إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ارسطوطاليس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    القياس الإِثباتي والتحديد, الجنس والنوع, المادة والصورة, مفهوم القوة


    إِن القياس الإِثباتي, المستند إِلى مقدمات ضرورية, هو القياس الوحيد القادر على إِيصال المرء إِلى المعرفة الحقيقية, لأن الحد المتوسط فيه هو متوسط وعلة معاً. ولكن كيف يمكن إِثبات أن المقدمات ضرورية؟ الواقع أن المعرفة الأرسطية تتحرك بين حدين, سفلي (الأفراد) وعلوي (المبادئ الضرورية), لا يمكن إِثباتهما. فالمعرفة الاستدلالية اليقينية تتوقف, ضرورة, على معرفة حدسية, مباشرة, غير قابلة للإِثبات, وتتعلق بمبادئ حقيقية, مباشرة, ضرورية, ولاسيما بالشيء المراد إِدراكه أو إِثباته, كما أنها تتعلق بالعقل لا بالجدل. وهكذا فإِن المبادئ الخاصة بكل علم, التي يُعطى وجودها وماهيتها معاً ومباشرة من دون التمكن من إِثباتها, هي: البديهيات المنطبقة على الموجودات كقوانين عدم التناقض والثالث المرفوع والعينية التي تؤلف قاعدة الاستدلال, والفرضيات والقضايا التي ينطلق الاستدلال من حدودها, والتحديدات كالتحديد الاسمي والواقعي والذاتي.

    فعن طريق التحديد (الحدّ), ندرك ذوات الأشياء, وبالتالي عللها, إِذ إِن ذات الشيء وعلته تؤلفان حقيقة واحدة. ولهذا يجب, أولاً, أن يُعرف عن الشيء أنه موجود, وإِلا فسيكون التحديد اسمياً. وهكذا فإِن أولى العمليات التي تستوقفنا هي فعل الوجود, أي إِن الجوهر هو الحقيقة الوحيدة التي ندرك وجودها من دون إِثبات. ففي الجوهر تطابق واتحاد تامان بين التحديد والشيء المحدد, وبين الفكر وموضوعه, حتى إِن العلم وموضوعه واحد. والفكر المحض يتطابق مع موضوعه, وهو, مثله, بسيط لا يتجزأ. وهكذا فإِن التحديد المباشر لا ينطبق إِلا على الموجودات البسيطة التي تؤلف وجوداً واحداً في غاية الجودة.
    حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

    تعليق


    • #17

      إِن المعرفة الحدسية, أسمى المعارف الاستدلالية, تناسب الموجودات المتحققة بذاتها, والحقائق البسيطة, والجواهر الأولى غير المادية. كما أنها قد لا تنطبق كلياً إِلا على المبدأ الأول, لأن فكره وموضوعه متحدان في حقيقة واحدة. أما الجواهر المحسوسة المركبة التي وجودها متميز من ذاتها وعلتها, فإِنها تدخل ضمن نطاق التحديد, ولذا فإِن على العلم الحدسي المطبّق عليها أن يتشعّب إِلى قسمين: علم الوجود وعلم العلة. والعقل يتوصل إِلى معرفة نسبية, في تحديده الجواهر المركبة, وإِلى معرفة تامة, في تحديده الطبائع البسيطة التي يكوّن وجودها وعلتها حقيقة واحدة. فعندما يدرك العقل وجود الشيء, بوساطة الحدس الحسي والاستقراء, يحاول إِدراك ذاته وعلته.

      فالتحديد لا يقال إِلا على الأشياء الموجودة بذاتها, أما الأشياء القائمة بغيرها, فلا يمكن إِعطاء سوى تحديد خارجي منطقي لذواتها يشمل أجناسها وأنواعها. ومع أن هذه الذات, موضوع التحديد, مكونة من الفصل النوعي والجنس, فإِنها تقوّم الموجود الفردي وعلته, وتحمُل على إِدراكه, بصفته وحدة متكاملة غير قابل للتجزئة. ولكن كيف يكوّن الموضوع المحدد «إِنسان» في التحديد التالي :«الإِنسان حيوان ذو قدمين», وحدة متكاملة, مع أنه مكوّن من عنصرين :«الحيوان», و «القدمين»؟ أو بالأحرى, كيف تتم بين هذين العنصرين المختلفين نوعياً تلك الوحدة التي من دونها كان على الموضوع المحدد «إِنسان» أن يتلقى محمولات متعارضة معاً؟

