا التفسير لتسويغ الاستيطان واستغلال العمالة العربية، كما أنهم يقتبسون الأوامر والنواهي الخاصة بالعماليق والكنعانيين ويطبقونها على العرب.

                              وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية في اقتراح الحاخام اليهودي المحافظ فاكنهايم إضافة وصية جديدة (الوصية رقم 614) وهي « واجب البقاء » بمعنى أن واجب اليهود هو البقاء، وقد وصفها بأنها الوصية الأساسية التي تحل محل كل الأوامر والنواهي الأخرى. وهم في الواقع يطلقون على هذه الفكرة اسم «لاهوت ما بعد أوشفيتس»، أي اللاهوت الذي يتصدى للواقع اليهودي بعد الإبادة النازية ليهود أوربا والذي يهدد وجودهم. والبقاء (كما هو معروف) ليس خاصية أخلاقية، وإنما هو خاصية طبيعية داروينية، ولكنه تحوَّل على يد فاكنهايم إلى المتسفاه الأساسية. واليهودية التجديدية تطرح، هي الأخرى، البقاء باعتباره المتسفاه الأساسية بل الوحيدة بالنسبة إلى الشعب اليهودي.

                              الوصايـا
                              Mitzvot


                              «الوصايا» ترجمة عربية لكلمة «متسفوت»، وهي تعني «الأوامر والنواهي»، ونحن نفضل استخدام المُصطلَح الأخير في معظم الأحيان نظراً إلى أن كلمة «الوصايا» قد تشير أيضاً إلى «الوصايا العشر»، وهي مختلفة عن «الأوامر والنواهي».

                              الختــــــــان
                              Circumcision


                              «الختان» تقابلها في العبرية كلمة «ميلاَّه»، ويُقال أحياناً «بريت ميلاَّه»، أي «عهد الختان»، وأحياناً «بريت» فقط، أي «عهد». ويختن الطفل اليهودي بعد ميلاده بسبعة أيام على الأكثر، حتى ولو وقع اليوم السابع في يوم السبت، أو في عيد يوم الغفران، أكثر الأيام قداسة. وقد ذُكر الختان في العهد القديم في ثلاثة مواضع أهمها في سفر التكوين (17/10 ـ 15).

                              والختان عادة قديمة جداً، شاعت بين أمم العالم القديم، وهو ضرب من الطقوس الخاصة بالدم (عهد الدم) التي تدخل ضمن القرابين البشرية الشائعة في الشرق الأدنى القديم، أو ضمن شعائر بلوغ سن الرشد. وقد نقلها العبرانيون عن المصريين الذين كانوا يكنون ازدراءً خاصاً للشعوب التي لا تمارس الختان، وهو ما يفسر العبارة الواردة في سفر يشوع (5/9): "اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر".

                              والختان داخل الإطار التوحيدي تعبير عن تَقبُّل الحدود ورغبة الإنسان في طاعة ربه، ولكنه في اليهودية أصبح يعبِّر عن حلولية النسق الديني اليهودي، وعن تداخل المطلق والنسبي، ولذا فهو يعتبر مناسبة قومية، فهو علامة العهد بين الإله وإبراهيم وجماعة يسرائيل، وهو ما أسبغ القداسة عليهم. ولهذا، فإن من لم يُختن لا يعتبر فرداً من الشعب المقدَّس لأن الإله لا يحل فيه. والختان علامة أن الإله منح جماعة يسرائيل أرض الميعاد («وأُعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم»[تكوين 17/8]). وإذا كان الإله يمنحهم الأرض، فإن الختان على مستوى من المستويات هو القربان الذي يقدمونه له. ويتأكد الطابع القومي الحلولي للختان في الطقوس التي تصاحبه، والتي تأخذ شكل حفل يحضره عشرة أفراد، وهو نفس النصاب اللازم للقيام بصلاة الجماعة اليهودية. ويجلس الجد على كرسي وإلى جواره كرسي آخر يُترَك خالياً يُسمَّى «كرسي إلياهو»، صاحب العهد بين الإله وجماعة يسرائيل، ويقوم بعملية الختان نفسها الموهيل (كلمة عبرية تشير إلى من يقوم بهذه المهمة). وقد حل محله طبيب في العصر الحديث. بل إنه إذا مات الطفل قبل مرور سبعة أيام من ميلاده، فإن جثمانه يُختن ويُعطى اسماً عبرياً ليكتسب الهوية اليهودية.

