إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اقرأ مالا تعرفة عن اليهود(الموسوعة اليهودية)

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اقرأ مالا تعرفة عن اليهود(الموسوعة اليهودية)




    بقلم ابو الوليد جزاة الله خيرا

    للدكتور المرحوم عبد الوهاب المسيري تغمده الله في واسع رحمته

    اليهودية: المصطلح
    Judaism: Term
    يشير اليهود إلى عقيدتهم بكلمة «توراة». أما مصطلح «اليهودية» فيبدو أنه قد ظهر أثناء العصر الهيليني للإشارة إلى ممارسات اليهود الدينية لتمييزها عن عبادات جيرانهم. وقد سك هذا المصطلح يوسيفوس فلافيوس ليشير إلى العقيدة التي يتبعها أولئك الذين يعيشون في مقاطعة يهودا (مقابل «الهيلينية» أي عقيدة أهل هيلاس Hellas وهكذا بدأ المصطلحان كتسمية للمقيمين في منطقة جغرافية ثم أصبحا يشيران إلى عقيدتهم). أما الأصل العبري «يهدوت»، فيعود إلى العصور الوسطى.

    وقد أصبحت كلمتا «يهودية» و«توراة» كلمتين مترادفتين، ولكن ثمة اختلافات دقيقة بينهما. فمصطلح «اليهودية» يؤكد الجانب البشري، بينما يؤكد مصطلح «التوراة» الجانب الإلهي. ولذا، يمكن الحديث عن «اليهودية العلمانية» بينما يصعب الحديث عن «التوراة العلمانية». ومن الجدير بالذكر أن المصطلح الشائع في الولايات المتحدة والعالم هو «اليهودية»، أما مصطلح «توراة» فقد اختفى تقريباً إلا بين المتخصصين والأرثوذكس. كما تشير كلمة «التوراة» إلى الجوانب الثابتة اللادنيوية في اليهودية، ويُستخدَم مصطلح «يهودية» للإشارة إلى الجوانب التاريخية المتغيّرة وإلى تفاعُل اليهودية مع الحضارات الأخرى. ومن هنا، يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية» و«اليهودية الهيلينية»، ولا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية» مثلاً. ويرى دارسو الدين اليهودي أن إطلاق مصطلح «يهودية» على تلك المرحلة من تاريخ اليهودية التي تسبق تدوين العهد القديم يتضمن تناقضاً تاريخياً، فهي مرحلة سديمية لم تكن قـد تشـكلت فيها بعد معالم اليهـودية، ولم يكـن العبرانيون فيها قد صاروا يهوداً، ولذا فنحن نطلق على تلك المرحلة «مرحلة عبادة يسرائيل»، ثم «العبادة القربانية المركزية» بعد تأسيس الهيكل. وتُشير أدبيات جماعة الناطوري كارتا إلى «يهودية التوراة» (بالإنجليزية: توراه جودايزم Torah Judaism) بمعنى «اليهودية الأصلية» أو «اليهودية الأرثوذكسية»، وهم يفضلون استخدام مصطلحهم لأنه قد ولِّد من داخل المنظومة اليهودية، على عكس كلمة «أرثوذكسية» ذات النكهة المسيحية.

    اليهـــودية: بعض الإشـكاليات
    Judaism: Some Problematics
    للنسق الديني اليهودي سمات جوهرية مقصورة عليه تفصله عن العقائد التوحيدية الأخرى، وتثير قضايا إشكالية عميقة. ويمكن إيجاز بعض هذه السمات فيما يلي:

    1 ـ تتميَّز اليهودية، كنسق ديني، بعدم تجانسها نظراً لظهورها في مرحلة متقدمة نسبياً من التاريخ ونظراً لاستيعابها كثيراً من العناصر الدينية والحضارية من سائر الحضارات التي وُجدت فيها، فقد استوعبت الكثير من العناصر من الحضارات المصرية والآشورية. ثم تأثرت تأثراً عميقاً بالإسلام والمسيحية، وبخاصة بعد سقوط الهيكل واختفاء أي مركز ديني أو زمني لليهودية (أو اليهود). وقد تأثر مؤلفو التلمود وكتب القبَّالاه بالعقائد الشعبية والخرافية، وكل هذا جعل اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي الذي تَشكَّل من خلال تراكم عدة طبقات، الواحدة فوق الأخرى. ونظراً لعدم التجانس، ولاحتواء اليهودية على عناصر شتى، نجد أن من الصعب تعريف هوية اليهودي. فمن الممكن، حسب الشريعة اليهودية، أن يكون المرء ملحداً ويهودياً معاً في الوقت نفسه نظراً لأن الشريعة ترى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية، وهذا أمر لا يوجد في المسيحية ولا في الإسلام، حيث تنتفي صفة الانتماء للدين إذا أنكر الإنسان وجود الإله، حتى ولو وُلد لأبوين مسيحيين أو مسلمين.
    2 ـ رغم وجود تقاليد شفوية في كثير من العقائد والديانات، إلا أن اليهودية تتسم بأن تقاليدها الشفوية أصبحت أكثر من مجرد تقاليد، فقد أصبحت «شريعة شفوية» تعادل «الشريعة المكتوبة» في المنزلة، بل تتفوق عليها وتجبُّها.

    3 ـ رغم أن العقيدة اليهودية تتضمن نزعة توحيدية قوية، إلا أن معدلات الحلولية أخذت تتصاعد داخلها حتى أصبحت الطبقة الحلولية (داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي) أهم الطبقات طراً، وانتهى الأمر بأن هيمنت الحلولية على العقيدة اليهودية فأصبحت عقيدة توحيدية اسماً، حلولية فعلاً، وأصبحت عقيدة ذات نزعة غنوصية قوية.

    4 ـ استولت الصهيونية على العقيدة اليهودية تماماً بحيث خلقت في ذهن الكثيرين ترادفاً شبه كامل بين الصهيونية واليهودية، رغم أن آباء الصهيونية الأوائل كانوا من الملاحدة. وقد نجحت الصهيونية في تطوير خطاب حلولي مراوغ سمح بتجنيد اليهود الأرثوذكس.

    وثمة إشكاليات أخرى وثيقة الصلة بالثلاث التي ذكرناها (مثل: العالمية والتبشير ـ اليهودية الإلحـادية) سنتناولها طي هـذا المجلد، وسنكتفي بتناول الإشكاليات الثلاث التي أشرنا إليها في هذا الجزء، باعتبارها أهم الإشكاليات.

    الرؤيــــــة اليهوديــــــة للـــكون
    Jewish Cosmogony and Cosmology
    تشير الكلمتان «كوزموجوني» و«كوزمولوجي» إلى التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وكلمة «كوزموس» اليونانية تعني «الكون» أو «النظام». أما شق «جوني»، فمن الجذر اليوناني «جيجنستاي» بمعنى «ينتج»، ومن ثم فإن كلمة «كوزموجوني» تعني «ولادة» أو «أصل» أو «خلق العالم». أما شق «لوجي» فمن كلمة «ليجاين legein» بمعنى «يتحدث». والكوزموجوني نظرية أو وصف خلق العالم. أما الكوزمولوجي، فهي النظرية أو الفلسفة الخاصة بطبيعة ومبادئ الكون، وكلتا النظريتين تشملان التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وترى اليهودية أن الإله خلق العالم، ولكن ما عدا ذلك هو أمر خلافي، إذ توجد داخل النسق الديني اليهودي عدة صور متناقضة لأصل العالم وبنيته. فالعهد القديم يقدم رؤى عديدة للإله ليست متسقةً بالضرورة. أما التلمود، فقد استوعب صوراً عديدة من الحضارات المحيطة سواء الوثنية أو الإسلامية أو المسيحية، ودوَّن كثيراً من الأساطير الشعبية وحوَّلها إلى معتقدات دينية. فهناك قصة الخلق، وإلى جانبها أسطورة ليليت، وكذا شجرة المعرفة والخير والشر. وإذا كان هناك يهوه إله العالمين،فهناك أيضاً شريكه عزازيل.والعالم له معنى في كثير من المقطوعات،ولكنه بلا معنى في مقطوعات أخرى.وهذا يعود إلى طبيعة التركيب الجيولوجي لليهودية.وقد ازدادت الرؤية اضطراباً مع ظهور القبَّالاه التي حولت كثيراً من الأساطير الفلكلورية إلى رؤية للكون،كما هو الحال في فكرة «آدم قدمون»،أو «تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)»،أو «تبعثُّر الشرارات (نيتسوتسوت)»، أو «إصلاح الخلل الكوني (تيقون)»!وقد حولت القبَّالاه اليهود إلى قوة كونية وجودها أساسي لاسترجاع الشرارات وعملية إصلاح الخلل الكوني.

    وفي العصر الحديث، لا يمكن الحديث عن رؤية يهـودية واحدة للكـون، إذ تنوعت المصادر الفلسفية للمفكرين الدينيين اليهود، وانقسمت اليهودية إلى فرق تختلف في رؤيتها، الواحدة عن الأخرى، بشكل جوهري.

    اليهــودية باعتبارهـا تركيبــاً جيولوجــياً تراكمــياً: التعـريف
    Judaism as a Cumulative Geological Construct: Definition
    «التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنصف عمق عدم التجانس، بل التناقض الداخلي الحاد الذي تتسم به اليهودية كنسق ديني (كما نشير إلى ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» باعتبارها هي الأخرى تركيباً جيولوجياً تراكمياً). ومن المعروف أن الأنساق الدينية التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، تتسم بقدر من التنوع في الممارسات الدينية وفي الاختلافات على مستوى النظرية، فينقسم أتباع كل نسق إلى شيع وفرق ومذاهب لكلٍّ تفسيرها، وقد تندلع بينها الحروب أحياناً. وقد شهد الإسلام في بداية العصر الإسلامي اختلافات بين الصحابة أنفسهم على بعض القضايا الدينية، ثم ظهرت بعد ذلك فرق مختلفة مثل الخوارج والشيعة، مقابل الأغلبية السُنيّة التي ظهرت بين أعضائها المذاهب الأربعة، هذا بخلاف الاجتهادات المختلفة. والمسيحية تتسم بالخاصية نفسها - ربما بشكل أكثر عمقاً - فهناك عدد من الكنائس، مثل: الكنيسة القبطية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والكنيسة الأرمنية، ثم الكاثوليكية الرومانية. وقد شهدت المسيحية أيضاً الانقسام الأكبر مع ظهور البروتستانتية التي تتسم بالانشقاقات والانقسامات الدائمة.

    ولكن، رغم هذا، يظل التنوع داخل إطار مبدئي من الوحدة إذ يوجد حد أدنى في الإسلام مثلاً يشكل معياراً يمكن عن طريقه تفرقة المسلم عن غير المسلم. فالنطق بالشهادتين، عند المسلمين، أمر أساسي لا اجتهاد فيه ولا اختلاف، والإيمان بالبعث واليوم الآخر هو أيضاً جزء من هذا الحد الأدنى. فمهما بلغت الاختلافات، ومهما تصاعدت التناقضات، فإن هذا يظل معياراً أساسياً، ولا يمكن لأحد أن يُسمِّي نفسه «مسلماً» إذا أنكر وحدانية الله، وأن محمداً رسول الله، أو إذا أنكر اليوم الآخر والبعث. ولا يمكن أن يُسمِّي أحد نفسه «مسيحياً» إن أنكر حادثة الصلب.

    ولا شك في أن الأنساق الدينية التوحيدية قد تفاعلت فيما بينها كما تفاعلت مع الحضارات الأخرى. فقد مَثَّل علم الكلام عند المسلمين، والعقلانية الإسلامية، محاولة من جانب الفكر الإسلامي للاستجابة لتحدٍّ حضاري طرحه فكر الآخر (الفكر الفلسفي اليوناني). وفي عملية الاستجابة، تم تبنِّي مقولات مفاهيمية وفلسفية من النسق الآخر. ولكن مثل هذه العناصر الجديدة ظلت دائماً على مستوى الخطاب والمصطلح، وتم استيعابها وهضمها تماماً بحيث أصبحت جزءاً من الكل. أما ما يتنافى مع جوهر النسق الديني، فقد أصبح هامشياً وغير مؤثر، أو رُفض تماماً. ويمكن أن نضرب أمثلة من المسيحية، وخصوصاً الكاثوليكية، التي استوعبت الكثير من العناصر الفكرية والرمزية من الحضارات التي احتكت بها ورفضت كثيراً من العناصر الأخرى، ولكنها حاربت الهرطقات المختلفة مثل الهرطقة الغنوصية والألبنيزية التي تشكل انحرافاً عن جوهر الإيمان المسيحي في تصوُّرها.

    واليهودية في تصورنا تختلف عن المسيحية والإسلام في هذا المضمار. فهي تشبه التركيب الجيولوجي المكون من طبقات مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُـلْغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وهي طبقات تتجاور وتتزامن وتوجد معاً لكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة منها الأخرى ولا يتم استيعابها في إطار مرجعي واحد. وقد سُمّيت كل هذه الطبقات بـ «الدين اليهودي».

    ومع أن عبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» من صياغتنا نحن، إلا أن التشبيه نفسه مُتضمَّن فيما يُسمَّى «نقد العهد القديم» حيث يفترض دارسو العهد القديم أنه تَكوَّن من تراكم مصادر مختلفة (طبقات جيولوجيـة مختلفـة) لكلٍّ رؤيته ومصطلحـه، ولكلٍّ أسـلوبه ولغته، بل عقيدته، ولكلٍّ مؤلّفه أو مدوّنه، وأن هذه الطبقات أو المصادر تراكمت الواحدة فوق الأخرى وتعايشت جنباً إلى جنب. وقد حدد البعض المصادر الأساسية بأربعة مصادر، وحددها آخرون بثمانية، كما بيَّن بعض النقاد أن بعض المصادر قد فُقدت ولكن بالإمكان التعرف عليها من خلال النصوص الموجودة. كما أن ترجمات العهد القديم، ومخطوطات البحر الميت، تشكل شواهد على تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وعلى التناقض بين المصدر اليهوي (الحلولي) والمصدر الإلوهيمي (التوحيدي أو شبه التوحيدي) الذي وضحه نقاد العهد القديم، الأمر الذي يبين إدراكهم للخاصية الجيولوجية بدون تسميتها. وفي تصورنا، فإن ما يراه نقاد العهد القديم منطبقاً عليه وحده ينطبق في الواقع، وبشكل أكثر حدة، على مختلف الكتب اليهودية المقدَّسة الأخرى وشبه المقدَّسة. فالتلمود يفوق في ضخامته العهد القديم، وهو بكل تأكيد تركيب جيولوجي تراكمي يتسم بدرجة هائلة من عدم التجانس ومن التنافر بين أجزائه. فهو كتاب دين واقتصاد وطب وسحر وتقوى دينية راقية وإيمان بالمساواة بين البشر نابعة من درجة عالية من التوحيد وعنصرية شرسة نابعة من رؤية حلولية موغلة في الحلول والكمون. أما كتب القبَّالاه ومدوناتها، فهي أكثر في تراكميتها الجيولوجية وفي عدم تجانسها. وبالتالي، يمكننا أن نقول بكثير من الاطمئنان إن توصيفنا لليهودية بأنها ليست كياناً عضوياً (وإنما تركيب جيولوجي تراكمي) هو توصيف صحيح.

    وقد شبَّه أحد الحاخامات التوراة بشجرة الحياة التي تضم كل شيء، وبهذا تُكوِّن كلها وحدة عضوية. ولذا قد يُحرِّم أحد الحاخامات شيئاً فيحلله آخر، فيعلن أحدهما أن هذا الشيء نجس ويقول الآخر إنه طاهر. والواقع - حسب رؤية هذا الحاخام - أن كل هذه الفتاوى جزء من الكل العضوي. لكن هذا التشبيه، أي تشبيه اليهودية بالكائن العضوي، غير دقيق بالمرة، ولعل التشبيه بعبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» أكثر دقة، فهي تُفسِّر التناقض وعدم التجانس، الأمر الذي قد تقصر عنه الصورة المجازية العضوية التي لا تقبل التناقض، بل تفترض قدراً كبيراً من الوحدة الداخلية التي تتبدَّى في تشكيل موحَّد خارجي. وقد تسمح الصورة المجازية العضوية ببعض أشكال الاختلاف ولكن لابد أن تنتظمها كلها في نهاية الأمر وحدة شاملة.

    ولعل أصدق مَثَل على مانقول هو الفرق بين فكر موسى بن ميمون والقبَّالاة اللوريانية. ففكر ابن ميمون فكر توحيدي راق متأثر بالتوحيد الإسلامي، وقد صاغ أصول الديانة اليهودية على أساس هذا التوحيد، هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي طرحت تصوراً للإله والكون ينطوي على كثير من الحلولية الوثنية والشرك ويحتوي على أصداء كثيرة (مشوهة) لعقائد الصلب والتثليث المسيحية. ورغم التناقض الشديد والعميق والجوهري بين الرؤيتين، فإن النسق الديني اليهودي قد استوعب هذه العقائد وجعل الإيمان بها شرطاً للإيمان، بينما يتحدث ابن ميمون عن إله واحد، وتتحدث القبَّالاه اللوريانية عن إله يتكون من أب وأم يتزاوجان، وعن تجلٍّ إلهي يأخذ شكل الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش ويتخاطب معها، ولكننا نكتشف أيضاً أنها الشعب اليهودي. ولذا حينما يُنفى هذا الشعب تُنفي معه الشخيناه. وقد حل محل كل هذا الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يعبِّر عن حلولية بدون إله (وحدة الوجود المادية)، حيث يحل الإله في المادة ويتوحد معها ثم يموت داخلها ولا يبقى سوى المقدَّسات المادية (بدون إشارة إلى إله متجاوز أو كامن).

    وفكرة التركيب الجيولوجي تتبدَّى في الحقيقة التي يشير إليها إسبينوزا وهي أن الصدوقيين (الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث أو اليوم الآخر ويصفهم علماء اليهود بالزندقة) كانوا يجلسون، في القرن الأول قبل الميلاد، جنباً إلى جنب مع الفريسيين في السنهدرين. ويمكن أن نشير نحن إلى رفض دار الحاخامية الرئيسية في إسرائيل الاعتراف بالحاخامات الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين أو بصلاحيتهم في إجراء أية شعائر دينية، ومع هذا لا يزال الإصلاحيون والمحافظون يشكلون الأغلبية الساحقة بين اليهود المتدينين. وقد صرح الحاخام ملتون بولين بأنه لا توجد يهودية واحدة وإنما هناك يهوديتان: اليهودية المحافظة والإصلاحية من جهة، واليهودية الأرثوذكسية من جهة أخرى.

    ومع هذا، يمكننا أن نقول إن أهم الطبقات داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي هي الطبقة الحلولية التي ترى الإله حالاًّ في الكون (الإنسان والطبيعة) كامناً فيهما، وهو ما يؤدي إلى الواحدية (المادية) الكونية التي تنكر التجاوز على الإله بحيث يصبح لا وجود له خارجها. وقد كانت هذه الطبقة كامنة في أسفار موسى الخمسة (وخصوصاً المصدر اليهوي) وحارب ضدها كُتَّاب المصدر الإلوهيمي والأنبياء، ولكنها عادت لتزداد قوةً مع التلمود ثم أصبحت النموذج الأساسي والقيمة الحاكمة مع هيمنة القبَّالاه. ومع تَصاعُد العلمانية، ظهرت الحلولية بدون إله التي نزعم أنها الطبقة الجيولوجية الأساسية في تفكير المثقفين اليهود المحدثين. وتاريخ اليهودية الذي نطرحه هو في واقع الأمر تاريخ تزايد درجات الحلولية، إلى أن نصل إلى مرحلة الحلولية بدون إله وهي وحدة الوجود المادية (في عصر الحداثة وما بعد الحداثة).

    وأدَّى إخفاق كثير من المفكرين الغربيين في فهم طابع اليهودية الجيولوجي (بسب خلفيتهم المسيحية) إلى تركيزهم على التوراة بالدرجة الأولى، وخصوصاً كتب الأنبياء، وإدراكهم اليهودية من خلال هذا المنظور وحده، إذ أهملوا التلمود ولم يسمعوا عن القبَّالاه إلا اسمها، وهو منظور جزئي مقدرته التفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد.

    وقد يذهب البعض إلى أن ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» هو في واقع الأمر تعبير عن شكل من أشكال التعددية، وهو أمر يَصعُب قبوله. فالتعددية تفترض وجود قدر من الوحدة المبدئية، ويتم التنوع والتعدد داخل هذه الوحدة، فلا تَنوُّع دون تَحدُّد، ولا تَعدُّد دون قـدر من الوحـدة. لكن اليهودية ـ كما أوضحنا ـ تفتقر إلى مثل هذه الوحدة بسبب غياب أية معايير مركزية يهودية.

    أسـباب تحــول اليهـودية إلى تركيــب جيولوجـي تراكـمي
    Judaism as a Cumulative Geological Construct: Causes
    تتسم اليهودية كنسق ديني بأنها تركيب جيولوجي تراكمي وليست وحدة عضوية متجانسة، وهذا يعود إلى عدة أسباب نجملها فيما يلي:

    1- لعل أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية أن العهد القديم بكل أجزائه لم يُدوَّن إلا بعد نزوله (أو وضعه) بفترة طويلة. وإذا كان التاريخ الافتراضي للخروج هو عام 1200 ق.م، فإن هذا يعني أنه لم يُدوَّن إلا بعد ذلك التاريخ بمئات السنين، كما يعني أنه دُوِّن على عدة مراحل ومن خلال مصادر مختلفة. ولم تُعتمد النسخة التي تُسمَّى «القانونية»، أو «المعتمدة»، إلا بعد المسيح. ومن أهم الأدلة على ذلك مخطوطات البحر الميت التي تتضمن أكثر من نسخة مختلفة للسفر الواحد بصياغات متعددة. وحينما تم تدوين الكتاب المقدَّس، كانت قد دخلت اليهودية مفاهيم وشعائر مختلفة وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.

    2 ـ انتقل العبرانيون القدامى (كبدو رحل) من مكان إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، من مصر إلى كنعان عبر سيناء، ومن كنعان إلى بابل، وعبر هذه الرحلة تعرفوا على الفكر التوحيدي في الحضارة المصرية في عهد إخناتون، وفي سيناء (بين المدينيين)، ثم استوعبوا الحضارة الكنعانية ومن بعدها العبادة البابلية. وبعد ذلك، هيمنت فارس على الشرق الأدنى القديم وتبعتها اليونان. ودخلت اليهودية عناصر من كل هذه الحضارات بعباداتها المختلفة.

    3 ـ لم تتمتع العقيدة اليهودية بوجود سلطة تنفيذية مركزية تساندها وتتخذ منها عقيدةً وأساساً للشرعية. ونتج عن ذلك انعدام وجود سلطة دينية مركزية تحافظ على جوهر الدين وتبلور مفاهيمه ومعاييره. وفي الفترة القصيرة التي أُسِّست فيها المملكة العبرانية المتحدة وقامت فيها سلطة دينية مركزية حول الهيكل، لم تكن العبادة اليسرائيلية قد تبلورت بعد، كما يتضح في سلوك سليمان الذي سمح لزوجاته باستقدام آلهتهن وكهنة عباداتهن. ولم تُعمِّر السلطة المركزية طويلاً إذ تأسَّس مركز آخر في بيت إيل بعد انقسام المملكة إلى مملكتين. وقد ازداد بعد ذلك تعدُّد المراكز والتبعثر مع انتشار الجماعات اليهودية في العالم، حين ظهر مركز ديني قوي في بابل (يتحدث الآرامية) وآخر في مصر لا يعرف العبرية ويتحدث اليونانية. وقد تم كل هذا قبل تبلور اليهودية بل قبل الانتهاء من تدوين وتقنين العهد القديم. ومن هنا، فحتى إذا كان في الإسلام أو المسيحية انقسامات وتنوعات، فإنه يظل هناك موقف أصولي أو مركز أرثوذكسي يحدِّد المؤمن والمهرطق أو الكافر. أما في اليهودية، فمع غياب هذا المركز، كان المهرطقون يستمرون في تجديفهم ويسمونه «يهودية»، حتى إذا ما وصلنا إلى العصر الحديث وجدنا أن عدد الأرثوذكس لا يزيد على 4% من مجموع يهود العالم، ويوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو اللا أدريين أو غير المكترثين بالدين الذين يسمون أنفسهم مع هذا «يهوداً».

