إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    السمح بن مالك .. الإسلام في فرنسا

    عبد العزيز بن موسى بنِ نصير

    كان أول الولاة على الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمه الله-(ت97هـ=716م)، وكان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه، كان يقول عنه أبوه موسى بن نصير: عرفتُه صَوَّاما قَوَّاما[1]. وقال عنه الزركلي في الأعلام: «أمير فاتح، ولاَّه أبوه إمارة الأندلس عند عودته إلى الشام سنة 95هـ=714م فضبطها وسدَّد أمورها، وحمى ثغورها، وافتتح مدائن، وكان شجاعًا حازمًا، فاضلاً في أخلاقه وسيرته»[2].

    السمح بن مالك الخولاني ت 102هـ=721م:



    تُعَدُّ ولاية السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيِّ هي الولاية الرابعة للأندلس[3]، فبعد أن قُتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بإِشْبِيلِيَة في رجب 97هـ[4]، اجتمع أهل الأندلس على تولية أيوب بن حبيب اللَّخْمِيِّ، وهو ابن أخت موسى بن نصير، ولم تدم ولايته إلاَّ ستة أشهر فقط؛ أي في سنة 97هـ=716م [5]، ثم كانت ولاية الأندلس إلى الحرِّ بن عبد الرحمن الثقفي في ذي الحجة سنة 97هـ= مارس 716م، من قِبَل عامل إفريقية محمد بن يزيد، فبقى الحرُّ واليًا عليها ثلاث سنين؛ فنقل الحرُّ الثقفي العاصمة من إِشْبِيلِيَة إلى قُرْطُبَة وقيل: في زمن أيوب اللَّخْمِيّ[6].


    ثم لما تُوُفِّيَ الخليفة سليمان بن عبد الملك في صفر 99هـ= سبتمبر 717م، خلفه عمر بن عبد العزيز –رحمه الله[7]، فعيَّن السمح بن مالك واليًا على الأندلس في رمضان عام 100هـ، وجعل ولايتها تابعة للخلافة مباشرة؛ نظرًا لأهميتها وكثرة شئونها[8].

    فتُعَدُّ ولايةُ السَّمْحِ بن مالك الخَوْلانِيِّ -رحمه الله- على الأندلس من حسنات الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله (61-101هـ=781-720م)؛ فقد حكم عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- المسلمين سنتين ونصف على الأكثر 99-101هـ= 718-720م[9]، وفي هذه الفترة الوجيزة عَمَّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين.

    جهاد السمح بن مالك :



    اختار عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- السمحَ بن مالك الخَوْلاني، ذلك القائد الربَّاني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهدًا، وكانت بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة أرْبُونَة، تلك التي فتحها موسى بن نصير / بسرية من السرايا[10]، لكن السمح بن مالك الخَوْلاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، ثم أسَّس مقاطعة ضخمة جدًّا وهي مقاطعة سبتمانيا[11].


    أخذ السمح الخولاني يستكمل الفتوح في جنوب غرب فرنسا، وفي الوقت ذاته أرسل يُعَلِّم الناس الإسلام؛ سواء في فرنسا أو في الأندلس، إلى أن لقي ربه شهيدًا في معركة تولوز بطرسونة يوم عرفة سنة 102هـ=9 من يونيه 721م [12].


    [1] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 7/290، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/300.
    [2] الزركلي: الأعلام 4/28، 29.
    [3] انظر ترتيب الولاة: المقري: نفح الطيب 1/299.
    [4] مجهول: أخبار مجموعة ص28، والحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 7/289، 290، وابن عذاري: البيان المغرب 2/24، 25، والمقري: نفح الطيب 1/281.
    [5] مجهول: أخبار مجموعة ص28، وابن عذاري: البيان المغرب 2/25، والمقري: نفح الطيب 1/234، 3/14.
    [6] مجهول: أخبار مجموعة ص29، وابن عذاري: البيان المغرب 2/25، والمقري: نفح الطيب 3/14، وحسين مؤنس: فجر الأندلس 120، 121.
    [7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/57-59، والذهبي: تاريخ الإسلام 6/382، وابن كثير: البداية والنهاية 9/200.
    [8] مجهول: أخبار مجموعة ص30، والحميدي: جذوة المقتبس 1/5، وابن عذاري: البيان المغرب 2/26، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/14، 15.
    [9] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/59، وابن كثير: البداية والنهاية 9/217.
    [10] انظر: المقري: نفح الطيب 1/274.
    [11] انظر تفصيل ذلك: الخشني: قضاة قرطبة ص9، وسبتمانيا الآن هي ساحل الريفييرا، وتُعَدُّ من أشهر المنتجعات السياحية في العالم.
    [12] ابن عذاري: البيان المغرب 2/26، والمقري: نفح الطيب 3/15، وذكر الحميدي في جذوة المقتبس أنه استشهد في يوم عرفة سنة 103هـ، 6/236، 237.

    يتبع لاحقا .....

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #17
      عنبسة بن سحيم .. القائد المجاهد

      ولاية عنبسة بن سحيم (ت 107هـ=725م)

      لما سقط السمح بن مالك شهيدًا في أرض الجهاد، اختار أهل الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيَّ -رحمه الله- أميرًا عليهم، واستطاع بمهارته العسكرية أن يجمع شتات المسلمين، ويعود إلى الأندلس في (ذي الحجة سنة 102هـ)، وكانت هذه ولايته الأولى، ولم تدم إلاَّ شهرين؛ فقد عزله يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية، وولَّى بدلاً منه عَنْبَسَة بْن سُحَيْم -رحمه الله- وذلك في (صفر 103هـ)[1].

      جهاد عنبسة بن سحيم



      كان عنبسة بن سحيم –رحمه الله- قائدًا تقيًّا وَرِعًا، وإداريًّا فذًّا، ومجاهدًا حَقَّ الجهاد، حكم بلاد الأندلس من سنة (103هـ=721م) إلى سنة (107هـ=725م) [2]، فوصل في جهاده إلى مدينة (سانس Sens)، وهي تبعد عن باريس بنحو ثلاثين كيلو مترًا، وهذا يعني أن عنبسة بن سحيم –رحمه الله- قد وصل إلى ما يقرب من70٪ من أراضي فرنسا، ويعني هذا -أيضًا- أن 70٪ من أراضي فرنسا كانت بلادًا إسلامية، فقد أوغل عنبسة بن سحيم –رحمه الله- في غزو الفرنج.


      ويرى ( إيزيدور) أسقف بَاجَة[3] في ذلك العصر أن فتوحات عَنْبَسَة كانت فتوحات حِذَق ومهارة أكثر منها فتوحات بطش وقوة؛ ولذلك تضاعف في أيامه خَرَاج بلاد الغال -فرنسا- وافتتح (قرقشونة Carcassona) صلحًا بعد أن حاصرها مدَّة، وأوغل في بلاد فرنسا فعبر نهر الرون إلى الشرق، وأُصيب بجراحات في بعض الوقائع[4]، فاستُشهِدَ عنبسة بن سحيم –رحمه الله- وهو في طريق عودته إلى الأندلس في (شعبان 107هـ= ديسمبر 725م) [5].

      [1] انظر في تفصيل ذلك: الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/386، وابن الأثير: الكامل 4/377، 5/120، وابن عذاري: البيان المغرب 2/27، 3/16، والذهبي: تاريخ الإسلام 7/209.
      [2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/27، والمقري: نفح الطيب 1/235.
      [3] باجة: هي مدينة بالأندلس بينها وبين قرطبة مائة فرسخ 5.5كم تقريبًا. الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص75، وصفة جزيرة الأندلس ص36.
      [4] انظر: الزركلي: الأعلام 5/91، وانظر تفصيل حملات عنبسة بن سحيم: الأمير شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 73-86، وحسين مؤنس: فجر الأندلس 210-215.
      [5] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/377، وابن عذاري: البيان المغرب 2/27، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/16، وذكر الحميدي في جذوة المقتبس أن ولايته على الأندلس كانت سنة 106هـ من قِبَل بشر بن صفوان أمير إفريقية في أيام هشام بن عبد الملك، ووفاته سنة 107هـ، وقيل سنة 109هـ، 6/319.

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #18
        عبد الرحمن الغافقي

        ولاية عبد الرحمن الغافقي (112هـ=730م)

        بعد استشهاد عَنْبَسَة بن سُحَيْم -رحمه الله- بدأت الأمور في التغيُّر؛ فقد تولَّى حكم الأندلس مِن بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، فعلى مدى خمس سنوات فقط (107-112هـ=725-730م) تولَّى إمارة الأندلس ستة ولاة، كان آخرهم رجل يُدعى الهيثم بن عبيد الكلابي –أو الكناني حسب بعض الروايات- وكان عربيًّا متعصبًا لقومه وقبيلته[1].



        ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين: المسلمون العرب من جهة والمسلمون الأمازيغ (البربر) من جهة أخرى، وكانت خلافات بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح الله على المسلمين هذه المناطق وحتى هذه اللحظة، ولم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معاركُ ومشاحناتٌ بين المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ (البربر)[2]، حتى مَنَّ الله على المسلمين بمَنْ قضى عليها ووحَّد الصفوف من جديد، وبدأ يبثُّ في الناس رُوح الإسلام الأولى، التي جمعت بين الأمازيغ (البربر) وبين العرب، والتي لم تُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغَافِقِيُّ -رحمه الله.

        عبد الرحمن الغافقي

        مَنْ يكون عبد الرحمن الغافقي؟
        هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ (ت 114هـ=732م)، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويُكنى أبا سعيد, وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين –رحمه الله[3].

        مولده

        ربما يكون وُلِدَ في اليمن ورحل إلى إفريقية، وَفَدَ على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ووليَ قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس[4].

        فكره العسكري

        تميَّز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد؛ حتى لا تتشتَّت الأمور ويبعد الهدف في ظلِّ التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته.

        كما تميَّز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن، بين ما يملك من قوى وما يُريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي؛ أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادًا قويًّا من كافَّة النواحي، والتأكُّد من توافر كل أنواع القوة؛ بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوَّة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءً بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى؛ فإن أي قصور في أي نوع منها كفيلٌ بجلب الهزيمة على الجيش كله.

        خلُقه

        وكان t، من أحسن الناس خُلُقًا[5]، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد الصحابة –رضي الله عنهم؛ فلا عجب إذا رأينا منه حُسْنَ السيرة في أخلاقه مع رعيته، ولا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل؛ فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس؛ فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله تعالى .

        قال عنه الذهبي –رحمه الله: عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيّ أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر، وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض[6]، وذكره ابن بشكوال فيمن دخل الأندلس من التابعين[7].

        وذكر الحميدي أنه روى الحديث عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان صالحًا جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عَدْلَ القسمة في الغنائم[8].






        [1] مجهول: أخبار مجموعة ص31، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، وفيه أن محمد بن عبد الله الأشجعي ولي بعده شهرين، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/18.
        [2] انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص86، 87.
        [3] الحافظ أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/298، والزركلي: الأعلام 3/212.
        [4] الزركلي: الأعلام 3/212.
        [5] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275، والمقري: نفح الطيب 3/15.
        [6] الذهبي: تاريخ الإسلام 7/414.
        [7] المقري: نفح الطيب 3/15.
        [8] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #19
          معركة بلاط الشهداء

          فتوحات عبد الرحمن الغافقي

          بعد أن وحَّد عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- المسلمين، وتيقَّن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجَّه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل[1]، ثم مدينة بودرو[2] Bordeaux‪ ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة بواتييه[3] Poitiers، ثم وصل إلى تور[4] Tours، وهي المدينة التي تسبق باريس والمسافة الفاصلة بينهما حوالي 295كم، والمسافة بينها وبين قُرْطُبَة حوالي ألف كيلو متر؛ أي أنه توغَّل كثيرًا جدًّا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال[5].

          وعلى بعد بحوالي 25 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة بواتييه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تُسَمَّى البلاط[6]، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعَدُّ حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا[7].


          وقفة في تاريخ ومصادر معركة بلاط الشهداء

          لموقعة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع؛ ذلك أن المصادر الإسلامية تصمت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المعركة ما زال مفقودًا في بطون المخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور؛ فالمسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزوة أُحُد وحُنَين، وحتى سقوط غَرْنَاطة، أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً.

          فإن لم يكن ما كُتب عن المعركة مفقودًا، وكان المسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع المؤرخ المحقق الدكتور حسين مؤنس الذي أدهشه قلة التفاصيل، واجتهد في معرفة السبب فلم يجد إلاَّ أن قال: «الواقع أن المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114 و115 هـ»[8].