      ولحل هذه المعضلة, بيّن أرسطو أن الوحدة القائمة بين الجنس والفصول النوعيّة, في التحديد, ليست وحدة عرضية لحدين منفصلين, كوحدة «بياض الإِنسان» القائمة بين «البياض» و«الإِنسان», وإِنما هي وحدة تلازم ضرورية, كالوحدة التي تربط, بذاتها «الفطس» بـ «الأنف». والجنس لا ينفصل, في الواقع عن أنواعه, وإِنما في التصوّر وبصفته مادة لها, فهو لا يوجد إِلا بها ومن خلالها, بل هي التي تحدّده أي إِن تحديد الشيء هو توضيحه عن طريق أنواعه. أما الفصل النوعي, فإِن علاقته بالذات كعلاقة الجوهر بالموجود: فكما أن الجوهر علة الموجود في وحدته, كذلك يقوّم الفصل النوعي وحدة الموضوع المحدد ووحدة التحديد. إِن علاقة الفصل النوعي بالجنس شبيهة بعلاقة الصورة بالمادة. هذه المادة لا توجد إِلا بالصورة, ولا تنفصل عنها إِلا في التصور,
      حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

      تعليق


      • #18
        أما في الواقع فإِنها تلازمها وتتحقق بها بالفعل فالصورة, أو الذات أو الماهية, علة الموجودات في وجودها ووحدتها, لأنها تبيّن لنا حقيقة كل منها, كما أنها علة المادة, لأنها تبيّن لنا سبب وجودها في حالة ما من دون سواها. وهكذا فإِن الصورة هي الذات المتحققة في مادة, والمتكونة من جنس وفصل, أو بالأحرى من مجموعة المحمولات والمقومات الأساسية التي يعبّر عنها التحديد. فالمادة, من حيث هي ممكنة ومتحولة, لا يمكن تحديدها إِلا من حيث اشتراكها مع الصورة وارتباطها معها برباط تلازم هو السبب في وحدتهما, ومن ثم وحدة التحديد.

        فالصور, باستثناء المبدأ الأول والجواهر المفارقة, لا تنفصل عن المادة إِلا في التصوّر, أما إِذا فُصلت عنها, في الواقع, كما فعل ذلك أفلاطون, فسيستحيل إِيجاد المبدأ الذي يوضح سبب تحول البرونز, مثلاً, إِلى كرة. بيد أن أرسطو أوجد حلاً لهذه المشكلة, بإِدخال مفهوم القوة التي علاقتها بالفعل هي علاقة المادة بالصورة, أو بالأحرى علاقة العنصر الأقل تحديداً بالعنصر الأكثر تحديداً. فالقوة, التي هي مفهوم أساسي في فلسفة أرسطو, ليست فقط إِمكانية بسيطة في الوجود, تحمل الأشياء غير المحددة إِلى أن تكون محددة, وإِنما هي أيضاً إِمكانية قريبة من الفعل, أو بالأحرى هي نوع من الفعل غير التام ومبدأ حركة يحقق المواضيع, الموجودة بالقوة, بالفعل تدريجياً. إِن القوة والفعل مفهومان متطابقان, أي أن هناك استمراراً واتصالاً بينهما, حتى إِنه لا يمكن التفكير بالمادة, من دون التفكير, اضطراراً, بالصورة التي فيها تتحقق هذه المادة بالفعل. والوحدة القائمة بينهما تتحقق بالانتقال من القوة إِلى الفعل, بتأثير من العلة المحركة: غاية الأشياء ونموذجها. وهكذا فإِن وحدة التحديد, في الأشياء المركبة, تستند إِلى وحدة الشيء المحدد, لبيان السبب الذي حدّد المادة على طريق الصورة. وهنا يمكن تلمس الميتافيزيقة الأرسطية, وما يميزها من الأفلاطونية. فبفضل مفهوم القوة, عند أرسطو, يُتوصل إِلى إِدراك الوحدة الداخلية القائمة بين التحديد والشيء المحدد. وهذا ما لم تتوصل المدرسة الأفلاطونية إِلى إِدراكه بسبب إِغفالها الاتحاد الجوهري والضروري بين القوة والفعل, بتأثير من المحرك الذي يحوّل المادة من القوة إِلى الفعل.
        حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

        تعليق


        • #19
          الميتافيزيقة أو فلسفة ما بعد الطبيعة


          الميتافيزيقة, كغيرها من العلوم, معرفة موضوع ما, بمعرفة مبادئه وعلله. ولكنها خلافاً للعلوم الأخرى, تحكم على مبادئ الموضوع وتسند أحكاماً إِلى ذاته ووجوده. وهذا ما يجعلها, بالضبط, جديرة بأن تكون المعرفة السامية و «الحكمة الإِلهية». ولذا لابدّ من تمييز موضوع هذا العلم, الذي يتم انطلاقاً منه البحث عن العلل والمبادئ, من هذه المبادئ ذاتها.

