إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

    لماذا نكتب في التاريخ؟



    لأن هذا الكون وكل ما فيه يسير على سُنَنٍ ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأننا في حاجة لإدراك هذه القوانين؛ كي نتمكَّن من استعمال نِعَمِ الله الكثيرة التي خلقها I وسخَّرها لنا في هذا الكون؛ بل لكي نستطيع أن نحيا الحياة الصحيحة باستيعابنا للتجارب السابقة التي جرت عليها سنن الله في كونه، ذلك أن هذه السنن لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، قال : { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [فاطر: 43].


    إنها قاعدة قرَّرها الله I في كتابه، وجعلها -أيضًا- من سننه الثوابت، التي يمكن للجميع إدراكها واستغلالها؛ ومن أبسط الأمثلة العملية على هذا: أننا نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظلُّ يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته I أن ثَبَّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين -مثلاً- وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غدٍ عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس، ولن تستقرَّ أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكلٍ فيه تبدُّل وتحوُّل لم يُعهَد من قبل.
    كذلك النار؛ تحرق وستظلُّ تحرق إلى يوم القيامة..

    صحيح أن ثمة استثناءات لا يُبنى عليها، فتلك النار التي من أهمِّ خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم عليه السلام ، فهذا استثناء بل هي معجزة ربانية ، والمؤمن الكيِّس لا ينتظر المعجزات ولا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على القوانين التي يمكنه أن يُدرك بنفسه أنها ثابتة؛ إن أحدًا لا يمكنه أن يضع يده -مثلاً- في النار! ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث لإبراهيم عليه السلام فذلك غير جائز، ولا يصحُّ أن يتفوَّه به أحدٌ؛ لأنه لا يتوافق مع سُنَنِ الله التي أقرَّها في كونه، وقِسْ على ذلك ما شئت؛ فالإنسان والحيوان بصفة عامَّةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو شراب، ولو امتنع أي إنسان عن الطعام والشراب فترة فمآله -لا محالة- إلى الموت.

    التاريخ والواقع

    إن لله جل في علاه سننًا ثابتة في تغيير الأمم وتبديل أحوالها؛ سواء كان هذا التبديل من الضعف إلى القوة، أو كان من القوة إلى الضعف، فبحسب الطريق الذي تسلكه كل أُمَّة تكون خاتمتها، ونحن حينما نقرأ في التاريخ ونُقَلِّب في صفحاته نُشاهد سنن الله تعالى في التغيير والتبديل؛ فالتاريخ يُكَرِّر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله! لَكَأَنَّك وأنت تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عامٍ أو يزيد - تشعر وكأنها الأحداث نفسها التي تتمُّ في هذا الزمن، مع اختلاف في الأسماء والتفاصيل فحسب.

    فأنت حين تقرأ تاريخ الماضي فكأنك تقرأ أحداث المستقبل بتفصيلاتها؛ ذلك أن أحداث المستقبل هذه لن تتمَّ إلاَّ على هذه السنن الثابتة، التي جعلها الله في تبديل الأمم وتغيير أحوالها؛ فانظر في أي طريق تسير الآن لتعرف إلى أي مصير ستصل، والمؤمن العاقل هو الذي لا يبدأ من الصفر فيُكَرِّر كل ما فعل السابقون، وإنما يقف أمام تاريخهم فيسير على درب مَنْ أصاب فأفلح، ويبتعد عن طريق المخطئين الخاسرين.

    وفي تاريخ الأندلس خير دليل على هذا؛ لذلك فنحن نحاول تحليل هذا التاريخ تحليلاً دقيقًا؛ نحاول أن نُقَلِّب صفحاتٍ ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نُظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يُخرجوه لنا في صورة باطلٍ وهو حقٌّ، أو في صورة حقٍّ وهو باطلٌ؛ فكثيرٌ يحاولون أن يُزوِّروا تاريخنا الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدُّ خطيرة، يجب أن يُتصدَّى لها.


    لماذا تاريخ الأندلس؟

    لأن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من عام (92هـ=711م) إلى (897هـ= 1492م)؛ أي ثمانمائة وخمس سنين (هجريًّا)، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد عام 897هـ، فهي فترة ليست بالقليلة من تاريخ الإسلام؛ فمن غير المقبول إذًا ألاَّ يعرف المسلمون تفاصيل فترة شغلت في الزمن أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر.

    والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لطول فترته، مرَّ فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان؛ فقد قام فيه كثير من الدول وارتفع نجمها، وسقط فيه -أيضًا- كثير من الدول وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية؛ ومن ثَمَّ راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير منها أصبحت ضعيفة، وأصبحت لا تستطيع حماية أرضها، أو تعتمد على غيرها في حمايتها؛ مثلما يحدث الآن، وظهر -أيضًا- في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر الخائف الجبان، ظهر التقيُّ الورع، كما ظهر المخالف لشرع ربه تعالى ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وكذلك الخائن لنفسه ودينه ووطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الجميع؛ حاكم ومحكوم، عالم وأمِّيٌّ.
    وما من شكٍّ أن دراسة مثل هذه الأمور يُفيد كثيرًا في استقراء المستقبل للمسلمين.

    أحداث في تاريخ الأندلس

    إن في تاريخ الأندلس أحداث يجب أن نعرفها:
    من الضروري أن نعرف موقعة وادي برباط؛ تلك الموقعة التي تُعَدُّ من أهمِّ المعارك في التاريخ الإسلامي، ليس لأنها الموقعة التي فُتحت فيها الأندلس فقط؛ ولكن لأنها تُشَبَّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، ومع ذلك فإن الكثير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي بَرْبَاط.

    ومن الضروري -أيضًا- أن نعلم هل قصة حرق السفن -التي يُقال: إنها حدثت في عهد طارق بن زياد -رحمه الله- حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت، إنْ كانت قد حدثت؟ وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!
    ثم يجب أن نعرف مَنْ يكون عبد الرحمن الداخل -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون:
    لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.


    كما يجب أن نعرف مَنْ هو عبد الرحمن الناصر، أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى على الإطلاق؛ ويجب أن نعرف كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟

    وكذلك يوسف بن تاشفِين -رحمه الله- ذلك القائد صاحب موقعة الزلاقة، يجب أن نعرفه ونعرف كيف نشأ؟ وكيف ربَّى الناس على حياة الجهاد؟ وكيف تمكَّن من الأمور؟ بل وكيف ساد دولةً ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من فتراتهم؟
    وأبو بكر بن عمر اللمتوني.. هذا المجاهد الذي دخل الإسلامَ على يده أكثرُ من خمس عشرة دولة إفريقية.
    ومن المهم -أيضًا- أن نتعرَّف على أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، صاحب موقعة الأركِ الخالدة؛ تلك التي دُكَّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا.
    كما يجب أن نعرف دولة المرابطين وكيف قامت؟ ودولة الموحدين وكيف قامت؟
    ومن الضروري أن نعرف مسجد قُرْطُبَة، ذلك المسجد الذي كان يُعَدُّ أوسع مساجد العالم، وكيف حُوِّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟! وكذلك مسجد إِشْبِيلِيَة ينبغي أن نعرفه.
    وينبغي أن نعرف جامعة قُرْطُبَة والمكتبة الأموية، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء..

    ينبغي أن نعرف قصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالاً، وهي اليوم في عِدَاد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا، وتُزار من عموم الناس؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

    موقعة العقاب تلك التي مُنِيَ فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوُّقهم على عدوِّهم في العدد والعُدَّة، وكأنَّ موقعة حُنَيْن عادت من غابر التاريخ؛ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُرَ في الأندلس شابٌّ صالحٌ للقتال.

    كما يجب أن نعرف كيف سقطت الأندلس؟ وما عوامل السقوط؟ التي إن تكرَّرت في أُمَّة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.

    ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس -في غرب أوربا- متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوربا؟

    كما يجب ألاَّ ننسى مأساة وفاجعة بَلَنْسِيَة، وكيف قُتِل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما أحداث مأساة أُبَّذَة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرون في يوم واحد؟

    ثم يجب أن نذكر دائمًا مأساة بَرْبُشْتَر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يومٍ واحدٍ، وسُبيت سبعة آلاف فتاة بِكْر من فتيات بَرْبُشْتَر؟! وقد شاهدنا هذه الأحداث الغابرة تُعِيد التحدُّث عن نفسها في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين.
    لو عرفنا هذا كله، وعرفنا ردَّ فعل المسلمين، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.

    تساؤلات في التاريخ الأندلسي

    نعلم أن كثيرًا من التساؤلات، بعد قراءة هذه المقالات ستظل في حاجة إلى إجابة.. إن اتساع مساحة الفترة التاريخية التي نتناولها تجعل من العسير –إن لم يكن من المستحيل- أن نستوعب كل ما يمكن أن يُكتب فيها في مثل هذه المساحة المرصودة للمقالات؛ لذا فلقد حاولنا قدر الاستطاعة وفي حدود ما هو متاح أن نُقَدِّم «قصة الأندلس» كملامح عامة لهذه الفترة التاريخية الثريَّة، كي تكون في ثوبها المختصر ماثلة في الأذهان قريبة من أكبر عدد من شرائح القراء، ولا سيما الشباب الذين هم عدة الحاضر وبشارة المستقبل.

    كما أن بعض الأسئلة ستظلُّ بلا إجابة؛ لأن بعض فترات الأندلس تعاني من ندرة في المصادر، ذلك أنه -وحتى هذه اللحظة- ما زال الكثير من نفائس وذخائر التراث الإسلامي الأندلسي والمغربي في حكم المفقود؛ فإما هي كتب مفقودة بالكامل لا يُعرف إلى أين أخذتها يد الزمان، كما أن كثيرًا من النفائس ما زالت في هيئتها المخطوطة، وتحتاج إلى أن تمتد إليها أيدي العلماء والباحثين لتحقيقها وضبطها وإخراجها إلى عالم المطبوع؛ فيسهل انتشارها والاستفادة منها.


    إلى جانب هذا، فإن المؤرخين -حين يكتبون- فإنما يكتبون الوقائع وعليها ثوب من رؤيتهم وتحليلهم وتفسيرهم لها، ولا شكَّ أن المؤرخ بشرٌ يناله النقص والخطأ وعدم الاستيعاب، ولئن كان تاريخنا الإسلامي قد تميز بوجود مؤرخين لا يترددون في أن يذكروا للشخصية العظيمة مثالبها، وأيضًا يذكرون للشخصية السيئة محاسنها، فإن هؤلاء المؤرخين -أيضًا- ما زالوا بشرًا، تُؤَثِّر صياغاتهم ومواقفهم وميولهم على التحليل والتفسير للوقائع التاريخية.


    لكننا اجتهدنا ما وسعنا الجهد في التقريب والتفسير والترجيح بين ما تعارض من الروايات التاريخية، محاولين الوصول إلى ما نراه الحق، راجين أن يجبر الله عثراتنا، وأن يتقبل منا أعمالنا بقبول حسن.

    الأندلس – الفردوس المفقود

    إن قصة الأندلس قصة مؤلمة؛ ذلك أننا سنستعرض تاريخًا ومجدًا زاهرًا، ونحن نعلم أن هذا المجد قد انتهى وضاع، وصارت الأندلسُ الفردوسَ المفقود.. إلا أنه لا مناص عن قراءة مقالات هذا المجد السليب، وهذا التاريخ الثريّ.. لنقرأ كيف تقام الأمجاد وكيف تضيع، فلئن كنا نسعى في نهضة أمتنا ورفعتها فَلأَن نسعى ونحن نعلم وندرك خبرة الماضي خير من أن نسعى ولا ماضي لنا ولا خبرة.

    إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة -أكثر من ثمانمائة عام- يُعَدُّ ثروةً حقيقية.. ثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نُلِمَّ بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بُدَّ وأن نُغفِل منه بعض الجوانب؛ ليس تقليلاً من شأنها وإنما اختصارًا للمساحة.
    ومن الواجب على الجميع أن يبحث في تاريخ الأندلس -تاريخ ثمانمائة عام- إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له.

    د. راغب السرجاني


    انتظرونا للتتمة فلنا عودة .....







    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية


  • #2
    بلاد الأندلس .. التاريخ والجغرافيا

    الأندلس



    بلاد الأندلس هي اليوم دولتا إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمَّى: شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر تقريبًا؛ أي: أقل من ثُلثي مساحة مصر.

    ويفصل شبه الجزيرة الأندلسية عن المغرب مضيق أصبح يُعرَف منذ الفتح الإسلامي بمضيق جبل طارق، (ويسميه الكُتَّاب والمؤرخون العرب باسم درب الزقاق)، وهو بعرض 12.8كم بين سَبْتَة وجبل طارق.


