إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مناظرة إبراهيم الخليل للنمرود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مناظرة إبراهيم الخليل للنمرود


    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:

    قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

    يذكر تعالى مناظرةَ خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد، الذي ادَّعى لنفسه الربوبية؛ فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبيَّن كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة.

    قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار:
    وهذا الملك هو ملك بابل ، واسمه: النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد.

    قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا؛ فإنه قد ملَك الدنيا - فيما ذكروا - أربعةٌ: مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران: النمرود وبُخْتَنصَّر.

    وذكروا أن نمرود هذا استمرَّ في مُلكِه أربعمائة سنة، وكان قد طغَى وبغى، وتجبَّر وعتَا وآثر الحياة الدنيا.

    ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمَلَه الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع؛ فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادَّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾.

    قال قتادة، و السُّدِّيُّ، ومحمد بن إسحاق: يعني: أنه إذا أُتِيَ بالرجلين قد تحتَّم قتلُهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا، وأمات الآخر.
    ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفَى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بيَّن وجود الصانع، وبطلانَ ما ادَّعاه النمرود، وانقطاعه جهرة :قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ

    أي : هذه الشمس مسخَّرة، كل يوم تطلع من المشرق كما سخَّرها خالقُها ومسيِّرُها وقاهرُها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء،
    فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت، فَأْتِ بهذه الشمس من المغرب؛ فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يُمانَع ولا يُغالَب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كلُّ شيء، فإن كنتَ كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلستَ كما زعمتَ، وأنت تعلم - وكل أحد - أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجزُ وأقلُّ من أن تَخلُقَ بَعوضةً، أو تنتصر منها.

    فبيَّن ضلاله وجهله وكَذِبَه فيما ادَّعاه، وبطلانَ ما سلكه وتبجَّح به عند جَهَلة قومه، ولم يبقَ له كلام يجيب الخليلَ به، بل انقطع وسكت؛

    ولهذا قال: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.(بتصرف من البداية والنهاية1 /170- دار إحياء التراث).

    - يُتبع -

    لاحول ولاقوة إلا بالله

  • #2

    قال صاحب الظلال رحمه الله:
    ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ :
    إنه تعبير التشنيعِ والتفظيع، وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء.
    فالفعلةُ منكرة حقًّا: أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعيَ عبدٌ لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقِلَّ حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونَه من الله.

    ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ :
    والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله، وهما - في الوقت نفسه - السرُّ الذي يحيِّر، والذي يُلجِئُ الإدراكَ البشري إلجاءً إلى مصدر آخر غير بشري، وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق، ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء، لحلِّ هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء.

    إننا لا نعرف شيئًا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة، ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات، ونحن مُلزَمون أن نَكِلَ مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القُوَى التي نعرفها على الإطلاق، قوة الله.

    ومن ثَمَّ عرَّف إبراهيمُ - عليه السلام- ربَّه بالصفة التي لا يمكن أن يُشارِكَه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية، ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره، قال: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، فهو من ثَمَّ الذي يَحكُمُ ويُشرِّعُ.

    ﴿ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾:
    وهي حقيقة كونية مكرورة، كذلك تطالع الأنظار والمدارك كل يوم، ولا تتخلف مرة ولا تتأخر، وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئًا عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئًا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموِّه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيدِه من الموضع الذي هو فيه، ومن ثَمَّ كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل

    ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ :
    فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال والمراء، وكان التسليم أولى والإيمان أجدرَ، ولكن الكِبْر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيَبهَتُ ويُبلِس ويتحيَّر، ولا يهديه الله إلى الحق؛ لأنه لم يتلمَّسِ الهداية، ولم يرغب في الحق، ولم يلتزم القصد والعدل: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ .
    (في ظلال القرآن1 / 298-دار الشروق بالقاهرة) .
    - يُتبع -
    لاحول ولاقوة إلا بالله

    تعليق


    • #3

      قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فوائد هذه الآية الكريمة:

      1- من فوائد الآية: بلاغة القرآن الكريم في عرض الأمور العجيبة معرض التقرير والاستفهام؛ لأن "التقرير" يحمل المخاطَب على الإقرار، و"الاستفهام" يثير اهتمام الإنسان، فجمع بين الاستفهام والتقرير.

      2 - ومنها: بيان كيف تصل الحال بالإنسان إلى هذا المبلغ الذي بلغه هذا الطاغية، وهو إنكار الحق لمن هو مختص به، وادعاؤه المشاركة؛ لقوله: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258].

      3 - ومنها: أن المحاجَّة لإبطال الباطل ولإحقاق الحق من مقامات الرسل؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾.

