إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هؤلاء تركوا التصوف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هؤلاء تركوا التصوف

    هؤلاء تركوا التصوف

    هؤلاء مجموعة من كبار علماء المغرب من الله عليهم وتركوا التصوف .



    العلامة المحدث أبو شعيب بن عبد الرحمن الصديقي الدكالي
    العلامة المحدث أبو شعيب بن عبد الرحمن الصديقي الدكالي "رحمه الله تعالى" المتوفى سنة (1356 هـ).
    رحل قديماً إلى مصر والحجاز، ولقي الأكابر، وأمَّ الناس في الحرم المكي ، فتأثر بالدعوة الإصلاحية في مكة والحجاز ، عاد إلى المغرب تعظمه الملوك ، وقام بالدعوة إلى العمل بالحديث مع احترام المذهب المالكي وعدم التعصب له ، وفي العقيدة دعا إلى مذهب السلف ورد على المتكلمين ، ودعا إلى انتهاج السنة ونبذ البدعة وهاجم الطرق الصوفية بشدة ، وسفه شعائرها.
    أقبل عليه الناس وتتلمذ عليه الكثيرون ، وعدوه مجدداً لدين في المغرب الأقصى.
    وهو إمام جليل في علمه وغزارة درسه ، مشهور بكثرة التلاميذ والأتباع.
    ترك أبو شعيب الدكالي من خلفه عدداً كبيراً من العلماء، خاصة لما استقر في رباط الفتح، فقد درس جميع كتب السنة الستة ، مع جملة وافرة من كتب الأدب ، وتفسير القرآن الذي كان من خلاله ينشر أفكاره الإصلاحية.
    ومن المشاهير الذين تتلمذوا عليه وحملوا أفكاره وقاموا بمحاربة التصوف وبدعه من بعده:
    الشيخ محمد بن الحسن الحجوي
    الحافظ محمد المدني بن الغازي العلمي
    القاضي الإمام محمد بن عبد السلام السائح الرباطي
    القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري
    العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي



    الشيخ محمد بن الحسن الحجوي
    الشيخ محمد بن الحسن الحجوي كانت دعوته للإصلاح وطريقة السلف وترك الجمود مثلٌ ، ألف كتبا قيمة مفيدة ، منها "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي". وكان يدعو إلى عقيدة السلف وترك التأويل في الصفات ، حارب الصوفية في شعائر الطريق والغلو في الصالحين، ودعا إلى تجديد الفقه الإسلامي والعودة به إلى معينه الصافي. توفي سنة 1376 هـ.



    الحافظ محمد المدني بن الغازي العلمي
    القاضي الحافظ الشريف محمد المدني بن الغازي ابن الحُسْني العلمي ، كان شامة في جبين ذلك العصر، وله شرح على "المختصر" بالدليل لم يكتمل ، وشرح على "المرشد المعين" بالدليل ، وهو نفسه كان يدرس "زاد المعاد" لابن القيم في جامع السنة بالرباط. وله شرح "نصيحة أهل الإسلام" للشيخ محمد بن جعفر الكتاني في أربعة مجلدات. وكان له في الحديث والأدب اليد الطولى. توفي سنة 1378 هـ.



    القاضي محمد بن عبد السلام السائح الرباطي
    القاضي محمد بن عبد السلام السائح الرباطي، وله اليد الطولى في العلوم. وكان على مذهب شيخه الدكالي في دعوته للسنة ونبذ البدع. توفي سنة 1368 هـ.



    القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفهري
    القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري. له المؤلفات الهامة في التراجم والإسناد، والدعوة من خلال ذلك لطريقة السلف أيضا، وترك البدع والخرافات.



    العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي
    ومن أشهر أصحاب أبي شعيب الدكالي، وحاملي رايته من بعده: العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي، رحمه الله تعالى.
    لما نفي السلطانُ محمد بن يوسف سنة 1373هـ وبويع ابن عمه محمد بن عرفة ، قام في ذلك قياماً عظيماً، وأفتى بقتال المناهضين ، وجاهر المحتل بالعداوة فنفوه للصحراء ، ونالته جملة من المحن. والتف حوله الناس بعد وفاة الدكالي، وجعلوه شيخا للإسلام بالمغرب.
    وقد كان ابن العربي العلوي أشد في نقده للصوفية من شيخه الدكالي.
    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

  • #2
    محمد الزمزمي الغماري


    علامة المغرب محمد الزمزمي الغماري من الصوفية إلى السنة

    العلامة الشريف محمد الزمزمي بن محمد بن الصديق الغماري .. ولد في أسرة أشعرية حتى النخاع، وبيت لطريقة صوفية (الطريقة الصديقية)، يكثر فيهم التجهم!! ويظهر فيهم التعصب ..

    ولد الشيخ ببور سعيد بمصر في طريق والديه إلى الحج عام 1330هـ.

    حفظ القرآن الكريم على شيخه الفقيه محمد الأندلسي، وفي عام 1349 شرع في قراءة العلم على أخيه الأكبر أحمد، ثم شدَّ الرحلة إلى القاهرة صحبه أخيه عبد الله الذي قرأ معه الآجرومية، وطرفاً من ألفية بن مالك، وورقات إمام الحرمين، وأوائل جمع الجوامع على الباخرة.

    ولما وصل إلى القاهرة التحق بالأزهر، فقرأ على جماعة من شيوخه، كالشيخ عبد السلام غنيم، وأبي طالب حسنين، ومحمود الإمام، وعبد المجيد الشرقاوي، والشيخ محمد بخيت المطيعي وغيرهم، واختار في الفقه قراءة مذهب أحمد رحمه الله تعالى.

    ثم رجع إلى طنجة عند وفاة والده عام 1354، وجعل يلقي دروساً تطوعيَّة بالجامع الكبير، وبزاوية والده في التفسير والحديث، والتفَّ حوله جماعة من الطلبة، فقرأ معهم الأصول والمنطق والعربة والبلاغة...

    نشأ –كما ذكرنا- كأسرته وباقي أهل بيته على التصوُّف وكان جَلْداً فيه، وألف في نصرته كتاباً أسماه: "الانتصار لطريق الصوفية الأخيار"، ذكر فيه أدلة ما يختصُّ به الصوفية.

    ثم لما بلغ سن الأشد –أي الأربعين- ، ونضج تفكيره، وثاب إلى رشده، أشهر على هذه الطرق البدعية حرباً عنيفة لا هوادة فيها، وضلَّلهم وبدعهم، وكفر عدداً منهم، وتبرأ من والده كتابةً وكتب: [ الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة ] ، قال في ديباجته: "ألا فليشهد عليَّ المؤمنون، والعلماء الصالحون أنِّي أتبرأ من المتصوِّفة الجاهلين، وأتقرَّب إلى الله تعالى ببغضهم، وأدعو إلى محاربتهم ... ".

    وقد كان من محاربته للصوفية تركيزه على من خبر سرهم، وعرف شناعتهم، وتلاعبهم على الناس، وهم إخوته وتلامذة والده، فعاداهم وهجرهم، ..

    ووقعت بينه وبين إخوته ردود عديدة، أدت إلى فضحهم وكشف حقيقتهم، وهجر الناس لهم، وتبينهم أن الحق بالدليل، لا بأبناء الصديق الغماري وطريقتهم!!

    وقد قام بعض إخوته (المشايخ الجهمية) بمرافعة ضده في محاكم الطاغوت، يقاضونه على أن فضحهم وبيَّن عوارهم .. نسأل الله السلامة والعافية.

    ومن كتبه القاصمة لأرباب التصوف بالعموم؛ وأهله بالخصوص ما دونه باسم (الطوائف الموجودة في هذا الوقت) وفيه براءته من أحوال إخوانه الصوفية الدِّرْقاوية البِدْعية!!

    ومنها كتابه في الهجر، جليل القدر، عظيم الأمر، الذي أسماه بـ (إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين)، وهو رد على أخيه عبد الله، لما لديه من الدعوة إلى القبوريات، وإلى بناء المساجد على القبور، وخدمة زاوية أبيه الصوفية الصديقية، وفي سلسلة يطول ذِكْرُها من البدع المُضلَّة ...

    ومن رسائله التي هزت أصحاب الزاوية الضالة، كتابه (كشف الحجاب عن المتهور الكذاب) .. حتى أن أخيه القبوري عبد الله قال في سبيل التوفيق بأنه "يقصدني" وأخذ في ذكر ما بينه وبين أخيه .. والذي بينهم هو توحيد أو شرك .. فأحد يرفع راية الإسلام بنقائه وصفائه مخلصاً لله الدين .. والآخر يرفع راية عبادة القبور، واستحسان البدع وهم من السنة نفور .. هذه خلاصة الخلاف ..

    لقد كان –رحمه الله- أثرياً عاملاً بالدليل، شديداً على متعصبة المذاهب، قوَّالاً بالحق، بعيداً عن الظلمة وذوي السلطة، شديداً عليهم وعلى المتفرنجين، زاهداً في الدنيا ..

    له تآليف كثيرة، منها: (دلائل الإسلام) و(التفرنج) و(المحجة البيضاء) و(إعلام الفضلاء بأن الفقهاء ليسوا من العلماء) و(تحذير المسلمين من مذهب العصريين) و(الحجة البيضاء .. ) و(كشف الحجاب عن المتهور الكذاب) و(إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين) ...

    ولقد ألمَّ بالشيخ مرض ألزمه الفراش مده حتى توفاه الله سبحانه ، في يوم الجمعة 28 من ذي الحجة عام 1408هـ، غفر الله ورحمة ورفع منزلته في عليين.

    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

    تعليق


    • #3
      الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي


      يقول الدكتور الهلالي عن نفسه: (( نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحداً منهم لا عالماً ولا جاهلاً إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائماً بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه. وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف:

      يصحب شيخاً عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك

      يذكره الله إذا رآه ويوصل العبد إلى مولاه

      ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين:

      1- قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم.

      2- وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس.

      فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مراراً يقول: لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبد القادر بن هلال، وجدنا كان مشهوراً بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب.

      والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلاً، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له: يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيراً، وقال لي: تأخذ الورد على صغر سنك؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو:

      ذكر لا إله إلا الله ، مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها ( الفضل المزعوم عندهم ) في هذا الكـتاب بعون الله وتوفـيقه، وأعطاني كذلك الوظيـفة وهي ( أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة) وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهرة الكمال وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية.. الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها.

      ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالساً كجلسة التشهد على الأفضل مغمضاً عينيه مستحضراً صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عموداً من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد.

      أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم.

      وأخبرني المقدم الشيخ عبد الكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزماً الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلاً بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعاً: الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التجاني وبرضاه وإقراره.

      وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافراً من ناحية (بركنت) بقرب حدود المغرب إلى (المشرية)، وكان لي رفيق له جمل فعقله وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وكنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى واقفاً إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرة واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي: هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل و إناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئاً من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب (الإحياء) للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أنا ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالساً فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غماماً أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتياً من جهة الشرق -وهي قبلة المصلي في المغرب والجزائر- حتى وقف بعيداً مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتماً بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام.

      ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة ألم السجدة ففزعت وخفت خوفاً شديداً، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر. فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافياً عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضاً، ولم أسمع له صوتاً ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتماً بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً.

      وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائماً في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فوراً أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي: يمكن أن يكون ذلك شيطاناً لو كان ملكاً ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب.

      وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب (صحيح البخاري) ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركاً أستغيث بغير الله وأخاف غير الله. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلاً على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله ألبتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام.

      وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلاً نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي: انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقداً جديداً على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصياً أو كافراً فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم. هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفاً أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله.

      وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلاً أبيض نحيفاً مشرباً بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفاً، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحياناً بما في كتاب جواهر المعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال: (من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أياً كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافراً قطعاً وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً) وقال لي سيد الوجود صـلى الله عليه وسلم : فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم. وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأراً منهزماً فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين وكان رافعاً يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى و اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
      من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

      تعليق


      • #4
        سبب خروجي من الطريقة التجانية:

        لقد كنت في غمرة عظيمة، وضلال مبين، وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام. ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة، وكان الشيخ عبد الحي الكتاني عدواً للطريقة التجانية لأنه كان شيخاً رسمياً للطريقة الكتانية، وإنما قلت رسمياً لأن أهل (سلا) أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، مؤسس الطريقة الكتانية، لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون إن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضاً، والذي حدثني بذلك هو العالم الأديب النبيل الشيخ عبد الله بن سعيد السلوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، وكان يعادي أخاه عبد الحي عداوة شديدة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مر بنا الشيخ عبد الحي في (وجدة) وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج، قاضي القضاة بناحية (وجدة)، معلماً لولده الأديب السيد عبدالكريم وابن أخيه السيد عبدالسلام، كنت أعلمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج، فمدحت عبدالحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئاً منها، ولكنه أعجب بها أيما إعجاب، حتى قال لي عاهدني أنك إذا قدمت (فاساً) تنزل عندي ضيفاً فعاهدته على ذلك. ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده. وولد له في تلك الأيام سماه عبد الأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئاً، وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا لها خلقاً كثيراً وبعد ما أكلوا وشربوا قاموا (للعمارة) (ذكر بالرقص والتمايل) التي تقدم ذكرها ودعوني أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع طريقة أخرى ذكرهم وأن لا يرقص معهم. وفي كتاب البغية للشيخ العربي ابن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق الأخرى في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصاً تجانياً ذهب إلى زاوية طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحى أن يبقى منفرداً عنه وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه الشلل في فكيه فبقي فاه مفغوراً ولم يستطع سده حتى مات. ولكن الجماعة ألحوا علي وجروني جراً حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواهاً مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء، وبعضها فيه لحية خطها الشيب، وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحى فلم يكن موجوداً في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جداً من حواشيهم وسمعت أصواتاً تـنبعث من تلـك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها ( آآآ ) وبعضها ( آه آه آه ) وبعضها ( أحن أح أح ) فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعي أو الفرزدق حين طلق نوار فقال:

        ندمت ندامة الكسعي لما غـدت مني مطلقة نوار

        وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار

        وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئاً حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقداً: إن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له: (والطريقة الكتانية التي أنت شيخها)؟ فقال لي كل الطرائق باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتسخيرهم واستعبادهم، فقلت إذن أنت تستحل أموال الناس بالباطل وتسخرهم وتستعبدهم، قال: أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري، وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقتها في مصالح لا ينفقونها هم فيها. ثم قلت له: ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها؟ قال لي: ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما، وعدم تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوباً أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون ويذهبون إلى الباب ليتلقوه، فقلت: إذاً أنت لا تعتقد صحة طريقك؟ فقال: لا أعتقدها أبداً وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل. و أزيدك على ذلك اعتماد طريقتكم على كتاب (جواهر المعاني) الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق، فأحد المجلدين وهو الأول مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبد الله المدفون بكذا وكذا بفاس، و سمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من (جواهر المعاني) مسروقاً كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته. وبعد أيام كنت جالساً عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي: هل اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت :لا، فقال لي: هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن في طريقته فقال لي: إن طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب عليه أن يقلدهم في كل ما يدعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به، وكان قاضياً في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو (وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد).. أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي أستجديه أي أطلبه وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجدياً أي طالباً مالاً، فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قرأها رحب بي، وقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري: أنت تعرف بيتنا، فقال: نعم، قال: فأتى به على الساعة التاسعة صباحاً، فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشراطين، وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف، لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة، وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهو عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بن عيسى المكناسي، وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب، فيضربون طبولهم ومزاميرهم، ويترنمون بأناشيدهم إلى أن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون زكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيئاً والدم يسيل منه وقد ملأوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمن، وحتى في هذا الزمن، فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلا بعد مضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال: إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة العصر فرجعنا وقلت لصاحبي: لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير في ما اختاره الله تعالى. فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس.

        وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي. ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط. ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي: أين تذهب، أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فامكث، وبت هنا؛ وقبلت دعوته، وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه، أذكر منهم الشيخ عبدالسلام الصرغيني، والشيخ المهدي العلوي، وهو لا يزال في قيد الحياة؛ أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة. ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريق الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية. فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم؛ جاءني شاب كان متمسكاً بالطريقة الكتانية تمسكاً عظيماً فقال لي: أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له: وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطاً بها. فقال لي: إنه أمس شرب الخمر وزنا وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن يدخل الزاوية، ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب ولم يصل شيئاً من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبد الكبير في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به)! قال ولما دعاني خفت خوفاً شديداً وظننت أنه انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه و إلا كيف يرضى عني النبي صلى الله عليه وسلم ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم. قال: فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتبع طريقة الكتاب والسنة.

        ولما رأيتهم أنا يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت لنفسي هذا الذي كنت أخافه وقد وقعت فيه فكيف الخلاص؟

        وذكرت قول التجاني ابن بابا في منيته:

        ومن يجالس مبغض الشيخ هلك وضل في مهامة وفي حلك

        وشدد النـهى لـنا الرسـول في ذاك فلتعـمل بما أقول

        والشيخ قال هو سم يسري يحل من فعله في خسـر

        ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال: قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس. فقمت فقال لي الشيخ إلى أين؟ فقلت: إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج، وقال لي: وهل أذن لك الشيخ في الخروج، فقلت: نعم، فقال لي: هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التجول بعد الساعة العاشرة ليلاً فيه خطر، فإنك لا تمشي خطوات حتى يقبضوا عليك وتؤخذ إلى السجن، وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ ينظر في إطلاق سراحك. وقال لي: أنا لا أفتح لك الباب إلا إذا سمعت الإذن من الشيخ، فقلت له: إذا أرجع. ورجعت وجلست في مكاني، ولم تخفى حالي عن الشيخ فقال لي أراك منقبضاً؛ فما سبب انقباضك؟ فقلت سببه أنكم انتقلت من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه طعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك، أنا أيضاً كنت تجانياً وخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلس انتقاداً لها أو طعناً فيها. وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة، فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا. فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قبلت المناظرة.
        من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

        تعليق


        • #5
          مناظرة حول ادعاء الشيخ التجاني في أنه رأى النبي في اليقظة:

          قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأخذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق، وإن بطل ادعاؤه فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت، فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب، فقال:

          الأول: إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب الخلافة؛ قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش. ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يكلم أحداً يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصبح بينهم، وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له أنت من الآمنين، ومن أحبك من الآمنين، ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالده وأزواجه لا الحفدة، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له:

          إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص. فقال: أنا لا أسلم في أن الشريعة خاصاً وعاماً لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثواباً؛ فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات. وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يعطاه الرجل في كتاب الله، و إلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلاً في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة. فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع. قال احفظ هذا.

          الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة الزهراء رضي الله عنهما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه بأن إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. فهذا حبيبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: فاطمة بضعة مني يسؤني ما ساءها، أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال ما أحد أمنّ علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق /رواه البخاري/. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت قال احفظ هذا.

          الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بين أبي طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهما حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي صلى الله عليه وسلم سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت، وذلك في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء. قال احفظ هذا وفكر فيه.

          الرابع: خلاف علي مع الخوارج وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي صلى الله عليه وسلم لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق.

          الخامس: النزاع الذي وقع بين معاوية وعلي، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين بقوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} وقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة.

          فلم يجد عندي جواباً غير ما تقدم ولكني لم أسلم له فقال فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير. وحينئذ أيقنت أنني كنت ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقيناً فقلت له: من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة وهي أن مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه) فقال لي يوافقني على هذا أكبر مقدم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أكذبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء، وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية، ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح أن يكون شيخاً للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شيخاً لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن لأورادها يسمى مقدماً فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة.

          مع الشيخ الفاطمي الشرادي:

          فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولاً وفروعاً على كتاب الله وسنة رسوله فما وافق في نظرنا القاصر قبلناه وما خالف رددنا ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني، فأشار إلي بيده يستمهلني، وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشراطين حيث كنت نازلاً قبل لقائي بالشيخ العلوي، وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغلته يطلب أن تزوره فتعجبت كثيراً لأمرين، أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة، وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن والعلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحب بي وقال لي يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال، أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها، ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس، فأعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه، وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدماً فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة، وتركتها كلها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علماً وعملاً، ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذاً له، وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علماً وعملاً فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقيناً بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي. ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال إليه ولو بعدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك. بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانباً كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيراً وتغمدهما برحمته.

          مع الشيخ عبد العزيز بن إدريس:

          وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت مع الشيخ عبد العزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو أحد تلامذة الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضاً وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعائك الصالح وأن تلقنني ورد الطريقة التجانية، فقال لي يا أسفي عليك، أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكنك من فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكفك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره، والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة، وفتح لي باب التوحيد والاتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم. (الهدية الهادية من ص7-21)

          ----------------------------------------------
          منقول من موقع الصوفية
          من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

          تعليق


          • #6
            العلامة محمود المراكبي

            خادم السنة المبرمج الكاتب الداعية المهندس العلامة محمود عوض المراكبي ، ولد في القاهرة 1945 م ، نشأ في بيئة محافظة متدينة ، وظهرت عليه علامات النبوغ منذ الصغر فكان يتفوق على أقرانه في شتى المجالات ، حبب إليه التدين فسلك في الطريقة الميرغنية الختمية لمدة تزيد على الخمسة عشر عاماً ، التزم خلالها صحبة كبار مشايخها ، حتى انتهى به المقام أن أصبح من مشايخها والدعاة لها.
            شرع في الإطلاع على المكتبة الإسلامية ، وتنوعت دراساته لتشمل أهم فروع المعارف الإسلامية: القرآن والتفسير، والحديث، والتاريخ الإسلامي، والتصوف، والفرق الإسلامية ، إلى أن تبين له مخالفة كثير من معتقدات الصوفية لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما حدى به إلى تأصيل تجربة التصوف، وإصدار سلسلة الظاهر والباطن لتحذير المريدين من الانخراط في الطرق المؤدية لمخالفة الكتاب والسنة.
            وتبين له انتشار مجموعة من الأفكار والمعتقدات البعيدة كل البعد عن الكتاب والسنة ، ومن ذلك التصوف المنتشر في مصر ، وغيرها من البلدان الإسلامية ، فقام بكتابة مجموعة من الكتب التي تهدف إلى تصحيح مفاهيم الفكر الباطني ، وبيان فساد الصوفية ، وعرض مفاهيمها في ضوء الكتاب والسنة، حتى أن جماعة أنصار السنة طلبت منه أن يكتب مقالات شهرية في مجلة التوحيد ، وقد ساهمت هذه المقالات في ابتعاد عدد من الصوفية عن اتباع المشايخ والابتعاد عن الأضرحة ، وتعرض القائمة التالية بعض مؤلفاته:
            • أحكام تلاوة القرآن الكريم (منشور - نفذت الطبعة الأولى)
            • القول المبين لنفع السالكين (منشور - نفذت الطبعة الأولى)
            • (موسى والخضر علما الظاهر والباطن) (الطبعة الثانية)
            • (ظاهر الدين وباطنه)
            • (تسرب الفكر الباطني إلى الشرائع السماوية)
            • (جذور الشيعة وجيش المهدي) (الطبعة الأولى)
            • (عقائد الصوفية في ضوء الكتاب والسنة) نفذت منه 40 ألف نسخة منذ نشره عام 1995
            • (القول الصريح عن حقيقة الضريح)
            • (السلوك القويم على الصراط المستقيم)
            • ( أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)
            • (أحسن القصص الكريم ابن الكرام)
            • (تهذيب الداء والدواء لابن القيم)
            • (تهذيب صفة الصفوة لابن الجوزي) (تحت الطبع)

            من هو المبرمج خادم السنة محمود المراكبي:
            • (2000 – 2003) مدير تطوير جامع السنة بشركة إيجيكوم.
            • (2003 – 2004) مدير عام شركة أفق للبرمجيات.
            • (1988 – 1997) مدير مركز التراث المسئول عن البرمجيات الإسلامية في شركة صخر للبرمجيات (حرف حاليا)، طور خلالها ما يزيد على عشرين برنامجا من أنجح البرمجيات الإسلامية.
            • من أبرز رواد تصميم وإدارة البرمجيات الإسلامية على مستوى العالم.

            • لقد كان اهتمامه بالقراءة والاطلاع على مختلف العلوم الإسلامية الحافز الأول للانشغال في كيفية تسخير خبرته في مجال نظم المعلومات في خدمة العلوم الإسلامية ، وأدرك في منتصف السبعينات أهمية جمع السنة، وتطويع الحاسب الآلي لخدمتها، وبدأ يضع الخطوط العريضة لمشروع جمع السنة . وذلك في أواخر السبعينات، وما زال يحتفظ بتلك الأوراق حتى الآن.

            • في سنة 1990 انتهى تطوير برنامج صحيح البخاري، وبدأت مرحلة تعريف العلماء والمهتمين بعلم الحديث بما تحقق حتى الآن، وكانت البداية مع قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة حيث تم عرض البرنامج على أساتذة القسم، في حضور السيد العميد، والدكتور أكرم ضياء العمري، والشيخ حماد الأنصاري، والدكتور سعدي الهاشمي وغيرهم، وقد لاقى البرنامج القبول والتشجيع من الحضور على المضي.

            • عرض برنامج صحيح البخاري في مؤتمر عقد البنك الإسلامي للتنمية سنة 1989 ، باسم "استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية" دعى إليه كل العاملين في هذا المجال على مستوى العالم، وتم تقييم ما هو متاح لدى الجميع، وحظي برنامج صحيح البخاري بأكبر تقدير بين كل ما قدم، حتى أن الأستاذ الدكتور/ أكرم ضياء العمري الحاصل على جائزة جمعية الملك فيصل الخيرية قال: "كما قام المهندس محمود المراكبي من شركة صخر بالإفادة من الحاسب الآلي لخدمة صحيح البخاري، وقد اطلعت على البرنامج، وأرى أنه يخدم صحيح البخاري، وأنه متقدم على بقية البرامج التي تخدم كتابا واحدا". (صفحة 47 - أعمال المؤتمر)

            • لم يطور صاحب السيرة هذه البرامج بمعزل عن علماء الحديث، وإنما كانت تتوالى العروض أولا بأول، فقد التق ى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - أربع مرات، وكانت الزيارة الأخيرة لعرض مسند أحمد بن حنبل ، ويومها طلب منه الشيخ أن ببحث له عن حديث : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده " ، وقال: إن تلاميذه يبحثون له عن هذا الحديث منذ حوالي شهرين، ولم يعثروا عليه، وأظهره البرنامج في ثوان معدودة، فما كان من سماحته إلا أن قال: " إن هذا عمل من قبيل الخوارق " .

            • أثناء عمله في تطوير مصادر الحديث وضع تصميم وأدار تطوير العديد من البرامج الإسلامية لخدمة: القرآن الكريم, وإضافة ترجمات معانيه إلى اللغات: الإنجليزية ، والفرنسية، والألمانية ، والتركية، والمالاويه، والإندونيسية.

            • طور برنامج المواريث على المذاهب الأربعة ليحل أي مسألة ميراث, وكتب منطق البرنامج بكل تفاصيله ، وأثناء عرض البرنامج على وكيل وزارة العدل السعودية طلب منه إضافة مسائل المناسخات على البرنامج بحد أقصى خمس مسائل متتالية ، إلا أن الله تبارك وتعالى وفقه وأصبح البرنامج يحل أي عدد من مسائل المناسخات.

            كتابه عقائد الصوفية في سطور :
            يتناول الكتاب نشأة عقائد الصوفية وتطورها من صوفية السلوك إلى صوفية الفلسفة، مرورا بالوجد والغلبة، فالسكر والشطح، ثم القول بالفناء، ودور الحلاج في وضع فرية قِدَم النور المحمدي، ثم دور ابن عربي في تأسيس نظرية وحدة الوجود، التي استكملها ابن الفارض وابن سبعين بالوحدة المطلقة، ثم الجيلي في نظرية الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية التي هي نقطة وحدة الوجود وأصل الموجودات.
            يتتبع المؤلف أوراد ما يقرب من عشرين طريقة صوفية معاصرة ويحدد من نصوصها ما يشير إلى عقيدة وحدة الوجود، ومواضع الغلو وإطراء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، مؤكدا إعجاز حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي حذر فيه أمته من اتباع انحراف أهل الكتاب، كما يكشف الكتاب جذور علاقة التصوف والتشيع.
            كذلك يناقش الكتاب أركان السلوك الصوفي وهي: الشيخ ودوره في تربية المريد، وكيف يُمد الشيخ تلاميذه في الدنيا وعند الموت ويوم القيامة!!! ومكانة الأضرحة والموالد ، والتوسل والاستغاثة ، ومقامات الشيوخ من الأبدال والأقطاب ومهامهم وعلاقتهم بالخضر عليه السلام ، ومقام الغوثية وديوان التصريف والحكومة الباطنية ، ويستعرض الكتاب مكانة الذكر في الفكر الصوفي والأسماء السريانية وجاه الحروف، والتعدي في الدعاء ، كل ذلك من واقع دراسة غير مسبوقة للأوراد وعرض النصوص التي يتداولها أبناء الطرق الصوفية.
            إن هذا الكتاب يمثل دراسة فريدة جمعت بين التجربة الشخصية للمؤلف ، وبين التأصيل العلمي والتحقيق على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

            والحقيقة أن ترجمة العلامة محمود المراكبي تطول ، وقد حصل لنا مما أوردنا المطلوب ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة وسلم ، والحمد لله رب العالمين.
            من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

            تعليق


            • #7
              الدكتور عبد الله الشارف

              هذه قصة حقيقية حدثت لأستاذي الذي درسني مادة الفلسفة في مرحلة الماجستير وهو الدكتور عبد الله الشارف أستاذ التعليم العالي بكلية أصول الدين بجامعة القرويين بالمغرب وقد طلبت منه شخصياً أن يرويها لي بلسانه وطلبت الإذن في نشرها وقد دونها بكتابه الموسوم: «تجربتي الصوفية في ميزان الكتاب والسنة»، وقد حدثت أثناء دراسته الدكتوراه في جامعة السوربون بفرنسا، وحاولت تلخيصها ليعرف القراء فساد وضلال الصوفية وانحرافهم عن الدين الصحيح.
              بدأ طفولته منتظماً ومريداً في سلك الطريقة العيساوية الشاذلية بزاوية بحي من أحياء مدينة تطوان يسمى حي العيون ، وهي فرع عن الزاوية الأصلية الكائنة بمدينة مكناس حيث يرقد جثمان الشيخ الكامل محمد بن عيسى وإليه تنسب الطريقة المذكورة.
              وكان صاحب التجربة من خدام الزاوية وله ورد رسمي للمؤيدين يسمى بـ «حزب سبحان الدائم» كل يوم بعد صلاة المغرب بطريقة جماعية، وعلى رأس كل سنة هجرية يحتفل الفقراء بـ «الليلة الكبيرة»، حيث يذبح عجل، ويباع لحمه داخل الزاوية على طريقة المزاد العلني الدلالة ويتسابق الناس على شراء نصيبهم من اللحم لبركة الزاوية ، مع اجتماع وتوافد جل أتباع الزوايا الأخرى مثل الزاوية التيجانية والزاوية الدرقاوية والقادرية لحضور الحفل.
              ومما لا شك فيه أن هذا المناخ الذي عاشه الدكتور المفعم بالسعادة الروحية الناتجة عن ممارسة الذكر الصوفي والاحتكاك بالفقراء كان له اثر عميق في كيانه ، فأوقد فيه محبة الصوفية في قلبه ولم يصل بعد سن البلوغ.
              وهذه من أحد العوامل الأساسية وغير المباشرة في اقتحامه التجربة الصوفية لاحقاً عند التحاقه بمدينة باريس بفرنسا لإكمال دراسته العليا.
              وقبل ذلك بعد حصوله على الباكلوريا ـ أي: الثانوية العامة ـ، انتقل إلى مدينة فاس لمتابعة دراسته الجامعية، فاختار شعبة الفلسفة، لولوعه بالفكر والفلسفة والثقافة الإسلامية.
              وكما قلت: قصد فرنسا من اجل التحصيل العلمي، فولج جامعة السوربون في شعبة علم الاجتماع تخصص الانتربولوجيا الاجتماعية والثقافية.. ومن العوامل التي يسرت ومهدت للخلوة الصوفية، يقول:
              1ـ جو الحرية والإباحية في العاصمة الفرنسية.
              2ـ ربط علاقات الصداقة بفرنسيين متصوفة.
              3ـ معاناته الروحية والنفسية.
              ثم إن الدكتور حصلت له قناعة، مع طول تأمل وبحث في بطون كتب الفلسفة وعلم النفس بالإضافة إلى كتب التصوف ، أنه لا يمكن لإنسان فهم نفسه حق الفهم دون امتلاك أداة الذوق، لان اجتياز العتبة ودخول المنـزل أمر متوقف على الذوق، فبدأ الدكتور يكثر من الرياضة الروحية، ويكثر من الصيام، فصام أربعين يوماً متتالية مع الاجتهاد في الذكر والعبادة، ثم التقليل من كمية الأكل ما يقرب سنة إلى أن هزل جسمه وصار يشعر بخفة نفس وصفاء ذهن كما صار يتحسس خمود القوى النفسية الحيوانية كالغضب والشهوة.. وهذا ما عبر عنه هو بقوله: «الولادة الثانية، الولادة المعنوية في حياة الصوفية الجديدة، وهي طريق صوفي باطني تطهيري يصل بصاحبه إلى درجة الفناء».
              فباتت مسألة الخلوة تؤرقه وهي ما يصطلح عليها الصوفية بالخلوة الأربعينية، واغتر فيها كما يقول بحديث منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- «من أخلص لله أربعين يوماً أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (حديث موضوع لا يصح. انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 176/9). فتأثر به وظنه صحيحاً ولم يتحمل عناء البحث عن مدى صحة الحديث كما هو شأن معظم الصوفية.. وكانت البداية فاشترى ثلاثة أو أربعة كيلو غرامات من الدقيق، ولتراً واحداً من الزيت وقليلاً من السكر والعنب المجفف والملح، وبعض العلب من الحليب، ودخل مسكنه في الحي الجامعي بمدينة انطوني وكان يهيئ طعامه، يجعل جزءاً منه للإفطار بعد صلاة المغرب، وجزءاً آخر احتفظ به لوقت السحور وهو عبارة عن رغيف كان يصنعه لنفسه، واعتمد طريقة الإقلال حتى صار بعد أسبوعين يكتفي بربع الرغيف في المغرب وربع آخر في السحور مع حبات الزبيب المجفف، ثم يوزع وقته بين الصلاة والتلاوة والذكر والتأمل والتدبر..
              وفي بداية الأسبوع الثاني عزم على ممارسة الذكر بالاسم المفرد الله.. الله.. الله..لم يكد يمر يومان حتى حصل ما لم يستطع تحمله في الساعات الأولى كما يقول: «فوجئت بموسيقا تنفجر في دماغي وكانت ألذ ما سمعت أذناي..!! ولها شبه بمقاطع السنفونيات الشهيرة..»
              وثم بدأ يكثر تلاوة القرآن وكان هذا في الأسبوع الثالث حتى أصبح قلبه مشغوفا بالقرآن كما يقول: «كلما شرعت في قراءته أجهشت بالبكاء.. فأشعر ببرد اليقين والأمن والطمأنينة.. أجد أثرها اللذيذ في صدري وجوارحي وسائر أعضائي..» ثم يسرد قائلا: إنه في ليلة من الليالي يقرأ سورة لقمان وفي منامه تلك الليلة زاره رجل يناهز السبعين فاخبره أنه «الحكيم الترمذي» فقال له: أنا أتيتك لأفسر لك سورة لقمان وأعلمك الحكمة، ثم انطلق يفسرها له تفسيرا باطنياً غريباً فأخبره بعد انتهائه من تفسيرها قائلا: يا عبد الله: فإنك بدأت معراجك الروحي وإنك الآن في السماء الثانية على قدم عيسى؟!! ومرة أخرى رأى في منامه رجلاً عرفه بنفسه: أنا «محي الدين ابن عربي» جئت أعلمك كلمات واحتفظ صاحب التجربة بعبارات منها: «ولسان حالي قول روحي أنا لم أكن يوماً هنا أو في مكان..!!» ولا يخفى على ذي بصيرة أن العبارة لها علاقة بنظرية وحدة الوجود الصوفية.
              ولما أشرف على نهاية أيام الخلوة أيقن الدكتور بأن ما يغمره من السعادة الباطنية والطمأنينة وما يسمعه من ألوان الذكر والموسيقا وما يحس به من حلاوة روحية واعتزال الناس، فغدا عقله مشغولاً كيف يحتفظ بهذه اللذة والكنز الثمين.
              فعقد العزم على الإعراض عن الزواج والتفكير فقط في الانشغال بالذكر والعبادة والخلوة، إلى أن فكر في الهجرة إلى الهند أو تركيا ليعيش في فضاء الروح والتنعم بنسيم الإشراقات والإلهامات..؟ حيث يمكنه أن يحيا حياة صوفية بعيداً عن الأقارب والأحباب والأصدقاء لكن يقول: إن مشيئة الله تدخلت وحلت عنايته وانتشلته من أيدي الشياطين التي كانت على وشك الإلقاء به في أودية الهلاك والضلال.
              والخلاصة كما يقول صاحب التجربة: إن الحالة النفسية التي كان يعيشها أشبه بالأحوال التي تعتري الصوفية وكثيراً ما تطغى الحال على العقل والعلم عند أهل التصوف.. ومن هاهنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه.
              ثم يحمد الله أن طهره من أدران وشوائب هذا المنهج المنحرف في العبادة والسلوك ويقول: قد أعاد الله الإرادة إلى مجراها الطبيعي حيث العبودية لله ونهج المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى عقيدة أهل السنة والجماعة.