          وحين خلت تفاصيل المعركة من الرواية الإسلامية لم يبقَ في المتاح إلاَّ الرواية الأوربية المسيحية عنها، وهي روايات حافلة بكثير من التفاصيل، وبكثير من الأساطير كذلك.. ولقد تشبعت الروايات الأوربية بالمبالغات في وصف المعركة ووصف النصر العظيم للفرنجة، والهزيمة الساحقة الماحقة للمسلمين، مبالغة مَنْ رأى فيها إنقاذ المسيحية من الفناء على يد الإسلام الزاحف بسرعة مدهشة، والذي لم يقف أمامه حتى الآن شيء، فإذ به ينتقل من الشرق إلى الغرب، ومن جنوب المتوسط إلى شماله، ويكاد يجعل بحر المتوسط بحيرة تامَّة لمملكته الناهضة.

          إذًا فكلُّ ما نعرفه عن تفاصيل بلاط الشهداء مأخوذ من الرواية الأوربية لا غير، وخلاصة ما تُقَدِّمه الرواية الغربية نميل إلى تصديقه بعد استخلاصه من المبالغات، وإن كان لا يسلم من مؤاخذات واعتراضات كذلك، وسنعرض لها بعد توقُّفنا أمام المعركة.

          الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة

          رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- تلك إلاَّ أنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه؛ ومن ثَمَّ فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها.

          ثم عندما وصل عبد الرحمن الغَافِقِيُّ –رحمه الله- بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجدَّدت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ يقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم. ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد. ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك.

          يمكننا أن نضيف -أيضًا- ما قد يكون من زهو واغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي، ولم تقف لهم قوَّة ذات بال.

          معركة بلاط الشهداء



          التقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع شارل مارتل تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.

          حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.

          بالغت الروايات الأوربية كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شَكٍّ رقم مبالغ فيه جدًّا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يَتَعَدَّ خمسين ألفًا، أو ثمانين في أقصى التقديرات.

          بعد انقضاء اليوم العاشر انسحب المسلمون إلى الجنوب، وجاء اليوم الحادي عشر فنهض الفرنجة لمواصلة القتال، فلم يجدوا من المسلمين أحدًا، فتقدَّمُوا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية، وقد فاضت بالغنائم والأسلاب والخيرات، فظنُّوا الأمر خدعة، وتريَّثُوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا ما فيه، ولم يُفَكِّر أحد منهم في تتبُّع المسلمين؛ إما لأنهم خافوا أن يكون العرب قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركًا، أو ربما لأن شارل مارتل اطمأن أنه يستطيع العودة إلى بلاده في الشمال مطمئنًّا إلى انصراف المسلمين عنها[9].

          قصة الغنائم

          رأي الدكتور عبد الرحمن الحجي

          يرفض الدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه «التاريخ الأندلسي» قصة الغنائم هذه، ويسوق في الردِّ عليها جملة من الأمور هي: عدم ثبوت شيء متعلق بأن ثمة نزاعًا كان بين العرب والبربر لا من قبل المعركة ولا في الوقت الذي تلاها، كذلك ما يبدو في قصة الغنيمة من أسطورية تجانب ما عُرف عن الأهداف العليا للفتح الإسلامي، ولما عُرف عن الفاتحين في فرنسا من الزهد في مثل هذه الأمور، كما أنه من الغريب أن يحمل الفاتحون غنائمهم وهم متوجهون إلى معركة يعرفون أنها حاسمة، ولو قُدِّر أن اجتمع لهم مثل هذا القدر الضخم من الغنائم -كما تصف الرواية الأوربية- لكانوا أودعوها مدنًا مفتوحة وما حملوها معهم؛ لا سيما وقد أظهرت لنا طبيعة الفتوح في الأندلس اهتمام المسلمين بالخيل والسلاح تحديدًا لا بغير ذلك من الغنائم، كذلك تتناقض الرواية الأوربية حين تقول بأن الفرنج لم يكتشفوا حيلة المسلمين وانسحابهم إلاَّ في صبيحة اليوم التالي، وقد كانوا يتجهزون لقتال، ما يعني أنه لم تكن تبدو بوادر انتصار لهم ولا هزيمة للمسلمين، فضلاً عن أن تكون هزيمة ساحقة كما تمَّ تصويرها، بل الأرجح في هذه الحالة أن المسلمين انسحبوا بشكل تكتيكي طبيعي لَمَّا استشهد الغافقي، وهو قرار عسكري يُؤخذ بلا حرج حين تبدو صعوبة المعركة، ولا يعني في حدِّ ذاته هزيمة فادحة[10].

          إلاَّ أننا لا نميل كل الميل إلى كلام الدكتور الحجي، وإن كان طرح بعض ما يحتاج إلى دراسة متخصصة، ذلك أن الفاتحين من البشر ويجوز أن يحرصوا على الغنائم وأن يُفتنوا بها، وليسوا –على عظمتهم- بأكرم من الصحابة –رضي الله عنهم- الذين فُتنوا بها في غزوة أُحُد، كما أن الهزيمة في بلاط الشهداء إذا لم تكن كبيرة لكُنَّا سمعنا بعودة أخرى للمسلمين إلى تلك المناطق، إلاَّ أن ذلك لم يحدث؛ وهذا ما يعطينا الإيحاء القوي -الذي يفتقر للدليل الأكيد- بأنها كانت حقًّا هزيمة مؤثِّرة، وبها توقَّفت الفتوحات في شمال فرنسا، كذلك لا يُفَسِّر الدكتور الحجي طبيعة الصعوبات التي تدفع المسلمين لانسحاب ليس بعده رجعة، وقد عهدناهم في كل مراحل التاريخ -وفي فتح الأندلس نفسها- يُقاتلون في عدد وعدَّة أقل كثيرًا من عدوهم، وفي أرض لا يعرفونها كما يعرفها أصحابها.

          رأي الدكتور عبد الحليم عويس

          وأمَّا الدكتور عبد الحليم عويس فيبدو أنه ممن يميل إلى تفسير الغنائم كسبب للهزيمة؛ يقول: «قصة الغنيمة‏ في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تُلقيه علينا -كذلك- أغرب! لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين -عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة- كذلك! فقصة الغنيمة‏.‏‏.‏ هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول .‏‏.‏ وخالف الرماةُ أمرَه، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة‏.‏‏.‏ فكانت أُحُد،‏ وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خِيرَة المسلمين‏.‏‏.‏ بسبب الغنيمة‏.‏‏.‏ نعم بسبب الغنيمة!



          وكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي‏ آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي‏.‏‏.‏ سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء‏ إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة‏.‏‏.‏ وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق‏.‏‏.‏ وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة‏.‏‏.‏ أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصير،‏ لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك‏ خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ‏‏، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا‏‏ إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك-‏ السَّمْح‏ جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي‏‏ فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»‏[11].


          وعلى كل حال، فما زال الباحثون في انتظار الجديد الذي تجود به الأيام من نفائس المخطوطات، مما عسى أن يساعدنا في فهم هذه المعركة التي بها توقفت فتوحنا في أوربا.‏

          النصر الكارثي

          ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس: "إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية[12]".

          بين التاريخ والواقع

          يقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري t أن رسول الله قال: «فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[13]. فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

          أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ، حتى مرَّت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960م، فلمَّا قامت الحركات الاستقلاليَّة منذ سنة 1920م وما بعدها، فكَّرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلاَّ إشاعة الفتنة بين العرب والأمازيغ (البربر)، وضَرْب بعضهم ببعض، فكانت تُشِيعُ بين الأمازيغ البربر أنهم قريبون من العنصر الآري وهو العنصر الأوربي، وبعيدون عن العنصر السامي وهم العرب؛ أي: أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء. وذلك للتشابه الكبير بين الأمازيغ (البربر) والأوربيين في المظهر، وهذا ما لا يعترف به الإسلام ولا يُقِرُّه على الإطلاق، فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.

          ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق الأمازيغ (البربر)، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتمَّ فصل الأمازيغ (البربر) عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء، إلاَّ أنها لم تُفلح على الإطلاق في تحويل الأمازيغ البربر من الإسلام إلى النصرانية، فظلَّ الأمازيغ (البربر) على إسلامهم، وإن كانت لغتهم قد تغيَّرت.

          وكانت قبائل الأمازيغ (البربر) تمثِّل 15٪ من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية، إلاَّ أنهم كانوا يتمسَّكون بالعربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن حين قامت فرنسا بنفخ نار العصبية، بدأت تُذْكي الروح الأمازيغية (البربريَّة) في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تُعَلِّم اللغة الأمازيغية؛ حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديميةً خاصةً لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية؛ رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، وقامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة، وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة الأمازيغية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من الأمازيغ (البربر) لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا؛ حتى إنها في عام 1998م أنشأت ما يُسَمَّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تُجَمِّع الأمازيغ (البربر) من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتُعَلِّمهم اللغة الخاصة بهم؛ وكل ذلك لفصل الأمازيغ (البربر) عن العرب، تلك الجموع التي ما هي إلاَّ جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في بلاط الشهداء وما تلاها فلم تتوانَ، وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد مسلم عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تَقَدَّم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردَّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تُريد بلقنة فرنسا. أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، فهذا الأمر -في رأيهم- حلال على الجزائر حرام على فرنسا[14]!



          [1] آرل: هي مدينة في جنوب فرنسا، تقع في مقاطعة بوشيه دو رون، بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
          [2] بوردو (بالفرنسية: Bordeaux‏): هي مدينة فرنسية. تقع في جنوب غرب فرنسا.
          [3] بواتييه: مدينة فرنسية على بعد 332 كم إلى الجنوب الغربي من باريس.
          [4] تور: مدينة فرنسية تقع على نهر اللوار في وسط غرب فرنسا.
          [5] انظر تفصيل زحف عبد الرحمن الغافقي في بلاد فرنسا: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 87-91، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص193-203، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص221-227.
          [6] البلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر.
          [7] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص227.
          [8] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص228.
          [9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص229.
          [10] انظر التفصيل: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص197 وما بعدها.
          [11] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية ص7، 8.
          [12] انظر: شوقي أبو خليل: بلاط الشهداء ص 44، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص199-203.
          [13] البخاري: كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961.
          [14] فهمي هويدي: مقال: «درس فتنة الأمازيغ»، صحيفة الأهرام 3/7/2001م.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #20
            وقفات بعد معركة بلاط الشهداء

            وقفات

            بعد استشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه، وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون، وتوقَّفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض النقاط المهمَّة، والتي نَوَدُّ الوقوف أمامها قليلاً.



            أولها: لماذا لم يقمْ أهل الأندلس بالثورات رغم ضآلة الحاميات الإسلامية في الأندلس؟

            كان قِوَامُ الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس ثلاثين ألفَ مقاتلٍ، كان مع طارق بن زياد منهم اثنا عشر ألفًا[1]، وقد استُشهِد منهم في وادي بَرْبَاط ثلاثةُ آلافٍ، واستشهد مثلُهم في الطريق من وادي بَرْبَاط إلى طُلَيْطِلَة، فوصل طارق بن زياد إلى طُلَيْطِلَة بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا[2]، فأصبح قِوَام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل، تمَّ توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض مناطق جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تُفْتَح.

            فلماذا لم يقم أهل هذه البلاد -على سَعَتِها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة فيها؛ رغم قِلَّتها الملحوظة التي لا تُقارَن بعدد السكان على الإطلاق؟!

            ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب! فالسؤال الذي كان متوقعًا هو: لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا؛ تُنهب أموالهم وتُنتهك أعراضهم فلا يعترضون؛ حُكَّامهم في الثروات والقصور يتنعَّمُون، وهم لا يجدون ما يسدُّ الرمق، يزرعون الأرض وغيرُهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترَوْن مع تلك الأرض التي يزرعونها.

            فلماذا إذًا يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لُذريق جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!

            ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرَّم كل ما سبق، وجاء ليقول لهم: تعالَوْا أُعْطِكم بدلاً من الظلم عدلاً؛ ليس هبةً مني، لكنه حقٌّ لكم ولقومكم وأولادكم وذريتكم من بعدكم. إنه الإسلام الذي لم يُفَرِّق بين حاكم ومحكوم، فإن حدث لأيٍّ منكم مظلمة قام القاضي لا يُفَرِّق بين المسلم واليهودي والنصراني، أيًّا كان شكله أو لونه أو جنسه.

            إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم؛ إنما بقدر أعمالهم، والأعمال متاحة للجميع الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول فيه الحاكم لك: إِنْ كنتَ من المسلمين وكنت غنيًّا فلن تدفع إلاَّ 2.5٪ زكاةً لأموالك، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحَوْلُ، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئًا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.