          يؤكد أرسطو أنّ الموجود هو موضوع الميتافيزيقة والمقصود هنا, بالموجود الموجود في كل أبعاده ومعانيه المختلفة, بيد أن هذه المعاني المختلفة, إِذا لم تؤلف وحدة ما, فستجعل وجود الفلسفة الأولى أمراً مستحيلاً. والجوهر, في نظر أرسطو, هو الذي يكوّن هذه الوحدة, لأن الموجود يقال, في أول معنى له, على الجوهر, وبوساطته, يقال على الكمية والكيفية وغيرهما من المقولات. فالموجود هو, في ذاته, جوهر, وهو, بوساطة الجوهر, موجودات أخرى ليست موجودات إِلاّ لأنّ لها علاقة معه. فالفلسفة الأولى تدرس, إِذن, الموجود من حيث هو موجود, أي بصفته جوهراً أو عرضاً. كما أنها تبحث عن مبادئ الجواهر وعللها, وتتأمل الوضع الأنطولوجي للموجودات جميعها بصفتها موضوعات العلوم الأخرى كالفيزيقا والرياضيات. فالجوهر هو الموجود في أعمق معانيه. وهذا ما عبَّر عنه أرسطو بقوله: إِن ما نبحث عنه دائماً يتمثّل في معرفة مدى تطابق السؤال «ما الموجود»؟ مع السؤال «ما الجوهر»؟.

          والجوهر مركّب من مادة وصورة: صورة تحمل الوجود إِلى المادة, بفعل محرّك؛ ومادة لا توجد حقيقة إِلاّ لأنها استقبلت الصورة. ومع أنّ أرسطو, بمفهومه الحسي للصورة والمادة, رفض نظرية أفلاطون في الصور المفارقة, مع اعترافه بأنها تدخل ضمن نطاق الميتافيزيقا لا الفيزيقا, فإِنه بقي أميناً على حدس معلمه الأساسي القائل بتفوق الصورة على المادة.
          حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

          تعليق


          • #20

            إِذا كانت الجواهر جميعها فاسدة, فهذا يفترض أن ليس هناك وجود. ولكن لما كانت الجواهر الحسية موجودة, فلابدّ من وجود جواهر غير فاسدة ومن ثم غير مادية. ولما كان ليس بالإِمكان الذهاب إِلى اللانهاية ضمن إِطار الجواهر المفارقة, فلا بد من التوقف على جوهر أول, أو مبدأ أول, هو مبدأ الحياة والوجود, أو هو الله.

            أما الفلسفة الطبيعية, فإِنها تدرس الجواهر الحسية, وتبحث عن علل التغيّر والتحوّل وعن الظاهرات التي ترافقهما, سواء في المستوى الجوهري, أو في المستوى العرضي. وهي تشمل الأحياء, وفيها الإِنسان, شريطة أن تُبقي للفلسفة الأُولى دراسة ما هو غير مادي في الإِنسان, أي العقل. فالفلسفة الطبيعية تُبْرز مبادئ الصيرورة, كالمادة والصورة والعدم؛ وتضيف إِليها مبادئ أخرى, كالمصادفة التي تبدو أنها تفلت من الغائية, وهي تتساءل عن طبيعة الحركة وأنواعها, كما أنها, في النهاية, تدرس الجواهر والصّور, من حيث خضوعها للتغيّر والتحوّل. بيد أنّ هذه الصور متعلقة, في نظر أفلاطون, بالديالكتيك, لأنّه لا يعترف بوجود علم متعلق بالطبيعة.

            والمشكلة الأساسية, عند أرسطو, هي أنّه حدّد موضوع الميتافيزيقة وفق ثلاثة أنماط مختلفة: العلل والمبادئ السامية, والألوهية, والموجودات بصفتها موجودات. وها هنا احتمالان: الأول هو العودة إِلى تطور أفكار أرسطو لحلّ هذه التعددية في موضوع الميتافيزيقة؛ أما الثاني فالقول بالتطابق بين الموجود, من حيث هو موجود, وبين الألوهية, وعدّهما حقيقة واحدة.

            الاحتمال الأخير مرفوض, لأنّ الموجود الذي يُدرس لمعرفة مبادئه لا يمكن أن يتطابق مع هذه المبادئ. والاحتمال الأول كذلك مرفوض, لأنّه لو كان أرسطو قد أضاف نصاً ليصحّح رأياً لم يعد يقبل به, لكان حذف المقطع المعبّر عن هذا الرأي. والواقع أن شيئاً من هذا القبيل غير ملحوظ في مؤلفاته, لذا لا يمكن الكلام عن تطور في أفكاره.
            حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

            تعليق


            • #21
              كان موقف أرسطو في مستهل حياته الفلسفية قريباً من موقف أفلاطون عندما اعتقد أنّ موضوع الميتافيزيقة هو الجواهر المفارقة والألوهية.
              لكنّه ما لَبِثَ أن طوّر, بعد رفضه الصور الأفلاطونية, مفهومه عن الموجودات, من حيث هي موجودات. فبيّن أن الموجود لا ينحصر فقط في الصورة, أي أنّه لا يتطابق معها, بل له عدة مفاهيم؛ وهو ليس بالجنس. وهكذا وسّع أرسطو مفهوم الموجود ليُدخل فيه الجزئيات التي رفضها أفلاطون. إِن الأمور الخاصة التي امتاز بها أرسطو هي تأكيد وجود علم فيزيقي ووجود جواهر مفارقة, ومع أنّ أرسطو أدرك, منذ قراءته لكتاب أفلاطون «الجمهورية», أن هناك علماً موضوعه «الموجود من حيث هو موجود», فإِنه وقف جهوده للقسم الأول من الصيغة «موجود», وليس للقسم الآخر منها «من حيث هو موجود» الذي أشار إِليه أفلاطون.