              كتبه: أحمد عبد الرحمن الكوس
              من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

              تعليق


              • #8
                الأستاذ : عبد المنعم الجداوي

                اعترافات....كنت قبورياً
                ((الخرافة)) عجوز متصابية تتعلق بصاحبها... !
                ((التوحيد)) يهدم أولاً.. ثم يبني من جديد..!
                ليس سهلاً أن يتراجع (( القبوري))..!
                ((التوحيد)) يحتاج إلى إرادة واعية... !


                تردّدت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات لأكثر من سبب.. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة.. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون: ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور.. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشهـا قبل تصحيـح عقيدتي.. فيقرؤون اعترافاتي فيفهمون، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة- وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس- ما دام ذلك سوف يكون سببـاً في هداية بعضهم إلى حقيـقة التوحيد..؟


                ولقد كنت من كبار معظّمي القبور، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها.. أحياناً أخترع لهم كرامات... أو أتصورها.. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام.. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور .. وإذا شُفيت زوجتي، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الـذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله!..


                وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية، والتي تضم مساجد أخرى، ورسالتها الأولى ((التوحيد))، وتصحيح العقيدة، وبحكم اللقاءات المتكررة.. كان لابد من صـلاة الجمعة في مسجـد العزيز بالله.. وهاجم ((الدكتور جميل)) في بساطة، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة، وسماه:
                شركاً بالله؛ وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..


                أفزعني الهجوم، وأفزعتني الحقيقة.. وما أفزع الحقيقة للغافلين... ولو أن ((الدكتـور جميل)) اكتفى بذلك لهان الأمر.. لكنه في كل مرة يخطب لا بدّ أن يمس الموضوع بإصرار.. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط.. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ..!


                * في أول الأمر اهتززت.. فقدت توازني.. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً.. شيء ما يجثم فوق صدري.. يقيد أحاسيسي ومشاعري.. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام؟..
                أم أن صديقي ((الدكتور)) قد بالغ في الأمر.. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفـوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات.. !


                شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضـد أصحاب الأضرحة الأولياء، والخطباء على المنابر صباح مساء.. يعلنونها صريحة:
                إن الذي يؤذي ولياً.. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى.. وأنا لا أريد أن أدخـل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه - جل جلاله- ...!


                وقلت: إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم.. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب الغـزالي: (( إحياء علوم الدين))، وصفحات أخرى من كتاب ((لطائف المنن)) لابن عطاء الإسكندري، وحفظت عن ظهر قلب الكرامات، وأسماء أصحابها، ومناسبات وقوعها، وذهبت الجمعة الثانية، وكظمت غيطي وأنا أستمع إلى الدكتور، فلما انتهى من الدرس وأصرَّ على أن يدعوني لتناول طعام الغداء، وبعد الغداء.. تسلمته هجوماً بلا هوادة، معتمداً على عاملين:


                الأول: هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات.


                والثاني: أنني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين؛ لأنني في بيته!


                وتناولت طعامه فأمنت غضبه وقلت له: والآتي هو المعنى، وليس نص الحوار:


                ((إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء، والشفافية، وأنهم رجال أخلصوا لله.. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات وأن... وأن... وأن..


                وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي.. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله.. وإذا به يقول:


                • هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله..؟
                • قلت مذهولاً: لا..


                -إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء... أو يطير في الهواء.. أو يقطف ثمـار الجنـة وهو على الأرض.. ورسول الله لم يفعل ذلك..؟


                كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي.. لكنه التعصب - قاتله الله- !!
                كَبُرَ عليّ أن أسلّم بهذه البساطة، كيف ألقي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً.. قد تكون مغلوطة.. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة، ولا حقيقة سواها!!


                *وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي.. وأعود إلى ((الدكتور))، ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل - فقد كنتُ من كبـار عشاق الصوفية.. لمـاذا؟


                لأني أحب أشعارهم وأحبّ موسيقاهم، وألحـانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمـة متنوعة... شرقية، وفارسية، ومملوكية، وطبلة إفريقية أحياناً تدقّ وحدها.. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين، مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السَّحر..!


                لهذا وللأسباب الأخرى.. أحببت الصوفية.. وكنت أعشقها، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها.. لاسيما ((ابن الفارض))، وكل حجـتي التي أبسطها في معارضة ((الدكتور))، أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى ((التوحيد)) لا يريدون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال، وأنهم لا بد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات؛ لكي يدركوا ما هي الكرامات..!


                فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب - وهذا أسلوب صوفي- أيضاً - في الاستـدلال، ولهم بيت شهير في هذا المعنى!. وحتى لا يضطرب وجداني، وتتمزق مشاعري...


                حاولت أن أنقطع عن لقاء ((الدكتور)).. ولكنه لم يتركني.. فوجئت به يدق جرس الباب، ولم أصدق عيني.. كان هو.. قـد جاء يسأل عني.. وتكلمنـا كالعادة كثيراً وطويلاً.. فلمـا سألني عن سبب عدم حضوري لصـلاة الجمعة معه... قلت له بصراحة: لقد يئست منك!..


                قال: ولكني لم أيأس منك.. أنت فيك خير كثير للعقيدة.
                قلتُ: إنه يستدرجني على طريقته، ولمحت معه كتاباً من وضعه عن سيرة الإمام ((محمد بن عبد الوهاب))
                فقلت له: أعطني هذه النسخة.. هل يمكن ذلك... ؟


                قال: هذه النسخة بالذات ليست لك، وسوف أعدك بواحدة.
                وهذه هي طريقته للإثارة دائماً.. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة.. فخطفتُ النسخة، ورفضت إعادتها له!..
                * وبعد منتصف الليل بدأت القراءة.. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً.. فلم أنم حتى الصباح!..


                كان الكتاب -على حجمه المتواضع - كالإعصار، كالزلزال.. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة.. حكاية الشيخ ((محمد بن عبد الوهاب)) نفسه.. ثم قصة دعوته، وما كابده من معاناة طويلة.. حينما كانت في صدره حنيناً، وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور.


                فإذا أغلقت الكتاب لأمر من الأمور يتطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى.. استشعـرت الذنب؛ لأنني تركـت الشيـخ في ((البصرة)) ولم أصبر حتى يعود.. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى (كردستان ).. ولا بد أن أصـبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده!..
                يقول الدكتور في كتابه ((مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب)).


                وبعد هذا التطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة..؟


                لا، فإن العـالم الإسلامي كله كان يعـاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر.. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً ممضّاً، لما أصـاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم.


                عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار، لماذا لا يدعو الناس إلى الله؟
                لماذا لا يذكرهم بهدي رسول الله..؟
                لماذا... لماذا...


                إذًا، فهذه العقيدة التي يريدها ((الدكتور)) لم تأت من فراغ... فمنذ
                القرن الثاني عشر الهجري... والإمام محمد بن عبد الوهاب... يُفكّر، ويقدّم؛ لكي يهدم صروح الأضرحة، ويحطّم شبح الخرافات، ويُطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء... بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسـة، تخلع قلوب المؤمنين... إذا فكروا في إزالتها وفي ذلك يقول الكاتب: ((ماذا كان وقْع هذه الأعمـال على نفوس القوم..)).


                ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه ((مشاهداتي في جـزيرة العرب)):
                إن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار، وهدم القباب، بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل، حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده..!)).


                هل يكون ما يزلـزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثتـه..؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة (العُيَيْنة): موطن الشيخ، يتركونه يزيل الأشجار، وقبة قـبر (زيد بن الخطاب) بنفسه.. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المختلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها.


                ومضيت أقرأ ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعمـاقي حجراً ضخماً.. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوةً كبيرةً داخلي قد انفتحت، وتسلل منها ومعها نور اليقين.. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشعش في داخلي.. كان الشعاع يُوم
                لحظة ويختفي لحظات..!


                محمدجمال حسين
                08-04-2009, 02:25 AM

                * لقد استطاع ((الدكتور)) أن ينتصر... تركني أحارب نفسي بنفسي، بل جعلـني أتابع مسـيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده، وحوله، وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في (العيينة).. غضب حاكم الإحساء (سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي)، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها... فكتب إلى حاكم العيينة (( ابن معمر )) يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.


                ولما كان ((ابن معمر)) قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة... فقد زوجه ابنته... فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم ((الإحساء)) ثم رسم اليأس كله على ملامحـه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم ((الإحساء))، لأنه لا قِبَل له به.... ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان ((ابن معمر))... ولم تزد الشيخ إلا إصرارًا على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعيـة الحق.. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر (العيـينة).. مهاجراً في سبيل الله بتوحيده.. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها!..


                في الصباح استيقظتُ على ضجة في البيت غير عـادية.. واعتـدلت في فراشي، ووصَلَتْ إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانية خالصة.. ثغـاء، وصيـاح، وكلام.. غير مفهوم العبارات.. وقلت: لا بد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن ((الثغاء)) هذه المرة اخترق طبلة أذني.. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارةً جدًا... وهي تتلخص في أن ابنة خالتي ـ التي تعيش في أقصى الصعيد، ومعها زوجها وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات ـ قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم ((الخروف))...! وظننت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي - وكنت أعرف أن أولادها
                يموتون في السنوات الأولى-، قد أطلقت على طفل لها اسم (خروف) لكي يعيش مثلاً.


                وهي عادات معروفة في الصعيد، وقبل أن أتبين المسألة.. أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجـرة نومي.. وفجأة وبدون استئـذان اقتحم الباب ((خروف)) له فروة وقرون وأربعة أقدام... واندفع في جنـون من مطاردة الأولاد له.. فحطّم ما اعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة ((عنترية)) اعتدى على المرآة بنطحة قوية، تداعت بعدها، واحدثت أصواتاً عجيبة، وهي تتحطم!..


                تَمَّ كل ذلك في لحظـة سريعـة.. وقبل أن استرد أنفاسي، وخيل إليّ أن بيتنـا انفتح على حديقة الحيوانات.. رغم أنني أسكن في العباسيـة، والحديقـة في الجيزة.. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة ((الخروف))، وتضاءلت فانزوت في ركن.. ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون .. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من صياج الحيوان.. ولمحت في عينيه، وفي قرنيه الموت الزؤام.. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير، وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع ((الخروف))


                دخلت ابنة خالتي وهي في حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله... وصاحـت- وهي على يقـين من أنني سأصرع:
                حاسب، هذا خروف ((السيد البدوي)).


                ونادته فتقدّم إليها في دلال، وكأنه الطفـل المدلّل.. فأمسكت به تُربتُ على رأسه، وروت لي أنها قدمتْ من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي انفقت في تربيته ثلاثة أعوام هي عمر ابنها؛ لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها.. أن
                تذبح على أعتابه ((خروفاً))، وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر!..


                * كانت تقول كل هذه العبارات وهي سعيدة.. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها، وهو في ابتهـاج عظيم .. يطلب مني أن أرافقهم إلى ((طنطا )).. لكي أرى هذا المهرجان العظيم؛ لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف.. فأما الذي على مقربة من ((السيد البدوي)) فإنهم يبعثون بِجِمال.. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتُبرت قاطعاً للرحم... لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت، ولا بد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك، وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي..


                كيف أقنعها بأنهـا في طريقها إلى الكفر..؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات...؟
                وقلت: أبدأ بزوجها أولاً؛ لأن الرجال قوامون على النساء.. وأخذت الـزوج إلى زاوية في البـيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب: ((الإمام محمد بن عبد الوهاب))..
                ومدّ يده فجعل الغـلاف في ناحيته، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار!..


                قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب - الذي يقول: إن في الصفحات قصة
                ((الشيخ محمـد بن عبد الوهاب)) ودعوته - وهتف صارخاً: ما هذا الذي أقرؤه...؟


                وكيف وصلني هذا الكتاب..؟ لا بد أن أحدهم دسه عليَّ!!.. فهو يعرف أنني رجل متزن... أحرص على ديـني، وعلى زيارة الأضرحة، وتقديم الشموع، والنذور، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية، كما يفعل هو تماماً.. ورأيت في عينيه نظرة رثاء... إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة... وكان عليَّ أن أقف منه موقف الدكتور جميل غازي مني سابقاً.. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي.. وهل في استطـاعتي أن أطبق ما قـرأت أم لا..؟
                وهـل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا.. ؟


                والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها - أيضاً -، فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه.. هو صاحب عقيدة سلبـية... غير إيجابيـة .. فليس من المعقول في شيء.. أن أطوي ((توحيدي)) على نفسي، وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة؛ لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم.. وعليه فلا بد أن أجـادلهم بالتي هي أحسن.. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هينّ.. لا بد أن أنفرهم من شركهم.. وهم لا بد أن يتراجعوا؛ لأن ((الخـرافة)) - نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة - لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها..


                والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً.. قضى عليها... أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين.. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله، وأبدأ الشرح للرجل... ولم تكن المهمة سهلة.. فلا بد أولاً أن أطمئنه، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ ((محمد بن عبد الوهاب)).. ثم ما ترسّب في ذهنه من زمن عن (الوهابية والوهابيين).. ففي أول الحديث.. اتهم الوهاب بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة ((التوحيد)) بريئة منها... براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام!..


                ورحت أحاول في حماس شديد.. أشرح له سر حملات الكراهية، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة ((التوحيد)).. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة، وأصول العبادات، وفي ذلك القضاء على محترفي الدّجل، وحراس المقابر، وسدنة الأضرحة، والذين يُكدّسون الأموال عاماً بعد عام.. من بيع البركات، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة.. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..!


                ولمحت على ملامحه بعض سمـات الخير.. نظر في دهشة.. كأنه يفيق من غيبوبة... ورغم ذلك فقد راح يتشنج، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكـون، وأنهـم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب... وحتى النساء من الشهيرات يلتقين - أيضـاً - مع الرجال الأقطاب،
                وينظرون في شؤون الكون...!


                * ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمـرها أكثر من ثلاثين سنة...
                فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر.. هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة... أكرم عند الله أم رسول الله؟!!


                ثم يفكر طويلاً، ويجيء إلىَّ بالنتيجة... دون ما تحيّز أوتعصّب.. ووعدني بأن يُفكّر، ولكنه فقـط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم
                الميمونة إلى ((طنطـا))...
                فقلت له: إن هذا هو المستحيل لن يحدث.. وإذا كان
                مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى السيد البدوي حتى يعيش ابنهما.. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد ((السيد البدوي)).(.. وحملق فيَّ وصاح):
                لا تكفر يا رجل..؟
                فقلت له: أينا يكفر الآن..؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله..؟ أم أنت الذي تُصرّ على أن تتوجه إلى ((السيد البدوي))..؟


                وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته، وأخذ زوجته والخروف وابنها، وانصرفـوا من العباسـية في القاهرة إلى ((طنطا))، وحيثما وقفت أودعهم.. همست في أذن الزوج: أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك.. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل... وإلا لقي مني ما يضايقه.. وازداد ذهول الرجل، ومضى الركب الغريب.. يسوق الخروف نحو ((طنطـا))..!


                وانثنت زوجتي تلومني؛ لأنني كنت قاسياً معهم، وهم الذين يخافون على طفلهم... الذي عاش لهم بعد أن تقدم بهما العمر، ومات لهما من الأطفال الكثير.. وصحت في زوجتي، إن كان الطفل سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش، وإن كان سيموت
                فذلك لأن الله يُريد له ذلك.. ولا شريك لله في أوامره ولا شريك له في إرادته.


                وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها.. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً؛ ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني: ماذا فعل بي الكتاب؟ أو ماذا فعلت به؟


                واضطـررت أن أقـول له: إنني في حاجة إلى مناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه... والتقينا في الليـل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعـدول عن شركهم.. مع أنني منذ أيام فقط.. كنت لا أقل شركًا عنهم، وقلت له: ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي..؟


                قال في هدوء يغيظ: إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة..


                وأردت الاحتجاج على أنني من (الأشياء) ولست من الآدميين، لكن الدكتور لم يتوقف
                وقال: لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب، فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى؟!
                وأغرق في الضحك!!.



                من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                تعليق


                • #9
                  وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادت من ((طنطا)) إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة، وأنها غاضبة مني، وشكتني لكل شيوخ الأسرة، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدقّ.. وذهب ابني الصغير ليستطلع الأمر.. ثم عاد يقول لي:
                  - إبراهيم الحران...


                  ((الحران)).. إنه زوج ابنة خالتي.. ماذا حدث..؟


                  هل جاءوا بخروف جـديد، ونذر جديد لضريح جديد... أم ماذا..؟
                  وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة، ولو بالضرب.. ومشيت في ثورة إلى الباب.. وإذا بهذا ((الحران)) يمـد يده ليصافحني، ودَعَوْته إلى الدخول فرفض.. إذًا لماذا جاء..؟ وفيم جاء؟، وابتسم ابتسامة مغتصـبة وهو يقول: إنه يطلب كتاب ((الشيخ محمد بن عبد الوهـاب)) الذي عندي، وحملقـت فيه طـويلاً، وجلست على أقرب مقعد..!


                  سقطت قلعة من قلا ع الجاهلية.. لكن لماذا؟ وكيف كان السقوط؟ جاء صاحـبي إبراهيم يسعى بقدميه.. يطلب ويلحّ في أن يبدأ مسيرة التوحيد.. لا بد أن وراء عودته أمـراً، ليس من المعقـول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح، وتفيق.. على حقائق غفل عنها طويلاً..!


                  ورحمة بي من الذُّهول، والإغماء الذي أوشك أن يصيبني.. بدأ يتكلم، وكانت الجملة التي سقطت من فمه ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل.. صكت سمعي.. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض.. تصيب وتدمي شظاياها
                  وقال: لقد مات ابني عقب عودتنا...!


                  إنا لله وإنا إليه راجعـون.. هذا هـو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً، وكلما بلغ الطفل العام الثالث.. لحق بسابقه.. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعـالج مع زوجته، بعد التحليلات اللازمة.. فقد
                  يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم.. اقتنع، وقنع بأن ينذر مع زوجته مرة للشيخ هذا، ومرة للضريح ذاك، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف.. إذا عاش طفله، ولكن ذلك كله لم ينفعه.. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه.. إلا أنني حزنت من أجله..