    4 ـ مع سقوط المملكة الجنوبية والتهجير البابلي، انتهت العبادة القربانية المتمركزة حول الهيكل. ولكنها مع هذا تركت طبقات جيولوجية مهمة في اليهودية التلمودية على شكل عدد هائل من الطقوس والمدونات، مثل: القوانين الخاصة بالكهنة، وبعض الشعائر كالسنة السبتية، وكثير من الصلوات.

    5 ـ ولكن العنصر الأساسي والحاسم الذي أدَّى إلى ظهور الخاصية الجيولوجية التراكمية هو مفهوم الشريعة الشفوية الذي أضفى قداسة على فتاوى فقهاء اليهودية وتفسيراتهم ووضعها في مرتبة أعلى من كتاب اليهود المقدَّس نفسه. وقد ظهرت مدارس ونظريات في التفسير لا حصر لها ولا عدد، بعضها ينكر أية علاقة بين الدال والمدلول، أي بين كلمات العهد القديم ودلالاتها المباشرة، بحيث أصبح في وسع المُفسِّر (من خلال التفسير الرمزي أو التفسير القبَّالي أو التفسير الرقمي) أن يفرض أي معنى يشاء.

    6 ـ وكانت اليهودية عبر تاريخها، حتى ظهور اليهودية الحاخامية، تكتسب هويتها من أنها ديانة تنزع إلى التوحيد في محيط وثني مشرك. ولكنها حينما وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، حاولت أن تشكِّل هوية جديدة تستند إلى تصوُّر أسطوري حلولي للواقع، كما يتضح بشكل جنيني في التلمود، وبشكل واضح جليّ في القبَّالاه. ورغم ظهور الفكر الأسطوري، فإن هذا الفكر الأسطوري لم ينبذ الفكر التوحيدي وإنما حاول أن يتعايش معه.

    7 ـ ظلت اليهودية، لفترة طويلة من تاريخها، مجرد ممارسات طقوسية تحكمها إما سلطة مركزية أو فتاوى الحاخامات دون أن يتم تحديد العقائد الأساسية. وحينما قام موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر بتحديد أصول الدين اليهودي، فإن كثيراً من العقائد أو المعتقدات الفلكلورية الحلولية الوثنيـة كانت قد وجـدت طريقها بالفعـل إلى العـهد القديم والتلمود. وعلى كلٍّ، لم يُكتَب لمحاولة موسى بن ميمون أن تهيمن على اليهودية وتكتسب المركزية التي تستحقها، حتى يتم استبعاد العقائد المنافية للتوحيد. ولكن ما حدث هو أن الاجتهاد الميموني كان مجرد طبقة جيولوجية جديدة تضاف إلى الطبقات الأخرى السابقة واللاحقة. ثم زادت هيمنة القبَّالاه بعد هذه المحاولة بفترة قصيرة.

    8 ـ لكن انتقال مركز اليهودية إلى تربة مسيحية تؤمن بالتثليث (واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد) لم يساعدها كثيراً على التطور، إذ أن الفكر الديني بدأ يتصور الإله وكأنه يتجلى تجليات مختلفة (التجليات النورانية العشرة أو السفيروت). وقد وُلدت هذه التصورات في أحضان التفكير القبَّالي الشعبي الذي كان يتأثر بالأفكار الدينية المسيحية دون أن يستوعبها ثم ينقلها إلى تربة يهودية فيتم تشويهها.

    9 ـ كان اليهود في العالم الغربي الذي انتقل إليه مركز اليهودية، مع نهاية العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة منعزلة لا تتمتع بمستوى ثقافي رفيع، في مجال التنظير الديني على الأقل. كما أن هذه الجماعة لم تكن تشعر بالطمأنينة، وهذا ما جعلها تنغلق على نفسها، وقد انعكس هذا على النسق الديني اليهودي إذ بدأت الطبقات تزداد تنوعاً وتبتعد عن التجانس.

    10- ظلت اليهودية ـ بكل طبقاتها الجيولوجية المتراكمة ـ متمركزة داخل الجيتو. وقد تصالح التراث التلمودي والتراث القبَّالي داخل مؤسسة اليهودية الحاخامية، وإن كانت علامات التوتر قد ظهرت بينهما في الصراع بين الحسيديين والمتنجديم. وجاء الإصلاح الديني البروتستانتي، لكنه لم يؤثر كثيراً في اليهودية التي كانت مراكزها موجودة في شرق أوربا (أساساً) في تربة أرثوذكسية بمنأى عن التغيرات الفكرية والبنيوية التي كانت تحدث في القارة الأوربية. وحينما اندلعت الثورة الفرنسية وبدأت عملية تحديث اليهودية، لم يكن النسق الديني اليهودي مهيأً لذلك، وخصوصاً أن أوربا ذاتها كانت قد طرحت الإصلاح الديني وراءها وبدأت تتخلى عن الرؤية الدينية وتدخل عالم العلمانية الحديث الذي لا يكترث كثيراً بالدين بل يحوله إلى اقتناع شخصي يُمارَس في المنزل ولا ينظم السلوك الاجتماعي بأية حال. وفي مواجهة ذلك التحدي الأكبر، تآكل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي تماماً إذ أن الإصلاح الديني اليهودي، الذي أخذ شكل اليهودية الإصلاحية، كان في واقع الأمر محاولة لعلمنة اليهودية لا لإصلاحها. ولذا، فقد أسقط كثيراً من الشعائر والعقائد التي تتنافى مع العقل والمنطق، وحاول أن يعيد صياغة اليهودية حسب مقاييس بروتستانتية شـبه علمانية. كما انتشـر الإلحاد بين كثير من اليهود واستمروا، مع هذا، في تسمية أنفسهم «يهوداً»، ذلك أن الشريعة اليهودية تعترف بهم كيهود، فاليهودي هو من وُلد لأم يهودية.

    11 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن المجتمعات الصغيرة (والهامشية) هي عادةً مجتمعات تحتفظ بكل شيء، فهي مجتمعات لا شخصية. ففي واحة سيوه لا تزال توجد بعض العادات والمفاهيم التي تعود إلى أيام الفراعنة واليونانيين. وإذا قبلنا هذا الرأي، فيمكن القول بأن اليهودية كانت دائماً تتحرك في تربة المجتمعات الصغيرة (المجتمع العبراني قبل التهجير ـ الجيتوات اليهودية في أنحاء العالم)، ولهذا السبب تعمقت الخاصية الجيولوجية. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات الوظيفية حينما ينتقلون من مجتمع إلى آخر يحملون معهم بعض الأشكال الحضارية من المجتمع السابق، والتي تتكلس تماماً بمرور الوقت وتتحول إلى طبقة جيولوجية جديدة.

    مظاهر ونتائج تحــول اليهــودية إلى تركـيب جيولوجــي تراكمــي
    Judaism as a Cumulative Geological Construct: Manifestations and Consequences
    تتسم اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكميس، بأنها تنطوي على تناقضات حادة وعلى غموض شديد في بعض المفاهيم، ولنأخذ مفهوماً محورياً كمفهوم الإله مثلاً. تُصنَّف اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية، غير أن العهد القديم يتضمن من النصوص ما يتناقض مع هذا إذ يُفهم منها أن ثمة آلهة غير يهوه، وتُستخدَم صيغة الجمع «إلوهيم» ومفردها «إيلوَّه»، وتتبع الاسم صفة في صيغة الجمع («إلوهيم إحيريم» أي «آلهة أخرى»)، وهو ما تحاشاه مترجمو النسخة السبعينية للإشارة إلى الإله، حيث يتحول «إلوهيم» إلى اسم من أسماء الإله. والإله، في بعض المقاطع، يسمو على العالمين والبشر ويتجاوز الطبيعة والتاريخ، ولكنه في البعض الآخر يحل في الطبيعة والتاريخ ويتوحد معهما ويتسم بصفات البشر. وفي اللقاء بين الإله وموسى على جبل سيناء، لا تحدد المصادر التلمودية ما إذا كان موسى شاهده وجهاً لوجه وهل اشترك الشعب في الرؤية، أم أنه لم يشاهده أحد (أي هل ظل الإله متجاوزاً لا تدركه الأبصار أم أنه تجسد فرآه موسى؟). ويتبدَّى اختلاط رؤية العهد القديم بالإله في الإشارة إلى الترَافيم (الأصنام) فترة إشارات إيجابية وإشارات سلبية، فليس هناك موقف حاسم منها يحدد ما إذا كانت موضع قبول أو موضع رفض. والإشارة إلى عزازئيل تتضمن أيضاً وجود قوى مطلقة إلى جوار الإله.

    وقد ظل هذا التناقض العميق يسم الرؤية اليهودية، ففي التلمود تُنسب إلى الإله صفات بشرية عديدة، وهو غير معصوم من الخطأ أو الندم، بل إن إرادته لا تعلو على إرادة الحاخامات. أما في تراث القبَّالاه، فينفرط عقده تماماً ليتحول إلى تجليات مختلفة، وإلى عناصر ذكورة وأنوثة بما يشبه الآلهة الوثنية اليونانية أو الرومانية في بعض النواحي. وتظهر الخاصية الجيولوجية أيضاً في الأفكار الأخروية التي لم تستقر تماماً في اليهودية ولم تكتسب شكلاً محدداً. فالعهد القديم، بكامله تقريباً، ينكر فكرة البعث حيث لا تظهر هذه الفكرة بشكل محدد إلا في كتاب دانيال (في مرحلة متأخرة)، كما أنها لم تستقر استقراراً كاملاً في الفكر الديني اليهودي. والشيء نفسه ينطبق على فكرة الثواب والعقاب. ولهذا فإننا، عند ظهور المسيح، نجد العديد من الفرق اليهودية المتنافرة، ومن بينها الصدوقيون الذين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، رغم أنهـم كانوا يشـكلون فئة دينية مركزية في غاية الأهمية، فكان منهم الكهنة كما كانوا يجلسون مع الفريسيين في السنهدرين. وقد أشار إسبينوزا، فيلسوف العلمانية والحلولية، إلى هذه الحقيقة ليدلل بها على أن الإيمان بالآخرة ليـس أمراً جوهرياً في اليـهودية.

    وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية في مفاهيم محورية أخرى مثل حائط المبكى. فالفقه اليهودي لم يهتم على الإطلاق بحائط المبكى أو الحائط الغربي. ولهـذا، لم يأت له ذكر في الكتابات الدينيـة أو كتب الرحالة. ولكن، يبدو أنه بتأثير فكر يهود المارانو الحلولي الذي يتبدَّى في شكل تقديس للأشياء التي يفترض أن الإله يحل فيها، وتحت تأثير الشعائر الإسـلامية حيث تُعـد فريضـة الحج إلى الكعبة أحد أسس الإسلام الخمسة، تحول الحائط إلى مزار، ثم أصبح من أهم الأماكن قداسة في العقيدة اليهودية، وأصبح الاستيلاء عليه في رأي بعض المتمسكين بأهداب العقيدة اليهودية فرضاً دينياً. ومع هذا، فإن الحاخام الأرثوذُكسي هيرش، الذي يعيش على بعد عدة خطوات من الحائط، يرفض زيارته، وذلك لأن الشريعة اليهودية (كما يرى) تُحرِّم ذلك على اليهود، وهكذا فإن أصحاب المواقف المتناقضة يجد كل منهم سنداً لموقفه داخل الشريعة اليهودية.

    وهناك تناقض من هذا النوع بشأن قضية الأرض، إذ يرى معظم الصهاينة المتدينين أنه لا يمكن التفريط في شبر واحد من الأرض التي احتلها الإسرائيليون قبل بعد عام 1967 وهم يدعمون رأيهم هذا بالعودة إلى كتب اليهود المقدَّسة. أما الحاخام عوبديا يوسف، حاخام السفارد السابق، فيطالب بغير ذلك، إذ يرى أن بالإمكان التنازل عن الأرض مقابل السلام لأن في هذا حقناً لدماء اليهود (وقد وجد هو أيضاً الاقتباسات المناسبة). بل هناك تناقض، ومن ثم اختلاف، يتصل بإحدى الوصايا العشر (: لا تقتل)، إذ أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في مدينة نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين. ومن قبل، صرح أحد الحاخامات التابعين للحاخامية العسكرية بأن الجنود الإسرائيليين يمكنهم قَتْل حتى أفضل الأغيار. وقد وجد كل منهما الاقتباسات اللازمة لتأييد رأيه. وقد احتج الحاخام أبراهام سابيرو، حاخام الإشكناز الأكبر بقوله إن الإله (حسبما جاء في التوراة) قد خلق كل البشر على صورته، وأن الوصية الخاصة بعدم القتل هي إحدى وصايا نوح، وبالتالي فهي مُلزمة لجميع البشر، يهوداً كانوا أم أغياراً. وهو محق في قوله وفي استشهاده، تماماً مثل الحاخامات الداعين للقتل. وقد أدَّى كل هذا إلى أن اليهودية أصبحت مصدراً للشقاق بين يهود العالم داخل وخارج إسرائيل بدلاً من أن تصبح إطاراً واحـداً يجمعـهم ويُضــفي عليهم شيئاً من الوحدة، وأصبحت العقيــدة اليهودية في الــدولة الصهيونية مصــدراً أساســياً للانقســام والصراع الاجتماعي والثقافي.

    وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية التراكمية في الأعياد، فعيد الفصح بطقوسه المركبة نتاج تراكمات جيولوجية عديدة ابتداءً من عيد الخبز غير المخمر (الكنعاني) وانتهاءً بنظام المأدبة (الروماني). كما تتضح الخاصية الجيولوجية التراكمية في تزايد الأعياد (الواحد تلو الآخر) عبر السنين، وهو أمر لم يتوقف بعد، إذ تحوَّل (على سبيل المثال) يوم إعلان استقلال إسرائيل إلى عيد ديني. وثمة محاولة في إسرائيل لتحويل هذا العيد إلى عيد الفصح الحقيقي باعتبار أن إعلان استقلال إسرائيل هو خروج اليهود الحقيقي!

    كما أن الصلاة اليهودية قد نالتها هي الأخرى تغييرات لا حصر لها ولا عدد، وهو أمر لا يزال يحدث حتى الآن، فبعد أن أُضيفت إليها قصائد البيوط (من قبل) تم حذفها مؤخراً، كما يتم تغيير النصوص والأدعية وكتب الصلوات من آونة إلى أخرى.

    وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية كذلك في المحاولة الحديثة لإعادة صياغة العقيدة اليهودية بالشكل الذي يتفق مع ملابسات ما بعد أوشفيتس (أي ما بعد النازية) إذ يقول بعض المفكرين الدينيين اليهود: إن الإله قد تخلى عن اليهود في محنتهم، ولذلك لابد أن تُعاد صياغة كل شيء وضمن ذلك محاولة التوصل إلى يهودية بدون إله. بل ذهب بعضهم إلى المناداة بأن الإله قوة شريرة.

    وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية بكل حدة في تعريف الشريعة اليهودية لليهودي بأنه من يؤمن بالشريعة ومن وُلد لأم يهودية. وهو تعريف يجمع بين فكرة الإيمان بالإله الواحد الذي يستند إلى الاختيار، الذي ينتج عنه سلوك أخلاقي محدد، وبين الفكرة الوثنية القائلة بأن الانتماء هو انتماء عرْقي للشعب (كما هي عادة شعوب الشرق الأدنى القديم وغيرها من الشعوب القديمة).

    وبإمكاننا أن نقول إن الخاصية الجيولوجية التراكمية تتبدَّى في التناقض الحاد بين النزعة الحلولية الحادة التي تُوحِّد الإله والشعب والأرض، كما هي عادة الديانات القديمة من جهة، ومن جهة أخرى النزعة التوحيدية المتسامية التي ترى أن الخالق مفارق لمخلوقاته وأنه هو الذي يحكم عليهم ويوجههم ويميتهم ويحييهم، وأنه هو الذي شاء وأعطاهم حرية الاختيار بين الخير والشر، والنزعتان (على تناقضهما) موجودتان في اليهودية

    وتنطلق كلٌّ من اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة من تَقبُّل الخاصية الجيولوجية التراكمية دون أن تسمياها كذلك. فاليهودية الإصلاحية تختار ما تشاء وتَرفُض ما تشاء بما يتفق مع العقل وروح العصر. أما اليهودية المحافظة، فتفعل الشيء نفسه، على أن يتم الاختيار على أساس ما يتفق مع روح الشعب اليهودي. وقد اعتبر الإصلاحيون كتاب اليهود المقدَّس أي العهد القديم وثيقة ذات شأن عظيم وليـس وحياً مقدَّسـاً. ووجـدوا في النسـق الجيولوجي ما يؤيد وجهة نظرهم. أما اليهودية المحافظة فقد حوَّلت العقيدة اليهودية إلى ما يشبه فولكلور الشعب اليهودي، ووجدت أيضاً ما يساندها. ثم ظهرت الصهيونية التي أنكر مفكروها الأوائل وجود الإله، ثم جعل مفكروها المحدثون فكرة الإله ثانوية. ومع هذا، فقد بحثوا عن شرعية لآرائهم في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي ووجدوا ضالتهم. ومع أن اليهودية الأرثوذكسية وقفت في البداية بضراوة ضدالصهيونية من منظور ديني (على اعتبار أن اليهودية تحرِّم العودة، بينما التلمود يراها من قبيل الهرطقة والتجديف) فإنها غيَّرت موقفها وتصالحت مع الصهيونية ووجدت أن الدولة الصهيونية هي ما يُسمَّى «بداية الخلاص»، وهو مفهوم تلمودي أيضاً اكتشفه منذ البداية بعض الحاخامات الأرثوذكس القبَّاليين، مثل كاليشر والقلعي، ثم تبعهما إسحق كوك. وفي الوقت الحالي، فإن معظم اليهود الأرثوذكس يؤيدون الصهيونية بتعصب شديد من منظور ديني أيضاً. وكلا الموقفين، القابل للصهيونية والرافض لها، يجد ما يستند إليه في كتب اليهود المقدَّسة.

    ومن الملاحَظ أن نصف يهود العالم لا يلتزمون الحد الأدنى من الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالإله. ومع هذا، فإننا نجدهم مستمرين في إطلاق عبارة «يهود إثنيون» على أنفسهم، ورغم ذلك فقد قبلتهم المؤسسات الدينية اليهودية التي عرَّفت اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية. وقد ظهرت اتجاهات أخرى مختلفة مثل اليهودية التجديدية وتسميات يكتنفها التناقض مثل «اليهودية العلمانية»، وهناك تسمية إسحق دويتشر الكلاسيكية «اليهودي غير اليهودي»، وهو التعبير العبثي النهائي عن الخاصية الجيولوجية التراكمية. وتتجلى هذه المسألة نفسها في إسرائيل في إشكالية «الهوية اليهودية»، (أي إشكالية من هو اليهودي؟)،والذي عرَّفه أحدهم بأنه « من يرى نفسه كذلك » دون الاحتكام إلى أية معايير دينية خارجية،بحيث يصبح الانتماء الديني أشبه بالحالة الشعورية أو المزاجية.

    عناصــر في اليهــودية مـن الـديانات والحضـارات الأخـرى
    Elements in Judaism from other Religions and Cultures
    لابد أن نبيّن ابتداءً أن هناك رقعة عريضة مشتركة بين كل الأديان باعتبارها تعبيراً عن شيء أساسي في النفس البشرية: وهو رغبة الإنسان في تأكيد إنسانيته وتعريفها باعتبارها كياناً متميِّزاً يتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم الحيوانات والحشرات التي تحيا وتموت دون وعي ودون هـدف أو غايـة ودون أية منظـومات معرفية أو أخلاقيـة أو جمالية، فهي تعيش مبرمجة حسب برنامج الطبيعة/المادة. هذه الرغبة الإنسانية هي ما نسميه «النزعة الربانية». وهي رغبة كامنة في الجنس البشري تولِّد من داخل عقل الإنسان، المستقل عن عالم الطبيعة/المادة، أفكاراً وأحلاماً ورؤى. ولذا فمن المتوقع أن تكون هناك عناصر مشتركة بين هذه الأفكار والرؤى تتجلى على هيئة رقعة مشتركة بين كل الديانات في العقائد والرؤى والطقوس والشعائر. ومع هذا لا يمكن إنكار أن عقيدة ما يمكن أن تتأثر بأخرى، وأن درجات التأثر هذه تختلف من عقيدة لأخرى. ونحن نذهب إلى أن درجة تأثر اليهودية بما حولها من عقائد أدَّى إلى ظهور خاصيتها الجيولوجية التراكمية التي تتبدَّى في الاقتباسات العديدة غير المتجانسة من الحضارات الأخرى، وخصوصاً إبَّان المواجهات الأساسية الخمس للعقيدة اليهودية مع الحضارات: الكنعانية والبابلية والهيلينية والمسيحية والإسلامية، وأخيراً مواجهتها مع الحضارة العلمانية الحديثة في الغرب.

    ولنبـدأ بالمصريين القـدماء. يبدو أن قصة يوسف ذات أصل مصري، ويُلاحَظ فيها وجود لمسات مصرية هنا وهناك. ففي سفر التكوين (41/14) يحلق يوسف رأسه قبل المثول أمام فرعون، وقد كانت هذه عادة معروفة في مصر، ولم تكن معروفة عند الساميين. وقد أثَّر نظام الكهنوت المصري في نظام الكهنوت اليهودي، وكذلك في هندسة الهيكل التي تشبه هندسة المعابد المصرية، كما أثَّر التراث المصري في بعض مظاهر العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية مثل تابوت العهد وقدس الأقداس وغيرها. ولكن الأهم من كل هذا هو الأثر الذي تركه المصريون في اليهود في مجال العقيدة. فقد ترك الفكر التوحيدي المصري القديم، وعبادة إخناتون التوحيدية، أثراً واضحاً وعميقاً في العبرانيين، وفي رؤيتهم للإله بشكل عام. كما يتضح هذا الأثر بشكلٍ محدَّد في المزامير التي وجد الباحثون أمثال هنري برستيد فيها أصداء لأناشيد إخناتون الدينية، فالمزمور 94 مستوحى بصورة جلية من «نشيد آتون»، والمزمور 104 مأخوذ عن «نشيد الشمس» في عهد إخناتون. بل يمكن القول بأن بعض الأوجه الإيجابية للرؤية الأخلاقية العبرانية تعود إلى الحضارة المصرية التي أكدت فكرة الثواب والعقاب. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاب الأمثال في العهد القديم يكاد يكون ترجمةً لأحد كُتب الحكمة المصرية. كما أخذ العبرانيون شعيرة الختان، وفكرة تحريم الخنازير، ومبدأ النجاسة، من المصريين القدامى. ولا يعني هذا أن العبرانيين تبنوا هذه العقائد والمفاهيم بقضها وقضيضها، فالتوحيد بين العبرانيين قد انتكس في مرحلة لاحقة، وكذا القيم الأخلاقية، وإنما يعني ذلك أن التراث المصري الديني والأخلاقي ترك أصداءً عميقةً في وجدان العبرانيين.

    وقد تأثر العبرانيون بحضارة الكنعانيين في كثير من المجالات، فبعض صفات يهوه هي من صفات بعل إله الكنعانيين. وبعض التحريمات (مثل طبخ الجدي في لبن أمه) هي عادات كنعانية قديمة. وكـثير من الأعيـاد اليهـودية، مثل عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ذات أصل كنعاني. وقد كشفت الكتابات الأوجاريتية مدى عمق تأثير الفكر الديني الكنعاني في العبادة اليسرائيلية، ويُقال إن المزمور 29 مأخوذ من نشيد كنعاني وُضع أصلاً لبعل العاصفة، وعُثر عليه في أوجاريت. ويبدو أن القصص الدينية للأقوام السامية الأخرى، مثل الأدوميين، قد وجدت طريقها إلى الفكر الديني اليسرائيلي كما يتضح من سفر أيوب. ويذكر العهد القديم بعض الشعائر والعقائد التي تم تبنيها، ثم استُبعدت في مرحلة لاحقة، مثل التضحية على المذابح، والثعبان النحاسي، ومركبات الشمس في الهيكل، والعجول الذهبية. ولكن هناك شعائر أخرى لم تُنبَذ مثل التضحية بكبش للمعبود عزازئيل.

    ويُلاحَظ على أسفار موسى الخمسة أن كثيراً من نصوصها يتشـابه مع أسـاطير سـومرية وبابلية، وتشـريعات بابلية قديمة، ومثال ذلك:

    ـ تشابه سفر التكوين (1 ـ 11) وملحمة الخلق البابلية.

    ـ التشابه بين الأعمار المديدة لآباء البشرية منذ آدم حتى نوح (عشرة منهم مجموع أعمارهم 8575 سنة) في سفر التكوين (5)، وفي قائمة سومرية جاء أن ثمانية ملوك قبل الطوفان حكموا 241.200 سنة، وهناك قائمة بابلية جاء فيها أن عشرة حكام حكموا 432 ألف سنة.

