إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    خالد بن الوليد

    لا ينام ولا يترك أحدا ينام

    ان أمره لعجيب..!!
    هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!
    ألا فلنأت على قصته من البداية..
    ولكن أية بداية..؟؟
    انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
    ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ما سبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..
    فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..
    لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:
    " والله لقد استقام المنسم....
    وان الرجل لرسول..
    فحتى متى..؟؟
    أذهب والله، فأسلم"..
    ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
    ".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،
    قلنا: وبك..
    قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
    فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
    فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
    وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
    فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..
    قلت: يا رسول الله على ذلك..
    فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
    وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...
    أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟
    ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..
    وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
    أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
    مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!
    أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟
    لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..
    لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
    وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:
    " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
    ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..
    ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
    كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
    هذه البقيّة هي:
    " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".
    فمن كان هذا البطل..؟
    لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
    وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..
    ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:
    " خذ اللواء يا أبا سليمان"...
    ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..
    أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!
    هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:
    " لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
    وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".
    ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟
    قالوا: نعم..
    واعتلى العبقري جواده ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل سيقطعه البطل وثبا..
    في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
    ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..
    ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..
    وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
    بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..
    ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!
    هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
    وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..
    وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
    وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..
    ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
    وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مرارتها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..
    ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..
    وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..
    مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات أجسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!
    كيف تمّت المعجزة..؟
    أي تفسير لهذا الذي حدث؟
    لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:
    (وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!
    ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
    أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!
    ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..
    ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.
    وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!
    وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..
    عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
    ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
    لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!
    ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
    ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..
    ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
    واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!
    عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
    ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
    ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..
    وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:
    " الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
    اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
    لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
    وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
    وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
    ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
    " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..
    ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..
    فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.
    وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..
    وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..
    ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..
    والتقى الجيشان:
    وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..
    ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!
    وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
    وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..
    ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
    رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:
    " امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
    وامتازوا جميعا..
    مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
    وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..
    وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..
    وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!
    لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..
    وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..
    وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..
    وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..
    وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
    امبرطوريتان كبيرتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!
    هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
    ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
    لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
    " بسم الله الرحمن الرحيم
    من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..
    يلام على من اتبع الهدى
    أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم
    من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا
    اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
    والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!
    وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
    مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
    أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..
    وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:
    " لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
    وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
    وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.
    ترى هل سمع الروم في الشام..؟
    وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟
    أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!
    كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..
    فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..
    وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
    بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
    " والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
    وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.
    وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
    " والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
    وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..
    وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
    " ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
    أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...
    هذا يوم من أيام الله..
    ما أروعها من بداية..!!
    لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
    وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!
    ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشأ أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..
    اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..
    كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..
    لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
    ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!
    ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
    " خالد لها".!!
    وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".
    فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!
    عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
    ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!
    كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
    كا انسحاب تنبأ به فعلوه..
    وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
    وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..
    وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...
    من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
    وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
    " من يولّي هاربا فاقتلنه"..
    وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
    وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
    وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
    وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"
    " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..
    فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!
    وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
    وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:
    " انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!
    ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
    " الله أكبر"
    " هبّي رياح الجنة"..
    كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
    ودار قتال ليس لضراوته نظير..
    وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
    وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
    ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
    فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
    " اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
    فيجيب أبو عبيدة:
    " نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
    ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
    وهذا عكرمة بن أبي جهل..
    أجل ابن أبي جهل..
    ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
    " لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
    ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..
    فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،
    فيستشهدون..!!
    وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره. فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره..
    وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!
    أجل..
    لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
    ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:
    " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.
    واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".
    مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
    ولكن أي عجب؟؟
    أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟
    وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
    وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟
    وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
    وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
    أليس ذلك، كذلك..؟
    اذن، هبي رياح النصر...
    هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...
    لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.
    وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:
    " يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
    هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟
    قال خالد: لا..
    قال الرجل:
    فبم سميّت سيف الله"؟
    قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..
    فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".
    قال القائد الرومي: والام تدعون..؟
    قال خالد:
    الى توحيد الله، والى الاسلام.
    قال:
    هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟
    قال خالد: نعم وأفضل..
    قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
    قال خالد:
    لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..
    أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
    وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:
    علمني الاسلام يا خالد"".!!!
    وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!
    وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
    قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..
    ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.
    استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
    ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..
    وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
    وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
    وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..
    ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...
    فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
    ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
    وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
    ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
    أبو بكر وعمر..
    اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..
    وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..
    ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..
    لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..
    ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:
    " ان في سيف خالد رهقا"
    أي خفة وحدّة وتسرّع..
    فأجابه الصدّيق قائلا:
    " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
    لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..
    وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..
    فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..
    ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..
    وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:
    " يا رسول الله..
    استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
    وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..
    والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..
    وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
    فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:
    " اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
    غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:
    " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".
    ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
    وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
    ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..
    كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..
    ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
    لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
    فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
    " يا عزّى كفرانك، لا سبحانك
    اني رأيت الله قد أهانك"..!!
    ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!
    كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..
    ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..
    والا.." كفرانك لا سبحانك..
    اني رأيت الله قد أهانك"..!!
    على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لو خلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:
    " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
    لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.
    نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..
    أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟
    أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
    " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟
    أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..
    ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..
    وأنه ليقول:
    " ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..
    من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...
    هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...
    أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
    كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
    هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:
    " لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..
    ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!
    كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..
    أتجرون الى من أوصى..؟
    الى عمر بن الخطاب ذاته..!!
    أتدرون ما تركته..؟
    فرسه وسلاحه..!!
    ثم ماذا؟؟
    لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!
    ذلك أنه لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
    وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
    شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..
    سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:
    " ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".
    وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
    أنت خير من ألف ألف من القوم
    اذا ما كبت وجوه الرجال
    أشجاع..؟ فأنت أشجع من ليث
    غضنفر يذود عن أشبال
    أجواد..؟ فأنت أجود من سيل
    غامر يسيل بين الجبال

    وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:
    " صدقت..
    والله ان كان لكذلك".
    وثوى البطل في مرقده..
    ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..
    لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..
    واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...
    وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!
    ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!
    لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..
    ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟
    وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟
    ايه يا بطل كل نصر..
    ويا فجر كل ليلة..
    لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:
    " عند الصباح يحمد القوم السرى"..
    حتى ذهبت عنك مثلا..
    وهاأنذا، قد أتممت مسراك..
    فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!
    ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!
    ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
    " رحم الله أبا سليمان
    ما عند الله خير مما كان فيه
    ولقد عاش حميدا
    ومات سعيدا

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #32
      قيس بن سعد بن عبادة