                  تألمت حقيقة.. أخذته من يده.. أدخلته.. جلست أستمع إلى التفاصيل..!


                  محمدجمال حسين
                  08-04-2009, 02:26 AM

                  لقد عاد من طنطا مع زوجته إلى بلدهما، وحملا معهما بعض أجزاء من ((الخروف)) الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح ((السيد البدوي)).. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه.. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين - وأيضاً- لكي يأكلوا من هذه الأجزاء.. التي لم تتوافر لهـا إجـراءات الحفظ الصالحة ففسدت.. وأصابت كل من أكل منها بنـزلة معوية..


                  وقد تصدَّى لهـا الكبار وصمدوا.. أما الطفل.. فمرض، وانتظرت الأم - بجهلها - أن يتدخل ((السيد البدوي)).. لكن حالة الطفل ساءت.. وفي آخر الأمر.. ذهبت به للطبيـب الذي أذهله أن تترك الأم ابنهـا يتعذب طوال هذه الأيام... فقد استغرق مرضه أربعة أيام... وهزَّ الطبيب رأسه، ولكنه لم ييأس.. وكتب العلاج.. ((أدوية)) وحقـن، ولكن الطفل.. اشتد عليه المرض، ولم يقو جسمه على المقاومة.. فمات!


                  من موت الطفل بدأت المشـاكل.. كانت الصدمة على الأم.. أكبر من أن تتحملها..


                  ففقدت وعيها .. أصابتها لوثة.. جعلتها تمسك بأي شيء تلقـاه، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها.. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية، بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله.. لا شـريك له.. وأن ذهابه عاماً بعد عام.. إلى الأضرحة والقبور.. لم يزده إلا خسـارة.. واعترف لي: بأن الحوار الذي دار بيني وبينه.. كان يطنّ في أذنيه.. عقب الكارثة، ثم صمت..!


                  فقلت له: بعض الكلام الذي يُخفّف عنه، والذي يجب أن يُقال في مثل هذه المناسبات.. ولكن بقي في نفسه شيء من حديثه. فهو لم يكمل.. ماذا حدث للسيدة المنكوبة، وهل شفيت من لوثتها أم لا؟
                  فقلت له: لعل الله قد شفي الأم من لوثتها.؟!


                  فأجاب - وهو مطأطئ الرأس: إن أهلها يصرون على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس - أيضاً - ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية..
                  ليس ذلك فحسب.. بل ذهبوا بها إلى ((سيدة)) لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض.. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم.. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء..!


                  وحينما أراد أن يحسم الأمر.. وأصرّ على أن تُعْـرض على طبيب.. أو يطلقهـا لهم؛ لأنهم سبب إفسادها.. برزت أمها تتحداه، وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره...!



                  * * * * *


                  * أثارتني قصته، رغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من الدكتور جميل إلا أنني أتيته بها وناولتها له.. فأمسك بها وقلبها بين يديه.. وعلى غلافهـا الأخير كان مكتوباً كلام راح يقرؤه بصوت عال.. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني ((نواقض الإسلام)) من كلمات شيخ الإسلام ((محمد بن عبد الوهاب)):
                  { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة: 72]، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.


                  ورفع رأسه فحملق في وجهي.. ثم أخذ الكتاب، وانصرف واشترط أن يعيـده لي بعـد أيام، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق ((التوحيد)) انصرف إبراهيم، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة.. فهي ليست مأساة فرد، ولا جمـاعة، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصـار..


                  الخـرافة أحب إليهم من الحقيقة، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة..!


                  حاولت الاتصـال تليفونياً ((الدكتور جميل)).. فقد كنت أريد أن أنهـي إليه أخبار (إبراهيم) ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر.. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن الجريمة في الأدب العربي، وصففت أمامي المراجع، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة، وإذا بالتليفـون يدق.. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية ـ يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة ـ لحضـور تحقيق في قضية مصرع أحد عمال البلاط، وكان قد عثر على جثته في جُوال منذ يومين..!!


                  تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق.. والغريب في الأمر.. أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً.. في هاوية الشرك والدّجل والشعوذة.. بشكل يدعو إلى الإشفاق.. فالقتيل كان يدّعي صحبة الجن، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتـنافرين، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية...
                  إلى جانب عمله في مهنة البلاط..!


                  أمّا المتهم القاتل.. فكان من أبناء الصعيد.. تجـاوز الخمسين من عمـره، وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب.. فطلقها وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب... وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له - نكاية فيه - يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة.


                  فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين.. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد.. وتلقف الدجـّال فرصة مواتية... وذهـب معه إلى البيت.. وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدّسم.. بعض مستلزمات حضـور الجن من بخور وشموع وعطور، وذهب الرجل ليشتريها.. وترك (الدجّال) وزوجته الحسناء في البيت..!


                  خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيدًا لاستحضار الجـن.. وترك الدجـّال الشاب مع الزوجة الحسناء .. وكان لا بد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف.. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة. إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها، وهي العفيفة الشريفة.. فقامت لتغـادر البيت إلى جارة لها.. حتى يصل زوجها.. وإذا بهـا تجد زوجها على الباب.. فقد نسى أن يأخذ حافظة نقوده وروت له في غضب ما وقع من الدجّال، وانفعل الزوج الصعيدي، وحمل عصـاة غليظة ودخل على الدجال في الغرفة، وانهال عليه بالعصا.. حتى حطم رأسه.. بعدها وجد نفسه أمام جثة لا بد أن يتخلص منها.. فجلس يفكر!


                  خرج ليلاً فاشترى جُوالاً، وعـاد فوضع الجثَّة فيه، وانتظر حتى انتصف الليل.. ثم حمل الجثة على كتفه، وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه.. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها.. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد! ولكن رجال الشرطة.. بعد عثورهم على الجثة.. بدؤوا أبحاثهم عن الجُوال الذي يحتوي على الجثـة.. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة، حتى قال لهم أحدهم: إن الذي اشتراه منه هو فلان، وكان ذلك بالأمس فقط، وألقت الشرطة القبض على الرجل، وفتشت غرفتـه فوجـدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة.. وضُيِّقَ عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة!



                  ########################################


                  * لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة، فكل شيء يجري في ملكوت الله بقـدر.. إذ يسـوق لي هذه الجريمة المتعلقة - أيضاً - بفساد العقيدة.. لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى.. ولماذا تروج الخرافة، وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع؟


                  هل لأن الذين يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا ؟


                  وماذا يجعل الضحايا ـ وهم ملايين ـ يندفعون إلى ممارستها، والإيمان بها، والتعصب لها... ؟
                  أم أن ((الوثنية)) التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس.. التي ترسبت في أذهان العالمين سنـين طويلة تفرض نفسهـا على الناس من جديد.. تساندها الظروف النفسية لبعض البشر، الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها!!?


                  * فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة... كلاهما فاسد العقيدة.. لا يعرفان من الإسلام سـوى اسمه.. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسـوء، ويكذب عليهم، ويدّعي أنه على صلة بالجن، وأنه يُشْفي ويُسْعد، ويشفي ويمرض بمعـاونة الجن، وفي ذلك شرك مضـاعف مع الإضرار بالناس.. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولدًا أو بنـتاً!


                  وقد يكون عـذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغى عقله... غير أنه لو أن له عقيدة سليمة.. تُرسِّـخُ في ذهنه أنَّ الله بلا شركاء، وأن النفع والضر بيد الله فقط، وتُؤصِّل هذه المفاهيم في أعماقه.. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال.. ولا استطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في يدي مثل هذا المشعوذ!!


                  * وفي كثير من الأحيان يصل الأمر... ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة.. يروج لها، ويدافع عنها، وعلى استعداد للقتال في سبيلها.. فقد نجد من ينبري في المجالس.. فيروي كيف أن الشيخ الفـلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيـق به، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له تحويطة، وأنه كان على خلاف مع زوجته وضَعَهُما على حافة الطلاق لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه.. إلخ ..


                  وتحضرني في هذا المجال قصـة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربية، هذه السيدة حاملة الدكتوراه... عثر زوجها ذات يوم على حجـاب تحت وسادته، فسأل زوجته.. فقالت: إنها دفعت فيه ما لا يقل عن خمسين جنيهاً؛ لكي تستميل قلبه؛ لأنهـا تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة.. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً.. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها..!


                  * وترتفع الخرافة إلى الذروة... حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة... فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس، والشيخ فلان يـزار ضريحه في مسائل الـرزق، والقـادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشـاكل الحب، والهجر، والفراق، والطلاق، وأخرى في أمراض الأطفال، والعيون، وعسر الهضم.. وهكذا... مؤامرة محكمة الحلقات.. تلف خيوطها حول السذَّج والمساكين، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [الأنعام: 17]


                  وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف: « من عَلَّق تميمةً فقد أشرك ».


                  إن الانصياع إلى الخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم، بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين، والذين درسوا في أرقى الجامعات.


                  وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس، الذين لا تحميهم عقيدة سليمة.. تصد عنهم هذه (الشركيات) الشرسة الضارية.. فالذي لا شك فيه، هو أن الرجل الذي وثّق إيمـانه بالله واقتـنع بأن الله هو مالك كل شيء، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له.. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه.. متحصناً بعقيـدته.. لا تصـل إليه المفاسد، بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات.


                  لماذا؟ لأنه أنهى أمره إلى الله، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة!


                  فالإيمان بالله، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات.. إنه أبسط من ذلك.. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره... أو يستأثر به غني لغناه..!


                  وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة إذ بضجيـج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده.


                  وراح هذا الضجيج يعلو، ويعربد في ليل الحي.. دون أن يتوقف إلا لحظات.. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضاربًا.. متوحشاً.. يهز الجدران..


                  وعرفت بخبرتي من الألحان، والأصوات المنفردة التي تصاحبها أن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة ((زار)).. وأنها لا بد أن تكون قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجن... لكي يشهدن حفلها؛ إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم
                  فيها مثل هذه الحفـلة، فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور.. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها...!


                  وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم علي أذني.. فتركت الكتابة، وحاولت أن أقرأ.. وفي خضم المعاناة.. جاء صديق لي من كبار علماء الأزهر?
                  ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشئون الأزهر، ليزورني واستقبلته فرحاً؛ لأنني أحب النِّقاش معه، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدقات الهمجية.


                  وشكوت إليه جارتي، ودخلنا في المناقشة عن الجـن وشكوى الناس منه، وادّعاء السيدات أنه يركبهن، والجيش الجرار من النساء، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات ((الزار)).


                  وإذا بالرجل الذي يحمل شهادة أزهرية عليا.. يؤكد لي أنه كانت له
                  شقيقة مسَّها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها فعطّل ((الجن)) ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام.. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفـلة ((الزار))، عقدت الشيخة بينها وبين (الجن) معاهدة تعايش سلمي.. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.


                  محمدجمال حسين
                  08-04-2009, 02:27 AM

                  * كان هذا كلام الرجل العالم... طال صمتي.. فقط كنت أفكر في المسكين إبراهيم الحران، وزوجته الأمية... فلا عتاب عليهما ولا لوم.. ما دام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في ((الزار)).. وكانت الدقات العنيفة لا تزال تصل إلى آذاننا، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن، وتستعطف قلوب العفاريت..!


                  انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص.. الذي فجعني فيه إخلاصي فيه .. إذ وجدته من المؤمنين بالخـرافة، المؤيدين لحكـايات الجن... وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة، ودقات ((الزار)) التي كانت تقتحم عليَّ نوافذ مكتبي.. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين..!


                  * وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون.. يصيح صيحات طويلة ومعناها أنّ مكالمة قادمة من خارج القاهرة... ورفعت السماعة.. لأجد أن المكالمة من الصعيد، والمتكلم هو زوج خـالتي، ووالد زوجة ((إبراهيم الحران)).. يعلنني أنهم سوف
                  يصلون غداً.


                  وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة.. خوفاً من أن أكون على سفر.. فهو يريدني لأمر هام.. ورحبت به، وقلت: إنني في انتظارهم.. ولم يكـن أمامي سوى أن أفعل هذا لألف سبب وسبب!


                  أولها: أن الرجل الذي اتصل بي أكنّ له كل الاحترام والحب، وأنني لمست في صوته رقة الرجـاء، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إليَّ في حاجة وفي وسعي أن أقضيهـا له.. أخشى أن أرده - ولـو بالحسنى - وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس.. رغم أن هـذا يسبب لي الكثير من المتاعب، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله..!


                  وفي الغد ومع الركب الحزين، وكان مؤلفاً من زوج خالتي، وخالتي أم زوجة ((إبراهيم الحران)) وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها.. وكانت في حالة يرثى لها. تفاقمت الحالة العقلية عندها، ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة.. رفضت معها الكلام، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها.. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة، ولا تجيب عمَّن يحدثها... انتقلت من دنيا الناس.. إلى دنيا الوهم والكآبة.. حتى زوت، وصارت هيكلاً عظمياً ليس فيها من علامات الحياة سوى عينين كآلة زجاج يرسلان نظرات بلا معنى.. وقال لي الأب وهو حزين: إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية، ونفسية، ويعمل في ((دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية)) لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى..!


                  كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها.. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ، وبالجري والطواف حول الأضرحة، وضياع الوقت - جعلت المرض يستفحل، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته..


                  واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها ((إبراهيم الحران)) واستفزته بإصرارها على الخطأ، ولكن عذرها أنها كانت ضحيةً لجهلها، ولعشرات السيدات اللاتي كنَّ يؤكدن لها: أن تجاربهن مع المشـايخ، والأضرحة والدجالين.. تجارب ناجحة، والمثل يقول: ((اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً))..!


                  واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى، وقال لي ابني: إنها حالة مطمئنة ولا تدعو إلى اليأس.. كل ما في الأمر أن الإهمال جعلها تتفاقم.. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج تحسنت السيدة، وقد عُولجت بالصدمات الكهربائية.. إلى جانب وسائل علاجيـة أخـرى يعرفها المتخصصون، وخلال ذلك اتصل بي ((إبراهيم الحران)) فقلت له: إنني أريده في أمر هام، ولابد أنه يزورني في البيت... وحينما جاء شرحت له الأمر، وقلت له: إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج أيضاً..


                  ولكن لفت نظري فيه.. أنه بعد قـراءته للكتب التي حصـلت له عليهـا من (الدكتور جميل غازي) في التوحيد أن أصبح إنساناً جديداً... فالعبارات التي كانت تجري على لسانه.. من الإقسام تارة بالمصحف، وتارة بالأنبياء، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً.. وعاد يمارس حياته بأسلوب الرجل الذي لا يعبد غير الله، ولا يخشى إلا الله، ولا يرجو سوى الله.. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته.. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة بأن تقلع أم زوجتـه عن معتقـداتها القديمة، وكذلك والد زوجته.. أما زوجته.. فقال: إنه كفيل بها، وعقدت بينهم جميعـاً مجلساً لم ينقصـه إلا الزوجة؛ لأنها كانت في المستشفى، وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي!!


                  كان لزيارته لزوجته في المستشفى... أكبر الأثر في شفائها، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته.


                  قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها: إن عودتها إلى زوجها، وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجَّل بشفائها، لأنها وهي وحيدة أبويها.. حطمتها صدمة وفاة ابنها.. ثم قضـت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها.. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها، وكان يتنظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً!


                  * لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي، و أبناء ديني.. وعلى امتداد الوطن الإسلامي كله.. ووجدتني أسأل نفسي
                  لماذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط.. تمزقنا الخرافة وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات، فتمسك بنا وتوقفنا عن ممارسة الحضارة..؟


                  * ومع أن الغرب والمجتمع الأوروبي ليس خاليـاً من الخرافات، وليس خالياً من الخزعبلات، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة ويمارسونها، تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام!


                  الواقع أن خزعبلاتهم وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح.. تدفع بهم إلى الانزلاق أكـثر من الماديات، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم!!


                  أما هنا في الشرق.. فإن خرافاتنا معادية للعقل، وللمادة معاً.. !


                  ولهذا كانت خرافاتنا هي المسئولة عن تدمير حياتنا في الحاضر والمستقبل.


                  وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء..!


                  فحينما يصبح ((التوحيد)) أسلوب حياة وثقافة وعقيدة... سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد.. هذه الغيوم.. غيوم الخرافات!! والدجل!! والشعوذة!! والكهانة التي لاتقوى.


                  وتلك مسئولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة وغير المباشرة فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات.. ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل.!


                  { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 53]



                  من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                  تعليق


                  • #10
                    الشيخ محمود المراكبي في حوار خاص بموقع الصوفية:



                    المحتفلون بالمولد النبوي يوم 12 ربيع الأول إنما يحتفلون بوفاته



                    وهذا هو الدليل!!

                    الصوفية وافقوا النصارى وزادوا عليهم باعتراف شيخهم الجيلي..
                    فكر ابن عربي مازال قائما في أوراد الطرق الصوفية.
                    المفاجأة عندما فتح الضريح لم يجدوا فيه أحد !!
                    لا يحسن نقد الصوفية مثل من عاش في وسطهم ثم هداه الله للحق كالشيخ الوكيل.


