إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العلماء و الميثاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العلماء و الميثاق


    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

    من نظر إلى الشرّ حينما ينتشر في الناس فإنه لا ينشر إلا بسببين لا ثالث لهما:
    أحدهما: بفقد العلماء واندثارهم في هذه الأرض وهذا مصداق قول الله جل وعلا {نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
    (الرعد: 41).

    والسبب الثاني: تقصير العلماء بالقيام بواجبهم وذلك حال وجودهم

    ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))
    [رواه البخاري100ومسلم 2673]
    فإن أهل الجهالة لا يتصدرون إلا حينما يغيب أهل العلم الذين يقومون بأمر الله، فمهمتهم في هذه الأرض إن يدلوا الناس إلى الخير ويحذروهم من الشر، ويقودوا هذه الأمة إلى بر الأمان على مر الأزمان، وقد جعل الله لهم الثقة المفرطة بين العباد، وأمر الله بالرجوع إليهم عند المشكلات والمعضلات
    يقول الله في كتابه العظيم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
    (النحل: 43).
    وأمر الله حال نزول الفتنة والفِرقة والشقاق والنفاق بين الناس أن يكون مرجعهم كلام الله وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِفهمِ أهل العلم والمعرفة بكلام الله. ولذلك يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).

    والذين يستنبطونه منهم هم العلماء العارفون بكلام الله، وقد أمر الله عز وجل بالرجوع إليهم والنهل من علمهم، فإنهم هم أهل البصيرة لأنهم أعلم الناس بالله،
    ولذلك قد جعل الله لهم من الخيريه والمزية والفضل في هذه الدنيا ما لم يكن لغيرهم.
    وجعل لهم كذلك في المقابل العذاب الأليم يوم القيامة إن خالفوا أمر الله.
    وحينما يكون الإنسان بين ثواب جزيل إن وافق والعقاب الأليم إن خالف فإنه يكون أقرب الناس إلى الصواب وأحراهم بالتماسه وأدقهم بسلوكه والقرب من الحق، ولذلك كان أهل العلم أقرب الناس إلى الحق والصواب وأقربهم إلى فهم الحق والبينة وقد سموا النجوم فقد جاء ذلك على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي المسند في حديث رشدين بن سعد عن عبد الله بن الوليد عن أبي حفص عن أنس مرفوعاً: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهْتَدَى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن يضل الهداة))[رواه أحمد12189] وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصح من هذا بمعناه، ما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري حينما قال ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذ ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].
    والمُراد بذلك العلم وليس المراد بذلك ذواتهم.

    بل أن الله قد جعل الخيرية في أهل العلم كما جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).[رواه البخاري71 ومسلم1037].
    وقال - عليه الصلاة والسلام - ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريق إلى الجنة)).[رواه مسلم2699]
    فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والعلماء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، فالأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم من أخذ به أخذ بالحظ الوافر.
    وقد كان العلماء في الأرض كالنجوم يهتدى بها ولذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى الإمام مسلم من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة المغرب، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم مكانكم هاهنا)).قال: قلنا نعم يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: ((أحسنتم، أو قال أصبتم)).[رواه مسلم2531]
    قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال - عليه الصلاة والسلام - ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبوا أتى أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].
    وهذا تشبيه بليغ لحملة الوحي، وحملة العلم أنهم كالنجوم يهتدى بهم،
    روى أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث الحسن عن أبي مسلم الخولاني قال: "مثل العلماء مثل النجوم في الأرض إذا بدت لهم اهتدوا وإذا خفيت تحيروا"
    [(5/138)].

    وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامهم في أمته كالنجوم بالنسبة لمن يسلك البر والبحر ويعرف الجهات بعضها من بعض، وليس المراد بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذواتهم ولكن بما نالوه من شرف الصحبة والقرب من الوحي والنهل من كلام الله سبحانه - وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة فيه.