            وإن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًّا وقادرًا على القتال -وليس غيرَ ذلك- فستدفع جزيةً؛ هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يُدَافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فستُرَدُّ إليك أموالك.
            إنه الإسلام خلاص الشعوب؛ وحين عرفه أهل الأندلس تمسَّكوا به، واعتنقوه اعتناقًا، ولم يرضَوْا عنه بديلاً؛ فكيف يحاربونه ويُضَحُّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذلِّ والحرمان؟!

            ثانيًا: ولكن البعض سيقول: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين؟! ألم يكن هناك ولو رجل واحد يُريد أن يثور ويعترض حبًّا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضُيِّعَتْ عليه؟!

            نقول: بلى؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح، الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويُحَقِّقوا مصالح كانت لهم، أمَّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده في قوله: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].

            فلقد كانت للمؤمن زمنَ الفتوحات رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامَّة، فالله يُلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً؛ فيخافه القريب والبعيد، يقول : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[3].
            ويقول : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].


            ولم يكن هذا الرعب بسبب بشاعة في الحرب، أو إجرام منقطع النظير، إنما كان هبة ربانية لجند الله ولأوليائه، فلم تكن حرب الإسلام إلاَّ رحمةً للناس كل الناس؛ فها هو ذا كما جاء في الحديث الشريف عن بُريدة رضي الله عنه حين كان يُوَدِّع الجيوش فكان يخاطبهم؛ قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»[4].
            وفي رواية: «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً»[5].

            فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا مِن قَتْلِ مائتي ألف مسلمٍ من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟! أين هذا من فِعْل الروس في الشيشان، وفِعْل الهنود في كشمير، وفِعْل اليهود في فلسطين، وفِعْل أميركا في أفغانستان والعراق؟!

            فرغم أن الرهبة والرعب أُلقِيَ في قلوب الأعداء، إلاَّ أن حروب المسلمين كانت رحمة للعالمين؛ حتى لقد سَعِدَ الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظلِّ حكم الإسلام أيما سعادة؛ عملاً بقوله : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

            فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاءٌ خاصٌّ بهم، ولم يُفَرَّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة؛ فكان العجب حقًّا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يَعْلَمُ ما يُصلِحُ كونَه وأرضه وعبيده؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

            ثالثًا: تساؤل البعض عن عوامل الهزيمة في بلاط الشهداء؛ إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته -وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين- بالغنائم وحب الدنيا؟! وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!

            وللإجابة على الشقِّ الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114هـ=732م فإنها قد حدثت مع الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 3هـ=625م وذلك في غزوة أُحُد، والتي نزل فيها قوله مخاطبًا الصحابة: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ } [آل عمران: 152]، وكأنَّ غزوة أُحُدٍ تُعيد نفسَها من جديد في بلاط الشهداء.

            فقد نزلت هذه الآية في الصحابة رضوان الله عليهم حين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم طلبًا للغنيمة، بعد أن تيقَّنوا من النصر، فكانت الهزيمة بعد النصر؛ حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنتُ أحسب أنَّ مِنَّا مَنْ يُريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152][6].

            وهكذا في بلاط الشهداء كانت الغَلَبَةُ للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفَّ النصارى حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوب المسلمين- حدث الانكسار في الجيش ثم هُزِمُوا.

            يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 152]، يقول: { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ }؛ أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد[7]. وهكذا في بلاط الشهداء، لم يُستَأْصَلِ الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.

            وإذا جئنا إلى ما قبل أُحُد، وإلى الرَّعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر وجدنا -أيضًا- صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم؛ حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تُعَظِّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 1]. وهو كلام له وَقْعُ السِّهَام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.

            ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس البشرية، وقد حدث مثله في بدر وفي أُحُد، لكن كان هناك اختلافٌ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أُحُد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمَّس المسلمين على الجهاد، وذكَّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد[8]، فكانت الغلبة وردُّ الاعتبار، أمَّا بعد بلاط الشهداء فلقد قام بالفعل رجل من المسلمين هو عقبة بن الحجاج -رحمه الله-، يُحَمِّسهم ويُشَجِّعهم، إلاَّ أنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كموقعة حمراء الأسد بعد أُحُد -يسترد فيها المسلمون اعتبارهم وثقتهم بأنفسهم.

            كذلك اختلف الفريقان في أن معظم جيش المسلمين في بلاط الشهداء لم يرجع عن حبِّه للدنيا وتعلُّقه بها، أمَّا في أُحُد فقد قال عنهم : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ } [آل عمران: 152]؛ ولذلك لم يَعُدِ المسلمون بعد بلاط الشهداء كما عادوا بعد أُحُد مباشرة.

            ومن أَوْجُهِ الشبه الكبيرة -أيضًا- بين أُحُد وبلاط الشهداء أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في أُحُد حدث الانكسار[9]، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبدُ الرحمن الغافقي -رحمه الله- انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.

            مشكلات القومية والعنصرية

            وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت -أيضًا- في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يُعَدُّ قَدْحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة، بقدر ما هو بيانٌ لأمور فُطِرَت وجُبِلَت عليها النفسُ الآدمية، لكن فرقٌ بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيِّها.
            ولعلَّنَا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذرٍّ رضي الله عنه وبين بلال بن رباح رضي الله عنه ؛ حين عيَّره أبو ذرٍّ بأُمِّه في خلاف بينهما؛ قائلاً لبلال: يابن السوداء.
            فذهب بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ: « طَفُّ الصَّاعِ[10]، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[11]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»[12].

            والعبرة هنا بردِّ فعل أبي ذرٍّ رضوان الله عليه حيال هذا الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذرٍّ إلاَّ أن وضع رأسه على التراب مُصرًّا على أن يطأ وجهَه بلالٌ رضي الله عنه بقدمه؛ حتى يُكَفِّر عن خطيئته تلك، وكان رَدُّ فعل بلال رضي الله عنه أن غفر لأبي ذرٍّ، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا -أيضًا- بين الأوس والخزرج، حين فَتَنَ بينهم شاسُ بن قيس، فقالت الأوس: يا لَلأَوس. وقالت الخزرج: يا لَلْخَزرج. وحينها قال الرسول : «اللهَ اللهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»[13].

            وليس أدل على تلك القَبَلِيَّة مما حدث بمجرَّد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مُسَيْلِمَة الكَذَّاب، حتى سُئِلَ رجلٌ من أتباع مُسَيْلِمَة: أتعلم أن محمدًا صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلمُ أنَّ محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكنَّ كاذب بني ربيعة، أحبُّ إليَّ من صادق مضر[14]. هكذا كانت النظرة قَبَلِيَّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبَه ما قال مثل قولته هذه.

            إذًا فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلاَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويُحَفِّز الناس بالإيمان ويُقَرِّبهم إلى ربهم، ويُذَكِّرهم بالآخرة: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزون ما حدث ولا يعودون، متذكِّرين قوله في كتابه الكريم: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون: 101- 103].



            [1] مجهول: أخبار مجموعة ص17، وابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والمقري: نفح الطيب 1/254.
            [2] مجهول: أخبار مجموعة ص24.
            [3] البخاري: كتاب التيمم 328 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة 521
            [4] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها، 1731.
            [5] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2614 عن أنس بن مالك.
            [6] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 7/294، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/136.
            [7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/133.
            [8] ابن عبد البر القرطبي: الدرر في اختصار المغازي والسير 1/167، وابن كثير: السيرة النبوية 4/52.
            [9] ابن كثير: السيرة النبوية 1/158.
            [10] طَفُّ الصاع: أي كلكم قريبٌ بعضُكم من بعض؛ فليس لأحد فضْلٌ على أحد إلا بالتقوى؛ لأَنَّ طَفَّ الصاع قريب من ملئه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طفف 9/221.
            [11] خولكم: خدمكم، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/115.
            [12] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك 30، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل... 1661.
            [13] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة المنافقون 4624 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا 2584.
            [14] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/277، وابن كثير: البداية والنهاية 6/360.
            التعديل الأخير تم بواسطة صباحو; الساعة 2011-08-23, 10:11 PM.

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #21
              عقبة بن الحجاج السلولي

              ولاية عبد الملك بن قطن الفهري 114-116هـ

              وصلت أنباء فاجعة بلاط الشهداء واستشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- إلى عبيدة بن عبد الرحمن القيسي والي إفريقية، فبعث إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك -رحمه الله- يُخبره بولاية عبد الملك بن قَطَن على الأندلس فأقَرَّه الخليفة عليها، وكان ذلك في رمضان وقيل: شوال عام 114هـ=732م [1].

              ظلم وجهاد

              كان همُّ عبد الملك بن قطن تثبيت أمر المسلمين في المناطق الفرنسية، التي بدأت تتهاوى بعد بلاط الشهداء، وقد نجح في ذلك بعزمه، وبانفضاض سكان الجنوب عن الولاء لشارل مارتل -الذي كان يُعاملهم بظلم وعسف ويطلق فيهم يد جنوده- وبغزوات قائده في أرْبُونَة يوسف الفهري[2]، ومع جهاده هذا إلاَّ أنه كان ظلومًا جائرًا عنيفًا سيِّئ السياسة، فلم يجد والي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب بُدًّا من عزله؛ بعد أن كثرت شكاوى الأندلسيين منه، فكان عزله في رمضان 116هـ=734م، بعد سنتين من ولايته الأولى[3].

              عقبة بن الحجاج 116-123هـ:

              اختار عبيد الله بن الحبحاب لولاية الأندلس مجاهدًا فذًّا يُسَمَّى عقبة بن الحجَّاج السلولي -رحمه الله، الذي تولَّى من سنة 116هـ=734م إلى سنة 123هـ=741م [4].



              وقد خُيِّر عقبة بين إمارة إفريقية بكاملها كل الشمال الإفريقي وبين إمارة الأندلس، ففَضَّلَ إمارة الأندلس؛ لأنَّها أرض جهاد؛ لملاصقتها لبلاد النصارى[5]. قال ابن عذاري: «أقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها»[6]. وقال المقَّرِي: «وَوَليَ عقبة بن الحجاج السَّلُولي من قِبَل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمودَ السيرة، مجاهدًا مظفَّرًا»[7].

              فتوحاته

              وقد قام عقبة بن الحجاج -رحمه الله- خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يُعَلِّمهم الإسلام؛ حتى إنه أسلم على يديه ألف من الأسرى[8]، وقد قال رسول الله : «لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»[9]. فكيف بألفٍ؟!

              بدأ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- يُعيد أمجاد الجهاد الإسلامي في بلاد فرنسا، فثبَّت أقدام المسلمين في بروفانس -جنوب شرقي فرنسا، وأقام فيها الرباطات[10]، واستولى عقبة على بلاد الدوفينيه -شرقي ليون، وفتح مدينة سان بول[11]، وفتح –رحمه الله- مدينة أرْبُونَة عاصمة مقاطعة سبتمانيا، وقرقشونة إحدى مدنها[12]، واتسعت فتوحات المسلمين حتى وصلت إلى مقاطعة بيدمونت بشمال إيطاليا[13].

              وواصل عقبة جهاده لإقرار الفتح في المدن الأندلسية لا سيما في الشمال الغربي في أرض جيليقية، التي لم تكن فُتحت حتى الآن، وبلغ في ذلك غاية ما يستطيع، إلاَّ أنه واجه -والحق يقال- بسالة نادرة، حتى ليروي صاحب «أخبار مجموعة» أنه «لم تبقَ في جيليقية قرية لم تُفتح غير الصخرة، فإنه لاذ بها ملك يقال له: بِلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، فلم يزل يقاتلونه ويغاورونه حتى مات أصحابه جوعًا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلاً ليست معهم عُشْر نَسوة[14] فيما يقال، إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل معهم جِبَاح النحل[15] عندهم في خروق الصخرة. وأعيا المسلمين أمرُهم، فتركوهم وقالوا: ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يكون أمرهم، واحتقروهم، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم»[16].

              ولقد ظلَّ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- مجاهدًا حسن السيرة بين جنده إلى أن استشهد سنة 123هـ=741م [17]، وباستشهاده تكون قد انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.


