إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصه الاسلام في الصين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصه الاسلام في الصين

    قصه الاسلام في الصين


    كثيرة هي الأزمات التي تتعرض لها أمتنا الإسلامية في وقتنا الحاضر، ولا نكاد نُغلِق ملفًا حتى نفتح آخر، بل لعلنا نفتح عشرات الملفات في آنٍ واحد، فالقضية ملتهبة في فلسطين والعراق والسودان والصومال وأفغانستان والشيشان.. وهي كذلك ملتهبة في الصين وفي ألمانيا وفي فرنسا وفي الدنمارك.. قضايانا كثيرة.. وأزماتنا شديدة.. وقد يدفع هذا بعض المسلمين إلى أن يقولوا: اتسع الخرق على الراقع. بمعنى أنه لم يعُدْ هناك أمل في الإصلاح، ولم تعد هناك فرصة للقيام.. وهذا الإحباط في حقيقة الأمر لا معنى له في الإسلام، بل نؤمن أن الله بيده مقاليد السموات والأرض، وأنه لو رأى منا صلاحًا واستقامة لأنزل علينا نصره المبين بالطريقة التي يريد، وفي الوقت الذي يراه. كما أن دراسة التاريخ أثبتتْ لنا أن مع الصبر نصرًا، وأن مع العسر يسرًا، وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل.

    آثرت أن أبدأ بهذه المقدمة لكي لا يتسرب اليأس إلى قلوب المسلمين ونحن نفتح مأساة جديدة من المآسي العديدة التي تتعرض لها أمتنا الآن، وهي مأساة المسلمين في منطقة التركستان الشرقية، وتعرُّض الشعب الإسلامي هناك -وهو المعروف بشعب الإيجور- لاضطهاد عرقي كبير من السلطات الصينية، وليست هذه هي المرة الأولى التي نتحدث فيها عن أزمة المسلمين في الصين، فقد تناولنا مشكلة المسلمين في التبت -وهي إحدى المقاطعات الصينية- في مقال سابق تحت عنوان (قصة التبت)، ويبدو أننا لن نُغلِق هذه الملفات سريعًا؛ لأن المشكلة عميقة الجذور.

    جذور القصة:

    ولكي نفهم القصة بوضوح لا بد من العودة إلى أصولها، ولا بد من البحث في جذورها، ثم لا بد أيضًا من ربط ما يحدث في إقليم التركستان بما حدث في إقليم التبت، وبما يحدث في بقية أقاليم الصين؛ لذلك وجدت أنه من المفيد قبل أن نخوض في قصة الإيجور وعلاقتهم بالتركستان، لا بد من شرح قصة الإسلام في الصين بشكل عام. كما لا بد أن نأخذ فكرة -ولو يسيرة- عن أرض التركستان المجاورة للصين، وعن طبيعة شعبها وأرضها.

    التركستان كلمة مكوَّنة من مقطعين وهما "الترك" و"ستان"، وهذا يعني أنها أرض الترك، والأتراك من الشعوب الصفراء أبناء يافث بن نوح u، وهم من الشعوب الإسلامية الأصيلة التي دخلت في الإسلام مبكرًا، بل ظهر منهم من حمل الراية الإسلامية وقاد العالم الإسلامي كله في أكثر من مرحلة من مراحل التاريخ.

    الخلط بين العثمانيين والأتراك
    :

    ويخلط كثير من الناس بين كلمة "الأتراك" وكلمة "العثمانيين"، فيعتقد أنهما مترادفتان، ولكن الحقيقة أن كل العثمانيين أتراك، ولكن العكس ليس صحيحًا؛ فهناك الكثير من الأتراك ليسوا عثمانيين، وما العثمانيون إلا فرع محدود من قبائل الأتراك العظيمة، والتي ظهر منها رموز خالدة في تاريخنا، أمثال ألب أرسلان السلجوقي، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وأحمد بن طولون، وغيرهم وغيرهم.

    فالأتراك هم الشعوب التي تعيش في منطقة وسط آسيا وجبال القوقاز وحول بحر قزوين، وقد هاجر بعضها إلى أماكن بعيدة، كالعثمانيين الذين هاجروا إلى آسيا الصغرى (تركيا الآن)، ولكن الجميع ما زال يحتفظ بجذوره التركية الأصيلة، ولعل هذا يوضِّح لنا تفاعل الشعب التركي -على وجه الخصوص- مع قضية المسلمين في الصين؛ وذلك لاتفاق الجذور العرقية معهم، فضلاً عن العاطفة الإسلامية المتزايدة في تركيا في ظل وجود الزعيم الإسلامي الموفَّق أردوجان.

    يُقسِّم المؤرخون أرض الترك إلى قسمين كبيرين هما التركستان الشرقية (وهي الواقعة داخل الأراضي الصينية الآن)، والتركستان الغربية وهي مساحات شاسعة جدًّا من الأرض تضم بين طياتها الآن عدة دول هي كازاخستان وأوزبكستان والتركمنستان وقيرغيزستان وطاجكستان، وأجزاء من أفغانستان، وكذلك أجزاء من إيران، إضافةً إلى الشيشان وداغستان الواقعتيْن تحت الاحتلال الروسي.

    دخول الإسلام تركستان:

    وقد وصل الإسلام قديمًا جدًّا في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما إلى التركستان الغربية، ودخلت هذه الشعوب في دين الله أفواجًا، ومن التركستان الغربية انتقلت قوافل الدعاة والتجار إلى منطقة التركستان الشرقية، وكذلك إلى الصين، ودخل عدد من هؤلاء في الدين الإسلامي.