                    حاوره من القاهرة: محمد عبد العزيز

                    * كيف ترى الفرق بين صوفية الماضي وصوفية الحاضر؟ وأيهما اخطر؟
                    - بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد..
                    فحين بدأ التصوف في القرن الثالث الهجري، لم يكن التصوف في ذلك الوقت أكثر من الزهد في الدنيا والإقبال على الله والتزود من الطاعات والإكثار من النوافل بغرض تهذيب النفس والتخفف من الشهوات.
                    ولكن سرعان ما دخلت فيه التيارات الفلسفية والفكرية فظهر أبو سعيد الخراز وظهرت فكرة الفناء والبقاء، ثم بدأت فكرة الفناء تأخذ أبعاداً جديدة، فبدلا من أن تعني فناء الصفات البشرية بصفات طيبة من صفات الكمال والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى دخلت المسألة في انصراف صفات البشر إلى حلول صفات الحق تبارك وتعالى فدخل فيها نوع من أنواع الحلول ولكن حلول في الصفات إلى أن وصل إلى الحلاج والبسطامي حيث بدأت المسألة تأخذ بُعد الفلسفة الاتحادية والحلولية المعروفة عند الإغريق والهندوغيرهما من الثقافات.
                    وزادت المسألة بعد ذلك بمجيء محي الدين بن عربي وظهور مسألة الإنسان الكامل التي أخرجت الفكر الصوفي من دائرة الإسلام، و إذا تتبعت كلام محي الدين بن عربي وكلام ابن سبعين وكلام ابن الفارض تجد أنك أمام رسالة أخرى لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم.
                    ثم جاء بعد ذلك جماعة من الجهلة، بعيدين عن الفهم والعلم والتعلم فأخذوا مفردات كلمات محي الدين بن عربي ووضعوها في الأوراد الخاصة بهم ونقلوها للمريدين الموجودين حاليًا، وهم مجموعة من الجهلة الذين لايفهمون ما يرددون، فأصبحت المسألة مسألة صورية لا فكرموجود فيها ولا وراءها علم ولا وراءها شيء سوى تقليد واتباع أسلافهم على جهل، والمصالح والمكاسب هي اللي تحركهم الآن.
                    * هل يشكلون اليوم امتدادا أم مزيد انحراف ؟
                    - أنا كنت في طريق صوفي ومكثت في هذا الطريق 14 سنة إلى أن وصلت إلى شيخ طريقة، ولم أجد أحدًا يسعى ليُفهم مريديه عقيدة وحدة الوجود ولكن أحيانًا قد يعطيك مجرد إشارة لهذه العقيدة أثناء الحضرة، و في يوم من الأيام بعد ما أكرمني وهداني رب العالمين إلى طريق الكتاب والسنة، ذهبت لشيخ من مشايخ الطريقة، وكان مستشارا في مجلس الدولة، يعني رجل مثقف ثقافة عالية جدًا وحاصل على دكتوراه في القانون فسألته سؤالا محددا: "يا شيخنا: وحدة الوجود ماذا تقول فيها ؟" فقال لي إجابة ملخصها في كلمتين: " هي حق في ذاتها خطأ في الحديث عنها"
                    مما أكد أن غالب الأتباع والمريدين ومن يذهبون إلى الموالد لايفهمون شيئاً عن عقيدة الصوفية الخاصة بالحلول والاتحاد.
                    * أيهما أخطر صوفية الماضي أم صوفية الحاضر ؟
                    - لا شك أن الصوفية خطرعظيم جدًا، وكانت خطرا متضخما جدًا في وقت محيي الدين بن عربي، وقد مر بي كثيرا تحذير العلماء المعاصرين له من فكره، فقد كان العلماء حينما يكتب الواحد منهم أو يؤلف، تحده يعرج ليحذر من ابن عربي وأمثاله ومن أفكارهم.
                    لكن الوضع الآن أخطر ؟ لأن الفكر الشيعي تسرب بكل جزئياته في الفكر الصوفي لجهل الصوفية والقائمين عليها، فقد كان الصوفية منتبهين لقضية الإمامة وكانوا مثل السنة يرون صحة ترتيب الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أما صوفية اليوم فيعتقدون قطاع عريض منهم اعتقاد الشيعة في الصحابة، فما نحن فيه الآن فنحن نواجه قوما اسمهم الصوفية تشيع أغلبهم في الباطن.
                    * رغم أن الصوفية تصطدم مع العلم والواقع، نجد أن بعض المثقفين ومن ينسب إلى العلم منهم من يعتنق التصوف ويدافع عنه، فما سبب ذلك؟
                    - الحقيقة هذه ملحوظة مهمة جدًا، لكن لو وسعنا النظرة سنجد أن هذه قضية مشتركة في كل الأفكار، فهناك علماء في الهند لهم وزن راسخ إذا مرت بقرة في الشارع أفسح لها الطريق لأنها يعبدها لأنها الصورة المثلى عنده للإله.
                    ومسألة العلم النظري لا علاقة لها بالمعتقد ولا نقدر أن تقول ما دام عالم ذرة لابد تكون عقيدة صحيحة، فهذه إجابة عامة شاملة.
                    ولكن نقول أن المشكلة في مصر جاءت بسبب ضعف التعليم الإسلامي فجيلنا لم يدرس الإسلام إلا في حصة الدين، ودخلنا الجامعة ولم نسمع كلمة واحدة على أي علم من العلوم الإسلامية وتخرجنا لانعرف شيئًا عن ديننا وانشغلنا في أعمالنا، فعندما يرغب الإنسان يرغب في الوصول إلى الله تعالى يصعب عليه التعلم بعد هذا العمر فيأتي إليه من يقول له الأمر سهل اجلس مع الشيخ فلان فهو رجل طيب اقعد معاه سيقول لك استغفر ربنا وصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول لا إله إلا الله ثلاثمائة مرة ولا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة هتدخل الجنة وتصبح طائر مع العارفين، فيمشي وراء الشيخ ولا يستطيع ان يزن كلام الشيخ هل هو صحيح ام خاطىء لأنه يفتقد العلم، فاللوم ليس على المثقفين اللوم على من تركهم يصبحوا مثقفين دون أن يعرفوا دينهم.
                    * هل هناك تيارات صوفية على الساحة سليمة المعتقد أو قريبة من سلامة المعتقد معتدلة المنهج من الممكن في رأيك التعاون معها والاتصال بها واستثمارها في محاربة شركيات التيارات الصوفية الأخرى ؟
                    - قد كان لي تجربة في ذلك، فعندما تركت الطريقة الخلوتية كان لي صديق من الطريقة التيجانية قال لي يا أخي أنت كنت تسير في طريق ووجدت الطريق غير صحيح فانظر في طريقتنا وشيخنا الحافظ التيجاني المحدث وليس عندنا خطأ.
                    قلت له إذن أعطني الأوراد أطلع عليها وأرى، وحين قرأتها قلت الحمد الله قد كنت في طريق هي أهون شرا مما هم فيه، فشيخهم يدعي لنفسه أنه يمد الخلائق بأنوار الله سبحانه وتعالى من الأزل إلى الأبد بما فيهم الأنبياء، وكان هذا دافع لأن أدرس أوراد الطرق وبالفعل درست أوراد عشرين طريقة، فوجدت فيها نفس ما عبته على الطريقة التي كنت أسير عليها وليس هناك فرق بينهم.
                    * لماذا سميت الحضرة بالحضرة؟
                    - أجاب عن ذلك الدباغ في كتابه الإبريز: أن آدم عليه السلام لما كان في الملأ الأعلى كان يسمع ذكر وتسبيح الملائكة، فلما أنزل إلى الأرض استوحش فبدأت الملائكة تستأذن الله أن تنزل على آدم لتقيم عنده الحضرة، وعندما يكبر واحد من أبناء وأحفاد آدم عليه السلام يحل محل واحد من الملائكة إلى أن كونت الحضرة من البشر بعد أن كانت من الملائكة، وفيها تحضرالذات الإلهية.
                    * ولماذا يذكرون الله بلفظ هو الغائب، وهم يعتقدون حضور الذات؟
                    وفيها يذكرون بهو ويرون أن هذا الذكر هو ذكر الخليليه لإن إبراهيم كان يذكر به كما يدعون ودليلهم قول الله تعالى" إن إبراهيم كان أواه حليم"
                    * هل يمكن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أو ما يسميه الصوفية عالم المثال بين الحقيقة والخيال؟
                    هذه المسألة من أعظم المهالك لدى الطرق الصوفية، إذ كنت أجد من هو على باطل يقول لي أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمرني بكذا، وقد يكون صادقا فيما توهم لا فيما رأى،لأن الشيطان يوهمه بذلك، وقد توصلت بعد طول بحث إلى أن المعيار في صدق الرؤية أن يكون النبي على صفاته المعروفة عنه.
                    أما من ادعى أنه رأى النبي في اليقظة فقد كذب على الله ورسوله، إذ لا يمكن أن يحدث ذلك.
                    * يرى كثير من الباحثين أن العلاقة بين التصوف والتشيع وطيدة من الناحية الفكرية، فهل ترى أن هذه العلاقة ممتدة بين الصوفية والشيعة على المستوى السياسي والتنظيمي ؟
                    - نعم.. هو الصلة بين التصوف والتشيع تكلم فيها كثير من الباحثين وأثبتوها وأنا في كتبي تناولت الشيعة والصوفية ووجدت أن جذور الصوفية تنهل من مناهل الشيعة.
                    لأن المحور الأساسي الذي جمع بين التصوف والتشيع واحد وهو شخصية علي بن أبي طالب؛ الشيعة يؤمنون بأن علي المعين من الله سبحانه وتعالى بنص إلهي والأئمة نسلهم من بعده، هذا عند الشيعة.
                    أما الصوفية فهم يعتبرون أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إمام علم الباطن وهو الأقرب للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك تجد كثيرا من الصوفية مع الوقت حبهم لأبي بكر وعمر يضعف في قلبوهم وتجد حديثه عنهم يقل ويكثر جدًا عن سيدنا علي.
                    وبعد ذلك يرفع مقام الحسن والحسين بنفس القدر والأئمة من بعده وهم استبدلوا كلمة الأئمة بالأقطاب، وقد غيروا الاسم من ليعيشوا بين أهل السنة دون مشاكل فسموهم الأقطاب.
                    * قد قلتَ من قبل أن الصوفية هم طابور خامس للشيعة في ديار السنة أو هم مشروع لطابور خامس فهل يمكن أن نضع الصوفية كلهم في سلة واحدة؟
                    - بالطبع لا.. ولكن هناك بعض الطرق كالطريقة العزمية مثلاً كل كتاباتها وكل أورادها وكل كلامها واضح جدًا منها أنها أقرب الطرق إلى الشيعة وليس إلى السنة.
                    وهناك طرق انتبهت للقضية وحاولت أن تصلح، لكن ليس عندي إحصاء دقيقن لكن على أية حال ينبغي أن نحذر الصوفية من هذه القضية.
                    * هل ترى أن فكر ابن عربي وأمثاله ومن تأثر بالفكر اليوناني يلقى رواجًا بين الصوفية.
                    - نظرًا للجهل الموجود لا يوجد أحد يعرف ماذا قال ابن عربي إلا قلة قليلة جدًا من الصوفية فللقاء ما بين الشيخ الكبير في الطريقة وبين الخلفاء محتوى،يختلف بلا شك عن محتوى اللقاء بين الخلفاء والمريدين، فالخلفاء والمريدون لا أحد منهم يتكلم عن ابن عربي وفكر ابن عربي، ولا أحد يحسن أن يقرأ له أصلاً.
                    * هناك بعض الباحثين اليوم - من الشيعة - أثبتوا أن ابن عربي كان شيعيا ؟
                    - ابن عربي حين تقرأ كلامه تجده قال أن المهدي دخل السرداب وسيخرج آخر الزمان وقال في الفتوحات المكية ما تقول به الشيعة أن المهدي حين يظهر آخر الزمان لن يعمل إلا بقتل العرب وسفك دمائهم.
                    * نريدكم أن تحدثونا عن العناصر التي تقوم عليها فكرة التصوف، كمحورية الشيخ ومحورية القبر ومحورية الأوراد..، هذه كلها محاور تكاد تنتظم عليها الطرق الصوفية، نريد أن نفهم ما الصلة بين القبر والصوفية هل هناك تلازم بين هذه المحاور وبين التصوف ؟
                    - الفكر الصوفي يقوم على محور أساسي وهو محور الشيخ وكل الطرق - تقريبا- لا تزكي الشيخ ولا تعظم أمر الشيخ بكلام صريح من الشيخ، فالشيخ لا يقول لهم أنا قطب الوقت، ولكن تجد الشيخ يكلمك عن شيخه الذي مات ويتكلم عن شيخه ويعظم في شأن شيخه تعظيما ضخما جدًا، حتى يرسخ في ذهن المريد أنه لابد أن تعظم شيخك مثلما يعظم شيخه فتنتقل وترث آداب التعلم مع الشيخ بنفس الشكل.
                    كذلك يقال لك في وسط الكلام أن الشيخ هو الباب الموصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولابد أن يكون بينك وبين الشيخ رابطة ويقال لك إنك إن ذكرت الله سبحانه وتعالى وستقعد في مكان في بيتك تطيب المكان وكذا وتطفئ النور وتقعد تذكر الله بمفردك وتستحضر شيخك كأنك تجلس أمام شيخك ولما تستحضر شيخك تنتقل لمرحلة أعلى حتى تستحضر الله جل جلاله.
                    - قضية محورية القبر.
                    * القبر عند الصوفية لا يسكنه ميت، لأن من وصل إلى مقام القطبانية عندهم فهو يتصرف في الكون و يحضر ديوان التصريف.. التي تعرف بالحكومة الباطنية للكون، و الله تعالى لا ينظر في الكون كله إلا إلى قطب الوقت الذي يعرف بالقطب الفرد الغوث الجامع، وهي كما ترى هرطقات ماأنزل الله بها من سلطان.
                    وهذا القطب يتلقى عن الله سبحانه ويتعامل مع الله، وله قطب (وزير يمين) يتصرف في الملكوت(الملأ الأعلى)، وآخر على اليسار يتصرف في المُلك، وتحت القطب أربعة أوتاد، وتحت الأوتاد أبدال وتحت الأبدال نقباء.
                    * بينما قامت فكرة التصوف على الزهد نجد حياة مشايخهم حياة ترف، فكيف يُبرر ذلك للمريدين؟
                    الزهد كان في الماضي، ولا يوجد الآن أحد يدعو مريديه للزهد في الدنيا.
                    بل هناك من يدعو لذلك كالجفري مثلا يتحدث عن التربية في المزابل، من أجل أن يصل الإنسان لابد أن يعذب نفسه ويزهد فيجلس مثلا في حجرة مظلمة لفترة طويلة.
                    هؤلاء هم من يقومون برياضات روحية مثل البوذية، وكل طريقة تنتخب مجموعة منها لعمل ذلك، وغرضهم في ذلك تعلم السحر، ففي طريقتي السابقة شيخ دخل الخلوة لمدة 30 يوما وجلس بمفرده، هذا الرجل كانوا يرسلونه فيما بعد لاستخراج الجن وإبطال السحر، ويعتبر ذلك مدخلا لاكتساب مريدين جدد للطريقة عن طريق التأثير على الناس، ويجعل الناس يقولون إذا كان تلميذ الشيخ يخرج الجن وله هذه القدرة فما بال شيخ الطريقة؟!
                    فهذه الرياضة الروحية غير مطلوبة من المريدين، ولي في هذا الأمر حادثة سابقة، فقد جاءني أحد كبار شيوخ الطريقة ويدعى الشيخ لطفي وكان كبيرا في السن يصل عمره إلى 80 عامًا، وقال لي أنه مكلف من الشيخ الكبير ليعلمني كيف أتعامل مع الجن وأحرقه، ولكني رفضت قائلا له أنا لست خالصًا من أعدائي من الإنس وليس بي حاجة لأعداء من الجن.
                    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                    تعليق