    جغرافية الأندلس


    فلاشة موقع الاندلس

    تقع شبه الجزيرة الأيبرية في الجنوب الغربي من أوربا، على مثلَّث من الأرض، يضيق كلما اتجهنا نحو الشرق، ويتَّسع كلما اتجهنا إلى الغرب، وتتصل في الشمال بفرنسا (بلاد الفرنجة) بواسطة سلسلة جبلية تُعرف بجبال البرينيه (جبال البرتات)، وباستثناء تلك الناحية فإن المياه تُحيط بها من كل جانب؛ مما جعل العرب يُطلقون عليها «جزيرة الأندلس» على سبيل التجوُّز؛ فالبحر المتوسط يُحيط بها من الشرق والجنوب الشرقي، ويُحيط المحيط الأطلنطي بها من الجنوب الغربي والغرب والشمال.

    فجبال البرينيه هي الفاصل البري الوحيد الذي يربط شبه الجزيرة مع أوربا، فتلتقي في الشمال مع المحيط الأطلنطي، وفي الجنوب مع البحر المتوسط.


    وجبال البرينيه التي تمثِّل فاصلاً بين فرنسا وإسبانيا تجعل الجزيرة وكأنها تُوَلِّي وجهها عن أوربا، فيما تتجه به إلى المغرب، وهذا ما أجمع عليه الجغرافيون المسلمون الذين عدُّوها امتدادًا لإفريقيا، وليست رقعة من القارة الأوربية، والمعروف أن شبه الجزيرة تتشابه مع المغرب في كثير من المعالم النباتية والحيوانية؛ وبخاصة منطقتي سَبْتَة وطَنْجَة .


    أمَّا داخل الجزيرة فسنرى أنفسنا أمام هضبة كبيرة تُعْرَف بالمسيتا، تقطعها الجبال بشكل أفقي، وتكثر فيها الأنهار فكأنها تعيش فوق شبكة من المياه.


    لماذا سميت «الأندلس»؟


    وعن سبب تسميتها بالأندلس فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندنافيا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمن، ويُقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال باللغة العربية؛ فسُمِّيت هذه البلاد بفانداليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرِّف إلى أندوليسيا فأندلس.


    وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية، و(Vandalism) في اللغة الإنجليزية تعني همجية ووحشية وتخريبًا، وتعني -أيضًا- أسلوبًا بدائيًّا أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس، وحكمتها طوائف أخرى من النصارى عُرِفت في التاريخ باسم قبائل القوط (GOTHS) أو القوط الغربيين، وظلُّوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمين إليها.





    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #3
      الأندلس قبل الإسلام

      الجهل والتخلف في أوروبا

      من المفيد جدًّا أن نتعرَّف على حالة أوربا والوضع الذي كانت عليه -وبخاصة بلاد الأندلس- عند الفتح الإسلامي، وكيف تغيَّر هذا الوضع وهذه الحال بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام؟

      كانت أوربا في ذلك الوقت تعيش فترة من فترات الجهل والتخلُّف البالغ، فكان الظلم هو القانون السائد؛ فالحكَّام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوبُ تعيش في بؤسٍ شديد، واتخذ الحكَّام القصور والقلاع والحصون؛ بينما عامة الشعب لا يجدون المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل وصل بهم الحال إلى أن يُباعُوا ويُشتَرَوا مع الأرض، وكانت الأخلاق متدنِّية، والحرمات منتهكة، وبَعُدَ حتى عن مقومات الحياة الطبيعية؛ فالنظافة الشخصية -على سبيل المثال- مختفية؛ حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يُهَذِّبونها، وكانوا -كما يذكر الرحَّالة المسلمون الذين جابوا هذه البلاد في ذلك الوقت- لا يستحمُّون في العام إلاَّ مرَّة أو مرَّتين، بل يظنُّون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحَّة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له[1]!

      وكان بعض أهل هذه البلاد يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة؛ فضلاً عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتَوَفَّى عند موته، وحرق زوجته معه وهي حيَّة، أو حرق جاريته معه، أو مَنْ كان يُحِبُّه من الناس، والناس يعلمون ذلك ويُشاهدون هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامَّة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلُّف والظلم والفقر الشديد، والبُعد التامُّ عن أي وجه من أوجه الحضارة أو المَدَنية[2].

      ودامت همجية أوربا البالغة زمنًا طويلاً من غير أن تشعر بها، ولم يبدُ في أوربا بعض الميل إلى العلم إلاَّ في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر الميلاديين[3].

      القوط يحكمون الأندلس

      القوط الغربيون

      في أواخر القرن الرابع الميلادي استطاع القوط الغربيون بقيادة ألاريك أن يُسيطروا على مصائر القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية؛ بما قَدَّمُوه من خدمات أوصلت الإمبراطور الروماني تيودوسيوس إلى العرش، فلما مات الإمبراطور عام (395م) أصبح ألاريك -زعيم القوط الغربيين- أقوى قائد في غرب أوربا ووسطها، فما لبث أن حاول السيطرة على روما نفسها (عاصمة الإمبراطورية الرومانية) ونجح في هذا فعلاً عام (410م) في مأساة لا يزال يتذكرها التاريخ الأوربي.

      وفي هذه الفترة كانت الدولة الرومانية قد سمحت لقبائل الوندال الهمجية -التي تستوطن شبه

      الجزيرة الأيبيرية- بالاستقرار في منطقة الشمال الغربي من الجزيرة؛ بشرط ألا تُهَدِّد استقرار المناطق الأخرى، غير أن كثرة القبائل وهمجيتها وضعف الدولة الرومانية، جعل هذه القبائل تُسيطر على كل الجزيرة -تقريبًا- وتُهَدِّد بلاد الغال (فرنسا الآن) -أيضًا- وتمارس تخريبًا همجيًّا كبيرًا.

      ثم انتهى غبار الصراع في روما بموت ألاريك فَخَلَفه أطاووف في زعامة القوط الغربيين، وتطوَّرت الأحوال إلى أن أقرَّت الإمبراطورية الرومانية أطاووف في جنوب بلاد الغال، ثم سَلَّطَتْه على قبائل الوندال، فاستمرَّ زحف القوط الغربيين الأقوياء يُنهي ويضغط ويطرد قبائل الوندال إلى الجنوب، وفي أثناء تراجع الوندال كانوا يُخَرِّبُون ما بقي من حضارة الرومان في شبه الجزيرة، إلى أن انتصر القوط الغربيون وأحكموا سلطانهم على الجزيرة؛ خاصة في عهد الزعيم القوي (واليا Valia).

      لم يلبث الأمر كثيرًا حتى تضعضعت الإمبراطورية الرومانية؛ مما جعل القوط الغربيين يستقلُّون عن الإمبراطورية بحكم شبه الجزيرة، واتخذ (يوريك Euric) لقب الملك في عام (467م)، وهو يُعَدُّ المؤسس الحقيقي لدولة القوط الغربيين، الذين سيُعرفون باسم (القوط) في كل مراحل التاريخ اللاحقة[4].

      لذريق زعيم القوط

      قبل الفتح الإسلامي لإسبانيا بسنة أو تزيد قام أحد رجال الجيش واسمه لُذريق بالاستيلاء على السلطة وعزل الملك غِيطشَة[5]، وغداةَ الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد[6].

      كانت إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشكو الاضطراب والفساد الاجتماعي، والتأخُّر الاقتصادي وعدم الاستقرار؛ نتيجة السياسة ونظام المجتمع السائد، والسلطة الفاسدة، لكن هذا لا يعني أن هذه السلطة لم تكن قادرة على الدفاع، كما لا يعني انعدام قوتها السياسية والعسكرية؛ بل كان بإمكانها أن تصدَّ جيشًا مهاجمًا وتُحاربه وتقف في وجهه؛ فقد أقام القوط في إسبانيا دولة اعْتُبِرَتْ أقوى الممالك الجرمانية حتى أوائل القرن السادس الجرماني، وبقيت بعد ذلك تتمتَّع بقوة عسكرية مُدَرَّبة وقوية، تقارع الأحداث وتقف للمواجهات[7].




      [1] أبو عبيد البكري: جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب المسالك والممالك)، ص81.
      [2] أبو عبيد البكري: جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب المسالك والممالك) ص186، 187.
      [3] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص567.
      [4] للمزيد؛ انظر: حسين مؤنس: فجر الأندلس؛ دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية (711 -756م)، ص15 ومابعدها.
      [5] غِيطشَة أو ويتزا. انظر: ستانلي لين بول: قصة العرب في إسبانيا، ص9.
      [6] عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي ص30.
      [7] عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي ص30، 31.




      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #4
        الدولة الأموية .. وقفة إنصاف

        لماذا الأندلس؟

        لماذا اتّجه المسلمون في فتوحاتهم إلى هذه البلاد خاصَّة؟ لماذا اتجهوا نحو الشمال ولم ينحدروا إلى الجنوب -مثلاً- في أعماق القارة الإفريقية؟ ولِمَ في هذا التوقيت تحديدًا؛ (أي: سنة 92هـ=711م)؟

        كان المسلمون قد انتهَوْا -في هذا الوقت- من فتح بلاد الشمال الإفريقي كلّها؛ فتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي؛ ومن ثَمَّ لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلاَّ أحد سبيلين؛ إمَّا أن يتَّجهوا شمالاً، ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال -وهي بلاد الأندلس آنذاك- وإمَّا أن يتَّجهوا جنوبًا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان.

        لم يكن هدف المسلمين هو البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الثروات، إنما كانت الدعوة إلى الله وتعليم دينه للناس كافَّة هو الهدفَ الأساس للفتوحات الإسلامية، وكان الأمر قد استتبَّ لهم في بلاد شمال إفريقيا في أواخر الثمانينيات من الهجرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه الفتوح الإسلامية صوب بلاد الأندلس آنذاك؛ لتصل دعوة الله إلى الجميع.

        وكان هذا هو النهج الذي سار عليه المسلمون في كل فتوحاتهم، ويُجَسِّد هذا النهج ذلك الحوار الذي دار بين ربعي بن عامر t وبين رستم قائد الفرس قبل معركة القادسية -وكان رسولاً إليه- فلقد سأل رستمُ رِبْعِيَّ بنَ عامر: ما جاء بكم؟ فأجابه الصحابي الجليل: إن الله ابتعثنا لنُخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَنْ أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي[1].

        الدولة الأموية

        كان فتح الأندلس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة؛ أي في عصر الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك -رحمه الله- الخليفة الأموي الذي حكم من عام (86هـ=705م) إلى عام (96هـ=715م)؛ وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي.



        والحقُّ أن الدولة الأموية ظُلمت ظلمًا كثيرًا في التاريخ الإسلامي؛ وأُشيع عنها الكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تُشَوِّه صورتها، وبالتالي تنال من صورة التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره -بعد عصر النبي والخلفاء الراشدين- وهو العصر الذي عاش في كنفه الصحابة والتابعون، ومن أثر ذلك أن زعم بعض الناس -لا سيما أعداء الحكم بالشريعة الإسلامية- أن التاريخ الإسلامي لم يكن إلاَّ في عهد أبي بكر وعمر، بل لقد وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما.

        ولا يخفى على أحد أن المراد من ذلك هو أن يترسَّخ في الأذهان استحالة قيام دولة إسلامية من جديد، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم؛ وإذا كان هذا شأن دولتي بني أمية وبني العباس القريبتين من عهد النبوة ومع ذلك لم تستطع إحداهما أن تُقيم حكمًا إسلاميًّا صالحًا -كما يزعمون- فكيف بالمتأخِّرين؟! وهي رسالة يُريدون أن يَصِلُوا بها إلى كل مسلم، وليس لهم من غرض وراء ذلك إلاَّ أنهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

        وقفة إنصاف لبني أمية (40-132هـ=660-750م)

        الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها الأيادي البيضاء والفضل الكبير على المسلمين في شتَّى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للردِّ على الافتراءات والمزاعم التي حِيكت في حقِّها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية؛ ابتداء من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان t؛ فإن هذه البلاد قد ارتدَّت على عقبها ثم فُتحت من جديد في عهد بني أمية.



        كانت الدولة الأموية تفتح البلاد بالإسلام في أربع جبهات في وقت واحد، منها جبهة الغرب التي وصلت إلى الأندلس -وهو ما نتحدث عنه في هذه المقالات- لكن ثمة ثلاث جبهات أخرى: كانت في بلاد السند على يد محمد بن القاسم الثقفي، وفي بلاد ما وراء النهر حتى الصين على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، وفي بلاد القوقاز في الشمال على يد مسلمة بن عبد الملك المرواني.

        فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأشرقت شمس الإسلام على بلادٍ كانت تعبد الأصنام والأوثان والنار والملوك، وانزاحت من وجه العالم خرافاتٌ وأباطيل، وأبصر الناس –بفضل الله الذي جرى على يد بني أمية- نور الله المبين، فأقبلوا على الإسلام زرافات ووحدانًا، ثم ما لبثوا أن كانوا من جنوده وأبطاله وعلمائه ورُوَّاده، وقطفت الأُمَّة الإسلامية عبر كل تاريخها ثمار الزرع الذي غرسه بنو أمية، فكم من رءوس الأُمَّة ومُقَدِّميها -في العلم والفقه والتفسير والأدب والطب والجغرافيا والهندسة والكيمياء والفلسفة- كانوا من هذه البلاد التي فتحها بنو أمية! مثل:

        البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، والطبري وابن خلدون والذهبي، وابن سينا والفارابي والكندي والبيروني، وسلسلة طويلة تستعصي على الحصر، فتح الإسلام بلادهم ثم قلوبهم، ثم فتح بهم بلادًا وقلوبًا أخرى كثيرة.

        كان الجهاد في أيام الأمويين أمرًا طبيعيًّا؛ يخرج إليه الناس ابتغاء مرضاة ربهم، وتبليغًا لدعوة ربِّ العالمين، وإضافة إلى ذلك فقد دُوِّنَت السُّنَّة النبوية في خلافتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبِّق في دولتهم.

        ولقد قال فيهم الإمام الكبير العَلَم ابن حزم كلمة ما أصدقها، قال: «وكانت دولة عربية لم يتخذوا قاعدة[2]، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجانَ[3] الأموال ولا بناءَ القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل[4] ولا التسويد[5]، ويُكاتبوهم بالعبودية والمُلك[6]، ولا تقبيل الأرض ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ[7]، وإنما كان غرضهم الطاعةَ الصحيحة من التولية والعزل في أقاصي البلاد، فكانوا يعزلون العمَّال، ويولُّون الآخرين في الأندلس، وفي السند، وفي خراسان، وفي أرمينية، وفي اليمن، فما بين هذه البلاد. وبعثوا إليها الجيوش، وولَّوْا عليها مَنِ ارتضوا من العمال... فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلَّب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يكُ في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصرًا على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير»[8].

        ومع كل هذا فإنَّا لا نقول بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكَّد أن هناك أخطاءً كثيرةً في تاريخ بني أمية، لكن -بلا شكٍّ- كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتدَّ حُكم بني أمية اثنين وتسعين عامًا، من عام (40هـ=660م) إلى (132هـ=750م)، وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان t -ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله - ذلك الخليفة الذي لم يَسْلَم من ألسنة كثير من الناس؛ فطعنوا في تاريخه وفي خلافته t، ولقد كذبوا، فليتنا نَصِلُ إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.

        وإن كان هذا ليس مجال الحديث عن بني أمية إلاَّ أنَّ هذه المقدمة البسيطة قد تُفيد -بمشيئة الله- في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان t تتابع الخلفاء الأُميون، وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان -رحمه الله، ومَنْ تَبِعَه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخلَّلهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز t، وهو خليفة أموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها، وهو الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمةً وأمنًا ورخاءً؛ حتى عدَّه المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين.

        أمَّا الجانب السيِّئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة من تاريخهم، تلك التي شهدت الكثير من المآسي، والكثير من الاختلاف عن المنهج الإسلامي، وكانت سُنَّة الله تعالى؛ فحين فسد الأمر في الدولة الأموية قامت دولة أخرى وهي الدولة العباسية، أمَّا الأندلس وفَتْحُها فيبقى حسنةً من أعظم حسنات بني أمية.

        [1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/401، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/311.
        [2] أي لم يتخذوا مدينة ملكية.
        [3] الاحتجان: جمعُ الشيء وضمُّه إليك. ابن منظور: لسان العرب، مادة حجن 13/108، والزبيدي: تاج العروس، باب النون فصل الحاء 34/399، والمعجم الوسيط 1/158.
        [4] أي لم يلزم الخليفةُ الناسَ أن يقولوا عند مخاطبته: يا مولاي.
        [5] أي أن يقولوا: يا سيدي.
        [6] أي أن يكتبوا إلى الولاة والوزراء بقولهم: من الملك، أو من السيد إلى العبد أو المولى.
        [7] كان من عادة خلفاء الدول من بعد بني أمية، ومما يُعَدُّ من الآداب السلطانية أو «البروتوكول الرسمي» –بمصطلح هذه الأيام- أن يُقَبِّل الناس يد الخليفة، وبعض الدول كان الناس يُقَبِّلون الأرض بين يدي الخليفة.
        [8] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/146.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #5
          موسى بن نصير .. القائد الفذ

          وضع المسلمين في الشمال الإفريقي

          دخل الإسلام بلاد الشمال الإفريقي قبل فتح الأندلس بسبعين سنة؛ أي سنة (22هـ=644م)، وكانت تسكن هذا الإقليم قبائل ضخمة تُسَمَّى قبائل الأمازيغ (البربر[1]) وهذه القبائل قبائل قوية الشكيمة شديدة البأس، وقد ارتدَّت عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ فدارت الحروب بينها وبين المسلمين، وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر عام (85 أو 86هـ= 704 أو 705م) على يد موسى بن نصير -رحمه الله.

          موسى بن نصير القائد ابن القائد (19-97هـ=640-716م)

          كان موسى بن نصير قائدًا بارعًا، تقيًّا ورعًا، ثَبَّت الله به أقدام الإسلام في هذه المنطقة المترامية الأطراف، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة مثل تميم الداري رضي الله عنه .



          قال عنه ابن خلِّكان: كان عاقلاً كريمًا شجاعًا ورعًا تقيًّا لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطُّ[2]. أمَّا أبوه فهو نُصَير بن عبد الرحمن بن يزيد، وكان شجاعًا وممن شهد معركة اليرموك الخالدة، وكانت منزلته مكينة عند معاوية بن أبي سفيانرضي الله عنه، وبلغ في الرتب أن كان رئيس الشرطة في عهد معاوية حين كان واليًا على الشام في خلافة عمر وعثمان [3]، وفي روايات أخرى أنه كان رئيس حرس معاوية نفسه[4].

          ولمَّا خرج معاوية لصفين لم يخرج نُصير معه، فقال له: ما منعك من الخروج معي؛ ولي عندك يدٌ[5] لم تُكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري مَنْ هو أولى بشكري منك. فقال: مَنْ هو؟ فقال: الله . فأطرق مليًّا، ثم قال: أستغفر الله. ورضي عنه[6].

          كذلك روى التاريخ لأمِّ موسى قصة بليغة في الشجاعة، فلقد شهدت هي -أيضًا- معركة اليرموك مع زوجها وأبيه، وفي جولة من جولات اليرموك التي تقهقر فيها المسلمون أبصرت أمُّ موسى رجلاً من كفار العجم يأسر رجلاً من المسلمين، تقول: "فأخذتُ عمود الفسطاط، ثم دنوت منه فشدخت به رأسه، وأقبلتُ أسلبه فأعانني الرجل على أخذه"[7].

          فمِن هذين الأبوين خرج مُوسَى بن نصير، الذي تربَّى في كنف القادة وقريبًا من بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأَ على حُبِّ الجهاد في سبيل الله ونشر الدين؛ حتى أصبح شابًّا يافعًا يتقلَّد الرتب والمناصب فكان على الخراج بالبصرة[8]، ثم تولى قيادة جيش البحر وغزا قبرص في عهد معاوية رضي الله عنه [9]، ثم تولَّى إفريقية والمغرب[10] في عهد الوليد بن عبد الملك في عام 89 هـ، وقيل في عام 77 هـ[11].

          من هنا كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير ليُنْجِزَ ما عجز السابقون عن إنجازه، فيُعيد الاستقرار لهذا الإقليم؛ فتوَجَّه –رحمه الله- ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وكانت البلاد في ذلك الوقت في قحطٍ شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء. وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صَلَّى وخطب في الناس ودعا، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟!
          فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله ، فسُقُوا حتى رَوَوا[12].

          موسى بن نصير يُثَبِّت دعائم الإسلام في إفريقيا



          كان الهمُّ الأول لموسى بن نصير منذ أصبح واليًا على المغرب هو تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم، الذي ارتدَّ أهله عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ ولكي يتمكَّن من ذلك كان عليه أن يعلم لماذا يرتدُّ الناس في هذا الإقليم عن الإسلام؟ وكيف يعودون لقتال المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟!


          أسباب الردة

          وفي بحثه عن أسباب هذه الردَّة المتكرِّرة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما مَنْ سبقوه:
          الخطأ الأول: هو أن عقبة بن نافع ومَن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ثم يتوغَّلُون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يُوَفِّرُوا الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها؛ ومن ثَمَّ كانت النتيجة أن الأمازيغ (البربر) انتبهوا لهذا الأمر واستغلُّوه جيدًا؛ فانقلبوا على عُقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلَّب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير بفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد t، فبدأ يتقدَّم خطوة ثم يُؤَمِّن ظهره، ثم خطوة أخرى ويُؤَمِّن ظهره، حتى أتمَّ الله عليه فتح هذا الإقليم مرَّة أخرى في سبع أو ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.

          أمَّا الخطأ الثاني: فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلَّموا الإسلام جيدًا، ولم يعرفوه حقَّ المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من الشام والحجاز ليُعَلِّمُوهم الإسلام ويُعَرِّفُوهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبُّوه، ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبحوا جند الإسلام وأهله بعد أن كانوا يُحاربون المسلمين[13]، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيدها في الشمال الإفريقي، وأتمَّ الله عليه فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سَبْتَة[14]، فقد فتح ميناء طَنْجَة، ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية؛ ولذلك ولَّى موسى بن نصير على ميناء طَنْجَة (القريب جدًّا من سَبْتَة والقريب في الوقت ذاته من الأندلس) أمهر قُوَّاده طارق بن زياد -رحمه الله.

          طارق بن زياد

          لم يكن طارق بن زياد عربيًّا، بل كان من قبائل الأمازيغ (البربر) التي استوطنت الشمال الإفريقي، والتي كان يُمَيِّزُها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر[15]، بعكس ما يُتخَيَّل من كونهم يُشبهون الزنوج؛ حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوربية، وقد حمل طارقُ بن زياد القائدُ الفذُّ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، التي لم تمنعه من الانشغال بحُبِّ الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين بالتقوى والعمل الصالح.

          موسى بن نصير في التاريخ

          من هنا نرى أن موسى بن نصير -رحمه الله- قد تولَّى أمر بلاد المغرب وهي تضطرم نارًا، فكان أوَّل عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن، والقضاء على الثورات، وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ثم وجد بعد ذلك في إفريقية طاقاتٍ ضخمةً، وإمكاناتٍ جبَّارة؛ فأفاد من حرية العمل المتوفرة له، وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام.

          تبيَّن لنا بعد تلك الحوادث والفتن التي قضى عليها موسى بن نصير أنه كان من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول الهجري، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلَّدَها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، وقد ظهرت هذه المواهب واضحة جليَّة في حُكمِه لإفريقية؛ حيث كانت الحكومة الإسلامية تُواجه شعبًا شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة المواقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدَّة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها[16].

          [1] كلمة البربر أُطلِقت بأربعة إطلاقات في أربعة عهود مختلفة، فأُطلقت في عهد (هومير) على القبائل المعقدة اللغة واللهجة حيثما وُجِدَتْ، وأُطلِقَت في عهد (هيرودوت) على الأمم الغريبة عن لغة اليونان وحضارتهم، وأُطلقت في عهد (بلتوس) على الروم ما عدا سكان روما، وأطلقها العرب في عهدهم على الأُمَّة التي تسكن الساحل الإفريقي -وهم المقصودون هنا- لأنهم يتكلمون بلغة ليست مفهومة للعرب، والعرب يُطلقون كلمة البربر على الأصوات المتجمعة غير المفهومة». انظر: الطاهر أحمد الزاوي: تاريخ الفتح العربي في ليبيا، ص20.
          [2] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/318 وما بعدها.
          [3] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 5/110، 6/496.
          [4] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319.
          [5] اليَدُ: النعمة السابغة، والفضل، والإحسان، والمِنَّة. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء، فصل الياء 6/2540، وابن منظور: لسان العرب، مادة يدي 15/419، والمعجم الوسيط 2/1063.
          [6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319، والمقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/240.
          [7] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 8/314.
          [8] الزركلي: الأعلام 7/330.
          ([9]) الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/496.
          ([10]) إفريقية هي تونس الآن، والمغرب هي بلاد المغرب العربي الآن، الجزائر والمغرب. وكلمتي «إفريقية» والمغرب تعني بلاد الشمال الإفريقي ما عدا مصر، والجانب الشرقي من ليبيا.
          ([11]) ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319.
          ([12]) وابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319، وابن كثير: البداية والنهاية 9/196، والمقري: نفح الطيب 1/239.
          ([13]) ابن عذاري: البيان المغرب 1/43، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/110، والمقري: نفح الطيب 1/239، والناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/152.
          [14] وهي الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق.
          [15] شوقي أبو خليل: فتح الأندلس ص20.
          [16] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/59.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #6
            موسى بن نصير وقرار فتح الأندلس

            فتح الأندلس .. تفكير قديم

            لم يكن موسى بن نصير -رحمه الله- هو أول مَنْ فَكَّر في فتح الأندلس، وإنما كانت فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة؛ فلقد استطاعت الجيوش الإسلامية أيام عثمان بن عفانt الوصول إلى القسطنطينية ومحاصرتها، إلاَّ أنها لم تستطع أن تفتحها، فقال عثمان بن عفان t: "إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان[1]".