                              وقد كان الختان في الماضي يُجرى للذكور بصورة بسيطة تتيح للشخص مجالاً للادعاء بأنه غير مختون، ليتقي عدوان غير اليهود عليه، وليتفادى تهكم نساء الأغيار عليه إن عاشرهن جنسياً. وحينما زاد اندماج اليهود في العصر الهيليني، كان بعضهم تُجرَى له عملية تمكِّنه من إخفاء آثار الختان. وبعد التمرد الحشموني، أُمر الكهنة بأن تزال الغلفة عن آخرها، حتى لا يتمكن اليهود من الاندماج مع الأغيار. وكان الحشمونيون يفرضون التهود والختان على الشعوب التي يهزمونها (مثل الإيطوريين). وقد منع أنطيوخوس الرابع (إبيفانيس) الختان في محاولته دمج يهود فلسطين في إمبراطوريته السلوقية، كما منعه الإمبراطور هادريان، ويُقال إن هذا أحد أسباب ثورة بركوخبا. ومع ظهور المسيحية، أصبح الختان العلامة الأساسية التي تميِّز اليهود عن المسيحيين.

                              وقد حاولت اليهودية الإصلاحية إسقاط هذه الشعيرة واستمر الجدل عدة سنوات. ويبدو أنه، مع انتشار عادة الختان في الغرب، لأسباب صحية، توقفت المناقشة وقبلته الفرق اليهودية كافة.

                              وعند استيطان أعداد من يهود الفلاشاه في إسرائيل، طلبت منهم الحاخامية أن يتهودوا، باعتبار أن يهوديتهم مشكوك فيها ومن ثم مرفوضة. وحينما رفضوا ذلك، وافقت الحاخامية أن تتم عملية تهويد اسمية تأخذ شكل عملية ختان مخففة (استنزاف نقطة دم واحدة من مكان الختان). وحينـما وافـق بعض أعضاء الفلاشـاه، تم ختانهم مرتين، مرة على يد الحاخامية الإشكنازية، والأخرى على يد الحاخامية السفاردية. وقد كان كثير من المهاجرين السوفييت غير مختونين، ولكن أعداداً كبيرة منهم قبلت عملية التهويد والختان حرصاً منهم على فرصة الاستقرار في إسرائيل ومن ثم الحراك اجتماعياً.

                              ولا يمارس ختان الإناث بين يهود العالم الغربي، ولكنه يمارس في المجتمعات التي تسود فيها هذه العادة، ومن ثم فإننا نجده بين يهود الفلاشاه. وتحت تأثير حركة التمركز حول الأنثى، ظهر ما يُسمَّى «بريت بنوت يسرائيل»، أي «عهد بنات إسرائيل»، رداً على البريت ميلاَّه (عهد الختان). وتصاحب بريت بنوت يسرائيل صلاة خاصة تؤكد أهمية الأمهات؛ ليليت التي قاومت ورفضت أن يطأها آدم، وحواء، وزوجة نوح، وسارة، ورفقة، وليئة، وراحيل.
                              اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                              http://www.rasoulallah.net/

                              http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                              http://almhalhal.maktoobblog.com/



                              تعليق


                              • #30
                                بلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه وبت متسفاه)
                                Bar Mitzvah and Bat Mitzvah

                                «بلوغ سن التكليف الديني» هي الترجمة العربية لعبارة «برمتسفاه» وهي عبارة آرامية معناها «الابن (بر) المسئول عن تنفيذ الأوامر والنواهي (متسفاه)»، أي التكليف الديني. ويُطلَق هذا المُصطلَح على اليهودي عند بلوغه سن النضج واكتسابه الهوية اليهودية (الثالثة عشرة ويوماً بالنسبة إلى الذكور والثانية عشرة ويوماً بالنسبة إلى الإناث «بت متسفاه»). ويُقام في هـذه المناسـبة احتفـال ديني في المعبد يعقبه احتفال عائلي في المنزل. ويصبح من حق اليهودي البالغ أن يلبس شال الصلاة (طاليت) وينضم إلى صلاة الجماعة إذ يمكن حسابه ضمن النصاب (منيان)، وأن يقرأ التوراة في المعبد، وعليه أن ينفذ الأوامر والنواهي.