    ولذلك كان الاختلاف والفِرقة فيهم أقل من غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))
    [رواه البخاري2652 ومسلم2533]
    والسبب في ذلك والحكمة البالغة هو قربهم من الوحي ومعرفتهم بمواضع التنزيل، فإنه كل ما كان الشخص إلى التنزيل أقرب كان به أعلم وهذا ظاهر كلام رسول الله: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[رواه البخاري2652 ومسلم2533].
    لاحول ولاقوة إلا بالله

  • #2

    يقول قتادة كما روى ابن جرير الطبري في تفسيره قال: "هذا ميثاق الله أخذه على أهل العلم، فمن عَلِمَ شيئا فَلْيُعَلِّمْهُ وإياكم وكِتْمَان العلم، فإن كِتْمَان العلم هَلَكَة".

    فإن فَرَّطَ أهل العلم بالبلاغ والقيام بميثاق الله فعلى الأمة العفى والدمار.


    فَفُتْيَا العالِم بغير ما يَعَلم كذب على الله، قال الله - سبحانه وتعالى -{يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60) فالفتوى بغير علم كذب فمتى فرط العلماء في بيان مهمات الأنبياء وما يتعلق بمصيرها ونهضتها، وجعلوا الحديث للرعاع إلا ضلت الأمة، وانحرفت عن مسيرها.


    ومن نظر إلى حال المسلمين في الأندلس وحال علمائها لما انشغل علمائها بالجزئيات عن الكليات وانشغلوا عن الأصول بالفروع وتركوا أصول الأمة التي هي بحاجة إلى غرسها في النفوس سقطت بلاد المسلمين، وقد ذكر بعض علماء المغرب أنه لما كان الاستعمار قد أتى إلى بلاد الشام قبل عقود كان العلماء منشغلين بالفروع وبالجزيئات وبالاختلاف وبالفرقة والمستعمر على مشارف بلادهم،

    حتى ذكر أحد علماء المغرب قال: حينما قدمت الشام والاستعمار على بلادهم قال: دخلت مجلساً من مجالس أهل العلم، فإذا هم يتدارسون المرأة حينما يخرج لها لحية هل يجوز أن تحلقها أم لا؟ حتى حل عليهم الدمار والوبال وفرطوا فيما أمر الله بأخذه والقيام به، فحل ببلاد المسلمين ودمائهم وأعراضهم ودينهم ما حل.

    وقد جعل الله العلماء هم الدلالة إلى الحق، والدلالة إلى الصواب، وجعل لهم في سبيل ذلك الأذى لتعلوا منزلتهم عنده، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((العلماء ورثة الأنبياء))[رواه الترمذي2682].

    الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، وورثوا أيضاً تبعاته ومن تبعاته ما يحصل للعلماء من أذية وابتلاء وامتحان والوقيعة في أعراضهم.


    وقد حذر الله من عدم القيام بالحق وبيان الخير للناس وتحذيرهم من الشر وحذر الله من سلوك طريقة بني إسرائيل من كتمانهم للحق ولبسهم الحق بالباطل ولذلك قال الله - جل وعلا - { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (آل عمران: 71).

    وقال: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42).
    وحذر الله من كتمان البينات التي أنزلها الله على نبيه للناس عامة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159).

    قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: في تفسير هذه الآية "أخبر الله أن من كتم الحق بعد ظهوره وبيانه عنده أنه ملعون بلعنة الله، ولعنة اللاعنين وهم الملائكة".


    إذاً فالله قد أخذ على من أوتي علماً ولو كان يسيراً أن يجعل له الرفعة في الدنيا والآخرة ومقابل ذلك ضريبة عظيمة إن فرط فيما أمر الله به، وإن حصل له ما حصل من السفهاء من التنقص والوقيعة في الأعراض، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الناس في ذلك.



    لاحول ولاقوة إلا بالله

    تعليق


    • #3

      والعلماء الحق هم الذين يخشون الله عز وجل في ذلك ويخشون الله - عز وجل - في قولهم وفعلهم.