    وفي عهد الخلافة الأموية وصل عدد البَعثات الإسلامية المرسلة إلى الصين إلى 16 بعثة تدعوهم إلى الله عز وجل، ثم حدث التطور النوعي والنقلة الهائلة عندما وصلت جيوش المسلمين الفاتحين بقيادة القائد المسلم الفذّ قتيبة بن مسلم الباهليّ إلى التركستان الشرقية، ليفتحها بإذن الله، ويدخل عاصمتها كاشغر، وليتعرف أهل البلاد -وهم من الإيجور الأتراك- على الإسلام من قرب، ثم يسارعوا في الدخول إلى دين الله؛ لتصبح منطقة التركستان الشرقية إقليمًا إسلاميًّا خالصًا، وكان هذا الفتح العظيم في سنة 96هـ/ 714م في أواخر أيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.

    ومن هذا الإقليم المسلم بدأت قوافل الدعاة تتحرك في المنطقة، فدخلت جنوبًا إلى إقليم التبت، وبدأ أهل التبت يتعرفون على الإسلام ويعتنقونه، بل أرسلوا إلى والي خراسان الجرَّاح بن عبد الله في زمن الخليفة الأمويّ العظيم عمر بن عبد العزيز يطلبون إرسال الفقهاء إلى التبت لتعليمهم الإسلام.

    ومن إقليم التركستان الشرقية كذلك انتقلت وفود الدعاة إلى الصين؛ مما زاد من عدد المسلمين في داخل الصين، إضافةً إلى 12 بعثة إسلامية أرسلتهم الخلافة العباسية؛ مما أدى إلى تعريف الناس بالإسلام بشكل أكبر.

    والجدير بالذكر أنه في هذه المراحل الأولى كان يتعايش المسلمون في المجتمع الصيني أو في التبت مع البوذيين والديانات الأخرى بشكل سلميّ دون مشاكل دينية أو سياسية، كما كان يُحسِن المسلمون في إقليم التركستان الشرقية إلى الأعداد الكبيرة من الوثنيين الذين كانوا يعيشون معهم في نفس الإقليم من منطلق القاعدة الإسلامية الأصيلة "لا إكراه في الدين".

    إسلام ستوق بغراخان وانتشار الإسلام:

    وفي سنة 323هـ/ 943م حدثت طفرة هائلة في إقليم التركستان الشرقية عندما أسلم "ستوق بغراخان خاقان" زعيم القبيلة القراخانية الإيجورية التركية، وبإسلام هذا الرجل العظيم دخلت في الإسلام أكثر من مائتي ألف عائلة تركية، مما يعني أكثر من مليون إنسان في لحظة واحدة! وهو يُذكِّرنا بموقف الصحابي الجليل سعد بن معاذ -رضي الله عنه- عندما أسلمت الأوس بإسلامه.

    قويت بذلك دولة التركستان الشرقية جدًّا، وبدأت في الارتقاء الحضاري المتميز، وزاد الأمر قوة في عهد حفيد ستوق، وهو هارون بغراخان، الذي تلقب بشهاب الدولة، وكذلك بظهير الدعوة، وقد أوقف خُمس الأراضي الزراعية لإنشاء المدارس لتعليم الإسلام، وأكثر من ذلك فقد كتب اللغة التركستانية -وكذلك اللهجة الإيجورية- بالحروف العربية، وكان هذا تقدمًا عظيمًا في تمسك أهل التركستان بالإسلام، حيث أصبحت قراءة القرآن والأحاديث النبوية والمراجع الإسلامية متيسرة لهم بشكل أكبر.

    وفي سنة 435هـ/ 1043م استطاع الإيجوريون إقناع عشرة آلاف عائلة من عائلات القرغيز الأتراك بدخول الإسلام، وكانت إضافةً قوية جدًّا لدولة التركستان، وكانت دولة التركستان في ذلك الوقت تخطب للخليفة العباسي القادر بالله على منابر المساجد، وضربوا العملة باسمه، مع أنه لم يكن له سيطرة فعليَّة على البلاد، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك من منطلق إسلامي، ورغبة في توحيد الصف المسلم.

    الاجتياح التتري:

    ظل الأمر كذلك حتى ابتُلِي العالم بمصيبة كبرى وهي الطاغية المغولي جنكيز خان سنة 603هـ/ 1206م، وقد توسع بسرعة رهيبة في البلاد المحيطة، وذلك انطلاقًا من منغوليا، وقد تلقت التركستان الشرقية الصدمة التترية الأولى، وحدثت فيها عدة مذابح، ودخلت بسرعة في سلطان التتار، خاصةً أن العالم الإسلامي بشكل عام كان يعاني من الضعف الشديد.

    وعندما مات جنكيز خان حدثت بعض الصراعات بين أتباعه، وانتهى الأمر إلى تقسيم مملكة التتار الواسعة إلى أجزاء عدة، وما يهمنا الآن من هذه الأجزاء جزآن؛ أما الجزء الأول فهو الذي يضم منغوليا والتركستان الشرقية، وكان على رأسه "أرتق بوقا"، وهو من أسرة أوكيتاي المغولي، وهذا الجزء يضم دولة التركستان الشرقية بكاملها، وقد تحسنت علاقة التتر بالمسلمين مع مرور الوقت، بل وصل الأمر إلى أن اعتنق أحد زعمائهم وهو "طرما تشيبرين" الإسلام، وبالتالي دخلت أعداد كبيرة من المغول في دين الإسلام، وهو من العجائب في التاريخ حيث يدخل المحتلون القاهرون في دين المستضعفين المهزومين، وهذه عظمة الإسلام وقوة حجته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون! وكان هذا التحول إلى الإسلام في سنة 722هـ/ 1322م.