                                وتنص الشريعة اليهودية على أن سن الثالثة عشرة هي السن المثلى لقيام الشخص الصغير بتحمل مسئولياته الدينية والقانونية كاملة، استناداً إلى أن إبراهيم كان في الثالثة عشرة عندما تصرَّف كشخص ناضج وأنكر على أبيه عبادة الأصنام. وهي أيضاً السن التي تعني اكتمال نضوج الصبي (أو الصبية) وبلوغه من الناحية الفسيولوجية الجنسية بحيث يصبح مؤهلاً للزواج وإنجاب الأطفال.

                                لكن عادة الاحتفال بهذه المناسبة ليس لها سند في الكتابات الدينية اليهودية الحاخامية، فلم يرد لها ذكر في التلمود، بل عارضها اليهود الأرثوذكس في شرق أوربا بشدة حينما أُدخلت لأول مرة وقتلوا أحد الحاخامات الإصلاحيين بأن دسوا له السم لقيامه بعقد أحد هذه الاحتفالات. وقد كان الاحتفال يأخذ شكلاً دينياً صرفاً، فيُنادى الشاب البالغ ليقرأ التوراة في المعبد. ولم يكن هناك أي احتفال آخر. ولم يكن يوجد أي احتفال بمناسبة «بت متسفاه» على الإطلاق، فهذا تقليد ابتدعه مردخاي كابلان (مؤسس حركة اليهودية التجديدية). ومن المنظور الديني التقليدي، كان الاحتفال بالختان مهماً جداً. ورغم كل هذا، أصبح الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (لا الختان) من أهم المناسبات بين يهود الولايات المتحدة، فهم يبالغون في الاحتفال بها، بطريقة تفرغها من أي محتوى ديني أو حتى تقليدي، الأمر الذي جعل بعض الزعماء الدينيين اليهود يدعون إلى ضرورة المطالبة بالتقليل من شأنها. وقد صار الاحتفال يتسم بالسوقية والابتذال ويعبِّر عن الاستهلاكية المتزايدة في المجتمع الأمريكي. بل إنه لم يَعُد احتفالاً ببلوغ سن الاضطلاع بالأعباء الدينية، وإنما تمت علمنته تماماً فأصبح خليطاً من الاحتفال بعيد الميلاد (بيرثداي بارتيbirthday party) والاحتفال بالهوية الإثنية.

                                ولتفسير هذه الظاهرة، يمكننا الإشارة إلى أن اليهودية تتأثر إلى حدٍّ كبير بمحيطها الثقافي، وتكتسب هويتها من خلاله. ولذا تتدعم فيها تلك الجوانب التي لها ما يقابلها في الواقع وتتآكل تلك التي ليس لها نظير. والاحتفال بالختان هو احتفال يهودي محض لا نظير له في المجتمع الأمريكي المسيحي، رغم أن هؤلاء يختنون أولادهم لأسباب صحية. وبالتالي، فإننا نجد أن الختان بين اليهود قد تراجعت أهميته وصار يقوم به طبيب دون أي احتفال ديني أو دنيوي. أما الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني، فقد تحوَّل إلى احتفال ضخم لأنه يقابل الاحتفال المسـيحي، بتثبيت العـماد بالنسبة إلى الأولاد والبنات المسيحيين. ولذا، كان من الضروري أن يظهر شيء مماثل بين أعضاء الجماعة اليهودية على هيئة «برمتسفاه» و«بت متسفاه»، وذلك رغم عدم وجود أي أساس ديني لها (ولذا، فإن هذا العيد ليس له وجود بين أعضاء الجماعة اليهودية في المجتمعات الإسلامية، على حين أن الاحتفال بالختان لا يزال عيداً مهماً وأساسياً بينهم).

                                برمتســــفاه
                                Bar Mitzvah

                                انظر: «بلوغ سن التكليف الديني(برمتسفاه وبت متسفاه)».


                                اللحية
                                Beard

                                تُعتبَر إطالة اللحية في الحضارات القديمة علامة على بلوغ مرحلة الرجولة، وأحد أشكال الهوية. ولذا، كان المصريون يقصون لحيتهم بطريقة تختلف عن قص الآشوريين لها. ويمنع العهد القديم بصريح العبارة حلق أركان اللحية (لاويين 19/27). ولذا، كان إطلاق اللحية أحد الأوامر الدينية التي يتعيَّن على اليهودي أن ينفذها. وينظر التلمود إلى اللحية بوصفها حلية الوجه، وقد نسب إليها المتصوفة من اليهود أسراراً لا يمكن سبر غورها. ويظهر اليهود في الصور المرسومة في العصور الوسطى في الغرب بدون لحى محفوفة، وهو ما يشير إلى تزايد معدلات الاندماج الحضاري بينهم. وفي عام 1408،منع المرسوم الإسباني الصادر في ذلك العام اليهود من أن يحلقوا لحاهم، ربما حتى يتميَّزوا عن بقية السكان، وهو في هذا كان يشبه المراسيم النازية التي صدرت بعد ذلك.