            أي: إنه على المسلمين لكي يتمكَّنُوا من فتح القسطنطينية أن يفتحوا الأندلس أولاً، ثم يتَّجهون منها بعد ذلك إلى القسطنطينية -في شرق أوربا- ويقصد عثمان رضي الله عنه بالبحر ما كان يُعرف بالبحر الأسود في ذلك الوقت، لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الأندلس إلاَّ أيام بني أمية، وفي ولاية موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.


            موسى بن نصير وعقبات فتح الأندلس

            استتبَّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم، فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم يصلها بعدُ، فبدأ يُفَكِّر في فتح بلاد الأندلس، والتي لا يفصلها عن شمال إفريقيا سوى المضيق الذي صار يُعْرف بعد الفتح الإسلامي بـ(مضيق جبل طارق)، ولكن كانت هناك عدَّة عقباتٍ؛ كان أهمها ما يلي:


            العقبة الأولى: قلَّة السفن

            وجد موسى بن نصير أن المسافة التي سيقطعها في البحر بين المغرب والأندلس لا تقلُّ عن 13 كم، ولم يكن لديه سفنٌ كافيةٌ ليعبر بجيشه هذه العقبة المائية؛ فمعظم معارك المسلمين -باستثناء بعض المواقع مثل: ذات الصواري وفتح قبرص- كانت برِّيَّة؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، ولكن الآن الأمر مختلف، وهم في حاجة للسفن الضخمة لتنقل الجنود وَتَعْبر بهم المضيق ليصلوا إلى الأندلس.

            العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره

            كان موسى بن نصير قد تعلَّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يكن يخطو خطوةً حتى يُؤَمِّن ظهره أولاً، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزرٌ تُسَمَّى جزر البليار -وهي عدَّة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لإسبانيا، وأهمها ثلاثة جزر هي: مَيُورْقَة ومَنُورقَة ويَابِسَة، وتُسَمَّى في المصادر العربية بالجزر الشرقية- وهي قريبة جدًّا من الأندلس؛ ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن دخل الأندلس، وكان عليه أولاً أن يحمي ظهره.

            العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في أيدي نصارى على علاقة بملوك الأندلس

            لم يكن المسلمون حينئذٍ قد فتحوا مدينة سَبْتَة، وهي مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، ولها ميناء يطلُّ على مضيق جبل طارق، فكانت آنئذٍ تحت حكم رجل نصراني يُدْعَى (يُليان)، الذي كانت تربطه علاقات طيبة بملك الأندلس السابق غِيطشَة، وغِيطشَة هذا كان قد تعرَّض لانقلاب قادَه قائد له يُدعى لُذريق، وتولى لُذريق حُكم الأندلس نتيجة هذا الانقلاب، فخشي موسى بن نصير إن هو هاجم الأندلس أن يتحالف يُليان مع لُذريق ضدَّه نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر، فيُحاصروه ويقضوا عليه هو وجنوده.

            العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين

            كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن محدودة جدًّا، وكانت في الوقت نفسه منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي؛ ومن ثَمَّ قد لا يستطيع أن يُتِمَّ فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.

            العقبة الخامسة: كثرة عدد النصارى

            في مقابل قوَّة المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعُدَّتها وضخامتها عقبةً في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ، هذا بجانب قوَّة عُدَّتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي.

            العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس، وكونها أرضًا مجهولةً بالنسبة للمسلمين

            كان البحر حاجزًا بين المسلمين وبلاد الأندلس، فلم يكونوا على علمٍ بطبيعتها وجغرافيتها؛ وهذا ما يجعل الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد أمرًا صعبًا، فضلاً عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميَّز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبةً كئودًا أمام حركة أيِّ جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمُّ وسائل ذلك الجيش في نقل العُدَّة والعَتَاد.



            موسى بن نصير ومواجهة العقبات

            لم يستسلم موسى بن نصير رغم هذه العقبات التي كانت موجودة في طريق فتح الأندلس، بل زادته هذه العقبات إصرارًا على فتحها، ومن هنا بدأ -وفي أناةٍ شديدة- يُرَتِّب أموره ويُحَدِّد أولوياته، فعمل على مواجهة هذه العقبات على النحو التالي:
            أولاً: بناء المواني وإنشاء السفن

            بدأ موسى بن نصير في عام (87 أو 88هـ=706 أو 707م) ببناء المواني التي تُشَيَّد فيها السفن، وإن كان هذا الأمر ربما يطول أمده، إلاَّ أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي[2].

            ثانيًا: تعليم الأمازيغ (البربر) الإسلام

            وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير -أيضًا- يبذل جهودًا أكبر لتعليم الأمازيغ (البربر) الإسلامَ في مجالس خاصة لهم، أشبه بما نُسَمِّيه الآن الدورات المكثَّفة، فلمَّا اطمأنَّ إلى فهمهم للإسلام بدأ يعتمد عليهم ويستعملهم في جيشه، وهذا الصنيع من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم تستطع دولةٌ محارِبَةٌ أو فاتحة غير الدول الإسلامية أن تُغَيِّر من طبائع الناس وحُبِّهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى يُصبحوا هم المدافعين عن هذه الدولة والناشرين لدينها؛ خاصَّة إذا كانوا حديثي عهدٍ بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد، فهذا أمر عجيب حقًّا، ولا يتكرَّر إلاَّ مع المسلمين وحدهم؛ فقد ظلَّت فرنسا -على سبيل المثال- في الجزائر مائة وثلاثين عامًا، ثم خرجت جيوشها، بينما ظلَّ الجزائريون كما كانوا على الإسلام لم يتغيَّرُوا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية.

            علَّم موسى بن نصير الأمازيغ (البربر) الإسلام عقيدةً وعملاً، وغرس فيهم حُبَّ الجهاد وبَذْل النفس والنفيس لله ؛ فكان أن صار جُلُّ الجيش الإسلامي وعمادُه من الأمازيغ (البربر) الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنوات من المحاربين له.

            ثالثًا: تولية طارق بن زياد على الجيش

            القائد هو قِبلة الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولَّى موسى بن نصير قيادةَ جيشه - المتَّجه إلى فتح بلاد الأندلس - القائدَ الأمازيغي (البربري) المحنَّك طارق بن زياد (50-102هـ=670-720م) ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع، والكفاءة الحربية، وحُبِّ الجهاد، والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من الأمازيغ (البربر) وليس من العرب إلاَّ أن موسى بن نصير قدَّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب؛ منها:
            1- الكفاءة: لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يُوَلِّيَه موسى بن نصير قيادةَ الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضلٌ إلاَّ بالتقوى؛ فقد وجد فيه الفضل على غيره، والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قَبَلِية أو عنصرية تدعو إلى التعصب، وتُفَضِّل عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

            2- قدرته على فَهم وقيادة قومه: إضافة إلى الكفاءة التي تميَّز بها طارق بن زياد كان لأصله الأمازيغي (البربري) الفضلُ في القضاء على أيٍّ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس الأمازيغ (البربر) الذين دخلوا الإسلام حديثًا؛ ومِن ثَمَّ استطاع قيادتهم وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثُمَّ لكونه أمازيغيًّا (بربريًّا) فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل الأمازيغ (البربر) يُتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يُجيد اللغتين العربية والأمازيغية (البربرية)[3]؛ ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاَّه إيَّاها.

            رابعًا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين

            من أهمِّ الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدًا لفتح الأندلس، وتأمينًا لظهره -كما عهدناه- قام بفتح جزر البليار -التي ذكرناها سابقًا- وضمَّها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد أمَّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدلُّ على حُنكته وبراعته في التخطيط والقيادة، ومع هذا كلِّه فقد أُغفِل دورُه في التاريخ الإسلامي كثيرًا.


            [1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/598، وابن كثير: البداية والنهاية 7/171، والحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص33.
            [2] المقري: نفح الطيب 1/257.
            [3] نستنتج هذا من أن طارقًا منحدر من عائلة كانت -فيما يظهر- سابقة إلى الإسلام، فهو طارق بن زياد بن عبد الله، ثم يبدأ في نسبه ظهور الأسماء البربرية من بعد عبد الله كما في النسب الذي أورده ابن عذاري في البيان المغرب: «طارق بن زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورنجوم بن نبرغاسن بن ....». فمنه نتوقع أن يكون جده عبد الله هو أول من أسلم من عائلته فتسمى بعبد الله، أو أن يكون أبو جده «ولغو» هو أول مَنْ أسلم، ولكنه احتفظ باسمه كما هو ثم سمَّى ولده عبد الله؛ لذا فمن الطبيعي أن يكتسب الحفيد لغة العرب ويتقنها، كما ستأتي فيما بعد خطبته الشهيرة لدى فتحه الأندلس، وفيها يظهر تمكُّنه في العربية ولسانها إن نحن أخذنا بقول الذين يرجِّحُون ثبوتها.


            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #7
              سرية طريف بن مالك

              مشكلة سبتة والعناية الإلهية

              استطاع موسى بن نصير أن يتغلَّب على قلَّة عدد الجيش من خلال الأمازيغ (البربر) أنفسِهم، وتغلَّب -كذلك- على العقبة المتمثِّلة في قلَّة السفن نسبيًّا ببناء موانٍ وصناعةِ سفنٍ جديدة، وبقيت أرض الأندلس -كما هي- أرضًا مجهولة له، وكذلك ظلَّت مشكلة ميناء سبتة قائمة لم تُحَلّ بعدُ، وهو ميناء حصين جدًّا يحكمه النصراني يُليان، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته، وفعل كل ما في وُسْعِه، ولم يجد حلاًّ لهاتين المشكلتين، وهنا تدخَّل الأمر الإلهي والتدبير الرباني: { إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } [الأنفال: 17].



              وهذا ما حدث بالفعل وتجسَّد في فعل يُليان صاحب سَبْتَة، وكان على النحو التالي:
              - فكَّر يُليان جدِّيًّا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه، وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوَّة يومًا بعد يوم، وتساءل: إلى متى سيظلُّ صامدًا أمامهم إن هم أتوا إليه؟
              - ومن جانب آخر كان يُليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين لـ لُذريق حاكم الأندلس؛ ذلك الذي قتل صديقه غِيطشَة ، وقد كان بين يُليان وغِيطشَة علاقات طيبة؛ حتى إن أولاد غِيطشَة من بعده استنجدوا بـ يُليان هذا ليُساعدهم في حرب لُذريق، ولكن لم يكن لـ يُليان طاقة بلُذريق، كما لم يكن لأولاد غِيطشَة -أيضًا- طاقة به، ومن هنا كان ثمة عداء دفين بين صاحب سَبْتَة وحاكم الأندلس؛ ومن ثَمَّ فإلى أين سيفرُّ يُليان إن استولى المسلمون على ميناء سَبْتَة؟!

              - وتَذْكُر الكثيرُ من الروايات أن السبب الرئيس في توتُّر العلاقة بين يُليان حاكم سَبْتَة ولُذريق حاكم الأندلس، ما فعله الأخير بابنة يُليان؛ إذ إنه اغتصبها، فلمَّا أُخبر بذلك يُليان أقسم أن ينال منه، ولم يجد أمامه إلاَّ أن يُساعد المسلمين ويُوَفِّر لهم بعض التسهيلات[1].