      4 - ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة والمحاجَّة؛ لأنها سُلَّم، ووسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ومن طالع كتب شيخ الإسلام ونحوها تعلَّم المناظرة - ولو لم يدرسها فنًّا.

      5 - ومنها: أن النعم قد تكون سببًا للطغيان؛ لأن هذا الرجل ما طغى وأنكر الخالق إلا لأن الله آتاه الملك؛ ولهذا أحيانًا تكون الأمراض نعمة من الله على العبد، والفقر والمصائب تكون نعمة على العبد؛ لأن الإنسان إذا دام في نعمة، وفي رَغَدٍ، وفي عيش هنيءٍ، فإنه ربما يطغى، وينسى الله عز وجل.

      6 - ومنها: صحة إضافة الملكيَّة لغير الله؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ [البقرة: 258].

      7 - ومنها: أن ملك الإنسان ليس ملكًا ذاتيًّا من عند نفسه، ولكنه معطًى إيًّاه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26].

      8 - ومنها: فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال مفتخرًا ومعتزًّا أمام هذا الطاغية: ﴿ رَبِّيَ ﴾، فأضافه إلى نفسه، كأنه يفتخر بأن الله سبحانه وتعالى ربه.

      9 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾،
      وهذه المسألة أنكرها كثير من (علماء الكلام) ، وعللوا ذلك بعلل عليلة ، بل ميتة لا أصل لها
      لأنهم قالوا: إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، وإن الحوادث إن كانت كمالاً كان فقدُها نقصًا، وإن كانت نقصًا فكيف يتَّصف الله بها؟!
      إذًا هي ممتنعة؛ لأنها نقص على كل تقدير، وحينئذٍ يجب أن ننزِّه الله عنها، وأن تكون ممتنعة عليه!
      والجواب عن ذلك:
      أن قولكم: "الحوادث لا تقوم إلا بحادث" مجرد دعوى، ونحن نعلم أن الحوادث تحدث منَّا، ولكنها ليست سابقة بسبقنا، ولا يُعدُّ ذلك فينا نقصًا؛ فالحوادث تحدث بعد مَن أحدثها، ولا مانع من ذلك، فمن الممكن أن يكون المتصف بها قديمًا وهي حادثة.

      وأما قولكم : "إنها إن كانت كمالاً كان فقدُها نقصًا، وإن كانت نقصًا فكيف يوصف بها؟!"،
      فنقول: هي كمالٌ حالَ وجودها، فإذا اقتضت الحكمةُ وجودَها كان وجودُها هو الكمالَ، وإذا اقتضت الحكمة عدمَها كان عدمُها هو الكمالَ.
      - يُتبع -
      لاحول ولاقوة إلا بالله

      تعليق


      • #4

        10 - ومن فوائد الآية: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، إذًا فاعتَمِدْ على الله عز وجل، ولا تَخفْ، ولا تقدِّرْ أسبابًا وهميَّة، مثلاً: دُعيتَ إلى أي عمل صالح فقلت: أخشى إن عملت هذا العمل أن أموت، نقول: هذا إذا كان مجرد وَهْمٍ، فإن هذه الخشية لا ينبغي أن يَبني عليها حكمًا، بحيث تمنعُه من أمر فيه مصلحته، وخيره.

        11 - ومنها: أن الإنسان المجادل قد يُكابِرُ فيدعي ما يَعلَمُ يقينًا أنه لا يملكه؛ لقول الرجل الطاغية: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، ومعلوم أن هذا إنما قاله في مضايقة المحاجَّةِ، والإنسان في مضايقة المحاجة ربما يلتزم أشياء هو نفسه لو رجع إلى نفسه لعَلِمَ أنها غير صحيحة، لكن ضيق المناظرة أوجبَ له عليه أن يقول هذا إنكارًا أو إثباتًا.

        12 - ومنها: حكمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجَودتُه في المناظرة، سواء قلنا: إن هذا من باب الانتقال من حجة إلى أوضح منها، أم قلنا: إنه من باب تفريع حجة على حجة.