              وهكذا ظهرت, في الميتافيزيقة الأرسطية, مرحلتان: مرحلة لاهوتية, وأخرى أنطولوجية. ومع أن أرسطو خصص لكل من هاتين المرحلتين بعضاً من أبحاثه الفلسفية, فإِنّه وفّق بينهما, في المقالة السادسة من كتاب ما بعد الطبيعة, بقوله: إِنّ اللاهوت علم كلّي, لأن الكون يتعلّق بالموجود الذي يدرسه هذا العلم, أمّا علم الوجود فيصب في اللاهوت. فالميتافيزيقة تدرس الموجود بأبعاده ومعانيه الكثيرة, وتكوّن في بدايتها علماً مستقلاً عن اللاهوت, يُطلق عليه الأنطولوجية[ر], ولكنّها عندما تثبت المبادئ الأولى للموجود, ومن ثم المبدأ الأول, أو المحرك الأول, أو اللّه, تتطابق مع العلم الإِلهي الذي يكوّن مع علم الوجود علماً واحداً. والميتافيزيقة تدرس الموجودات جميعها وفيها الموجودات الحسية والرياضية لتحديد مبادئها وشروط كونها موجودات. وهكذا فإِن الموجود من حيث هو موجود, هو موضع العلم الميتافيزيقي الذي هو العلم السامي والعلم الكلي معاً.

              ولا يمكن تلخيص فكر أرسطو, حول هذه النقطة بالذات, بأفضل من أرسطو نفسه, إِذ قال :»تستند دراستنا إِلى الجوهر, لأنّ المبادئ والعلل التي نبحث عنها إِنّما هي جواهر».
              حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

              تعليق


              • #22

                اللاهوت الطبيعي

                الفلسفة الطبيعية (الفيزيقا)


                يبيّن أرسطو في المقالتين السابعة والثامنة من كتاب السماع الطبيعي, ضرورة وافتراض وجود محرك أول غير متحرك, فوجود الحركة يفترض وجود علة واقعية موجودة خارجاً عنها, وذلك لعدم وجود شيء في الطبيعة يتحرك على طريق المصادفة, أو ينتقل بذاته من القوة إِلى الفعل, أو بالأحرى لعدم وجود مبدأ أو علة في الحركة نفسها.

                وانطلاقاً من المقالة السابعة يمكن صوغ البرهان التالي: لما كان ما هو متحرك, متحركاً ضرورياً, بغيره, ولما كان يستحيل الذهاب, في الحركة, إِلى اللانهاية, لذا يجب التوقف على محرّك غير متحرّك.

                ومن الممكن انطلاقاً من المقالة الثامنة, صوغ البرهان, القائم على أزلية الحركة, على النحو التالي: لما كانت الحركة الأزلية هي منتظمة ودائرية, فإِنها تفترض وجود محرك أول غير متحرك, ولما كان كلَّ متحرّك متحركاً بغيره, يلزم بالضرورة وجود محرّك غير متحرّك, لاستحالة أن تكون المحركات المتحركة بغيرها غير متدرجة إِلى اللانهاية. ويضاف إِلى ذلك أنه ليس من الضروري أن يكون كل محرّك متحركاً بغيره.

                إِن التحديد الذي يقدّمه أرسطو عن سرمدية المحرك الأول يستند كلياً إِلى أبدية الحركة التي تنجم بدورها عن أبدية الزمن, لأن كل لحظة حدُّ متوسط بين زمنين: فالحاضر يفترض دوماً وجود ماض ومستقبل ووجود قبلية وبعدية. وإِذا كانت الحركة أبدية, وكل متحرّك يفترض وجود محرّك له, كان لا بدّ, لتوضيح هذه الحركة الأبدية, من فرض وجود محرك أبدي غير متحرّك لا بغيره ولا بذاته: فإِن قيل إِنه متحرّك بغيره, فسيؤدي الأمر إِلى قبول مبدأ التسلسل إِلى اللانهاية, وهذا مستحيل أيضاً.