              [1]) مجهول: أخبار مجموعة ص31، والحميدي: جذوة المقتبس 7/287 وفيه أنه تولى سنة 115هـ، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، والمقري: نفح الطيب 1/236، 3/18.
              [2] المقري: نفح الطيب 1/236، وعن غزواته انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص92، وحسين مؤنس: فجر الأندلس 230-233.
              [3] المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
              [4] مجهول: أخبار مجموعة ص33، 34، وابن عذاري: البيان المغرب 2/29، 30، والمقري: نفح الطيب 1/236.
              [5] مجهول: أخبار مجموعة ص33.
              [6] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/29.
              [7] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/236.
              [8] ابن عذاري: البيان المغرب 2/29، والمقري: نفح الطيب 3/19.
              [9] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب... 3498) عن سهل بن سعد، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضوان الله عليهم ، باب من فضائل علي بن أبي طالب t 2406).
              [10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص233.
              [11] الأمير شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 105، 106، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص233.
              [12] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص204، 205.
              [13] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص234.
              [14] نَسوة: جرعة الشراب، والجرعة من اللبن. ابن منظور: لسان العرب، مادة نسا 15/321، والمعجم الوسيط 2/920.
              [15] الجباح: جمع الجبح وهو مواضع النحل في الجبل. ابن منظور: لسان العرب، مادة جبح 2/419.
              [16] مجهول: أخبار مجموعة ص34.
              [17] تاريخ ابن خلدون 3/141، والمقري: نفح الطيب 1/236، 3/19، وقيل: إن أهل الأندلس خلعوه في صفر 123هـ. وقيل: إن عقبة استخلف ابن قطن الفهري حين حانت وفاته سنة 121هـ، كما في ابن عذاري: البيان المغرب 2/30، وقيل: أخرجه ابن قطن الفهري سنة 121هـ. كما في أخبار مجموعة ص35.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #22
                ثورات الخوارج في المغرب والأندلس

                الفترة الثانية من عهد الولاة



                تبدأ هذه الفترة سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م [1]، وقد شهدت هذه الفترة حروبًا كثيرة ونزاعات متجدِّدة تحكَّمت فيها العصبيات القبلية والعنصرية البغيضة، التي اتخذها ولاة الأندلس في ذلك الحين دَيْنًا لهم في تعاملهم؛ سواء مع العرب أو الأمازيغ (البربر)؛ مما أدَّى إلى ظهور ثورات متعدِّدة، ودخول أفكار جديدة لم تعهدها الأندلس من قبلُ.


                ثورات الخوارج بالمغرب

                بوفاة عقبة بن الحجاج -رحمه الله- آلت ولاية الأندلس إلى عبد الملك بن قَطَن الفِهْرِيّ مرَّة ثانية 123هـ=742م [2]، وقد حفلت ولايته الثانية هذه بأحداث جسام، كادت أن تعصف بالإسلام في الأندلس كلية، كان أخطرها تجدُّد الصراع العنصري البغيض بين العرب والأمازيغ البربر، وظهور طائفة الخوارج، الذين أشعلوا أُوَار[3] الحرب وقادوا الثورة على عمال بني أمية، الذين أساءوا استعمال السلطة والمعاملة مع الأمازيغ (البربر)؛ مما أتاح للأمازيغ (البربر) اعتناق تلك الأفكار الخارجة عن الدين؛ فقد وجدوا فيها مناصًا لنيل حقوقهم المغتصبة من جَوْر الولاة[4].

                بدأت الفتنة الأمازيغية (البربرية) الكبرى في المغرب العربي على يد الخوارج، الذين تغلغلوا في صفوف الأمازيغ البربر ونشروا تعاليمهم، التي لاقت قبولاً واسعًا في المجتمع الأمازيغي البربري، الذي يُعاني من ظلم الولاة، فخرجوا بقيادة زعيمهم ميسرة المطغري –أو المدغري- على حاكم طَنْجَة عمر بن عبد الله المُرَادِيّ وقتلوه، وزحفوا إلى بلاد السوس في الغرب وقتلوا عاملها إسماعيل بن عبيد الله[5]، كان لكل هذا وقع الصدمة على عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقية، فجمع جموعه وجيَّش جيوشه؛ ليتدارك الأمر قبل فواته وتعاظم قوَّة الخارجين عليه، فالتقى الفريقان من العرب والأمازيغ البربر عند وادي شليف، وكانت الهزيمة المنكرة للعرب؛ فقد قُتِلَ فيها أشرافهم وفرسانهم وأبطالهم؛ لذلك سميت بمعركة الأشراف وذلك سنة 123هـ=742م [6].

                وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة هشام بن عبد الملك، فغضب غضبته الشهيرة؛ وقال: «والله! لأغضبنَّ لهم غضبة عربية، ولأبعثنَّ لهم جيشًا أوله عندهم وآخره عندي»[7]. فعزل هشامُ بن عبد الملك عبيدَ الله بن الحبحاب، واستقدمه في جمادى الآخرة سنة 123هـ، وبعث كلثوم بن عياض القُشَيْرِيّ على رأس جيش بلغ ثلاثين ألفًا، وعَهِد له بولاية إفريقية وضَبْط أمورها، وجعل معه ابن أخيه بَلْج بن بشر القُشَيْرِيّ، وثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ[8]، واستعدَّ الجيشان العربي بقيادة كلثوم بن عياض والأمازيغي البربري بقيادة خالد بن حميد الزَّنَاتِيّ، واقتتلوا قتالاً شديدًا، لكن دارت الدائرة على العرب، وقُتِلَ قائدهم كلثوم بن عياض، واستطاع بَلْج بن بشر أن ينجو بنفسه وبعضًا من جنده، وتحصَّنوا بمدينة سَبْتَة، وفرض الأمازيغ البربر الحصار على بَلْج ومَنْ معه لمدَّة سنة كاملة 123، 124هـ، وكانوا طوال هذا العام يستغيثون بعبد الملك بن قَطَن والي الأندلس، ولكن بلا مجيب[9]!


                ثورات الخوارج في الأندلس

                ويبدو أن عَدْوَى الخروج على الحكَّام انتقلت إلى الأندلس، فلم تلبث الثورة أن انتقلت إلى أمازيغ بربر الأندلس، الذين أعلنوا العصيان، وبدءوا بجِلِّيقِيَّة وأستورقة في الشمال الغربي للأندلس حيث الكثافة الأمازيغية البربرية، فقتلوا العرب وطردوهم من البلاد، إلاَّ ما كان من سَرَقُسْطَة فقد كانت الغلبة فيها للعرب[10].

                وبعد أن ثَبَّت الأمازيغ البربر أقدامهم في تلك المناطق، زحفوا باتجاه المدن الكبرى للسيطرة عليها من خلال ثلاثة جيوش، وَفْقَ خُطَّة ذكية أدركت مواطن الضعف في الولاية الأندلسية، وعملت على استغلالها:
                الأول: إلى طُلَيْطِلَة عاصمة الثغر الأدنى.
                الثاني: إلى قُرْطُبَة عاصمة الأندلس.
                الثالث: إلى الجزيرة الخضراء في أقصى الجنوب للبلاد.

                وأمام هذا الزحف الأمازيغي البربري لم يجد عبد الملك بن قَطَن بُدًّا من الاستعانة ببَلْج وأصحابه المحاصرين في سَبْتَة، وقد كان لا يرضى أن يُغيثهم، ولا يرضى أن يُنزلهم الأندلس حتى أكلتهم المجاعة، فبعث إليهم بالسفن والمئونة، وسمح لهم بالعبور إلى الأندلس؛ لإخماد الثورة الأمازيغية البربرية، التي كادت أن تعصف به[11]، وكانت المواجهة الأولى بين بَلْج بن بشر والجيش الأمازيغي البربري الثالث المتجه ناحية الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، وقد وقعت المعركة في ذي القعدة من عام 113هـ على مقربة من شَذُونَة، وأثبت فيها الجنود الشاميون بقيادة بَلْج بن بشر شجاعة وإقدامًا، رجَّحت كِفَّة النصر فيها للعرب، وفي التوقيت نفسه كانت قُرْطُبَة تصدُّ هجمات الجيش الأمازيغي البربري الثاني، وبمجرَّد أن انتصر بَلْج بن بشر على الجيش الثالث لحق بقُرْطُبَة فقاتل مع عبد الملك بن قَطَن الجيشَ البربري الثاني، فهزماه هزيمة ساحقة، حتى لم يبقَ من الأمازيغ البربر إلاَّ الشريد، الذي لحق بالجيش الأول المحاصر لطُلَيْطِلَة، وهناك عند وادي سليط جرت معركة طاحنة سُحق فيها الجيش الأمازيغي البربري الأول، وسُحقت ثورتهم، وتشتَّت جمعهم، وتفرَّقوا في البلاد، ولم تقم لهم بعدها قائمة[12].





                [1] بيان ذلك في ثبت الولاة كما هو عند المقري: نفح الطيب 1/298-300، وذكر الولاة كما هو ترتيب ابن عذاري في البيان المغرب 2/22-38.
                [2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/30، والمقري: نفح الطيب 1/236، وانظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص35، وفيه يقول: إن ولايته سنة 21هـ، وكذلك في البيان المغرب 1/53.
                [3] الأوار: حر الشمس والنار والدخان واللهب. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35، والمعجم الوسيط 1/32.
                [4] انظر في تفاصيل ذلك حسين مؤنس: فجر الأندلس ص170-173، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص79، 80.
                [5] مجهول: أخبار مجموعة ص34، 35، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/52.
                [6] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/53.
                [7] ابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
                [8] مجهول: أخبار مجموعة ص36، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/239، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54، 55، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20.
                [9] مجهول: أخبار مجموعة 37-42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/55، 56، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20، 21.
                [10] مجهول: أخبار مجموعة ص42.
                [11] مجهول: أخبار مجموعة ص42، 43، وابن عذاري: البيان المغرب 2/30، 31.
                [12] انظر تفصيل ذلك عند مجهول: أخبار مجموعة ص43، 44، وابن عذاري: البيان المغرب 2/31، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص174، 176، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص86، 87.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #23
                  العصبية القبلية بين القيسية واليمنية

                  مقتل عبد الملك بن قطن

                  خرج عبد الملك بن قَطَن مظفَّرًا بعد أن أنهى ثورة الأمازيغ (البربر) في الأندلس، ولكنه لم يطمئن على سلطانه ما دام بَلْج بن بشر وجنوده الشاميون في الأندلس، وكانت هواجس ابن قَطَن في محلِّها، فعندما عرض على بَلْج الجلاء من الأندلس، طبقًا لما اتفقا عليه قبل دخول بَلْج الأندلس، رفض بَلْج بن بشر وجنوده الشاميون أن يعودوا مرَّة أخرى إلى المغرب بعدما أنقذوا الأندلس وابن قَطَن، وقال بَلْج بأنه ولي الأندلس بعهد من عمِّه كلثوم بن عياض، الذي ولاَّه الخليفة أمر المغرب، وأيَّده في هذا ثعلبة بن سلامة، وتنادوا بخلع ابن قطن وتولية بلج، فانحازت إليهم العرب اليمانية في الأندلس، وهجموا على ابن قَطَن -الذي كان قد قارب التسعين من العمر- في قصره بقُرْطُبَة، واعتقلوه ثم صلبوه، وذلك في ذي القعدة 123هـ= سبتمبر 741م[1].

                  العصبية القبلية بين القيسية واليمنية



                  كان لمقتل عبد الملك بن قَطَن ردُّ فعل مؤلم ومؤثِّر، ألهب مشاعر الحقد والضغينة، وجدَّد الصراع بين القيسية واليمنية؛ فقد توجَّهت جموع المتحالفين مع قَطَن وأمية ابنا عبد الملك بن قَطَن نحو قُرْطُبَة، ودارت بينهم وبين الشاميين معركة ضارية عند أقوة برطورة في شوال (124هـ=742م)، قاتل فيها الشاميون قتالَ مَنْ يطلب الموت دون الحياة؛ فهي معركة مصيرية بالنسبة لهم، فهم إمَّا أن يكونوا بعدها أو ألاَّ يكونوا؛ لذلك كان النصر حليفهم، وفيها أُصيب بَلْج بن بشر بسهم، تسبَّب في موته بعدئذٍ، واختار الشاميون بعده ثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ أميرًا عليهم[2].


                  في هذه الأثناء تجمَّعت جموع المتحالفين مرَّة أخرى ناحية قُرْطُبَة للقضاء على الشاميين، فخرج لهم ثعلبة بن سلامة وجنده إلاَّ أنه هُزم هزيمة منكرة، وانسحب إلى مَارِدَة وتحصن بها، وصادف ذلك عيد الأضحى (10 ذي الحجة 124هـ)، فأحكموا الحصار على الشاميين، واطمأنُّوا إلى النصر وغرَّهم ما هم فيه من القوة، وشعر ثعلبة بذلك؛ فأرسل إلى عامله على قُرْطُبَة يستنجده ويطلب منه المساعدة العسكرية، فوصلت المساعدة من قُرْطُبَة في صبيحة عيد الأضحى، واستغلَّ ثعلبة انشغال المحاصرين عنه باحتفالاتهم، فباغتهم بالهجوم، وكانت مقتلة عظيمة، دفع فيها المتحالفون عليه الثمن باهظًا، ولم يتورَّع الشاميون عن القتل، ولا عن استرقاق أسراهم من الرجال والنساء والأطفال، البالغ عددهم عشرة آلاف أو يزيد، وقد حملهم ثعلبة إلى قُرْطُبَة، وهو يُريد أن يقتلهم جميعًا[3]، إلاَّ أن حنظلة بن صفوان -والي إفريقية للخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك- بعث أبا الخطَّار حسام بن ضرار الكلبي لإنقاذ الموقف في الأندلس، بعد أن كادت العصبية القبلية تعصف به، وذلك في رجب سنة (125هـ=743م)، وقد رضي البلديون والشاميون به[4].