    ـ تشابه قصة الطوفان في سفر التكوين مع ملحمة جلجاميش التي ورثها البابليون عن الحضارة السومرية.

    ـ تشابه قصة مولد موسى مع قصة مولد سرجون ملك أكاد.

    ـ وضوح تأثير قانون حمورابي (1900ق. م تقريباً) في التشريع الوارد في سفر الخروج (21 ـ 23) والوصايا العشر.

    كما تأثر اليهود بكثير من الشعائر والعقائد البابلية، مثل السبت، وتغطية الرأس أثناء الصلاة،وفكرة يوم الحساب،والتقويم.

    ولم يتوقف تأثر اليهودية بالديانات والحضارات الأخرى مع العودة من بابل، فقد ظل هذا النمط سائداً إذ تأثر اليهود بفكرة الماشيَّح من التراث الفارسي. كما دخل على اليهودية كثير من الأفكار الثنوية، وهو ما أثر في أدب الرؤى والأفكار الأخروية. وأثَّر الفكر الهيليني في الفكر الديني اليهودي، فسفر الجامعة يتضمن رؤية عدمية تشبه من بعض الوجوه الفكرة الإغريقية الخاصة بأن التاريخ مثل الدورات الهندسية المحضة التي تبدأ وتنتهي بلا معنى. بل إن فكرة الشريعة الشفوية نفسها من أصل هيليني، إذ كان اليونان يرون أن القانون الشفوي أهم وأكثر شرعية من القانون المكتوب. كما أن فكرة «الآدم قدمون» (الإنسان الأزلي) هي خليط من فكر بابلي وفارسي (وقد وردت في كتابات المندائيين) أما فكرة «تهشُّم الأوعية» فهي فكرة أسطورية يونانية وردت في تراتيل أورفيوس وتشير إلى «تلوث الأشعة» أو الومضات الإلهية في روح الإنسان أثناء هبوطه بفعل «التيتان العشرة المعلقة بين السماوات والأرض».

    واستمرت اليهودية بعد ذلك في تبنِّيها عناصر من الإسلام، فصاغ سعيد بن يوسف الفيومي، ومن بعده موسى بن ميمون، أصول الدين اليهودي متأثرين في ذلك بمحاولات الفقهاء المسلمين تحديد أصول الدين الإسلامي. كما تأثرت اليهودية بالفكر الديني المسيحي في تراث القبَّالاه، خصوصاً بفكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت). بل إن احتفالاً يهودياً مثل الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه)، وهو من أهم الاحتفالات اليهودية في الولايات المتحدة، لم يكن معروفاً في اليهودية الحاخامية وإنما أُخذ عن المسيحية الكاثوليكية فيما يُسمَّى «التناول الأول».

    لكن تأثر اليهودية بالعقائد والديانات الأخرى، ليس ميزة أو عيباً في حد ذاته، فثمة رقعة مشتركة واسعة بين كل الديانات والعقائد (كما أسلفنا). والكتب المقدَّسة والعقائد الدينية، رغم استنادها إلى مطلق غير مادي متجاوز للطبيعة والتاريخ، إلا أنها تستمد مادتها من التاريخ فهي تتعامل مع أحداث تاريخية. وهي موجهة للبشر الذين يعيشون داخل الزمان. ولذا فرغم أن أساسها مطلق ومرجعيتها مطلقة إلا أنها تتعامل مع النسبي وتطوِّعه لتستوعبه داخل المرجعية الحاكمة النهائية. ولكن المؤثرات التي تراكمت داخل اليهودية ظلت متعايشة كطبقات جيولوجية غير مندمجة وغير مُستوعَبة في إطار مرجعي واحد، الأمر الذي وسم اليهودية بميسمه وجعل منها تشكيلاً جيولوجياً تراكمياً.

    ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الخاصية الجيولوجية التراكمية للنسق الديني اليهودي قد جعلت مقدرته الاستيعابية لعناصر من العقائد والأيديولوجيات الأخرى عالية إلى أقصى حد، وأدَّى هذا إلى أزمة حادة في اليهودية مع تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي إذ بدأ المفكرون الدينيون اليهود يتبنون أفكاراً لا علاقة لها بأي دين مثل تَقبُّل الشذوذ الجنسي، بل إنشاء معابد للشواذ من الجنسين، بل ترسيم حاخامات منهم وإنشاء مدارس دينية خاصة بهم، وأخيراً قبول فكرة لاهوت موت الإله. وهذه بدعة غربية جديدة تشكل جوهر العلمانية، ولكنها مع هذا تُسمِّي نفسها فكراً دينياً!

    العقائد (كمرادف لكلمة «أديان»)
    Religions
    تُستخدَم كلمة «عقيدة» بالمعنى العام مرادفة لكلمة «دين» أو «نسق ديني»، فيقال «العقيدة اليهودية» و«العقيدة المسيحية» و«العقائد السماوية»... إلخ. وحيث إننا نرى أن اليهودية تركيب جيولوجي يحوي داخله أنساقاً وأفكاراً دينية مختلفة متناقضة تراكمت عبر العصور، تتعايش جنباً إلى جنب، أو تتراكب كالطبقات الجيولوجية الواحدة فوق الأخرى، فإننا نستخدم الكلمة في صيغة «العقائد اليهودية» بمعنى أنها «أديان» لا بمعنى «أصول الدين اليهودي». وحتى حينما نستخدم اصطلاح «عقيدة يهودية» في صيغة المفرد، فإن المقصود هو: تركيب جيولوجي تراكم داخله عدد من الطبقات المتناقضة.

    العقــائد (بمعنى أصـول الدين وأركانـه)
    Creeds, Beliefs and Articles of Faith
    العقيدة هي الحكم الذي لا يقبل الشك لدى معتقده، وهو يقبلها حتى لو تناقضت بعض جوانبها مع العقل أو المنطق. والعقيدة في الدين هي ما يُقصَد به الاعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الإله وبعثه الرسل. والعقائد عادةً تشكل ركناً أساسياً من أركان أي دين، فإن هُدمت انتفى الإيمان. ويقابل كلمة «عقائد» بهذا المعنى أصول الدين وأركانه في الإسلام. ولما كان الفقه اليهودي قد تأثر بمصطلحات كل من اللاهوت المسيحي، والفقه الإسلامي في الوقت نفسه فإننا سنضطر إلى استخدام هذه المصطلحات كما لو كانت مترادفة.

    وعادةً ما تتم التفرقة بين العقائد التي يؤمن بها الإنسان والشعائر أو الطقوس التي يؤديها. فالأولى مسألة تختص بالقلب والضمير، والثانية تنتمي إلى العالم الخارجي، فهي أفعال محدَّدة تتبع نظاماً محدداً. ويذهب كثير من المفكرين إلى أن اليهودية تُعنى بالشعائر والأعمال ولا تُعنى بالإيمان، وهي في جوهرها أسلوب حياة ونظام للسلوك البشري لا عقيدة تُعتقد، ومجال تفكيرها منحصر بالدرجة الأولى في هذا العالم، والجزاء يكون حسب الأعمال لا حسب الاعتقاد. وتميِّز الموسوعة اليهودية بين استخدام الجذر اللغوي «آَمَن» ومشتقاته في العهد القديم، واستخدام كلمة «إيمان» أو «عقيدة» في العهد الجديد. فهي تقول إن الكلمة في العهد القديم تحمل معنى الثقة في الإله والاخلاص له لا الإيمان به أو بعقائد محدَّدة، وأن استخدام الجذر «آمن» ومشتقاته بمعـنى العقيدة والإيمان لم يظهر إلا في العصور الوسطى في الغرب تحت تأثير المسيحية.

    ولا يوجد في العهد القديم أي تحديد واضح لأركان الإيمان أو أعمدته، وإن كان هذا لا يمنع وجـود مفاهـيم إيمانية عامـة مثـل: الشماع، وضرورة الإيمان بوحدانية الإله والوصايا العشر. ولكن هذه الأفكار الدينية هي جزء من تركيب جيولوجي يضم العديد من الأفكار الأخرى المتناقضة وغير المتجانسة الوثنية والتوحيدية. فموقف العهد القديم من قضية مثل قضية الأصنام (ترافيم) ينطوي على التقبل الضمني في بعض الأجزاء، والرفض الكامل في بعـض الأجزاء الأخرى. ويتحدث العهد القديم عن الإله في صيغة الجمع (إلوهيم)، وعنه باعتباره إلهاً ضمن آلهة أخرى. كما نجد أن ثمة إشارات مستمرة إلى ملك اليهود بوصفه ابن الإله (أخبار أول 17/13). كما نجد أن فكرة البعث والآخرة تظل مبهمة وغير محددة. ويُلاحَظ تأرجُح رسالة الأنبياء بين العالمية والقَبَليِّة. وينسب العهد القديم إلى الآباء (إبراهيم ويعقوب وموسى) أفعالاً غير أخلاقية. ونجد أن الشعب، باعتباره جماعة دينية، يرتكب أفعالاً أبعد ما تكون عن الالتزام الخلقي وتعبِّر عن العصبية العرْقية مثل ذبح سكان شكيم رغم اعتناقهم اليهودية وتختنهم وترحيبهم بالعبرانيين (تكوين 34/25 ـ 27). ونجد أن مفهوم الميثاق بين الإله والشعب مُلزم للإله بغض النظر عما يقترفه اليهود من آثام وأفعال لا أخلاقية. كل هذه القيم والمفاهيم أصيلة في العهد القديم وتتناقض مع الشماع ووحدانية الإله وبعض الوصايا العشر!

    وقد ظلت اليهودية، رغم هذا التناقض، نسقاً دينياً يتعايش داخله هذا التناقض وتترسب فيه أفكار دينية أخرى (بالطريقة الجيولوجية التكاملية ). وظلت مجموعة من الممارسات الدينية، مثل الأوامر والنواهي، تستند إلى فتاوى الحاخامات أو إلى قرارات السلطة الدينية المركزية دون أن تكون هناك أركان واضحة للإيمان تنبع منها الممارسات. وظلت اليهودية عبر تاريخها مجموعة من الشعائر والممارسات، ودون تحديد للعقائد. وقد عرَّف المشرعُ اليهوديَ بأنه كل من وُلد لأم يهودية، فكأنه لا يحتاج للإيمان بعقيدة. وجاء في كتاب السنهدرين 44أ "حتى حينما يرتكب الإثم فهو يظل يهودياً".

    ومع هذا، كانت اليهودية تواجه تحديات دينية من الخارج حينما تجد نفسها في مواجهة حضارة أكثر تركيباً وحين تواجه نسقاً دينياً أكثر تحدداً وتجانساً. فكانت تضطر إلى أن تحدد أركانها. ولذا، نجد أن تحديد العقائد في غالب الأمر هو جزء من الاعتذاريات اليهودية ومحاولتها الدفاع عن نفسها أمام الأنساق الحضارية والدينية الأخرى. وهذا ما حدث إلى حدٍّ ما في المواجهة مع الحضارة الهيلينية، إذ حاول فيلون السكندري أن يحدد ما تصوره أركان الإيمان الأساسية بخمسة:

    1 ـ الإله موجود ويحكم العالم.

    2 ـ الإله واحد.

    3 ـ العالم مخلوق.

    4 ـ العالم واحد.

    5 ـ الإيمان بالعناية الإلهية.

    ويبدو أن الفكر الديني اليهودي قد أخذ يتحدَّد بعض الشيء في القرن الأول قبل الميلاد إذ يشير يوسيفوس إلى أن الصراع بين الصدوقيين والفريسيين كان صراعاً عقائدياً بالدرجة الأولى ويدور حول قضايا مثل الإيمان بالعالم الآخر والشريعة الشفوية والقدرية، وهل هي مطلقة أم جزئية.

    ومع ظهور المسيحية، تقهقر الفكر الديني اليهودي مرة أخرى، وبدأت اليهودية الحاخامية التلمودية في التشكل حتى أخذت شكلها النهائي في التلمود. وثمة محاولة واهية، في هذا الكتاب الضخم، لتحديد أصول الدين في كتاب السنهدرين إذ يستبعد من حظيرة الدين:

    1 ـ كل من يُنكر البعث.

    2 ـ كل من يُنكر أن التوراة مُوحى بها من الإله.

    3ـ الأبيقوريين الذين يُقال إنهم الملاحدة أو الصدوقيون.

    وغني عن القول أن هذا التحديد عام جداً ويترك قضايا جوهرية دون تعريف. ولكن الأدهى من هذا هو أن التلمود كتاب ضخم يحتوي على العديد من الأفكار المتناقضة، كما أن نصوصه تنقسم إلى قسمين: النصوص التشـريعية (هـالاخاه)، والنصوص الوعظية القصصية (أجاداه)، وقد تتسم الأولى بشيء من الوضوح، أما الثانية، فتضم عدداً هائلاً من القصص والمرويات فيها كثير من العناصر الوثنية وتتحدث عن الإله بلغة حلولية تجسيمية. ثم نأتي لقضية التفسير، فحسب مفهوم الشريعة الشفوية تنسخ آراء الحاخامات آراء الإله نفسه، وهو أمر وافق عليه الإله. وكما جاء في التلمود فإن الإله قد أعطى الإنسان التوراة، ولذا فقد أصبح من حق الإنسان أن يخضعها لأي تفسير يشاء. وتكتسب تفسيرات الحاخامات شرعية من تصوُّر أن موسى في سيناء تلقَّى الشريعتين: المكتوبة والشفوية. وهكذا فُتح الباب على مصراعيه لكل العقائد. ونجد في التلمود أفكاراً دينية أكثر تناقضاً وتنوعاً وتنافساً من تلك التي وردت في التوراة.

    وقد ظل الحال على ذلك حتى دخلت اليهودية فلسطين وبابل (دائرة الحضارة العربية الإسلامية)، وواجهت أكبر تحدٍّ لها يتمثل في حضارة تستند (على عكس المسيحية) إلى فكر توحيدي لا شبهة فيه، وتُحدِّد عقائدها بشكل لا يحتمل أي إبهام أو غموض. وواجهت اليهودية أهم أزماتها التي تمثلت في الانقسام القرَّائي الذي رفض الشريعة الشفوية، وتمسَّك بالتوراة وحاول تحديد العقائد.
    ولذا، لم يَعُد بإمكان اليهودية الحاخامية أن تظل مجرد ممارسات تستند إلى فتاوى. فقام أهم المتحدثين باسمها (سعيد بن يوسف الفيومي)، في القرن العاشر، بتحديد أصول اليهودية التسعة بأنها:

    1 ـ العالم مخلوق من العدم.

    2 ـ وحدة الإله.

    3 ـ الأنبياء.

    4 ـ الانسان مخيَّر وليس مسيَّراً.

    5 ـ الثواب والعقاب في هذا العالم.

    6 ـ الروح ومصيرها.

    7 ـ البعث.

    8 ـ خلاص يسرائيل.

    9 ـ خلود الروح، والثواب والعقاب في الآخرة.

    وفي الفترة نفسها، قام آخرون بمحاولات مماثلة. وفي القرن الحادي عشر، قام يهودا اللاوي بمحاولة مماثلة. ورغم أن هؤلاء المفكرين الدينيين ناقشوا العقائد، فإنهم لم يحددوا ما هو أساسي وما هو فرعي فيها، أي أنهم لم يحددوا أصول الدين. ولكن أهم المحاولات، وأكثرها محورية هي محاولة موسى بن ميمون؛ الفيلسوف العربي اليهودي (أو الفيلسوف العربي الإسلامي المؤمن باليهودية) الذي تأثر بعلم الكلام فدرس أصول الدين، وحَدَّد جذور اليهودية التي تُسمَّى بالعبرية «عيقَّاريم»، وهي ترجمته لكلمة «أصول». ولقد لخصها في ثلاثة عشر أصلاً:

    1 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الموحّد والمدبّر لكل المخلوقات. وهو وحده الصانع لكل شيء فيما مضى وفي الوقت الحالي وفيما سيأتي.

    2 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، واحد لا يشبهه في وحدانيته شيء بأية حال، وهو وحده إلهنا، كان منذ الأزل، وهو كائن وسيكون إلى الأبد.

    3 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، ليس جسماً، ولا تحده حدود الجسم، ولا شبيه له على الإطلاق.
    4 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الأول والآخر.

    5 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو وحده الجدير بالعبادة، ولا جدير بالعبادة غيره.

    6 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل كلام الأنبياء حق.

    7 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله ومن جاء بعده.

    8 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة، الموجودة الآن بأيدينا، هي التي أُعطيت لسيدنا موسى عليه السلام.

    9 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الإله تبارك اسمه.

    ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، عالم بكل أعمال بني آدم وأفكارهم، لقوله: « هو الذي صوَّر قلوبهم جميعاً وهو المدرك لكل أعمالهم ».

    11 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب مخالفيها.

    12 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بمجيء الماشيَّح. ومهما تأخر، فإنني انتظره كل يوم.

    13 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الإله تبارك اسمه وتعالى ذكره الآن وإلى أبد الآبدين.

    وقد وردت الأصول الثلاثة عشر في مجال التعليق على كتاب السنهدرين في التلمود الذي سبقت الاشارة إليه. وقد بيَّن ابن ميمون أن أصوله هذه هي الحد الأدنى، فمن آمن بها فهو يهودي وينتمي إلى الجماعة اليهودية، ولذا فإنه حتى لو ارتكب الموبقات سيظل له نصيب في العالم الآتي ويظل محط عطف اليهود. أما من يرفضها، فيجب أن يُنبذ ويُباد، وسيُسمَّى «كوفير بَعيقَّار»، أي «كافر بالأصول» منكر لها، كما أنه يكون قد فصل نفسه عن الجماعة، فهو «مين»، أي «كافر أو مرتد».

    وبعد ذلك، قامت محاولات أخرى لتحديد العقائد اليهودية من أهمها محاولة قريشقش الذي بيَّن أن موسى بن ميمون لم يميِّز بين الأساسي والفرعي في العقائد. ولهذا، قام تلميذه يوسف ألبو (1380 ـ 1440) في كتابه سيفر هاعيقاريم (سفر الأصول) بهذه العملية، فقسَّم الأصول إلى:

    1 ـ «عيقَّاريم»، أو العقائد الأساسية، وهي ثلاث: وجود الإله، والوحي، والثواب والعقاب. وأضاف أن هذه العقائد عامة لكل البشر.

    2 ـ «شوراشيم»، وهي تفريعات عن العيقاريم، ويصنفها في ثمان.

    3 ـ «عنافيم»، وهي الأغصان.

    ويرى ألبو أن الأصول والجذور مُلزمة لكل يهودي، ومن لا يؤمن بها يُعَدُّ كافراً، أما من لا يتبع الأغصان فهو مذنب وحسب.

    وجاء بعد ألبو، إسحق لوريا وإسحق إبرابانيل، ولم يجدا مبرراً للتركيز عـلى عقـيدة دون أخرى. ويُلاحَظ أن ألبـو، مثل مـوسى ابن ميمون، يقلل أهمية العقيدة المشيحانية، ويؤكد في نهاية الأمر أن اتباع أحد الأوامر والنواهي أهم من الإيمان بكل العقائد.

    ورغم هذه المحاولات لتحديد العقائد اليهودية، ظلت محاولة ابن ميمون أكثرها أهمية، وقد ظهرت الأصول باعتبارها العقائد الأساسية لأول مرة في طبعة الأجاداه في البندقية عام 1566، وهي الآن ملحقة بكتاب الصلوات الإشكنازي. كما أن الصلوات اليهودية تضم الآن قصيدتين تلخصان هذه الأصول هما: «أني مأمين» (أي «إنني أؤمن»)، و«يجدال» (أي «تعظَّم الرب وتنَّزه»).

    ولكن اليهودية، بسبب طبيعتها الجيولوجية، حوَّلت الأصول إلى مجرد طبقة واحدة بين العديد من الطبقات؛ فقامت ثورة عاتية في العالم الغربي بخاصة ضد كتابات ابن ميمون، وبدأ الفكر القبَّالي في الانتشار وبخاصة بعد الطرد من إسبانيا، وأخذ الوجود اليهودي شكل تجمعات صغيرة بعضها بعيد عن مراكز الفكر الحاخامي والتلمودي ويخضع كل منها للقيادات الدنيوية والدينية المحلية. ومع القرن السابع عشر، هيمن الفكر القبَّالي على الفكر الديني اليهودي، وهو فكر حلولي تجسيمي وصفه الحاخامات بأنه ينطوي على الشرك. كما أن التفسيرات القبَّالية للكتب اليهودية المقدَّسة، وخصوصاً العهد القديم والأجاداه، تشكل تراجعاً جوهرياً عن الفكر التوحيدي.

    وفي العصر الحديث، بيَّن مندلسون أن اليهودية دين شرائع بلا عقائد، وهو رأي يأخذ به معظم مؤرخي اليهودية. ثم ظهر علم اليهودية الذي درس مصادر اليهودية المختلفة وبيَّن طبيعتها الجيولوجية وعدم تجانسها الأمر الذي يجعل من المستحيل التوصل إلى عقيدة جوهرية. ثم بدأت حركـة الانعـتاق التي نادت بأن تتكيـف اليهودية مع العصر. ولكن، لكي تتكيف اليهودية، لابد أن يتحدد جوهرها أساساً، ولذا حاولت اليهودية الإصلاحية صياغة أصول العقيدة في مؤتمراتها الحاخامية المختلفة، ولكنها تخلت عن هذه المحاولة بعد قليل إذ كانت أطروحاتها من العمومية بحيث افتقدت أية هوية تميِّز اليهودية عن غيرها من العقائد. أما اليهودية المحافظة والأرثوذكسية فكلتاهما تدور أساساً في إطار الممارسات.

    وفي الفلسفة الدينية اليهودية الحديثة، لم يعد الإيمان بالعقائد مسألة حيوية أو مهمة، إذ حل محلها ما يُسمَّى «عملية المواجهة الشخصية بين الإله والإنسان اليهودي». ويرى روزنزفايج أن الإيمان الديني ثمرة كشف، أو وحي شخصي، يجب على الانسان أن يسعى إليه. أما مـارتن بوبر وأبراهـام هيشـيل، فـيريان أن الإيمـان علاقة ثقـة بين الإلـه والإنســان تنبـع من، وتعـبِّر عـن ، مواجهة شخصية بينهــما، فهي إذن علاقـة الأنــا والأنـت وليست علاقة الأنا والهـو. وقد بلـغ هذا الاتجــاه أبعـاداً متطـرفة في يهودية كابلان التجديدية فأصبح الإيمــان حالة نفســية أو شـعورية ذات فائدة للمجتمع إذ أن السلوك الأخلاقي يستند إليه. فالإيمان هو نوع من « التنبؤات التي تحقق ذاتها» وليس خضوعاً لأية مرجعية تقع خارج ذات الإنسان. وقد أصبح الإيمان في الفكر الديني اليهودي، بعد الحرب العالمية الثانية، مجرد وسيلة لإضفاء معنى على العالم بعد الهولوكوست، وبذا تختفي العقائد والأصول وتتحول إلى حالة شعورية.

    اللاهــوت
    Theology
    «اللاهوت» هو المصطلح العربي المقابل للمصطلح الإنجليزي «ثيولوجي»، وهو مركب من «ثيوس» ومعناها «إله» و «لوجوس» ومعناها «علم»، فهو «علم الإلهيات». واللاهوت هو التأمل المنهجي في العقائد الدينية. والكلمة تشير عادةً إلى دراسة العقيدة المسيحية، ولا تستخدم في الدراسات الإسلامية التي تستخدم كلمات من المعجم العربي مثل «علم التوحيد». أما في اليهودية، فقد بدأ استخدام الكلمة مؤخراً في الدراسات اليهودية. (انظر: «العقائد [بمعنى أصول الدين وأركانه]»).

    الشريعة اليهودية
    Jewish Law
    تُستخدَم عبارة «الشريعة اليهودية» للإشارة إلى النسق الديني اليهودي ككل، مع تأكيد جانب القوانين أو التشريع الخارجي (هالاخاه)، أي الشرع، وذلك بخلاف عبارة «العقائد اليهودية» التي تؤكد جانب الإيمان الداخلي. وكان اليهود يستخدمون كلمة «توراة» للإشارة إلى الشريعة اليهودية، كما أن كلمة «هالاخاه» تُستخدم أحياناً للإشارة لا إلى التشريعات المختلفة وإنما إلى الشريعة ككل. وهناك شريعة مكتوبة وردت في أسفار موسى الخمسة والعهد القديم، كما أن هناك شريعة شفوية هي في واقع الأمر تفسيرات الحاخامات التي جُمعت في التلمود وفي غيره من الكتب. كما أصبحت كتب القبَّالاه، هي الأخرى، جزءاً من هذه الشريعة الشفوية. ويُعَد مفهوم الشريعة الشفوية أهم تعبير عن الخاصية الجيولوجية التراكمية، ويمكن القـول بأنه سـبب ونتيجة ـ في آن واحد ـ لهذه الخاصية.