              - والأمر الأخير الذي نتوقَّع أنه دار في خَلَدِ يُليان هو أن ظروف الأندلس الداخلية كلها كانت تصبُّ في مصلحة المسلمين؛ إنْ هم أرادوا فتح الأندلس، فكان يُليان على علم بأن لُذريق قد بالغ في ظلم شعب الأندلس، وفَرَضَ عليهم الضرائب الباهظة؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديدين؛ بينما هو في النعيم والمُلك؛ وهذا ما جعلهم يكرهونه ويتمنَّوْنَ الخلاص منه، كما أنه قد عاد إلى اضطهاد اليهود، وكان قد رُفع عنهم الاضطهاد أيام غِيطشَة، فلمَّا جاء لُذريق أعاد العنف والقهر؛ لدرجة أنهم أرسلوا وفدًا ليُقابل طارق بن زياد ويستحثُّه على فتح الأندلس[2]، هذا إلى جوار رغبة يُليان في استعادة ممتلكات وضِياع أولاد غِيطشَة الكثيرة في الأندلس، والتي كان لُذريق قد صادرها.

              عرض يليان

              من تدبير ربِّ العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدًا في عقل يُليان، بينما كان موسى بن نصير -آنذاك- قد استنفد جهده وتحيَّر في أمره -فإذا بيُليان يُرسل إلى طارق بن زياد والي طَنْجَة (على بعد عدَّة كيلو مترات من ميناء سَبْتَة) برُسُلٍ من قِبَله يعرض عليه عرضًا للتفاوض، أمَّا تدبير العناية الإلهية والمفاجأة الحقيقية فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب، الذي نصَّ على ما يلي:
              1- نسلِّمُك ميناء سَبْتَة. (وكانت تلك معضلة حَارَ المسلمون أعوامًا في الاهتداء إلى حلٍّ لها؛ حيث كانت فوق مقدرتهم).
              2- نمدُّك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس.
              أمَّا المقابل فهو: ضيعات[3] وأملاك غِيطشَة التي صادرها لُذريق، وكان لغِيطشَة ثلاثة آلاف ضيعة، وكانت مِلكًا لأولاده من بعده، فأخذها منهم لُذريق وصادرها[4].

              ما أجمل العرض وأحسن الطلب!

              بهذا العرض أراد يُليان صاحب سَبْتَة أن يتنازل للمسلمين عن سَبْتَة، ويُساعدهم في الوصول إلى الأندلس، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يُليان ويُطيع، على أن يردَّ المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غِيطشَة، فما أجمل العرض! وما أحسن الطلب! وما أعظم السلعة! وما أهون الثمن!
              إن المسلمين لم يُفَكِّروا يومًا في مغنم أو ثروة أو مالٍ حالَ فتحهم البلاد، ولم يرغبوا يومًا في دنيا يملكها غِيطشَة أو يُليان أو لُذريق.. أو غيرهم؛ فقد كان هدفهم تعليم الناس الإسلام، وتعبيدهم لربِّ العباد ، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذٍ يُترك لهم كل ما يملكون.

              ومن هنا كان الثمن هيِّنًا جدًّا والعرض غاية الآمال، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير -وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك (وهي في تونس الآن)- يُخبره هذا الخبر، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يُطلعه -أيضًا- الخبر، ويستأذنه في فتح الأندلس، فكتب إليه الوليد: أن خُضْهَا بالسرايا؛ حتى تختبر شأنها، ولا تُغَرِّرْ بالمسلمين في بحرٍ شديد الأهوال. فراجعه: إنه ليس ببحر؛ وإنما هو خليج، يُتبيَّن للناظر ما وراءه[5]. وهنا أَذِنَ له الوليد بن عبد الملك، إلاَّ أنه شرط عليه شرطًا كان قد فكَّر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسُه، وهو: ألاَّ يدخل بلاد الأندلس حتى يختبرها بسَرِيَّة من المسلمين، فما يُدريه أن المعلومات التي سيُقَدِّمها له يُليان عن الأندلس ستكون صحيحة؟! ومَنْ يضمن له ألاَّ يخون يُليان عهده معه، أو يتَّفق مِنْ ورائه مع لُذريق، أو مع غيره؟

              سَرِيَّةُ طَرِيف بن مَالِك

              وصلت رسالة الإذن من الخليفة الوليد بن عبد الملك فجهَّز موسى بن نصير بالفعل سريةً من خمسمائة رجل، وجعل على رأسهم طَريف بن مالك، وكان طريف -أيضًا- من الأمازيغ (البربر).



              سار طريف بن مالك -ويكنى أبا زرعة- من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين (أربعمائة راجل معهم مائة فارس) صوب الأندلس، واستقلَّ أربعة مراكب فوصلها في رمضان عام (91هـ=710م)، وتَذْكُر بعض الروايات أن طريفًا قام بعدَّة غارات وغنم غنائم كثيرة من أموال وأمتعة وأسرى أيضًا[6].

              وقد قام طريف بن مالك / بمهمته على أكمل وجه في دراسته لمنطقة الأندلس الجنوبية، التي سينزل فيها الجيش الإسلامي بعد ذلك، (وقد عُرِفَت هذه الجزيرة فيما بعدُ باسم هذا القائد فسُمِّيَتْ جزيرة طريف)، ثم عاد بعد انتهائه منها إلى موسى بن نصير وشرح له ما رآه، وفي أناةٍ شديدةٍ وعملٍ دءوبٍ ظلَّ موسى بن نصير بعد عودة طريف بن مالك عامًا كاملاً يُجَهِّز الجيش ويُعِدُّ العُدَّة، حتى جَهَّزَ في هذه السنة سبعةَ آلافِ مقاتلٍ، وبدأ بهم الفتح الإسلامي للأندلس رغم الأعداد الضخمة لقواتِ النصارى هناك[7].

              فتح الأندلس ومساعدة يُليان واليهود

              شبهة مساعدة يليان

              تكثر بعض الروايات العربية والأجنبية من ذِكْر يُليان حاكم سَبْتَة وتُقحمه في كل مرحلة من مراحل فتح المسلمين لبلاد الأندلس، وتُفيد بأن التفكير في فتح الأندلس لم يأتِ إلاَّ بعد عرض يُليان المساعدة على المسلمين، أو طلبه المساعدة من المسلمين لإرجاع أولاد غِيطشَة إلى حكم الأندلس، والانتقام من لُذريق الذي نال من عِرْض ابنته.

              وحقيقة الأمر أن الاتصال بين يُليان حاكم سَبْتَة وبين طارق بن زياد وموسى بن نصير جاء مواتيًا في الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير (والي إفريقية) يُفَكِّر في فتح الأندلس، وذلك بعد فتح طَنْجَة المشرفة على الأندلس، فمن الطبيعي جدًّا أن تكون الأندلس هي الخطوة الثانية التي يُفَكِّر فيها موسى بن نصير، ونحن لا ننفي الاتصال بين الجانبين الإسلامي والإسباني؛ ولكن لا نجعله السبب الرئيس لفكرة الفتح؛ لأنه يُقَلِّلُ من قيمة الفتح الإسلامي للبلاد؛ حيث يَدَّعِي البعض أن مساعدات يُليان وتسهيلاته لطارق هي التي ساعدت في نجاح الفتح، ولكننا لا نستبعد أن يكون ذلك عاملاً مساعدًا من عوامل نجاح عملية الفتح، ولا يُستبعد -كذلك- أن يكون يُليان قدَّم تسهيلات للمسلمين؛ خاصة فيما يتعلَّق بأماكن البلاد وسبل مداخلها ومخارجها، أمَّا أن يكون العامل الوحيد فهذا أمر تأباه الحقيقة التاريخية.

              شبهة مساعدة اليهود

              أمَّا ما يتعلَّق بمساعدة اليهود للمسلمين وتقديمهم التسهيلات اللازمة لإتمام عملية الفتح، فليس لها أساس من الصحَّة لأسباب عدة؛ منها:
              لا توجد أي إشارة في المصادر والمراجع العربية عن أي تسهيلات قدَّمها اليهود للمسلمين؛ إذ لو كانت هناك مساعدة لذكرها المؤرخون للتاريخ الأندلسي وهم كثر، ولتناقلتها الرواة جيلاً بعد جيل؛ كما ذكروا مساعدة يُليان وتناقلوها.

              ليس من الداعي أن نُقحم اليهود في عملية الفتح؛ خاصَّة بعد أن علمنا أن فكرة الفتح نفسها فكرة إسلامية صميمة؛ قبل أن يعرض يُليان أو أولاد غِيطشَة أو اليهود المساعدة على المسلمين، فكان من حكمة القائد الفذِّ موسى بن نصير أن يستغلَّ هذه الفرصة، خاصة وهم أدرى الناس بمداخل الأندلس ومخارجها.

              المتتبِّع لسير عملية الفتح التي قام بها المسلمون للمدن الأندلسية، يتَّضح له أن المسلمين لم يكونوا على علم بوجود أعداد كثيرة من اليهود في بلاد الأندلس، فصاحب (أخبار مجموعة) يقول عن فتح إِلْبِيرة: «فحَصَروا مدينتها فافْتُتِحَتْ، فألْفَوا بها يومئذٍ يهودًا»[8]. ويقول لسان الدين بن الخطيب صاحب كتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) عن فتح طارق بن زياد لغَرْنَاطَة مدينة إِلْبِيرة: «فحاصروا مدينتها، وفتحوها عَنْوَة، وألفوا بها يهودًا ضمُّوهم إلى قَصَبَة[9] غَرْنَاطَة، وصار لهم ذلك سُنَّة مُتَّبَعَة؛ متى وجدوا بمدينة فتحوها يهودًا، يضمونهم إلى قصبتها، ويجعلون معهم طائفةً من المسلمين يسدونها»[10].

              وهذا ينفي وجود أي صلة لليهود بالفتح؛ إذ لو كان لهم صلة لَعَلِمَ المسلمون بأماكن تواجدهم بالأندلس، وصيغة «ألفوا» توحي بعدم المعرفة المسبقة للأمر، وكأنَّ الأمر مفاجأة.

              لا يُسْتَبْعَد أن يكون إقحام اليهود في عملية الفتح متعمَّدًا، ويكون الهدف من ذلك هو التقليل من عملية الفتح الإسلامي العظيم، والنصر المؤزَّر الذي حَقَّقه طارق بن زياد على القوط على الرغم من قلَّة عدد المسلمين بالنسبة للجيش الأندلسي، الذي كان يفوقه أضعافًا.





              [1] في تفصيل ذلك انظر: الحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص34، والمقري: نفح الطيب 1/251، 252.
              [2] حسين مؤنس: موسوعة تاريخ الأندلس 1/15، 16، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص23-33.
              [3] ضيعات: جمع ضيعة؛ وهي تعني: عقَارًا وأرضًا مُغِلَّةُ. ابن منظور: لسان العرب، مادة ضيع 8/228، والمعجم الوسيط 1/547.
              [4] المقري: نفح الطيب 1/258.
              [5] مجهول: أخبار مجموعة ص16، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/267، والحميري: الروض المعطار ص35، والمقري: نفح الطيب 1/253.
              [6] مجهول: أخبار مجموعة ص16، 17، والحميري: الروض المعطار ص35، والمقري: نفح الطيب 1/254.
              [7] الحميري: الروض المعطار ص35، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص66.
              [8] مجهول: أخبار مجموعة ص21، 22.
              [9] القَصَبة: القلعة، والقصر وجوف الحصن. ابن منظور: لسان العرب، مادة قصب 1/674، والمعجم الوسيط 2/737، و هو استعمال أندلسي ذائع، وكانت القصبة الأندلسية تضم في معظم الأحيان قصرًا للحاكم ومسجدًا للصلاة وثكنات للجند. انظر ابن الخطيب: الإحاطة 1/101 (تعليق المحقق: محمد عبد الله عنان).
              [10] لسان الدين ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 1/101.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #8
                طارق بن زياد والعبور إلى الأندلس



                تحرك طارق بن زياد

                بعد عام من الحملة الاستطلاعية الناجحة التي قادها طريف بن مالك -رحمه الله، وبعد أن انتهى موسى بن نصير من وضع خطة الفتح، وفي شعبان[1] من سنة 92هـ= يونيه 711م تحرَّك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط من جنود الإسلام، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد.



                يقول ابن الكردبوس: «وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقًا مُكِبًّا على الدعاء والبكاء والتضرُّع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين...»[2].