    وبالمناسبة فهذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها المغول إلى الإسلام، فقد دخل قبل ذلك أحد زعمائهم الكبار وهو بركة خان إلى الإسلام، وأسلمت معه قبيلته المعروفة بالقبيلة الذهبية، وكانوا يعيشون في منطقة القوقاز في وسط آسيا.

    مسلمو الصين وأسرتا ومنغ:

    أما الجزء الثاني الذي له علاقة بقصتنا فهو منطقة الصين، حيث دخلت في حكم قوبيلاي بن تولوي المغولي، الذي جعل عاصمته في مدينة خان باليغ الصينية، والتي صارت بكين بعد ذلك. ومن العجيب أن هذه الدولة كانت تقدِّر المسلمين جدًّا وتحترمهم، مع أن جيوش التتار ذبحت قبل ذلك ملايين المسلمين في البلاد الإسلامية، لكن أسرة قوبيلاي في الصين كانت تتعامل مع المسلمين الصينيين أرقى معاملة لما تميزوا به من الكفاءة والأمانة وحسن الأخلاق والقدرة على الإدارة؛ مما دفع أسرة قوبيلاي إلى استخدام المسلمين في الولايات العامة وفي المناصب الكبرى، ولم يكن بالضرورة أن يستخدموا المسلمين من أبناء الصين، بل كانوا يستعملون أيضًا المسلمين القادمين من التركستان الشرقية أو الغربية، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن القادة المسلمين كانوا يحكمون 8 ولايات من أصل 12 ولاية تتكون منها الصين آنذاك! ومن أشهر المسلمين نفوذًا في هذه الحقبة "شمس الدين عمر" الذي ترقى من كونه ضابطًا بالجيش المغولي الحاكم للصين إلى حاكم عسكري لمدينة تاي يوان، ثم مدينة بنيانغ، ثم صار قاضيًا في مدينة بكين، ثم حاكمًا لمدينة بكين العاصمة! وقد اهتم هذا الحاكم المسلم بإنشاء عدد كبير من المدارس والمعاهد الدينية في الصين، ولعل أكثر المساجد الموجودة الآن في الصين قد أسِّست في "العهد المغولي"، وذلك في ظل المكانة المرموقة التي كان يتمتع بها المسلمون.

    ظلت أسرة قوبيلاي المغولية تحكم الصين حتى سنة 770هـ/ 1368م حين سقطت هذه الأسرة على يد أسرة صينية شهيرة هي "أسرة منغ"، والذي امتد نفوذها خارج الصين ليصل إلى تركستان الشرقية، التي كانت في حوزة المغول من أسرة أوكيتاي.

    وعلى الرغم من التغير الاستراتيجي الكبير الذي حدث بانتقال الحكم من المغول إلى الصينيين إلا أن وضع المسلمين في دولة الصين، وكذلك في دولة التركستان الشرقية ظل متميزًا؛ حيث سارت أسرة منغ على نفس طريق أسرة قوبيلاي المغولية، وقدَّموا المسلمين البارزين علميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا إلى المراكز المرموقة في الدولة، وظل هذا الوضع إلى سنة 1052هـ/ 1642م.

    اضطهاد المسلمين في عهد المانشوريين:

    لكن في سنة 1052هـ/ 1642م سقطت دولة منغ لتقوم مكانها دولة صينية جديدة تحت قيادة عائلة مانشو Manchu، وهي المعروفة بالأسرة المانشورية، لتمارس أسلوبًا جديدًا في التعامل مع المسلمين، وهو أسلوب الصدام والصراع؛ فقد خشي المانشوريون من نفوذ المسلمين، فبدءوا في اضطهادهم وقمعهم، وزاد الأمر خطورة عند اكتشاف محاولة لإعادة أحد أمراء أسرة منغ إلى الحكم بمساعدة المسلمين، وذلك في سنة 1058هـ/ 1648م؛ مما أدى إلى تصعيد خطير من الأسرة المانشورية، وقامت بقتل خمسة آلاف مسلم، وامتد هذا التوتر وبشكل أكبر إلى ولاية كانسو، وهي إحدى الولايات القريبة من التركستان الشرقية، والتي تتميز بكثرة إسلامية.

    حاولت أسرة مانشو عدة مرات أن تحتل إقليم التركستان الشرقية، الذي عاد إسلاميًّا صِرفًا بعد إسلام المغول، ليضم بين جنباته المسلمين من المغول والإيجور الأتراك، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل في البداية، إلى أن نجحت الأسرة المانشورية في احتلال التركستان الشرقية سنة 1172هـ/ 1759م، وقد دام هذا الاحتلال عدة عشرات من السنين، ولكن تحرر لفترة قصيرة ليقيم الأتراك حكمًا إسلاميًّا هناك لمدة 13 سنة، ولكن سقط مجددًا تحت الاحتلال الصيني، وذلك بمساعدة الإنجليز، وهذا في سنة 1292هـ/ 1876م، وقد قامت الأسرة المانشورية فورًا بتغيير اسم التركستان الشرقية إلى إقليم "سنكيانج" أي المقاطعة الجديدة؛ في محاولةٍ لطمس الهوية الإسلامية، ومحو التاريخ العربي لهذا الإقليم.