                                وأثناء فترة الإعتاق، كانت الحكومات تمنعهم من إطلاق لحاهم باعتبار أن هذا نوع من التحديث، إذ كانت اللحية تُعَد شكلاً من أشكال الانعـزال الحضـاري. ولا يُطلق اليهود الغربيون لحاهم في الوقت الحاضر، لكن الأرثوذكس لا يزالون يحرمون حلق اللحية، في حين يسمح الأرثوذكس الجدد بحلاقتها بالشفرة الكهربائية، أي أنهم لا يقصونها.

                                الســـوالف
                                Side-Locks

                                كلمة «السوالف» يقابلها في العبرية «بيئوت»، أي «أركان»، ومفردها «بيئاه» وهي السالف المتدلي. وقد ورد في العهد القديم: «لا تقصروا رؤوسكم مستديراً ولا تفسد عارضيك» (لاويين 19/27)، وهي توصية ضد قص الشعر حول محيط الرأس. وكان من علامات التقوى أن يترك اليهودي جزءاً من شعره غير مقصوص (متدلياً فوق صدغيه وفوق الأذن). ويترك اليهود الأرثوذكس (من الإشكناز) سوالف طويلة، أما السفارد فإن سوالفهم قصيرة.

                                وقد نسبت القبَّالاه اللوريانية صفات عجائبية إلى السوالف، فالقيـمة الرقـمية للكلمـة العـبرية «بيئاه» تعادل القيمة الرقمية لكلمة «إلوهيم»، والسالفان واللحية تساهمان في ربط الإنسان بالإله من خلال التجليات النورانية العشرة (سفيروت). ولذا، يترك الحسيديون سوالفهم دون أن يقصوها. ونجد الوضع نفسه بين يهود اليمن الذي تأثروا بالقبَّالاه اللوريانية.

                                وبعد إعتاق اليهود، قص كثير من اليهود سوالفهم مثلما تخلوا عن اليديشية واللحية والقفطان حتى يتم اندماجهم مع المواطنين كافة. وقد حَرَّمت الحكومة الروسية على اليهود ترك السوالف، عدا الحاخامات. وقد اختفت السوالف تقريباً بين اليهود إلا بين غلاة الأرثوذكس.

                                الطعام والقوانين الخاصـة به في اليهوديـة
                                Dietary Laws

                                تُسمَّى القوانين الخاصة بالطعام في العبرية «كاشروت» وهي صيغة الجمع من كلمة «كاشير» أو «كوشير» ومعناها «مناسب» أو «ملائم». وتُستخدَم هذه الكلمة لتشير إلى مجموعة القوانين الخاصة بالأطعمة وطريقة إعدادها وطريقة الذبح الشرعي عند اليهود، وهي قوانين مصـدرها التوراة. ويُسـمَّى الطعـام الذي يتبـع قوانين الكاشروت «كوشير»، ومعناها الطعام «المباح أكله» في الشريعة اليهودية. وهذه القوانين تحرم على اليهودي أكل أنواع معينة من الطعام، وتُبيح له أكل أنواع أخرى. والواقع أن المحرمات تتعلق أساساً بلحوم الحيوانات، لكن هناك بعض التحريمات الأخرى، مثل: ثمرة الشجرة التي لم يمض على غرسها سوى أربعة أعوام، أو أي نبات غُرس مع نبات آخر (باعتبار أن خلط النباتات مثل الزواج المختلط محرم). ويُطبَّق هذا الحظر على أرض يسرائيل (أي فلسطين) وحسب. ويُحظَر كذلك شرب أي خمر أعدها أو لمسها شخص من الأغيار. بل يُحرَّم أيضاً أكل خبز أو طعام أعده شخص من الأغيار حتى لو أُعدَّ حسب قوانين الطعام اليهودي. وهناك تحريم أكل الخبز المُخمَّر في عيد الفصح. أما بالنسبة إلى لحوم الحيوانات، فالأمر كالتالي:

                                أ ) يحل لليهودي أن يأكل الحيوانات والطيور النظيفة، وهي الحيوانات ذوات الأربع، والتي لها ظلف مشقوق وليس لها أنياب، وتأكل العشب وتجتر (تثنية 14/4 - 25، ولاويين 11/3)، والطيور هي الطيور الأليفة التي يمكن تربيتها في المنازل والحقول وبعض الطيور البرية آكلة العشب والحب. وما عدا ذلك من الحيوانات والطيور فهي غير نظيفة. ولذلك يُحرَّم أكل الخيل والبغال والحمير لأنها ليست ذات أظلاف مشقوقة، وكذلك الجمل لأنه ذو خف وليس ذا أظلاف، ويُحرَّم الخنزير لأنه ذو ناب مع أن أظلافه مشقوقة. أما الأرانب وأشباهها، فهي من القوارض آكلة العشـب، ولكنها ذات أظـفار لا أظلاف مشـقوقة. أما الطيور غير النظيفة، فهي كل طير له منقار معقوف أو مخلب، وهي أوابد الطير التي تأكل الجيف والرمم، مثل الصقر والنسر والبومة والحدأة والببغاء.

                                ب) يُحرَّم على اليهودي أن يأكل لحم الحيوانات، إن لم يكن قد ذبحها ذابح شرعي (شوحيط)، وبالطريقة الشرعية بعد تلاوة صلاة الذبح (الذبح الشرعي).

                                جـ) يُحرَّم أيضاً أكل أجزاء معينة من الحيوانات، مثل عرْق النسا، حيث يجب أن يزال من الحيوانات، أو لا يؤكل. كذلك يُحرَّم أكل أجزاء الحيوان الذي لا يزال حياً واللحم الذي لم يُسحَب منه الدم من خلال التمليح (بالعبرية: مليحاه). (غسل اللحم لمدة ثلاثين دقيقة ـ تصفية ما تبقى من الدم ـ تغطية اللحم بالملح لمدة ساعة - غسل اللحم مما تبقَّى من دم وملح). وعادةً ما يقوم الجزار بهذه المهمة.

                                د ) يحل أكل السمك الذي له زعانف وعليه قشور، أما أي شيء آخر، مثل الجمبري والكابوريا وأنواع الأخطبوط والإستاكوزا، فهو محرَّم. وكذا المحارات.

                                هـ) يحل لليهودي أكل أربعة أنواع من الجراد، ولكن يُحرَّم عليه أكل الحشرات والزواحف.

                                و) يُحرَّم الجمع بين اللحم واللبن. ولذا، يُحرَّم طبخ اللحوم في السمن والزبد بل يجب أن تُطبَخ في زيوت نباتية، كما يحرم تناول اللحم والجبن أو الزبد أو نحوهما في وجبة واحدة (ويجب أن يفصل بين تناول أيٍّ منها والآخر ست ساعات). بل من المُحرَّم أن يوضع اللحم في إناء كان قد وُضع فيه لبن أو جبن من قبل، أو أن تُستعمَل سكين واحدة في تقطيع اللحوم والجبن أو ما إليهما. ولذلك، تُضطر المطاعم التي تقدم الأكل المباح شرعاً (كاشير أو كوشير) إلى أن يكون لديها مجموعتان من الأوعية، واحدة لطبخ اللحوم وأخرى للألبان، على أن يحفظا في مكانين منفصلين.

                                ولا يُحرَّم على اليهودي أكل أية خضراوات أو فاكهة. ومع هذا، لا يجوز له أن يأكل من المحاصيل الأربعة الأولى لشجرة. وهناك كذلك التحريم الخاص بالخميرة في عيد الفصح.

                                كما يُحرَّم على اليهودي تناول خمر أعدها وثني أو حتى لمسها. ويُقال إن الحكمة من هذا التحريم هي أنه قد يكون قد كرَّسها لآلهته. غير أن الحاخامات وسعوا نطاق التحريم بحيث أصبح يشمل ما أعده الوثني أو أي إنسان غير يهودي. كما لم تَعُد المسألة إعداد الخمر وإنما مجرد فتح الزجاجة. وينطبق هذا القانون أساساً على المسيحيين، وبدرجة أخف على المسلمين. فإذا فتح مسيحي زجاجة وجب سكبها، ولكن إذا لمسها مسلم فإنه يحرم شربها ولكن يحل بيعها. كما حرَّم بعض الحاخامات تناول الطعام الذي أعده الأغيار حتى لو كان هذا الطعام شرعياً، كما حرَّموا تناول الطعام في منزل الأغيار أو حتى معهم.