      فبين الله أن من أعظم سماتهم وعلاماتهم هو خشيته فقال سبحانه: {إنما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).

      ولما اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحكام كان قدوتهم هو أخشى الناس لله رسول الله فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إني أعلمكم بالله، وأخشاكم وأتقاكم له))[رواه البخاري5063] لم؟. لأنه كان هو صاحب الوحي المُنَزَّل فهو أعلم الناس وأخشاهم لله.

      وقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كونه أعلم الناس، أنه أخشاهم لله فهذا هو الأصل أن يكون العلماء هم أخشى الناس لله، وذلك لأنهم أعلم الناس بوحي الله، وكُلَّمَا كان الإنسان عالماً بالله عالماً بوحيه من كتاب وسنه يلزم من ذلك ظِمْناً أن يكون أخشى الناس لله، تعبداً وامتثالاً لأمره. روى الإمام مالك في الموطأ من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما العلم الخشية)).

      ومن علامة أهل العلم خشية الله، وإكثار العمل والتعبد لله، وذلك هو الفيصل بين أهل الزيف والحق.
      وقد جعل الله العلم الحق فيمن يخشاه فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} (سورة فاطر28).

      والعلم الذي لا يدل الإنسان إلى الخشية، ولا يدله على عبادة الله ولا يدله على الخير، ويقربه من الله ويبعده عن زخارف الدنيا التي لا تنفع فإن هذا ليس بعلم، بل أنه جهل يضر الإنسان ولا ينفعه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله، وكان أصحابه من بعده كذلك، العالمون بما لديهم من علم هم أقرب الناس إلى الصواب.

      وقد حذر الله ممن يقوم بأمر الله بقوله، ويجتنبه بفعله - وجعل ذلك علامة على عدم خشية الله، وذلك أن الله - عز وجل - يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44). وقال الله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2).

      حذر الله من أن يقول الإنسان بلسانه ما لا يفعله، فالعلماء الحق هم الذين يخافون الله.

      ذكر القاضي ابن أبي يعلى في الطبقات قال: ذُكِرَ في مجلس أحمد بن حنبل: معروف الكرخي: فقال بعض من حضر هو قصير العلم: فقال الإمام أحمد أمسك عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف.
      فيعرف العلماء الحق بالعبادة والعمل، واجتناب المحرمات والتقلل من الدنيا.
      ولذلك يقول الإمام أحمد: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قربا إلا ازداد من الله بعداً".

      وهذا هو الميزان في معرفة أهل العلم الحق، حملة الميثاق الصادقون القائمون بأمر الله، وهذا هو الميزان العدل، فإن الإنسان بعلمه خصيم نفسه، فإذا رأى الإنسان أنه كلما ازداد من العلم قرب من الدنيا وقل من العبادة والعمل فإن ذلك علامة بينة للخسارة وعدم التوفيق وعدم الإخلاص.

      لاحول ولاقوة إلا بالله

      تعليق


      • #4

        ولذلك يجب على الإنسان إن كان من أهل العلم، أو تحصل له علم يسير أن ينظر إلى عمله بما علم فالعبرة إذاً بالعمل بما علمه من كلام الله لا بآراء الناس ولا الالتفات إليها ولا الركون إليها.


        يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "علامة الزهد في الدنيا وفي الناس أن لا تحب ثناء الناس عليك ولا تبالي بمذمتهم، وإن قدرت ألا تعرف فافعل ولا عليك ألا تعرف، وما عليك ألا يثنى عليك، ومع عليك أن تكون مذموما عند الناس إن كنت محموداً عند الله"
        [حلية الأولياء (8/90)].


        ومن أحب ألا يُذكر ذُكِر، ولذلك كان العلماء كلما ابتعدوا عن قول الناس وحب مدحهم كلما رفعهم الله وكلما اقتربوا إلى حب الناس ومدحهم كلما أبعدهم الله، وأخمل ذكرهم وجعلهم في الأسفلين وكم من الناس منزوي في داره لكنه من أهل الخشية والعبادة لله، فرفع الله ذكره وأعلى شأنه، وهذا مصداق كلام الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر 28).