    ولقد قامت الأسرة المانشورية بإجراءات قمعية كبيرة جدًّا في إقليم التركستان الشرقية، وعيَّنتْ حاكمًا مسلمًا عميلاً لها على الإقليم كان أشد ضراوةً على السكان من الصينيين أنفسهم، لكنها في نفس الوقت لم تمارس هذا الضغط بشكل عنيف في الصين نفسها، بل حاولت تهدئة الأمور مع المسلمين، ولكن دون أن تسمح لهم بحرية كبيرة في التعريف بدينهم، ولقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله -الخليفة العثماني المشهور- أن يُجرِي علاقات مع المسلمين في الصين، وأرسل لهم عدة بَعثات دينية، ولكن هذه البعثات قوبلت بالمقاومة من الحكومة الصينية؛ مما قلَّص من أعمالها ونتائجها.

    الحكم الجمهوري والاعتراف بالمسلمين:

    ثم سقطت الدولة المانشورية في سنة 1329هـ/ 1911م، وساعد المسلمون في سقوطها ليقوم الحكم الجمهوري في الصين، وقد اعترف الحكم الجمهوري في الصين منذ أيامه الأولى بأن المسلمين هم أحد العناصر الرئيسية في دولة الصين، وأن الصين مكوَّنة من خمسة عناصر رئيسية هم الصينيون (وأصولهم قبيلة الهان)، والمانشوريون، والمغول، والمسلمون (ومعظمهم من قبيلة الهوي الصينية)، والتبت. وكان العَلَمُ الصيني مكوَّنًا من خمسة ألوان؛ للدلالة على هذه الأعراق الخمسة، وهي الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض والأسود، وكان المسلمون يمثَّلون باللون الأبيض. وهدأت بذلك أوضاع المسلمين كثيرًا في الصين باستثناء التركستان الشرقية التي خشي الجمهوريون من إعطاء مساحة حرية له فينفصلون على الدولة الصينية، ومن ثَمَّ كانت الحرية الدينية للصينيين من قبائل "الهوي" أو المهاجرين، ولكنها ليست للإيجوريين الأتراك في التركستان الشرقية.

    استقلال تركستان الشرقية:

    ثم دخلت الصين في حرب كبيرة جدًّا مع اليابان انتهت بدخول اليابان إلى بكين عاصمة الصين 1325هـ/ 1933م، وقام اليابانيون بعِدَّة مذابح ضد الصينيين، لكنهم -في نفس الوقت- أعطوا مساحة حرية كبيرة للمسلمين؛ لإحداث شيء من التوازن في المنطقة. ولقد استغل الأتراك في التركستان الشرقية الفرصة وقاموا بحركة تحرُّر من الصينيين، ونجحوا في ذلك بالفعل، وأعلنوا دولة التركستان الشرقية المسلمة في سنة 1352هـ/ 1933م، ولكن بعد عام واحد اتحدتْ الحكومة الجمهورية في الصين مع روسيا ليدخلا معًا إلى التركستان الشرقية ليُعِيدا احتلال التركستان الشرقية لصالح الصين، وذلك في سنة 1353هـ/ 1934م، على الرغم من وجود الاحتلال الياباني في الصين، ولقد قام الصينيون بإعدام رئيس دولة التركستان "خوجانياز"، وكذلك رئيس الوزراء "داملا"، إضافةً إلى عشرة آلاف مسلم آخرين.

    الاحتلال الشيوعي لتركستان:

    قامت الحرب العالمية الثانية سنة 1358هـ/ 1939م، وانتهت سنة 1364هـ/ 1945م، وقد هُزمت فيها اليابان، وبالتالي خرجت من الصين، ولكن قامت في نفس الوقت الثورة الشيوعية في الصين بقيادة "ماو تسي تونج"، وحدثت بعض التداعيات المؤثِّرة؛ فقد انسحب الجمهوريون الذين كانوا يحكمون الصين أمام الشيوعيين الجدد، وتوجّهوا إلى تايوان واستقلوا بها عن الصين، وتلقوا الدعم الكامل من العالم الغربي، وأيضًا حاول الروس التوسُّع في إقليم التركستان الشرقية على حساب الصين، وتحالفوا مع بعض القوى الإسلامية هناك، وسيطروا بالفعل على شمال إقليم التركستان الشرقية، إلا أن ماو تسي تونج دخل بقواته التركستان الشرقية في سنة 1369هـ/ 1949م؛ لينهي بشكل قاطع كل المحاولات الإسلامية أو الروسية، وليضم إقليم التركستان الشرقية أو ما يسمونه بإقليم سنكيانج إلى الصين.

    هذه هي قصة الإسلام في الصين في القرون الماضية، وقد وصل الشيوعيون بكل جبروتهم إلى الحكم هناك، وكان لهم وسائل كثيرة لتثبيت أقدامهم في الدولة، خاصةً في الإقليم المسلم إقليم التركستان الشرقية.

    تُرى ما هي وسائل الشيوعيين في طمس الهويَّة الإسلامية في إقليم التركستان؟، وماذا فعلوا مع الإيجوريين الأتراك سكان هذا الإقليم الكبير؟، ولماذا تتمسك الصين بهذا الإقليم إلى هذه الدرجة؟، وماذا فعل الإيجوريون للخلاص من هذا الاحتلال البغيض؟، وما هو دورنا كمسلمين في هذه القضية الخطيرة؟، هذا ما سنعرفه بإذن الله في المقال القادم.

    وأسأل الله عز وجل أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.