      أدهى العرب لولا الاسلام

      كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم.. وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..
      ذلك أنه كان أجرد، ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة كان ضخما قوى البنية ، وما نقصه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.
      فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه، وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية، وزعامته المتفوقة..؟؟
      انه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجى، سيد الأنصار
      من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. انه الداهية الذي يتفجر حيلة، ومهارة، وذكاء، والذي قال عن نفسه وهو صادق:" لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!! ذلك أنه حادّ الذكاء، واسع الحيلة، متوقّد الذهن.
      ولد قيس بن سعد بن عبادة رضى الله عنهما بالمدينة فى حوالى العام الثامن عشر قبل الهجرة وعاش حياة الأثرياء الأجواد، فقد كان أبوه الصحابى الجليل، سعد بن عبادة، سيد الخزرج .
      أسلم سعد بن عبادة وولده قيس، رضى الله عنهما، ثم أنطلق سعد إلى مكة وشهد الموسم مع حجاج قومه والتقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وبايعه بيعة الحرب ، بيعة العقبة الثانية، مع مسلمين قومه واختار الرسول من مسلمين المدينة إثنا عشر نقيبا كان سعد أحدهم، وجاء سعد بإبنه قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمه له وقال له:" هذا خادمك قيس" فوجد فيه الرسول الكريم علامات الذكاء والقوة و النباهة فقرّبه إليه وأضفى عليه عطفه، وخدم قيس بن سعد الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات تقريبا، شارك أثناءها فى بعض المهمات، فقد حمل لواء الرسول الكريم فى بعض الغزوات وجاهد فى بعض السرايا التى كان يرسلها رسول الله إلى جهات معينة، واستعمله النبى صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وانتقل الرسول إلى جوار ربه وهو راض عن قيس بن سعد رضى الله عنه .
      كان قيس بن سعد رضى الله عنه، كثير الخشية لله، ما يقوم بتصرف حتى يحسبه بميزان الإسلام، فلقد كان يقول عن نفسه: لولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" المكر والخديعة فى النار" لكنت من أمكر هذه الأمة، وكان يقول أيضا : لولا الإسلام لمكرت مكرا لا تطيقه العرب، وكان كثير الدعاء والتسبيح ..
      كان العرب يعدون قيسا من دهاة العرب، وقالوا: دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة، معاوية وعمرو وقيس والمغيرة وعبد الله بن بُدَيْل بن ورقاء الخزاعى، وقد عيّن على بن أبى طالب رضي الله عنه قيسا أميرا على مصر حازما صارما، فقد كلن يقول: لولا أن المر فجور لمكرت مكرا تضطرب منه أهل الشام بينهم.
      بعد مغادرة قيس مصر، اتجه نحو المدينة فأرادا الأسود بن أبى البخترى ومروان أن يبيتاه، وبلغ ذلك قيسا فقال: والله إن هذا لقبيح أن أفارق "على" وإن عزلنى، والله لألحقن به، فعرف "على" أن قيسا كان يدارى أمرا عظيما بالمكيدة، فأطاع "على" قيسا فى الأمر كله وجعله على مقدمة جيشه، وبعث معاوية يؤنب مروان والأسود وقال: أمددتما "على" بقيس، والله لو أمددتماه بمائة ألف مقاتل، ما كان بأغيظ على من إخراجكما قيسا إليه .
      بعد إستشهاد الخليفة على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقف قيس بن سعد مع الحسن بن على رضى الله عنهم، غير مبال بالأخطار، وقاد قيس خمسة آلاف من وقاتلوا أهل الشام قتالا عنيفا، وأبى قيس أن يدخل فى بيعة الحسن بن على لمعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ثم أخذ الأمان له ولجماعته من الخليفة الجديد معاوية، وسار بعدها إلى المدينة .
      تسلم قيس راية الأنصار من أبيه سعد بن عبادة، رضى الله عنهما، يوم فتح مكة بعد أن قال والده: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة"
      تولى إمارة مصر سنة ست وثلاثين من الهجرة من قِبَل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه، ثم عُزِلَ عنها
      كان على مقدمة جيش أمير المؤمنين على بن أبى طالب يوم صِفّين ونهروان.
      روى ابن عساكر أن قيس كان يستدين ويطعم فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا ذلك الفتى أهلك مال أبيه، فمشيا فى الناس، فقام سعد عند النبى صلى الله عليه وسلم وقال: من يَعْذِرُنى من ابن أبى قحافة وابن الخطاب، يُبَخَّلان عَلَىَّ ابنى .
      كان قيس بن سعد يطعم الناس فى أسفاره مع النبى صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نفذ ما معه يتدين، وكان ينادى فى كل يوم: هلموا إلى اللحم والثريد
      ذات مرة وقفت امرأة عجوز على قيس وقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، فقال: ما أحسن هذه الكناية، املؤوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا
      قسم سعد بن عبادة ماله بين ولده، وخرج إلى الشام فمات، وولد له ولدا بعد ذلك، فجاء عمر إلى ابنه قيس فقال: أرى أن ترد هذا، فقال: ما أنا بمغير شئ صنعه أبى ولكن نصيبى له .
      اقترض رجلا من قيس بن سعد ثلاثين ألفا، فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فيه
      فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه شارك قيس بن سعد فى حماية المدينة وبعض الأحداث ولم ينطلق إلى الجهاد ولم يشارك بصورة واسعة لموقف والده من البيعة، وأما فى خلافة عمر بن الخطاب، انطلق والده سعد إلى الجهاد بالشام ولكنه لم يلبث أن أستشهد، وسار بعدها قيس إلى الجهاد فشارك فى فتح مصر واختط له دارا فيها وعاد إلى المدينة بعد مدة، ولم يشترك فى الأحداث التى وقعت فى أواخر عهد الخليفة عثمان بن عفان، وإنما وقف على جانب خاص مع الأنصار، يحرص على الدفاع عن الخليفة ويعمل على الشد من أزره، ولما آلت الخلافة إلى على بن أبى طالب بعثه واليا على مصر

      وفي المدينة المنوّرة، عام تسع وخمسين، مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه.. توفى قيس بن سعد بن عبادة رضى الله عنهما فى أواخر خلافة معاوية بن أبى سفيان مات الرجل الذي كان يقول:

      لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" المكر والخديعة في النار، لكنت من أمكر هذه الأمة"..

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #33
        أبوالدرداء

        أيّ حكيم كان

        بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:
        " ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
        وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:
        " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
        ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الإيمان والحكمة:
        " ذكر الله...
        ولذكر الله أكبر"..
        لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
        أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..
        بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
        ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..
        واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..
        وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..
        ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..
        ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
        أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!
        والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
        ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
        انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..
        ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!
        سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
        " التفكر والاعتبار".
        أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
        (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
        وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
        " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
        لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..
        ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
        بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..
        ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
        " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
        وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
        فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
        وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
        ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..
        ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!
        أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
        انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
        يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
        لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..
        لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
        فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...
        ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..
        ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يغمز منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يغمز منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..
        وأبو الدرداء يحس احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
        التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..
        انه رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل عبادته حركة حيّة في لبناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!
        أجل..
        ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
        وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..
        ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..
        رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
        سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..
        ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..
        ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
        انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
        ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...
        ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
        " ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..
        ويقول عليه السلام:
        " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".
        من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
        " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..
        سئل:
        وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
        فأجاب:
        أن يكون لي في كل واد مال"..!!
        وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
        هنالك يقول:
        " من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..
        والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.
        ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.
        فهو يقول:
        " لا تأكل الا طيّبا..
        ولا تكسب الا طيّبا..
        ولا تدخل بيتك الا طيّبا".
        ويكتب لصاحب له فيقول:
        ".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:
        اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..
        واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،
        فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!
        كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
        عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":
        قال له:
        " يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟
        فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
        ويحك يا جبير..
        ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
        بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!
        أجل..
        وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..
        ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!
        وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..
        دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..
        فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
        فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
        " ان دارنا هناك..
        لها نجمع.. واليها نرجع..
        نظعن اليها. ونعمل لها"..!!
        وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
        خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.
        وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
        " ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..
        أين دينها منها يومئذ"..؟!
        هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..
        وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..
        وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..
        فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
        وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
        وانه ليقول:
        " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
        وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
        وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
        وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
        وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
        فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:
        " يا أهل الشام..
        أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..
        ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
        تجمعون ما لا تأكلون..
        وتبنون ما لا تسكنون..
        وترجون ما لا تبلّغون..
        وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..
        ويؤمّلون، فيطيلون..
        ويبنون، فيوثقون..
        فأصبح جمعهم بورا..
        وأماهم غرورا..
        وبيوتهم قبورا..
        أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".
        ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:
        " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!
        رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!
        العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه وبفضل ربه عليه:
        انه يقول:
        التمسوا الخير دهركم كله..
        وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
        " وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...
        كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.
        هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألُون بها على الآخرين ويدلُون..
        فلنستمع له ما يقول:
        " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين"..
        ويقول أيضا:
        "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
        ولا تحاسبوهم دون ربهم
        عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!
        انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
        عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
        هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
        يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
        " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
        قالوا بلى..
        قال: فلا تسبّوه اذن، وحمدوا الله الذي عافاكم.
        قالوا: أنبغضه..؟
        قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!
        واذا كان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
        ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:
        " لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..
        ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".
        أجل..
        فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..
        ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..
        ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
        ها هو ذا يقول:
        " مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
        ويقول أيضا:
        " الناس ثلاثة..
        عالم..
        ومتعلم..
        والثالث همج لا خير فيه".
        وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
        يقول:
        " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟
        فأقول نعم..
        فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
        وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:
        " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
        قيل له:
        وكيف تلعنك قلوبهم؟
        قال رضي الله عنه:
        " تكرهني"..!
        أرأيتم؟؟
        انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..
        وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالإخاء خيرا، وتبنى علاقة الإنسان بالإنسان على أساس من واقع الطبيعة الإنسانية ذاتها فيقول:
        " معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟
        أعط أخاك ولن له..
        ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.
        غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..
        وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟
        ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..
        يقول رضي الله عنه وأرضاه:
        " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!
        يل لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
        انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!
        ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!
        هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
        هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..
        هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:
        " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
        كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟
        ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!؟