                                وقد بُذلت على مر العصور محاولات شتَّى لتفسير هذه التحريمات تفسيراً عقلانياً أو منطقياً كما فعل فيلون وموسى بن ميمون. وقد فسَّر علم اليهودية تحريم هذا العدد الكبير من الحيوانات والطيور على أسس أنثروبولوجية، فقد كانت هذه الحيوانات والطيور طوطمية للقبائل العبرانية الاثنتى عشرة، وحينما تم توحيد القبائل تم تحريم سائر الحيوانات والطيور الطوطمية (ومن هنا، فإن عدد هذه الحيوانات والطيور المحرمة 48 تقبل القسمة على 12 وهو عدد القبائل العبرانية). أما تحريم طبخ اللحم في اللبن فهو عادة كنعانية. وقد فسر البعض الغرض الديني منها تفسيراً حلولياً بأنها تضفي عنصراً من القداسة على الحياة اليومية للشعب المقدَّس، وتساعدهم في الحفاظ على تفرُّدهم وانعزالهم. وإن كان هناك من يذهب إلى أنها رمز تحريم الجماع بالمحارم. وقد ساهمت هذه القوانين المركبة إلى حدٍّ كبير في عزل اليهود فعلاً. فالطعام اليومي يضبط إيقاع حياة الإنسان ويتحكم في علاقاته الاجتماعية بالآخرين، لأن الإنسان الذي يتناول طعاماً مختلفاً عن طعام الآخرين يجد نفسه شاء أم أبى منفصلاً عنهم لا يمكنه أن يشاركهم حياتهم اليومية. وحتى أولئك اليهود الذين تركوا صفوف اليهودية، أو حاولوا التمرد على انعزاليتها، كان من العسير عليهم ترك الطعام اليهودي، ذلك لأنه ليس من اليسير على المرء أن يغيِّر الطعام الذي ألفه وتعوَّد عليه.
                                ونظراً لتغلغل قوانين الطعام في حياة اليهود اليومية وتعقُّدها، فإن اليهودي العادي كان يواجه مشاكل دينية تضطره إلى اللجوء إلى الحاخام طلباً للفتوى، الأمر الذي يزيد من سلطان الحاخام. كما أن ضرورة ذبح الطيور والحيوانات على يد الذابح الشرعي، تجعل من المستحيل على اليهودي أن يعيش خارج الجماعة اليهودية.

                                وقد هاجم اليهود الإصلاحيون قوانين الطعام لأنها تعطل تطور اليهود واندماجهم. وذهبوا إلى أن هذه القوانين ذات طابع شعائري ولا تستند إلى أي أساس ديني أو أخلاقي، وأنهم لذلك لا يلتزمون بها. أما اليهودية المحافظة والأرثوذكسية، فتريان أن التمسك بقوانين الطعام يؤدي الغرض الأساسي من وضعه، وهو القداسة، ثم الانفصال والتميز عن باقي الشعوب. ويواجه يهود المجتمعات الغربية مشكلة الحصول على طعام مباح شرعاً، إذ إنهم لا يعيشون داخل الجيتو ولا توجد محلات أطعمة مباحة شرعاً (كوشير أو كاشير) لسد حاجاتهم.

                                وفي إسرائيل، تحاول دار الحاخامية الرئيسية جاهدة أن تُطبِّق قوانين الطعام على الحياة العامة، فلا تقدم شركة الطيران الإسرائيلية إلا أكلاً مباحاً، كما أن الفنادق لابد أن تخضع لضغط الحاخامية حتى تُصدر رخصة المطعم. ولهذا، فإن بعض المطاعم يضطر إلى منع التدخـين والرقـص يوم السـبت، وذلك حـتى تضمن الحصول على الرخصة. وقد صدر في إسرائيل عام 1962 قانون يمنع تربية الخنازير على أرض الدولة. وفي 25 يوليه عام 1983، صدر قانون منع الغش في الطعام المباح شرعاً.