    الشريعة المكتوبة أو التوراة المكتوبة
    Written Law (Torah)
    «توراة شَبخْتاف» مصطلح عبري معناه «التوراة المكتوبة» وهي «الشريعة المكتوبة» مقابل «توراة شبَعَلْ بهْ»، أو «التوراة الشفوية». وهي إشارة إلى الشرائع التي تلقاها موسى مكتوبةً. وتشير الكلمة بالدرجة الأولى إلى أسفار موسى الخمسة، ولكنها تشير كذلك إلى كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال باعتبار أنها هي الأخرى كتب مدوَّنة. ولكن هذه الكتب الأخيرة ليست ملزمة، ولذا يشار إليها بأنها «ديفري قبَّالاه»، أي « كلمات التراث ». وحسب الرؤية اليهودية الحاخامية، تلقى موسى في سيناء الشريعة أو التوراة الشفوية، تماماً كما تلقى الشريعة المكتوبة.

    الشريعة الشفوية أو التوراة الشفوية
    Oral Law; Oral Torah
    «توراة شبَعَلْ بهْ»، عبارة معناها «التوراة الشفوية» مقابل «توراة شبختاف»، أي «التوراة المكتوبة». وقد أطلق المسعودي على المفكر اليهودي سعيد بن يوسف الفيومي اسم «السمعاتي»، أي الذي يؤمن بالعقيدة الشفهية، مقابل «القرّائي» أي الذي لا يؤمن إلا بالعقيدة المكتوبة. و«الشريعة الشفوية» في اليهودية مجموعة فتاوى وأحكام وأساطير وحكايات وخرافات وُضعت لشرح وتأويل أسفار العهد القديم وتناقلها حاخامات اليهود شفهياً على مدى قرون طويلة ثم جُمعـت ودُوِّنـت، في القـرن الثـاني الميلادي، في التلمود (أساساً).

    وقد عرفت جميع الشعوب القديمة شرائع شفوية، أو سماعية، في شكل عادات وتقاليد وعرف. وبقيت عناصر هذه الشريعة قائمة وسارية المفعول إلى جانب الشرائع والقوانين التي تم تدوينها وتبويبها وتصنيفها. وثمة رأي يذهب إلى أن فكرة الشريعة الشفوية دخلت اليهودية بعد أن احتكت بالفكر اليوناني وعرفت الفكرة الأفلاطونية القائلة بأن القانون غير المكتوب ينفي المكتوب. ولعل هذا يفسر أن دعاة الشريعة الشفوية كانوا من الفريسيين الذين تأثروا بالفكر الهيليني، على عكس الصدوقيين حملة الفكر التقليدي. ولكن مثل هذا التفسير تفسير شديد السطحية يجعل من التأثير والتأثر العنصر الأساسي في صياغة نسق ما، ويهمل بنية النسق الكامنة التي تُولِّد فيه قابلية لتَقبُّل أفكار دون أخرى. ونحن نذهب إلى أن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات، ومن أهم هذه الطبقات الطبقة الحلولية التي تعني تداخل الدنيوي والمطلق وتوحدهما، وأن الإله لا يترك اليهود أحراراً في التاريخ مسئولين أخلاقياً عن أفعالهم بل يفيض عليهم في كل زمان ومكان. والشريعة الشفوية تعبير عن هذه الحلولية، إذ أن الحلولية في إحدى مراحلها تعادل بين الإله والبشر، ومن ثم تعادل بين الوحي والاجتهاد أو بين النص المقدَّس والتفسير، أي أنها تعادل ما بين الشريعة المكتوبة (المنزلة والموحى بها) والشريعة الشفوية (التي يضعها الحاخامات). وتذهب اليهودية الحاخامية إلى أنه عندما ذهب موسى إلى جبل سيناء ليتلقى الوحي، لم يُعْطه الإله توراة أو شريعة واحدة وإنما أعطاه توراتين أو شريعتين: إحداهما مكتوبة والأخرى شفوية. وجاء في المشناه « تلقى موسى التوراة من سيناء وسلمها إلى يوشع، ويوشع قام بتسليمها إلى الشيوخ، والشيوخ إلى الأنبياء، والأنبياء سلموها بدورهم إلى رجال المجمع الأكبر، الذين قاموا بتسليمها إلى فقهاء اليهود (الحاخامات) » وهؤلاء يضمون معلمي المشناه (تنائيم) والشراح (أمورائيم) والمفسرين (صبورائيم) والفقهاء (جاءونيم). وهي عملية استمرت بعدهم فظهر الشراح واضعو الإضافات (بعلي توسافوت) وشخصيات أساسية مثل راشي والحاخام إلياهو (فقيه فلنا) ومعلمو القبَّالاه. ولا يزال فقهاء اليهود يقومون بالإضافة والتعديل في هذه الشريعة الشفوية. ومن الناحية النظرية، ثمة ترتيب هرمي لطبقات الفقهاء هذه بحيث يشغل معلمو المشناه (تنائيم) قمة الهرم، وتُعَدُّ أحكامهم ملزمة لمن أتى بعدهم. ولكن الممارسة كانت عكس ذلك تماماً، إذ أن آخر التفسيرات والأحكام هي التي كان يُقدَّر لها دائماً السيادة (إلى أن هيمنت القبَّالاه تماماً بهذه الطريقة). ومن بين آليات نمو الشريعة الشفوية إضافة الفتاوى التكميلية (تاقانوت) والأعراف والعادات (منهاجوت) والقرارات (جزيروت). ولعل كلمات الحاخام شمعون لاقيش (القرن الثالث الميلادي): « ماذا تعني المقطوعة: فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم » (خروج 24/12) هي التعبير الكلاسيكي عن هذه الفكرة. فهو يقول مُفسِّراً أما «لوحا الحجارة» فهما الوصايا العشر، أما «الشريعة» فهي العهد القديم، وأما «الوصية» فهي المشناه، وأما «تلك التي كتبتها» فهي أسفار الأنبياء وأسفار الحكمة والأناشيد، وأما «لتعليمهم» فهي الجماراه. وهكذا يعلمنا الرب أنها كلها قد أعطيت لموسى». ومعنى هذا التفسير أن كل التفسيرات التي يأتي بها الحاخامات اليهود والمحاضرات التي كانت تُلقى في حلقات ومدارس التلمود، بل الإجماع الشعبي، كل هذه الأشياء ترقى إلى مستوى الوحي الإلهي، أو على الأقل تصطبغ بصبغة القداسة. وبالفعل، فقد تطوَّر النسق الديني اليهودي في مرحلة معيَّنة، وساد الاعتقاد بأن التلمود الذي يُشار إليه باسم «التوراة الشفوية» هو أيضاً الكلمات الأزلية للإله، وهـو صياغـة للقـوانين التي أوصى الإله بها موسى (شفوياً). ولهذا، فإن ما فيها من الأوامر والنواهي واجبة الطاعة، يستوي في هذا مع كل ما جاء في العهد القديم. وكان يهود الغرب يدرسون التلمود أكثر من دراسة العهد القديم. وبعد ذلك، انتشرت القبَّالاه، فادعت لنفسها من القداسة ما للعهد القديم والتلمود. ولقد كان القبَّاليون يؤمنون بأنهم أصحاب معرفة خفية باطنية (غنوصية) توصِّلهم إلى المعنى الحقيقي والباطني للعهد القديم والتلمود الذي يجبُّ المعنى الظاهر. وبلغ من شيوع القبَّالاه أن كثيراً من اليهود والحاخامات كانوا يدرسون كتاب الزوهار أكثر من دراسة الكتب اليهودية الدينية الأخرى.

    ولكن، كما لاحظنا في النسق الحلولي الواحدي بعد مرحلة التعادل بين الخالق والمخلوق، يكتسب المخلوق مركزية ويفوق الإله قدرةً ومنزلةً. وبالفعل، نجد أن بعض الحاخامات جعل المشناه (التفسير الحاخامي) مرجعاً أقوى من العهد القديم (الوحي الإلهي) لأنها صورة معادلة للشريعة جاءت متأخرة عنها. وكانت بعض قرارات الحاخامات تتعارض تعارضاً صريحاً مع شريعة موسى، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها. وقد بلغ هذا التيار قمته في التفسيرات القبَّالية وفي الحركة الحسيدية حيث تَجُبُّ آراء العارف بالقبَّالاه والتساديك الآراء التي دارت في التراث الحاخامي بأسره (التوراة والتلمود). وقد كان ما ينطق به التساديك توراةً، كما أن إرادته كانت تعادل إرادة الإله.

    وقد ثارت مناقشات كثيرة عبر تاريخ اليهودية عن مدى قدسية الشريعة الشفوية، وجواز تدوينها أو عدم جواز ذلك. والواقع أنه، حتى ظهور المسيـح، كان تـدوين الشريعـة أمـراً محرَّماً للحيلولة دون انتشــارها بين العامـة، إذ أن فكـرة الشـريعة الشفـوية تخـدم ولا شـك مصلحـة الحاخــامات لأنهــا ترفعـهم إلى مصـاف الإلـه أو الأنبـياء، وتجعلهم على اتصال دائم بالإله، كما تعطيهم حق تغيير وتبـديل كلمتــه. ولعل فكــرة الشريعة الشفوية هي المسئولة عن السيطرة الدينية للحاخامات على الجماعات اليهودية في العالم خلال تواريخهم. وقد استمر الجدل قائماً بين الفرق اليهودية المختلفة حول مدى قدسية الشريعة الشفوية، وكان الفريسيون من أشد المدافعين عنها. ويبدو أن دفاعهم عن الشريعة الشفوية، ورفضهم تدوينها، كان ذا محتوى طبقي. أما الصدوقيون، فقد كانوا من أهم معارضيها، لأنهم كانوا مرتبطين بالهيكل وبالعبادة القربانيــة ويشكلــون بذلك طبقـة كهنــوتية. أما الفريسيون، فكانوا يدافعون عن الشريعة الشفوية لأن ذلك كان يعني المشاركة في السلطة. وبظهور المسـيحية حُسـمت القضية تماماً، فسيطر التصور الفريسي على اليهودية. ولكن، مع هذا، بدأ تدوين الشريعة الشفوية حتى تتمكن اليهودية من تمييز نفسـها عن المسـيحية التي ورثت العـهد القـديم وأكملته بالعـهد الجديد.

    ويرفض القرّاءون (المتأثرون بالفكر العربي الإسلامي والتوحيد الإسلامي) التراث الشفوي، ويقصرون إيمانهم على شريعة موسى وأسفاره الخمسة. وفي العصر الحديث، جدَّد الأرثوذكس إيمانهم بالشريعة الشفوية المتجسدة في كلٍّ من التلمود والشولحان عاروخ. أما الإصلاحيون، فقد نادوا بأن الشريعة الشفوية هي محاولة بعض الحاخامات تفسير الكلام المقدَّس، ولكنه على أية حال تفسير غير ملزم لأحد لأنه مرتبط بحقبة تاريخية معينة، ولذلك فإن صلاحيته لا تمتد إلى كل زمان وكل مكان
    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
    http://www.rasoulallah.net/

    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

    http://almhalhal.maktoobblog.com/




  • #2
    الحلوليـــة الكمونيـــة اليهـــودية: تاريـــخ
    Jewish Pantheism and Immanence: History

    «الحلولية الكمونية اليهودية» هي القول بأن العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) يُردُّ إلى جوهر واحد أو مبدأ واحد كامن في المادة، هو مصدر بقائها وحركتها، هذا المبدأ أو الجوهر يسميه دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، فيحل الإله في الإنسان ثم يحل في بعض ظواهر الطبيعة، ثم يحل فيها جميعها بغير استثناء حتى يصبح حالاًّ في كل شيء (الإنسان والطبيعة) كامناً فيه ويصبح الإله والعالم وكل الوجود وحدة واحدة لا وجود مستقلاً للواحد عن الآخر، أي أن الإله يصبح متوحداً مترادفاً مع سائر مخلوقاته (الإنسان والطبيعة) لا وجود له خارجها، ومع هذا يظل محتفظاً باسمه، وهذا ما نشير إليه بأنه «حلولية شحوب الإله» حيث تًمَّحى الثنائيات في الكون إلى حدٍّ كبير ولا يبقى منها سوى الظلال والألفاظ، وتختفي إمكانية التجاوز ولا يبقى سوى وهم التجاوز ، وهذه هي وحدة الوجود الروحية. ثم يفقد الإله اسمه ويُطلَق على المبدأ الواحد عبارات مثل «قانون الحركة» أو «قوانين المادة» فَتًمَّحى الثنائيات تماماً، بما في ذلك الثنائية اللفظية، وتسود الواحدية ويزول وهم التجاوز وننتقل من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وما نسميه «حلولية موت الإله» أو «حلولية بدون إله».

    والعقيدة اليهودية، في إحدى طبقاتها، توحيدية تؤمن بإله واحد يتجاوز المادة، منزَّه عن مخلوقاته يقف وراء الطبيعة والتاريخ يحركهما، ولا يُرَدُّ إليهما. ولكن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات متناقضة. وفي بعض هذه الطبقات، نجد أن اليهودية تأثرت بالتشكيل الحضاري السامي الوثني، ودخلت عليها عناصر وثنية حلولية عديدة وجدت طريقها إلى العهد القديم عند تسجيله مثل: فكرة الشعب المختار المرتبط بأرض مقدَّسة والمتمركز حول ذاته، وفكرة الميثاق بين الإله وشعب بعينه، وتَزايُد الشعائر وخصوصاً شعائر الطهارة، وتَداخُل العناصر الكونية مع العناصر الدينية في الأعياد اليهودية، وتَراجُع فكرة البعث واهتزاز الأفكار الأخروية. وعلى هذا، فإن العهد القديم يُعَدُّ وثيقة صراع بين اتجاهين: اتجاه توحيدي عالمي أخلاقي متسام يؤمن بإله يسمو على العالمين، ولا يفضل قوماً على قوم إلا بالتقوى، وهو الاتجاه الذي حمل لواءه الأنبياء والرسل. أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه وثني حلولي قومي تخصيصي يرى إله اليهود إلهاً يحل فيهم وحدهم، فهو مقصور عليهم يحابيهم ويعطف عليهم ويعصف بأعدائهم، ويرى اليهود أنفسهم شعباً مقدَّساً يشغل مركز الكون.

    وظل الاتجاه التوحيدي قائماً له فعالية ما دامت اليهودية في محيط وثني مشرك، إذ كان التوحيد (أو على الأقل مفرداته) وسيلة الحفاظ على الهوية الدينية اليهودية مقابل الحلولية الوثنية. ولكن، مع تحول المجتمعات التي يعيش فيها أعضاء الجماعات اليهودية إلى ديانات توحيدية (الإسلام في الشرق والمسيحية في الغرب)، لم يَعُد الاتجاه التوحيدي اتجاهاً مميِّزاً لليهودية، ولذا بحث الحاخامــات (واضعو الشريعة الشفوية) عن إستراتيجيات مختلفة للحفاظ على الهوية، حتى تغلبت النزعة الأسطورية الشعبية وأخذت شكلها الحلولي الكموني الواحدي حيث تم التركيز على بعض مفاهيم العهد القديم ذات الطابع الحلـولي وتم تعميقـها. وقد قـوي هـذا الاتجاه في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي التعليقات المدراشية، وبلوره معلمو المشناه (تنائيم)، وأخذ شكلاً متكاملاً في التلمود حيث توجد آثار للنزعة التوحيدية، ولكن النزعة الغالبة هي النزعة الحلولية الكمونية. ويمكننا القول بأن اليهودية التلمودية تتأرجح بين شكل من أشكال التوحيد وشكل من أشكال وحدة الوجود، ولا تقترب إلا نادراً من مرحلة وحدة الوجود التي وصلتها الحلولية اليهودية في القبَّالاه (وهي المرحلة التي عاد فيها كثير من الأفكار الغنوصية القديمة إلى الظهور). وقد انعكست هذه النزعة في قول أحد القبَّاليين «إلوهيم تعادل طيفع»، أي أن « الإله يعادل الطبيعة »، باعتبار أن القيمة الرقمية لكل من إلوهيم والطبيعة واحدة (وقد استخدم إسبينوزا العبارة نفسها).

    وقد سيطرت الرؤية الحلولية الواحدية، بدرجاتها المختلفة، على اليهودية، وأصبح من العسير قراءة العهد القديم بشكل مباشر، وخصوصاً بعد أن تبنت الكنيسة (عدو اليهود) هذا الكتاب باعتباره كتاباً مقدَّساً، كما أصبح التفسير أهم من النص المقدَّس. وعلى كلٍّ، تؤمن اليهودية، منذ البداية، بفكرة الشريعة الشفوية التي تجعل تفسيرات الحاخامات تعادل في أهميتها كلام الإله إن لم تكن أكثر أهمية منه.

    ويُلاحَظ أن ثمة تفضيلاً للنص المدوَّن على الشفوي في المنظومات التوحيدية، فالنص المقدَّس المدوَّن يحتوي الرسالة الإلهية ومن ثم يقتصر دور الإنسان إما على حمل الرسالة أو على تفسيرها، ويقف هذا على النقيض من المنظومات الحلولية الكمونية التي تفضل الشفوي على المدوَّن لأنه مباشر، يستطيع الإنسان سماعه مباشرةً ولا توجد مسافة بين القائل والقول، فالواحد مرتبط بالآخر. وبالتدريج، تحل الكلمة البشرية الشفوية محل الكلمة الإلهية المكتوبة. ورغم سقوط اليهودية الحاخامية في الحلولية الكمونية، إلا أنها بذلت محاولة مهمة لمحاصرة النزعة المشيحانية الحلولية بأن جعلت العودة منوطة بالأمر الإلهي، فكأنها اسـتعادت شـيئاً من الثنائية التكامليـة التوحيدية بدلاً من الواحدية الحلولية.

    ولعبت القبَّالاه دوراً حاسماً في تحويل اليهودية من نسق توحيدي إلى نسق حلولي كموني. وتراث القبَّالاه تراث حلولي كموني واحدي متطرف يساوي بين الإله والطبيعة، بحيث يصبح الإله هو الطبيعة، ويتم إلغاء التاريخ ويتركز الحلول الإلهي في الشعب اليهودي إذ يحل المطلق أو المركز في الشعب. والقبَّالاه ترى الإله باعتباره عشر درجات أو عشرة تجليات نورانية منفصلة موصولة على قمتها الإله الذكر، وفي قاعدتها كنيست يسرائيل أي شعب إسرائيل، بحيث لا يوجد فارق بين الخالق والمخلوق. ويتضح هذا المفهوم بشكل أوضح في رؤية القبَّالاه للتجليات العشرة النورانية على هيئة آدم، فكأن الإله، هو آدم، وكأن الخالق والمخلوق هما شيء واحد. وتدور القبَّالاه حول صورة مجازية معرفية إدراكية جنسية واضحة، وهي صورة مجازية تتواتر عادةً في الحلوليات الوثنيـة. والقبَّالاه، بهذا، تشكل عـودة للواحدية الكونية والحلولية الوثنية. وقد اشتكى إبراهيم أبو العافية في رسالة إلى صديق له من أن دعاة القبَّالاه يظنون أنهم يوحدون الرب بتلك التجليات النورانية ولكنهم في واقع الأمر قد استعاضوا عن أقانيم المسيحية الثلاثة بعشرة تجليات، وهذا شرك. وقد يظهر هذا في القبَّالاه العملية التي تجعل الخلاص منوطاً بالتوصل للصيغة السحرية الصحيحة (الغنوصية). كما أن التصوف اليهودي أصبح تصوفاً حلولياً غنوصياً ليس الهدف منه فناء الذات والتقرب من الإله والتفاعل معه وإنما الالتصاق بالخالق والتوحد معه بحيث يصبح المؤمن تَجسُّد الإله: إرادته هي إرادة خالقه. وأدَّى انتشار القبَّالاه إلى تزايد اشتغال اليهود بالسحر بهدف التحكم في الكون (ولعل هذا كان من أسباب تَزايُد معاداة اليهود).

    وقد بدأ انتشار القبَّالاه (خصوصاً اللوريانية) في القرن الرابع عشر. ومع منتصف القرن السابع عشر، كانت القبَّالاه مهيمنة هيمنة شبه كاملة على معظم أعضاء الجماعات اليهودية وتغلغلت بشكل عميق في العقائد اليهودية، بحيث أصبحت المراكز التلمودية منعزلة بغير فعالية، ثم أصبحت التفسيرات التلمودية نفسها ذات طابع قبَّالي. ويتضح مدى سيطرة الحلولية على العقيدة اليهودية فيما كتبه الحاخام السفاردي ديفيد نايتو (1654 ـ 1728) حاخام لندن الأكبر، حيث نشر كتاباً بعنوان في العناية الإلهية قرن فيه بين الإله والطبيعة ووحَّد بينهما، فاتهمه أحد اليهود وبعض المسيحيين بالإلحاد. وحينما عُرض الأمر على واحد من أكبر العلماء التلموديين في أمستردام (هولندا) وهو الحاخام تسفي إشكنازي، أفتى هذا الحاخام بأن الحلولية ليست مقبولة وحسب في العقيدة اليهودية، بل هي أمر اعتاده المفكرون الدينيون اليهود.

    ورغم أن هرمان كوهين ذهب إلى أن الحلولية ضد الدين، فإن الكثيرين من أعلام الفكر اليهودي من كبار دعاة الحلولية، ويمكن أن نشير إلى ابن جبيرول وابن عزرا، وإسبينوزا (أبى الحلولية الحديثة). وقد أدَّت هيمنة القبَّالاه وتصاعُد معدلاتها في اليهودية إلى تراجع اليهودية الحاخامية ومؤسساتها، وتراجع الفكر التوحيدي تماماً، الأمر الذي سبَّب أزمة اليهودية الحاخامية إلى حد سقوط اليهودية، في نهاية الأمر، في قبضة الفكر الحلولي، فاختفى أي أثر للتجاوز. ولم يَعُد بالإمكان التمييز بين اليهود واليهودية (من منظور اليهودية نفسها) إذ أصبح اليهود تجسيداً للمطلق، وأصبحت العلاقة بين الشعب والخالق (إن ظل قائماً بالاسم) علاقة حوارية. وقد تصاعدت الحمى المشيحانية بين اليهود وتزايدت قابليتهم للعلمنة التي عادةً ما تأخذ شكل تأكيد قداسة الشعب وحقه المطلق في العودة لأرضه المقدَّسة، أي أن النزعة المشيحانية في اليهودية ذات تَوجُّه صهيوني واضح.

    ويمكن القول بأن النمط الحلولي الذي ساد العقيدة اليهودية هو النمط الثنائي الصلب (المرتبط بوجودهم كجماعات وظيفية). ومع هذا، كان النمط الشامل السائل (الروحي أو المادي) كامناً من البداية. ففلسفة إسبينوزا (الحلولية المادية) وحركة شبتاي تسفي ثم الحركتين الفرانكية والحسيدية (الحلولية الروحية) تقوم بتفكيك الإنسان ورده إلى كل أكبر منه. ثم أخذت معدلات الحلولية المادية والحلولية الروحية في التصاعد بعد القرن الثامن عشر. ويبدأ الإله في الشحوب (اليهودية الإصلاحية)، إلى أن يختفي تمامــاً أو يكـاد (اليهودية المحافظة بشكل مبهم ـ اليهودية التجديدية بشكل واضح) ويُعلَن موت الإله ونهاية المركز (لاهوت موت الإله ـ يهودية ما بعد الحداثة). والصهيونية شكل من أشكال الحلولية الثنائية الصلبة المادية، وهي من ثم تنتمي إلى النمط نفسه الذي تنتمي إليـه النازية والقوميات العضوية.

    وشيوع الحلولية في النسق الديني اليهودي لم يكن مجرد امتداد للحلولية الكامنة في التوراة والتلمود، فثمة عنصر ساعد على تعميق هذه الحلولية وعلى تكثيفها ثم تفجُّرها وشيوعها بين أعضاء الجماعات اليهـودية وهـو وضع اليهود في الحضارة الغربية كجماعات وظيفية وسيطة. فأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة ينزعون دائماً منزعاً حلولياً في رؤيتهم للكون، فهم يرون أن الإله يحل فيهم، ولذا فهم ـ حسب ظنهم ـ يتمتعون بقداسة خاصة تعزلهم عن المجتمع. ومن ثم، فإن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في ظهور العلمانية (وهي وحدة وجود مادية) بشكل غير مباشر وغير واع من خلال نشر الرؤية الحلولية.