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #34
          زيد بن الخطاب

          صقر يوم اليمامة

          جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما، وحوله جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري، أطرق الرسول لحظات، ثم وجّه الحديث لمن حوله قائلا:
          " ان فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد"..
          وظل الخوف بل لرعب من الفتنة في الدين، يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء الختام..
          ولكن جميع الذين وجّه إليهم الحديث يومئذ ختم لهم بخير، وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله وما بقي منهم حيّا سوى أبي هريرة والرّجّال بن عنفوة.
          ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة ولم يرقأ له جفن، وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعس فارتدّ الرجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب، وشهد له بالنبوّة.
          هنالك إستبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير..
          والرّجّال بن عنفوة هذا، ذهب ذات يوم إلى الرسول مبايعا ومسلما، ولما تلقّى منه الاسلام عاد إلى قومه.. ولم يرجع إلى المدينة إلا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الصدّيق أن يكون مبعوثه إليهم يثبّتهم على الاسلام، فأذن له الخليفة..
          وتوجّه الرّجّال إلى أهل اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون، فحدّثته نفسه الغتِرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية، فترك الاسلام، وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود.
          وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته.
          ذلك، لأنه استغلّ إسلامه السابق، والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول، وحفظه لآيات كثيرة من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة.
          لقد سار بين الناس يقول لهم: انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر".. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده، هو مسيلمة..!!
          ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالإسلام وبالرسول.
          وكانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا، والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها.
          وكان أكثر المسلمين تغيّظا، وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!!
          زيد بن الخطّاب..؟
          لا بد أنكم عرفتموه..
          انه شقيق عمر بن الخطّاب..
          أجل أخوه الأكبر، والأسبق..
          جاء الحياة قبل عمر، فكان أكبر منه سنا..
          وسبقه إلى الاسلام.. كما سبقه إلى الشهادة في سبيل الله..
          وكان زيد بطلا باهر البطولة.. وكان العمل الصامت الممعن في الصمت جوهر بطولته.
          وكان إيمانه بالله وبرسوله وبدينه إيمانا وثيقا، ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة.
          وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن الشهادة..!
          يوم أحد، حين حمي القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..
          وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب، وقد سقط درعه عنه، وأصبح أدنى منه للأعداء، فصاح به عمر.
          " خذ درعي يا زيد فقاتل بها"..
          فأجابه زيد:
          " إني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!!
          وظل يقاتل بغير درع في فدائية باهرة، واستبسال عظيم.
          قلنا انه رضي الله عنه، كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون الإجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد، لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا، وصوليا.
          لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة، ونفاق يغيض هزيل
          وزيد في بغضه النفاق والكذب، كأخيه عمر تماما..!
          كلاهما لا يثير اشمئزازه، ولا يستجسش بغضاءه، مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة، والأغراض الدنيئة.
          ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة، لعب الرّجّال دوره الآثم، فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة إرباءً فاحشا، وهو بهذا يقدّم بيديه إلى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة..
          أضلّها أولا، وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه، وزخرفها له هواه، ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو أكبر من خطرا، وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.
          وبدأ يوم اليمامة مكهرا شاحبا.
          وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام، ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟
          الى زيد بن الخطّاب.
          وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا..
          ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون
          ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في اخوانه:
          " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!!
          ونزل من فوق الربوة، عاضّا على أضراسه، زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس.
          وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثا عن الرّجّال حتى أبصره..
          وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت..
          وأخيرا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا، وكذبا، وخسّة..
          وبسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف..
          لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!!
          وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة..
          وغدا سيقط المحكم، وبعد غد مسيلمة..!!
          هكذا أحدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا المدار في صفوف مسيلمة..
          أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد، حاملا سيفه، وغير عابئ بجراحه..
          حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلوا، وليشهدوا النصر في روعة ختامه..
          ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحت أبواب الجنّة لاستقبالهم وأنهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!!
          رفع زيد بن الخطاب ذراعيه إلى السماء مبتهلا لربّه، شاكرا نعمته..
          ثم عاد إلى سيفه والى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة..
          ولقد أخذت المعركة تمضي لصالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع..
          هنالك وقد رأى زيد رياح النصر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام، فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا..
          وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا،وعزمه إصراراً..
          وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم..
          وسقط البطل شهيدا..
          بل قولوا: صعد شهيدا..
          صعد عظيما، ممجّدا، سعيدا..
          وعاد جيش الاسلام إلى المدينة ظافرا..
          وبينما كان عمر، يستقبل مع الخليفة أبي بكر أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد..
          وكان زيد طويل بائن الطول، ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا..
          ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد..
          وقال عمر:
          " رحم الله زيدا..
          سبقني الى الحسنيين..
          أسلم قبلي..
          واستشهد قبلي".
          وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم، فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة..
          ودائما كان يقول:
          " ما هبّت الصبا، الا وجدت منها ريح زيد".
          أجل..
          إن الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة..
          ولكن، إذا أذن أمير المؤمنين، أضفت لعبارته الجليلة هذه، كلمات تكتمل معها جوانب الإطار.
          تلك هي:
          " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة إلا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!"

          بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم..
          بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا، واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!!

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #35
            الزبير بن العوّام

            حواريّ رسول الله

            لا يجيء ذكر طلحة إلا ويذكر الزبير معه..
            ولا يجيء ذكر الزبير إلا ويذكر طلحة معه..
            فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة، آخى بين طلحة والزبير.
            وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:
            " طلحة والزبير جاراي في الجنة".
            وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.
            أما طلحة، فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.
            وأما الزبير، فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..
            وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..
            فالتماثل بينهما كبير، في النشأة، في الثراء، في السخاء، في قوة الدين، في روعة الشجاعة، وكلاهما من المسلمين المبكرين بإسلامهم...
            ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.
            وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.
            ولقد أسلم الزبير، إسلاما مبكرا، اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام، وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..
            وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..
            ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.
            ففي الأيام الأولى للاسلام، والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة، على حداثة سنه كالاعصار..!
            ذهب أولا يتبيّن الخبر، معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفر بهم أو يظفروا به..
            وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول، ودعا له بالخير، ولسيفه بالغلب.
            وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.
            وكان الذي تولى تعذيبه عمه.. كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد، أدرأ عنك العذاب".
            فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ، غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:
            " لا..
            والله لا أعود لكفر أبدا"...
            ويهاجر الزبير الى الحبشة، الهجرتين الأولى والثانية، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.
            وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها، أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!
            ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده، يحدثنا عنها فيقول:
            " صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده، فرأيته مجذّعا بالسيوف، وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.
            فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.
            فقال لي: أم والله ما منها جراحة إلا مع رسول الله وفي سبيل الله"..
            وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا إلى مكة و ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..
            وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير، جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين، وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها، وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها، وأسرعت خطاها الى مكة..!!
            ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة، صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده، ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها، وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو، ولا يحبو..!!
            وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة، عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.
            وكان يقول:
            " ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد...
            واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!
            وهكذا سمى ولده، عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.
            وسمى ولده المنذر، تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.
            وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.
            وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.
            وسمّى جعفر، تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.
            وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.
            وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..
            وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.
            ولقد قيل في تاريخه:
            " انه ما ولي إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".
            وكانت ميزته كمقاتل، تتمثل في في اعتماده التام على نفسه، وفي ثقته التامة بها.
            فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف، لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.
            وكان فضيلته كمقاتل، تتمثل في الثبات، وقوة الأعصاب..
            رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة، فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه، وضاغطا على قبضة سيفه، لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!
            وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب، فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:
            " والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة، أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..
            ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..
            وبقوة أعصاب مذهلة، أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!
            ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه، وبقايا جيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وحده، وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين، العائدين من المعركة..!!
            ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..
            وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:
            " ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..
            ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب، ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، بل كان ذلك الوفي القوي، والشجاع الأبيّ، والجوّاد السخيّ، والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:
            ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:

            أقام على عهد النبي وهديه
            حواريّه والقول بالفعل يعدل
            أقام على منهاجه وطريقه
            يوالي وليّ الحق، والحق أعدل
            هو الفارس المشهور والبطل الذي
            يصول، اذا ما كان يوم محجّل
            له من رسول الله قربى قريبة
            ومن نصرة الاسلام مجد موثّل
            فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه
            عن المصطفى، والله يعطي ويجزل

            وكان رفيع الخصال، عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!
            فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!
            وكان توكله على الله منطلق جوده، ومنطلق شجاعته وفدائيته..
            حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:
            " اذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..
            وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟
            فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..
            وفي يوم الجمل، على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..
            فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال، وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال، وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..
            وذهب القاتل الى عليّ رضي الله عنه يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير، وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه، بعد اقتراف جريمته..
            لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن، صاح آمرا بطرده قائلا:
            " بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..
            وحين أدخلوا عليه سيف الزبير، قبّله عليّ رضي الله عنه وأمعن بالبكاء وهو يقول:
            " سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!
            أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه، أجمل وأجزل من كلمات..؟؟
            سلام على الزبير في مماته بعد محياه..
            سلام، ثم سلام، على حواري رسول الله...

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #36
              خبيب بن عديّ

              بطل.. فوق الصليب..!!

              والآن..
              إفسوا الطريق لهذا البطل يا رجال..
              وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..
              تعالوا، خفاقا وثقالا..
              تعاولوا مسرعين، وخاشعين..
              وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!
              تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟
              أجل كانت دروسا..
              وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..
              ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..
              أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير..
              إلينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..
              إلينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..
              وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والإيمان ظنّ السّوء..
              تعالوا بغروركم..!
              تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء..
              وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الإيمان بالحق على ذويه المخلصين..!!
              أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟
              انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الإنسان...!
              هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الأستاذ..
              اسمه خبيب بن عديّ.
              احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.
              واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل إنسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل جنس، وفي كل زمان..!!
              انه من أوس المدينة وأنصارها.
              تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر إليهم، وآمن بالله رب العالمين.
              كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الإيمان، ريّان الضمير.
              كان كما وصفه حسّان بن ثابت:

              صقرا توسّط في الأنصار منصبه
              سمح الشجيّة محضاً غير مؤتشب

              ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما.
              وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه إبّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.
              وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش إلى مكة عرف بنوالحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!
              وعاد المسلمون من بدر إلى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..
              وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين..
              هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين..
              وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلوا سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى إليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاختار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.
              وانطلق الركب إلى غايته حتى إذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنوحيّان فسارعوا إليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم..
              وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه:
              " انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..
              وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..
              وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..
              واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبل وأحكموا حولهم الحصار..
              ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.
              والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
              وانتظروا بما يأمر..
              فإذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..
              اللهم أخبر عنا نبيك"..
              وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا..
              ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق إذا هم نزلوا.
              فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..
              واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وربطوهما بها..
              ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم وإخوانه..
              واستشهد حيث أراد..
              وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين إيمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!
              وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الإحكام.
              وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها..
              ودوّى في الآذان اسم خبيب..
              وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد.
              وسارعوا إلى شرائه ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.
              وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!!
              وضع قوم آخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..
              أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين.
              وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول.
              كان الله معه.. وكان هو مع الله..
              كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..!
              دخلت عليه يوما إحدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة إلى الناس تناديهم لكي يبصروا عجبا..
              " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..
              وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها بثمرة عنب واحدة..
              ما أظنه إلا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!
              أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت:
              ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا * قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)..
              وحمل المشركون إلى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.
              ظاننين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته.
              وراحوا يساومونه على إيمانه، ويلوحون له بالنجاة إذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!
              أجل، كان أيما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا..
              كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..
              واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..
              وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظاننين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه وإعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..
              وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...
              وتدفقت في روحه حلاوة الإيمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي..
              ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:
              " والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!!
              ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:
              " اللهم أحصهم عددا.. واقتلهم بددا"..
              ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:

              ولست أبالي حين أقتل مسلما
              على أي جنب كان في الله مصرعي
              وذلك في ذات الإله وان يشأ
              يبارك على أوصال شلو ممزّع

              ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..
              ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوا فوقه خبيباً.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.
              وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود أمام البطل المصلوب..!!
              لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.
              وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه.
              وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:
              " أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟
              وهنا لا غير انتفض خبيب كالإعصار وصاح، في قاتليه:
              " والله ما أحبّ أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"..
              نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!
              كانت كلمات خبيب هذه إيذاناً للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية..
              وقريبا من المشهد كانت تحوم طيور وصقور كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..
              ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.
              وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا..
              لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!
              مضت جماعة الطير إلى رحاب الفضاء متعففة منصفة.
              وعادت جماعة المشركين إلى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..
              وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسيوف..!!
              كان خبيب عندما رفعوه إلى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل إلى ربه العظيم قائلا:
              " اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..
              واستجاب الله دعاءه..
              فبينما الرسول في المدينة إذ غمره إحساس وثيق بأن أصحابه في محنة..
              وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..
              ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، والزبير بن العوّام..
              فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا.
              وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.
              ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.
              ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!!