                                والأغلبية العظمى من يهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، (ما تزيد على 80% منهم) والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من يهود العالم لا يطبقون أياً من قوانين الطعام بل يأكل الكثيرون منهم لحم الخنزير، ولا يتجاوز من يطبقون كل قوانين الطعام نسبة 4%. والأمر ليس مختلفاً كثيراً في إسرائيل إذ يوجد نحو 30 ألف شخص يعملون في قطاع تربية الخنزير وبيعه. ويبدو أن أكثر من نصف السكان اليهود الإسرائيليين يأكلون لحم الخنزير، ومن بينهم كثير من أعضاء النخبة (وزراء وجنرالات بل أعضاء كنيست) ممن وافقوا على مشروع القرار الخاص بمنع تسويق لحم الخنزير. وهناك عدة مؤسسات في إسرائيل تقوم بتربية الخنزير وذبحه وبيع لحمه (أهمها كيبوتس مزرا). ومع هذا، ونظراً للإيحاءات السلبية التي ارتبطت بلحم الخنزير في الوجدان الديني اليهودي، فإنهم يشيرون إلى لحم الخنزير في المطاعم وفي غيرها من الأماكن بأنه «اللحم الأبيض» (ولكنهم بدأوا في تل أبيب يُسقطون حتى هذه الصيغة الشكلية التمويهية). ولأن قانون عام 1962 يمنع تربية الخنزير على أرض الدولة، فقد قام أحد الكيبوتسات ببناء حظيرة لتربية الخنازير عند مستوى أعلى من مستوى الأرض (المقدَّسة). وتمارس الأحزاب الدينية في الوقت الحاضر ضغطاً شديداً على الحكومة الإسرائيلية لإصدار قرار منع تسويق لحم الخنزير. أما اللادينيون، فإنهم يخشون أن يؤدي هذا إلى أن يباع لحم الخنزير في السوق السوداء، الأمر الذي يضر بالسياحة والاقتصاد، ويدفع الإسرائيليين للذهاب إلى المناطق العربية المسيحية لشراء لحم الخنزير، تماماً كما يذهبون إلى الأحياء العربية أثناء عيد الفصح لشراء الخبز العادي.

                                وتندلع المناقشات من آونة إلى أخرى حول الطعام المباح شرعاً، وخصوصاً أن بعض أعضاء المؤسسة الدينية يستخدمون صلاحياتهم في إصدار شهادات الإباحة لتحقيق منفعة شخصية (كما هو الحال في معظم المجتمعات الإنسانية). ففي عام 1987، أعلنت الحاخامية أن نوعاً معيَّناً من التونة ليس مباحاً، رغم أن اتحاد الأبرشيات اليهودية الأرثوذكسية في أمريكا أصدر تصريحاً به. وقد فُهم من ذلك أن الحاخامية في إسرائيل تود أن توسع نطاق نفوذها، وأن تهيمن على عملية إصدار التصاريح هيمنة كاملة. كما أن الصراع بين السفارد والإشكناز ينعكس على تصاريح الإباحة، فنجد أن الحاخامية الإشكنازية ترفض التصاريح التي تصدرها الحاخامية السفاردية، والعكس بالعكس.

                                الطعام الشرعي (كوشير)
                                Kosher

                                «كوشير» (أو «كاشير») كلمة عبرية تعني حرفياً «مناسب» أو «صالح»، وفي الفقه اليهودي تعني «الطعام المباح شرعاً».

                                كوشـير
                                Kosher

                                «كوشير» كلمة عبرية تعني «الطعام المباح شرعاً».

                                الذبــح الشــرعي
                                Ritual Slaughter

                                «الذبح الشرعي» هو الترجمة العربية للكلمة العبرية «شحيطاه»، وهو مُصطلَح يُستخدَم للإشارة إلى ذبح الحيوانات شرعياً حيث يجب أن يتم الذبح بسكين ذي مواصفات محددة وأن يتم الذبح بطريقة معينة بعد فحص الحيوان أو الطير فحصاً دقيقاً للتأكد من أنه طاهر. ونظراً لأن عملية الفحص والذبح تتبعان خطوات وإجراءات مركبة، فيجب أن يقوم بهما شخص مؤهل لذلك يُطلَق عليه الذابح الشرعي (شوحيط).

                                وقد قام المعادون لليهود بالهجوم على أعضاء الجماعة اليهودية بسبب الذبح الشرعي، وذلك باعتبار أنه يمثل قسوة تجاه الحيوانات. وقد كان الذبح الشرعي محرَّماً حتى عهد قريب في بعض الدول الغربية مثل السويد والنرويج. ومن ناحية أخرى، فإن الذابح الشرعي كان شخصية أساسية في الجيتو، ولكنه أخذ في الاختفاء بعد إعتاق اليهود وبداية اندماجهم في المجتمعات العلمانية. ولذا، فإن الحصول على لحم مذبوح على الطريقة الشرعية، أصبح يمثل مشكلةً لكثير من اليهود المتدينين في العالم الغربي.