                حملة طارق وسفن العبور

                كثيرًا ما يتردَّد في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس الحديث عن السفن التي استعملها الجيش الإسلامي في عبوره إلى الأندلس، وفي هذه السطور نُوَضِّح بعض الأمور المهمة عن حقيقة تلك السفن، ومدى نسبتها إلى يُليان حاكم سَبْتَة من خلال النقاط التالية[3]:

                - أتم المسلمون فتح بلاد شمال أفريقيا قبل فتح الأندلس بعقود طويلة، ومعلوم أن الشمال الإفريقي تطلُّ شواطئه على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وهذا يجعلهم يُفَكِّرُون في توفير السفن اللازمة لحمايتها من أي اعتداء بيزنطي؛ وهو متوقَّع لِمَا كان بين الدولة الإسلامية والبيزنطيين من عداء مستحكم؛ وهذا لا يجعلهم يتوجَّهُون إلى استعارة السفن، بل يجب أن تكون مملوكة لهم.

                - سبق للمسلمين نشاط بحري حربي في الشمال الإفريقي؛ ففي عام 46هـ وجَّه معاويةُ بن حُدَيْج عبدَ الله بنَ قيس لغزو صقلية، فكان أول مَنْ غزاها، وذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان[4].

                - كان اهتمام المسلمين واضحًا بصناعة السفن منذ وقت مبكِّر بعد فتح إفريقية، فأقاموا دارًا لصناعة السفن في تونس في عهد الحسان بن النعمان والي الشمال الإفريقي 76-86هـ.

                - فُتِحَتْ طَنْجَة في ولاية عقبة بن نافع سنة 63هـ، وهي ميناء صالح لصناعة السفن.

                - استعمل طريف بن مالك أربعة سفن للعبور بسريته الخمسمائة[5]، وهذه السفن هي التي استعملها طارق بن زياد لعبور سبعة آلاف مسلم من المضيق إلى الأندلس[6]، ولم يُذكر اسم يُليان في هذا السياق، بل وتُصَرِّح بعض الروايات بأن موسى بن نصير قد عمل من السفن عِدَّة؛ يقول المقري: «وكان موسى منذ وَجَّه طارقًا لوجهه قد أخذ في عمل السفن؛ حتى صار عنده منها عدة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددًا كملت بهم عدة مَنْ معه اثني عشر ألفًا؛ أقوياء على المغانم، حِرَاصًا على اللقاء، ومعهم يُليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله؛ يدلُّهم على العورات، ويتجسَّس لهم الأخبار»[7]. وتَذْكُر بعض الروايات أن السفن التي حملت الجيش الإسلامي إلى الأندلس هيَّأها له يُليان حاكم سَبْتَة[8]، ويقول ابن عذاري في البيان المغرب: «فكان يُليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنُّون أن المراكب تختلف بالتجار، فحمل الناسَ فوجًا بعد فوج إلى الأندلس»[9]. فبناءً على هذه الروايات فالسفن ليست يُليان وإنما عاون في تأجيرها لمعرفته بها.

                - القيام بعملية فتح بلادٍ مثل بلاد الأندلس لا يمكن أن يفي بحاجتها استعارة سفن؛ لا سيما وأن النشاط البحري مألوف عند المسلمين، وسبق التهيُّؤ لفتح الأندلس قبله بعدَّة سنوات، وامتلاك السفن وصناعتها أحد هذه الأسباب.

                كل هذا يُؤَكِّد أن أكثر السفن التي استعملها المسلمون في فتح الأندلس كانت إسلامية الصنع، أنتجتها دار قريبة، أو جُلِبَتْ من دور أخرى بعيدة.

                طارق بن زياد على أرض الأندلس

                تحرَّك الجيش الإسلامي وعبر المضيق -الذي عُرف فيما بعد باسم قائد هذا الجيش مضيق جبل طارق- من خلال السفن؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظلَّ إلى الآن -حتى في اللغة الإسبانية- يُسَمَّى جبل طارق ومضيق جبل طارق، ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تُسَمَّى الجزيرة الخضراء، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة؛ فلم تكن قوَّة كبيرة.



                وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم الدخول في الإسلام، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويتركهم وأملاكهم، أو يدفعون الجزية ويترك لهم -أيضًا- ما في أيديهم، أو القتال، ولا يُؤَخِّرهم إلاَّ ثلاثًا، لكن تلك الحامية أخذتها العزَّة وأبت إلاَّ القتال؛ فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين؛ حتى انتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيمُ تلك الحامية وكان اسمه تُدْمير رسالة عاجلة إلى لُذريق -وكان في طُلَيْطِلَة عاصمة الأندلس آنذاك- يقول له فيها: أَدْرِكْنا يا لُذريق؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أَهُمْ من أهل الأرض أم من أهل السماء؟! قد وطئوا إلى بلادنا وقد لقيتُهم فلتنهض إليَّ بنفسك[10].

                لقد كان المسلمون فعلاً أناسًا غرباء -بالنسبة لهم- فالذي عندهم أن الفاتح أو المحتلَّ لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد، والذبحِ والقتلِ في كثير من الأحيان؛ أمَّا أن يجدوا أناسًا يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء، أو أن يدفعوا لهم الجزية ويتركون لهم -أيضًا- كل شيء؛ بل ويحمونهم من الأعداء، فهذا ما لم يعهدوه من قبلُ في حياتهم؛ بل ولا في تاريخهم كله، وفضلاً عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأَكْفَاء، وفي ليلهم من الرهبان المُصَلِّين، وقد أبدى قائد تلك الحامية دهشته وعجبه الشديد من أمر هؤلاء المسلمين؛ وتساءل في رسالته إلى لُذريق عن شأنهم: أهُم من أهل الأرض، أم من أهل السماء؟! وصدق؛ فهم من جند الله ومن حزبه:{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22].


                [1] اختلفت روايات المؤرخين في الشهر الذي عبر فيه طارق بن زياد الجبل المنسوب إليه؛ منهم من قال: في الخامس من رجب. كابن الأثير في الكامل 4/268، وابن عذاري في البيان المغرب 2/6، والذهبي في تاريخ الإسلام 6/393، والمقري في نفح الطيب 1/254، ومن المؤرخين من ذكر الشهرين دون ترجيح؛ منهم: الحميري في الروض المعطار ص35، وابن الخطيب في الإحاطة 1/100.
                [2] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص67، 68.

                [3] للمزيد انظر: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص47-49.
                [4] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/253.
                [5] مجهول: أخبار مجموعة ص16.
                [6] السابق ص17.
                [7] المقري: نفح الطيب 1/257.
                [8] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص35.
                [9] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/6.
                [10] المقري: نفح الطيب 1/24.


                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #9
                  معركة شذونة .. وادي لكة .. وادي برباط


                  أُولَى الانتصارات في الأندلس

                  لما وصلت أنباء تَقَدُّمِ طارق بن زياد إلى لُذريق -وكان في الشمال- لم يتهيَّب الموقف للمرَّة الأولى؛ لاعتقاده أن المسألة لا تعدو أن تكون غزوة من غزوات النهب، لن تلبث أن تتلاشى، ولكن حين وصلته أنباءُ تَقَدُّمِ المسلمين ناحية قُرْطُبَة، أسرع إلى طُلَيْطلَة وحشد حشوده، وأرسل قوَّة عسكرية بقيادة ابن أخته بنشيو -وكان أكبر رجاله- للتصدِّي لهم، ووقع القتال بالقرب من الجزيرة الخضراء، فكانوا عند كل لقاء يُهْزَمون، وقُتِلَ قائدهم بنشيو، وفرَّ مَنْ نَجَا من جنوده في اتجاه الشمال؛ ليُخبروا لُذريق بما جرى، وبفداحة الخطر القادم من الجنوب[1].



                  معركة وادي بَرْبَاط 92هـ=711م وفتح الأندلس

                  وتسمى كذلك معركة شذونة ووادي لكة

                  حين وصلت رسالة الفارِّين المنهزمين إلى لُذريق وقعت عليه وَقْعَ الصاعقة؛ فجُنَّ جنونُه، وفي غرورٍ وصلفٍ جمع جيشًا قِوَامه مائةُ ألف من الفرسان[2]، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيشَ المسلمين، وكان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جُلُّهم من الرَّجَّالة، وعددٍ محدود جدًّا من الخيل، فلمَّا أبصر أمرَ لُذريق وجد صعوبة بالغة في المواجهة، سبعة آلاف أمام مائة ألف؛ فأرسل إلى موسى بن نصير يستنجده ويطلب منه المدد، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين من الرجَّالة -أيضًا- تحملهم السفن[3].

                  وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألف مقاتل، وبدأ طارق بن زياد يستعدُّ للمعركة؛ فكان أول ما صنع أن بحث عن أرض تصلح للقتال، حتى وجد منطقة تُسمَّى وادي بَرْبَاط، وتُسَمِّيها بعض المصادر أيضًا وادي لُكَّة[4] وكلك معركة شذونة، وكان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد إستراتيجية وعسكرية مهمة؛ فقد كان مِن خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حَمَى ظهرَهُ وميمنته؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ حوله، وكان في ميسرته -أيضًا- بحيرة فهي ناحية آمنة تمامًا، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي أي في ظهره فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يُباغت أحدٌ ظهرَ المسلمين؛ ومن ثَمَّ يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ من حوله.

                  ومن بعيد جاء لُذريق في أبهى زينة؛ يلبس التاج الذهبي والثياب الموشَّاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلًّى بالذهب يجرُّه بغلان[5]، فهو لم يستطع أن يتخلَّى عن دنياه؛ حتى وهو في لحظات الحرب والقتال، وقَدِمَ على رأس مائة ألف من الفرسان، وجاء معه بحبالٍ محمَّلةٍ على بغالٍ! ولا تتعجَّب كثيرًا؛ إذا علمت أنه أتى بهذه الحبال ليُقَيِّد بها أيدي المسلمين وأرجلهم بعد هزيمتهم المحقَّقة -في زعمه- ثم يأخذهم عبيدًا، وهكذا في صلف وغرور ظنَّ أنه حسم المعركة لصالحه؛ ففي منطقه وبقياسه أنَّ اثني عشر ألفًا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة؛ وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض.

                  وفي 28 من شهر رمضان سنة 92هـ= 19 من يوليو سنة 711م بوادي بَرْبَاط دارت معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخُلُ في قلبه الشفقة -حقًّا- على المسلمين؛ الذين لا يتعدَّى عددهم الاثني عشر ألفًا، وهم يُواجهون مائة ألف كاملة، فبمنطق العقل: كيف يُقاتِلُون؟ هذا فضلاً عن أن ينتصروا.


                  بين الفريقين

                  رغم المفارقة الواضحة بين الفريقين إلاَّ أنَّ الناظر المحلِّل يرى أن الشفقة كل الشفقة على المائة ألف، فالطرفان {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]؛ وشتَّان بين الخصمين! شتان بين فريق خرج طائعًا مختارًا، راغبًا في الجهاد، وبين فريق خرج مُكرهًا مضطرًا مُجبرًا على القتال! شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد، مسترخصًا الحياة من أجل عقيدته، متعاليًا على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا، أسمى أمانيه الموتُ في سبيل الله، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئًا، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد! شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفًّا واحدًا كصفوف الصلاة؛ الغنيُّ بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والحاكم بجوار المحكوم، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضًا ويستعبد بعضهم بعضًا!



                  فهذا فريق يقوده رجل رباني -طارق بن زياد- يجمع بين التقوى والكفاءة، وبين الرحمة والقوَّة، وبين العزَّة والتواضع، وذاك فريق يقوده متسلِّط مغرور، يعيش مترفًا مُنعَّمًا، بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء، وقد ألهب ظهره بالسياط! هذا جيش تُوَزَّع عليه أربعةُ أخماس الغنائم بعد الانتصار، وذاك جيش لا ينال شيئًا، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور؛ وكأنما حارب وحده! هذا فريق ينصره ويُؤَيِّده الله ربُّه؛ خالق الكون ومالك الملك ، وذاك فريق يُحارب الله ربَّه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه! وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا، فعلى مَنْ تكون الشفقة إذًا؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]؟! فالمعركة إذًا باتت وكأنها محسومة قبلاً.