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #37
                عمير بن سعد



                أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟
                ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها..
                لقد تحدثنا عنه في دروسنا هذه ، ورأينا من زهده وترفعه، ومن ورعه العجب كله..
                وها نحن أولاء، نلتقي على هذه الصفات بأخ له، بل توأم، في الورع وفي الزهد، وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!!
                انه عمير بن سعد..
                كان المسلمون يلقبونه نسيج وِحده!!
                ناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله، وبما معهم من فضل وفهم ونور..!!
                أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية.
                ولقد اصطحب ابنه الى الرسول، فبايع النبي وأسلم..
                ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله.
                يهرب من الأضواء، ويفيئ الى سكينة الظلال.
                هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى، الا أن تكون صلاة، فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد، فهو يهرول الى الصفوف الأولى، راجيا أن يكون من المستشهدين..!
                وفيما عدا هذا، فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها، وخيرها وصلاحها وتقاها..!!
                متبتل، ينشد أوبه..!!
                أوّاب، يبكي ذنبه..!!
                مسافر الى الله في كل ظعن، وفي كل مقام...
                ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا، فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم..
                من قوة ايمانه، وصفاء نفسه، وهدوء سمته، وعبير خصاله، واشراق طلعته، كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه ويراه ولم يكن يؤثر على دينه أحدا، ولا شيئا.
                سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت، وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا، لنحن شرّ من الحمر"..!!
                وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا.
                سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة..
                الغيظ، لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة..
                والحيرة، لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر..
                ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟
                كيف، والمجالس بالأمانة..؟؟
                أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟
                كيف؟؟
                وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة، وأخرجهم من ظلمة..؟
                لكن حيرته لم تطل، فصدق النفس يجد دائما لصاحبه مخرجا..
                وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي، وكمؤمن تقي..
                فوجه حديثه الى جلاس بن سويد..
                " والله يا جلاس، انك لمن أحب الناس إلي، وأحسنهم عندي يدا، وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه..
                ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها ليهلكن ديني، وان حق الدين لأولى بالوفاء، واني مبلغ رسول الله ما قلت"..!
                وأرضى عمير ضميره الورع تماما..
                فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها، وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي..
                وهو ثانيا أدى لدينه حقه، فكشف عن نفاق مريب..
                وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أنه فعل آنئذ، لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لإبلاغ الرسول عليه السلام..
                بيد أن جلاسا أخذته العزة بالإثم، ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار، وغادرهم عمير وهو يقول:
                " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في إثمك"...
                وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال، بل حلف بالله كاذبا..!!
                لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل:
                ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم، وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم، وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة،وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..

                واضطر جلاس أن يعترف بمقاله، وأن يعتذر عن خطيئته، لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر إدانته، تعده في نفس اللحظة برحمة اله ان تاب هو وأقلع:
                " فان يتوبوا، يك خيرا لهم"..
                وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن إسلامه..
                وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه:
                " يا غلام..
                وفت أذنك..
                وصدّقك ربك"..!!
                لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة، وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر.
                وبهرني، كما لم يبهرني شيء، نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم، لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها..
                تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!!
                كان يختارهم من الزاهدين الورعين، والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الإمارة والولاية، ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..
                وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يستأني طويلا، ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..
                وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة:
                " أريد رجلا اذا كان في القوم، وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير، بدا وكأنه واحد منهم..!!
                أريد واليا، لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن..
                يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..
                وفي ضوء هذه المعايير الصارمة، اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..
                وحاول عمير أن يخلص منها وينجو، ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها إلزاما، وفرضها عليه فرضا..
                واستخار الله ،ومضى الى واجبه وعمله..
                وفي حمص مضى عليه عام كامل، لم يصل الى المدينة منه خراج..
                بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه كتاب..
                ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له:
                " اكتب الى عمير ليأتي الينا"..
                وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر وعمير، كما هي في كتابي بين يدي عمر.
                " ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاد يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا، من طول ما لاقى من عناء، وما بذل من جهد..
                على كتفه اليمنى جراب وقصعة..
                وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..!
                وانه ليتوكأ على عصا، لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!!
                ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة..
                السلام عليك يا أمير المؤمنين..
                ويرد عمر السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:
                ما شأنك يا عمير..؟؟
                شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!
                قال عمر: وما معك..؟
                قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي..
                وقصعتي آكل فيها.. وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!!
                قال عمر: أجئت ماشيا..
                عمير: نعم..
                عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟
                عمير: إنهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم..
                عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟
                عمير: أتيت البلد الذي بعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم، حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!!
                عمر: فما جئتنا بشيء..؟
                عمير: لا..
                فصاح عمر وهو منبهر سعيد:
                جدّدوا لعمير عهدا..
                وأجابه عمير في استغناء عظيم:
                تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك، ولا لأحد بعدك"..!!
                هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه، وليست حوارا نبتدعه.. إنما هي واقعة تاريخية، شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.
                فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!!
                وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:
                " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين"..
                ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف إنساني يسببه وجودنا المادي، وحياتنا الشائكة..
                ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم، لم يزدد ورعه بها اا مضاء ونماء وتألقا..
                ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر.
                وها هي ذي:
                " ألا ان الاسلام حائط منيع، وباب وثيق
                فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق..
                فاذا نقض الحائط، وحطّم الباب، استفتح الاسلام.
                ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان
                وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا بالسوط..
                ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل"..!!
                نودّع عميرا.. في إجلال وشموخ، لاحقاً بخير المعلمين وسيد المتقين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
                المرسل رحمة مهداة إلى الناس في قيظ الحياة
                وسلام على أصحابه الأبرار...

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #38
                  زيد بن ثابت

                  جامع القرآن

                  إذا حملت المصحف بيمينك، واستقبلته بوجهك، ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات، سورة سورة، وآية آية، فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم، رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!
                  وان وقائع جمع القرآن في مصحف، لا تذكر الا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..
                  وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع اليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه، فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور، لحظ عظيم..
                  هو أنصاري من الدينة..
                  وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، إحدى عشرة سنة، وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله، وبورك بدعوة من الرسول له..
                  وصحبه آباؤه معهم إلى غزوة بدر، لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه، وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول يحملون إليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..
                  وكان أهلوهم أكثر ضراعة وإلحاحا ورجاءا..
                  ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة، وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..
                  لكن أحدهم وهو رافع بن خديج، تقدم بين يدي رسول الله، يحمل حربة، ويحركها بيمينه حركات بارعة،وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:
                  " إني كما ترى رام، أجيد الرمي فأذن لي"..
                  وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة، النضرة، بابتسامة راضية، ثم أذن له..
                  وانتفضت عروق أتلاتبه..
                  وتقد ثانيهم وهو سمرة بن جندب، وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين، وقال بعض أهله للرسول:
                  " إن سمرة يصرع رافعا"..
                  وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية، وأذن له..
                  كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة، إلى جانب نموهما الجسماني القوي..
                  وبقي من الأتراب ستة أشبال، منهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر..
                  ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة، وبالدمع تارة، وباستعراض عضلاتهم تارة..
                  لكن أعمارهم كانت باكرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..
                  بدأ زيد دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق، سنة خمس من الهجرة.
                  كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا، فهو لم يبرع كمجاهد فحسب، بل كمثقف متنوع المزايا أيضا، فهو يتابع القرآن حفظا، ويكتب الوحي لرسوله، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين يبدأ رسول الله في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي كله، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..
                  وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..
                  يقول الشعبي:
                  " ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالرّكاب.
                  فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله..
                  فأجابه ابن عباس: لا، هكذا نصنع بعلمائنا"..
                  ويقول قبيصة:
                  " كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء، والفتوى والقراءة، والفرائض"..
                  ويقول ثابت بن عبيد:
                  " ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد".
                  ويقول ابن عباس:
                  " لقد علم المحفوظ من أصحاب محمد " أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..
                  إن هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الاسلام كله..
                  مهمة جمع القرآن..
                  منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه إلى رسول الله ليكون من المنذرين، مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..
                  ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)..
                  منذ تلك البداية، والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويخف إليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..
                  وخلال سنوات الرسالة كلها، حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى، وحيث يحبط مكيدة وحربا، ليواجه خصومة بأخرى، وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..
                  كان الوحي يتنزل، والرسول يتلو، ويبلّغ، وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم، فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع، وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآيات مسطورة.
                  وخلال إحدى وعشرين سنة تقريبا، نزل القرآن خلالها آية آية، أو آيات، تلو آيات، ملبيا مناسبات النزول وأسبابها، كان أولئك الحفظة، والمسجلون، يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..
                  ولم يجيء القرآن مرة واحدة وجملة واحدة، لأنه ليس كتابا مؤلفا، ولا موضوعا.
                  إنما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة، لبنة لبنة، ويوما يوما، تنهض عقيدتها، ويتشكل قلبها، وفكرها، وإرادتها وفق مشيئة إلهية، لا تفرض نفسها من عل، وإنما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..
                  ومن ثمّ، كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما، ومجرأ، ليتابع التجربة في سيرها النامي، ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.
                  توافر الحفاظ، والكتبة، كما ذكرنا من قبل، على حفظ القرآن وتسجيله،وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبدالله ابن مسعود، وعبدالله بن عباس، وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..
                  وبعد أن تمّ نزولا، وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله، كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.
                  وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..
                  وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهداء من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا إليه في إلحاح أن يسارعوا إلى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.
                  واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:
                  " انك شاب عاقل لا نتهمك".
                  وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم، مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..
                  ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين..!
                  وأبلى بلاء عظيما في إنجاز أشق المهام وأعظمها، فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ، ومن مواطنها المكتوبة، ويقابل، ويعارض، ويتحرّى، حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..
                  ولقد زكّى عمله إجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها، لا سيما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..
                  وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..