    الثنائيــة الصلبــة (حتى نهايـة القــرن التاســع عــشر)
    (Solid Dualism (to the End of the Nineteenth Century
    تأخذ الحلولية الكمونية الواحدية شكلين أساسيين: الحلولية الثُنائية الصلبة حين يصبح شعب ما أو أرض ما مركز الحلول والقداسة (مقابل بقية العالم)، والحلولية الشاملة السائلة حين يصبح العالم بأسره (والجنس البشري بأسره) موضع القداسة وحين تتعدد مراكز الحلول. والحلولية الثنائية الصلبة اليهودية تعني حلول الإله في الشعب اليهودي بحيث يتم استبعاد بقية العالم (الأغيار) من عملية الخلاص. ويمكن أن يحل الإله في أرض هذا الشعب (صهيون) ويستبعد بقية العالم (بقية بلاد العالم وما فيها من شعوب).

    وتتبدَّى الحلولية الثنائية الصلبة في العقيدة اليهودية من خلال الثالوث الحلولي المقدَّس:

    1 ـ الإله:
    يختفي الإله الواحد العلي المنزَّه ويظهر بدلاً منه إله يسرائيل الذي يتحد بجماعة يسرائيل (الإنسان) وبأرض وتاريخ يسرائيل (الطبيعة).

    2 ـ الشعب المقدَّس:
    يصبح الشعب اليهودي، أو جماعة يسرائيل شعباً مختاراً وأمة من الكهنة والمشحاء المخلصين، بل هو شعب مقدَّس يدخل الإله معه في علاقة حب حميمة تتسـم بالغـيرة أحياناً. ويُشار إلى الشـعب بأنه ابن الإله. وتتعمق هذه المفاهيم في التراث القبَّالي لتدخل دائرة الشرك الصريح، فالشعب يصبح الشخيناه، أي جزءاً من الإله وتعبيراً أنثوياً عنه، نفيه نفي الإله نفسه، فالإله والشعب يتكونان من جوهر واحد («من يضرب رجلاً من جماعة يسرائيل كما لو كان يهين وجه الإله المبارك اسمه» الحاخام حانينا). وتميل المعادلة الحلولية إلى صالح الشعب بحيث يصبح عنصراً أساسياً في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقُّون) أو الخلاص وشـريكاً فيهـا. ومن ثم، فهو الأداة التي يستعيد بها الإله وحدته، أي أن الإله يصبح معتمداً على اليهود في إصلاح الكون، وفي إكمال ذاته. واليهود، بأدائهم الأوامر والنواهي، إنما يساعدون الإله على استخلاص الشرارات الإلهية المبعثرة (نيتسوتسوت) بعد حادث تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم).

    3 ـ الزمان والمكان المقدَّسان:
    أ) الأرض المقدَّسة (المكان أو الوطن المقدَّس): تمتد القداسة لتشمل، بطبيعة الحال، الأرض التي يعيش عليها هذا الشعب المقدَّس، ويشار إليها باسم «صهيون»، و«إرتس يسرائيل». وإذا كان الشعب المقدَّس مختاراً، فالأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد التي سيتحقق فيها الوعد الإلهي لهذا الشعب المختار حين يأتي الماشيَّح ويقود شعبه إليها.

    ب) الزمان المقدَّس (التاريخ المقدَّس): وإذا كان الشعب مقدَّساً ومكانه مقدَّساً فزمانه لا يقل قداسةً. وهذا التاريخ يصبح ذا معنى وشكل محدَّدين من خلال حلول الإله، فتاريخ جماعة يسرائيل يبدأ بالخروج من مصر بمساعدة الإله ثم دخولها إلى كنعان. وهذه الحركة لا تتم إلا من خلال التدخل الإلهي المباشر والمستمر، تماماً كما ستنتهي بالعودة من المنفى إلى صهيون (فلسطين) تحت قيادة الماشيَّح الذي سيرسله الإله في آخر الأيام. وعلاقة الشعب بالأرض علاقة عضوية لأن الإله يحل في كليهما، وما تاريخ الشعب إلا تعبير عن هذه العلاقة العضوية الحلولية.

    ولنا أن نلاحظ أن الحلول الإلهي عادةً ما يتركز - في إطار الثنائية الصلبة - في شعب بعينه يصبح مركز الكون، ولكن الحلول يمكن أن يتركز في الأرض بدلاً من الشعب (ثم في الدولة الصهيونية فيما بعد). ويمكـن أن يتركز الحلول الإلهي في المشـناه (التي تصبح اللوجوس). ولكن، في هذه الحالة، ستكون المشناه مجرد تعبير عن الحلول الإلهي في الشعب. ويمكن أن ينحسر الحلول الإلهي ليتركز في الماشيَّح أو التساديك.

    وفي إطار الحلولية الثنائية الصلبة، أصبحت اليهودية ديانة مغلقة تستبعد الآخرين من نطاق القداسة وشرائع الخلاص، ولا تشغل نفسها بهم. ومن ثم، فهي ليست ديانة تبشيرية ولا تشجع أحداً على التهود إلا في لحظات نادرة من تاريخها (في القرن الأول قبل الميلاد وبعده). وأصبحت رؤية اليهودية للكون استبعادية حادة ضد الأغيار، وظهر التمركز الحلولي القومي حول الذات.

    كما أدَّت الحلولية الثنائية الصلبة إلى تزايد الشعائر التي تهدف إلى عزل الشعب المقدَّس عن الآخرين وعن محيطه، مثل: الاحتفال بالسبت، والختان، وقوانين الطعام، وتحريم الزواج المُختلَط وشعائر الطهارة. وأصبحت المعايير ازدواجية بحيث أصبح الأغيار في بعض الصياغات مدنَّسين تماماً، بل إن اتجاه الإله إلى خلق هؤلاء الأغيار على هيئة إنسانية يعود (حسب الرؤية القبَّالية) إلى رغبته في تيسير عملية قيامهم على خدمة اليهود. والأغيار يقعون، بطبيعة الحال، خارج دائرة القداسة، ولذا يكون من المباح سرقتهم وقتلهم.

    ويأخذ النسق الحلولي الثنائي الصلب، من الناحية البنيوية، شكلاً مخروطياً: دوائر متداخلة متراكمة كل منها أصغر مما يسبقها وتظل الدوائر تَصغُر حتى تصل إلى قمة المخروط التي هي مركز هذه الدوائر. فقاعدة المخروط، من الناحية الجغرافية (المكان)، هي العالم، أما قاعدته التاريخية (الزمان) فهي الأغيار. وفي مركز العالم، وعلى ارتفاع منه، تقف إرتس يسرائيل، الأرض التي اختارها الإله وحباها بنعمه الخاصة. وفي مركز التاريخ، وعلى ارتفاع منه، يقف الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) الذي اختاره الإله ليكون أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء. وفي وسط إرتس يسرائيل، وعلى ارتفاع منها، تقف أورشليم (القدس). وفي وسط الشعب، وعلى ارتفاع منه، يقف الأنبياء والملوك والكهنة. وفي وسط أورشليم يوجد الهيكل، في داخله قدس الأقداس، وهو سرة الدنيا (حسب كلمات المشناه)، يوجد فيه تابوت العهد الذي تُوجَد فيه الوصايا العشر وتحل فيه روح الإله. وأمام التابوت يوجد حجر الأساس (بالعبرية: ايفين شتْيِّاه) حيث خُلقت الدنيا. وفي وسط الأنبياء، يقف الماشيَّح (نبي الأنبياء) وملك الملوك، والذي يجسد روح الإله. وكان الكاهن الأعظم يدخل قدس الأقداس مرة كل عام (في يوم الغفران) لينطق باسم الإله الأعظم فيكتمل من خلاله الحلول الإلهي في الشعب ومنه إلى بقية الجنس البشري.

    وهكذا، فإن قمة المخروط هي النقطة التي يتحد فيها عاملا الجغرافيا والتاريخ، ويذوب فيها الزمان في المكان والطبيعة في الإنسان/الإله، أي أنها نقطة تحقُّق وحدة الوجود الكامل. ونلاحظ أن بإمكاننا، حسب هذا البنيان، أن نرى المكانة التي تشغلها جماعة يسرائيل وإرتس يسرائيل، فهما مركز الكون وعنصران أساسيان لأي خلاص للعالم.

    ويُلاحَظ أنه في إطار الثنائية الصلبة يتعادل الإله مصدر القداسة، مع الشعب الذي تسري فيه القداسة، ثم ترجح كفة الشعب والمتحدثين باسمـه على كفة الإله، أي أن الثنائية الصلبة تتحـول إلى ما يشـبه الثنوية: قوتان متعادلتان، وإن كانا في اليهودية غير متصارعتين، ولذا فنحن نؤثر تسميتها بـ «ثنوية بنيوية» لتمييزها عن الثنوية التقليدية التي تترجم نفسها إلى صراع بين إله الشر وإله الخير. واليهودية الحاخامية تعادل بين الشريعة المكتوبة (الوحي الإلهي) والشريعة الشفوية (الاجتهاد الحاخامي). والواضح أن آراء الحاخامات أصبحت متعادلة مع النص الإلهي، وقد جُمعت هذه الآراء في التوراة الشفوية، أي في التلمود الذي يُعادل التوراة المكتوبة (أي المرسلة من الإله) بل يتفوق عليها. ويقول التلمود إن الحاخامات كثيراً ما يُظهرون من الحكمة ما لا يستطيعه الإله. وقد حلَّت المشناه محل التوراة فأصبحت هي اللوجوس، فهي تشبه المسيح في التراث المسيحي، توجد في عقل الإله منذ الأزل. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول مفهوم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) وهي عملية يشارك فيها الإنسان، بل إن الشرارات الإلهية لا يمكن جمعها مرة أخرى، ولا يستطيع الإله أن يستعيد وحدته إلا بمشاركة الإنسان، فكأن مقدرة الإنسان معادلة لمقدرة الإله.

    وتصل الثنائية الصلبة إلى قمتها في المفهوم الحسيدي الخاص بالتساديك، مركز الحلول الإلهي، الذي يبلغ من القوة قدراً يجعله يصبح قناة موصلة بين أتباعه والإله، فأدعيتهم لا يمكن أن تستجاب إلا بعد أن يوصلها هو للإله، والإله نفسه لا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا من خلاله. وإرادته من القوة بحيث يستطيع التأثير في الإله ويستطيع أن يرغمه على تغيير إرادته.

    ويمكن القول بأن الحلولية هنا هي حلولية فردية في الحاخامات والتساديك الذين يحلون محل المسيح في المنظومات المسيحية. ولا شك في أن الحلولية اليهودية هنا تأثرت بالعقيدة المسيحية، فقد وُجدت في تربة مسيحية سلافية حلولية صوفية. ولكن ثمة فارقاً مهماً، رغم التشابه الظاهر، وهو أن المسيح ليس قناة موصلة بين الإله وشعب بعينه، فهو تجسُّد الإله لصالح كل البشر. والمسيح، فضلاً عن هذا، يأتي ويُصلَب ويقوم، فالحلول فردي مؤقت ومنته. أما الحلول في الحاخامات والتساديك فهو مستمر ومُتوارَث. ومن ثم، فإن الحسيدية شكل من أشكال الحلول الثنائية الصلبة (الروحية) على النمط اليهودي القديم رغم تأثرها بالأفكار المسيحية في فكرة التساديك على وجه الخصوص.

    وقد ترجمت الثنائية الصلبة نفسها في العصر الحديث إلى الحركة الصهيونية، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقوق مطلقة منحها اليهود لأنفسهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب)، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية وعلمانية. وأخيراً، ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله الذي حوَّل كل ما يحدث للشعب اليهودي (الإبادة) وكل ما يَصدُر عنه من أفعال (الدولة الصهيونية) إلى مُطلق. والشعب اليهودي (مثل المسيح) يُجسد الإله الذي يُصلَب. وبدلاً من القيام، يؤسس هذا الشعب الدولة الصهيونية التي تصبح مطلقاً لا يحق للأغيار التساؤل بشأنها، وبذا يتحول الشعب الشاهد إلى الشعب الشهيد. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الحلولية الثنائية الصلبة اليهودية آخذة في التراجع، ولكن ما يحل محلها ليس الفكر التوحيدي وإنما الحلولية الشاملة السائلة.

    ويمكن القول بأن الصهيونية الحلولية العضوية هي تعبير عن الحلولية الصلبة، أما صهيونية عصر ما بعد الحداثة فهي تعبير عن الحلولية السائلة.

    السـيولة الشاملـة (في القرن العشـرين)
    Total Flux (in the Twentieth Century)
    أخذت الحلولية الكمونية اليهودية عبر تاريخها الطويل الشكل الثنائي الصلب (الإثنيني أو الثنوي). ويستمر هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن الثامن عشر (وحركة التنوير اليهودي). وبعد ذلك التاريخ، بدأت الثنائية الصلبة في الانحلال إذ تتجه الحلولية نحو المرحلة السائلة التي تبدأ عادةً بظهور نزعة عالمية أممية بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية ينادون بأيديولوجية عالمية يرون أنها الطاقة الدافعة للمادة المسيّرة للكون الكامنة في كل البشر وليس في اليهود وحسب، وكامنة في الطبيعة ككل وليس في أرض بعينها. وقد بدأت هذه النزعة العالمية في الظهور مع تفاقم أزمة اليهودية الحاخامية (وظهور شبتاي تسفي وإسبينوزا) ومع تزايد اندماج اليهود في الحضارة الرأسمالية والاشتراكية (العلمانية) الصاعدة وتحوُّلهم من جماعات وظيفية (حلولية ثنائية صلبة) إلى أعضاء في الطبقات المختلفة للمجتمع (حلولية شاملة سائلة)، وتحوَّل المفكرون اليهود من مفكرين يهود إلى مفكرين علمانيين عالميين يدينون بالولاء إما للدولة القومية المطلقة أو للطبقة العاملة أو الجايست أو روح الشعب... إلخ، أو أي مطلق علماني عالمي شامل، وأصبح الهدف من وجود اليهود هو خدمة الإنسانية والاندماج، بل الانصهار فيها.

    ويُلاحَظ أن هذه النزعة نحو العالمية قد تشكِّل تفكيكاً للثنائية الحلولية الصلبة، ولكنها لا تعني الوصول بعد إلى مرحلة السيولة إذ أن رؤية الكون تظل متمركزة حول اللوجوس، فمفهوم الإنسانية يشكِّل الركيزة الأساسية التي يدور حولها النسق وموضع الحلول ومصدر التجاوز.

    ويمكن ملاحَظة أن هذه النزعة العالمية كانت كامنة في المشيحانية اليهودية التي عبَّرت عن نفسها من خلال شكلين:

    أ) حركات مشيحانية ثنائية صلبة تدور حول خلاص اليهود واليهود وحدهم، وهو خلاص يأخذ شكل عودة إلى أرض الميعاد تحت قيادة الماشيَّح.

    ب) حركات مشيحانية عالمية سائلة ترى أن خلاص اليهود يعني سقوط كل الحدود وانتهاء رسالتهم واختفاءهم باندماج جميع البشر. ولكن هذه النزعة نحو العالمية والمساواة،تتعمق وتأخذ شكلاً ثورياً متطرفاً، إذ تظهر نزعة إلى لحظة مشيحانية كونية، حلولية عضوية كاملة يصبح الجزء فيها متوحداً تماماً مع الكل، وتتوحد فيها الدوال مع المدلولات، ويمكن التواصل بشكل مطلق إذ لا توجد مسافة تفصل بين البشر.

    وتتسم هذه المرحلة بأنها تتضمن رفضاً كاملاً للحدود، أي أنه تعبير عن الرغبة في الانسحاب من حالة التاريخ الإنسانية (المجتمع الشيوعي في حالة ماركس - لحظة الإفصاح الجنسي الكامل عن النفس عند فرويد). وهذه الرؤية رغم ثوريتها وعالميتها إلا أنها تشكل نقداً لا لحالة إنسانية بعينها وإنما للحالة الإنسانية ككل، وهي تعبير عن الرغبة في الوصول إلى حالة اليوتوبيا التكنولوجية أو البيروقراطية حتى نصل إلى القانون العام الذي يمكن التحكم من خلاله في العالم ويمكن التعبير عن الإنساني من خلال لغة جبرية كمية دقيقة.

    ولكن حينما تزال الحدود تماماً بين الإنسان والإنسان تزال الحدود أيضاً بين الإنسان والطبيعة، وتتم المساواة بين الإنسان والطبيعة وبين الخير والشر وبين الذكر والأنثى، أي يتم إلغاء كل الثنائيات، وهنا تبدأ الحلولية السائلة تطل برأسها إذ يصبح الهدف من وجود الإنسان في الكون هو التناغم معه بمعنى الذوبان الكامل فيه، ومن ثم تختفي أية منظومة معرفية وأخلاقية، وتظهر الترخيصية والإباحية والإباحة الكاملة (هاجم الشبتانيون والحركة الفرانكية كل العقائد والديانات بشكل باطني، وهذا ما فعله إسبينوزا فقد هاجم العقيدة اليهودية والعهد القديم، ولكن هجومه كان في واقع الأمر على العقائد الدينية ككل وعلى كل الثنائيات الكامنة فيها).

    ويمكن القول بأن تاريخ اليهودية منذ ذلك الحين هو تاريخ التأرجح بين الحلولية الثنائية الصلبة (المادية أو الروحية) والحلولية الشاملة السائلة (المادية أو الروحية) مع الاتساع التدريجي لنطاق الرؤية العالمية والحلولية السائلة. ويبدأ فكر حركة التنوير اليهودية بمحاولة التوفيق بين اليهودية وروح العصر. وروح العصر هنا هي مطلق كامن في الزمن لا يميِّز اليهود عن الأغيار وإنما يجمع بينهم. وقد انتشر الفكر الربوبي بين اليهود، وهو فكر حلولي عالمي، فالإله يحل في الطبيعة ويستطيع العقل البشري أن يحيط به دون حاجة إلى كتب سماوية أو إلى أية خصوصية دينية، فكتاب الطبيعة مفتوح أمام الجميع. وقد ورثـت حـركة التنوــير اليهـودية هذه الفكرة، وتأثرت بها اليهودية الإصلاحية التي بدأت ترى الإله كمبدأ واحد يسري في المخلوقات ولكنها احتفظت باسم الإله (حلولية شحوب الإله).

    وتشكل اليهودية المحافظة عودة إلى الحلولية الثنائية الصلبة إذ إن مركز الحلول يصبح الشعب اليهودي ومؤسساته القومية. وتحتفظ اليهودية المحافظة باسم الإله، ولكنه إله غير متجاوز، كتعبير عن الذات اليهودية، ولذا فهي تظل في إطار وحدة الوجود الروحية وشحوب الإله. والصهيونية هي الأخرى عودة للثنائية الصلبة، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقـوق مطلقـة منحها اليهود لأنفسـهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب)، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية أو إلى علمانية. وأخيراً ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله.

    ويتسع نطاق الحلولية ليصل إلى اليهودية الإنسانية الإلحادية التي ترى أن الإيمان الحق باليهودية يعني الإيمان الحق بالإنسـانية، ومن ثم فإن جـوهر اليهـودية الحـق يتحقق من خلال اختفائها، بل اختفاء الإله بالتحامه الكامل بالمادة. ومع اختفاء الإله، تتعدد المراكز وندخل يهودية عصر ما بعد الحداثة حيث يُعلَن موت الإله ويظهر عالم لا مركز له كل ما فيه متساو نظراً لتحقُّق الحلولية الشاملة السائلة التي تذيب حدود الأشياء فتختفي جميعاً.

    عند هذه اللحظة، يمكن أن يحدث أي شيء وكل شيء، فتظهر اليهودية المتمركزة حول الأنثى، وينضم أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد متزايدة إلى الماسونية والبهائية والعبادات الجديدة، وكلها عقائد حلولية شاملة سائلة ذات طابع واحدي، تنكر أي ميتافيزيقا. ولعل هذه الحلولية الشاملة السائلة هي الإطار الذي تدور فيه النزعة التفكيكية (الهرمنيوطيقا المهوطقة) التي يتسم بها كثير من المفكرين ذوي الأصول اليهودية إذ نجدهم يتجهون نحو رفض المجتمع بقضه وقضيضه، بل التاريخ الإنساني بأسره نتيجة رفضهم كل الحدود. ومن هنا، ينخرط المثقفون من أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في حركات ما بعد الحداثة بكل ما تتسم به من عدمية ناجمة عن الراديكالية المعرفية والأخلاقية التي تنكر أيَّ يقين معرفي أو مطلقية أخلاقية وأية مرجعية متجاوزة، إنسانية كانت أم إلهية، حيث تسود حالة من اللامعنى واللا تواصل في عالم لا طعم له ولا لون ولا رائحة، أي عالم لا مركز له ولا حدود، عالم العودة إلى الحالة الجنينية وإلى سكون الرحم.

    الثنوية (أو الاثنينية) اليهودية
    Jewish Dualism
    «الثنوية» أو «الاثنينية» هي الفكرة القائلة بأن الوجود يتكون من قوتين مطلقتين أو عنصرين أساسيين جوهريين متوازيين متعارضين (ثنائية صلبة) لا يلتقيان، إله الخير وإله الشر، وهما دائماً في حالة صراع. ومع هذا، توجد نقطة نهائية في التاريخ يتم من خلالها القضاء على هذه الثنوية إذ يهزم إله الخير إله الشر أو يمتزجان ليكونا واحدية كونية. والثنوية أحد أشكال الحلولية، وهي من ثم تعبير عن فشل في الوصول إلى النضج النفسي وعن الفشل في التجريد وفي تَقبُّل تركيبية العالم.

    واليهودية تركيب جيولوجي تراكمي ذو طابع حلولي، ولذا نجد أنها قد استوعبت عناصر ثنوية عديدة (من العبادات الفارسية على وجه الخصوص) أثرت في عقائدها وشعائرها وبنيتها. وتظهر هذه العناصر في مخطوطات البحر الميت ولدى الجماعات الغنوصية أو شبه الغنوصية اليهودية ثم أخيراً في الثنوية المباشرة التي تتبدَّى في شعائر وشخصيات خرافية مثل عزازيل وميتاترون، وكذلك في بعض الملائكة الآخرين الذين أصبحوا قوة مستقلة عن يهوه لها وجود مستقل عنه وتُقدَّم لها القرابين تماماً كما تُقدَّم له، كما كان يحدث في يوم الغفران حينما كان كبير الكهنة يُقدِّم كبشين: أحدهما ليهوه والآخر لعزازيل. وهذه الشخصيات والشعائر تفترض وجود قوتين إلهيتين، إحداهما للخير والأخرى للشر، وهي شخصيات وشعائر تقبلتها اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي. وقد تحولت التوارة في اليهودية الحاخامية إلى قوة معادلة للإله تحوي سرّ الكون، نظر إليها الإله وخلق العالم (فهي اللوجوس الذي يمنح العالم النظام والثبات والشكل النهائي المستقر). وتُعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله ولكنها مستقلة عنه. ولذا فهي تجلس إلى جواره على العرش، فهي إذن تَجسُّد له ولكنها مستقلة عنه.

    وقد تفجرت هذه الثنوية في التراث القبَّالي، فنجد أنها ثنوية تشبه تماماً ثنوية الأنساق الغنوصية، فهناك ثنوية الإين سوف (الديوس أبسكونديتوس أو الإله الخفي اللامتناهي) مقابل التجليات النورانية، وهناك السترا أحرا (الجانب الآخر المظلم) الذي يمثل الشر والظلام مقابل الخير، والشخيناه هي لوجوس تجلس إلى جوار الخالق على عرشه ويقابلها الإله نفسه، كما أن الشخيناه نفسها يقابلها الشخيناه المدمرة التي تَصدُر عن السترا أحرا. والثنوية قد تختلف من بعض الوجوه عن الحلولية الثنائية الصلبة ولكنهما، في نهاية الأمر، شيء واحد؛ فالأولى إن هي إلا حالة متطرفة متبلورة وتطوُّر منطقي للثانية. ويُلاحَظ أن الثنوية اليهودية تؤدي إلى توازي قطبي الثنوية لا الصراع بينهما، ومن ثم فنحن نشير إليها بأنها «ثنوية بنيوية». وهي، في هذا، تختلف عن الثنوية الفارسية ذات الطابع الصراعي الحاد.