        وقد حذر الله مما يحول بين أهل العلم وبين قول الحق، والقيام بأمر الله وحذر من ذلك أشد تحذير.
        ومن أعظم ما يقوم به الإنسان العالم في هذه الأرض أن يصدع بأمر الله وأن يقول لصاحب الباطل أخطأت، ولصاحب الحق والخير أصبت، ولذلك جعل الله مناط الخيرية بهم قال الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).

        ولا يمكن للإنسان أن يتحقق فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهليته في ذلك إلا أن يتحقق فيه العلم بالمعروف والعلم بالمنكر والتمييز بين المنكر والمعروف، وألا يتخبط بين هذا وهذا، فإن ميز كان من أهل العلم ودعا إلى الله على بصيرة كما قال الله آمراً نبيه بذلك حيث قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108).
        الدعوة إلى الله لا تكون بالجهالة وإنما على بصيرة وعلى منهاج محمد. وقد حذر الله من سلوك السبل التي تظل عن سبيل الله فقال الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153).ما

        لاحول ولاقوة إلا بالله

        تعليق


        • #5

          أهل العلم لا يسعون إلى إرضاء الناس وإنما أخذ الله عليهم الميثاق ألا يرضوا إلا الله وإن سعوا إلى إرضاء الناس واتكلوا على أقوالهم ورضاهم وتهيبوا سخطهم الله سَخِطَ الله عليهم وأبعدهم، ولذلك كان أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يلتمسون رضا الله لا يتهيبون أحداً مهما كان في قول الحق.

          فما من أحد يسلم من قول الناس ونقدهم، وإذاً ما بقي إلا اتباع الحق والقول به والإعراض عن النقد مادام الطريق نزيهاً واضحاً، ولذلك.
          يقول أبو مسلم الخولاني: "كان الناس أوراق لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا أوراق فيه، إن سَبَبْتَهُم سَبُّوك وإن ناقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن فررت منهم أدركوك، فقال له رجل كيف أصنع ؟ قال: أعط من عرضك ليوم فقرك "أي سلمهم عرضك ما دمت تقوم بالحق، أعطهم من ذلك ليوم فقرك، حينما يجتمع الخصوم عند الله، فتكون فقيراً تحتاج إلى شيء يسير، يأتي إليك الغنى من أقوالهم وذمهم وطعنهم في عرضك، فَتُرْفَعُ عند الله منزله كما قال - عليه الصلاة والسلام - ((يخرج المؤمنون من النار، فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم))
          [البخاري (2440)].


          ولذلك أُمِرَ أهل الحق وأهل العلم، قَلَّ العلم عندهم أو كثر ألا يراقبوا إلا لله في قولهم وفعلهم فإنهم إن راقبوا الله نصرهم الله في الدنيا ونصرهم وآمنهم يوم الفزع الأكبر.

          ومن العقبات التي تحول دون القيام بأمر الله: النظر إلى أهل الحظوة والهيئات والطمع فيما عندهم أو خشية فوات الرفعة والمكانة إن قال العالم بما يعلم، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بُعِثَ في قريش كان منهم الأشراف ومنهم أصحاب السيادة وأصحاب الشرف، فلم يلتفت إلى شرف ولم يلتفت إلى سيادة وإنما التفت إلى الواجب فرفعه الله به وأمره أن يعرض عن كل مشرك ظالم وما لديه من حظوة، قال الله - عز وجل - له {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } (الحجر: 94، 95).

          ولذلك قَسم الله - عز وجل - من يعارضون كلامه إلى صنفين:
          1- كفار كفروا بما حمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحق والصدق من وحي الله، فكذبوا وأعرضوا.
          2- ومستهزئون أضافوا إلى كفرهم استهزاءاً بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنقصوا وعيروا وسبوا وهددوا،
          فأمر الله نبيه ألا يراقب إلا الله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}
          (الحجر: 94، 95).