                  " والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!
                  أجل..
                  فلأنه يحمل زيد فوق كاهله جبلا، أو جبالا، أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ، في نقل آية أو إتمام سورة..
                  كل هول يصمد له ضميره ودينه.. إلا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصود..
                  ولكن توفيق الله كان معه، كان معه كذلك وعده القائل:
                  ( إنا نحن نزلنا الذكر وان له لحافظون)..
                  فنجح في مهمته، وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.
                  كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..
                  بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..
                  وعلى الرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية، فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدها جميعها في مصحف واحد.
                  ففي خلافة عثمان رضي الله عنه، والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحوفهم، مبتعدين عن المدين، مغتربين عنها..
                  في تلك الأيام، والإسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه، المبايعين إياه، ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي إليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..
                  هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..
                  واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..
                  وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت، استنجد به عثمان أيضا..
                  فجمع زيد أصحابه وأعوانه، وجاءوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وكانت محفوظة لديها، وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..
                  كان كل الذين يعاونون زيدا من كتاب الوحي، ومن حفظة القرآن..
                  ومع هذا فما كانوا يختلفون ، وقلما كانوا يختلفون، إلا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.
                  والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا، أو نسمعه مرتلا، فان الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!
                  تماما مثل الأهوال التي كابدوها، والأرواح التي بذلوها، وهم يجاهدون في سبيل الله، ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما، وليبددوا ظلامها بنوره المبين..

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #39
                    خالد بن سعيد

                    فدائيّ، من الرعيل الأول

                    في بيت وارف النعمة، مزهو بالسيادة، ولأب له في قريش صدارة وزعامة، ولد خالد بن سعيد بن العاص، وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..
                    ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء، هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء، وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها الى عباده، كان قلب خالد يلقي للنور الهامش سمعه وهو شهيد..!!
                    وطارت نفسه فرحا، كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد، جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم، وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه، أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع، والتأثير، والايحاء..!
                    كان الذي يراه أنئذ، يبصر شابا هادئ السمت، ذكيّ الصمت، بينما هو في باطنه وداخله، مهرجان حافل بالحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..
                    عيد بكل جمال العيد، وبهجة العيد وحماسة العيد، وضجة العيد..!!!
                    وكان الفنى يطوي على هذا العيد الكبير صدره، ويكتم سرّه، فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد، لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!
                    ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر، ويبلغ منها حدّ الامتلاء فانها لا تملك لإفاضته دفعا..
                    وذات يوم..
                    ولكن لا.. فان لم يطلع بعد، وخالد ما زال في نومه اليقظان، يعالج رؤيا شديدة الوطأة، حادة التأثير، نفاذة العبير..
                    نقول اذن: ذات ليلة، رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة، وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه، ويريد أن يطرحه فيها، ثم رأى رسول الله يقبل عليه، ويجذبه بيمينه المباركة من ازاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب..
                    ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد، فيسارع من فوره الى دار أبي بكر، ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير..د
                    وقال له أبو بكر:
                    " انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فان الإسلام حاجزك عن النار".
                    وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي الى مكانه فيلقاه، ويسأل النبي عن دعوته، فيجيبه عليه السلام:
                    " تؤمن بالله وحده، ولا تشرك به شيئا..
                    وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا يسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع"..
                    ويبسط خالد يمينه، فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة، ويقول خالد:
                    " اني أشهد أن لا اله الا الله...
                    وأشهد أن محمدا رسول الله"..!!
                    وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها..
                    ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.
                    يوم أسلم سعيد، لم يكن قد سبقه الى الاسلام سور اربعة أو خمسة،فهو اذن من الخمسة الأوائل المبكرين الى الاسلام.
                    وحين يباكر بالاسلام واحد من ولد سعيد بن العاص، فان ذلك في رأي سعيد، عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش، ويهز الأرض تحت زعامته.
                    وهكذا دعا اليه خالد، وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يهيب آلهتنا"..؟؟
                    قال خالد: " انه والله لصادق..
                    ولقد آمنت به واتبعته"..
                    هنالك انهال عليه أبوه ضربا، ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره، حيث صار حبيسها، ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا وظكأ..
                    وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه:
                    " والله انه لصادق، واني به لمؤمن".
                    وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي، فخرج به الى رمضاء مكة، حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!
                    ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!!
                    ويئس الوالد من ولده، فعاد به الى داره، وراح يغريه، ويرهبه.. يعده، ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق، يقول لأبيه:
                    " لن أدع الاسلام لشيء، وسأحيا به وأموت عليه"..
                    وصاح سعيد:
                    " اذن فاذهب عني يا لكع، فواللات لأمنعنّك القوت"..
                    وأجابه خالد:
                    ".. والله خير الرازقين"..!!
                    وغادر الدار التي تعجّ بالرغد، من مطعم وملبس وراحة..
                    غادرها الى الخصاصة والحرمان..
                    ولكن أي بأس..؟؟
                    أليس ايمانه معه..؟؟
                    ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره، وبكل حقه في مصيره..؟؟
                    ما الجوع اذن، وما الحرمان، وما العذاب..؟؟
                    واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو اليه محمد رسول الله، فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة، الله صاحبها وواهبها...؟؟
                    وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية، ويتفوق على الحرمان بالايمان..
                    وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية الى الحبشة، كان خالد بن سعيد، ممن شدّوا رحالهم اليها..
                    ويمكث خالد هناك الى ما شاء الله ان يمكث، ثم يعود مع اخوانه راجعين الى بلادهم، سنة سبع، فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر..
                    ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده، وأسسوا بناءه، ولا يغزو النبي غزوة، ولا يشهد مشهدا، الا وخالد بن سعيد من السابقين..
                    وكان خالد بسبقه الى الاسلام، وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..
                    كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة.
                    قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن..
                    ولما ترامت اليه أنباء استخلاف أبي بكر، ومبايعته غادر عمله قادما الى المدينة..
                    وكانه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول..
                    بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:
                    العباس مثلا، أو عليّ ابن أبي طالب..
                    ووقف الى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر..
                    وظل أبو بكر على حبه له، وتقديره اياه لا يكرهه على أن يبايع، ولا يكرهه لأنه لم يبايع، ولا يأتي ذكره بين المسلمين الا أطراه الخليفة العظيم، وأثنى عليه بما هو أهله..
                    ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد، فاذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر، فيبايعه بيعة صادقة وثقى..
                    ويسيّر أبا بكر جيوشه الى الشام، ويعقد لخالد بن سعيد لواء، فيصير أحد أمراء الجيش..
                    ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في امارة خالد بن سعيد، ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن امارة خالد..
                    ويبلغ النبأ خالد، فلا يزيد على قول:
                    " والله ما سرّتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم"..!!
                    ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه الى دار خالد معتذرا له، ومفسرا له موقفه الجديد، ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه، مع شرحبيل بن حسنة؟
                    فيجيب خالد اجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها:
                    " ابن عمّي أحبّ اليّ في قرابته، وشرحبيل أحبّ في أحبّ اليّ في دينه"..
                    ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة..
                    ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أو، ستحرّك الجيش، وقال له:
                    " انظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك، مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك، لو كنت مكانه، وكلن مكانك..
                    انك لتعرف مكانته في الاسلام..
                    وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال..
                    ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك..
                    وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، فما أغبط أحد بالامارة..!!
                    وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه..
                    فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح، ومعاذ بن جبل.. وليك خالد بن سعيد ثالثا، فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..
                    واياك واستبداد الرأي دونهم، أو اخفاءه عنهم"..
                    وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام، حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم، رهيبة ضارية، كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على اله، شهيد جليل، قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة..
                    ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة، كما كان دائما، هادئ الّمت، ذكي الصمت، قوي التصميم، فقاول:
                    " اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!!