  • #2



    دولة التركستان الشرقية من الدول الإسلامية المحتلة، التي ابتلعتها الصين الشيوعية في سنة 1949م في ظل غفلة المسلمين عن قضاياهم الماسَّة، ونتيجة لفُرقة المسلمين وتشتتهم. وهي أرض إسلامية خالصة، ولقد فصَّلنا في تاريخها في مقال سابق بعنوان "قصة الإسلام في الصين"، كما ذكرنا الثروات الهائلة التي تمتلكها هذه الدولة الإسلامية الكبرى، والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والدينية التي تتمتع بها، وهذا في مقال آخر بعنوان "كنوز التركستان الشرقية". وفي مقالنا هذا نرى ماذا فعلت الصين الشيوعية في العقود الثلاثة الأخيرة، وما هي خُطَّتها للسيطرة على دولة التركستان المسلمة.

    خطط الصين لمحو الأويغور

    نستطيع أن نُجمِل خطة الصين الشيوعية في النقاط التالية:
    أولاً: القمع الدموي وسياسة تكسير العظام، وهو أسلوب شيوعي معروف، وكانت وتيرة هذه الدموية قد خفّت نسبيًّا في فترة السبعينيات والثمانينيات إلا أنها عادت من جديد مع أوائل التسعينيات، وذلك عندما تحررت الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، وبدأت تظهر دعوات "حق تقرير المصير" في التركستان الشرقية، فكان الرد عنيفًا جدًّا من الحكومة الصينية، وامتلأت السجون بأصحاب الرأي، وقُتل من التركستان أعداد غفيرة، وتم نفي بعض الرموز إلى خارج الصين. ولقد زارت منظمة العفو الدولية منطقة التركستان في سنة 1998م، وكتبت تقريرًا مفصَّلاً عن الظلم والاضطهاد الصيني، وقد بلغت عدد صفحات التقرير 92 صفحة، ومع ذلك ذكرت منظمة العفو الدولية أن هذا التقرير لا يمثِّل إلا قمَّة جبل الثلج، وأن معظم التعدِّيات لم يصلوا إلى تفصيلاتها؛ للحظر الإعلامي والمعلوماتي المضروب على إقليم التركستان بكامله.

    ولقد زادت وتيرة الاضطهاد أكثر وأكثر بعد أحداث سبتمبر 2001م في أمريكا؛ وذلك لتحرُّك العالم فيما أطلقت عليه أمريكا "الحرب ضد الإرهاب"، واستغلت الصين الفرصة، وأعلنت عن اكتشافها خلايا إرهابية في التركستان متعاونة مع تنظيم القاعدة! ومن ثَمَّ أصبحت الحرب الصينية على المسلمين علنية، وكان على أمريكا أن تغضَّ الطرف طبعًا؛ لكي تغض الصين طرفها عن التعدّيات الأمريكية في العراق وأفغانستان وجوانتانامو، والضحية في كل الحالات مسلمون!
    ولعلّ ما شاهدناه من أحداث أخيرة يدلنا على طريقة تعامل الصين مع شعب الأويغور التركستاني؛ فالمظاهرة السلمية التي تُنادي بفتح تحقيق لمقتل اثنين من الأويغور ظلمًا جُوبِهت بتحركات من الجيش والشرطة، وتحليق طيران، وحظر تجوُّل، وقانون طوارئ، وقتْل ما يقرب من مائتين في الإحصائيات الصينية، وما يزيد على ستمائة في الإحصائيات التركستانية، هذا غير المصابين والمعتقلين.
    إنها صورة مكرورة من البطش والإرهاب تحت دعوة الحرب ضد الإرهاب، وقديمًا قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].

    ثانيًا: محو الهويَّة الإسلامية، فالشيوعيون يدركون أن سرَّ قوة المسلمين في عقيدتهم، وأنهم طالما يتمسكون بدينهم فمن الصعب أن تكسرهم؛ لذا كان من الوسائل الرئيسية التي تستخدمها الصين في حربها ضد أهلنا في التركستان طمس الهوية الإسلامية بكل الطرق، فهم يُغلقِون الكثير من المساجد والمدارس الدينية، ويمنعون الشباب تحت 18 سنة من الصلاة في المساجد، ويمنعون الشباب في الجامعات من حمل المصحف، ويصادرون ما يجدونه من مصاحف في أي مؤسسة بما فيها المساجد!
    ولقد ذكر الأستاذ فهمي هويدي أنه زار التركستان الشرقية في الثمانينيات، فلم يجد مصحفًا واحدًا في أي مسجد! وذكر أن إعطاء أحد أئمة المساجد مصحف كهدية كان سببًا في بكائه من شدة الفرح؛ لأن المصاحف عملة نادرة جدًّا في التركستان المسلمة!
    وتمنع الحكومة الصينية التلاميذ في المدارس من تأدية الصلاة، وتمنع المدرِّسين من إطلاق اللحية، وتحظر الحج على من هو أقل من 50 سنة! ويصل الأمر أحيانًا إلى استفزازات لا معنى لها، وذلك مثل ما ذكرته صحيفة التايمز اللندنية من أن الرموز الإسلامية في التركستان تُجبَر على احتساء الخمر قبل إعدامها! وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. وما ذكرناه مجرَّد أمثلة، والأمر أكبر من أن يُستقصى في مقال.

    ثالثًا: سياسة الاحتواء، حيث تحاول الحكومة الصينية إقناع المسلمين في التركستان أنهم يمتلكون حكمًا ذاتيًّا داخل الدولة الصينية، ويأتي على رأس هذه الحكومة الذاتية شخصٌ هو أقرب الناس للحكومة الصينية، وهو أشدّ المواطنين ولاءً لها، وهو علماني أكثر من العلمانيين الصينيين، وهو أشد عنفًا من الشيوعيين! وهكذا تُنفَّذ السياسة الشيوعية بأيدٍ مسلمة، وهذه صورة نراها في كثير من البلدان المسلمة، حيث تكون الحكومة المسلمة أشد ضراوة على أبنائها من الاستعمار الخارجي، بل قد يتدخل الاستعمار الخارجي أحيانًا لتحرير البلاد المسلمة من حكامها!