                  وادي بَرْبَاط وشهر رمضان

                  هكذا وفي شهر رمضان بدأت معركة وادي بَرْبَاط -أو وادي لكة أو معركة شذونة- غير المتكافئة ظاهريًّا، والمحسومة بالمنطق الرباني، بدأت في شهر الصيام والقرآن، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات، وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين، والمسلمون صابرون صامدون؛ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

                  وعلى هذه الحال ظلَّ الوضع طيلة ثمانية أيَّام متَّصلة انتهت بنصر مؤزَّر للمسلمين؛ بعد أن عَلِمَ اللهُ صبرهم وصِدْق إيمانهم، لقد سطر المسلمون بقيادة طارق بن زياد ملحمة من ملاحم الجهاد التي لم تشهدها بلاد المغرب والأندلس من قبلُ؛ ثمانية أيام تتلاطم فيها السيوف وتتساقط فيها أشلاء القتلى والشهداء، لقد قاتل الجيش القوطي قتالاً شديدًا يُعَبِّر عن شدَّة بأس وقوَّة شكيمة؛ ولكن هيهات أن تصمد تلك القوَّة أمام صلابة الإيمان وقوة العقيدة التي يتحلَّى بها الجيش المسلم؛ واثقًا بربه متيقِّنًا النصر! ويصف ابن عذاري جيش المسلمين وهم في هذا الجوِّ المتلاطم في المعركة فيقول: «فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجَّالة، ليس فيهم راكب إلاَّ القليل؛ فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنُّوا أنه الفناء»[6]. وفي نفح الطيب يقول المقري: «كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتَّصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام، ثم هَزَمَ الله المشركين؛ فقُتِلَ منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم -بعد ذلك بدهر طويل- ملبسة لتلك الأرض»[7]. وأمَّا لُذريق فقيل: إنه قُتِلَ. وفي رواية: إنه فرَّ إلى الشمال. لكنَّ ذِكْره اختفى إلى الأبد.

                  والحقيقة التي أثبتتها هذه المعركة -وغيرها من المعارك الحاسمة في التاريخ الإسلامي- أن المسلمين لا ينتصرون إلاَّ بقوتهم الإيمانية؛ إن هذا الفتح يعود إلى قوَّة المسلمين بتمكُّن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم، إن تفوُّق المسلمين مستمدٌّ دومًا من إيمانهم بعقيدتهم؛ وليس من سوء أحوال الآخرين، كما أن الإسلام ينبع تفوُّقه وسبقه من ذاتيَّته القوية وعقيدته النقية وتشريعه المكين؛ لأنه من وحي الله تعالى[8].

                  نتائج معركة وادي برباط

                  تمخَّضَت عن هذه المعركة عدَّة نتائج؛ كان أهمها:
                  1- طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقيِّ والتحضُّرِ.
                  2- غنم المسلمون غنائم عظيمة؛ كان أهمها الخيول، فأصبحوا خَيَّالة بعد أن كانوا رجَّالة.
                  3- بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفًا، وانتهت المعركة وعددهم تسعةُ آلاف؛ فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف من الشهداء رَوَوْا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.



                  [1] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/8، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص37، 38.
                  [2] اختلفت تقديرات المؤرخين لعدد جيش لُذريق؛ فهي على أقل تقدير أربعون ألفًا؛ كما عند ابن خلدون في تاريخه 4/117، وعلى أعلى تقدير ستمائة ألف؛ كما هو عند الحِميري في الروض المعطار في خبر الأقطار ص35، وهي نحو مائة ألف كما عند المقري في نفح الطيب 1/257، وحسين مؤنس في فجر الأندلس ص70.
                  [3] مجهول: أخبار مجموعة ص17، والمقري: نفح الطيب 1/232.
                  [4] في بعض المصادر وادي لُقَّة أو لِقة بالكسر.
                  [5] ابن عذاري: البيان المغرب 2/7.
                  [6] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/7.
                  [7] المقري: نفح الطيب 1/259.
                  [8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص55.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #10
                    خطبة طارق بن زياد ومسألة حرق السفن

                    خطبة طارق بن زياد[1]

                    أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ[2] لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة[3]، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي[4]، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان[5]، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون»[6].



                    ولنا وقفات مع هذه الخطبة


                    1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.
                    2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
                    3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.
                    4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.
                    5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ.

                    مسألة حرق السفن


                    قبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.



                    فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.

                    في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:
                    أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.

                    ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.

                    ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.

                    وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

                    فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

                    ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.

                    رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.

                    خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].

                    فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.

                    سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات[7]- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.
                    لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.

                    طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس


                    بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق[8]، فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:
                    1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.
                    2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.
                    3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.
                    4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.
                    5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.
                    6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.

                    لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة.


                    [1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص59، 61.
                    [2] الوَزَر: المَلْجَأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/845، وابن منظور: لسان العرب، مادة وزر 5/282، والمعجم الوسيط 2/1028.
                    [3] النَّجْوة: المكان المرتفع الذي تَظنُّ أنه نجاؤك. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر؛ بعيد عنه بريء سالم. 2/905.
                    [4] أي: لا تروا لأنفسكم فضلاً عليَّ، من رغب بنفسه عن فلان: رأى لنفسه عليه فضلاً. ابن منظور: لسان العرب، مادة رغب 1/422، والمعجم الوسيط 1/356.
                    [5] العِقْيان قيل: هو الذهب الخالص. وقيل: هو ما ينبُتُ منه نباتًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة عقا 15/79.
                    [6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/321، 322، والمقري: نفح الطيب 1/240، 241.
                    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والحميري: الروض المعطار ص35.
                    [8] المقري: نفح الطيب 1/259.
                    [9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص72.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #11
                      الجزية في الإسلام

                      لا بُدَّ هنا -قبل استكمال مسيرة الفتح- من وقفة مع طبيعة الجزية في الإسلام؛ لبيان حقيقتها وما يُثار حولها من شبهات، فلم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم؛ فإنَّ أَخْذَ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمرٌ حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب؛ حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلاَّ صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنها وبيانها فيما يلي:
                      أولاً: تعريف الجزية

                      الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن[1].



                      وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتُهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.

                      ثانيًا: على مَنْ تُفرَضُ الجزية؟

                      من رحمة الإسلام وعدله أن خصَّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين؛ فهي:
                      - تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.
                      - تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ من الأطفال.
                      - تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات غير القادرين على القتال.
                      - تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير؛ بل إن الفقراء من أهل الكتاب النصارى واليهود والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين؛ إن كانوا في بلد يُحكَم فيها بالإسلام.

                      أي أنها تُؤْخَذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ حتى من القادرين الذين تفرَّغوا للعبادة.

                      ثالثًا: قيمة الجزية

                      فليُلاحِظ كلُّ مَنْ يطعن في أمر الجزية ويقول: إنها صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب. خاصَّة حين يعلم أنها تُدفَع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون؛ وله أن يعلم -أيضًا- أن قيمة الجزية هذه أقلُّ بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟!
                      في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كانت قيمة ما يدفعه الفرد ممن تنطبق عليه الشروط السابقة من الجزية للمسلمين دينارًا واحدًا في السنة؛ بينما كان المسلم يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وفي حالة إسلام الذمِّيِّ تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية -تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم- فهناك مَنْ يدفع 10 و20٪ ضرائب، بل هناك مَنْ يدفع 50 وأحيانًا 70٪ ضرائب على ماله؛ بينما في الإسلام لا تتعدَّى الزكاة 2.5٪؛ فالجزية كانت أقلَّ من الزكاة المفروضة على المسلمين؛ وهي بهذا تُعَدُّ أقلَّ ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جِلْدَتهم.

                      وفوق ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُكَلَّف أهلُ الكتاب فوق طاقاتهم، بل تَوَعَّد مَنْ يظلمهم أو يُؤذيهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا[2]، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه يوم القيامة.


                      [1] الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.
                      [2] المعاهد: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: المناوي: فيض القدير 6/153.
                      [3] أبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات ( 3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445).

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #12
                        فتوحات طارق بن زياد في الأندلس



                        طارق بن زياد يتوغل في الشمال فاتحًا



                        انطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّه طارق بن زياد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية[1].


                        وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.

                        خط سير طارق بن زياد

                        ومن إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا[3].


                        طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة

                        وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.

                        وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصارى[4].

                        لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه[5].

                        ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته[6].

                        موسى بن نصير يأتي بالمدد

                        تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.

                        وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا[7].
                        من أين جاءوا؟

                        إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.


                        [1] مجهول: أخبار مجموعة ص19، وابن عذاري: البيان المغرب 2/8، والمقري: نفح الطيب 1/260.
                        [2] مجهول: أخبار مجموعة ص19، والمقري: نفح الطيب 1/260، 261، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص72 وما بعدها، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص41 وما بعدها.
                        [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/50.
                        [4] ابن كثير: البداية والنهاية 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، والمقري: نفح الطيب 1/223.
                        [5] مجهول: أخبار مجموعة ص23، 24، والمقري: نفح الطيب 1/264، 265.
                        [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/51.
                        [7] مجهول: أخبار مجموعة ص24.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #13
                          طارق بن زياد وموسى بن نصير .. لقاء الأبطال

                          فتوحات موسى بن نصير



                          كان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زياد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس[1]؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة[2].


                          خط سير موسى بن نصير

                          ومن ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المدن التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة –وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

                          واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].

                          عبد العزيز بن موسى بن نصير

                          فاتح البرتغال

                          لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.

                          موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح

                          تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5]. إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ= يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ= أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.

                          ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة بمَنْ معه ولحق به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس [6].

                          فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن ممن يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.

                          وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال- منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

                          وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].

                          ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ=711م وانتهى في آخر سنة 95هـ= 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.

                          لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لما صدَّقه أحد؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحد فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرء وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!

                          ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّة محكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمة إلى إخضاع كبريات مدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي. ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لما وُفِّق إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10].


                          [1] تذكر بعض الروايات ذلك، انظر: مجهول: أخبار مجموعة ص24، والمقري: نفح الطيب 1/269.
                          [2] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص79 وما بعدها.
                          [3] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14،.
                          [4] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14، 15، والمقري: نفح الطيب 1/271.
                          [5] مجهول: أخبار مجموعة ص26، 27، وابن عذاري: البيان المغرب 2/16، والمقري: نفح الطيب 1/271.
                          [6] المقري: نفح الطيب 1/242.
                          [7] من المؤسف أن الكثيرين من المسلمين لا يعلمون عن برشلونة شيئًا إلا فريق كرة القدم المشهور، ولا يكاد يدور بخَلَدِهم أنها كانت في يومٍ ما مسلمة يُحكم فيها بشرع الله I.
                          [8] المقري: نفح الطيب 1/273.
                          [9] ابن الأثير: الكامل 4/270، والمقري: نفح الطيب 1/274-276.
                          [10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #14
                            الوليد بن عبد الملك ووقف فتوحات الأندلس

                            رسالة الوليد بن عبد الملك

                            من أقصى بلاد المسلمين.. من دمشق.. من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق، ولا يستكملا الفتح، حزن موسى بن نصير وأَسِفَ أشدَّ الأسف، لكن لم يكن بُدٌّ من الاستجابة والعودة كما أُمر.

                            ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب؟! ولماذا الاستدعاء في هذا التوقيت خاصة؟! إلاَّ أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخَّر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك، وكان كما يلي:



                            1- كان الوليد بن عبد الملك يشغله همُّ توغُّل المسلمين بعيدًا عن ديارهم؛ فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة، وقد رأى أن المسلمين توغَّلوا كثيرًا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي –رحمه الله- أن يلتفَّ النصارى من جديد حول المسلمين؛ فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها، فأراد ألاَّ يتوغَّل المسلمون أكثر من هذا.


                            2- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يُوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك؛ جعله يُصِرُّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق؛ ذلك أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يُريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوربا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب[1].

                            كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق، وكثيرًا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفَّق في فتحها، وهنا فكَّر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوربا؛ فيفتح إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا الحالية، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب؛ أي أنه سيتوغَّل بالجيش الإسلامي في عمق أوربا منقطعًا عن كل مدد، فأفزع هذا الأمر الوليد بن عبد الملك، وخشي على جيش المسلمين من الهَلَكَة؛ فعجَّل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد.

                            هِمَّة عالية



                            هنا لا بُدَّ لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمَّة العالية التي كانت عند موسى بن نصير؛ خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يُفَكِّر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة؛ فلله دَرُّه! شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله، ويركب الخيول، ويفتح المدينة تلو المدينة، يحاصر إِشْبِيلِيَة شهورًا ويحاصر مَارِدَة شهورًا، ثم يفتح بَرْشُلُونَة وسَرَقُسْطَة والشمال الشرقي، ثمَّ يتَّجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة يُريد أن يفتحها، ثم هو يُريد أن ينطلق إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينية!


                            أيُّ همَّة هذه التي امتلكها هذا الشيخ الكبير؟! التي تجعله يفعل كل هذا ويُؤَمِّل لهذا التفكير وعمره خمسٌ وسبعون سنة! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا مثل عمره أو أقل منه، وظنُّوا أنهم قد «خرجوا على المعاش» وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا؛ فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنتهِ بعدُ، فمَنْ لتعليم الأجيال؟! ومَن لتوريث الخبرات؟! ومَن لتصحيح المفاهيم؟!