                المحركات الأزلية متعددة, وعدد الحركات, إِضافة إِلى الحركة الأولى الصادرة عن المحرك الأول, يراوح بين 47 و55 حركة. وهذه الحركات تفترض وجود مثل هذا العدد من الجواهر غير المتحركة. والفرق بين المحرك الأول والمحركات الأخرى أن المحرك الأول غير متحرّك, لا بالذات ولا بالعرض, وخارج عن العالم؛ أما المحركات الأخرى فإِنّها متحركة بالعرض مع أفلاكها, كالنفس التي تنتقل بانتقال جسمها الذي تحركه, كما أنها قائمة في أفلاكها من دون أن يكون اتصالها بها اتصال الصورة بالمادة, لأنها عقول مفارقة.
                حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                تعليق


                • #23
                  الفلسفة الأولى

                  فلسفة ما بعد الطبيعة


                  لم يقل أرسطو, في الفلسفة الطبيعية, إِن المحرك الذي توصل إِلى إِثباته هو الله, بل افترض فقط وجود حقيقة أسمى من الحركة وخارجة عنها. أمّا في الفلسفة الأولى, فإِنه يدرس هذه الحقيقة لتعرّف ماهيتها وخصائصها. وهكذا يؤلف برهان الحركة, في العلوم الطبيعية, قاعدة أساسية انطلق منها أرسطو, في الفلسفة الأولى, ولاسيما المقالة 12, ليثبت وجود علة أولى للوجود, هي الله.

                  يمكن التفريق, في المقالة المذكورة, بين جزأين: يدرس الجزء الأول (الفصول الخمسة الأولى) الجواهر الحسية,والجزء الثاني (ما تبقى من فصول المقالة) الجوهر غير المتحرك. يميّز أرسطو, منذ الفصل الأول, ثلاثة أنواع من الجواهر: جواهر حسية فاسدة, وجواهر حسية سرمدية, وجوهر غير متحرك. تدرس الفلسفة الطبيعية النوعين الأول والثاني؛ أمّا النوع الثالث, موضوع هذه المقالة, فتدرسه الميتافيزيقة. إِن العلاقة بين قسمي هذه المقالة غامضة, مع أنّها ضرورية لتوضيح الصلة بين الله والعالم.

                  إِذا كانت الجواهر جميعها فاسدة, فستكون جميع الأشياء الناجمة عنها أيضاً فاسدة, ولما كان هناك تحديدان, هما الزمان والحركة, وهما غير فاسدين وأبديان, ولا يمكن أن يكون قوامهما إِلاّ في الجواهر, لأنّ الحركة إِِنّما هي المتحرك, إِذن لا بدّ من وجود جوهر أو جواهر غير فاسدة وأبدية.

                  فالزمان, في نظر أرسطو, أبدي, ولا يوجد خارج الزمان لا قبل ولا بعد. وهو لم يبدأ أبداً, ولا يمكن أن يتلاشى, لأنه إِن كان غير ذلك وجب القول بوجود زمان قبل الزمان, وزمان بعد الزمان. والحركة, كالزمان, أبدية, لأن الزمان إِمّا أن يكون الحركة نفسها, وإِمّا أن يكون شكلاً من أشكالها. ومن أبدية الحركة ووحدتها, يستنتج أرسطو اتصالها الذي هو اتصال الحركة المحليّة, بل اتصال الحركة المحلية الدائرية. ويستنتج أرسطو من ذلك أن الجوهر الأبدي وغير الفاسد, هو الجوهر الذي يتحرّك بحركة أبدية ودائرية. وهكذا أثبت أرسطو أنّ هناك جوهراً أبدياً, أو محركاً أول لحركة دائرية أبدية. إِن أول ما يميّز هذا المحرك السرمدي هو نشاطه الدائم, كما أنّه في الفعل بوجه مستمر ولا يعرف القوة مطلقاً. أما المحركات الأخرى فإِنها تنتقل من الحركة إِلى السكون ومن السكون إِلى الحركة, أي من الفعل إِلى القوة, ومن القوة إِلى الفعل.
                  حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                  تعليق


                  • #24
                    يلجأ أرسطو للإِجابة عن هذا السؤال إِلى معطيات نفسية
                    فلكي يكون المحرّك الأول محركاً لغيره من دون أن يكون هو نفسه متحركاً, عليه أن يكون المرغوب الأسمى والمعقول الأعلى, أي أنّ تحريكه لغيره ناجم عن أنّه موضوع رغبة يتوق إِليها هذا الغير. وهنا يتجاوز أرسطو العلة الفاعلية نحو العلة الغائية, على طريق الرغبة التي تحرّك الإِرادة نحو الخير ونحو الموجود الأول, وعلى طريق المعقول الذي يحرّك العقل نحو الحقيقة ونحو الجوهر الذي هو أول الموجودات. وهذان الطريقان يؤديان إِلى هدف واحد, هو المعقول الأول الذي تتوق إِليه كل الموجودات فتتحرّك نحوه.

                    وهكذا تجاوز أرسطو مستوى المحركات الطبيعية والنشاطات النفسية. فنشاط المحرّك الأول يبقى متأصلاً فيه, لأنّه لا يثير الرغبة, مع كونه موضوع الرغبة والمحبة, كما أنّ موضوعه لا يتجاوز فكره, لأنه لا يعقل إِلاّ نفسه. والواقع أنّ أرسطو ميّز المحرّك الأول من المحركات الطبيعية الأخرى بحركته الدائمة السرمديّة, كما جعل منه محركاً نفسياً وروحياً, بسبب سكونه وعدم حركته, وأبعده أخيراً عن الإِنسان نفسه, لأنّ هذه النشاط الروحي والنفسي متأصل فيه بوجه مطلق.