    رابعًا: سياسة التهميش السياسي وتقليل الأعداد:
    فالصين تقلِّل دومًا من أعداد المسلمين، وخاصة من عِرقية الأويغور أهل التركستان الأصليين، وتقول إنهم ثمانية ملايين فقط، بينما إحصائيات الأويغور تؤكِّد زيادة عددهم عن الثلاثين مليونًا. وتقلل الصين أيضًا من أعداد المسلمين بشكل عام في الصين فتذكر أنهم ستون مليونًا، بينما هم يزيدون على مائة مليون. كما أن الصين لا تعترف بالديانات أصلاً، ومِن ثَم فهي تقسِّم المسلمين إلى عِرقيات تسعة، وبذلك تصبح كلُّ عرقيَّة قليلة العدد جدًّا؛ مما لا يسمح لها بالتمثيل في البرلمان، أو الوصول إلى إدارة المحليات، أو غيرها من الإدارات. ولا تسمح الصين أبدًا بوجود رمز تركستاني بارز في المجتمع الصين، ولقد خالفت هذه القاعدة مرَّة عندما سمحت لإحدى رموز التركستان النسائية بالنمو والظهور، وهي "ربيعة قادر" التي صارت من النماذج الاقتصادية البارزة، إلا أنه بمجرد تمسُّك ربيعة قادر ببعض الثوابت الإسلامية، ورفضها أن تنفصل عن زوجها المنفي في أمريكا بتهمة النشاط الانفصالي، فإنّ الحكومة الصينية تنكرت فورًا للاقتصاديَّة ربيعة قادر، وقامت بإلقاء القبض عليها، ومحاكمتها بسرعة، وإصدار حكم بالسجن خمس سنوات، ثمّ تمّ نفيها بعد ذلك إلى أمريكا بعد مصادرة أعمالها. ولقد قام الغرب على الفور بترشيح ربيعة قادر لجائزة نوبل للسلام ! ليس حبًّا في المسلمين بالطبع، ولكن طعنًا في الصين، وردت الصين بالتنديد بهذا الترشيح؛ حيث تعتبر ربيعة قادر من المخرِّبات لوَحدة الصين!
    إن هذا التهميش السياسي المتعمَّد يَحْرِمُ التركستانيين من أي قناةٍ يصلون فيها برأيهم إلى الدولة، ولا يوجد منصب واحد من المناصب الكبرى في دولة التركستان إلا ويتولاه صيني من عرقية "الهان"، وهي العرقية الغالبة على أهل الصين، أما "الأويغور" وبقية المسلمين فلا وجود سياسيًّا لهم.

    خامسًا: سياسة التهجير للمسلمين من التركستان إلى بقية أجزاء الصين، وخاصةً من عرق الأويغور؛ وهذا بهدف تذويبهم في المجتمع الصيني. إضافةً إلى تقليل أعدادهم في الدولة الأم التركستان، وهذا التهجير يكون عن طريق الترحيل القسريّ للعمال والمزارعين ليعملوا في أماكن بعيدة عن التركستان، وكلها أعمال متدنِّية بسيطة. ولعلّ من أكبر الكوارث في هذا المجال ما ذكرته ربيعة قادر من أمر ترحيل أكثر من مائة ألف فتاة أويغورية غير متزوِّجة تتراوح أعمارهن بين 15 إلى 25 سنة من التركستان إلى مناطق مختلفة من الصين في عام 2007م رغمًا عن أنوف أهلهن؛ مما سبَّب حالة من الاحتقان الشديد في التركستان، خاصةً أن ذلك قد يدفع هؤلاء الفتيات إلى امتهان أعمال غير أخلاقية في ظل غياب المال والأسرة.

    سادسًا: التهجير العكسي للصينيين من عرقية "الهان" إلى التركستان الشرقية، والتوطُّن الدائم هناك؛ وذلك بُغية تغيير التركيبة الديموجرافية للسكان، فتصبح المنطقة بعد فترة من الزمان غير إسلامية بشكل تلقائي، وهي نفس سياسة اليهود في فلسطين حيث يقدِّمون إغراءات كبيرة لليهود في العالم للقدوم إلى أرض فلسطين، كذلك يفعل الصينيون، خاصةً بعد اكتشاف البترول في التركستان في الثمانينيات، وقيام عدد من الصناعات البتروكيماوية الضخمة هناك؛ مما أعطى الصينيين الفرصةَ للتوجُّه إلى دولة التركستان للعمل والحياة هناك.. ونتيجة هذه السياسة المنتظمة، إضافةً إلى ما ذكرناه في النقطة السابقة من ترحيل الأويغور من التركستان، فإنّ التركيبة السكانية قد تغيَّرت بالفعل بشكل كبير وخطير؛ فتذكر الإحصائيات الصينية أنه في سنة 1942م كانت نسبة المسلمين في إقليم التركستان الشرقية 90% (78% من الأويغور و12% من عرقيات أخرى)، وكانت نسبة عرقية "الهان" الصينية 6% فقط، بينما هناك 4% من العرقيات المختلفة الأخرى.. أما في إحصائية 2008م فقد وصل الصينيون من عرقية "الهان" إلى نسبة 40% من السكان!! مما يشكِّل خطورة كبيرة جدًّا على مستقبل هذه المنطقة، خاصةً أنها منطقة واعدة اقتصاديًّا، ولا تعجز الصين عن إرسال عدة ملايين آخرين لقلْب النسبة تمامًا لصالح "الهان" الصينيين.