    القداســــــــة فـــــــي اليهوديــــــــة
    Jewish Concept of Sacredness and Sanctity
    الرؤية التوحيدية للقداسة موجودة في اليهودية كطبقة ضمن الطبقات الجيولوجية. ولكن هناك، فوقها وتحتها، طبقات أخرى من أهمها الطبقة الحلولية التي يستطيع اليهودي في إطارها ألا يشارك في القداسة وحسب، وإنما يتوحد مع الإله تماماً ويصبح في قداسته. وانطلاقاً من هذه الرؤية الحلولية الثنائية الصلبة التي كانت موجودة بشكل كامن في العهد القديم، ثم تبلورت في التلمود وأخذت شكلاً متطرفاً في القبَّالاه، نجد أن القداسة لم تَعُد حالة يشارك الإنسان فيها من خلال التدريبات الروحية والأعمال الأخلاقية وإنما أصبحت سمة عضوية مُتوارَثة ناتجة عن الحلول الإلهي الدائم.

    وإذا كانت القداسة هي الصفة الإلهية التي تفصل الإله (المطلق) عما هو غير مقدَّس (دنيوي ونسبي)، فإن الشعب اليهودي قد سرت فيه هذه القداسة وأصبح يتسم بهذا الانفصال حينما عقد الإله العهد معه. وبذلك، انقسم العالم بأسره داخل إطار الحلولية الثنائية الصلبة إلى قسمين: اليهود المقدَّسين الذين يعيشون داخل دائرة القداسة، والأغيار الذين يعيشون داخل التاريخ فقط وخارج دائرة القداسة. والأرض التي يقطنها الشعب اليهودي، صهيون أو إرتس يسرائيل، أصبحت هي الأخرى الأرض المقدَّسة التي لا تسري عليها القوانين التاريخية النسبية العادية. كما أن تاريخ هذا الشعب يصبح أيضاً تاريخاً مقدَّساً تختلف بنيته ومساره وقصده عن التواريخ الإنسانية إذ يتسم بالحلول الإلهي فيه.

    ولكل هذا، نجد أن المسافة بين الإله والإنسان وبين الواقع والمثل الأعلى تختفي تماماً ويحل محلها الحوار (الديالوج) الدائر بين الإله والشعب. والإله المقدَّس لا يختلف كثيراً عن الشعب المقدَّس، فهو يوحي إلى الشعب بما يريد أن يسمع. وهو قد اختارهم لأنهم اختاروه كما جاء في التلمود، وكما يقول بن جوريون. وحينما ذهب الشعب المقدَّس إلى سيناء، فإنه كان يحمل روح الشريعة المقدَّسة التي تلقاها من الإله، كما يقول مارتن بوبر، أي أن روح الشعب والقداسة هما شيء واحد. والقداسة نفسها تسري على مؤسسات اليهود الدنيوية القومية كافة أو تحل فيها. إن نسل الملك داود مقدَّس إذ أن الماشيَّح سيكون من بينهم. واللاويون مقدَّسون منفصلون عن بقية الشعب لأنهم من سبط الكهنة. ويوم السبت مقدَّس لأنه اليوم الذي استراح فيه الإله بعد خلق العالم في ستة أيام، وهو أيضاً اليوم الذي خرج فيه اليهود من مصر، ولذلك فهو منفصل عن بقية أيام العمل العادية. واللغة العبرية هي اللسان المقدَّس (لاشون هقودش).

    ويصل حد خلع القداسة على كل شيء قومي إلى درجة أن التلمود (تفسير العلماء اليهود للعهد القديم) يصبح أكثر قداسة من العهد القديم (الكتاب المقدَّس) نفسه. بل إننا نكتشف، من خلال قراءتنا في التراث الديني اليهودي، أن الحوار بين الإله والشعب يصل إلى درجة أن قداسة الإله تصبح من قداسة الشعب، وليس العكس. فقد جاء في أحد كتب المدراش: "حينما تنفذ يسرائيل إرادة الإله، فإنها تضيف إلى إرادة الإله في الأعالي، وحينما تعصى يسرائيل إرادة الإله فكأنها تضعف القوة العظمى للإله في الأعالي". ويفسِّر أحد كتب المدراش فقرة من إصحاح أشعياء (43/12): «وأنتم شهودي ـ يقول الرب، وأنا الإله »، وذلك على النحو التالي: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فأنا (كأنني) لست الإله". فكأن ألوهية الإله، بل وجوده، لا يتجاوز الإرادة والوجود اليهوديين.

    وفي تراث القبَّالاه، وصل الإيمان بقداسة الشعب إلى أشكال في غاية التطرف إذ ذهب بعض القبَّاليين إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مقدَّسة مختلفة عن الطينة التي خُلق منها الأغيار. وبالتالي، تكون أفعال اليهود كلها مقدَّسة لأنها تساهم في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد الإله من خلالها ذاته وكذلك الشرارات الإلهية المشتتة.

    ومن خلال مفهوم الشرارات الإلهية المبعثرة، توصَّل الشبتانيون إلى أن القداسة توجد في الخير وجودها في الشر إذ أن الشرارات الإلهية قد علقت بكل شيء، ومن ثم فإن القداسة شملت كل شيء وأصبحت المبدأ الواحد الذي يسري في الكون ويتخلل ثناياه وبرزت فكرة الخطيئة المقدَّسة (أساساً في الحركة الفرانكية) التي تذهب إلى وجوب الانغماس في الرذيلة حتى يمكن الصعود إلى القداسة. وقد تبدَّى هذا في مفهوم الخلاص بالجسد.

    وقد ورثت الصهيونية هذا المفهوم الحلولي للقداسة التي تتركز في الشعب المقدَّس والأرض المقدَّسة وفي زمانه أو تاريخه أو روحه المقدَّسة، ولكن الصهاينة قاموا بعلمنة هذا المفهوم الحلولي بحيث يُترَك مصدر القداسة غير محدَّد: فهو الخالق بالنسبة للمتدينين، وهو روح الشعب أو أية مقولة دنيوية أخرى بالنسبة للمُلحدين. والقداسة تحل أيضاً في مختلف الممتلكات القومية التي يملكها الشعب. ولذا، نجد أن أحد زعماء الجوش إيمونيم (الحاخام تسفي كوك) يقول: إن الجيش الإسرائيلي هو القداسة بعينها. ومن قبله قال بن جوريون: إن الجيش هو خير مفسر للتوراة. ومن هذا المنظور الحلولي، يمكن أن نفهم مُصطلَحات صهيونية مثل «الحدود التاريخية» و«إسرائيل الكبرى». فالحدود التاريخية هي الحدود المقدَّسة وإسرائيل الكبرى هي الأرض المقدَّسة.

    وقد دخلت اليهودية عصر ما بعد الحداثة حيث تتوزع القداسة على كل المخلوقات فتساوي بينهم وتسويهم وتدخل في حالة سيولة شاملة تصبح فيها التفرقة بين المقدَّس والمدنَّس وبين اليهودي وغير اليهودي أمراً مستحيلاً.
    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
    http://www.rasoulallah.net/

    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

    http://almhalhal.maktoobblog.com/



    تعليق


    • #3
      الغنوصيــــة: تعريـــف
      Gnosticism: Definition

      «الغنوصية» من الكلمة اليونانية «غنوصيص»، ومعناها «علم» أو «معرفة» أو «حكمة» أو «عرفان». وفي التراث العربي الإسلامي، تُستخدَم كلمة «عرفان» عند المتصوفين لتدل على نوع أسمى من المعرفة يُلقَى في القلب في صورة «كشف» أو «إلهام». و«العرفان»، حسب تعريف المؤرخين له، هو العلم بأسرار الحقائق الدينية والخصائص الإلهية، وبكل ما هو سري وخفي (كالسحر والتنجيم والكيمياء)، وهو (من وجهة نظر صاحب العرفان) أرقى من العلم الذي يحصل لعامة المؤمنين البسطاء أو لأهل الظاهر من العلم الديني الذين يعتمدون النظر العقلي، و«العرفاني» هو الذي لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص في باطنها لمعرفة أسرارها. وهي معرفة تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك وهو ما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة (ومن ثم تصبح الإرادة بديلاً للعقل). فالمعرفة هنا لا تعني العلم، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل بقصد التطهير والتخلص من الأدران والتوصل للصيغة الغنوصية اللازمة لرحلة العودة للاندماج من جديد في العالم الإلهي الذي جاء منه الإنسان. والغنوصية ترى أن ثمة جوهراً واحداً يجمع بين كل الديانات ولذا لا تقدم نفسها كديانة جديدة، بل كباطن للشريعة القائمة، ومهمة الغنوص الكشف عن المغزى العميق للعقيدة (ولكل العقائد) التي ينتمي إليها الغنوصي بواسطة معرفة باطنية وكاملة لأمور الدين. ويتم التمييز بين الغنوصية كموقف من العالم (غنوص عملي) والغنوصية كنظرية لتفسير الكون (غنوص نظري) ولكنهما بطبيعة الحال مرتبطان تمام الارتباط، وخصوصاً أن الغنوص النظري نفسه ذو توجُّه عملي، فالعرفان يتم التوصل إليه من خلال طقوس وشعائر محددة.

      والغنوصية حركة فلسفية وتعاليم دينية متنافرة تأخذ شكل أنساق أسطورية جميلة في غاية التنوع وعدم التجانس، انتشرت في الشرق الأدنى القديم في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. ورغم أن أساطيرها وتعاليمها وأفكارها غير متجانسة، بل تنافرها، يمكن القول بأن ثمة بنية كامنة واحدة أو نموذج معرفي واحد، ذلك أن المنظومات الغنوصية كافة منظومات كمونية حلولية واحدية تبحث عن مبدأ واحد مطلق يحكم الكون بأسره، كما تبحث عن قانون شامل من غير ثغرات يعبِّر عن الواحدية الكونية التي ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد ومن ثم يذوب الكل في الجزء وتصبح الركيزة النهائية كامنة في المادة، ولذا يتحقق النموذج في لحظة التوحد الكامل بين الخالق ومخلوقاته (وباختفاء الإنسان في مقولات أكبر منه)، أي أنها تنتهي بموت الإله ثم بموت الإنسان). وهي محاولة لتفسير كيفية خروج النسبي من المطلق، والشر من الخير، وتجيب عليها بإجابات بسيطة بل ساذجة من خلال الأنساق الأسطورية التي تختزل الواقع الإنساني والتاريخي المركب. وتستخدم الغنوصية مفردات الحلولية الكمونية الواحدية وصورها المجازية (الجسد ـ الجنس ـ الرحم ـ الأرض) لإدراك العالم.

      تبدأ المنظومة الغنوصية من نقطة فردوسية لا تحتوي إلا على النور والقداسة، حالة تماسك واحدية عضوية لا يوجد فيها كل منفصل عن الأجزاء، ولا توجد فيها ثغرات (حالة البليروما). ويوجد الإله الخفي (باللاتينية: ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) وراء البليروما، وهو إله متعال لا يقبل الوصف متجاوز تماماً للدنيا حتى حد التعطيل، غير مكترث بها أو معاد لها، والطبيعة لا تعبِّر عنه أو عن مقاصده. هذا الإله الواحد لم يخلق العالم دفعة واحدة من العدم وإنما من خلال عملية تدريجية من خلال الفيض والصدور ففاضت مخلوقات تُسمَّى الأيونات وهي القوى الروحية الأولية وهي بمثابة تشخُّصات للإله. وأهم الأيونات هي الإنسان نفسه الإنسان الأول وآدم قدمون أو أنثرويوس الذي هو نفسه الإله أو ديوس. ومن أهم الأيونات الأيون المسمى «صوفيا» أو «الحكمة».

      وتذهب الغنوصية إلى أن الكون شرير ومعاد، وأن العالم سجن والزمان ردئ، وأن الإنسان لا ينتمي إلى هذا العالم وأنه وقع فيه وفي الزمان لا لذنب اقترفه أو لشر متأصل فيه وإنما بسبب خلل كوني أدى إلى تسرُّب بعض الشرارات الإلهية بحيث حُبست داخل المادة. والإنسان هو جزء من هذه الشرارات، فهو ينتمي إلى العالم النوراني، عالم الإله الخفي. ولن يتم الخلاص ولن يبلغ الإنسان الكمال (الذي هو اسم آخر للنجاة والخلاص) إلا من خلال معرفة خفية باطنية (غنوص) تتصل بالحقيقة الكلية الشاملة، وهي معرفة أو عرفان يفضي بالإنسان إلى معرفة بالإله، فالإله هو في نهاية الأمر الإنسان، والإنسان هو الإله، أو على الأقل ينتميان لعالم واحد، وقد صيغ من مادة واحدة أو جوهر واحد، ولذا فإن الخلاص والكمال هو اتحاد الذات الإنسانية مع الألوهية اتحاداً جوهرياً وانتهاء العالم. وقد لخص ثيودوتوس الغنوصية في عبارته الشهيرة، فقال "معرفة من كنا، وماذا أصبحنا، وأين كنا، وفي أي مكان أُلقي بنا، وإلى أي مكان نحث الخطى، وكيف نحصل على الخلاص، وما الميلاد، وما الميلاد الجديد؟".

      وقد أصبحت كلمة «غنوصية» في اللغات الغربية عَلماً على المذاهب الباطنية وعلى الهرطقات الجوهرية التي تقف على الطرف النقيض من العقائد السماوية التوحيدية. ويمكن القول بأن الغنوصية ليست شكلاً من أشكال التصوف الذي يدور في إطار توحيدي ويدعو إلى كبح جماح الجسد حتى يقترب الإنسان من الإله وهو يعرف أن الاتحاد به مستحيل (فهو إله مفارق متجاوز للطبيعة والتاريخ). ومثل هذا التصوف يتبدَّى في التاريخ في شكل فعل أخلاقي وسلوك اجتماعي يدل على طاعة الإله. تقف الغنوصية على طرف النقيض من هذا النوع من التصوف (التوحيدي)، فهي تهدف إلى الالتصاق بالإله والاتحاد معه بهدف الوصول إلى المعرفة الباطنية والصيغة النهائية (الغنوص) التي يمكن عن طريقها التحكم في الواقع وفي البشر بل في الإله، فهي شكل من أشكال التصوف الحلولي الكموني ووحدة الوجود الروحية. وهي، في هذا، تشبه القبَّالاه التي تحاول الوصول إلى المعرفة الباطنية ولا تكترث كثيراً بالتمارين الصوفية، وذلك باعتبارها محاولة للاقتراب من الخالق، فكل همها هو تحقيق الالتصاق بالإله والوحدة معه بهدف المعرفة من أجل التحكم (في الكون بل في القوة الخفية السارية فيه، أي الإله).

      ونحن نطرح نموذجاً توليدياً لدراسة الغنوصية وتفسير سر انتشارها، فنذهب إلى أنها رؤية للكون تستجيب لشيء جوهري في الإنسان، وهو ما نسميه النزعة الرحمية، أي الرغبة في الانسحاب إلى الرحم وفقدان الهوية وتصفية الثنائيات الأخلاقية والمعرفية.

      وقد أورد كاتب مدخل «الهرمسية» في موسوعة تاريخ الأفكار ما يسميه «مجموعة أفكار الفوضى» (بالإنجليزية: كيوس سندروم ( chaos syndrome وهي محاولة من جانبه لأن يرصد بعض السمات الأساسية للرؤية الكونية الكامنة وراء المنظومات الغنوصية (ومنها الهرمسية) وقد أوردها على النحو التالي:

      1 ـ يخلق الإله العالم من مادة قديمة.

      2ـ تتم عملية الخلق نتيجة تصادم ضخم أو لقاء جنسي بين عنصرين أساسيين.

      3 ـ الخلق يتضمن عناصر من الغريب واللامعقول.

      4 ـ التغير والظلام والطمي تنتج الحياة.

      5 ـ الثعبان والمخلوقات الهجين هي رمز الطاقة ويتم تأليهها.

      6 ـ العالم جسد يجدد نفسه دائماً، ومن هنا العود الأبدي.

      7 ـ «كما هو في الأعالي، كذلك في هذا العالم» أي عقيدة التقابل بين السماء والأرض والعرفان الكوني.

      8 ـ يمكن أن ينزل الإله إلى هذا العالم ليشارك في الأمور الإنسانية ويصبح عاملاً من عوامل إدخال الحضارة. والإله لا يتجاوز عملية التحول والعذاب التي تُعَد جزءاً من عملية الخلق والميلاد.

      9 ـ يستطيع الإنسان أن يرتفع لمنزلة الآلهة.

      10 ـ «الهبوط الثمين» هو الهبوط في الظلمات ومواجهة وحوش الأعماق أمر ضروري ومصدر لتجربة حيوية يمر بها البشر والآلهة.

      وهو يرى أن هناك بعض المنظومات الدينية الشعبية تتسم بكل أو بعض هذه الصفات. والمنظومات الغنوصية تنتمي إلى هذا النمط في تصوُّرنا.

      والغنوصية هي النموذج المتكرر والكامن وراء معظم (إن لم يكن كل) الفلسفات والأنساق الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) عبر التاريخ، وهي أهم تعبير عن الواحدية الكونية وعن النزعة الطبيعية المادية، وأكثرها تبلوراً، وهي القواعد أو النحو العالمي الكوني للهرطقة، الذي وُلدت منه كل أنواع الهرطقات المادية المعادية للإله والإنسان، علمانية كانت أم «دينية»، وهي هرطقات ليست معادية للإله المتجاوز وحسب وإنما معادية للإنسان باعتباره كائناً فريداً مركباً حراً متعدد الأبعاد قادر على تجاوز ذاته الطبيعية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة وعلى اتخاذ مواقف أخلاقية تنبع من حريته وإحساسه بالمسئولية وبهويته وحدوده، أي أن الإلحاد الغنوصي إلحاد جوهري وجذري وتعبير عن عداء عميق لظاهرة الإنسان نفسها. وانطلاقاً من نموذجنا التوليدي، فإننا نذهب إلى أن الغنوصية قائمة منذ بداية التاريخ. وقد ظهرت الحركة المسماة بالغنوصية في لحظة تاريخية شعرت فيها قطاعات كبيرة من سكان المدن في الإمبراطورية الرومانية بضياعها وعدم انتمائها وغربتها عما حولها. وبعد القضاء على الغنوصية كحركة، ظلت المنظومة الغنوصية منتشرة بين الجماهير (بعد القضاء على قيادتها)، ذلك على هيئة الممارسات والعقائد الدينية الحلولية الواحدية المختلفة تحت أسماء مختلفة. وقد أحرزت الغنوصية نجاحاً فائق النظير في حالة النسق الديني اليهودي إذ تصاعدت معدلات الحلولية حتى أصبحت اليهودية عقيدة غنوصية من خلال القبَّالاه. وقد أحرزت الغنوصية انتصارها الأكبر مع ظهـور العلمـانية (الحلولية الواحدية المادية ووحدة الوجود المادية)، فالفلسفات والأنساق العلمانية، هي بمعنى أو آخر، شكل من أشكال الغنوص. ومن المعروف أن الظروف التي عاش فيها أتباع الحركة الغنوصية لا تختلف كثيراً عن الظروف التي يعيشها الإنسان الحديث في المدينة الحديثة أو في المجتمعات الحديثة التي تم ترشيدها وإخضاعها لمعايير الكفاءة المستمدة من نماذج طبيعية/مادية يُقال لها «علمية».


      الغنوصيـــة: تاريـــخ
      Gnosticism: History

      تُلقي الخلفية التاريخية والثقافية للغنوصية الكثير من الضوء على بنيتها. ويبدو أن جذورها تعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ولنتخيل أن مواطناً في الألف الأخير قبل الميلاد، في الشرق الأدنى القديم، كان يعيش في كنف الإمبراطورية الفارسية، وهي إمبراطورية شرقية قد تكون غريبة عليه، ولكنها مع هذا لها تقاليدها الحضارية الشرقية القريبة من تقاليده، كما أنها كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، اعتمدت أسلوباً في الإدارة مبنياً على عدم المركزية وعلى السماح للجماعات المحلية بقدر من الإدارة الذاتية، فكانت تُحصِّل الضرائب من خلال كبار الملاك المحليين، الأمر الذي ترك الريف دون تَدخُّل عنيف من القوة الإمبراطورية الأجنبية، ومن ثم لم يتغير أسلوب الحياة فيه.

      وجاءت الإمبراطورية اليونانية بثقافتها الهيلينية، وقد أسس هؤلاء الغزاة مدناً قوامها فرق من المرتزقة والمستوطنين الأجلاف الذين كانوا لا يعرفون من الثقافة الإغريقية غير القشور (مثل السيرك والألعاب)، ولحقت بهم جماعات من المثقفين. ثم بدأت حركة هجرة داخل الإمبراطورية الهيلينية نحو هذه المدن، وهو ما أدَّى إلى نموها وتضخُّم حجمها، ولذا كانت هذه المدن تختلف عن المدن/الدول اليونانية. فالعلاقات الإنسانية في المدينة/الدولة كانت متعيِّنة متجانسة، لأن المدينة/الدولة كانت وحدة صغيرة تكاد تكون عضوية في تماسكها، إذ كان يشارك الجميع في العملية السياسية والأحـداث الثقافية، وكان ينتظم كل هـذا إطار العبادة الوثنية الهيلينية. ويُقال إن تجربة الإنسان اليوناني داخل المدينة/الدولة يشكل أساس الأنطولوجيا الغربية الكلاسيكية: الكل يسبق الأجزاء، والكل أحسن من الأجزاء، والكل هو الغاية والأجزاء هي الوسيلة. وكان الفرد هو الجزء في هذه المنظومة، والمدينة/الدولة هي الكل، وكان الفرد يشعر بهذه المقولات بشكل متعيِّن ومباشر من خلال تجربته الحياتية اليومية، هذا على النقيض من المدن اليونانية في الشرق فقد كانت أكبر حجماً وكانت تضم عناصر بشرية غير متجانسة لكلٍّ دينها وشعائرها وتجربتها التاريخية. ولذا، كانت كل جماعة تنكفئ على ذاتها وتنعزل عن المدينة، ولكنها كانت في الوقت نفسه تفقد هويتها لبعدها عن مراكز الحضارة الخاصة بها، وكانت تكتسب الخطاب الحضاري اليوناني أو قشوراً أو شذرات منه عن وعي أو عن غير وعي فيمـتزج بخطابها الحضـاري ويحـل محلـه في بعض الأحيان. وكانت هذه المدن مدناً دولية تصلها التجارة من كل أنحاء الأرض (الصين وأوربا) وتُقام فيها أسواق ضخمة لها إيقاعها السريع وحجمها الضخم. ومن ثم، لم يكن بوسع الفرد أن يمارس علاقة عضوية مع الآخرين أو مع المدينة.

      إلى جانب كل هذا، كان يوجد انقسام حاد بين النخبة الإغريقية الحاكمة في المدينة والنخب الأخرى (المصرية واليهودية والفارسية) التابعة لها من جهة، ومن جهة أخرى الجماهير التي كانت: إما تأغرقت بشكل سطحي أو ظلت شرقية في تراثها وهويتها. وإلى جانب هذا الصراع الثقافي، كان يوجد صراع طبقي إذ أن استقلال الطبقات الحاكمة قد تزايد (وخصوصاً في مصر) بسبب تزايد قبضة البيروقراطية تحت حكم اليونان، وكان المصريون يدفعون الضرائب للتاج وللمدن التي كانت تمارس حقوقها على الأراضي الزراعية التي تملكها، ولأصحاب الأراضي التي يعيشـون فيها، ولذا أُفقر الريف وزادت الهجـرة إلى المدينة.

      ثم سقطت بعد ذلك الإمبراطورية اليونانية. ومع الحكم الروماني، زادت الأمور سوءاً، فمع تزايد الحروب زادت الضرائب واندلعت الثورات (مثل التمردين اليهوديين الأول والثاني في القرنين الأول والثاني الميلاديين)، كما ازدادت الفجوة الثقافية بين الحاكم والمحكوم. وأدَّى اتساع نطاق الإمبراطورية إلى تزايد اختلاط الديانات المختلفة وإلى عمليات تهجينها، فامتزجت الآلهة الشرقية بالآلهة اليونانية والرومانية. ووجد المواطنون أنفسهم في إمبراطورية مترامية الأطراف، لا تؤمن بأية آلهة، أو تؤمن بآلهة كثيرة. وبذا، أصبح الكل مبعثراً وأصبح الجزء لا معنى له. وقد تماسك الكل لا بسبب أية أيديولوجية وإنما من خلال العنف الذي كانت تمارسه السلطة وبفعل توازن القوى، وهي سلطة كانت لا تكترث كثيراً بالتراث الحضاري للمواطنين فتدع كل فرد يمارس ما يشاء من شعائر طالما أنه يدفع الضرائب التي كانت تضمن تدفقها الطرق الرومانية والجنود الرومان الأجلاف، سادة العالم الذين كانوا لا يؤمنون بدين أو كانوا يؤمنون بدين وثني متخلف يرتكز على عبادة الإمبراطور ومجمع الآلهة (بانثيون) الروماني.