          ومن أعظم ما يصد الإنسان عن اتباع الحق وسلوكه هو ما لديه من حظوة ورفعه وسيادة عند الناس يخشى فواتها
          ولذلك كفار قريش ما أعرضوا عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا لما كان لديهم من حظوة وسيادة وخوف من العار وسقوط، ما لديهم من حظوة في الأرض يظنونها، مع أنهم رأوا الحق بأعينهم فأحجموا عن القول به، قال الله عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
          (النمل: 14).
          جحدوا باتباع محمد والبوح بما لديه من الحق {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}
          (النمل: 14).

          لاحول ولاقوة إلا بالله

          تعليق


          • #6

            ومن نظر إلى فطرة الإنسان، وجدها ميالة للهوى

            ولننظر إلى حاله على اختلاف ديانته، وملته، وعرقه سواء كان كافراً أو مسلماً أعجمياً أم عربياً حاله مع الرئاسة والوجاهة وحالة قبل توليها وبعد تجرده منها،
            فإنه قبل الرئاسة أصوب بالنظر له، وتقييم الأمور ومعرفة الحق من الباطل وتمييزه والفيصل فيه.

            فحينما يأتي إلى ما هو من السيادة والحظوة في الناس يضطرب ويطيش وتطيش سهامه هنا وهناك،
            وحينما يدعها وراءه سواءً كان مكرهاً أو راغباً فإنه يرجع إلى ما كان عليه قبلها سواءً كانت الرئاسة في كفر أو في إيمان، رئاسة في دين أو في دنيا،

            وهذا معلوم في أحوال الناس ولذلك من نظر إلى حال أهل السيادة حتى في الغرب الكافر حينما يتولى الإنسان عن منصبه سواء بالعزل أو الرغبة، يطيش فكره ولسانه سباً وطعناً لما كان عليه، ويقول ما كان يحجم عنه قبل ذلك لأنه قد انتهت من قلبه تلك العلائق، وأخذ يقول قولاً لم يكن يقوله في السابق فرجع إلى ما كان عليه، فتجرد من الحظوة والنظر إلى حال الناس وعاد إلى ما كان عليه.


            والإنسان لا يقال أنه يدع الدنيا والمتعة فيها بإطلاق ولكنه ليعلم أن في الغالب أن الركون إلى مثل ذلك يملك القلب ويأسره ويجعل الإنسان وخاصة أهل العلم بين أمرين لا ثالث لهما:
            أحدهما: إما أن ينقلب الميزان لديه، فيرى الباطل حقاً ولا يرى الحق إلا باطلاً ويلتمس الأعذار يمنة ويسرة، وتغيب عن قلبه خشية الله، والقيام بأمره وكل ذلك لو تأمله بتدبر سببه الحظوة والنظر إلى المال والجاه.

            والحالة الثانية: أن يعرف الحق من الباطل، لكنه يُهَوِّنُ من جانب الحق أو يجعله أمراً مرجوحاً ينبغي ألا يصار إليه، وإن أحسن الظن فيه يرى أن اجتماع الناس على قول مرجوح خير من الافتراق على قول راجح.

            وهذه قاعدة قد عمل بها أئمة الإسلام ولكنهم لم يطلقوها في كل حال، فالنصوص الصريحة من الوحي والأدلة الظاهرة المحكمة لا تُضرب بالمصالح، فالافتراق على تقرير أصول الإسلام خير من الألفة على نقيضها، إن كان ثمة أُلْفَةٌ تحصل، لا تكون إلا بالوحي، وباتباعه واتباع الدليل والنظر فيه واتباع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

            فلا تضرب النصوص الظاهرة المحكمة بما يسمى بالمصالح، أو جمع كلمة الناس، وإذا كان الدليل ظاهراً محكماً ولا ثمة مفسدة هي أعظم منه، قد حذر الشارع من ارتكابها، ارتكابا ينقض أصلاً فإنه حينئذ لا مصير إلا بقول الحق، فإنه لا مصلحة إلا هو.