    سابعًا: سياسة الإهمال التعليمي المتعمَّد للأويغوريين خاصةً، وللمسلمين عامة في إقليم التركستان الشرقية؛ فالمدارس والجامعات أقل كثيرًا في المستوى من نُظرائها في الصين. كما أن حالة الفقر المُذْرِيَة التي يعاني منها المسلمون تدفعهم إلى العمل مبكرًا في الحقول والمصانع والمناجم وكباعةٍ متجوِّلين؛ مما يحرمهم من التعليم، ومع مرور الوقت يصبح الجهل بكل تبعاته متفشِّيًا في المسلمين، وهذا يحرمهم بشكل تلقائي -فضلاً عن التعمُّد- من شَغْل المناصب الكبرى، أو الوصول إلى ما يريدونه من مراحل تعليمية متقدمة. كما أن هذا الجهل يقطع تواصلهم مع العالم الخارجي، ويقلِّل من إمكانية استيعابهم للمتغيرات من حولهم، وهذا كله يصبّ في إضعاف المجتمع التركستاني المسلم.
    وفوق هذا فإن السلطات الصينية تمنع استعمال اللغة التركية الأويغورية في المدارس والمؤسسات الرسمية التركستانية؛ وذلك بهدف قطع التواصل بين أفراد الشعب، وكذلك قطع العَلاقة مع الدول المجاورة التي تتكلم التركية، وهي الدول المتحرِّرة من الاتحاد السوفيتي، إضافةً إلى تركيا. وتهدف أيضًا إلى قطع العلاقة بينهم وبين المصادر الإسلامية القليلة التي يمتلكونها، والمكتوبة باللغة الأويغورية التركية بحروفها العربية.. إنها سياسة واضحة لتجهيل الشعب الأويغوري المسلم علميًّا ودينيًّا، خاصة إذا لاحظنا التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه الصين، والذي يصبّ كله في صالح عرقية "الهان" دون غيرها من العرقيات.

    ثامنًا: سياسة الإضعاف الاقتصادي للمسلمين؛ فالمسلمون أصحاب البلد مُحارَبون في أقواتهم وفي أعمالهم، وبشكل تعسُّفي عنيف، فلقد انتشرت المصانع في التركستان الشرقية بعد اكتشاف البترول بها، وهي مصانع البتروكيماويات وغيرها من الصناعات المتعلقة بالبترول، وهي تضم آلاف العمال، ومع ذلك ففرصة العمل لعرقية "الهان" الصينية كبيرة جدًّا، بينما يُحرَم أصحاب البلد من العمل في هذه الوظائف. ولقد قال أحد المحللين الصينيين في معهد جلوبال إنسيت his وهو "رين شينفانج" لوكالة الأنباء الفرنسية: "إن 70% من الصناعات البتروكيماوية في يد الدولة، وبالتالي فإن معظم العاملين فيها والمستفيدين منها هم من عرقية الهان، ولا توجد إلا أعداد قليلة جدًّا من عرقية الأويغور في هذه المصانع والشركات".
    وليس هذا في المجال الصناعي فقط، بل في المجال الزراعي أيضًا، فإن هذا المجال تسيطر عليه الشركات الحكومية وشبه الحكومية، وهم لا يوظِّفون إلا السكان من عرقية "الهان". وعلى سبيل المثال فإن شركة "بينجتوان" الصينية الحكومية تستحوذ على معظم الأراضي الزراعية في التركستان، وتوظِّف في أعمالها أكثر من 2.2 مليون موظف من "الهان"، وليس فيهم من الأويغور إلا القليل.
    وما قلناه على المجال الصناعي والزراعي ينطبق كذلك على المجال التجاري، حيث لا يُسمح للأويغوريين بالترقي في الوظائف التجارية، ولا يُسمح لأعمالهم أن تتضخم وتَكْبَرَ. ولقد تتبعت الحكومة الصينية التجار الأويغوريين حتى في خارج إقليم التركستان، وعلى سبيل المثال فقد هاجمت الحكومة الصينية حيًّا في بكين يضم تجمُّعًا للأويغوريين ، وهو الحي المعروف "بقرية شينجيانج"، وأغلقت ثلاثين مطعمًا إسلاميًّا، وقامت بتشريد ألف مسلم!
    ويبرِّر أحد الباحثين الصينيين -وهو "ياي شينرونج" الباحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية- هذا الضعفَ الاقتصاديَّ للأويغوريين بأنه ناتجٌ عن مستوياتهم التعليمية الضعيفة، والتي تمنعهم من أخذ مواقع مناسبة في السُّلَّم الاجتماعي، وليس راجعًا إلى تمييز مباشر ضدهم.
    وأنا أرى أن هذا عُذر أقبح من ذنب! فلماذا لم يسأل هذا الباحث نفسه عن سر تخلف المسلمين في إقليم التركستان علميًّا؟! إنه نفس السبب الذي تذكره أمريكا في حق الزنوج عند الحديث عن ارتفاع معدلات الجريمة والبطالة فيهم، وتعزو ذلك إلى قلة مستواهم التعليمي، متجاهلةً في ذلك الحالة المتردِّية التي عليها مدارس وجامعات السود حتى في المدن الأمريكية الكبرى!
    إن سياسة الظلم واحدة، وإن كانت تتعدد أشكالها، وما يحدث في التركستان الشرقية المسلمة ليس جديدًا على الطغاة والمجرمين.