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #40
                      أبو أيوب الأنصاري

                      انفروا خفافا وثقالا

                      كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..
                      وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
                      وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:
                      " يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة"..
                      ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:
                      " خلوا سبيلها فإنها مأمورة".
                      ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:
                      " خلوا سبيلها فانها مأمورة..
                      لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم لله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
                      أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..
                      من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه إلى الله بقلبه، وابتهل إليه بلسانه:
                      " اللهم خر لي، واختر لي"..
                      وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، وألقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..
                      أتدرون من كان هذا السعيد الموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟
                      انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار..
                      لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..
                      فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين.
                      والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصمة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم.
                      ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!
                      وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..
                      ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره..
                      ومنذ بدأت قريش تتنمّر للإسلام وتشن غاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..
                      منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.
                      ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..
                      وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..!
                      وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:
                      ( انفروا خفافا وثقالا)..
                      مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أيوب بإمارته.
                      مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول:
                      " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟
                      ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!
                      كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته..
                      ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الخليفة الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين..
                      وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!
                      وفي هذه المعركة أصيب.
                      وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..
                      فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية:
                      " ما حاجتك أبا أيوب"؟
                      ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟
                      كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!!
                      لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!
                      أتحسبون هذا شعرا..؟
                      لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!
                      ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..
                      وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم استامبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!!

                      وحتى قبل أن يغمر الإسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...
                      وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:
                      " وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!
                      وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر..
                      ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:
                      " واذا صليت فصل صلاة مودّع..
                      ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..
                      والزم اليأس مما في أيدي الناس"...
                      وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..
                      ولم تهف نفسه الى مطمع..
                      وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع..
                      فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:
                      " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...
                      كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه..
                      ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصصلة سيوفها..!!
                      وانه اليوم لثاو هناك..
                      لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول..
                      قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..
                      لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..
                      أن:
                      الله أكبر..
                      الله أكبر..
                      وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها:
                      هذا ما وعدنا الله ورسوله
                      وصدق الله ورسوله....

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #41



                        العباس بن عبد المطلب

                        ساقي الحرمين

                        في عام الرمادة، وحيث أصاب العباد والبلاد قحط وبيل، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون الى الله الرحيم أن يرسل اليهم الغيث والمطر..
                        ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال:
                        " اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا..
                        اللهم وانا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسقنا"..
                        ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى حاءهم الغيث، وهطل المطر، يزفّ البشرى، ويمنح الريّ، ويخصب الأرض..
                        وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه، ويقبّلونه، ويتبركون به وهم يقولون:
                        " هنئا لك..
                        ساقي الحرمين"..
                        فمن كان ساقي الحرمين هذا..؟؟
                        ومن ذا الذي توسل به به عمر الى الله.. وعمر من نعرف تقى وسبقا ومكانة عند الله ورسوله ولدى المؤمنين..؟؟
                        انه العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                        كان الرسول يجلّه بقدر ما كان يحبه، وكان يمتدحه ويطري سجاياه قائلا:
                        " هذه بقيّة آبائي"..
                        هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها"..!!
                        وكما كان حمزة عمّ الرسول وتربه، كذلك كان العباس رضي الله عنه فلم يكن يفصل بينهما في سنوات العمر سوى سنتين أو ثلاث، تزيد في عمر العباس عن عمر الرسول..
                        وهكذا كان محمد، والعباس عمه، طفلين من سن واحدة، وشابين من جيل واحد..
                        فلم تكن القرابة القريبة وحدها، آصرة ما بينهما من ودّ، بل كانت كذلك زمالة السنّ،وصداقة العمر..
                        وشيء آخر نضعه معايير النبي في المكان الأول دوما.. ذلك هو خلق العباس وسجاياه..
                        فلقد كان العباس جوّادا، مفرط الجود، حتى كأنه للمكارم عمّها أو خالها..!!
                        وكان وصولا للرحم والأهل، لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه، ولا بمال...
                        وكان الى هذه وتلك، فطنا الى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء..
                        كان حمزة كما رأينا في حديثنا عنه من قبل يعالج بغي قريش، وصلف أبي جهل بسيفه الماحق..
                        أما العباس فكان يعالجها بفطنة ودهاء أدّيا للإسلام من لنفع مثلما أدّت السيوف المدافعة عن حقه وحماه..!!
                        فالعباس لم يعلن إسلامه إلا عام فتح مكة، مما جعل بعض المؤرخين يعدونه مع الذين تأخر إسلامه..
                        بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين المبكّرين، غير أنه كان يكتم إسلامه..
                        يقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم:
                        " كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت... وكان العباس يكتم إسلامه"..
                        هذه رواية أبو رافع يتحدث بها عن حال العباس وإسلامه قبل غزوة بدر..
                        كان العباس اذن مسلما..
                        وكان مقامه بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خير نسق..
                        ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباس ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادّته، لا سيما وهو في ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين..
                        حتى اذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة تبلو بها سريرة العباس وحقيقته..
                        والعباس أدهى من أن يغفل عن اتجاهات ذلك المكر السيء الذي تعالج به قريش حسراتها، وتنسج به مؤامراتها..
                        ولئن كان قد نجح في إبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنباء قريش وتحرّكاتها، فان قريشا ستنجح في دفعه الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها.. بيد أنه نجاح موقوت لن يلبث حتى ينقلب على القرشيين خسارا وبوارا..
                        ويلتقي الجمعان في غزوة بدر..
                        وتصطك السيوف في عنفوان رهيب، مقررة مصير كل جمع، وكل فريق..
                        وينادي الرسول في أصحابه قائلا:
                        " ان رجالا من بني هاشم، ومن غير بني هاشم، قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا.. فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله..
                        ومن لقي البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله..
                        ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فانه انما أخرج مستكرها"..
                        لم يكن الرسول بأمره هذا يخصّ عمّه العباس بميّزة، فما تلك مناسبة المزايا، ولا هذا وقتها..
                        وليس محمد عليه الصلاة والسلام من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى في معرة الحق، ثم يشفع والقتال دائر لعمه، لو كان يعلم أن عمه من المشركين..
                        أجل..
                        ان الرسول الذي نهى عن أن يستغفر لعمه أبي طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له وللإسلام من أياد وتضحيات..
                        ليس هو منطقا وبداهة من يجيء في غزوة بدر ليقول لمن يقتلون آباءهم وإخوانهم من المشركين: استثنوا عمي ولا تقتلوه..!!
                        أما إذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه، ويعلم أنه يطوي على الإسلام صدره، كما يعلم أكثر من غيره، الخدمات غير المنظورة التي أدّاها للإسلام.. كما يعلم أخيرا أنه خرج مكرها ومحرجا فآنئذ يصير من واجبه أن ينقذ من هذا شأنه، وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع لهذا سبيلا..
                        وإذا كان أبو البختري بن حارث وهذا شأنه، قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حتى لا يهدر، ولحياته كي لا تزهق..
                        أفلا يكون جديرا بهذه الشفاعة، مسلم يكتم إسلامه... ورجل له في نصرة الإسلام مواقف مشهودة، وأخرى طوي عليها ستر الخفاء..؟؟
                        بلى..ولقد كان العباس ذلك المسلم، وذلك النصير.
                        ولنعد الى الوراء قليلا لنرى..
                        في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة، أنهى الرسول الى عمه العباس نبأ هذا الوفد، وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله..
                        ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية، خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون..
                        وأراد العباس ان يعجم عود القوم ويتوثق للنبي منهم..
                        ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ، كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:
                        ".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب.. وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وانه أبى الا الإنحياز إليكم واللحوق بكم..
                        فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك..
                        وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم، فمن الآن فدعوه"..
                        كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه، وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه الأنصار.. يتتبع وقع الكلام وردود فعله العاجلة..
                        ولم يكتف العباس بهذا، فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي، ويواجه كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..
                        هناك استأنف حديثه مع الأنصار بسؤال ذكي ألقاه، ذلك هو:
                        " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"!!؟؟
                        ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الإسلام والشرك، فقريش لن تتنازل عن دينها ومجدها وعنادها.
                        والإسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..
                        فهل الأنصار، أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟؟
                        وهل هم من الناحية الفنية، أكفاء لقريش، يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟؟
                        من اجل هذا ألقى سؤاله السالف:
                        " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"..؟؟
                        كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد...
                        ولم يكد العباس يفرغ من حديثه، لا سيما ذلك السؤال المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون..
                        وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:
                        " نحن، والله، أهل الحرب.. غذينا بها،ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر..
                        نرمي بالنبل حتى تفنى..
                        ثم نطاعن بالرماح حتى تنكسر..
                        ثم نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا"..!!
                        وأجاب العباس متهللا:
                        " أنتم أصحاب حرب اذن، فهل فيكم دروع"..؟؟
                        قالوا:
                        " نعم.. لدينا دروع شاملة"..
                        ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان شاء الله فيما بعد.
                        هذا موقف العباس في بيعة العقبة..
                        وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الإسلام سرا، أم كان لا يزال يفكّر، فان موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب، والشروق المقبل،
                        ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه..!!
                        ويوم يجيء حنين ليؤكد فداءية هذا الهادئ السمت، اللين الجانب، حينما تدعو الحاجة اليها، ويهيب المواقف بها، بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ، مستكنّة تحت الأضلاع، متوارية عن الأضواء..!!
                        في السنة الثامنة للهجرة، وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة..
                        فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون. وقرروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين..
                        ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة، فليس هناك حروب أشدّ ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها..!!
                        وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون، ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..

                        احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة من المقاتلين الأشدّاء..
                        وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..
                        اثنا عشر ألفا..؟؟
                        وممن..؟؟
                        من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة، وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها..!!
                        هذا شيء يبعث الزهو..
                        والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم، فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا:
                        " لن نغلب اليوم عن قلة".
                        ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهزهم بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية..
                        وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا ضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:
                        (.. ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين)..