                  أبو الخطار حسام بن ضرار

                  وصل أبو الخطَّار على رأس الطالعة الثانية من الشاميين للأندلس بعد طالعة بَلْج بن بشر الأولى، فأظهر العدل والإنصاف، وأطلق سراح الأسرى والسبي، وتوحَّدت كلمة المسلمين في الأندلس، وأنزل أهل الشام في الكُوَرِ، ومن هنا عاد الاستقرار والهدوء النسبي إلى الأندلس حينًا[5].

                  ولكن يبدو أن داء العصبية والقبلية كان متجذِّرًا في النفوس آنذاك، فما هي إلاَّ أيام حتى غلبت النزعة القبلية على أبي الخطَّار وهو يمني متعصب، ووصلت به عصبيته إلى أن تحاكم إليه يمني وقيسي، وكان القيسي أبلغ حُجة من اليمني، ولكن غلبت عليه عصبيته فحكم لليمني، فما كان للقيسي إلاَّ أنه ذهب إلى زعيم قومه القيسية وهو الصَّمِيل بن حاتم؛ ليطلب حقَّه المسلوب، فذهب الصَّمِيل إلى أبي الخطَّار، فأهان أبو الخطَّار الصَّمِيلَ، وضربه حتى اعوجَّت عمامته، فقال له بعض الحجَّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجَوْشَن. فقال: إن كان لي قوم فسيُقِيمُونها[6]. وكان ذلك إيذانًا باشتعال أُوَار الحرب مرَّة أخرى بين القيسية واليمنية.

                  الصميل بن حاتم

                  استطاع الصَّمِيل بن حاتم أن يجمع قومه، وأن يستقطب بعض الشخصيات اليمنية الساخطة على أبي الخطَّار من اللخميين والجُذَاميين، كان منهم ثَوَابَة بن سلامة العَامِلِيّ الجُذَامي، الذي وعده الصَّمِيل بالولاية إن هو انتصر على أبي الخطَّار[7].

                  وعجل أبو الخطَّار إلى لقاء الصَّمِيل وقومه القيسية، وكان اللقاء عند وادي لكة في رجب 127هـ= إبريل 745م[8]، وقد تفرَّق جمع أبي الخطَّار بعد أن تقاعس الكلبيون عن قتال بني عمومتهم من اللخميين والجُذَاميين، ووجد أبو الخطَّار نفسه وحيدًا، فعزم على الفرار إلى قُرْطُبَة، ولكن الصَّمِيل قبض عليه وسجنه وخلعه، وولَّى مكانه ثَوَابَة بن سلامة الجُذَامي عام (128هـ=745م)[9]، فاجتمع رجال اليمنية من أنصار أبي الخطَّار لنصرته، واستطاعوا التغلُّب على حُرَّاسه، وأخرجوه من سجنه بقُرْطُبَة، فأقام بين قبائل كلب وحمص، واعترفوا به واليًا شرعيًّا على الأندلس، وبدأ أبو الخطَّار يأخذ خطوات عملية نحو استعادة مُلكه الضائع، الذي سلبه منه القيسية بزعامة الصَّمِيل، وتوجَّه بجموعه إلى قُرْطُبَة ليأخذها، فخرج إليه ثَوَابَة بن سلامة، فتفرَّق الناس عن أبي الخطَّار، وانسحب بجيشه، ليُعِيدَ الكرة مرَّة أخرى[10].

                  ولم ينعم ثَوَابَة بن سلامة بمُلك الأندلس طويلاً؛ فقد وافاه الأجل بعد عام من ولايته في المحرم (129هـ=746م)، وبقيَت الأندلس أربعة أشهر بعده دون والٍ، مع أن الصَّمِيل يستطيع أن يُنَادي بنفسه واليًا، إلاَّ أنه لم يفعل، واكتفى برصد اللعبة السياسية وإدارتها من وراء الستار[11].
                  وقد تميزت هذه الفترة من عهد الولاة بكثرة المرشَّحين للولاية، ولكلٍّ منهم أتباعه، فهذا أبو الخطَّار الكلبي، وهذا يحيى بن حريث الجُذَامي، وهذا عمرو بن ثَوَابَة مدعيًا أنه أحق بالولاية بعد أبيه، وفوق ذلك كله كان عقل الصَّمِيل بن حاتم وتدبيره، وليس أدلَّ على ذلك قوله: «نُقَدِّم رجلاً يكون له الاسم ويكون لنا الحظُّ»[12].


                  الصميل بن حاتم ويوسف الفهري

                  اشتد النزاع بين الأطراف المتنازعة على الولاية، وبدا كل منهم متمسكًا برأيه وأحقيته، محتميًا بقومه وعشيرته، وفي هذا الجوِّ المشحون بالعصبية، التي تُفضي إلى التقاتل والتناحر، توصَّل الصَّمِيل إلى حلٍّ يقضي بتقاسم السلطة بين القيسيين واليمنيين على شكل تعاقب سنوي في الحكم[13]، واقتنع الطرفان، وبقيت المشكلة في أول والٍ للأندلس، وقد بادر القيسية بقيادة الصَّمِيل إلى تقديم شخصيتهم الأولى؛ فاقترح الصَّمِيل أن يكون يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ هو أول الولاة، واستطاع الصَّمِيل أن يُرْضِيَ يحيى بن حريث؛ فأعطاه كورة ريَّة فرضي بها وقنع، ووقع الاتفاق بين القيسية واليمنية على يوسف الفِهْرِيّ في جمادى الأولى (229هـ=747م)، على أن يجتمع القوم بعد عام ليختاروا الشخصية اليمنية التي ستلي الأمر بعد يوسف الفِهْرِيّ[14].

                  معركة شقندة

                  وما أن استقرَّ الأمر في الأندلس، حتى عزل الصَّمِيل يحيى بن حريث الجُذَامي عن كورة ريَّة، حتى لا تقوى شوكته مرَّة أخرى ويكثر أنصاره من اليمنية؛ فاشتدَّ غضب يحيى بن حريث لهذا القرار، وسارت رُوح العصبية مرَّة أخرى، ووضع يحيى بن حريث يده في يد أبي الخطَّار، فاجتمعت كلمة الجُذَامِيين والكلبيين وباقي اليمنية في الأندلس لمناصرة يحيى بن حريث، واجتمعت كلمة مضر وربيعة لمناصرة يوسف الفِهْرِيّ والصَّمِيل بن حاتم[15].

                  وزحف أبو الخطَّار ويحيى بن حريث ناحية قُرْطُبَة، وعسكر الجيش عند نهر قُرْطُبَة (الوادي الكبير) عند قرية شقندة، وعبر الصَّمِيل والفِهْرِيّ وجنودهما إليهما، ودارت معركة شقندة (130هـ=747م)[16]، وقد استمرَّ القتال سجالاً بين الفريقين، حتى استعان الصَّمِيل بعَوَامِّ السُّوقِ وغوغائها، فاشترك أربعمائة منهم في القتال، ليس لهم همٌّ إلاَّ القتل، فلمَّا رأى اليمنيون ذلك دبَّ الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وأثخن القيسية فيهم القتل، وكان منهم عمرو بن حريث وأبو الخطَّار الكلبي الذي قُتِلَ بعد أن وقع في الأسر، وأراد الصَّمِيل أن يشفي غليله وأحقاده من اليمنية، فأمر بالأسرى أن يُقتلوا صبرًا، فقُتِلَ منهم سبعون، ثم تَدَخَّل حليفه أبو العطاء الجُذَامي فأمره أن يكُفَّ عن المذبحة فكَفَّ[17]، وهكذا كُسرت شوكة اليمنية في الأندلس ودانت البلاد لأمر الفِهْرِيّ والصَّمِيل، لا ينازعهما فيها أحد.

                  ولاية يوسف الفهري الفعلية على الأندلس

                  يبدو أن يوسف الفِهْرِيّ أردا الخلاص من تلك الوصاية الفعلية عليه من قِبَل الصَّمِيل، فأمر بتعيين الصَّمِيل عاملاً له على إقليم سَرَقُسْطَة في عام (132هـ=750م)، وقبِلَ الصَّمِيل.

                  ولكن لماذا وافق الصَّمِيل على عرض الفِهْرِيّ وقَبِلَ هذا الإبعاد المتعمَّد؟!
                  كانت بلاد الأندلس تمرُّ بفترة قحط ومجاعة عظيمة؛ نتيجة للحروب المتزايدة بين العرب اليمنية والقيسية، وبين العرب والبربر، ودامت هذه المجاعة خمس سنوات (131-136هـ=749-755م)، وقد سلم من هذه المجاعة إقليم سَرَقُسْطَة، فكان في حالٍ من الرغد والخير؛ لذلك قَبِل الصَّمِيل العرض، كما أن الصَّمِيل فطن إلى أن يوسف الفِهْرِيّ ما بعثه إلى سَرَقُسْطَة إلاَّ ليذل به اليمنية وهم أكثر أهلها، إلاَّ أن الصَّمِيل فتح خزائنه ولم يأتهِ صديق ولا عدوٌّ إلاَّ أعطاه[18].

                  خلا الجوُّ للفِهْرِيِّ في قُرْطُبَة، فلم يَعُدِ الصَّمِيل وصيًّا عليه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ كان ضعيف الشخصية ولم يكن له في أمور السياسة، فثار الناس عليه، وخرج عليه عامر بن عمرو العَبْدَرِيُّ، وهو يمني[19] خاف أن يفعل الصَّمِيل باليمنية في سَرَقُسْطَة ما فعله بهم في شقندة وما بعدها، وكان باستطاعة يوسف الفِهْرِيِّ أن يقضي عليه في قُرْطُبَة إلاَّ أن جبنه وتردُّده حال دون ذلك؛ إذ رأى أن يأخذ برأي الصَّمِيل أولاً، فنصحه الصَّمِيل بقتله، وفطن عامر العَبْدَرِيُّ لمحاولة يوسف الفِهْرِيِّ قتله، فصرف عامر العَبْدَرِيُّ نظره عن قُرْطُبَة، وأراد أن يقوم بعمل يقضي به على شوكة الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيِّ، وبما أن الرجل كان يمنيًّا متعصبًا، فقد فكَّر في الالتجاء إلى اليمنية في سَرَقُسْطَة، والتحالف معهم على القضاء على القيسية، فكاتب زعيمًا من زعمائهم وهو الحباب الزهري، فاجتمعت كلمة اليمنية، وعزموا على حصار الصَّمِيل في سَرَقُسْطَة، وذلك في عام (136هـ=753م) [20].

                  فلما اشتدَّ الحصار على الصَّمِيل بعث إلى يوسف الفِهْرِيِّ يطلب نجدته وعونه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ تباطأ في الردِّ عليه، ويبدو أن الفِهْرِيَّ كان سعيدًا مسرورًا؛ لأنه سيتخلَّص من وصاية الصَّمِيل الثقيلة عليه، إلاَّ أن أتباع الصَّمِيل من القيسيين جمعوا جموعهم لنصرة زعيمهم الصَّمِيل، وانضمَّ إليهم نفر من بني أمية ومواليهم –لغرض غامض سنكشفه بعد قليل- وكان على رأسهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد[21].

                  وانطلقت جموع القيسية ومعهم بنو أمية ومواليهم لنجدة الصَّمِيل، وما كادت تصل طلائعها حتى جزع المحاصِرون ورفعوا الحصار عن الصَّمِيل، وعلى الفور انطلق الصَّمِيل ناحية قُرْطُبَة، ثم هاجم عامر العَبْدَرِيُّ والزهري سَرَقُسْطَة فاستوليا عليها، ثم أن الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيّ هاجما المدينة، ووقع العَبْدَرِيُّ والزهري في قبضة الصَّمِيل الذي أمر بقتلهما[22].