                    والمحرّك الأول فعل محض, وعقل لا يمكنه إِلاّ أن يعقل نفسه؛ فهو عقل يعقل العقل. فالفكر, في إِله أرسطو, لا يكوّن إِلاّ حقيقة واحدة مع موضوعه.

                    لم يبرهن أرسطو على أن إِلهه علة للصيرورة وللجواهر الحسيّة؛ وإِِنّما برهن على أنه محرّكٌ لحركة دائمة سرمدية. وهذا يعني أن الجواهر الحسية تتكوّن وتزول بغض النظر عن الله, ومن دون أن يكون بحاجة إِليه. فالكون ليس بحاجة إِلى الله, لا في وجوده, ولا في استمرار وجوده. ولهذا فإِِنّ «روس» كان مصيباً, في رأيه, عندما رفض أن يكون إِله أرسطو علة فاعلية للكون, بل هو علّة غائية له.
                    حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                    تعليق


                    • #25

                      فلسفة الأحياء

                      إِن الإِله, الذي برهن عليه أرسطو؛ ليس نفساً, أو مبدأ للحياة؛ وإِنّما هو جوهر وعلة غير متحركة ومنفصلة عن الحركة الدائرية. بيد أن الحياة ليست غريبة عن الله, لأنّه هو الحياة التي هي أكثر كمالاً, وحياته هي حياة العقل المتمثلة, فعلاً, بالفكر المحض. والحياة, بحد ذاتها, لا تسمح للمرء, في نظر أرسطو, بالوصول إِلى الله؛ أمّا عند أفلاطون فإِن معرفة النفس هي التي تسمح للمرء بإِثبات وجود الله. فالعقل البشري, عند أرسطو, يكشف الله, من حيث إِنّه محرّك غير متحرّك, ومن ثمّ موجود أول, وأخيراً عقل أول وفعل محض. وعندما يتوصل العقل إِلى هذا الحد, يستطيع أن يوضّح بجلاء أن هذا الموجود هو الحياة التي هي أكثر تماماًَ وأكثر كمالاً.
                      حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                      تعليق


                      • #26
                        نظرية النفس والعقل


                        يذكر أرسطو في كتاب «النفس» أن النفس كمال أول «لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة». وهي أيضاً «ضرب من الكمال وصورة لما هو بالقوة مستعد لقبول طبيعة معيّنة». وهي, في الواقع, صورة لجسم. ومن اتحاد النفس مع الجسد تنجم التعددية في وظائفها التي يمكن تصنيفها في ثلاث وظائف أساسية, هي: التغذية, والإِحساس, والتعقل. ودراسة هذه الوظائف تمكن من تمييز ثلاثة أنواع من المعارف: حسية, وخيالية, وعقلية, ونوعين من العقل: عقل منفعل, وعقل فاعل.
                        حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                        تعليق


                        • #27
                          التغذية


                          وفيها «توجد الحياة لجميع الكائنات ولها وظيفتان: التوليد والتغذي». وقوة التوليد أقرب الوظائف إِلى الطبيعة, وهي تقوم على أن يخلق كل كائن حي «كائناً آخر شبيهاً له». أمّا التغذي, فينمي الحيواني إِلى أن يصل الدرجة التي تحدّها ماهيته ولا يمكن أن يتعداها إِلاّ بنوع من الشذوذ الخلقي. وعندما يصل الحيوان إِلى جرمه الطبيعي النهائي يقف عن النماء, ولا تكون لعناصر التغذية عندئذ سوى استمرار بقائه وحفظه من الهلاك.
                          حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                          تعليق


                          • #28
                            الإِحساس


                            الإِحساس فعل مشترك بين المحسوس والحاس والعضو الحاس هو بالقوة عين الكيفية التي يدركها بالفعل, ويحتاج ليمارس عمله إِلى موضوع خارجي يدفعه إِلى ذلك. أما المحسوس فإِنه قوة فاعلة تحوّل قوى الذات الحاسة من القوة إِلى الفعل, ويقال على ثلاثة أنواع من الأشياء: المحسوسات الخاصة بكل حاسة, كاللون بالنسبة إِلى حاسة البصر؛ والمحسوسات المشتركة, كالحركة والسكون والعدد والشكل والمقدار؛ والمحسوسات بالعرض, كما لو أُدرك هذا الشيء الأبيض, مثلاً, على أنّه «ابن دياريس». إِن النوع الأول والثاني يدركان بالذات, أمّا النوع الثالث فيدرك بالعرض.