                                تميمة الباب (مزوزاه)
                                Mezuzah

                                «مزوزاه» كلمـة عبرية (جمعـها «مزوزت») يُقال إنها من أصـل آشوري، وهي تدل على عضادة الباب أو الإطار الخشبي الذي يُثبَّت فيه الباب، وهي رقية أو تميمة تُعلَّق على أبواب البيوت التي يسكن فيها اليهود، لها شكل صندوق صغير بداخله قطعة من جلد حيوان نظيف شعائرياً بحسب تعاليم الدين اليهودي، ومنقوش عليها الفقرتان الأوليان من الشماع، أو شهادة التوحيد اليهودية (تثنية 9/4 ـ 9، 11/13 ـ 21)، ومكتوب على ظهرها كلمة «شدَّاي». وتُلَف قطعة الجلد هذه جيداً، وتوضع بطريقة معينة بحيث تظهر كلمة «شدَّاي»، من ثقب صغير بالصندوق. وكلمة «شدَّاي» هي الأحرف الأولى من الجملة العبرية «شومير دلاتوت يسرائيل»، ومعناها «حارس أبواب يسرائيل»، وهي أيضاً أحد أسماء الإله في العقيدة اليهودية. ويصنع السامريون تميمة الباب من أحجار كبيرة، ويضعونها إما على الأبواب، أو بمحاذاة مدخل المنزل، ويحفرون عليها الوصايا العشر، ولا يجعل القراءون تميمة الباب فرضاً.

                                وتُثبَّت تميمـة البـاب على الأبواب الخارجية، وعـلى أبـواب الحجرات، في وضع مائل مرتفع قليلاً من ناحية اليمين عند الدخول، وتُستثنى أبواب الحمامات والمراحيض والمخازن والإسطبلات. وقد قال موسى بن ميمون إن المزوزاه تُذكِّر الإنسان عند دخوله وخروجه بوحدانية الإله. ولكن قيل أيضاً إن التميمة تُذكِّر اليهود بالخروج من مصر حينما وضعوا علامات على منازلهم حتى يهتدي إليها الرب. ومع هيمنة الحلولية على النسق الديني اليهودي، أصبحت المزوزاه تعبيراً عن حب الإله ليسرائيل. أما الحاخام إليعازر بن جيكوب، فقد بيَّن أن من يضع تميمة الصلاة (تفيلِّين) على رأسه وعلى ذراعه، وأهداب شال الصلاة (تسيت تسيت) على ردائه، وتميمة الباب على عتبة داره، قد حصَّن نفسه وبيته ضد الخطيئة. ثم أصبحت تميمة الباب بمنزلة حجاب ضد الشياطين، ولها قوة سحرية، فكان يُضاف إليها أسماء الملائكة ورموز قبَّالية مثل نجمة داود. وقد جرت العادة بين اليهود المتدينين أن يُقبِّلوا تميمة الباب عند الدخول والخروج، ولكن بالإمكان الاكتفاء بلمسها ثم لثم أصابع اليد بعد ذلك إذا كان تقبيلها سيسبب إزعاجاً للشخص طويل القامة أو قصيرها. وعند أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، تُثبَّت تميمة الباب على أبواب المنازل بعد ثلاثين يوماً من الإقامة فيها. أما يهود إسرائيل، فإنهم يثبتون تميمة الباب فوراً، من أول يوم، لأن اليهودي إذا غيَّر رأيه وترك المنزل فسيشغله يهودي آخر، وبذلك لا تكون هناك ضرورة لتطهير البيت بدون جدوى. وقد اتُبعت عادة وضع تميمة على الأبواب في إسرائيل، فشملت المباني الحكومية أيضاً. وبعد حرب 1967، عُلِّقت تميمة الباب على أبواب مدينة القدس القديمة، باعتبار أن هذا هو الإجراء النهائي لكي تصبح المدينة يهودية تماماً! كما توجد تميمة على باب السفارة الإسرائيلية في القاهرة. وفي رواية ليائيل ديان تقول إحدى الشخصيات «أرض إسرائيل هي بديل تميمة الباب بالنسبة لها».
                                اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                                http://www.rasoulallah.net/

                                http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                                http://almhalhal.maktoobblog.com/



                                تعليق

                                يعمل...
                                X