                        كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال..
                        فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، كان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم..
                        وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد..
                        ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته البيضاء، وصاح:
                        " الى أين أيها الناس..؟؟
                        هلموا اليّ..
                        أنا النبي لا كذب..
                        انا ابن عبد المطلب"..
                        لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وولده الفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الأصحاب..
                        وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال..
                        تلك هي أم سليم بنت ملحان..
                        رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول..
                        ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول وقال:
                        " أم سليم؟؟"..
                        قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله..
                        اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل"..
                        وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول الواشق بوعد ربه وقال لها:
                        " ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم"..!!
                        هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر..
                        وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما جهوري الصوت، فراح ينادي:
                        " يا معشر الأنصار..
                        يا أصحاب البيعة"...
                        وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..
                        فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت واحد:
                        " لبّيك.. لبّيك"..
                        وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل، حاملا درعه وسيفه وقوسه، ميممّا صوب موت العباس..
                        ودارت المعركة من جديد.. ضارية، عاتية..
                        وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                        " الآن حمي الوطيس"..
                        وحمي الوطيس حقا..
                        وتدحرج قتلى هوزان وثقيف، وغلبت خيل الله خيل اللات، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..!!!
                        كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا، حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر، وقضى عمه ليله في الأسر..
                        ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه، فحين سئل عن سبب أرقه، وقد نصره الله نصرا مؤزرا أجاب:
                        " سمعت أنين العباس في وثاقه"..
                        وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول، فأسرع الى مكان الأسرى، وحلّ وثاق العباس، وعاد فأخبر الرسول قائلا:
                        " يا رسول الله..
                        إني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..
                        ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟
                        هنالك قال الرسول لصاحبه:
                        " اذهب، فافعل ذلك بالأسرى جميعا".
                        أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة..
                        وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى، قال الرسول لعمه:
                        " يا عباس..
                        افد نفسك، وابن اخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر، فانك ذومال"..
                        وأردا العباس أن يغادر أسره با فدية، قائلا:
                        " يا رسول الله، اني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني"..
                        ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية، ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:
                        " يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم".
                        وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه، وقفل راجعا الى مكة.. ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه، فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه، وأدرك الرسول بخيبر، ليأخذ مكانه في موكب الاسلام، وقافلة المؤمنين.. وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم، لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:
                        " انما العباس صنو أبي..
                        فمن آذى العباس فقد آذاني".
                        وأنجب العباس ذريّة مباركة.
                        وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.
                        وفي يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا ينادي:
                        " رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".
                        فأدركوا أن العباس قد مات..
                        وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..
                        وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.
                        وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح..
                        ونام قرير العين، بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #42

                          أبو هريرة

                          ذاكرة عصر الوحي

                          صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..
                          وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!
                          والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..
                          فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..
                          كان رضي الله عنه يجيد فنّ الإصغاء، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..
                          يسمع فيعي، فيحفظ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، وتعاقبت الأيام..!!
                          من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه، وبالتالي أكثرهم رواية لها.

                          فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤل. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.
                          هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه، وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!
                          والآن.. عندما نسمع واعظا، أو محاضرا، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".
                          أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة، أ، عندما تلقاه كثيرا، وكثيرا جدّا في كتب الحديث، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة إغراء بالصحبة والإصغاء..
                          ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام، قلّ أن يوجد لها نظير..
                          وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة، وهذه الثروة، لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والى التحليق بك، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس، في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه، تعطي الحياة معناها، وتهدي اليها رشدها ونهاها.
                          واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ، فدونك الآن وما تريد..
                          انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.
                          فمن أجير الى سيّد..
                          ومن تائه في الزحام، الى علم وامام..!!
                          ومن ساجد أمام حجارة مركومة، الى مؤمن بالله الواحد القهار..
                          وهاهو ذا يتحدّث ويقول:
                          " نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!
                          كنت أخدمهم اذا نزلوا، وأحدو لهم اذا ركبوا..
                          وهأنذا وقد زوّجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة اماما"..!
                          قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر، فأسلم راغبا مشتاقا..
                          ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..
                          وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.
                          نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة، ممتلئة بكل صالح من القول، والعمل، والاصغاء.
                          أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.
                          ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..
                          والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.
                          ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.
                          ففي تلك العصور، وكانت الجماعة الانسانية كلها، لا العرب وحدهم، لا يهتمون بالكتابة، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..
                          بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.
                          وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..
                          نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.
                          لم يكن أبا هريرة كاتبا، ولكنه كان حافظا، وكان يملك هذا الفراغ، أو هذا الفراغ المنشود، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!
                          وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا، عزم على أن يعوّض ما فاته، وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..
                          ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه، وهي ذاكرته الرحبة القوية، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..
                          فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله للأجيال..؟؟
                          أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه، وعليه أن يقوم به في غير توان..
                          ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..
                          ولم تكن له أرض يزرعها، ولا تجارة تشغله، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..
                          وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..
                          فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، راح أبو هريرة يحدث، مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الأحاديث، ومتى سمعها ووعاها..
                          ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة، وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:
                          " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..
                          وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟
                          ألا ان أصحابي من المهاجرين، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..
                          واني كنت أميرا مسكينا، أكثر مجالسة رسول الله، فأحضر اذا غابوا، وأحفظ اذا نسوا..
                          وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثزبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..
                          وأيم والله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، وهي:
                          ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".
                          هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
                          فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..
                          وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية، باركها الرسول فزادت قوة..
                          وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته، والا كان كاتما للخير والحق، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..
                          من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث، لا يصدّه عن الحديث صادّ، ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:
                          " لتتركنّ الحديث عن رسول الله،أو لألحقنك بأرض دوس"..
                          أي أرض قومه وأهله..
                          على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها، تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا، وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..
                          فالقرآن كتاب الله، ودستور الاسلام، وقاموس الدين، وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام، والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..
                          من أجل هذا كان عمر يقول:
                          " اشتغلوا بالقرآن، فان القرآن كلام الله"..
                          ويقول:
                          " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..
                          وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:
                          " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالحديث، وأنا شريكك في ذلك"..
                          كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..
                          اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر، أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من الاسلام..
                          وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر، ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.
                          وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال..
                          على أن هناك سببا هامّا، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.
                          ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف، ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.
                          أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ، فدعاه اليه وأجلسه معه، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..
                          وبعد مرور عام، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها، فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!
                          وكان يقول عن نفسه:
                          " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فانه كان يكتب، ولا أكتب"..
                          وقال عنه الامام الشافعي أيضا:
                          " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".
                          وقال البخاري رضي الله عنه:
                          " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..
                          وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه، وتقوم ابنته ثلثه. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!
                          وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..
                          وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!
                          ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..
                          كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..
                          ليس ذلك وحسب، بل كلنت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..
                          وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانفضّ عنها باكيا محزونا، وذهب الى مسجد الرسول..

                          ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:
                          ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرة الى الاسلام..
                          فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..
                          فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف، أي مغلق، وسمعت خضخضة ماء، ونادتني يا أبا هريرة مكانك..
                          ثم لبست درعها، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأِهد أن محمدا عبده ورسوله..
                          فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله، فقد أجاب الله دعوتك..
                          قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..
                          ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..
                          فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..
                          وعاش أبو هريرة عابدا، ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.
                          وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.
                          وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.
                          اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!
                          أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء، فآنئذ لا يفلت من حساب عمر، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!

                          دنيا أخرى.. ملاءها همر روعة واعجازا..!!
                          وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا، من مصادره الحلال، وعلم عمر فدعاه الى المدينة..

                          ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:
                          " قال لي عمر:
                          يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت مال الله..؟؟
                          قلت:
                          ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه،.. لكني عدو من عاداهما..
                          ولا أنا من يسرق مال الله..!
                          قال:
                          فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟
                          قلت:
                          خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت..
                          قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!
                          ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:
                          اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..
                          وبعد حين دعا عمر أبا هريرة، وعرض عليه الولاية من حديد، فأباها واعتذر عنها..
                          قال له عمر: ولماذا؟
                          قال أبو هريرة:
                          حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي، ويضرب ظهري..
                          ثم قال:
                          وأخاف أن أقضي بغير علم
                          وأقول بغير حلم..
                          وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..
                          وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه، كان هو يلحّ على الله قائلا:
                          " اللهم اني أحب لقاءك، فأحب لقائي"..
                          وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.
                          ولبن ساكني البقيع الأبرار ب\تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..
                          وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.
                          ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:
                          لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟
                          فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:
                          لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان، واكنت له هرة، يطعمها، ويحملها، وينظفها، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..
                          وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #43