                            ولكن, ما طبيعة هذا الفعل المشترك الذي يربط بين المحسوس والحاس, وما سبب تفاعل هذين الحدين ووحدتهما؟ أتعود هذه الوحدة إِلى أنّ أحد هذين الحدين له طبيعة خاصة به, أي أنّ الحساسية عرض للمحسوس؟ أو أنّ كلا الحدين, بصفتهما واقعيين, يؤديان, معاً, على طريق تطور قوتهما, إِلى الفعل نفسه, أو أنهما في حالة واحدة, عن طريق الإِحساس المتحقق بالفعل, لأن كليهما موجود بالقوة إِذا كان منفصلاً عن الآخر.

                            ومع أنّ أرسطو لم يتوصل إِلى توضيح واحدية فعل الإِحساس, فإِنه لم يتخلّ عن الواقع, بل احتفظ بقسم منه لحل تلك المسألة المعقدة. والفكرة التي تسيطر على نظرية أرسطو في الإِحساس هي أن المحسوس الذي يحقق الحساسية بالفعل واقعياً ويمكن أن يوجد بغض النظر عنها, هو الذي يسيطر في فعلهما المشترك. ومن هنا تخلّى أرسطو عن النظرية التي تجعل من الإِنسان مقياساً لكل الأشياء والتي تحمل موضوع الإِحساس نفسه على فعل الذات.

                            ولكن لما كان موضوع الإِحساس وفعل الذات متمايزين ومتلازمين, في آن واحد, فإِنهما يبدوان فعلاً واحداً لجوهر يتحققان فيه بالفعل. تدلّ واقعية المعرفة الأرسطية على أنّ الموضوع ليس الشيء المدرك, وإِنّما هو المحسوس الموجود مستقلاً عن الذات, لا بصفته مجرّد إِمكانية عرضية في الإِحساس عاجزة عن الوجود بذاتها - كما لو أنّ اللون لا يوجد مستقلاً عن حاسة البصر - وإِنّما بصفته قوة محدّدة جوهرية قادرة على أن تصبح موضوع معرفة, وبالتالي متوافقة مع المعرفة ومع أعضائها. ولهذا, إِذن, فإِن العالم معقول, وإِنّ العضو الحاس والمحسوس على مستوى واحد, وهما مشاركان في قانون واحد, ومن صنيعة معلم واحد.
                            حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                            تعليق


                            • #29

                              المخيّلة


                              المخيّلة قوة فكرية تمكن من الإِدراك والتمييز, وهي امتداد للإِحساس ولا توجد من دونه, أو بالأحرى هي «الحركة المتولدة عن الإِحساس بالفعل». ولما كان البصر هو «الحاسة الرئيسة, فقد اشتق التخيّل اسمه من النور, إِذ من دون النور لا يمكن أن نرى». ومع أن التخيل, كالإِحساس والظن, قوة غامضة تحتمل الصدق والكذب, فإِنه «ليس أمراً من هذه الأمور, ولا المركب منهما». إِنّه, في الواقع, إِحساس لا مادة له تقريباً. فمن جهة, يستحيل التعلّم أو الفهم في غيبة الإِحساسات, «ومن جهة أخرى, فإِنه عند استعمال العقل يجب أن يكون مصحوباً بالأخيلة, لأنّ الأخيلة شبيهة بالإِحساسات, أي أنها غير مادية». وهكذا فإِن التخيّل ذو طرفين يلمس بطرفه الأول أسمى القوة الحسية, وبطرفه الآخر أدنى الوظائف العقلية, إِذ إِنّه يؤلف جسراً يربط بين الاثنين.

                              تتوضح المعقولية المتشبعة بها موضوعات الإِحساس في أنّ العقل الذي به يحرّك المحسوس حواسنا لا يختفي باختفاء المحسوس, بل يثبت في الحواس مكوّناً فكرة عن الأشياء الغائبة. وهذه هي الأخيلة التي تبقى راقدة مثل الضفادع في المستنقعات, ولكنها تستطيع أن تستيقظ من رقادها وتستقبل قوة تخيّلية. وعندما تلبي دعوة التأمل العقلي تترتب حول فكرة ما وتأخذ معناها الكامل. ومع أنّ الخيال مشتق من الإِحساس, فإِنه لا يوجد إِلاّ وهو متحرّر من الموضوع. فهو معقول بالقوة, ووسيلة للنفس ترتقي به من المحسوس إِلى الفكرة. ومع أن التخيّل أدنى من العقل وغير قادر على إِدراك الكليّ وتمييز الحقيقة بصورة مؤكّدة, فإِنه يظهر وكأنه قوة عقلية.