                    • #11
                      * لك في الطريقة الخلوتية تجربة ثرية فما الذي استفدته من هذه الفترة والتي استمرت لمدة 14 عامًا؟ وما الأسباب التي دعتك لترك الطريقة والسير على نهج أهل السنة والجماعة؟
                      كل ميسر لما خلق له، فهذه التجربة في البداية نقلتني من مسلم عادي لمسلم يهتم بالقرآن والأوراد والذكر.
                      وبعد فترة قصيرة تم اختياري لتولي شيخ الطريقة بالقاهرة، ولقد استفدت من التصوف القراءة في كتب الرقائق التي كتبها علماء من الصوفية قدماء ليس عندهم انحراف فكري، وبدأت الاهتمام بالصلوات والذكر والقرآن والطهارة الدائمة، ولم أكن أعلم أن في هذه الطريقة انحرافا، فما أمرني به شيخ الطريقة في البداية لم يتعدى هذا الأمر.
                      أما عن هدايتي للحق فكانت في البداية بسبب تصرفات بعض المشايخ، فعندما كنت أقرأ في كتب الصوفية الأوائل أجدها قوية في السلوك إلى الله أما الأفراد فأجدهم في هذا العصر أبعد ما يكون عن هذه الكتب.
                      كذلك وجدت هناك صراعا بين مشايخ الطرق على المريدين، فالتطبيق الفعلي للتصوف كان مختلفا.
                      - لكن ما هي النقطة الفاصلة التي أعادتك للحق؟
                      النقطة الفاصلة هي أنني وجدت أن الورد الذي أردده يخالف الحديث الشريف، فقد كنت أقرأ في الورد " اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد الذي شاهد ربه بعيني رأسه وطاب وما غاب"، إلى أن قرأت حديثًا في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها:" ثلاث من قال بهن فقد أعظم على الله الفرية، (منها) من قال أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، وبعد ذلك عقبت بآيتين محكمتين من القرآن تؤكدان أنه لم ير ربه.
                      فتوقفت وبدأت أعالج الأمر من أوله، ودخلت في دراسات، ومكثت في قضية الرؤية سنة كاملة إلى أن وصلت إلى إجابة شافية أنه لم ير ربه.
                      وبعدها بدأت أنظر في كل الأوراد - وبفضل الله - منذ أول ما كلفوني بمشيخة القاهرة - أخذت على نفسي عهدًا أن لا أتحدث إلا فيما أعرفه، على الرغم من أن الشيخ عندهم مفتوح عليه، أي إذا سئل لابد أن تأتي إليه الإجابة في قلبه.
                      وخلال عشر سنوات كنت فيها شيخ طريقة لم أجب إجابة واحدة بعيدة عن الكتاب والسنة، وكان كبار المريدين الموجودين معي والذين تربوا على يد شيخي وشيخ شيخي يأتون إلي بعد انتهاء الحضرة ويقولون سمعنا شيخنا الكبير في سنة كذا أجاب إجابة مخالفة تمامًا لإجابتك لكن كلامك أنت مريح جدًا ودخل القلب ومقتنعون به.
                      * بعد عودتك للحق هل عاد معك للحق أحد من المريدين؟
                      نعم ولله الحمد عاد معي عدد لابأس به من المريدين، وكنت قد قلت لهم في آخر حضرة لي معهم: أنا كنت على خطأ وكنت آمركم بأوراد، وهذه بها أخطاء كذا وكذا وأنا أعتذر عنها إلى الله، ولنحول الحضرة إلى مجلس لتعليم القرآن الكريم، وبالفعل تحولت الحضرة إلى مقرأة.
                      * استثار ما كتبته من كتب عن الصوفية بعض الصحف والمجلات الطرقية فقاموا بالرد عليك وهاجموك، ومن هذه المجلات مجلة الإسلام وطن، فما سبب ذلك الهجوم؟ وما تقييمك لهذه الردود؟
                      صراحة من ألف في الصوفية واحد من اثنين إما محب لها فهو معها على طول الطريق، أو منتقد لها دون أن يكون قد مارسها، وقليل من عاش التجربة وعلم خباياها وتحدث عنها.
                      وكان من أفضل الكتب في هذا الباب كتاب عبد الرحمن الوكيل رحمه الله، فقد مر بهذه التجربة لكن كتابه كان مختصرًا جدًا ولم يتعرض لكل القضايا.
                      فلما كتبت في التصوف وصلت للموضوع من أساسه، فكانت كتاباتي في الصميم وانتشرت الكتب مما جعلهم يسعون للرد علي، فلما تحدثوا ظهر عوار ردهم، إذ لم يستطيعوا الرد علي فيما طرحته، وردهم لايستحق أن أرد عليه.
                      ولقد كتبت هذه الكتابات لأتبرأ إلى الله مما كنت عليه سابقًا وقلت هناك أناس أخذوا عني سابقًا ولا أستطيع أن أصل إليهم، ولعل هذه الكتب تصل إليهم.
                      والحمد لله بعد أن هاجمني أحدهم في مجلة الإسلام وطن خلال 13 عدد أي خلال سنة وربع تراجع بفضل الله عما قال وتبرأ مما كان عليه وأنزل هذه البراءة بمجلة أنصار السنة (التوحيد).
                      * لقد اقتربنا من المولد النبوي فماذا يمثل المولد النبوي لمشايخ الطرق الصوفية؟وهل فكرة المولد لها ارتباط بعقائد باطنية عند الصوفية؟
                      أول من أنشأ المولد الدولة الفاطمية وهم كذبة وفاسدون، وينسبون أنفسهم للسيدة فاطمة الزهراء عليها رضوان الله وهم غير منتسبين للسيدة، وقاموا بعمل هذه الموالد ليحببوا العامة فيهم، ففي الموالد تقام الموائد التي يقيمها الأغنياء للعامة.
                      كما أن الصوفية إذا كانوا يهتمون بموالد المشايخ فكيف لايقيمون مولدًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
                      ويعتبر الاحتفال بالمولد النبوي عندهم مثل الاحتفال بعيد الأضحى والفطر.
                      والموالد عند الصوفية تمتلىء بالكثير من الأوهام مثل إدعائهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يسير على سور مسجد الحسين في الليلة الختامية من مولد الحسين، لكن الكارثة حقا..الكارثة..
                      * ما الكارثة؟؟!
                      الكارثة في الاحتفال بالمولد أن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت أنه مات يقينًا في 12 ربيع الأول وهناك شك في يوم مولده، هل هو يوم 12 ربيع الأول أم غيره، ولكن إذا حققنا المسألة فلكيا سنجد أنه ولد يوم 9 من ربيع الأول، لأنه من المستحيل فلكيًا أن يأتي يوم الاثنين 12 ربيع الأول وبعد 63 سنة يأتي الاثنين يوم 12 ربيع الأول.
                      فأصبح احتفالهم على الحقيقة احتفال بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هي المصيبة والكارثة التي أعنيها.
                      ففكرة الاحتفال بما يسمى المولد النبوي فكرة باطنية من أعداء الإسلام للاحتفال بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
                      فمن وراء الاحتفال بالمولد النبوي إذن!! لا يمكن أن يكون مسلمًا عاقلا لسبب بسيط؛ أنه إذا كان هناك يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي أيضًا فيه فماذا نفعل في هذا اليوم أنسعد بمولده أم نحزن على فراقه؟
                      لا شك أن الحزن أولى بدلا من الرقص والطبل وشرب المخدرات والمنكرات التي تحدث بالمولد، ولكن إذا علمنا أنه اليوم الذي مات فيه على التحقيق ويستحيل أن فلكيا أن يكون هو اليوم الذي ولد فيه فيكون احتفالهم فرحا بموته.
                      * مفهوم البدعة وارتباطه بالمولد، فبعض العلماء يرى أنها بدعة حسنة، فما رأيكم؟
                      أولا: لايمكن أن تكون بدعة حسنة لأنها مرتبطة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وليس مولده.
                      ثانيًا: لا يوجد مناسبة زمنية احتفل بها النبي صلى الله عليه وسلم.
                      * يرى البعض أن التيار السني حقق العديد من الانتصارات على المعتقد الصوفي في الآونة الأخيرة وأن التيار الصوفي يحتضر الآن في مصر ولايجد له أنصارًا وأن الصوفية تحيا فقط بين أبناء الحرس القديم.
                      في حين على الجانب الآخر يرى البعض أن التيار الصوفي يجدد شبابه ويستعيد عافيته في الفترة الأخيرة على يد بعض الشخصيات الدينية الرسمية بمصر.
                      فأي الرأيين تؤيد ؟ وعلى ماذا تستند في هذا التأييد؟
                      هناك فعلا رأيان فبعض العلماء يقولون لي الصوفية تنحسر ونحن نرى ذلك بأعيننا، وبالفعل كان في قريتي 10 موالد والآن لايقام منها إلا واحد.
                      لكن تأتي لي بعض الأخبار التي تدل على أنه مازال هناك من يبقى على معتقده ويدافع عنه، فقد جاءني اتصال من محافظة إلمنيا يذكر أن هناك من أراد أن يقيم مسجد على ضريح وتطلب ذلك إزالة الضريح ثم وضعه، وكانت المفاجأةعند فتح الضريح أنه لايوجد به أحد، وعلى الرغم من ذلك أصر بعض أهل القرية على بناء الضريح الخالي مرة أخرى وأخذوا على ذلك موافقة السلطات الأمنية والدينية، وذلك رغم أنف تيار آخر من أبناء القرية كان يرفض وضع الضريح الخالي، وقد اقترحت عليهم اقتراح فكاهي وهو إذا كانوا قد غلبوا على أمرهم وبُني الضريح مرة أخرى فليسموا الضريح تسمية تفضحه دائما فقلت لهم فلتسموه ضريح سيدي "المزوغ" أو سيدي "الهربان".
                      - كلامك هذا يدل على انها على المستوى الشعبي انحسرت لأسباب عدة أما على المستوى الرسمي فالصوفية يحققون مكاسب.
                      المستوى الشعبي هو الأساس وأما الكراسي والمناصب فهي زائلة.
                      نفس الأمر في مسجد عز الدين أبو العزايم بايتاي البارود فقد الجميع هناك أن يقبر الرجل في المسجد حيث أن القانون ينص لعى ذلك وكذلك النظم واللوائح المعمول بها في إدارة المحليات،لكن تم الدفن في المسجد وأتوا بفتوى مناقضة للفتاوى وبضغط السلطات فرض الأمر.
                      * يرى البعض أن هناك تشابه قوي بين عقائد الصوفية والنصارى فما رأيكم؟
                      أرى أن الصوفية هي التي أطرت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجعلته كعيسى ابن مريم عند النصارى، وقد قال عبد الكريم الجيلي في كتابه:" الإنسان الكامل" أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة المحمدية التى خلق الله منها كل الموجودات، ثم قال: واعلم أن أقرب الناس لعقيدتنا نحن المحمديين هم النصارى إلا أنهم حصروا صورة المعبود في ثلاثة(الآب والابن والروح القدس)ولو أنصفوا لأطلقوها في الكون!!
                      من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                      تعليق


                      • #12
                        فريد الدين الهاشمي






                        كنتُ من أهمِّ الشخصيّات البارزينَ بين شيوخ النقشبنديّة في تركيا ومرجعاً روحياًّ لهذه الطائفةِ.
                        إذ وُلِدتُ ونشأتُ في أسرةٍ ذاتِ مكانةٍ مرموقةٍ تتهافت عليها جمهورٌ من الناسِ لما لها من صفاتٍ تُمَيِّزُهاَ عن بقيّة شيوخ الطائِفةِ.

                        أوّلاً:أنّها أسرةٌ مشهورةٌ من البيت الهاشميِّ، تنتهي إلى الحسن بن عليّ رض الله عنهما (إذا صحّ، والله أعلم).

                        ثانياً:لم تتغيّر الطابع العربيُّ في هذه الأسرةِ رغم سياسة التتريك بإعطائِها لقب آيدن Aydın إجباراً.
                        لذا تميّزَتْ بهذه الصفةِ (العربيّة) قداسةً في نظر الذين يجعلون من هذا الطابع صلةً بين العربِ والإسلام أو بين البيت الهاشميِّ والإسلام! فَيُفَضِّلُونَ العربَ على بقيّة المسلمين من عناصرَ عَجَمِيَّةٍ.
                        (أصحابُ هذا الظنّ الخاطئِ كانوا قلّةً من الأكرادِ والعربِ بجنوبِ تركيا، وما كاد أحدٌ اليومَ يَعْبَأُ بهذه الفكرة).

                        ثالثاً:كانَ بيتُناَ مَوْئِلاً لآلافِ الزائرينَ والوافدين من أطرافِ البلادِ حتى عام 1960م.
                        منهم مَنْ يأتي للدراسةِ في مَداَرِسِناَ (التي كانت كُلِّيَةً من كلّياتِ الجامعة الزهراءِ) ليتعلّمَ فيها اللغةَ العربيّة ويتلقّى العلومَ الإسلاميّة من عقيدةٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ... ومنهم مَنْ يأتي فاراًّ من عدوّهِ يستغيث ويطلب الحمايةَ، ومنهم مَنْ يأتي للتظلُّمِ يطلب القضاءَ بينه وبين خصمِهِ وهو يرفض اللّجوءَ إلى المحاكِمِ، لتبرّيهِ عن القوانين الوضعيةِ، ومنهم مَنْ يأتي ليتبرّكَ بأعتابِنا يطلبُ التمائِمَ والدعاءَ والشفاءَ والشفاعةَ يوم القيامةِ وربما المغفرةَ لميّتِهِ! فكانتْ الوفودُ من أصحابِ هذه العقليّة يزورونَ قُبَّةَ جدّيِ الشيخ محمّد الحزين وهي قبّةٌ عظيمةٌ فوقَ هضبةٍ بقريةٍ اسمها (فُرْساَفُ)، على مقربةٍ من مدينةِ (أَسْعِرْدَ) من جهة الشمال، سكاّنُها عربٌ. وللأسف الشديد لا تزالُ هذه القبةُ مزاراً للناسِ حتّى الآنَ، بالاضافةِ إلى قُبَبٍ أُخرىَ بمدينة أَسْعِرْدَ فيها أضرحةٌ لأَعْماَمِي، منهم الشيح محمّد موسى الكاظم الذي رثاه الشيخ زكي أوران وهو شخص من مريديه بهذه الكلمات الخطيرة:


                        زُرْ ذاَ المقامَ فَفِيهِ شَـيْخٌ كاَمِلٌ مَنْ فِي الْـكُرُوبِ لَناَ عَلَيْهِ مُعَوَّلُ



                        نَجْلُ الْحَزِينِ الشَّيْخُ محمّد كاَظِمٌ مِنْ فَضْلِهِ فِي الناَّسِ لَيْسَ يُجْهَلُ



                        وَتَأَدَّبَنْ بِحُضُـورِهِ وَتَوَسَّـلَنْ بِهِ فاَلتَّوَسُّـلُ عِنْـدَ رَبِّهِ يُقْبَـلُ



                        ياَ رَبَّناَ غَمِّـدْهُ مِنْكَ بِرَحْمَةٍ وَاجْـعَلْ لَهُ الْجَناَّتِ فِيـهاَ يَرْفَلُ


                        نشأتُ في منطقةٍ مليئةٍ بأمورٍ متناقضةٍ وشؤونٍ غريبةٍ ولغاتٍ مختلفةٍ وطباقاتٍ متباينةٍ وسلالاتٍ عريقةٍ؛ فيها العلمُ والمعرفةُ والتدريسُ ومجالس الذكرِ والسماعِ، وفيها والبِدَعُ والخرافاتُ والأباطيلُ والتوحيدُ والشركُ والإسلامُ والجاهليّة في آنٍ واحِدٍ، تشتبكُ في حينٍ وتتشابكُ في حينٍ آخرَ، مع ذلك قلّ مَنْ يستغربُ هذا الخلطَ والعبثَ، ولا يفكّر في إيقافِ هذا السيلِ الجارِفِ الذي يحملُ الغثَّ والسمينَ، غيرَ أنَّ البيئةَ التي قضيتُ فيها أيّامَ طفولتي وشبابي كانت ساحةً نيِّرَةً في وسطِ هذا الظلامِ، تحتضنُ جموعاً من الطّلبةِ والعلماءِ يتزعّمها كبارُ أسرتي وعلى رأسها المغفور له والدي الشيخ صلاح بن عبد الله بن محمّد الحزين الهاشمي.
                        ولا يفوتني أن أقرَّ هنا بشهادة الحق لهذا الرجل العالم الفقيه الصالح التقيِّ إنّه كان مُوَحِّداً في إيمانِهِ لا يشوبُهُ قطميرٌ من الاشراكِ. ولهذا ظلَّ مُستَهدَفاً لضغينة شيوخ الطائفةِ حتى أتاه اليقين.

                        حفظتُ الكتابَ العزيزَ عليه، ودرستُ اللُّغَةَ العربيّة والآدابَ والعلومَ الإسلاميّة على نُخبةٍ من العلماءِ جُلُّهم من العربِ، بجانبِ مادرستُ من العلوم الحديثةِ في المدارس الرسميةِ، فحظيتُ نصيباً وافِراً من المعرفةِ والثقافةِ حتّى أصبحتُ محسوداً بينَ أصحابي وأمثالي من الخرِّيجِينَ مماَّ كانوا يعانونَ العجزَ في استخدامِ اللغة العربيّة نطقاً وكتابةً.
                        وهذا العيبُ لا يزالُ شائعاً حتىّ الآنَ في جميع مَنْ تَصِفُهُمُ الناسُ بسمة العلمِ عرباً وكرداً وتركاً في بلادِناَ.

                        ولماّ كانتْ من العادةِ الشائعةِ بين العائلات المشهورةِ في الزعامةِ لجماعات الصوفيةِ:
                        أنَّ كلاًّ منها تقومُ بإعدادِ شخصيّة من أبنائِهاَ ليتولّى رئاسةَ الأسرةِ والجماعةِ الملتفّةِ حولَها حفظاً على مركزِها ومكانتِها ومصالِحِهاَ، رشَّحَتْنِي الأسرةُ (إذ أتمرّغُ في أوحال الشرك الصوفيِّ)، رشَّحَتْنِي للقيامِ بهذه المهمّةِ بشرطِ أن أُقِيمَ في اسطنبول، فأتولَّى توجيهَ المنتسبينَ إلى العائلة الحزينيّةِ في تلكَ المدينة وجوارِهاَ سعياً لتأكيدِ ثقتِهم بأُسْرَتِنَا وتوطيدِ صلتهم بها، ضدّ محاولة بعض الشيوخ الّذين يعملون على استمالةِ الناسِ من مريدي غيرِهم.
                        إذ هناك منافسةٌ وصراعٌ عنيفٌ بين شيوخ الطرائق الصوفيةِ قديماً وحديثاً، ذلك طلباً للجاهِ والشهرةِ والمصالحِ بتوسيع النطاقِ والإكثارِ من المؤيّدين والأنصارِ.

                        سافرتُ إلى اسطنبول يومَ الثالث عشر من شهر أبريل/نيسان عام 1968م.
                        بعد أن حضرَ جمعٌ غفيرٌ من المريدينَ محطّةَ القطارِ بمدينةِ تطوان الواقعةِ بشرقي تركيا لتوديعي.وما أنْ أقلع القطارُ، حَتَّى زارني كبيرُ الموظفينَ بِهِ فَمَثُلَ بين يَدَيَّ باحترامٍ قائلاً:
                        يا مولانا! قد أعددتُ لسماحتكم حُجْرَةً خاصَّةً تقضونَ فيها مدّةَ السَفَرِ إلى اسطنبول... فانتقلتُ مع زوجَتي إلى الحجرة المخصّصةِ لنا؛ وهكذا، إلى أنْ اسْتَقْبَلَتْناَ جماعةٌ كثيفةٌ من المريدينَ في محطّةِ الوصولِ بإسطنبول، ثم أصبحتْ داري في هذه المدينةِ منذ بدأِ إقامتنا مَقْصِداً للزّائرينَ، وكنتُ يومئذٍ بالغاً من العُمُرِ ثلاثةً وعشرينَ عاماً.
                        ورغم هذه المكانة الوراثيّةِ في مثل هذا السنّ المبكّرِ كانتْ تنتابُنِي تساؤلاتٌ وهواجسُ أحاسِبُ بها نفسي: - ما لنا وهذه الأُبَّهَة والحَشَم والتمايُز! وما أرى ذلكَ إلاّ لأنّ النّاسَ يعتقدونَ فِينَا (نحن زمرةِ شيوخِ الطّرائقِ الصوفيةِ) من الكرامة والبركةِ ما لا يعتقدونَ في غيرِناَ. نعم كان الأمرُ كذلك، فكُناَّ في اعتقادِهم:
                        زمرةً من المصطفين الأخيار، والمجتبينَ الأبرار، لا يشقى جليسُناَ ولا يُرَدُّ لنا دُعاءٌ...
                        ولم ينته الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل كُناَّ أيضاً في اعتقادِهم:
                        مُفَوَّضينَ من طرف اللهِ، نتصرّفُ في مُلكِهِ كيفَ نشاءُ، ونعلمُ الغيبَ، وتنطوي لنا الأرضُ، نقطع المسافات البعيدةَ في لَحَظاَتٍ، ويتوقّف لنا الزمانُ فنُصلّي في الكعبة المشرفةِ وفي مسجد الحيِّ في آنٍ واحدٍ... إلى غيرِ ذلكَ من خزعبلاتٍ لا صحةَ لها ديناً وعقلاً.

                        كنتُ يومئذٍ مجرّدَ »شيخِ المهدِ« في مصطَلَحِ صوفيةِ التُّركِ.
                        ومعنى »شيخِ المهدِ«: أنّ كلّ مولودٍ لشيخ الطريقةِ شيخٌ أيضاً من يومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ! ثمّ إذا نشأَ وَدَرَسَ وسَلَكَ فَنَجَحَ بعد سُلوكِهِ (وهو شكلٌ من التربية الرياضيةِ عند الصوفية النقشبنديّة خاصّةً)، يُجيزُهُ مُرْشِدُهُ بإِجازةٍ (بمعنى شهادة التخرُّج)، يأذنُ له بها القيامَ ببثِّ تعاليمِ الطريقةِ وقبولِ الناسِ للانخراطِ في سلكِها. فيكونُ بذلكَ (خَليِفَةً)، يُحرِزُ مَنْصِبَ شيخ الطريقةِ بالمعنى الحقيقيِّ، فيتصرَّفُ إذن في قبول المريدينَ وردِّهم وتوجيههم وطردهم »أوتدريجهم إلى حضرات القدسِ«!على حدّ قولِهِمْ الذي يُسِرّونه غاية الإسرار.
                        (وهو مقام الحلول والاتّحاد).كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا.

                        أيقنتُ يومئذٍ أنّي بحاجةٍ إلى مثلِ هذه الإجازةِ لأُبَرِّرَ بها مكاني بينَ أمثالي من الشيوخِ عند ما يقتضي ذلكَ فأُصْبِحَ مُعتَرَفاً بِهِ في عالَمِ الصوفيّةِ، لأنّ الظروفَ والأحداثَ قد تستوجِبُ ذلكَ في عُرفِهم!