                            البراء بن مالك
                            إنما هو الله والجنة


                            هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نكا وأزهر مع الأيام..
                            أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.
                            أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:
                            "يا رسول الله..
                            هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له"..
                            فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..
                            دعا له لرسول فقال:
                            " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة"..
                            فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!
                            وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك..
                            عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره:
                            " الله، والجنة"..
                            ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب..
                            فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة..
                            كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق..
                            من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..
                            وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال:
                            " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..
                            لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!!
                            ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!!
                            ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته واقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!
                            وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..
                            وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!
                            أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..
                            حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..
                            ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الرض، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!!
                            ونادى خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..
                            وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..
                            لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..
                            وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر..
                            ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..
                            وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..
                            وناداه القائد خالد تكلم يا براء..
                            فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة..
                            تلك هي:
                            " يا أهل المدينة..
                            لا مدينة لكم اليوم..
                            إنما هو الله والجنة"..
                            كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.
                            أجل..
                            انما هو الله، والجنة..!!
                            وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..
                            حتى المدينة، عاصمة الاسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم اذا هزموا اليوم، فلن تكون هنلك مدينة..
                            وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟
                            ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..
                            فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..
                            ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..
                            المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر.
                            والمشركون يتساقطون في حضيض هزيمة منكرة..
                            والبراء هناك مع اخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..
                            واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..
                            وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه..
                            وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:
                            " يا معشر المسلمين..
                            احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..
                            ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!
                            ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!!
                            فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!
                            ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام..
                            ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..
                            وصدق أبو بكر رضي الله عنه:
                            " احرص على الموت..
                            توهب لك الحياة"..!!
                            صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..
                            ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..
                            بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة..
                            ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..
                            فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!!
                            ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..
                            وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده..
                            ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..
                            وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..
                            فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..
                            وكان البراء وأخوه أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..
                            ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا..
                            وأبصر البراء المشهد للإسراع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!
                            لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!
                            وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..
                            أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟
                            بلى آن..!!
                            وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس
                            ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد..
                            احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..
                            وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..
                            وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته:
                            " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ..
                            وليكن معه البراء بن مالك"..
                            والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..
                            كان الاخوان العظيمان بين الجنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك..
                            وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..
                            ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة..
                            واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين:
                            " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟
                            يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا"..
                            ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:
                            " اللهم امنحنا أكنافهم..
                            اللهم اهزمهم..
                            وانصرنا عليهم..
                            وألحقني اليوم بنبيّك"..
                            ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب امنه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه..
                            وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..
                            ونصروا نصرا مبينا.
                            ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..
                            لقد بلغ المسافر داره..
                            وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا:

                            ( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون)....

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #44



                              عتبة بن غزوان

                              غدا ترون الأمراء من بعدي


                              من بين المسلمين السابقين، والمهاجرين الأولين الى الحبشة، فالمدينة..
                              ومن بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا، هذا الرجل الفارع الطول، المشرق الوجه، المخبت القلب عتبة بن غزوان...

                              كان سابع سبعة سبقوا إلى الإسلام، وبسطوا أيمانهم الى يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، مبايعين ومتحدّين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على الانتقام..
                              وفي الأيام الأولى للدعوة.ز أيام العسرة والهول، صمد عتبة بن غزوان، مع اخوانه ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الانساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان..
                              ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة، خرج عتبة مع المهاجرين..
                              بيد أن شوقه الى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك، فسرعان ما طوى البرّ والبحر عائدا الى مكة، حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات الهجرة الى المدينة، فهاجر عتبة مع المسلمين..
                              ومنذ بدأت قريش تحرشاتها فحروبها، وعتبة حامل رماحه ونباله، يرمي بها في أستاذية خارقة، ويسهم مع اخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه وبهتانه..
                              ولم يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم الى الرفيق الأعلى، بل ظل يضرب في الأرض، وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..
                              أرسله أمير المؤمنين عمر الى الأبلّة ليفتحها، وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الاسلام الزاحفة عبر بلاد الامبراطورية الفارسية، تستخلص منها بلاد الله وعباده..
                              وقال له عمر وهو يودّعه وجيشه:
                              " انطلق أنت ومن معك، حتى تأتوا أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم..
                              وسر على بركة الله ويمنه..
                              وادع الى الله من أجابك.
                              ومن أبى، فالجزية..
                              والا فالسيف في غير هوادة..
                              كابد العدو، واتق الله ربك"..
                              ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا، حتى قدم الأبلّة..
                              وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..
                              ونظم عتبة قواته، ووقف في مقدمتها، حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!!
                              وصاح في جنده:
                              " الله أكبر، صدق وعده"..
                              وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا، فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس، وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده..!!
                              احتطّ عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة، وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..
                              وأراد أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة، هاربا من الامارة، لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء..
                              ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة...
                              ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات..
                              هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:
                              " والله، لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام الا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا..
                              ولقد رزقت يوما بردة، فشققتها نصفين، أعطيت نصفها سعد بن مالك، ولبست نصفها الآخر"..
                              كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف، وكان يخافها على المسلمين، فراح يحملهم على القناعة والشظف.
                              وحاول الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه، ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة، وبما للامارة من حق، لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا اطراز المتقشف الزاهد، والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية المزهوّة.. فكان عتبة يجيبهم قائلا:
                              " اني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما، وعند الله صغيرا"..!
                              ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة قال لهم:
                              " غدا ترون الأمراء من بعدي"..
                              وجاء موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه، سافر الى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الامارة..
                              لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا.
                              وكان يقول لهم:
                              " تضعون أماناتكم فوق عنقي..
                              ثم تتركوني وحدي..؟
                              لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!
                              وهكذا قال لـ عتبة لغزوان..
                              ولما لم يكن في وسع عتبة الا الطاعة، فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا الى البصرة.
                              لكنه قبل أن يعلو ظهرها، استقبل القبلة، ورفع كفّيه الضارعتين الى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه الى البصرة، ولا الى الامارة أبدا..
                              واستجيب دعاؤه..
                              فبينما هو في طريقه الى ولايته أدركه الموت..
                              وفاضت روحه الى بارئها، مغتبطة بما بذلت وأعطت..
                              وبما زهدت وعفت..
                              وبما أتم الله عليها من نعمة..
                              وبما هيأ لها من ثواب

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • #45
                                ثابت بن قيس

                                خطيب رسول الله

                                كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والإسلام..
                                وكان ثابت خطيب رسول الله والإسلام..
                                وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية، صادعة، جامعة رائعة..
                                وفي عام الوفود، وفد على لمدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
                                " جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..
                                فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:
                                " قد أذنت لخطيبكم، فليقل"..
                                وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..
                                ولما آذن بانتهاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..
                                ونهض ثابت فقال:
                                " الحمد لله، الذي في السموات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله..
                                ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة، واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين..
                                ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا، وخيرهم فعالا..
                                ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق أجابه..
                                فنحن أنصار الله، ووزراء رسوله"..
                                شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد، والمشاهد بعدها.
                                وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!
                                في حروب الردّة، كان في الطليعة دائما، يحمل راية الأنصار، ويضرب بسيف لا يكبو، ولا ينبو..
                                وفي موقعة اليمامة، التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة، رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة، فصاح بصوته النذير الجهير:
                                " والله، ما هذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
                                ثم ذهب بغير بعيد، وعاد وقد تحنّط، ولبس أكفانه، وصاح مرة أخرى:
                                " إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء..
                                يعني جيش مسيلمة..
                                وأعتذر إليك مما صاع هؤلاء..
                                يعني تراخي المسلمين في القتال"..
                                وانضم إليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل راية المهاجرين..
                                وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين، وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..
                                وهكذا وقفا..طودين شامخين، نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى، صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..
                                وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما، ومالت شمس كل منهما للغروب..!!
                                وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين إلى مواقعهم، حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!
                                وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا، وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة، وقلبا خاشعا مخبتا، وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله، وحياء منه..
                                لما نزلت الآية الكريمة:
                                ( إن الله لا يحب كل مختال فخور)..
                                أغلق ثابت باب داره، وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال، حتى نمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فدعاه وسأله.
                                فقال ثابت:
                                " يا رسول الله، إني أحب الثوب الجميل، والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..
                                فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:
                                " انك لست منهم..
                                بل تعيش بخير..
                                وتموت بخير..
                                وتدخل الجنة".
                                ولما نزل قول الله تعالى:
                                ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي..
                                ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)..
                                أغلق ثابت عليه داره، وطفق يبكي..
                                وافتقده الرسول فسأل عنه، ثم أرسل من يدعوه...
                                وجاء ثابت..
                                وسأله الرسول عن سبب غيابه، فأجابه:
                                " إني امرؤ جهير الصوت..
                                وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..
                                وإذن فقد حبط عملي، وأنا من أهل النار"..!!
                                وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:
                                " انك لست منهم..
                                بل تعيش حميدا..
                                وتقتل شهيدا..
                                ويدخلك الله الجنة".
                                بقي في قصة ثابت واقعة، قد لا يستريح إليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق الذي يلمسونه، أو يبصرونه، أو يشمّونه..!
                                ومع هذا، فالواقعة صحيحة، وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر، البصيرة..
                                بعد أن استشهد ثابت في المعركة، مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام ورأى على جثمان ثابت دعه الثمينة، فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه، فأخذها..
                                ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:
                                ".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.
                                فقال له: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.
                                إني لما استشهدت بالأمس، مرّ بي رجل من المسلمين.
                                فأخذ درعي..
                                وان منزله في أقصى الناس، وفرسه يستنّ في طوله، أي في لجامه وشكيمته.
                                وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق الابرمة رحل..
                                فأت خالدا، فمره أن يبعث فيأخذها..
                                فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر، فقل له: إن
                                عليّ من الدين كذا وكذا..
                                فليقم بسداده..
                                فلما استيقظ الرجل من نومه، أتى خالد بن الوليد، فقصّ عليه رؤياه..
                                فأرسل خالد من يأتي بالدرع، فوجدها كما وصف ثابت تماما..
                                ولما رجع المسلمون إلى المدينة، قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا، فأنجز وصيّة ثابت..
                                وليس في الإسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو، سوى وصيّة ثابت بن قيس..

                                حقا إن الإنسان لسرّ كبير..
                                ( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X