                  [1] مجهول: أخبار مجموعة ص 45، وابن عذاري: البيان المغرب 31، 32، والمقري: نفح الطيب 3/19.
                  [2] مجهول: أخبار مجموعة ص45-47، وابن عذاري: البيان المغرب 1/56، 2/32، والمقري: نفح الطيب 3/22.
                  [3] مجهول: أخبار مجموعة ص47، وابن عذاري: البيان المغرب 2/32، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
                  [4] مجهول: أخبار مجموعة ص48، وابن عذاري: البيان المغرب 2/33، 34، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
                  [5] مجهول: أخبار مجموعة ص48، 49، والمقري: نفح الطيب 3/22، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص91، 92، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص189، 190.
                  [6] مجهول: أخبار مجموعة ص57، وابن عذاري: البيان المغرب 2/34، والمقري: نفح الطيب 3/23.
                  [7] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
                  [8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
                  [9] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24، 95، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص194، 195.
                  [10] مجهول: أخبار مجموعة ص58، 59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
                  [11] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص97.
                  [12] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/25.
                  [13] محمد سهيل طقوش تاريخ المسلمين في الأندلس ص98.
                  [14] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
                  [15] مجهول: أخبار مجموعة ص59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36.
                  [16] مجهول: أخبار مجموعة ص60، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص99، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص197، 198.
                  [17] مجهول: أخبار مجموعة ص60، 61، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36، 37، والمقري: نفح الطيب 3/25، 26.
                  [18] مجهول: أخبار مجموعة ص62، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37.
                  [19] مجهول: أخبار مجموعة ص63.
                  [20] مجهول: أخبار مجموعة ص63، 64، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37، والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص201.
                  [21] مجهول: أخبار مجموعة ص65.
                  [22] مجهول: أخبار مجموعة ص65-67، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37، والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص202، 203.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #24
                    سقوط الدولة الأموية

                    الخلافة الأموية في الشرق

                    الوليد بن يزيد بن عبد الملك



                    بعد وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك عام (125هـ) بدأت عوامل الضعف تسري في جسد الدولة الأموية، وبدت الخلافة وكأنها تسير نحو الهاوية؛ فبوفاة الخليفة هشام بدأت الاضطرابات والفتن والقلاقل تظهر على مسرح الأحداث، واستمرَّ الأمر كذلك نحوًا من سبع سنوات داخل البيت الأموي نفسه، فبعد وفاة هشام بُويع للخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (الوليد الثاني)، وقد استهلَّ الوليد خلافته بالاهتمام بأحوال رعيته اهتمامًا شاملاً، ثم ما لبث أن ارتكب جنايات كثيرة؛ كان أعظمها تنكيله ببني عمه سليمان وهشام، وتنكيله بكبار رجال دولته، ثم إظهاره للمجون والخلاعة والعبث؛ مما عجَّل بسقوط مُلْكه وخلافته، ثم قتله.

                    يزيد بن الوليد بن عبد الملك

                    قُتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثْرَ ثورة قام بها يزيد بن الوليد بن عبد الملك اشترك معه فيها أمراء البيت الأموي واليمنية، وما أن تمَّت البيعة ليزيد بن الوليد (يزيد الثالث) حتى قامت المعارضة العنيفة في وجهه، وتزعَّمها أبناء عمومته، كما ثارت عليه الأقاليم الشامية، فلم يهنأ بخلافته طويلاً، ولم تَدُمْ خلافته سوى ستة أشهر (جمادى الآخرة - ذو الحجة سنة 126هـ)؛ حيث توفي في ذي الحجة، ليترك الشام -وهي الحصن الحصين للدولة الأموية- تشتعل نارًا، كما ترك أبناء أسرته منقسمين على أنفسهم، منشغلين بصراعاتهم عن الأخطار المحدقة بهم، وبصفة خاصة الخطر العباسي.
                    إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

                    ثم بُويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك عام (127هـ)، ولكن لم يتم له الأمر؛ إذ انقلب عليه مَرْوَان بن محمد وانتصر عليه في عين الجر، وبويع له بالخلافة في ربيع الآخر (127هـ)، فكانت مدَّة خلافة إبراهيم بن الوليد ما يقرب من أربعة أشهر.

                    مروان بن محمد (الحمار)

                    تسلَّم مَرْوَان بن محمد الخلافة الأموية ليُصَارع أحداثًا أقوى منه، ويُواجه دنيا مُدبِرَة ودولة ممزقة، قُدِّرَ له أن يكتب الفصل الأخير من حياتها، فبعد حالة من السكون والاستقرار إِثْر بيعة مَرْوَان بن محمد بالخلافة، اندلعت الثورات في كل مكان في الدولة؛ فهناك ثورة في حمص، وأخرى في الغوطة، وثالثة في فلسطين، واضطرابات في العراق قام بها الخوارج والشيعة، وأخطر من ذلك كله كان انقلاب أمراء البيت الأموي عليه؛ كسليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن العزيز، وقد كان انهماك مَرْوَان الثاني في إخماد الثورات والفتن؛ سببًا في انشغاله عن الاهتمام بما كان يجري في المشرق، خاصَّة في خراسان التي كانت مركزًا للدعوة العباسية، وقد انتشرت في المنطقة انتشارًا واسعًا، واستقامت الأمور فيها لبني العباس؛ مما أدَّى إلى اقتناع الدعاة العباسيين بأن الوقت قد حان للجهر بها، وبدأت رايات العباسيين تنساح في البلاد انسياحًا سريعًا.

                    معركة الزاب

                    التقت سيوف الأمويين والعباسيين، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة عند نهر الزاب في شهر جمُادَى الآخرة عام (132هـ)، استمرَّت أحدَ عشرَ يومًا انتهت بهزيمة مَرْوَان بن محمد ثم قَتْلِه، لتبدأ حِقبة جديدة في التاريخ الإسلامي، هي الخلافة العباسية.

                    أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة في الأندلس

                    نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض، نستطيع بإيجاز شديد أن نُلَخِّص أهمَّ الأحداث التي تمخَّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:
                    أولاً: فُقِدَت كثير من الأراضي الإسلامية في فرنسا[1].
                    ثانيًا: ظهرت مملكة نصرانية في الشمال الغربي عند منطقة الصخرة، تُسَمَّى مملكة (ليون)([2].
                    ثالثًا: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية -الأموية في ذلك الوقت- وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ[3].
                    رابعًا: انقسمت الأندلس إلى فرقٍ عديدةٍ متناحرة، وثورات لا نهاية لها، فكلٌّ يُريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.
                    خامسًا: أمر خطير جدًّا وهو ظهور فكر الخوارج، الذين جاءوا من الشام، واعتناق الأمازيغ (البربر) له؛ وذلك أن الأمازيغ (البربر) كانوا يُعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبَل يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيِّ؛ مما مهَّد عقولهم لقبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خَلاصًا مما يحدث لهم ممَنْ ليسوا على فكر الخوارج[4].

                    سادسًا: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة (132هـ=750م)، وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، الذي كان قيامًا دمويًّا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين؛ ومن ثَمَّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان.

                    ونتيجة لهذه العوامل جميعًا فقد أجمع المؤرخون على أن الإسلام كاد أن ينتهي من بلاد الأندلس، وذلك في عام (138هـ=755م)، وأصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضلٍ من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين؛ وذلك بدخول رجل يُدعَى عبدَ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة عام (138هـ= مايو 756م).

                    ملامح عهد الولاة الثاني

                    حُبُّ الدنيا

                    في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفُتِحَت الدُّنيا عليهم، في حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا»[5]. وهكذا فُتِحَت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثَّر بذلك إيمانُهم.

                    ظهور العنصرية والقبلية

                    وتبعًا لتأثُّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس؛ حدثت انقسامات بين العرب والأمازيغ (البربر)، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)؛ حتى إنه كانت هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز، ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم؛ بين الفِهْرِيين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض[6].

                    ظلم الولاة

                    وإضافة إلى حبِّ الغنائم وتفاقم ظاهرة القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نُسمِّيه ظلم الولاة، فقد تولَّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط؛ كان منهم -على سبيل المثال- عبد الملك بن قَطَن، فقد كان ظالمًا جائرًا[7].

                    وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ الذي تولَّى عام (130هـ=748م) وحتى آخر هذه الفترة، وآخر عهد الولاة كلية سنة (138هـ= 755م)[8]، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة داخل بلاد الأندلس [9].

                    تَرْك الجهاد

                    كنَّا نتحدَّث منذ قليل عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي ذي الدنيا قد تمكَّنت من القلوب، وها هي ذي العنصرية قد ظهرت، وها هو ذا ظلم الولاة يُسْلِمُ الناس إلى هذه الثورات، وكردِّ فعل طبيعي جدًّا لكلِّ هذا ترك الناسُ الجهاد، وتوقَّفت الفتوحات في فرنسا، وتوقَّفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، التي كان يتمركز بها مجموعة من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسُنَّة إلهية فما تَرَكَ قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاَّ ضرب الله عليهم الذلَّ، يروي أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ[10]، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ[11]، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[12]. وهكذا كان الحال حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسَلَّط الله عليهم الذلَّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.

                    [1] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس ص239-251.
                    [2] انظر تفصيل ذلك في فجر الأندلس، ص255-286.
                    [3] ابن عذاري: البيان المغرب 1/62.
                    [4] مجهول: أخبار مجموعة ص42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
                    [5] البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى (1396) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم: كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم (1052).
                    [6] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص129-79، ص183-203.
                    [7] المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
                    [8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35-38، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25.
                    [9] انظر التفصيل عند ابن عذاري: البيان المغرب 2/38.
                    [10] بيع العينة: هو أن يبيع الرجل شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. العظيم آبادي: عون المعبود 9/242، والمناوي: فيض القدير 1/403.
                    [11] وأخذتم أذناب البقر: كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. المناوي: فيض القدير 1/403.
                    [12] أبو داود: كتاب الإجارة، باب النهي عن العينة (3462)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (11).



                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #25
                      صقر قريش .. عبد الرحمن الداخل

                      نشأة عبد الرحمن الداخل



                      لكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى أرض الأندلس، يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً حتى سنة (132هـ=750م)، وهو زمن سقوط الدولة الأموية في المشرق، فقد قتل العباسيون كلَّ مَن كان مُؤَهَّلاً من الأُمَوِيِّين لتولِّي الخلافة؛ فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء (الأحفاد)، إلا قلَّة ممَّن لم تصل إليهم سيوفُهم[1].


                      وكان من هؤلاء الذين لم تصل إليهم سيوف بني العباس- عبدُ الرحمن بن معاوية حفيدُ هشام بن عبد الملك الذي حكم من سنة (105هـ=723م) إلى سنة (125هـ=743م).

                      وقد نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عَمَّ أبيه يراه أهلاً للولاية والحكم، وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، فترك ذلك في نفسه أثرًا إيجابيًّا، ظهرت ثماره فيما بعدُ[2]، ولما بلغ رَيْعَانَ شبابه انقلب العباسيون على الأمويين، وأعملوا فيهم السيف -كما ذكرنا- حتى لا يُفَكِّر في الخلافة أحدٌ منهم؛ فكانوا يقتلون كلَّ مَنْ بلغ من البيت الأموي، ولا يقتلون النساء والأطفال، وكان هذا في سنة (132هـ).

                      هروب عبد الرحمن الداخل

                      هرب عبد الرحمن بن معاوية من مكانه ومستقره في قرية دير خنان من أعمال قنسرين بالشام إلى بعض القرى في العراق ناحية الفرات، ولكن المطاردة العباسية المحمومة –بما جنَّدته من مكافآت وعيون تبلغها الأنباء- بلغته في مكانه، وبينما كان يجلس في بيته؛ إذ دخل عليه ابنه ذو الأربع سنوات يبكي فزعًا، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضًا معتزلاً في الظلام في ركن من البيت؛ لأنه كان يُعاني من رمد في عينه، فأخذ يُسَكِّن الطفل بما يُسكَّن به الأطفال، إلاَّ أن الطفل ظلَّ فزعًا مرعوبًا لم يهدأ، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود (رايات الدولة العباسية) خارج البيت، وكانت تعمُّ القرية جميعها، فعلم أنَّه مطلوب، فرجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه هشام بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأنه يعلم أنهم لن يمسوهم بسوء.

                      وانطلق عبد الرحمن هاربًا –ومعه أخوه هشام- نحو الفرات، وعند الفرات أدركتهما خيول العباسيين، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون: أن ارجعا ولكما الأمان. وأقسموا لهما على هذا، كانت الغاية أن يقطعا النهر سباحة حتى الضفة الأخرى، إلاَّ أن هشامًا لم يقوَ على السباحة لكل هذه المسافة، ثم أثَّر فيه نداء العباسيين وأمانهم، فأراد أن يعود، فناداه عبد الرحمن يستحثُّه ويُشَجِّعه: أن لا تَعُدْ يا أخي، وإلاَّ فإنهم سوف يقتلونك. فردَّ عليه: إنهم قد أَعْطَوْنَا الأمان. ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى قتلوه أمام عيني أخيه، وعَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلَّم، أو يُفَكِّر من شدَّة الحزن على أخيه ابن ثلاث عشرة سنة، ثم اتجه إلى بلاد المغرب؛ لأن أمَّه كانت من إحدى قبائل الأمازيغ (البربر)، فهرب إلى أخواله هناك، في قصة هروبٍ طويلة جدًّا وعجيبة -أيضًا- عبر فيها الشام ومصر وليبيا والقيروان[3].

                      وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى بَرْقَة (في ليبيا)، وظلَّ مختبئًا فيها خمس سنين إلى أن يهدأ الطلب والمطاردات، ثم خرج إلى القيروان، وكانت القيروان حينئذٍ في حكم عبد الرحمن بن حبيب الفهري([4]، وكان قد استقلَّ -فعليًّا- بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية.