                        تقدّمْتُ بطلبِ الاستجازةِ إلى أحدِ أساطينِ هذه الطائِفَةِ بعد أن تأمّلتُ مدّةً لأَختارَ الأمثلَ منهم، فاستقرَّ رأيي على الشيخ سليمان بن عبد الله الخالدي المخزومي (1868-1976) وذلك لأسبابٍ:
                        منها إنّه عربيٌّ، ومنها إنّه عالمٌ أديبٌ شاعرٌ مشارك في اختصاصاتٍ مختلفةٍ، له تآليف في الفقه والتصوّفِ ، ومنها إنّه أكبرُ سِناًّ من جميع شيوخ النقشبنديّة، إذ كانَ عمره يومئذٍ يُربي على المائةِ، ومنها إنّه ممّن درسَ عليهِ والدي، ومنها إنّه كانَ خليفةَ عَمٍّ لأبي في الطريقةِ.فطلبتُ منه أن يجيزني لأقومَ ببثِّ الطريقة النقشبنديّة نيابةً عنهُ في إسطنبول.
                        إلاَّ أنّ هذا الأسلوبَ كانَ مخالفاً لعرف النقشبنديّة؛ لأنيِّ قمتُ بهذا الطلبِ من مسافةٍ بعيدةٍ، (من مدينة إسطنبول)، وهو يقيمُ يومئذٍ في مدينة أَسْعِرْد Siirt،وأماَّ خطابُ المريدِ إلى شيخِهِ عن طريق المراسلة الكتابيةِ يُعَدُّ من الإساءةِ بأدب الطائفةِ إلاّ إذا تعذّرَ أو شقّ ذلك عليه، خاصّةً وأنّ مفهومَ الاحترامِ عند النقشبنديّينَ يختلفُ كلّ الاختلافِ عماَّ يفهمه الناسُ ويعتادونه.
                        إنّ المريدَ أو الطالِبَ لهذه الصفةِ يجب عليه أن يكونَ مُستعداًّ للفداءِ بكلّ شيءٍ يملكه، وأن لا يمتنعَ عن القيامِ بأيِّ أمرٍ يُرضيِ به شَيْخَهُ ولو كان مُحَرَّماً! فلا بدّ أن يمتثل له عن طيبةِ خاطرٍ.
                        ومن جملة ما يجب على المريدِ أو على طالِبِ هذه الصفةِ أنْ يتقدّمَ بنفسِهِ إلى شيخِهِ وليس بإرسال كتابٍ.بيد إنّه أغضى عن ذلك فضلاً، بل زاد تواضُعاً فأجازني في أمدٍ قصيرٍ، قلّما رُزقَ طالِبٌ مثله.

                        وما أنْ أصبحتُ »خليفةً على سجّادةِ الارشار« فَوْرَ وفاتِهِ، حَتَّى شَمَّرتُ عن ساعد الجدِّ فبدأتُ بإقامة حلقات الذكر؛ ولم يكن ذلك إلاّ تحمُّساً منّي لاثارة الشوق في قلوب المنتسبين إلى أسرتنا وتوطيدِ ثقتِهم وتَمَسُّكِهمْ بها ردعاً لمحاولة ما يُسَمَّى بـ »صيد المريدين«.
                        ذلك أنَّ شيوخَ الطرق الصوفيةِ طالما يطمعونَ في توسيع نطاقِ نفوذِهم، فيتوغّلُ بعضهم أحياناً في منطقةِ شيخٍ آخر، يدعو مريديه للانتسابِ إليهِ، وقد تتمخضُ عن ذلكَ تتطوّراتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ.

                        دامتْ حلقاتُنا وجَلَساتُنا هكذا بين أعوام 1969-1974م.، لانُهمِلُ مبدءاً من مباديءِ هذه الطريقةِ وفقاً لأركانِها الأحدَ عشَرَ، نجتمع في عشيةِ أياَّم الخميسِ بعد صلاة المغرب، فنُقيمُ حلقةَ »خَتْمِ خُوَاجَگَانْ«بعد صلاةِ العشاءِ مع الاصرارِ على رابطةِ المرشِدِ، وهي شكلٌ من أشكالِ التعبُّدِ في الدين النقشبنديِّ!

                        تَأْخُذُنِي الْحَيْرَةُ الآنَ، أنَّ هذه الأمورَ في الحقيقةِ لم تكن من الْمُتَعاَرَفِ داخلَ الأسرة التي نشأتُ فيها؛ فإنَّ والدي وأعمامي المأذونين في هذه الطريقة، على رغم ما كان معروفاً من أنّهم شيوخ الطريقة النقشبنديّة (ولا أشكَّ في الوقتِ ذاتِهِ أنهم كانوا قبورييّنَ ماعدا والدي!)، ما كانَ أحدٌ منهم يقيمُ هذه الطقوسَ ولا كانت هي معروفةً بين أتباعنا.
                        فيبدو لي أنَّ كبارَ أسرتِنا كانوا قد انتبهوا إلى مخاطرها، لأنِّي أذكر بعضَ كلامهم الذي يوهِمُ شُكوُكَهُمْ في الآونة الأخيرةِ حولَ هذه الطريقةِ »أنّها تياَّرٌ غريبٌ على الإسلام، ابتلى به المسلمونَ من غيرِ رويَّةٍ...«.
                        ذلكَ، لأنَّهم كانوا من أهل المعرفةِ والتدريسِ والتخصُّصِ في شتَّى العلوم الإسلاميّة من عقيدةٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وغير ذلك من شُعَب الفنونِ.
                        فكانوا متمكّنينَ من أصولِها وفروعِها ومنقولها ومعقولها ودقائقِ تفاصيلها، بالإضافة إلى أنّهم كانوا يمتازونَ بالذوق العربيِّ الخالصِ، فأبتْ نفوسُهُم وضمائِرُهُم أنْ يرضخوا لِتَعاليمِ هذا التّيّارِ الصوفيِّ الدخيلِ الذي يتعارَضُ مع الإسلامِ بتمامِهِ، إلاَّ أنّهم ربما كانوا يحسبونَ حسابهم لأسبابٍ وظُروفٍ(ولا أقولُ:يخافون على أنفسهم أو ينافقون)، فيكتفونَ بالسكوتِ أحياناً وباتخاذِ أساليبَ لَبِقَةٍ وتوجيهاتٍ حاذقةٍ أحياناً، بخلافِ بقيّة الشيوخِ ذوي الأصول العربيّة في المنطقةِ الذين انصهروا في بوتقة الكرد والتركِ، ولا يكاد أحد منهم ينطق ويكتب بالعربيّة اليومَ، وعلى رأسِها الأسرة الأرواسيّة، وهي من امتداد السلالة الحسينية، اسْتَغَلّتْهاَ جماعةٌ طورانيةٌ من النقشبنديّينَ، فَجَعَلَتْ منها صَنَماً يعبدها اليومَ ملايينُ من الناسِ في تركيا.
                        أما هذه الجماعةُ فهي مُنّظَّمَةٌ خطيرةٌ أسَّسَها رجلٌ عسكرِيٌّ (وهو العقيد حسين حلمي إيشك، مات قبل عامين، يَنوبُ عنه الآنَ الدكتور أنور أورين Dr. Enver Oren).
                        ومن خُلَفاءِ هذه الأسرةِ عائِلةُ الملاَّ عبد الحكيم البلوانسي.
                        هذه الأسرة أيضاً حُسَيْنِيَّةٌ (عربية الأصلِ، كُردية النشأةِ)، استغلَّها نفسُ الرجل وَبِطَانَتُهُ، فجعلوا منها صنماً ثانياً.
                        لهذه الأسرةِ قاعدةٌ بقرب مدينة (آدِياَماَنْ). يقوم آلافٌ من المبشّرينَ للدعوةِ إليها في أنحاءِ تركيا، وهي أقوى مراكز النقشبنديّة وأشدّها تمسُّكاً بالتعاليم البوذيّة: (هوُشْ دَردَمْ، ونَظَرْ بَرْ قَدَمْ، وَسَفَرْ دَرْ وَطَنْ...والرّابطة والختم خُوَاجَگَانِيَّة... إلخ).

                        ولا شكَّ في أنَّ أميركا تهتمّ بهذه المراكز لتجنيدها ضمن (مشروعِ الشرق الأوسط).وهذا الذي أشرتُ إليهِ في إحدى كتبي قبل سنين، إذ لم يكن هذا المشروع يومئذٍ شيئاً مذكورا، ولكن بفراسة الرجل المؤمن المُوَحِّدِ والحمد للهِ، وأماَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

                        يتبع ..
                        من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                        تعليق


                        • #13
                          وإذا عُدنا إلى قصّتي:في الحقيقةِ أنّي كُنتُ صوفياًّ قبورِياًّ، كما يقول الأستاذ عبد المُنعم الجداوي في اعترافاته.
                          قضيتُ أياَّمَ طفولتي وفترةً من أياّمِ شبابي في ظلمةٍ حالكةٍ من الإشراك باللهِ وأنا أشدُّ الناسِ قياماً بما فرض الله على عباده من الصلاةِ والصومِ والحجِّ والزكاةِ والتبتُّلِ والإكثارِ من النوافلِ، بإزاءِ ما كنتُ ألتزمُ بهِ من الرّابطة والختم خُوَاجَگَانِيَّة وزيارة الأضرحةِ وتعظيم القبورِ والاستمدادِ من أرواح »الأولياءِ«، وغيرِ ذلكَ من مَوْبِقاتِ الإيمانِ وقد قال تعالى:»إنّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار«.
                          إلاَّ أنّ هذه الحالةَ من صفة المشهورين من شيوخ النقشبنديّة، يَجْمَعُونَ بينَ تعاليم الإسلامِ وتعاليمِ بوذا في عبادةِ اللهِ على مرِّ حياتهم والعياذ بالله!

                          وبينا أنا على هذه الصفةِ من العبثِ والخلطِ دونما انتباهٍ إلى ما في ذلكَ من اضطرابٍ وتناقُضٍ وتضارُبٍ وتعارُضٍ، فضلاً عماَّ أَبْذُلُ من الجهد للهيمنة على نفوس المريدين لأستدرجَهم إلى أعماقِ هذا العالَمِ المظلم، زارَني ذاتَ عشيَّةٍ شخصٌ من البارزينَ من أتباعي، اسمه موسى أباريِ، فلم تكن الساعةُ من الأوقات التي أستقبِلُ فيها الزائرينَ والضُّيوفَ.
                          قلتُ في نفسيِ لعلّه جائني بأمرٍ عاجلٍ يستفتيني فيهِ؛ فلماَّ استقرَّ جالِساً بعدَ أنْ أذِنْتُ لهُ بالجلوسِ، أخبَرَنِي: إنّه فوجِئَ بتهمةٍ يقصُدُ بها المتَّهِمُ، أنِّي وأتباعي نرتكبُ الشركَ باللهِ كلّما نَعْمِدُ إلى الرّابطة!

                          فلمَّا سمعتُ هذه الكلماتِ، نَبَضَتْ خَلَجاتُ الغضبِ في ضميري، إلاَّ أنّي أحجمتُ عماَّ بدأَ يجيشُ بينَ جوانحي من الثورةِ على هذا الاتّهام الجريءِ.-تُرىَ من يكون هذا الذي يرمينا بالشركِ ونحن عباد الله الصالحون، يتضرّعُ الناسُ إليه تعالى بجاهِناَ، وَيُقْسِموُنَ بِهاَماَتِناَ قبلَ أن يحلفوا بالله، ولا يتقرّبُ إلينا أحدٌ إلاَّ غايتُهُ التقرُّبُ إلى الله؟!... هكذا تصوّرتُ لَحَظاتٍ وأنا في صمتٍ وجمودٍ.

                          فلم يلبثْ حتَّى نابَتْني أَناَةٌ وأدركني انتباهٌ كأنِّي أستفيقُ من غشيةٍ أو أستيقظُ من سُباتٍ عميق.
                          فَالْتَفَتُّ إلى مريدي، فَلاَطَفْتُهُ ونصحْتُهُ بالصبر وضبط النفس حتّى أتدبّرَ المسألةَ فأُخْبِرَهُ بما يجب القيامُ به إنْ كانَ يقتضي ذلك... وإلاَّ فالتجاهُل لمثلِ هذه الهفوات أفضلُ، دفعاً للفتنة وحفظًا للمروءَةِ... ثمّ صَرَفْتُهُ بِرِفْقٍ، وبدأتُ بالبحثِ عن حقيقة الرّابطة بعد تلكَ اللّحظةِ، وهذا الحدثُ يُعْتَبَرُ نقطةَ تَحَوُّلٍ جذريٍّ في حياتي.

                          هذا، فإنّماَ كانت هدايتي بمحضِ فضلِ الله تبارك وتعالى، ولم تكنْ بدعوةٍ من أحدٍ ولا بإشارةِ مرشدٍ، وَ»الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله...«.لذا، تمتاز هذه الهدايةُ عن هداية الأتْباعِ والذيولِ والأذنابِ بطريق التقليد المحضِ.
                          فإنّهم قد يتخلّصونَ من أصنامٍ عديدةٍ، ولكنّهم بعد ذلك يتشبثونَ بشبه صنمٍ واحدٍ، إذ يرونه المصدرَ الحقيقيَّ الوحيدَ لهدايتهم، فيخلعونَ عليهِ نعوتاً لا يتّصفُ بها غيرُهُ من المكانة والعظمةِ والعلمِ والذكاءِ والدهاءِ!كلّ ذلكَ تملُّقاً ورياءاً واستغلالاً للضمائِرِ، أو جهلاً وتقليداً... والرسولُ r يقول: مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هاَدِيَ لَهُ.

                          ولماَّ أيقظني ربِّي من نوم الغفلةِ بهذه المفاجأة الغريبةِ، بَدَأَتْ الشكوكُ تَدُبُّ في روعي، وتجعلني أتَساَءَلُ في نفسي عماَّ إذا كانتْ هذه الرّابطة التي نتعبَّدُ بها من صُنعِ الشيطانِ، ولكنَّنِي أتّهمها أحياناً بسوءِ الظَّنِّ في مَشاَئِخِناَ، فأقول: »وهم أولياءُ اللهِ وخاصَّتُهُ من عباده الّذين رفضوا زينةَ الحياةِ الدنيا طمعاً فيما عند اللهِ من نعيمٍ وجنانٍ سوفَ يخلدّونَ فيها«.
                          حسبَ اعتقادي يومئذٍ.
                          ولم يكن الأمرُ كذلكَ في الحقيقةِ من وجهينِ.
                          أولاً: أنّ أولياءَ الصوفيةِ لم يعبدوا اللهَ طمعاً فيما عنده من نعيمٍ وجنانٍ، بل بغرض الاتّحادِ معه والحلولِ فيه، تعالى رَبُّنا عماَّ يقوله الفاسقون.
                          ثانياً: أنّ هؤلاءِ لم يكونوا أصلاً من أولياءِ اللهِ بل كانوا أولياء الشيطانِ بلا ريبٍ... وهذا يدلُّ على أنَّ الضلالة متى تأصّلتْ في الإنسانِ وأصبحتْ مرضاً مُزْمِناً في أعماق وجدانِهِ، جَعَلَتْهُ غبياًّ لا يكاد يميّزُ الحقَّ من الباطلِ بحيثُ لا ينفعه عِلْمُهُ.
                          وللأسف كنا على هذه الحالة التي يُرثى عليها... وعلى ما كان مِنْ خالصِ اعتقادي بهم، كنتُ أقول: وكيفَ بهؤلاءِ الأفاضل أن يقعوا في حبال الشيطانِ وهم أشدُّ الناسِ يقظةً لا تعتريهم غفلةٌ حتّى في نومهم.
                          هكذا كناَّ نعتقد فيهم، (وخاصّةً منهم محمّد بهاء الدين البخاري المعروف بين النقشبنديّينَ بِشاَهِ نقشبند، وأحمد القاروقي السرهندي الذي تُعَظِّمُهُ الطائفةُ بصفة الإمام الرّباَّني، وخالد البغدادي المشهور بصفة ذي الجناحين بين ملايينِ الناسِ، وكذلك جدّي الشيخ محمّد الحزين وأمثالهم)الذين يزور آلاف الناسِ أضرحتَهم، و يستمدّونها الشفاعةَ والمغفرةَ والشفاءَ؛ فكيف بهم أن يكونَ الشيطانُ قد غرّهم؟!
                          ولقد كنتُ غافلاً يومئذٍ تمامَ الغفلةِ عماَّ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
                          فلمَّا ننظر إلى ما ورد عن هؤلاءِ من أقوالٍ في أشعارهم ومكاتيبهم وتوجيهاتهم، نجد كثيراً مماَّ ألقى الشيطانُ في أمنيتهم فتأصّلتْ وتحكّمت فيهم، وهي شاهدةٌ عليهم إلى يوم القيامةِ!

                          شغلتنيْ الرّابطة منذ اللّحظة التي أخبرني فيها الشيخ موسى أباري بأنَّ شخصاً يُلصِقُ بِناَ تُهمَةَ الشِّركِ بِسَبَبِهاَ؛ فأصبحتْ عُقْدَةً تُحْرِجُنيِ وتجرحُ وجداني وتُجبِرُني على التحقُّقِ مِنْهاَ حتَّى أطمئنَّ عما إذا هي حقٌ أم باطلٌ.
                          وما أنْ صرفتُ الشيخ موسى بعد أن شكرتُهُ على إخلاصِهِ لنا وصلتِهِ القويَّةِ بطريقتِنا، تناولتُ كِتابَ (تنويرِ القلوبِ) لمؤلِفِهِ محمّد أمين الكرديّ الأربلي (ت. 1332هـ.)، فتصفّحتُ القسمَ الثالثَ منهُ وهو يشتمل على مسائل التصوّف.
                          حتّى إذا عثرتُ على موضوعٍ عنوانُهُ:»ومبنى هذه الطريقةِ العليّة على العمل بإحدى عشرة كلمة فارسية (ص/506)«.
                          فأخذتني الدّهشةُ في الوهلة الأولى أنَّ رجلاً مِن »علماء الإسلام«! ينصح الناسَ بأنْ يذكروا الله على طريقةٍ مبناها مصطلحاتٌ فارسيةٌ؟ هذا، ويجب التّركيز هنا على أنِّي لا أقول بنفي ذكر الله بِلغاتٍ مختلفةٍ.
                          بل يجوز (بقدر ما يجوز!) أن يذكر العبدُ رَبَّهُ بلغتِهِ، ولكن ما بالُ مَنْ ألَّفَ كتاباً ضخماً باللّغة العربيّة في العقيدة الإسلاميّة والفقهِ، فضلاً عماَّ يُنْسَبُ إليهِ من العلم والبركة والكرامة وبأنّه »شيخ شيوخ العصر، وقدوة جهابذة كلّ مصر، ونورٌ أضاءَ من عين المنّة الإلهيّة على هذا القطر، وغيثٌ رباَّنِيٌّ عامٌّ أينع به نبات كلّ قفر...«إلى غير ذلكَ من مبالغات وإفراطٍ وإسراف...ما باله يقدِّمُ للمسلينَ طريقةً شاذّةً من الذّكرِ غريبةً على الإسلامِ، مصطلحاتها فارسيّةٌ، ومستوحاها دياناتٌ هنديّةٌ، وتوجيهاتها كفريّةٌ؟!