    تاسعًا: سياسة التعتيم الإعلامي.. وهي سياسة قديمة جدًّا في العالم، ومارسها كل الظالمين، ولقد قال الكفار في مكة كما حكى القرآن الكريم {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]؛ فالسماع قد يؤدي إلى التأثير، ولذلك يرى الظالمون أن الحَكْر على السماع، وأن التعتيم الإعلامي وسيلةٌ من وسائل السيطرة على مجريات الأمور.
    والصين من الدول المشهورة عالميًّا بالتعتيم الإعلامي، وهي سياسة معظم الدول الشيوعية إن لم يكن كلها، وعلى الرغم من التقنيات الحديثة ووجود الفضائيات والإنترنت إلا أن السلطات الصينية ما زالت تحرص على عدم وصول المعلومة إلى الناس، ولقد رأينا أنه في الأزمة الأخيرة قامت السلطات الصينية بقطع شبكات المحمول النقّال من إقليم التركستان، كما قللت جدًّا من سرعة الإنترنت، وقطعته بعض الفترات لمنع وصول الأخبار إلى الخارج. ولقد كان من التُّهم التي وُجِّهت إلى ربيعة قادر أنها أرسلت بعض الجرائد المحلية الصينية إلى الخارج، وهذا يُعتبر -في عُرف القانون الصيني- إفشاءً لأسرار الدولة!! فمع أن الأخبار مذكورة في صحيفة محلية إلا أن هذه الأخبار للصينيين فقط، وغير مسموح للعالم أن يقرأها!!
    وفي ظل هذا التعتيم الإعلامي الشديد لا يعرف العالم الخارجي، مسلمًا كان أو غير مسلم، ما يجري في أرض التركستان المسلمة، وبالتالي يفقد المسلمون هناك كل عون خارجي، وينفرد الصينيون بالتعامل معهم. وإضافةً إلى هذا التعتيم فإن الإعلام الصيني كثيرًا ما يزوِّر الحقائق، ويلبِّس على المتابعين الأمورَ، ويُعلِن أنه يتعامل مع مجموعات إرهابية في دولة التركستان المسلمة. وواقع الأمر أنه يتعامل مع شعب مقهور، سُلبت أرضه، ونُهبت ثرواته، وسالت دماؤه، ودُنِّستْ مقدساته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

    عاشرًا: سياسة منع التواصل الفكري والثقافي مع العالم الإسلامي؛ لأن هذا التواصل قد يوضِّح الصورة للبلاد الإسلامية، مما قد يدفعها إلى قطع العلاقات على الأقل مع الصين، وهذا يؤثِّر جدًّا على الاقتصاد الصيني الذي يعتمد على التجارة الخارجية. ولهذا فإن كلّ القنوات الثقافية والفكرية والفنية والرياضية مغلقة مع إقليم التركستان، ولا مجال للمسلمين هناك أن يخرجوا إلى خارج الصين، ولا أن يدخل إليهم أحد من المسلمين إلا بصورة فردية وفي حالات خاصة.
    وعندما قام الرئيس التركي عبد الله جول بزيارة الصين في شهر يونيو 2009م قبل أحداث الأزمة الأخيرة بقليلٍ، أصرَّ على زيارة هذا الإقليم الإسلامي، الذي تربطه مع تركيا علاقات الدين، وكذلك علاقات العرقية والأصل، وكان الرئيس التركي في زيارة للصين لعقد اتفاقيات تجارية مهمَّة تجاوزت 1.5 مليار دولار، ومع ذلك بعد انتهاء زيارته بعدة أيام حدثت المشكلة التي راح ضحيتها مئات من الأويغور الأتراك. ويرى بعض المحللين أن هذا التوقيت مقصود، وأنها رسالة من الحكومة الصينية إلى الشعب التركي ورئيسه، وخلاصة الرسالة أن العلاقات الصينية التركية شيء، وإقليم التركستان شيء آخر، وأنه لا مجال لتواصل هذا الإقليم مع أي عنصر خارجي حتى لو كان هذا العنصر رئيسًا مفخَّمًا، أو دولة كبرى!
    ولقد هاج الشارع التركي نتيجة هذا الاستفزاز الصيني، وقام بعِدَّة مظاهرات أمام السفارة الصينية، وانسحب كثير من أعضاء البرلمان التركي من جمعية الصداقة الصينية التركية، لكن هذا لم يغيِّر من موقف الحكومة الصينية التي ترى قضية التركستان قضية أمن قومي لا يمكن المساس بها.
    كانت هذه هي الوسيلة العاشرة من وسائل القهر الصيني للشعب التركستاني المسلم، فتلك عشر كاملة!!
    ماذا نحن فاعلون؟!
    والسؤال الذي لا بُدَّ أن يشغلنا الآن بعد رؤية هذا التاريخ الطويل للإسلام في هذه الدولة الإسلامية المحتلة، وبعد معرفة الثروات الهائلة التي يمتلكها هذا الإقليم العظيم، وبعد إدراك مدى الطغيان الصيني في التعامل مع هذا الملف.. السؤال الذي يجب أن يشغلنا هو: ماذا نحن فاعلون؟!
    هل ستقف الأمة الإسلامية مكتوفة الأيدي في هذه المسألة؟! وهل يجب أن نؤجِّل الحديث عنها لحين تحرير فلسطين والعراق وأفغانستان؟ أوَليست هناك حقوق علينا لأهل هذه الدولة المحتلة يجب أن نقوم بها؟ وهل إذا رضيت الحكومات الإسلامية بالهوان فإنه لزامًا على الشعوب أن تقبله كذلك؟!
    هذه أسئلة مهمَّة أجيب عنها بإذن الله في المقال القادم..
    وأسأل الله تعالى أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

    المصدر/ موقع قصة الاسلام

    تعليق

    يعمل...
    X