            فاستصحاب الأصل أو الاستحسان أو المصلحة ليست مُسَوِّغاً لتنكب الدليل الواضح واتباع الباطل أو الاستدلال بالقول أن اجتماع الناس على قول مرجوح، خير من افتراقهم على قول راجح، فيقال أن ذلك حينما يكون الخلاف سائغاً وحينما يكون الدليل ظاهراً، وثمة قوم من السلف لهم دليل في هذه المسألة قد يصار إلى قول مرجوح وترك القول الراجح.

            أما أن يكون القول المخالف باطلاً فلا يحل لأحد أن يجمع كلمة الناس على قول باطل، فلابد من قول الحق وإن دق، فبهذه التسويغات تطمس الشريعة ويثلم الإسلام، وحينئذ فالعفاء على الأمة وعلى الإسلام. ومع هذا كله يجب على الناس عامة تعظيم أهل العلم، وأن يلتمسوا لهم العذر وما دام لهم سلف في أقوالهم، وليحذروا من الوقيعة في أعراضهم، فإن لحوم العلماء مسمومة فهم ورثة الأنبياء ما دام أنهم على دليل وأثر من الكتاب والسنة، والطعن فيهم طعن فيما يحملونه في الغالب.

            فإذا كان للرجل سلف من الصحابة والتابعين فهو على أثر.
            ولذلك يقول ابن القيم: "إن رأيت الله ورسوله في صف، فعليك بصف الله ورسوله، وإن رأيت الناس كلهم في صف آخر".

            لاحول ولاقوة إلا بالله

            تعليق


            • #7

              فائتلاف الأمة مقصد عظيم جليل وترك السنن وترك بعض الواجبات مما لا يستلزم من ذلك إثما عظيم، أو نقضاً الأصل، أو تبديلا لمعالم الإسلام وأصوله فَيُظَنُّ بذلك الترك تبديلا أو تحليلا لما حرم الله أو تحريما لما أحل الله وذلك لمقصد ائتلاف الناس فهذا مقصد شرعي.

              ولهذا حث الله على اجتماع كلمة الناس وتآلفهم وقد أشار إلى هذا المعنى غير واحد من العلماء كابن تيميه، ولذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه لما صلى خلف عثمان تماماً، وقيل له في ذلك أنه يخالف رأيك، فقال: "الخلاف شر" وكان يرى قصر الصلاة ركعتين، فاقتدى بمن خالفه لأن ذلك يلزم منه الخلاف والفتنة، وكذلك فإن من قَصُرَ به العلم والنظر فعليه أن يلتمس العذر لأهل العلم والمعرفة

              فأهل العلم أصحاب نظر لكلام الله وكلام رسول الله، لا يلتمسون أذواق الناس ورضاهم وإنما يلتمسون رضا الله، فليس كل ما لا يروق للإنسان يقدح في قائله، فالناس رضاهم غاية لا تدرك.


              يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "رضي الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلح نفسك".

              إرضاء الناس محال، ومن تبع ذلك وأراده فإنه سيؤول إلى وبال وسيخرج صِفْرَ اليدين ما لم يتبع قول الله ويقف عند حدود الله، فإن الله يرفعه بذلك.

              ولذلك توعد الله من عَلِمَ الحق وَتَنَكَّبَهُ وقال بغيره ويعلم أنه هو الظاهر لديه وما غيره هو الباطل، وقد جعل الله - جل وعلا - الرجل يأتي يوم القيامة فتندلق أقتابه في النار فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر، قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه. قال الله معاتباً أهل العلم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} (البقرة: 44).

              وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح قال: ((أول من تسعر بهم النار يوم القيامة - وذكر منهم - رجل تعلم العلم وَعَلَّمَهُ، وقرأ القرآن فأتى الله - عز وجل - فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تَعَلَّمْتُ العلم وعَلَّمْتُهُ وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار))
              [رواه مسلم1905] والعياذ بالله.