                          إنّ هذا التساؤُلَ قادني حتى ألقيتُ النظرَ على سطورٍ وردتْ فيها نبذةٌ مِنَ الرّابطة وطريقةِ إجرائِهاَ في الصفحة الحادية عشرة والثانية عشرة بعد الخمسِمائَةِ من هذا الكتاب؛ يشرحُها المؤلِّفُ ويُعّدِّدُ شروطَها وهو يُرشِدُ المريدَ إلى ذكر الله فيقول: »التاسع، رابطةُ المرشِدِ. وهي مقابلةُ قلب المريدِ بقلبِ شيخِهِ، وحفظُ صورتِهِ في الخيالِ ولو في غيبتِهِ، وملاحظةُ أنَّ قلبَ الشيخِ كالميزابِ ينـزل الفيضُ من بحرِهِ المُحيطِ إلى قلب المريدِ المرابِطِ، واسْتِمدادُ الْبَرَكَةِ منه لأنّه الواسِطَةُ إلى التوصُّلِ...«

                          يتبع ...

                          من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                          تعليق


                          • #14
                            زادتْني هذه السطورُ دهشةً عندما قرأتُ بعدها مباشرةً من كلماتِ المؤلِّفِ إنّه يقول فيها: »ولا يخفى ما في ذلكَ من الآياتِ والأحاديثِ«، فيستدلّ بقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ وقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {

                            إنّ مثل هذا الاستدلالِ الفاسد، زادني أضعافاً مما ينتابني من الدهشةِ كما زاد من عدد الأسباب التي دفعني كلّ منها بحافزٍ خاصٍّ إلى مجال البحثِ حول الرّابطة النقشبنديّة. ومن الغرابةِ بمكان، إنّي كنتُ شيخاً مُجازاً على سجادةِ النقشبنديّة وأنا غافلٌ يومئذٍ عن حقيقةِ هذه الطريقةِ ومبناها ومستوحاها ونسيجها المتضافرِ من الإسلامِ والبوذيةِ!

                            فلمَّا نبّهني ربِّي بباعِثِ هذه التُّهمةِ وَكَتَبَ لنفسي الهدايةَ في أمدٍ غيرِ مديد، بدأتُ أتحرّىَ طريق الخلاصِ أوّلاً من آلاَفِ الْمُلْتَفِّينَ حوليِ والمفتتنين بهذه الطريقةِ، دونَ أن يشعروا بما حدثَ لي من التغيُّرِ في آرائي وضميريِ؛ ليس ذلكَ خوفاً من أيِّ عداءٍ تتعرَّضُ لهُ حياتي وماليِ، كلاَّ!...ولكن أيقنتُ أنّي لن أنجحَ في دعوتي لهم إلى الحقِ بمجرّدِ تخطيئي للطريقةِ النقشبنديّة واستدلاَليِ بالكتابِ والسنةِ، خاصَّةً في تلك المرحلة التي لم أعلم أحداً يُوَحِّدُ الله في هذا البلد!إذاً، فكانَ لا بدَّ أولاً من تمهيد السبيلِ لهذه الدعوةِ ولم يكن ذلكً من السهلِ طبعاً، لأنّ مثل هذا النهوضِ يحتاج إلى تفكيرٍ وتنظيمٍ ومالٍ ورجالٍ ووقت...

                            فأيقنتُ أنّ الاستعدادَ لهذه المهمّة الخطيرةِ لا يمكن إلاّ خارج البلاد.فسافرتُ إلى ليبيا بذريعة البحوث العلميّة، فانخرطتُ في سلك الموظفين بإحدى الشركاتِ التركيّة للمقاولةِ.
                            فكانَ هذا البلدُ أرضاً صالحةً، إذ أنَّ سُكاّنَهاَ لم يكونوا من أهل البدعِ والخرافاتِ، كما لم يكن للطرق الصوفيةِ أثرٌ يُذْكَرُ على الأغلبيّة منهم. بل وجدتُ الليبييّنَ على وجه العمومِ مجتمعاً فاضِلاً خَلوقاً كريماً، ولقيتُ منهم حفاوةً أفسحتْ لي المجالَ في البحثِ حول الصوفية عامّةً والنقشبنديّة خاصّةً.
                            في الحقيقةِ مكتباتهم كانت خاليةً من المصادر التي أحتاج إليها، إذ كانت جلّ هذه المصادر في مكتباتِ إسطنبول، ولم يكن من السهل إدخالُ مثل هذه الكتبِ إلى ليبيا.
                            فلم أظن أنّي أتمكّنُ يومئذٍ من إقناعِ الموظفين في أمن بوّابات الدخول، بأنّي رجل باحثٌ، فأذكرَ لهم كلّ هذه القصّةِ الطويلةِ حتى أكسب ثقتهم.
                            ولا عَمَدْتُ إلى تجربةٍ في ذلكَ.تجنّباً أيَّ إزعاجٍ أو تشكيك.
                            لذا تكبّدتُ عناءً شديداً في نقلِ المعلومات الخاصّةِ بالصوفيةِ والطريقة النقشبنديّة إلى ليبيا.
                            فكنتُ كلّما عُدْتُ إلى بلدي، طفتُ المكتبات الشهيرةَ وعلى رأسها مكتبة السليمانيّة، وقمتُ بكتابةِ ملاحظاتِ ضخمة في كرّاساتٍ ولكن بإيجاز، مع ذكر أرقام الصحف للمصادر، وتاريخ الأحداثِ والتطورات الخاصةِ بالطرق الصوفيةِ ورجالاتها، وأحفظ البقيّة من تفاصيلها عن ظهر قلبٍ، إلى أنْ تراكمتْ هذه الكرّاسات عندي، فتكوّنتْ منها مكتبةٌ متكاملةٌ بناحيةٍ من حجرتي الواقعةِ في عمارةٍ بموقع الظهرةِ في طرابلس.ولم يكن أحدٌ من إخوتنا الليبييّنَ يعلم يومئذٍ أن رجلاً من الأتراكَ يقيم في بلدهم، يملك مكتبةً ضخمةً اسْتَنْسَخَ كلّ ما فيها بقلِمِهِ، وتُمَثِّلُ هذه المكتبةُ منهلاً غزيراً في مجال التصوُّفِ خاصّةً فيما يفضحهم!
                            وكم كانَ المثقّفونَ والعلماءُ والطَلَبَةُ والباحثونَ اللّيبيّونَ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى هذه المكتبةِ القيّمةِ.

                            هذا، وكم يُؤْلِمُنيِ يومَ استغنيتُ عن هذه المكتبةِ فجمعتُها في حاويةٍ فأنشبتُ فيها النارَ حتىَّ عادتْ رُكاماً من رمادٍ هامد.ذلكَ أنّ المجتمع الليبيَّ أيضاً جزءٌ من أمتِنا التي قد خسرت ثروة العلمَ، فلا يكاد المسلمونَ يُقَدِّرونه اليومَ حقَّ قدرِهِ إلى أن يشاءَ الله فيبعثَ لهم من يُقِظُهم عن هذه النومة الخطيرةِ.
                            فكانَ ذلك منّي أنْ لم أتوقّع من أحدٍ هناكَ يهتم بهذه المكتبةِ فأحرقتُها!

                            غيرَ إنّه لا بأسَ من ذلك، لأنّ هذا الكتابَ الذي عكفتُ على المصادرِ وطاردتُ الوثائِقَ لتأليفِهِ ما بينَ أعوام 1974-1997م.
                            هو في الحقيقة عُصارةُ هذه المكتبةِِ.
                            فبنيتُ أساسَه في ليبيا عام 1976م. فورَ إقامتي في هذا البلد الطيّبِ؛ ثمّ قمتُ بترتيبِ فصولِهِ وأبوابِهِ عام 1982م.
                            وكلّما دَعَتْ الحاجةُ إلى وثيقةٍ أوكتابٍ أو حوارٍ مع كبارِ هذه الطريقةِ، ما ألوتُ جهداً في شدّ الرحالِ إليه ؛ كلّ ذلك ليصدر الكتابُ جامعاً شاملاً لكُلِّ أطرافِ الموضوعِ.
                            وعلى الرغم من أنّيِ لم ألتمسْ مساعدةَ أحدٍ من إخوتي الليبييّنَ لإكمالِ هذا الكتابِ، ولكنّي أشكرهم جميعاً، ولا يفوتني أن أذكر ما ليقيتُ منهم من الحفاوةِ والكرمِ وحسن القرى ولين الجانب، وإنّيِ لأعترفُ بأنّ المدّةَ التي قضيتُها على أرضِ ليبيا الحبيبةِ -وهي في الحقيقةِ لم تكنْ مدّةً قصيرةً- كانتْ أحلى أياّمي، إذ كانت أياَّمَ شبابي، وكانت فترةً سعيدةً مُثْمِرَةً نِلتُ خلاَلَها رِزْقاً حلاَلاً واسعاً أغناني عن الحاجةِ إلى غيري حتّى أكملتُ هذا البحثَ القيّمَ فَتَرَكْتُهُ زخراً للباحثينَ وعبرةً لأُلي الألبابِ ومصباحاً لمن يريدُ أن يطّلِعَ في ضوئِهِ على خطورة الصوفيةِ والتصوّفِ وما تَعَرَّضَ له الإسلامُ والمسلمونَ على مرّ العصورِ من جرّاءِ هذا السرطانِ الماكرِ وما خلّفَهُ هذا الوحشُ الدسّاسُ المتلبّسُ في ثوب الزهدِ والتقوى من الخرابِ والدمار في صرح الإيمان والتوحيد.

                            هذا، وإنّيِ لأشكرُ كذلكَ الْمُتَّهِمَ الذي لم تأخذهُ لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالِمٍ إذ خاطَرَ بِنَفسِهِ فأعلنَّ للمرّة الأولى على الساحة التركيّة:أنَّ صلاةَ الرّابطة في الطريقة النقشبنديّة إشراكٌ باللهِ، وذلك عام 1974م.
                            ؛ ثمّ بلغني إنّه قد اتّهمني وأتباعي بهذا الذنب العظيم حتّى ألهمني ربّي على أثره الرشدَ فقمتُ بكتابة بحثٍ أخذ من عمري ثلاثةً وعشرينَ عاماً.
                            وللعلمِ لم يكن إبداءُ هذه الجرأةِ من السهلِ، إذ استفتاني قريبُ الْمُتَهِمِ بالذّات، »لَينتقمنَّ منه بشكلٍ يكونُ عبرةً لمن بعده!« فأبيتُ أن أُرَخّصَ له ذلك.
                            فإنّي أشكر هذا الرجلَ الصالحَ الجريءَ الذي أطلعه الله على خطرٍ هلك فيه آلافٌ بل ملايينُ من الناسِ،فأعلن عنه وهو لا يبالي بما قد يصيبُهُ من نقمةٍ ونكال.
                            ثمَّ علِمتُ إنّه رجلٌ خايّاطٌ اسمُهُ (شفيق أركويونجوŞefik Erkoyuncu ) بحيّ الفاتخ في إسطنبول، وهذا الشخص، لم يكن قد درس شيئاً مما نسميهِ علماً! وما أشدّ حزني وأسفي إذ سمعتُ بعدَ فترةٍ قصيرةٍ من عودتي إلى إسطنبول إنّه قد ذهب إلى الرفيق الأعلى، فلم ألقاه في هذه الحياة الدنيا بعد أن اتّهمني بالشركِ!فتغمّده الله تعالى برحمتهِ، وحشرهُ مع النبيّينَ والصّدّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقاً.
                            أللّهمّ اغفر لنا وله، وأكرِمْ مثواهُ، ولقِّهِ الأمنَ والرّاحَةَ والزُّلفى، والكرامةَ والبشرى، إنّكَ سميعٌ مجيب.
                            من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                            تعليق


                            • #15
                              محمد عيد العباسي

                              إن من علامات التوفيق لمريد الهُدى أن يوفق لعالم من علماء السنة، وأن يجافي أهل البدعة والمذمة، ولئن زلت به القدم فسرعان ما يعاود إلى الحق، فهو طالب حق، لا طالب شهرة ومال، حتى وإن طاله من ذاك الأذى، أو سفه وتزايد عليه البلاء، فما هو إلا تمحيص، وهذا الطريق الذي لا يسلكه إلا الرجال.
                              هكذا كانت بداية سليل آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، الشيخ محمد عيد بن جاد الله العباسي ـ أطال الله بقاءه على خير ـ من مواليد عام 1357 هـ بسورية من ديار الشام، بدأ حياته بحفظ القرآن، وتتلمذ على أيدي مشايخ بلدته من الأشاعرة والصوفية ، وتخرج من مدرسة حسن حبنكة الميداني ، وكان من شيوخه ملا رمضان البوطي الصوفي النقشبندي ، الذي اشتهر عنه أنه كان لا يرى أن تقرأ سورة المسد لأنها تؤذي النبي عليه الصلاة والسلام لأن فيها دعاءٌ وسبٌ لعمه!! وكذلك كان من شيوخه أحمد كفتارو النقشبندي مفتي سورية وهو غني عن التعريف.
                              هكذا نشأ هذا الطالب في العقائد الكلامية المخالفة لهدي السنة النبوية، والطرق الصوفية المجافية للطريقة المحمدية، والعداء لأهل السنة بدعاوى أنهم وهابية!!
                              لكن الله إذا شاء لأحدهم الهُدى وفقه لسبله، ويسر طرقه، وأعانه ووفقه لصاحب سنة، وهكذا وفق الله الشيخ العباسي من طريق صديقه الأستاذ خير الدين وانلي ـ رحمه الله ـ أن يعرفه على مُحدث الشام وحبرها محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ وعن هذه العلاقة يقول الشيخ العباسي: ((وفي عام 1374 عرفني صديقي الأستاذ خير الدين وانلي على العالم المحدث السلفي الجليل محمد ناصر الدين الألباني، فأخذت أحضر دروسه ومحاضراته، فأعجبت به وبعلمه وتحقيقه ومنهجه السلفي أيما إعجاب، وتعرفت من خلاله على شيوخ الدعوة السلفية وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والحافظ ابن كثير وغيرهم، ولزمت مجالسه وأخذت منه الدعوة السلفية بشمولها وكمالها، كما أخذت منه علم الحديث الشريف، وما كان يزيدني مرور الأيام إلا تعلقا بهذه الدعوة وإيمانا بها وإعجابا بالشيخ الألباني،بخلاف مناهج غيره الذين سبق تعرفي عليهم، ولازمت الشيخ حتى صرت من خواصه القليلين المقربين)).
                              ويقول عن دعوة شيخه الألباني رحمه الله: ((كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد، كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها، فقد كان هناك بعض المشايخ والدعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة، ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة؛ فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوف واستحياء، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث، فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم، وفيها بعض الغبش.
                              ولما كان أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً، وأعلن بكل قوة وجرأة، ولم يخش في الله لومة لائم، وتحمل في سبيل ذلك أنواعاً من الإيذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة، والسعي للوشاية به إلى الحكام، وكثيراً ما منع من الفتوى والتدريس، والاجتماعات، واستدعي للجهات الأمنية، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة، وأخرج من أكثر من بلد، ومع ذلك فقد ظل ثابتاً كالطود، لا يضعف، ولا تلين له قناة، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه تبارك وتعالى.
                              كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل، يجادل ويناظر، ويكتب ويدرس، دون خور أو ضعف، ودون كلل أو ملل.
                              وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر؛ وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل، ومحاربة البدع والمحدثات، ونشر الأحاديث الصحيحة، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقريب السنة إلى الأمة، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان، وصارت الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس، وموضع اهتمامهم ودراستهم)).

                              عندها انطلق طالباً، ثم داعياً، ثم واصل البحث فكان عالماً، ألف بعد هدايته عشرات الرسائل، منها [سلسلة الدعوة السلفية]، ونشر في سبيلها كتب السلفيين، وشارك في بعض المجلات العلمية، مُشرفاً وكاتباً وداعماً، حتى وهو يناهض السبعين ترى الروح الشبابية في الدعوة تتجلى في حركته، فبارك الله فيه وزاده الله فضلاً.
                              ومن مؤلفاته:
                              1- كتاب بدعة التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين وذلك عام 1390هـ الموافق 1970 بدمشق
                              2- ملحق كتاب بدعة التعصب المذهبي بتاريخ 1390هـ الموافق 1970 بدمشق
                              3- التقديم لرسالة " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " لأستاذي الألباني. نشر دمشق
                              4- رسالة " قضية الإنسان الكبرى: الخطر الرهيب" نشر دار ابن الجوزي في الدمام.
                              5- رسالة حكم دخول الجنب والحائض والنفساء المسجد. نشر دار المسلم في الرياض
                              6- بحث بعنوان " نصيحتي للجماعات والأحزاب الإسلامية " نشر المكتبة الإسلامية في عمان
                              7- كتاب حقيقة التوسل وأحكامه في ضوء الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة.
                              (مخطوط ) تعاقدت عليه مع مكتبة المعارف في الرياض
                              8- بحث عن كتاب " جامع البيان في تأويل القرآن " للطبري نشر ي الأعداد 2،3،4 من مجلة البصائر التي تصدر في هولندا.
                              9- بحث عن " الدعوة السلفية في بلاد الشام ينشر قريبا في الموسوعة الوسيطة في الديانات والمذاهب والحركات المعاصرة " بإشراف الدكتور ناصر العقل وستنشره دار اشبيلية في الرياض قريبا.
                              10- التقديم والتعليق على رسالة " مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية " للأديبة نازك الملائكة.
                              نشر دار الفضيلة في الرياض
                              11- التخريج والتعليق على كتاب " التفسير الواضح على منهج السلف الصالح " للشيخ محمد نسيب الرفاعي. وهو في طريق النشر بواسطة مكتبة المعارف بالرياض
                              12- التأليف والتنسيق لكتاب " التوسل أحكامه وأنواعه " لأستاذي الألباني
                              13- تخريج أحاديث " الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية.نشر مكتبة المعرفة بدمشق
                              14- التخريج والتعليق على كتاب " الفكر الصوفي " للأخ عبد الرحمن عبد الخالق
                              15- التعليق والتخريج لأحاديث كتاب " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " للإمام ابن القيم
                              16- السيرة النبوية الصحيحة وفقهها (تحقيق السيرة على طريقة المحدثين مع بيان الأحكام المأخوذة منها) "مخطوط"

                              هذا فيض عن الشيخ ودعوته، وقصة هدايته، فبارك الله بالشيخ وزاده علماً وفضلاً وعطاءً ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.
                              من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X