      وجد المواطن نفسه في إمبراطورية غريبة عليه، معادية له، حاكمها ظالم يفرض عليه القانون الروماني الغاشم، وجنودها أجلاف. كما وجد أنه ليس بمواطن روماني، ولذا فإنه لا حقوق له مع أن علاقته بوطنه الأصلي قد ضَعُفت، وخصوصاً إذا كان من سكان المدن. وفي هذه التربة، انتشرت الغنوصية بين أعضاء البورجوازية الصغيرة وبين كثير من أعضاء الطبقات غير المستغلة التي فقد أعضاؤها مناصبهم ومكانتهم، أو على الأقل تراجع نفوذهم رغم شعورهم بحقهم في أن يكونوا أحراراً، وكان عندهم الطموح للحراك والصعود إلى أعلى دون أن تكون عندهم الوسيلة لذلك: طبقات فقدت عالمها القديم ولم يستوعبها العالم الروماني الجديد. وأعضاء هذه الطبقات كانوا متعلمين يعرفون الفلسفة اليونانية بدرجات متفاوتة من العمق والسطحية، ولكنهم كانوا مع هذا ملمين بأسرار الديانات الشرقية، ولذا قاموا بالمزج بين العناصر اليونانية والشرقية حينما صاغوا أيديولوجيا جديدة (وهذا المزج هو الذي أعطى الغنوصية مقدرة تعبوية هائلة).

      وقد انتشرت الغنوصية في المدن الكوزموبوليتانية الكبيرة، مثل الإسكندرية وأنطاكية وروما ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن تتسم ببعض أو كل الملامح التي أشرنا إليها من قبل؛ مدن تقع على الحدود بين الشرق المتأغرق وروما، ومع هذا، ظل الشرق مركز جاذبيتها الثقافية. وحتى الزعماء الغنوصيون الذين ظهروا في الريف (مثل شمعون الساحر من السامرة) كان نشاطهم في المدن أو تربطهم علاقة وثيقة بها.

      هذا الوضع الحضاري والتاريخي يفسر كثيراً من جوانب الغنوصية، فهو يفسر ازدواجية الغنوصية الشرقية/الإغريقية، كما يفسر طبيعة الحل الذي تطرحه وجذريته. فإذا كان الإنسان يشعر بالغربة والاغتراب والهجران إلى هذا الحد، فإن الحل الذي سيطرحه لمشكلته لن يقل جذرية. والغنوصية أعلنت أن هذا العالم فاسد تماماً، فسقطت المدن والإمبراطوريات والعالم الطبقي والقوانين الطبيعية والأخلاقية الغاشمة بضربة معرفية واحدة. أما عالم المدينة الوثني الذي يتطلب الانتماء إليه الانتماء للعبادة الوثنية، فإنه يسقط هو الآخر بإعلان أن طريق الخلاص هو العرفان الداخلي دونما حاجة لكهنة أو معابد (وهذا مناسب جداً في اقتصاد مبني على حركة تجارية مستمرة، فأماكن العبادة الثابتة غير صالحة). أما اغتراب الإنسان فبوسع الإنسان أن يعقلنه قليلاً بأن يدَّعي أنه يوجد في هذا المكان ولكنه ليس منه. أما وجود الإنسان في موقع متدن من السلم الطبقي، فيستطيع مثل هذا الإنسان أن يُفسِّره لنفسه بأنه في واقع الأمر من الروحانيين في عالم جسماني. أما من هم في قمة السلم فهم في واقع الأمر الجسمانيون أو النفسانيون على أحسن تقدير، وهو سلم سيُقلب رأساً على عقب حين يعود الإنسان العارف لأصله الروحاني ويشغل قمة الهرم، وبذا يحل محل النخبة اليونانية/الرومانية. أما الجسمانيون أو النفسانيون فهم كالقشرة أو المحارة سيُنبذون أو يحتلون مكانهم في أدنى درجات السلم.

      وكانت الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات تأثراً بهذه التحولات (تماماً كما حدث لها في العالم الغربي بسبب ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والدولة القومية والرأسمالية الرشيدة والتشكيل الاستعماري الغربي). وقد كان اليهود من أكثر الجماعات انتشاراً في المدن الإغريقية، ومن المعروف أنه في المائة الأخيرة قبل الميلاد، كان عدد اليهود في الإسكندرية أكثر منهم في القدس، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر منهم في داخلها. وقد اندمج اليهود في الحضارة الهيلينية بشكل سريع، وفقدت أعداد كبيرة منهم هويتها، وأصبحت النخبة الاقتصادية بينهم من كبار ملاك الأراضي ومحـصلي الضـرائب والكهنة مُسـتوعَبين في النسق الحضـاري الهيليني. وقد تُرجم العهد القديم إلى اليونانية، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية في الإسكندرية نسوا العبرية، وقام مفكرون مثل فيلون بمحاولة المزاوجة بين الهيلينية والتفكير الديني اليهودي. وقد حقَّق اليهود حراكاً اجتماعياً هائلاً، فكان منهم الجنود والشرطة وقادة الجيش وجامعو الضرائب وكبار التجار. ثم جاءت الدولة الرومانية لتحطم الهيكل، مركز العبرانيين الثقافي والديني، وهي تجربة جاءت بعد التهجير إلى بابل بعد هزائم متكررة لحقت بالشعب المختار. وقد حقَّقت قلة من اليهود، وخصوصاً العناصر المتأغرقة، مزيداً من الحراك (مثل تايبيريوس يوليوس ألكسندر، ابن عم الفيلسوف فيلون وأحد القادة العسكريين في حملة تيتوس لتحطيم الهيكل). وتحوَّل بعضهم من جماعة وظيفية قتالية إلى جماعة وظيفية تجارية. أما غالبية أعضاء الجماعات اليهودية، فوجدوا أنفسهم في عزلة بعد أن فقدوا هويتهم وعلاقتهم بفلسطين، ووجدوا أنفسهم في حالة صراع مع الأرستقراطية اليونانية إذ آثر الرومان التعامل مع اليونانيين على التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية. وقد كان على كثير من يهود الإسكندرية وفلسطين وغيرهما من البلاد التي تدور في الفلك الروماني أن يتخلوا عن دينهم وأن يقطعوا علاقتهم بالجماعة اليهودية إن أرادوا الحصول على المواطنة لتحقيق الحراك (وهذا ما فعله تايبيريوس). بل إن هذا البديل أصبح في حدّ ذاته غير ممكن لكثير من اليهود إذ أن الأرستقراطية اليونانية واليهودية المتأغرقة ما كانت لتقبلهم حتى لو تخلوا عن دينهم، ولذا وجد هؤلاء أنفسهم وقد صُنِّفوا يهوداً مع أن هويتهم اليهودية ضعيفة جداً. ومع هذا، كانت هذه الهوية المزعومة الضعيفة الواهية هي التي تجذبهم نحو القاع. وقد حدثت الأزمة في وقت كانت فيه اليهودية نفسها في حالة أزمة وانقسام، وتصاعدت التوقعات المشيحانية كما هو واضح في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، الأمر الذي جعل هؤلاء اليهود يفقدون صبرهم ويودون أن تأتي لحظة الخلاص حيث تتحطم الحدود والسدود والقيود. وقد كان هناك عدد من الفرق اليهودية التي تختلف الواحدة عن الأخرى، من أهمها الجماعات المشيحانية مثل الأسينيين والغيورين وحملة الخناجر. ولكل هذا، فإننا نجد أن الغنوصية (التي تشكل اليهودية رافداً أساسياً فيها) قدمت الحلول الجذرية لأعضاء الجماعات اليهودية من المندمجين في الحضارة اليونانية الرومانية المغتربين عنها. لقد قدمت لهم نسقاً أسطورياً معادياً لليهودية، رافضاً لها، يعدهم بالتحرر منها ومن الرومان في الوقت نفسه. فالغنوصية رفض للمادة من حيث هي قيد، والمادة بالنسبة إليهم هي أولاً عالم التفاوت الاجتماعي والقهر الروماني الذي يحول بينهم وبين الحراك الذي يطمحون إليه. أما الإله الصانع وحكام السماوات والأرض (أركون)، فهم الحكام الرومان وجنودهم والنخبة اليونانية الحاكمة التي تضع العراقيل في طريقهم. ولكن الإله الصانع هو أيضاً إله يسرائيل الذي خلق المادة أو صاغها في صورتها الكريهة والذي أرسل شريعته ليثقل بها كاهل اليهود ويحول دون دخولهم إلى العالم الروماني. وحسب بعض المنظومات الغنوصية، فإن شريعة موسى هي شريعة العامة (الجسمانيين والنفسانيين). ومع هذا، فإنها تحوي داخلها الغنوص اللازم والذي ظهر في العهد الجديد. ولذا، كان هؤلاء يرفضون العهد القديم تماماً أو كانوا يفسرونه تفسيراً يجعل منه تمهيداً للعهد الجديد. وفي الواقع، فإن سقوط النور في الدنيا وتبعثره وأسره، هو تبعثر اليهود وسبيهم ووجودهم في هذه المدن اليونانية المعادية، وما العالم الشرير والزمان الردئ سوى عالم الرومان وزمانهم، ولكنه هو أيضاً عالم يهوه وتاريخه الملئ بالكوارث والتشتت والتهجير والاضطهاد.

      والخلفية الثقافية للغنوصية مرتبطة تماماً بالخلفية التاريخية، وهي الأخرى تلقي الضوء الكاشف على بنيتها الأسطورية الفكرية. وكما أسلفنا، سيطرت الإمبراطورية الفارسية على المنطقة ردحاً من الزمان، ونشرت ديانتها الثنوية فيها. ثم جاء غزو الإسكندر للمنطقة، وانتشرت الثقافة الهيلينية، فمزجت الأفكار والعقائد الوثنية وديانات الأسرار المختلفة بالفلسفات والعقائد اليونانية. وبعد ذلك، ظهرت المرحلة الرومانية التي أسقطت الحدود القومية وشجعت التبادل بين الشعوب في الشرق والغرب.

      نبعت الغنوصية من هذه التشكيلة الفريدة، فضمت بقايا العبادات والديانات الوثنية القديمة وأديان الأسرار، ووضعتها في إطار واحد، وفرضت عليها مقولات الفكر اليوناني الفلسفي ومصطلحه (ومن هنا نجد أن الفكر الغنوصي يتسم بأنه تفكير أسطوري بدائي مُختلط بفكر فلسفي مجرد). ومن أهم جذور الغنوصية عبادة بابل التي طرحت فكرة السماوات المختلفة التي يتحكم في كل واحدة منها كوكب، كما طرحت فكرة أن العالم مكوَّن من دوائر مركزها الأرض. ومن مصادر الغنوصية الأخرى، العبادات الفارسية بثنويتها الكاملة المتمثلة في الصراع الدائر بين أورمازد إله الخير والنور، وأهريمان إله الشر والظلام. كما دخلت بعض المفاهيم من العبادات المصرية القديمة، مثل تأليه الإنسان والعنصر الجنسي في عملية الخلق. وامتزج بكل هذا عناصر من الفكر الإغريقي الذي كان ينطـوي على الإيمـان بأن ثمـة حكمة خفية في الأساطير الشرقية. وقد تبنَّى بعض الفلاسفة اليونانيين (الرواقيون مثلاً) أفكاراً من العبادات الشرقية، كما أن عبادات الأسرار (مثل عبادة إيزيس) وجدت طريقها إلى اليونان. وقد قامت الأفلاطونية المحدَثة بالتفرقة وبحدة بين الإله الواحد المتسامي وبين الإله الصانع المادي (ديمي إيرج Demiurge)، وجعلت معرفة الإله الواحد معرفة باطنية غنوصية. ومن أهم مصادر الغنوصية التراث الديني اليهودي (انظر: «الغنوصية واليهودية»).

      ويذهب بعض دارسي الغنوصية إلى أن تعددية المصادر وانعدام التجانس هو سمة أساسية فيها، فهي قادرة على استيعاب أي عنصر في الديانات الأخرى إن كان يدعم وجهة نظرها العدمية الشاملة التي تهدم كل الحدود ولا تفرق بين الأنساق التاريخية والدينية والفلسفية المختلفة. ورغم تنوع المنظومات الغنوصية، إلا أن ثمة بنية واحدة كامنة تبرر الحديث عن منظومة غنوصية معرفية وأخلاقية واحدة.

      وتتسم الغنوصية، مثل كثير من الحركات الباطنية والحلولية، بأنها سريعة الانقسام وذلك بسبب مركزية الزعيم أو القائد فيها، إذ عادةً ما يتأله ويتحول إلى لوجوس أو مطلق أو تجسُّد للإله في الأرض تدور حوله الجماعة. ولأن المطلق لا يمكن أن يتعايش مع مطلق آخر، لذا يحدث الانقسام.

      ومن أهم الشخصيات الغنوصية شمعون ماجوس، أي سيمون الساحر (عاش في القرن الأول الميلادي)، الذي يُشار إليه دائماً بأنه أول الغنوصيين. كان من السامريين، وعاش في زمن الحشمونيين. وقد عثر سيمون على عاهرة تسمَّى هَـيّلانه في إحدى الحانات، فأعلن أنها صوفيا التي جاءت لإنقاذ العالم وتزوجها وأعلن نفسه المخلّص وآمن بمقدرة السحر على التحكم في العالم. ويبدو أن أتباعه كانوا يقومون بطقوس ذات طابع جنسي، ترخيصي (تأليه الكون). ثم جاء بعده ساتورنيوس من أنطاكية الذي أعاد تفسير قصة المسيح بحيث أعطاها مضموناً رهبانياً ينكر الجنس تماماً (إنكار الكون).

      أما أعظم الغنوصيين فكان فالنتينوس، ورغم اسمه اللاتينيّ إلا أنه كان من أصل يوناني وُلد في دلتا مصر عام 100 ميلادية وتلقى تعليمه في الإسكندرية. ولم ينفصل هو وأتباعه عن الكنيسة في الإسكندرية، بل أسسوا أكاديمية للبحث الحر. وقد تبع هذه الأكاديمية شبكة من الجماعات المحلية داخل إطار المؤسسة الدينية، وكان فالنتينوس مشهوراً ببلاغته وعبقريته. وقد رأى فالنتينوس في المنام ـ حسب ما قال ـ رؤيا مأساوية، إذ رأى الجزء الذي يصدر عن الكل، هذا الجزء هو ما يشكل أساس الوجود ويُسمَّى «الأعماق»، كما رأى زوجته التي تُسمَّى «الرحمة» أو «السكون». ومن خلال زواجهما يولد المسيح أو اللوجوس الذي تعتمد عليه كل الأيونات. ومن خلال المسيح، أدرك فالنتينوس الكل (بليروما) وذوبان الذات في الكل.

      وكان هناك أيضاً مرقيون، وهو من مُلاَّك السفن الأثرياء من مقاطعة بونتوس على البحر الأسود. لم يفهم مرقيون سوى فكرة واحدة هي أن الإله، أو المسيح، لم يكن يهوه إله العبرانيين، فهذا هو الإله الصانع. وقد كان مرقيون يقتبس دائماً خطاب بطرس إلى أهل غلاطيا ويبيِّن الفرق بين قانون العهد القديم وقانون العهد الجديد. فمسألة حب الإله غير المشروط للإنسان، التي وردت في إنجيل بطرس، مسألة اكتسحت مرقيـون تماماً، فأسَّس كنيسة (مسيحية) منافسة للكنيسة القائمة حينذاك. ومن أهم المفكرين الغنوصيين باسيليديس الذي كان قائد مدرسة نشيطاً في الإسكندرية في زمن الإمبراطور هادريان (في بداية القرن الثاني الميلادي) ويبدو أنه كان يهودياً متأغرقاً رفض فكرة الإله الشخصي وتبنَّى فكرة الإله الخفي وذهب إلى أن المسيح أصبح روحانياً عند تعميده في نهر الأردن (لا عند ميلاده). (وقد ظل باسيليديس عضواً في الكنيسة ولم يُطرَد منها قط، وهذا مما يبين غموض الموقف المسيحي من الغنوصية).

      وأهم دعاة الغنوصية ماني صاحب المذهب المانوي الذي وُلد في فارس (216 ـ 277) ونشأ في مدينة مسيحية يهودية، وتتسم منظومته بالثنائية الحادة، ربما بسبب أصلها الفارسي. وقد كان القديس أوغسطين (354 ـ 430)، في بداية حياته، من أتباع ماني، وكتب بعض مؤلفاته أثناء هذه المرحلة. وأهم الوثائق الغنوصية هي نصوص نجع حمادي حيث كانت مصر مركزاً للتفكير الغنوصي. وللغنوصيين كتب مقدَّسة، من بينها: أبوكريفون جون (أي كتاب جون الخفي)، وإنجيل توماس (الذي عُثر عليه في مصر)، وإنجيل فيليب، وإنجيل مريم المجدلية.

      وبعد القضاء على الهرطقة الغنوصية على يد الكنيسة، وبعد موت قيادتها، استمرت الغنوصية على هيئة حركات دينية خارج الديانات التوحيدية وأحياناً داخلها. ويمكن القول بأن منظومة عبد الله بن سبأ هي منظومة غنوصية. ويرى المؤرخون أن التصوف الإسلامي الحلولي المتطرف ذو طابع غنوصي، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي. ويمكن تصنيف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص. ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفاً، («مندائي» هي الكلمة الآرامية لـ «غنوص» فالمندائي هو العارف وهي من كلمة «منداء» أو «منداع» بمعنى «معرفة») وتتضمن عقيدتهم التطهر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركبة. فحينما يموت المندائي، يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي حيث ستتلقى جسداً روحياً جديداً، وبهذه الطريقة يتوحد الميت مرة أخرى مع آدم السري (الإنسان الأزلي)، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.

      وقد ظهرت جماعات غنوصية داخل المسيحية، مثل جماعات الكاثاري التي ازدهرت بين القرنين الثالث والحادي عشر في أرمينيا وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان ومنها انتشرت إلى غرب أوربا وخصوصاً جنوب فرنسا (الهرطقة الألبيجينية وغيرها). ويُقال إن فرسان الهيكل كانوا أيضاً جماعة غنوصية، وأن المنشدين الذين يُطلَق عليهم لفظ «تروبادور»، الذين تغنوا (تأثراً بالعرب) بالحب العذري الذي تحوَّل إلى عبادة العذراء، قد تبنوا رؤية غنوصية للواقع. أما في شرق أوربا (في بلغاريا وشبه جزيرة البلقان ويوغسلافيا)، فقد ظهرت جماعة البوجوميل (أصدقاء الإله). ويُقال إن مسلمي البوسنة والهرسك كانوا من أصول غنوصية، فكأن الغنوصية هنا كانت الأرضية الفلسفية التي رفضوا على أساسها المسيحية وأصبحوا هامشيين بالنسبة لها، ولذا كان من السهل دخولهم في الإسلام مع وصول العثمانيين.

      وقد تغلغلت الغنوصية في اليهودية وهيمنت عليها تماماً في القرن الرابع عشر بظهور القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية، وهي منظومة غنوصية متطرفة (انظر: «الغنوصية والقبَّالاه»).

      ومن منظور هذه الموسوعة، فإن من أهم الجماعات الغنوصية جماعات المنشقين (بالروسية: راسكول) الذين تركوا الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وكان معظمهم من عناصر فلاحية روسية. وكان الريف الروسي وثنياً إلى حدٍّ كبير (حيث دخلته المسيحية في وقت متأخر نوعاً). ولذا، ظهرت جماعات منشقة عديدة، كانت غنوصية متطرفة رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. كان من بينهم جماعة الخليستي، أي من يضربون أنفسهم بالسياط (كان منهم راسبوتين)، والجريشنيكي الذين كانوا يؤمنون بالخلاص من خلال ارتكاب الرذائل والموبقات (تأليه الكون)، والبيزجلوفنسكي الذين كانوا يلزمون الصمت لمدد طويلة. ومن أهم هذه الجماعات الدوخوبور (ومنهم مدام بلافاتسكي التي كان يتردد عليها كثير من رواد حركة الحداثة في الفن والأدب) وهي مؤسسة الجماعة الثيوصوفية في لندن (ماتت 1891). وكان هناك السكوبتسي، المخصيون، الذين كانوا يعبِّرون عن إيمانهم بالخالق بخصي أنفسهم (إنكار الكون). وقد تأثرت الحسيدية بهذه الجماعات الغنوصية، وخصوصاً الخليستي.

      وقد تمتعت الغنوصية بحركة بعث جديدة حين بدأ الإنسان الغربي مشروعه التحديثي، ونحن نذهب إلى أن ثمة علاقة قوية بين الغنوصية والمشروع التحديثي التنويري العلماني الغربي (انظر: «الغنوصية والتحديث»).

      الأصــول اليهــودية للغنوصيــة
      Jewish Origins of Gnosticism

      تتسم الغنوصية بتعدد المصادر، وتعدُّد المكونات الثقافية وانعدام التجانـس. ومن أهـم المكونات، ولعله أهمها طراً، التراث الديني اليهودي. ونحن نذهب إلى أن هناك بُعداً حلولياً كمونياً قوياً في اليهودية جعل لها قابلية عالية لإفراز الفكر الغنوصي. ويجب أن نتذكر أن اليهودية التي نتحدث عنها، وهي يهودية ما قبل الهيكل، لم تكن مفاهيمها أو عقائدها الدينية قد تبلورت بعد، بل كانت هذه المفاهيم تحتوي على أفكار ثنوية وتعددية كثيرة. وقد ساهم انتشار اليهود على هيئة جماعات مشتتة داخل تشكيلات حضارية شتَّى، في مدن البحر الأبيض المتوسط وبابل، إلى زيادة عدم تجانس اليهودية بل إلى تنافرها وتحوُّلها إلى عقائد عدة أو ديانة مُهجَّنة. ويظهر هذا في كثير من العقائد اليهودية الثنوية (مثل: عزازيل، وميتاترون، وقوة الملائكة والشياطين، وحدود الإله، والنزعة العدمية في سفر الجامعة، وإنكار البعث في كثير من كتب العهد القديم). وقد عُثر على أحجار في صحراء النقب عليها نقوش تتحدث عن عشيراه زوجة إله يسرائيل، وكان يهود إلفنتاين يعبدون يهوه وزوجته عنات.

      وثمة نصوص عديدة في العهد القديم يمكن تفسيرها تفسيراً غنوصياً بكل بساطة. وقد كان الغنوصيون اليهود يشيرون إلى الإصحاح الأول في سفر التكوين (وخصوصاً الفقرة رقم 27 "فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الإله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم")، وإلى حزقيال 1/26 ( "وعلى شبْه العرش شبْهٌ كمنظر إنسان عليه من فوق")، كما أن كتب الرؤى (أبوكاليبس) اليهودية دعَّمت الاتجاهات الغنوصية بتقسيمها الزمان وبكل حدة إلى زمان الفساد الحاضر وزمان الخير المستقبل، وبرؤيتها للتاريخ باعتباره ساحة صراع شرس بين قوى الخير وقوى الشر. كما أن النزعة الحلولية الكمونية القوية في هذه الكتب مهَّدت الجو لظهور الغنوصية. فعلى سبيل المثال، جاء في كتاب حكمة سليمان أن روح الإله (النيوما) توجد في كل الأشياء. وقد انتشرت كتب الرؤى في نهايات الألف الأخير قبل الميلاد، وكثير من عناصرها دخل الفكر الغنوصي.

      ويذهب بعض الدارسين إلى وجود غنوصية يهودية قديمة قبل ظهور الغنوصية في العصر المسيحي (واستمر ذلك حتى العصر الحديث بعد أن دخلت التيار الغنوصي الأشمل). وفي كتابات فيلون السكندري ردود على بعض المهرطقين في عصره يُفهَم منها وجود اتجاهات غنوصية. وثمة نظرية تذهب إلى أن جماعات البحر الميت أو جماعات قمران (مثل الأسينيين) هي جماعات غنوصية مترهبنة.