                            فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز الستين من عمره؛ أي تجاوز سنَّ المعاش في زمننا هذا، ثم ها هو ذا في سنِّ الخامسة والسبعين يحزن حزنًا شديدًا، ولكن على أي شيءٍ كان حزنه؟! حزن أولاً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه ساحة الجهاد، وقد كان محبًّا له؛ علَّه ينال الشهادة التي لم تُصِبْهُ، ثم حزن ثانيًا حزنًا شديدًا؛ لأن الصخرة لم تُفتَح بعدُ، ثم حزن ثالثًا -وكان حزنه أشدَّ- لأنه لم يستكمل حُلْمَ فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى.

                            وفي هذا يذكر المَقَّرِيُّ صاحب نفح الطيب أن موسى بن نصير ترك الأندلس «وهو مع ذلك متلهِّف على الجهاد الذي فاته، أَسِيفٌ على ما لحقه من الإزعاج، وكان يُؤَمِّل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة فرنسا، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتَّخذ مختَرَقُه بتلك الأرض طريقًا مَهْيَعًا[2] يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم -من المشرق وإليه- على البرِّ لا يركبون بحرًا»[3].

                            عودة وأُمنية

                            لم يجد موسى بن نصير إلاَّ أن يسمع ويُطيع لأمر الوليد بن عبد الملك، فأخذ طارقَ بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، ثم لم يلبث أن مات وتولَّى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق؛ خوفًا من هلكة جيش المسلمين في توغُّله داخل بلاد أوربا نحو القسطنطينية.

                            وبعد عام من قدوم موسى بن نصير سنة 97هـ=716م كان سليمان بن عبد الملك ذاهبًا إلى الحجِّ، وهذا ما وافق اشتياقًا كبيرًا من قِبَل موسى بن نصير؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال إفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يَعُدْ فيها مرَّة واحدة، فما كان منه إلاَّ أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحجِّ في ذلك العام[4].

                            وفاة موسى بن نصير

                            وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير: اللهم إن كنت تُريد لي الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد، وأَمِتْني على الشهادة، وإن كنت تُريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ووصل –رحمه الله- إلى الحجِّ، وبعد حجِّه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دُفِنَ مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين[5].

                            وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب المَوْصُولين برب العالمين، فقد بلغ من الكبر عِتِيًّا؛ إلاَّ أنه قَدَّم أكثر مما عاش، ظلَّ قلبه معلَّقًا بحُبِّ ربه جل في علاه حتى دعاه، فكانت الخاتمة وكانت الإجابة، عاش بين الأسنَّة في أقصى بلاد الأندلس، إلاَّ أنه مات بعد الحجِّ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله دَرُّه من قائد وقدوة!

                            لقد مات القائد المسلم موسى بن نُصير بعد أن ملأ جهادُه -بقيادة المدِّ الإسلامي المبارك- وِدْيانَ المغرِب الإسلامي الشمال الإفريقي والأندلس وجباله وسهوله وهضابه، ووَجَّه دعاةَ الحق لإسماع ساكنيه نداءَ الخير؛ فيُخرجهم من الظلمات إلى النور المبين... كان موسى بن نصير يقود هذا الجهاد في شبه الجزيرة الأندلسية وهو يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة، ممتطيًا جواده؛ يهبط في وديانها ويرتفع على صخراتها، يتحرَّك فيه إيمانٌ بالله العلي الكبير، فتسمو نفسه وتتجدَّد طاقته وتحدوه لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في كل مكان، فيندفع قويَّ الجنَان رغم ما علا رأسه من الشَّيْب الوقور، يقوده إصرار العقيدة السمحة، وهِمَّة الإيمان الفتيِّ، وتُفَتِّق طاقاتِه كلمةُ الله، وتُقيم قوتها إيمانًا يعلو على أي اعتبار[6].

                            مصير طارق بن زياد

                            أمَّا رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كُلِّيَّةً بعد رحيله إلى دمشق مع موسى بن نصير، ولا أحدٌ يدري هل عاد مرَّة أخرى إلى الأندلس أم بَقِيَ في دمشق؟!

                            مهما بلغ المؤرخ في الثناء على طارق فإنه لا يستطيع وفاء حقِّه، ولو فكَّر أحدنا في الأمر لحظة لاستخرج من حياة طارق وأعماله سرًّا من أسرار قوَّة الإسلام، وناحية من نواحي امتيازه؛ فطارق هذا رجل مغربي بربري لم يكن ليصبح -بغير الإسلام- إلاَّ قائدًا خاملاً لجماعة من البربر منسيين في ركن من أركان الأطلسي، فجاء الإسلام فجعل منه قائدًا فاتحًا، وسياسيًّا محنَّكًا يقود الجيوش ويفتح الأمصار، ويُوَقِّع المعاهدات في قدرة وكياسة جديرتين بالإعجاب، فلو لم يكن للإسلام من أثر إلاَّ تكوين أمثال هذا الرجل واستنهاض قومه للعمل الجليل لكفاه، فكيف وقد بثَّ الإسلام هذه الروح في كل مكان أظلَّته رايته، وكيف وقد فعل هذا في أقصر وقت وحققه على أتم وجه؟! [7].

                            الصخرة.. والدرس الصعب

                            رحل موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس إلى دمشق بعدما وصلا بفتوحاتهما إلى غرب فرنسا، إلاَّ أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدًّا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تُفتَح بعدُ، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يومٌ وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعدُ، وستكون صاحبة اليد الطُّولَى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون.

                            تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها، وكانت فيها طائفة كبيرة من النصارى، وأغلب الظنِّ أنه لو بقي موسى بن نصير أو طارق بن زياد ما تركوها، إلاَّ أننا نستطيع أن نقول: إن التهاون في أمر بسيط جدًّا قد يُؤَدِّي إلى ويلات عظيمة على مَرِّ الزمن، فلا بُدَّ أن يأخذ المسلمون كلَّ أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة، إلاَّ بعد استكمال النهايات على أتَمِّها.


                            [1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، 118، والمقري: نفح الطيب 1/233، 234.
                            [2] المهيع: السهل والواضح والبيّن والواسع. ابن منظور: لسان العرب، مادة هيع 8/378، والمعجم الوسيط 2/1003.
                            [3] المقري: نفح الطيب 1/233، 234، 277، وانظر: الحميري: الروض المعطار ص50.
                            [4] الذهبي: تاريخ الإسلام 6/489.
                            [5] الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/500، وابن عذاري: البيان المغرب 2/32.
                            [6] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص128.
                            [7] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #15
                              عصر الولاة في الأندلس

                              عصر الولاة




                              بعد انتهاء عهد الفتح يبدأ عهد جديد في تاريخ قصة الأندلس يُسمَّى عصر الولاة، الذي يبدأ من عام 95هـ=714م ويستمرُّ مدَّة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي عام 138هـ=755م [1]، وعهد الولاة يعني أنَّ حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاَّه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في دمشق في ذلك الوقت.


                              وإذا نظرنا إلى عصر الولاة نرى أنه قد تعاقب فيه على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا، أو عشرون واليًا تولَّى اثنان منهم مرتين[2]؛ فيُصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنتين وعشرين فترة خلال اثنين وأربعين عامًا؛ أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.

                              ولا شكَّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثَّر تأثيرًا سلبيًّا على بلاد الأندلس، إلاَّ أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يُبَرِّرُه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثيرٌ من الوُلاة الذين يُستَشْهَدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، ثم جاءت مرحلة كان فيها كثيرٌ من الوُلاة يُغَيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات.. وما إلى ذلك.

                              ومِنْ هنا نستطيع أن نُقَسِّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تمامًا؛ حيث كانت الفترة الأولى فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتدُّ من بداية عهد الولاة من عام 95هـ=714م وحتى عام 123هـ=741م؛ أي: سبعة وعشرين عامًا.

                              وكانت الفترة الثانية فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، واستمرَّت من سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م؛ أي مدَّة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كُلٍّ منهما، وإنما سنقتصر على بعض الولاة فقط؛ لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.

                              عهد القوة

                              بصفة عامَّة تميَّزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعِدَّة أمور؛ كان من أهمها:
                              نشر الإسلام في بلاد الأندلس

                              بعد أن تمكَّن المسلمون من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعَلِّمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفوه، فاختاروه بلا تردُّد؛ فلقد وجد الإسبان في الإسلام دينًا متكاملاً شاملاً يُنَظِّم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضع القادة الفاتحين، وجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، ووجدوا فيه كيفية التعامل مع العدوِّ والأسير، ومع كل الناس.

                              لقد تعوَّد الإسبان في حياتهم -قبل ذلك- فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرَّد مفاهيم لاهوتية غير مفهومة، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يُشَرِّع لهم مَنْ يحكمهم وَفق هواه، وحسبما يُحَقِّق مصالحه الشخصية، أمَّا في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك تمامًا؛ فلم يستطيعوا أن يتخلَّفوا عن الارتباط به والانتساب إليه؛ فدخلوا فيه أفواجًا.

                              وفي مدَّةٍ قليلة أصبح عموم أهل الأندلس السكان الأصليين يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والأمازيغ البربر قلَّةً بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين[3]، وهم الذين اتَّجَهُوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

                              نشأة جيل المولَّدين

                              كان من جرَّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين، وانتشار الإسلام بصورة سريعة أن نشأ جيل جديد عُرِفَ باسم جيل المولَّدين، وهم أبناء الذين أسلموا من أهل الأندلس الأصليين، فقد كان الأب عربيًّا أو أمازيغيًّا بربريًّا والأم أندلسية[4].

                              إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية

                              ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعًا؛ حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويًّا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريَّة العقائدية للناس؛ فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها قطُّ، وما كانوا يُحَوِّلونها إلى مساجد إلاَّ إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يُقَدَّر بأثمانٍ باهظة، أمَّا إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم[5].

                              وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، وعلينا أن نَعِيَ هذا الأمر جيدًا، ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فيما عُرِفَ باسم محاكم التفتيش الإسبانية.

                              الاهتمام بالحضارة المادية



                              اهتمَّ المسلمون في هذه الفترة بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية؛ فأسَّسوا الإدارة، وأقاموا العمران، وأنشئوا القناطر والكباري؛ ومما يدلُّ على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تُسَمَّى قنطرة قُرْطُبَة[6]، وكانت من أعجب القناطر الموجودة في أوربا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون دورًا للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.



                              تقليدُ الإسبانِ للمسلمين في كل شيء

                              كان من السمات المميِّزة -أيضًا- في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الإسبان بدءوا يُقَلِّدُون المسلمين في كل شيء؛ حتى أصبحوا يتعلَّمُون اللغة العربية التي يتكلَّمها الفاتحون، بل كان الإسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.

                              اتخاذ المسلمين قُرْطُبَة عاصمة لهم

                              كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة -أيضًا- أن اتخذ المسلمون قُرْطُبَة عاصمةً لهم[7]؛ وقد كانت طُلَيْطِلَة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة، وهما من مصادر الخطر عليهم؛ فرأوا أن طُلَيْطِلَة بذلك مدينة غير آمنة؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن أن تكون هي العاصمة؛ لذلك اختاروا مدينة قُرْطُبَة، التي تقع في اتجاه الجنوب؛ لانتفاء الأسباب السابقة، وحتى تكون -أيضًا- قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.

                              الجهاد في فرنسا

                              كان الجهاد في فرنسا من أهم السمات المميزة لهذه الفترة من عهد الولاة، فاتخذت خطوات كبيرة في هذه الفترة، وسنذكر بعض الولاة الذين كان لهم سَبْقٌ وحضور في عملية الجهاد في بلاد فرنسا.


                              [1] المقري: نفح الطيب 1/298-300.
                              [2] الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس 1/3-8، والمقري: نفح الطيب 1/298-300.
                              [3] مما يدل على ذلك قول السمح بن مالك –رحمه الله- في كتابه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز –رحمه الله - أمير المؤمنين- عندما أراد أن يخلي الأندلس من المسلمين: «إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك». والناس هنا المقصود بهم المسلمين. انظر: ابن عذاري: البيان المغرب 2/26، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص340، 341.
                              [4] انظر في تفصيل ذلك: حسين مؤنس: فجر الأندلس ص344، 350.
                              [5] حول أوضاع أهل الذمة في الأندلس انظر دراسة حسين مؤنس: فجر الأندلس ص350-409.
                              [6] مجهول: أخبار مجموعة ص30، وابن عذاري: البيان المغرب 2/26، والمقري: نفح الطيب 1/235، 480، 3/15.
                              [7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/25، والمقري: نفح الطيب 3/14.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق

                              يعمل...
                              X