                      كان عبد الرحمن بن حبيب من نسل عقبة بن نافع فاتح المغرب الأول، وكان ابن عم يوسف الفهري الذي كان يحكم الأندلس، وكان يرغب في أن يحكم الأندلس -أيضًا- إذ الأندلس تَبَعٌ للمغرب، وكان ظهور عبد الرحمن بن معاوية مما يُعَطِّل هذه الأماني.

                      لماذا يعطل ظهور عبد الرحمن بن معاوية آمال عبد الرحمن بن حبيب الفهري؟

                      إجابة هذا السؤال فيها جانب واقعي تقريري، وجانب آخر طريف يتمثَّل في النبوءة!
                      عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، والحاكم الفعلي لمنطقة الشمال الإفريقي، وابن عم صاحب الأندلس يوسف الفهري، يعلم أن عبد الرحمن بن معاوية -وهو الأموي سليل بيت الخلافة الأموية التي فتحت هذه البلاد، ونصبت هؤلاء الولاة على مقاليدها، وكانت تملك عزلهم وتوليتهم- لا يسعه أن يجلس في بيته قانعًا من الحياة بالعيش الطيب فحسب، بل لا بُدَّ له أن يطلب حقه في مُلك آبائه وأجداده الخلفاء، فما هذه إلاَّ بلاد هم الذين افتتحوها وملكوها وحكموها بالإسلام.

                      وهذا في الواقع صحيح جدًّا، وهو -بالمناسبة- التفسير الذي يُفَسِّر تلك الدموية البالغة التي استعملتها الدولة العباسية في القضاء على الأمويين؛ إذ ما دام وُجد أمويٌّ أو عصبة أموية فإنها لن تفتأ تُفَكِّر في استعادة مُلكها المغصوب؛ ومن هنا كان لا بُدَّ من اجتثاث الأمويين تمامًا لإنهاء هذه المعضلة الخطيرة، والتي أخطر ما فيها مسألة «الشرعية»؛ إذ حُكْم بني أمية لهذه البلاد بعد أن فتحوها بجهادهم لا يُشَكُّ في شرعيته، بينما انقلاب العباسيين على الأمويين موضع أخذ وردٍّ وقيل وقال.

                      فظهور أموي في بلاد المغرب كعبد الرحمن بن معاوية يفتح في ذهن صاحب المغرب –كما سيفتح في ذهن صاحب الأندلس فيما بعدُ- بابًا من الخوف والتوجُّس والانزعاج؛ إذ الأموي أحق بحكم تلك البلاد، وهي من ميراث أجداده الخلفاء العظام.

                      دار هذا في ذهن عبد الرحمن بن حبيب، ولا شَكَّ أنه دار -أيضًا- في ذهن كلِّ صاحب رأي، وكل مَنْ كان من أهل الحلِّ والعقد والرئاسة والزعامة. هذا هو الجانب الواقعي.

                      نبوءة مسلمة بن عبد الملك

                      أمَّا الجانب الطريف فهو مسألة النبوءة!
                      أجمعت كتب التاريخ على أن مسلمة بن عبد الملك -الفاتح العظيم وفارس بني أمية الذي تولَّى فتح بلاد الشمال والقوقاز كما ذكرنا- كان يتنبَّأ بزوال مُلك بني أمية في المشرق، ثم هروب فتى منهم لإحيائه في بلاد المغرب مرَّة أخرى! وتزيد بعض الكتب فتقول بأنه كان يتوقَّع أن يكون عبد الرحمن بن معاوية هو هذا الفتي الذي سيُقيم مُلك الأمويين في المغرب بعد زواله في المشرق.

                      وبهذه النبوءة يُفَسِّر كثير من المؤرخين أحداث هذه الفترة، فيُفَسِّرون بها إصرار العباسيين على مطاردة عبد الرحمن بن معاوية خاصة، ويُفَسِّرون بها اتجاه عبد الرحمن بن معاوية إلى بلاد المغرب، ويفسرون بها حُبَّ هشام بن عبد الملك ورعايته لحفيده عبد الرحمن هذا دون غيره من أبنائه وأحفاده، ويفسرون بها -أيضًا- سعي عبد الرحمن بن حبيب لقتل عبد الرحمن بن معاوية في القيروان.

                      وما يزيد في الطرافة أن النبوءة تقول بأن صاحب الأندلس يُرسل شَعْرَه ويجعل فيه ضفيرتين، فكان عبد الرحمن بن معاوية بهذا الوصف، وكذا كان عبد الرحمن بن حبيب أيضًا[5].
                      ما حقيقة هذه النبوءة في الواقع التاريخي؟
                      الحقيقة أن النبوءات دخلت في العديد من أحداث التاريخ، ولكن -على حدِّ علمي- في كل هذه الأحداث ليس من دليل يقول بأن هذه النبوءة وُجدت أو قيلت قبل وقوع الأحداث نفسها، ثم جاءت الأحداث تصدق النبوءة.

                      وهذه النبوءة التي نحن بصددها لا تختلف عن هذا، فليس في كتب التاريخ التي وصلت إلينا ما يُؤَيِّد أنها نبوءة ظهرت قبل وقوع الأحداث، لا سيما وأننا نتحدَّث عن تاريخ مبكِّر جدًّا، في بداية القرن الثاني الهجري، قبل أن تُكتب المصادر التاريخية التي بين أيدينا.

                      والشاهد في موضوعنا أن عبد الرحمن بن حبيب كان يرجو هو -أيضًا- أن يكون صاحب الأندلس، فهو من أبناء الملوك، وهو صاحب جديلتين؛ ومن ثَمَّ فظهور مَنْ يُنافسه في النبوءة -أيضًا- كان من الخطر الذي لا بُدَّ من التخلُّص منه.

                      وكان عبد الرحمن بن حبيب قد عرف بخبر النبوءة من خادم يهودي له كان قد خدم مسلمة بن عبد الملك، فأوصل ذلك الخادم لعبد الرحمن بن حبيب نبوءة مسلمة من أن قرشيًّا أمويًّا يملك بلاد المغرب بعد زوال الأمر من المشرق[6].

                      ولما كثر الهاربون الأمويون الواصلون إلى أرض المغرب، ازدادت خشية عبد الرحمن بن حبيب من تَكَوُّن عصبة أموية في بلاده، فأخذ في طرد الكثير منهم، وقتل اثنين من أبناء الوليد بن يزيد، وتزوَّج غصبًا بأخت إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان، وأخذ مالاً له، ثم جدَّ في طلب عبد الرحمن بن معاوية[7].

                      إلى بلاد الأندلس

                      بلغ ذلك عبد الرحمن الداخل الذي ما كان له أن تفوته مثل هذه الأمور، فلما أن طلبه عبد الرحمن بن حبيب كان قد خرج من القيروان إلى تادلا، ومنها إلى مضارب قبيلة نفزة بالمغرب الأقصى، وهم أخواله؛ إذ إن أمَّ عبد الرحمن كانت جارية من نفزة، ولم يكن الوضع هناك بالآمن؛ إذ إن وجود الخوارج في هذه المنطقة -وهم الذين يكرهون الأمويين- كان يجعل مقامه هذا -أيضًا- مقامًا على شفا جرف هارٍ[8].

                      في الواقع لم يَعُدْ أمام عبد الرحمن بن معاوية إلاَّ بلاد الأندلس، وإذا جرينا وراء النبوءة فيمكننا أن نقول بأن بلاد الأندلس لم تكن فقط وجهته الوحيدة، بل كانت -أيضًا- مطلبه وغايته وهدفه القديم منذ أن سمعه صبيًّا من عم أبيه مسلمة بن عبد الملك.

                      فعبد الرحمن مطلوب الرأس في أيِّ قُطْرٍ من بلاد المسلمين؛ ففي أقصى الشرق من فارس وما يليها تكمن شوكة العباسيين ومعقلهم الرهيب، وقد كانت فارس في هذه الأثناء تحت حكم الرجل القوي الجبار أبو مسلم الخراساني، الذي لُقِّبَ بحجاج بني العباس، وفي العراق عاصمة العباسيين، وفي الشام ومصر سلطة العباسيين مكينة كذلك، وفي الشمال الإفريقي وبلاد المغرب الإسلامي مطلوب من عبد الرحمن بن حبيب والخوارج.

                      هذا من ناحية الأخطار التي يمكن أن تحيط بالفرد العادي إن كان مطلوبًا، فكيف وهو من بني أمية الذين لا يأمن أحد الملوك على ملكه وتحت سلطانه واحد منهم؟! لم يكن يسعه في الحقيقة إلاَّ أن يعيش أميرًا أو ملكًا، وإلاَّ فلن يعيش. بذا قضى قانون الواقع على عبد الرحمن بن معاوية.
                      كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقباله؛ وذلك لأنها:
                      أولاً: أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج.
                      وثانيًا: لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدًّا؛ وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري في نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة؛ ففي هذا الجوُّ يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع -أيضًا- أن يدخلها؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وُعُورَتها واحتدام الثورات فيها.


                      [1] انظر تفصيل ذلك عند ابن كثير: البداية والنهاية 10/48، وتاريخ ابن خلدون، 3/132.
                      [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والمقري: نفح الطيب 1/328، 3/53.
                      [3] المقري: نفح الطيب، 3/28، وما بعدها.
                      [4] الذهبي: تاريخ الإسلام، 8/25.
                      [5] انظر في أخبار النبوءة: مجهول: أخبار مجموعة ص53، 54، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/53، والناصري: الاستقصا 1/175.
                      [6] ابن عذاري: البيان المغرب 1/156.
                      [7] المقري: نفح الطيب 3/29، والناصري: الاستقصا 1/175.
                      [8] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/244.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #26
                        عبد الرحمن الداخل في الأندلس

                        خطة دخول الأندلس



                        في سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:

                        أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف الفهري[1].

                        ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر[2]، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين، والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.

                        ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم[3].

                        كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4] –مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه[5]. فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.

                        وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا بحول الله تعالى وقوته[6]. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.

                        عبد الرحمن الداخل في الأندلس

                        نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات[7].

                        وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.

                        كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح[8].

                        وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك[9]، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.

                        موقعة المصارة

                        من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي (ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على اليمنيين من جهة أخرى[10].
                        وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا وحدنا للفهريين.

                        وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها، وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة[11].
                        ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري[12].

                        عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

                        كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].

                        يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:
                        أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.
                        ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.
                        ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم[14].

                        وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن الداخل تعصب لنسبه المضري[15].
                        وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس[16].

                        بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

                        ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال: «يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك[17].

                        ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي[18].

                        لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛ إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس [19].


                        [1] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/ 239، وسير أعلام النبلاء، 8/244، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/167.
                        [2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/239، وابن كثير: البداية والنهاية، 10/80.
                        [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/ 123.
                        [4] الحقيقة أن بدرًا مولى عبد الرحمن الداخل من أكثر الشخصيات تأثيرًا في قصة الداخل هذه، وله دور كبير منذ لحظة الهروب من الشام ثم قيامه بالسفارة لعبد الرحمن في أمر من أخطر الأمور؛ مثل: توليه الأندلس وتوثيقه للتحالف، ثم سيصير قائد جيوش عبد الرحمن، ثم سينتهي نهاية مأساوية وغامضة، دون أن يعرف أحد الأسباب الحقيقية مما يثير حيرة المؤرخين، إلى جانب أن المعلومات المعروفة عنه قليلة جدًّا.
                        [5] هذا نص كلامه: «إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما، فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على جوانبه ولا يسعنا بدل منه». المقري: نفح الطيب 3/30.
                        [6] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/31.
                        [7] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص73، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/42، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
                        [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/123.
                        [9] المصدر السابق، 5/123، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
                        [10] مجهول: أخبار مجموعة، ص80، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
                        [11] مجهول: أخبار مجموعة، ص82.
                        [12] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
                        [13] المقري: نفح الطيب، 3/42.
                        [14] انظر: القاضي أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية، ص55، ويوسف القرضاوي: فقه الجهاد، ص1011، وسعود بن عبد العالي البارودي العتيبي: الموسوعة الجنائية الإسلامية ص183.
                        [15] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84.
                        [16] المقري: نفح الطيب 3/34.
                        [17] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
                        [18] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
                        [19] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.


                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #27
                          صقر قريش وثورة العباسيين

                          عبد الرحمن الداخل



                          بعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله قُرْطُبَة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا[1]، فكان له الكثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس، وعُرِفت الفترة التي تلت دخوله قُرْطُبَة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ=755م وتنتهي سنة 316هـ=928م، وسُمِّيت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية؛ سواء كانت في عصر الدولة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.