                              والواقع أنّ المعرفة تتطور, انطلاقاً من الإِحساس, حتى تتوصل إِلى المعرفة العقلية للذات, وذلك باللجوء إِلى وسائل ثلاث, هي: تثبيت المعطيات الحسية في الذاكرة, وتكرار موضوعات الذكريات ودمج بعضها ببعض, واستنتاج مفهوم الفن المستند إِلى الصيرورة ومفهوم العلم المستند إِلى الموجود. وهذا التطور يتعلق بقدرة النفس على إِدراك الكلي في الجزئي, والإِنسان النوعي في الإِنسان الفرد المعيّن.
                              حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                              تعليق


                              • #30
                                العقل


                                إِن العقل الإِنساني ليس شيئاً بسيطاً, وإِنّما هو مركّب, ويمكن تمييز مستويات مختلفة تبيّن تحرر الفكر من الصور الحسية تدريجياً. فهناك العقل الاستدلالي المنطقي المجاور للمخيّلة, وهناك العقل المحض الذي يستند, بوجه أساسي, إِلى الطبائع البسيطة, ويدركها بالحدس. وفي العقل المحض يُميّز العقل المنفعل والعقل الفعّال: إِذا كان الأول مشابهاً للمادة وقادراً على استقبال المعقولات, فإِنّ الثاني أسمى منه, إِذ هو كالضوء يحيل الألوان من القوة إِلى الفعل, كما أنّه يحقق الصّور المعقولة بالفعل, سواء أكانت مختلطة بالمادة كالصور المغلفة بالأخيلة, أم محضة كالصور التي يحتويها العقل الفعّال نفسه, وعند ذلك يكون العقل الفعّال, الذي أصبح هو ذاته المعقول, قادراً على أن يعقل ذاته.

                                والعقل بتعقله المعقولات يصبح عقلاً بالملَكة. وعلاقة هذا الأخير بالفعل مماثلة لعلاقة الملكة بالممارسة. وبفضل الملَكة يمارس العقل عملية التعقل, أي أنه يجعل من المعقول موضوع تعقل فعلي, فيتطابق العقل مع المعقول. هذا التطابق في عملية المعرفة العقلية, إِضافة إِلى تطابق الحاس والمحسوس في عملية الإِحساس, هما قضيتان أساسيتان في الفلسفة الأرسطية.

                                أمّا العقل الفعّال فإِنّه «اللامفارق اللامنفعل غير الممتزج, من حيث إِنّه بالجوهر فعل, لأنّ الفاعل دائماً أسمى من المنفعل, والمبدأ أسمى من الهيولى, والعلم بالفعل هو وموضوعه شيء واحد». فهو, إِذن, محض, أبدي وغير منفعل, كما أنه في جوهره بالفعل, بعكس العقل المنفعل الذي لا يتحقق بالفعل إِلاّ بوساطة الصور المعقولة التي يتلقاها.

                                ولكن كيف يمكن للصور المعقولة أن تحقق بالفعل العقل المنفعل المعروف بمكان الأفكار؟ وههنا يتدخل العقل الفعّال الذي يستدعي إِليه الصور المختلطة بالمادة الحسية أو الخيالية ليتحققها ويحقق بها الفعل المنفعل بالفعل. وإِذا كان العقل المنفعل يختفي باختفاء الفرد, وتختفي مع اختفائه الانفعالات والذكريات المنفعلة والفاسدة, فإِن العقل الفعّال, على العكس من ذلك, يبقى, كما هو, بعد الموت. يقول أرسطو في كتاب «النفس»: «أما العقل, فإِنه ولا ريب أكثر ألوهية ولا ينفعل». هذا العقل, عندما يفارق, يصبح «هو جوهراً, وعندئذ فقط يكون خالداً وأزلياً... ومن دون العقل الفعّال لا نعقل قط».

                                ولكن هل للعقل الفعّال وجود قبل اتحاده بالنفس؟ وهل هو من الإِنسان؟ وموجود فيه؟ إِنّ ما تبقى من نصوص أرسطو, لا يسمح بالإِجابة بدقة عن هذه الأسئلة. فكل ما يمكن قوله إِنّ العقل الفعّال فريد, فعل محض, غير متحرك إِطلاقاً, عقل وعاقل ومعقول, حتى إِنه لا يعقل إِلاّ ذاته, وشبيه بالله, بل حتى إِلهي. وهذا ما دفع الاسكندر الأفروديسي إِلى تأكيد أن العقل الفعال هو نفسه الله, فأطلق عليه «الله المفكر فينا». وصفوة القول إِن العقل الفعّال يبدو جنساً من النفس متميزاً منها, ويفارقها عند الموت, كما يفارق الأبدي الأشياء الفاسدة. وبهذا المعنى يقول أرسطو في كتاب «النفس»: إِن ههنا نوعاً من النفس مختلفاً, وإِنها وحدها يمكن أن تفارق الجسم, كما يفترق الأزلي عن الفاسد. أما أجزاء النفس الأخرى, فيتّضح ممّا سبق أنها لا تفارق, كما يزعم بعض الفلاسفة.
                                حياة الإنسان كتاب . لكن قلائل هم الذين يعرفون قراءة اكثر من صفحة منه !

                                تعليق

                                يعمل...
                                X