              هذا لأنه قد جعل شرفاً عظيماً في الدنيا، ينال به الإنسان الرفعة يوم القيامة، جعله لحظوة خاصة فجعل الله منه حطباً لجهنم، وأنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة؛ لأنه خان الأمانة وضيع الميثاق الذي جُعِلَ في عُنُقِهِ لأنه به يَهْتَدي الناس وبه يتأسى.

              وقد حذر الله من التفريط في ذلك، وتوعد بالوبال والعقاب الشديد من خالف أمره، ولذلك لما كان العقاب خطيراً شديداً على العلماء كانت نفوسهم على الأغلب أَبْعَدُ عن الوقيعة في ذلك فكانوا هم أهل القدوة والاتباع.


              ويجب على أهل العلم أن يقوموا ويظهروا للناس بقول الحق وَليُعْلَمَ أن البُعْدَ عن قول الحق والاختفاء به والقول به سراً علامة وبال وظهور لأهل الباطل والجهالة، فما يظهر الباطل إلا باختفاء الحق وأهله، وما يظهر أهل الجهالة إلا باختفاء أهل العلم، كما قال أبو مسلم الخولاني "العلماء كالنجوم إن ظهروا اهتدى بهم الناس، وإن اختبئوا تحيروا".

              ولذلك يجب على أهل العلم ألا يضيعوا الأمانة وأن يقوموا بأمر الله فإن ضيعوا الأمانة وعملوا بغير ما أمر الله به فقد فرطوا وضيعوا.


              لاحول ولاقوة إلا بالله

              تعليق


              • #8

                ومما يجب الحذر منه ما يجعل كلمة حملة الميثاق هينة لدى الناس، فلا يُسْمَعُ لهم قول ولا يُؤبَهُ لقولهم ومن ذلك أمور كثيرة منها:

                الأمر الأول : انشغال أهل الميثاق بجزئيات يسيرة عن مصالح الأمة، كالانشغال بالوعظ فقط أو التذكير فقط وإهمال جانب التفقيه والتعليم،
                خاصة إذا كانت الأمة تترقب مصائب عظيمة، أو تشتكي اندثار التوحيد من الطعن فيه، والطعن بأهل العلم ومعالم الإسلام، وتعدي الجهال والزنادقة على توحيد الله.


                ولذلك قد انطبع عند كثير من الناس ممن غلب عليهم الجهل، أن العلم إنما هو في المساجد وأن قادة العلم يقودون الناس بالعبادة المحضة فقط، وذلك ما كان ليكون إلا لما قاد أهل العلم الناس بإمامة الصلاة وبالجُمَع، ولم يقودوهم خارج المساجد وخارج بيوت الله،

                فأهل العلم هم قادة الناس في المساجد وغيرها وفي سائر ميادين الحيـاة.


                فدين الله يجب أن يُعْتَنَى به في سائر جوانبه، فالله قد جعل شريعته عامة لسائر شئون الحياة، فالإسلام هو اقتصاد وهو اجتماع، وسياسة وأخلاق وسلوك وعقيدة وعبادة كل ذلك من دين الله لا تنفك حياة الناس عن دينه، فالنوم واليقظة والغدو والروح والذهاب والمجيء كل ذلك لا يخلو من تشريع ومن عبادة.

                والأمر الثاني: العمل بما أمرهم الله به، فإن قَلّ عمل أهل العلم بما أمرهم الله به، قل الأخذ عنهم والتأسي بهم
                ولذلك العلماء في الناس ليسوا بقدر علمهم وما يحملونه من معرفة الخلاف ومعرفة الدليل أو الحفظ ونحو ذلك، وإنما هو العمل بما أمر الله به.


                ولذا حينما يعمل العلماء بما أمرهم الله به فيمثلون القول والفعل حينئذ يتأسى بهم الناس، ولذلك انظر إلى الناس في كل زمن وفي كل مصر، يتجافون عن علماء، ويقبلون على آخرين ومدار ذلك هو هذا.

                ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس كل ما يعلم من دين الله يقال، والله قد أمر بإقامة الحق وإقامة العدل، وكذلك أمر بتحديث الناس بما تعيه عقولهم،
                فتحديث العامة بدقائق العلم وبعض أحكام النوازل التي لا تعنيهم، وبعض مسائل العلم كبعض مسائل الصفات مما لا تَعِيَهُ عقولهم لا ينبغي، بل ربما أشكل عليهم، وأحدث عندهم الوساوس وعلى هذا فليس كل علم يقوله العالم، فإذا أحجم عالم عن قول مسألة ما مما يُظَنُّ أنها لا تعيها عقول الناس مما لا يتعلق بها مصير الأمة ويحصل بها مفسدة ولا يقتضي ذلك تبديلا فإن ذلك مما يعذر به، وإلا فالأصل أن الله قد أمر بتبليغ الأصول والفروع،
                ولذلك قال الله مبيناً خطر الكتمان {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}
                (البقرة: 159).


                قال أبو هريرة: "لولا آيتان في كتاب الله ما حدثكم حديثا ثم تلى تلك الآية وما بعدها"، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في المسند والسنن: ((من سئل علماً فكتمه ألجمه الله - عز وجل - بلجام من نار يوم القيامة))
                [رواه أبو داود 3658].

                وهذا هو الأصل، لكنه قد يكون لعالم عذر في إسرار شيء من العلم، لا تعيه العامة، واجتماع الناس أولى، شريطة ألا يكون في ذلك طمس لحكم الشرع، وليس فيه تبديل لكلام الله من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وإخفاء ذلك لا يكون إلا لبعض الجزئيات التي ليست هي أصول الدين وكلياته
                ولذلك ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتابه الطبقات أن هارون الأنطاكي قال: كنت عند الإمام أحمد - عليه رحمه الله تعالى - وربما أخرج إليَّ شيئاً من أحاديث السلطان، فيقول لي: "يا أبا جعفر هذا خيط رقبتي فانظر كيف" يعني لا تُشْهِرهُ

                وكذلك قد ذكر الخلال قال: كان الحسن أبو علي الثعلبي صاحب حظوة عند الإمام أحمد وله به أُنْسٌ شديد قال الثعلبي: كنت إذا دخلت على أحمد يقول: إني أفشي إليك ما لا أفشيه إلى ولدي ولا إلى غيره، فأقول له: لك عندي ما قاله العباس لابنه عبد الله: إن عمر يكرمك ويقدمك فلا تفشي له سراً، قال: فإن أمت فقد ذهب وإن أعش فلن أحدث بها عنك قال: فكان يفشي له أشياء كثيرة.

                ولذلك اعتمادهم على مصلحة عظمى وهي اجتماع كلمة الأمة وتآلفهم وقربهم ما لم يضيع ذلك أصلاً من أصول الدين، ويحدث تبديلاً لشرع الله فاجتماع الأمة على قول مرجوح خير من اقترافها على قولٍ راجح ما لم يكن ذلك في الأصول العظام وكليات الدين، ولم يقتضي ذلك تبديلاً لشرع الله أو تحليل لما حرم الله أو تحريما لما أحل الله.
                وهذه قاعدة مهمة ينبغي أن تُفْهَم بشروطها وقيودها.

                ولذلك فإن الأصول الكلية في الإسلام، أصول الديانة والضروريات التي أمر الله - عز وجل - بحفظها وهي الدين والعقل والمال والنفس والعرض - هي أهم ما ينبغي حفظه وصونه وإظهار أحكام الله فيه، وهي ما أمر الله بحفظه وصيانته من التبديل والتحريف وهي مهمة العلماء القائمين بأمر الله.

                أسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وإياكم لمرضاته وهو الموفق المؤيد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .

                المصدر - بتصرف
                لاحول ولاقوة إلا بالله

                تعليق

                يعمل...
                X