                          وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، ورث بعضها وبعضها الآخر ثار عليه، وبصبر شديد وأناة عجيبة، أخذ عبد الرحمن الداخل يُرَوِّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وتعامل مع كلٍّ منها بما يتوافق معها؛ فاستمال مَنِ استطاع من الثائرين، وحارب الباقين.

                          ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138هـ=755م وحتى سنة 172هـ=788م [2]- قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.

                          الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل

                          تَعَرَّضَتِ الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلَّب عليها جميعًا؛ ومن هذه الثورات:
                          ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني، وثورة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143هـ=760م [3]، وثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ=761م [4]، وثورات أخرى تتابعت عليه من سنة 144هـ إلى سنة 146هـ، وثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ=763م [5]، وثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149هـ=766م [6]، وثورة أبي الصباح حيِّ بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ=766م [7]، وثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي سنة 151هـ=768م [8]، وثورة اليمانية في إِشْبِيلِيَة بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 156هـ=773م [9]، وثورة سليمان بن يقظان في بَرْشُلُونَة سنة 157هـ=774م [10]، وثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161هـ=777م [11]، وثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166هـ=782م [12]، وثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168هـ=784م [13]، وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، ولكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها.

                          صقر قريش وثورة العباسيين

                          ولن نقف إلاَّ أمام ثورة واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146هـ=763م؛ أي: بعد حوالي ثمان سنوات من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي[14].

                          وكان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح، قد رَاسَلَ العلاء بن مغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية؛ ومن ثَمَّ يضمُّ الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية[15].

                          وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورة يدعو فيها للعباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور[16].

                          ولم يتوانَ عبد الرحمن الداخل عن محاربته، فقامت لذلك حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن الداخل، وانتصر عبد الرحمن الداخل كعادته في قمع الثورات، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور -وكان في الحجِّ- بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتِل.
                          وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتَلْنَا هذا البائس. يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع، يعني: عبد الرحمن الداخل، الحمدُ لله الذي جعل بيننا وبينه البحر[17].

                          وكفَّ أبو جعفر من ساعتها عن التفكير في استعادة بلاد الأندلس.

                          صقر قريش

                          يعد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمَّى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وهو اللقب الذي اشتُهِرَ به بعد ذلك.

                          فقد ذُكِرَ أن أبا جعفر المنصور قال يومًا لبعض جلسائه: أخبروني: مَنْ صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء.
                          قال: ما قلتم شيئًا!
                          قالوا: فمعاوية (معاوية بن أبي سفيان)؟ قال: لا.
                          قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئًا.
                          قالوا: يا أمير المؤمنين؛ فمَنْ هو؟
                          قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا، منفردًا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدَّة شكيمته، إنَّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلَّلا له صعبه؛ وعبدُ الملك ببيعة أُبْرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عِتْرَته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيَّدٌ برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين.
                          فقال الجميع: صدقتَ والله! يا أمير المؤمنين[18].

                          وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًّا بعبد الرحمن الداخل، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.

                          عبد الرحمن الداخل والخلافة العباسية:

                          تُثير قضية هذا الانفصال الطويل الذي دام بين الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرِّ العصور عدَّة تساؤلات في نفوس جميع المسلمين؛ فلماذا ينفصل عبد الرحمن الداخل -الرجل الورع التقيُّ الذي أقام دولة قوية في بلاد الأندلس- بالكلية عن الخلافة العباسية؟!

                          ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحقِّ الأمويين؛ وذلك بقتلهم وتَتَبُّعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقُّوا الاستبدال فليكن تغييرُهم، وَلْيَكُن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا قتل وسفك للدماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

                          كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صُقْع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.

                          فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدَّث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المصارة، ويقول لهم حين أرادوا أن يَتَتَبَّعُوا الفارِّين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم[19]. ليضمَّهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم؛ حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدًّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.

                          عفو الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة

                          وهذا -أيضًا- المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا فعل بعد أن دخل مكة، وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها؟! وماذا قال عن أبي سفيان وهو مَنْ هو قبل ذلك؟! ما كان منه إلاَّ أن دخل متواضعًا، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[20]. أليس أبو سفيان هذا هو زعيم الكفر وزعيم المشركين في أُحُدٍ والأحزاب؟! فلماذا إذًا يقول عنه مثل هذا؟! إنما كان يُريد أن يخطب وُدَّه، ويضمَّه إلى صفِّه، وبالمثل فعل الرسول مع رءوس الكفر في مكة حين قال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. فرَدَّ عليهم بمقولته التي وعاها التاريخ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[21].

                          وليس هذا من كرم الأخلاق فحسب، لكنه -أيضًا- من فنِّ معاملة الأعداء، وحُسْنِ السياسة والإدارة، فَلْنتخيَّلْ ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحَدَّ وقطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنواتٍ وسنواتٍ؟! بلا شكٍّ كان سيُحدِث جيبًا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الأخرى للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللانفصال عن الدولة الإسلامية.

                          لكن العجب العُجَاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فقد ارتدَّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبقَ على الإسلام منها إلاَّ المدينة ومكة والطائف، وقرية صغيرة تُسَمَّى هجر، ثلاث مدن وقرية واحدة فقط؛ أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلاَّ قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات فقط كانت في تعداد هذه المدن القليلة التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شكٍّ فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يَنْسَوْه، فكان أن استُوعِبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزَّيْغِ.

                          وكان هذا ما سيتكرَّر لو فعل العباسيون مثله واستوعبوا الأُمَوِيين في داخل الدولة العباسية؛ ولأنهم لم يفعلوا ذلك فكان أن اضْطُرَّ مَنْ نجا من الأمويين للذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.

                          وواقع الأمر يقول: إنه لو كان عبد الرحمن الداخل يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يَعفو عنه ويُعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سَلَّم الأمرَ إليه فلربما كان يفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومَنْ معه من الأمويين إن كانوا مرشَّحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًّا، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قِبَلِ الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شكَّ أن الدولة العباسية قد غيَّرت كثيرًا من نهجها الذي اتَّبَعَتْهُ أولاً، وتولَّى بعد ذلك رجالٌ كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيَّر ما بدأه تمامًا، لكن كانت هناك قسوة شديدة في البَدْء؛ بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمَنْ يحاول الالتفاف على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائمًا هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تَعُدْ مددًا للمسلمين طيلة عهدها؛ فالعنف في غير محلِّه لا يُورِثُ إلاَّ عنفًا، وطريق الدماء لا يُورث إلاَّ الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلاَّ من سبيل واحد فقط؛ إنه الطريق المستقيم طريق الله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].

                          وقفة مع عبد الرحمن الداخل في قضائه على الثائرين

                          ذكرنا -فيما سبق- أنه في خلال الأربع والثلاثين سنةً الممتدَّة من بداية حكم عبد الرحمن الداخل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورةً في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا -أيضًا- كيف روَّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمِّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمَّ القضاء عليها.

                          وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الداخل أن يُقاتِل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
                          وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ أي: مجتمع عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[22].

                          ومن هنا فقد كان موقف عبد الرحمن الداخل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكرِّرَة، والتي تُضعِف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد، إلاَّ أنه من الإنصاف أن نذكر أنه –رحمه الله-كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلاَّ إذا كان مضطرًا.

                          وبلا شكٍّ فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًّا؛ ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس 138-142هـ=755-759م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبعٍ وأربعين سنةً متصلة، منذ أيام موسى بن نصير / وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سُنن الله الثوابت، فما أن شُغِل المسلمون بأنفسهم إلاَّ وكان التقلُّص والهزيمة أمرًا حتميًّا.


                          [1] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/122، والمقري: نفح الطيب، 1/329.
                          [2] ابن عذاري: البيان المغرب، ص41، والمقري: نفح الطيب، 1/333.
                          [3] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص92، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/136.
                          [4] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص95، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
                          [5] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/51.
                          [6] مجهول: أخبار مجموعة، ص96، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/178، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53، وتاريخ ابن خلدون، 4/122.
                          [7] مجهول: أخبار مجموعة، ص96، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
                          [8] مجهول: أخبار مجموعة، ص97، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/54، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
                          [9] مجهول: أخبار مجموعة، ص98، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/55، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
                          [10] مجهول: أخبار مجموعة، ص102، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
                          [11] مجهول: أخبار مجموعة، ص100، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/56.
                          [12] مجهول: أخبار مجموعة، ص103، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/56، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
                          [13] مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/57.
                          [14 انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/51.
                          [15] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/122، والمقري: نفح الطيب، 1/332، 3/36.
                          [16] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/52.
                          [17] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/52، والمقري، نفح الطيب، 3/36.
                          [18] انظر: أخبار مجموعة، ص107، وما بعدها، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/59.
                          [19] المقري: نفح الطيب، 3/42.
                          [20] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة 1780 عن أبي هريرة، وأبو داود 3021، وأحمد 7909، وابن حبان 4760.
                          [21] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/411، والطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/55، وابن كثير: البداية والنهاية، 4/301.
                          [22] مسلم: كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 1852 عن عرفجة بن شريح.


                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #28
                            عبد الرحمن الداخل وبناء دولة الأندلس

                            حين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بما يأتي:
                            أولاً: إنشاء جيش قوي

                            وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
                            1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية

                            أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
                            ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].

                            ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.

                            وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.

                            2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة

                            أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.

                            3- إنشاء أسطول بحري قوي

                            أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.

                            4- تقسيم ميزانية الدولة

                            كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.

                            ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ

                            أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
                            - نَشْر العلم وتوقير العلماء.
                            - اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
                            - اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

                            - كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].

                            وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].
                            وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].

                            ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي

                            ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
                            - اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.

                            - إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].

                            رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء

                            بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
                            المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:
                            - الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
                            - الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
                            - الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
                            المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.


                            [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
                            [2] المقري: نفح الطيب، 3/36.
                            [3] المصدر السابق، 3/36.
                            [4] المصدر السابق، 3/49.
                            [5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/229، والمقري: نفح الطيب، 1/545.
                            [6] أبو الحسن النبهاني: تاريخ قضاة الأندلس، 1/43.
                            [7] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/191.
                            [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/280، والمقري: نفح الطيب، 1/467.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #29
                              عبد الرحمن الداخل .. القائد والإنسان

                              عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ



                              لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.


                              مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
                              «كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].

                              شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.

                              ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
                              ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].

                              إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.

                              وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.

                              عبد الرحمن الداخل.. الإنسان

                              مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.

                              وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.

                              قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
                              يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي

                              فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
                              فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ

                              عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
                              لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ

                              مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
                              لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي

                              بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]

                              ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
                              أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي

                              أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
                              إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ

                              وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
                              قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا

                              فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]

                              عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري

                              تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.

                              ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
                              أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة

                              فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.

                              ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.

                              ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف

                              وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.

                              حياة صقر قريش في سطور

                              لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.

                              وفاته

                              عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].


                              [1] المقري: نفح الطيب، 3/37.
                              [2] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/37.
                              [3] المصدر السابق، 3/39.
                              [4] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/41، 42.
                              [5] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/37.
                              [6] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، 242، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/36.
                              [7] المقري: نفح الطيب، 3/33.
                              [8] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/58، والمقري: نفح الطيب، 3/48.


                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • #30
                                الإمارة الأموية في الأندلس

                                الإمارة الأموية



                                ظلَّ عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (172هـ=788م) أي قُرابَةَ أربعةٍ وثلاثين عامًا -كما ذكرنا- وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية، والتي استمرَّت من سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (316 هـ=928م).


                                وحتى نستطيع أن نفهم عهد الإمارة الأموية يمكنُنا تقسيمه إلى فتراتٍ ثلاثٍ كما يلي:
                                الفترة الأولى: فترة القوة

                                واستمرَّت مائة عام كاملة (138-238هـ= 755-852م)، وتُعتَبَر هذه الفترة هي فترة القوَّة والمجد والحضارة، وكانت فيها الهيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق.

                                الفترة الثانية: فترة الضعف

                                وتُعَدُّ فترة ضعف، وقد استمرَّت اثنين وستين عامًا (238-300هـ=852-913م).

                                الفترة الثالثة: فترة الانتقال للخلافة الأموية

                                وهي ما بعد سنة (300هـ=913م)، وحتى (316 هـ)، وهي فترة التأسيس والانتقال لعصر الخلافة الأموية.

                                الفترة الأولى: فترة القوة

                                تُمَثِّل هذه الفترة عهد القوَّة في فترة الإمارة الأموية؛ كانت البداية فيها لعبد الرحمن الداخل -رحمه الله- ثم خَلَفَه من بعده ثلاثة من الأمراء، كان أوَّلهم هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقد حكم من سنة (172هـ=788م) حتى سنة (180هـ=796م) [1].


                                [1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/334.

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X