        13 - ومنها: الرد على علماء الهيئة الذين يقولون: إن إتيان الشمس ليس إتيانًا لها بذاتها، ولكن الأرض تدور حتى تأتي هي على الشمس،
        ووجه الرد أن إبراهيم قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِق ﴾ [البقرة: 258]،
        إذًا الله أتى بها من المشرق؛ وهم يقولون: إن الله لم يأتِ بها من المشرق، ولكن الأرض بدورتها اطلعت عليها،
        ونحن نقول:
        إن الله لم يَقُلْ: إن الله يدير الأرض حتى تُرى الشمس من المشرق، فأَدِرْها حتى تُرى من المغرب!
        ويجب علينا أن نأخذ في هذا الأمر بظاهر القرآن، وألا نلتفت لقول أحد مخالف لظاهر القرآن؛ لأننا مُتعبَّدون بما يدل عليه القرآن، هذا من جهة،
        ولأن الذي أنزل القرآن أعلم بما خلق؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِق ﴾ [البقرة: 258]،
        فإذا كان يقول في كلامه: إن الشمس: "تأتي"، و"تطلع"، و"تغرب"، و"تزول"، و"تتوارى"؛ كل هذه الأفعال يضيفها إلى الشمس،
        لماذا نحن نجعلها على العكس من ذلك، ونضيفها إلى الأرض؟!
        ويوم القيامة سيقول الله لنا: ﴿ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، لا يقول: ماذا أجبتم العالم الفلكي الفلاني؟!
        على أن علماء الفلك قديمًا وحديثًا مختلفون في هذا، لم يتفقوا على أن الأرض هي التي بدورانها يكون الليل والنهار، وما دام الأمر موضع خلاف بين الفلكيِّين أنفسهم؛ فإننا نقول - كما نقول لعلماء الشرع إذا اختلفوا -: ﴿ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]،
        بل نقول: لو جاء علماء الفلك بأجمعهم ما عدلنا عن ظاهر القرآن حتى يتبيَّن لنا أمر محسوس، وحينئذ نقول لربنا إذا لاقيناه: إنك قلت - وقولك الحق -: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقلت: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]،
        ونحن ما وَسِعَنا إلا أن نقول: إن قولك: ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ ﴾ [الكهف: 17]؛ أي: إذا طلعت رَأْيَ العين، لا في حقيقة الواقع؛
        لأننا علمنا بحسِّنا، وبصرنا بأن الذي يكون به تعاقب الليل والنهار هو دوران الأرض، أَمَا والحسُّ لم يدل على هذا، ولكنه مجرد أقيسة ونظريات، فإنني أرى أنه لا يجوز لأحد أن يَعدِلَ عن كلام ربه الذي خلَق، والذي أنزل القرآن تبيانًا لكل شيء لمجرد قول هؤلاء.

        14 - ومن فوائد الآية: أن الحق لا تُمكِنُ المجادلة فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾.

        15 - ومنها: إثبات أن من جحد الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ فبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾، وهذه هي النكتة في الإظهار مقام الإضمار؛ لأجل أن نقول: كل من جادل كما جادل هذا الرجل فهو كافر.

        16 - ومنها: الإشارة إلى أن محاجَّة هذا الرجل محاجة بباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ لأن الذين كفروا هم الذين يحاجون حجة باطلة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [الكهف: 5].

        17 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان حرٌّ: يهتدي بنفسه، ويضل بنفسه، وهذه الآية واضحة في أن الهداية بيد الله.

        18 - ومنها: التحذير من الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، ومن الظلم: أن يتبين لك الحق فتجادل لنصرة قولك؛ لأن العدل أن تَنْصاع للحقِّ، وألا تُكابِرَ عند وضوحه، ولهذا ضلَّ من ضلَّ من أهل الكلام؛ لأنه تبين لهم الحق، ولكن جادلوا، فبقُوا على ما هم عليه من ضلال.

        19 - ومنها: أن الله لا يمنع فضله عن أحد إلا إذا كان هذا الممنوع هو السبب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ فلظلمِهم لم يهدِهم الله؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5].

        20 - ومنها: أنه كلما كان الإنسان أظلم كان عن الهداية أبعد؛ لأن الله علق نفي الهداية بالظلم، وتعليق الحكم بالظلم يدل على عليَّته، وكلما قَوِيتِ العلة قَوِيَ الحكم المعلَّق عليه.

        21 - ومنها: أن من أخذ بالعدل كان حَرِيًّا بالهداية؛ لمفهوم المخالفة في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، فإذا كان الظالم لا يهديه الله، فصاحب العدل حَريٌّ بأن يَهدِيَه الله عز وجل؛ فإن الإنسان الذي يريد الحق ويتبع الحق - والحق هو العدل - غالبًا يُهدَى، ويوفَّق للهداية؛
        ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية عبارة من أحسن العبارات؛ قال: "من تدبر القرآن طالبًا الهدى منه، تبيَّن له طريق الحق"، وهذه كلمة مأخوذة من القرآن منطوقًا، ومفهومًا .
        (تفسير الفاتحة والبقرة3 / 281-286-دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية)
        المصدر
        لاحول ولاقوة إلا بالله

        تعليق

        يعمل...
        X