      وتُعَدُّ كتابات فيلون نفسها من مصادر الفكر الغنوصي إذ حاول المزج بين الفكر الديني اليهودي والفكر الإغريقي. ويبدو أن فيلون لم يكن وحيداً في محاولته هذه، فقد نشأ تراث كامل بين يهود الإسكندرية يهدف إلى التوفيق بين الحضارتين. وهذا يظهر في الترجمة السبعينية للعهد القديم التي كانت تترجم المفاهيم اليهودية القومية بمفاهيم يونانية عالمية (وكانت كلمة «نيفش» العبرية، أي «نفس»، تُترجَم إلى كلمة «نيوما»، ومعناها «روح»، التي استُخدمت في الكتابات الغنوصية فيما بعد). ومن الأمثلة الأخرى، مسرحية حزقيال تراجيكوس، وهو الكاتب المسرحي اليهودي السكندري الذي حاول هو الآخر المزاوجة بين التراثين اليهودي واليوناني وانتهى إلى تَصوُّر غنوصي. ففي مسرحيته المسماة «الخروج»، يرى موسى الإله في رؤياه جالساً على عرشه وعن يمينه رجل. وحينما يدخل موسى، يدعوه الإله ليجلس عن يساره. وقد كان هذا الرجل هو الآدم قدمون أو الأنثروبوس أو الإنسان الأول.

      وقد انتشرت الحركة الغنوصية في المراكز التجارية الكوزموبوليتانية، مثل أنطاكية والإسكندرية ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن كانت توجد فيها عبادات هجينة مختلطة وجماعات يهودية تتفاوت في حجمها. وداخل هذه المدن، اختلطت الجماهير اليهودية بالنخبة الإغريقية الخالصة أو النخبة المتأغرقة ذات الأصول الشرقية، واختلط الشرق بالغرب.

      الغنوصيــة والصهيونيــة
      Gnosticism and Zionism

      الصهيونية، في تَصوُّرنا، تعبير علماني شامل عن المنظومة الغنوصية (الحلولية الكمونية)، أي أنها غنوصية جديدة. ولنحاول أن نرى نقط التشابه بين الغنوصية والصهيونية، ولنبدأ بالخلفية الاجتماعية والثقافية لكليهما. لقد انتشرت الصهيونية بين جماعة من مثقفي شرق أوربا الذين أدَّى تعثُّر التحديث في بلادهم إلى إغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمامهم، وقد توَّقف حراكهم لأنهم يهود (أو هكذا توهموا إذ أن تعثُّر التحديث في الواقع قد أثَّر في الجميع، الأغلبية وكل الأقليات الأخرى). وكان هؤلاء المثقفون قد اندمجوا إلى حدٍّ كبير في حضارات بلادهم واستوعبوا الحضارة الغربية الحديثة وآمنوا بمنطلقاتها، أي أن هويتهم اليهودية كانت قد ضَعُفت ولكنها لم تختف تماماً، ولذا نجدهم يتنقلون بين الثقافة الروسية واليديشية والعبرية دون أن ينتموا إلى أي منها مطلقاً. ولا يختلف وضعهم هذا كثيراً عن وضع اليهود في المدن اليونانية في حوض البحر الأبيض المتوسط في القرون الأولى بعد الميلاد. ولذا، فإن الحل الصهيوني الحديث، شأنه شأن الحل الغنوصي القديم، يحوي قدراً من الديباجات اليهودية والأفكار الغربية (ومع هذا تظل الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية المادية هي العنصر الغالب).

      والصهيونية، مثلها مثل الغنوصية، ترى أن وجود اليهود في المنفى (بل يهودية المنفى نفسها) يشكلان عبئاً ثقيلاً يحمله اليهودي ويعاني بسببه. كما ترى أن هذه المشكلة لا يمكن حلُّها إلا من خلال الغنوص: وهو حل واحدي جذري بسيط للأمور، لا إبهام فيه ولا جدل، يفسر كل شيء وينطلق من رفض مبدئي للحدود والثنائيات التي تسم حياة الجماعات اليهودية في المنفى. وقد حل الغنوصيون المشكلة بأن صنفوا الإله الصانع على أنه إله العهد القديم، وأنه هو الذي تسبَّب في نفي اليهود من أصلهم النوراني وقذف بهم في هذه الدنيا وأرسل لهم الشريعة ليثقل كاهلهم بها. وقد انطلق الغنوصيون الصهاينة أيضاً من رفض جذري لحالة النفي، وقد أدَّى ذلك إلى رفض تاريخ اليهود في المنفى، أي التجارب التاريخية المتعينة للجماعات اليهودية في كل أنحاء الأرض. وهم يرون هذا التاريخ على أنه تاريخ معاناة ومآس ومذابح، إلى أن وصل هرتزل مكتشف الصيغة الغنوصية التي تتلخص في إنهاء حالة المنفى، وتطبيع الشخصية اليهودية (الجسمانية أو النفسانية)، أي تغييرها تماماً وربما تصفيتها حتى يظهر العبراني الجديد أو اليهودي الخالص (النوراني) الذي لا يعاني من أي ازدواج في الولاء أو انشطار في الشخصية.

      والحل الغنوصي (الحلولي الكموني) لمشكلة اليهود هو أن يعود اليهودي إلى أصله بعد أن يخدع حكام السماوات والأرض (الأركون) ليلتحم بالنور (البليروما) وبالإله ويصبح الخالق والمخلوق كياناً واحداً. وكذلك الحل الصهيوني، فهو حلٌّ عضويّ واحدي مبنيّ على العودة إلى الأصل، فاليهودي عضو في الشعب العضوي المنبوذ المنفي، فهو كالإنسان النوراني في العالم المعادي له، عليه أن يجد الحل الجذري والصيغة الملائمة والغنوص (وهي الأيديولوجيا الصهيونية والقومية اليهودية). وهو سيحمل عصاه ويُنهي حالة المنفى تماماً. ولكن بدلاً من خداع حكام الأرض (من الأغيار) فهو سيتحالف مع بعضهم (الإمبريالية العالمية) وسيطرد البعض الآخر (العرب) ويعود إلى صهيون ليصبح اليهود كلاًّ عضوياً واحداً (نورانياً)، فيعيش شعب يسرائيل في أرض يسرائيل مع إله يسرائيل في حالة البليروما الكاملة التي هي بداية التاريخ اليهودي أو استئنافه. إن حل المسألة اليهودية يتم إذن عن طريق إلغائها، بل عن طريق إلغاء الجماعات اليهودية وتصفيتها فيما يُسمَّى «نفي الدياسبورا».

      وقد بيَّن أحد الباحثين أن ثمة توتراً أساسياً في اليهودية بين فكرة إله العالمين وفكرة إله الشعب المختار، وأن الغنوصية التقليدية صفَّت هذه الثنائية لحساب الجانب العالمي إذ رفضت إله العهد القديم القومي (وهذا أيضاً ما أنجزته اليهودية الإصلاحية). هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي أكدت العنصر القومي حتى أصبحت ما سماه هذا الباحث «غنوصاً مقلوباً» بحيث أصبح إله يسرائيل هو المركز بدلاً من إله العالمين، الأمر الذي أدَّى إلى تصاعُد الحمى المشيحانية القومية والرغبة العارمة في العودة. ولعل أول انفجار غنوصي مقلوب هو حركة شبتاي تسفي المشيحانية الذي أكد أن إله يسرائيل أهم من إله العالمين. والصهيونية بجعلها الدولة مركز الوجدان اليهودي، الديني واللاديني، قد بلورت الغنوص المقلوب تماماً إذ جعلت الشعب المطلق وجعلت فلسطين الرقعة التي تتحقق فيها حالة البليروما. وبإمكان اليهودي الآن أن يقطع تذكرة طائرة ويلتحم بالبليروما الصهيونية مستفيداً من قانون العودة، وهي الصيغة السحرية التي تُحوِّله إلى إسرائيلي نوراني عبراني فور وصوله. وهذا إطار يجعل المسألة في غاية البساطة. لكن إنقاذ المستوطنين (البقية الصالحة) فيه إنقاذ للشعب اليهودي، وإنقاذ الشعب اليهودي فيه إنقاذ العالم بأسره، فإسرائيل (الروحانية) هي نور للأمم (الجسمانية والنفسانية)، ولذا فالصهاينة بإنقاذهم أنفسهم هم المخلِّص المخلَّص.

      ولعل الجانب الغنوصي في الصهيونية لم يكن واضحاً بقدر كاف ربما بسبب علمانية الديباجات وحداثتها واستنارتها. ولكن هذا العنصر الغنوصي واضح تماماً في كتابات الحاخام إسحق كوك وفي فكر جماعة جوش إيمونيم التي أفرزت ما نسميه «الصهيونية العضوية الحلولية».

      ومع هذا يمكن القول بأن الصهيونية بحديثها عن أنها ستُصفِّي الدياسبورا وأنها ستجعل اليهود شعباً مثل كل الشعوب وبتأكيدها أن الدولة اليهودية ستصبح دولة مثل كل الدول، هي غنوصية من النوع «العالمي» لأنها تهدف إلى تصفية الحالة اليهودية تماماً.


      الغنوصيـــــة والقــــبَّالاه
      Gnosticism and Kabbalah

      القبَّالاه منظومة غنوصية سيطرت على اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن الرابع عشر. ومع هذا لا يمكن الحديث عن تعارض كامل بين اليهودية الحاخامية والغنوصية، وكما بيَّنا في موضع آخر (انظر: «الأصول اليهودية للغنوصية»)، ثمة بُعْد حلولي قوي في اليهودية، وثمة غنوصية يهودية قديمة يُقال إن تاريخها يعود إلى ما قبل غنوصية القرون الميلادية الأولى. وتوجد عناصر غنوصية في العهد القديم وكتب الرؤى (أبوكاليبس) وكتابات فيلون السكندري.

      وقد أخذت المؤسسة الحاخامية موقفاً معادياً من الغنوصية، شأنها في هذا شأن كل الديانات التوحيدية. وجاء في التلمود: "إن وجَّه المرء عقله إلى هذه الأمور الأربعة كان خيراً له لو لم تلده أمه: ما هو أعلى، وما هو أسفل، وما كان قبل الخلق، وما سيحدث في نهاية الدنيا"، أي أن التلمود في هذا النص ينهى عن التفكير الغنوصي والقبَّالي والمشيحاني والأخروي. ولكن مثل هذه الفقرة تشكل في رأينا مجرد طبقة جيولوجية في التركيب الجيولوجي اليهودي ضمن طبقات أخرى أهمها الطبقة الحلولية.

      وقد وردت إشارات في التلمود إلى أربع شخصيات مهمة في المؤسسة الحاخامية « دخلوا الجنة » (التعبير المستخدم للإشارة لمن يتبنَّى فكراً غنوصياً). وتذكر هذه الكتابات الفقهية ابن عزاي وابن زوما واليشا بن أبوياه وبن عقيبا، وقد هلكوا جميعهم إلا آخرهم الذي تمكَّن من العودة وسجل ما رأى، أي أنه عاد بالعرفان، وقد رأي فيما رأى عرشين إلهيين: أحدهما للإله والآخر للإنسان، وتُعَدُّ هذه أول إشارة للآدم قدمون (الإنسان الأول) التي أصبحت صورة أساسية في النصوص القبَّالية. والحاخام ابن عقيبا ظل شخصية مركزية في التراث الحاخامي رغم غنوصيته، الأمر الذي يعني تَقبُّل هذا التراث للفكر الغنوصي. وفي فترة الفقهاء (جاؤنيم)، ظهر النازلون بالمركبة (بالعبرية: يوردي همركفاه) الذين حاولوا الاتحاد بالإله. وثمة إشارات في سفر هميخالوت الذي نشره أدولف جلنيك (أشهر واعظ يهودي في فيينا في أواخرالقرن التاسع عشر) ذات طابع غنوصي واضح. وقد تبلورت كل هذه الإرهاصات في القبَّالاه، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية التي هي من أهم الأنساق الغنوصية وأكثرها حدة وتفجراً. ومن القبَّالاه اللوريانية انتشرت الغنوصية بين المفكرين اليهود المحدثين.

      وقد ظهرت الغنوصية في القرنين الأول والثاني الميلاديين، بينما ظهرت القبَّالاه بعد ذلك بزمن طويل. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ التماثل البنيوي بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه، وأن البنية الغنوصية الأسـطورية العامـة تتحقق بشـكل مذهـل في القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية. وكل من الغنوصـية والقبَّالاه نسـق حلولي واحـدي عضوي مغلق، يلغي المسافة بين الإله والإنسان والطبيعة وبين الكل والجزء. وكل هذا يطرح قضية التأثير والتأثر. ومما لا شك فيه أن ثمة علاقة تأثير وتأثر بين الكتابات الغنوصية والقبَّالاه. فاليهودية تُعَد أهم روافد الغنوصية، كما أن كثيراً من أعضاء الحركات الغنوصية كانوا يهوداً. ولكننا، مع هذا، نفضل استخدام نموذج تفسيري توليدي لتفسير تشابه المنظومة الغنوصية والقبَّالاه ومن ثم يصبح عنصر التأثير والتأثر عنصراً واحداً ضمن عناصر عديدة، وهو ليس أهم العناصر.

      وفي مجال تفسير التشابه من منظور توليدي يمكننا أن نقول إنهما يعودان إلى رغبة الإنسان الجنينية نفسها في الانسحاب من العالم إلى سكون الرحم وإلى الالتصاق بثدي الأم، وهي رغبة كونية كامنة في عقل الإنسان، وإغراء دائم للإنسان بأن يرفض النضج والحدود والعالم والتدافـع ليظـل قابعاً في حالة البليروما الجنينية الرحمية المحيطية السائلة. ويمكننا الآن أن ندرج ما نتصوره نقط التماثل بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه:

      1 ـ الغنوصية والقبَّالاه منظومتان واحديتان تتداخل فيهما الأسماء والشخصيات والمفاهيم. فالآدم قدمون هو العالم وهو التجليات العشرة النورانية (سفيروت) ومن ثم فهو الإله وهو أيضاً الإنسان. والشخيناه هي التعبير الأنثوي عن الإله، ولكنها في واقع الأمر كنيست يسرائيل، أي الشعب اليهودي.

      2 ـ توجد نقط تشابه كبيرة بين الإله الخفي في المنظومة الغنوصية والإين سوف (الجوهر الإلهي اللانهائي والذي لا نظير له) في القبَّالاه:

      أ) الإين سوف إله غير شخصي، علاقته بالعالم أنطولوجية، تماماً مثل علاقة الإله الخفي بالعالم في المنظومة الغنوصية، فهو إله لا يكترث بالعالم، ولكنه في الوقت نفسه سبب الوجود.

      ب) الإين سوف نشيط دائماً ومفكر دائماً، ومن خلال عملية تفكيره في ذاته يفيض العالم عنه، تماماً كما يحدث في المنظومة الغنوصية.

      جـ) تأخذ عملية الفيض شكل درجات تُسمَّى الأيونات في المنظومة الغنوصية والسفيروت أو التجليات النورانية العشرة في القبَّالاه.

      د) يبلغ عدد كل من الأيونات والتجليات عشرة (وإن كان عدد الأيونات في بعض المنظومات الغنوصية يبلغ أربعة عشر بل بضع مئات).

      هـ) تحمل كل من التجـليات النـورانية والأيونات أسـماء مجـردة للغاية، عادة لعمليات عقلية مثل الفكر والحكمة والجلال.

      و) جماع التجليات النورانية يأخذ شكل إنسان، تماماً مثل الأيونات، هذا الإنسان هو العالم الأكبر (الماكروكوزم) والذي يشاكل العالم الأصغر، أي الإنسان الفرد (الميكروكوزم). وهذا التماثل الكامل بل التطابق بين العالمين تعبير عن البنية والعلاقات الهندسية وعن التماسك العضوي حيث يصبح كل شيء هو الشيء الآخر.

      ز) فاضت كل من التجليات والأيونات من الخالق حتى يتم سد الهوة بين الإله الخفي والعالم (من أجل تحقيق عملية الخلاص). وعملية الفيض هذه لا تعني انفصال التجليات أو الأيونات عن الخالق (فهذا يخلق ثغرة وهو أمر مستحيل في المنظومات الحلولية الواحدية) وإنما هي عملية تمايز وحسب لجوانب مختلفة للمطلق. ولذا، بعد عملية الفيض والتمايز، تشكل الأيونات البليروما وتشكل التجليات هرم الملكوت الملكي.

      3 ـ يمكننا هنا أن نتناول قضية مفردات الحلولية (الجنس - الجنين - الجسد... إلخ) التي تُستخدَم في كلٍّ من الغنوصية والقبَّالاه:

      أ) يوجد دائماً أيون أنثوي أساسي في المنظومات الغنوصية هي صوفيا أما في القبَّالاه فهي الشخيناه.

      ب) تحمل كل من الأيونات والتجليات أحياناً أسماء جنسية وطبيعية مباشرة فتُسـمَّى بأسـماء أعضاء الجسـم الإنساني (وخصوصاً الأعضاء التناسلية).

      جـ) الأيونات مثل التجليات ثمرة الجماع الجنسي بين الإله الأب والأم وهو تزاوج يعني التلاحق الجسدي الكامل وسد الثغرات.

      د ) تأخذ عملية الخلق شكل فيض وسلسلة لا تنقطع، وهي صورة مجازية في جوهرها جنسية.

      هـ) يأخذ الإله أحياناً في كل من القبَّالاه وفي المنظومة الغنوصية شكل إله خنثى (ذكر وأنثى) وتأخذ عملية الخلق شكل انفصال بين العنصرين.

      و) تأخذ عملية الخلاص شكل اقتراب تدريجي من الخالق إلى أن يتحقق التوحد الكامل، وهو توحُّد جنسي في بعض المنظومات. وتُستخدَم كلمة «يحود» لوصف هذا التوحد، وهي كلمة تعني «التوحد مع الخالق» وتعني أيضاً «الجماع الجنسي».

      ز) يمكن أن نتخيل العالم الغنوصي على هيئة مخروط: مجموعة من الدوائر المتداخلة التي تَدق كلما تحركنا من القاعدة إلى القمة، وهي دوائر متداخلة ذات مركز واحد تختلف في الحجم ولا تختلف في البنية. وعضو التذكير هو قمة المخروط أما قاعدته فهي عضو التأنيث، فهو إذن الإله الذكر والأنثى. وهذا أيضاً هو شكل العالم في المفاهيم اليهودية وفي القبَّالاه، فالإين سوف هو رأس المخروط المدبب وهو عضو التذكير، والشخيناه قاعدته، وهي امتداد الإله في الدنيا، والشعب اليهودي بنت صهيون وهي أيضاً عضو التأنيث الذي ستفيض فيه الرحمة الإلهية لتوزع على العالمين.

      4 ـ تحاول كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه حل مشكلة الشر في العالم عن طريق قصص أسطورية جوهرها إسقاط البُعد الأخلاقي للقضية.

      أ) فالشر في المنظومة الغنوصية ناجم عن خلل حدث في المنظومة نتيجة حب صوفيا العارم والمفرط للإله (ويأخذ شكل عشق ذاتها وصورتها، فهي من صلب الإله) الأمر الذي يؤدي إلى سقوطها أو سقوط بعض الشرارات النورانية الإلهية واختلاطها بقوى الظلام والمادة. وتُسمَّى هذه الحادثة في المنظومة القبَّالية حادثة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وهي ناجمة عن حـب الشـخيناه العارم والمتطرف للإين سوف. وفي رواية أخرى، ينجم الخلل وتبعثر الشرارات عن أن النور الإلهي يثقل الأوعية فيهشمها، ويُقال إن ما يسبب حادثة التهشم والتبعثر هذه هو تطرُّف تجلِّي الحكمة على حساب تجلِّي العاطفة.

      ب) ينجم الشر في إحدى المنظومات الغنوصية عن خديعة الإله الصانع (الأرضي) إذ يسرق الشرارة الإلهية ويحبسها في المادة أو يخلق إنساناً على هيئة الأنثروبوس ويضع فيه الشرارة. وفي المنظومة القبَّالية يُقال إن الشخيناه تلد الشر دون أن تدري، إذ يتقمص أحد الشياطين شكل الإين سوف ويعاشرها جنسياً فتلد الأغيار والشياطين الذين يحوِّلون العالم إلى مكان معاد لليهود.

      جـ) وتطرح المنظومة الغنوصية فكرة صوفيا المزدوجة: واحدة سماوية والأخرى أرضية فتحارب صوفيا ضد الشر (وتلحق بعد ذلك بالسماوية)، وكذا في المنظومة القبَّالية توجد شخيناه سماوية وأخرى أرضية رهيبة ستنتقم من أعداء جماعة يسرائيل ثم تلتحق بقرينتها السماوية (وهذا تعبير آخر عن الثنائية الصلبة الوهمية).

      5 ـ ثمة تشابه عميق بين مفهوم الخلاص والخير والشر والبعث في كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه.

      أ ) العالم فاسد والزمان رديء في المنظومة الغنوصية ولا جدوى من فعل الخير أو محاولة التسامي، والخلاص لا علاقة له بالأخلاق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لهذا، لا يوجد بعث فردي ولا حساب وإنما التحام للروح في الكل الإلهي وذوبان فيه. وعالم الأغيار في القبَّالاه عالم فاسد والتاريخ الإنساني رديء، وتبهت فكرة البعث في القبَّالاه وتحل محلها فكرة تناسخ الأرواح التي تنكر المسئولية الخلقية والثواب والعقاب (وتشبه فكرة العود الأزلي عند نيتشه). والعودة إلى أرض الميعاد فكرة قومية جماعية تلغي أيضاً المسئولية الخلقية والخلود الفردي للروح.
      ب) لفهم عملية الخلاص وحدودها، لابد أن ندرك الهرمية الصارمة التي يتسم بها كل من العالم الغنوصي وعالم القبَّالاه. فالبشر الروحانيون (في المنظومة الغنوصية) يوجدون في قمة الهرم والنفسانيون في وسطه والجسمانيون في قاعدته، والاختلافات بينهم ليست اختلافات أخلاقية أو حتى معرفية وإنما اختلافات أنطولوجية. وفكرة الاختلاف الأنطولوجي بين اليهود والأغيار فكرة أساسية في القبَّالاه، فالأغيار مثل الجسمانيين والنفسانيين ليسوا بشراً، ومخطَّط الخلاص لا ينصرف إليهم. وأكدت القبَّالاه المفهوم النخبوي داخل اليهودية بالتركيز على مفهوم البقية الصالحة وهـم نخبة الروحـانيين أو نخبة النخبة، خـير من في الشـعب اليهودي.

      جـ) في المنظومة الغنوصية، يعيش الإنسان (الروحاني) منفياً في العالم المادي، فقد سقط فيه عن طريق الخطأ أو الخلل الذي حدث. ووجوده في هذا العالم هو مصدر تعاسته، وهو يحلم دائماً بالعودة إلى أصله الرباني النوراني ليلتحم به مرة أخرى ولن تتحق سعادته إلا بهذه العودة حيث يُترَك البشر النفسانيون والجسمانيون في كوكبهم الأرضي المدنَّس، فهم لا قداسة لهم مستبعدون من عملية الخلاص، وتنسحب الشرارات الإلهية تماماً من الكون بانسحاب أصحاب العرفان منه (يصبح العالم مادة محضة وقد يختفي ويذوب). وكل هذه العناصر توجد في القبَّالاه، فسقوط الإنسان (وصوفيا) يشبه سقوط الشعب اليهودي والشخيناه. وقد كان اليهود جزءاً من الآدم قدمون والإله قبل السقوط فتبعثروا وسقطت الشرارات أو الأرواح في أجساد مادية زائلة، وحُبست الشرارات في المادة وفي عالم الأغيار المعادي. ولذا، فاليهود يعيشون حالة نفي يحلمون بالعودة إلى أصلهم الإلهي أو إلى أرض الميعاد. وحالة النفي حالة نهائية مادامت هناك دنيا ومادام هناك تاريخ، ومن ثم فلا جدوى من البحث عن السعادة والمتعة (في عالم المادة بين الأغيار) إذ ليس بإمكان اليهود (النورانيين) أن يحصلوا على السعادة إلا بالعودة إلى الأصل الإلهي في أرض صهيون والالتحام بها في نهاية التاريخ حين ينتصرون على كل شعوب الأرض من الأغيار، الذين يُستبعَدون تماماً من عملية الخلاص.

      د) وخلاص الإنسان في المنظومة الغنوصية هو عودة الإنسان باعتباره شرارة إلهية إلى الواحدية الإلهية (البليروما)، وعودة كل الشرارات هو كمال للذات الإلهية وخلاص لها، فكأن الإنسان بتخليصه نفسه يخلِّص الإله أيضاً (وهذه هي أيضاً فكرة الخلاص أو التيقون في القبَّالاه، فهي عودة الإنسان إلى بداياته النورانية وعودة الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد والتحامه بالخالق، وهي عودة تعني أن الخالق ينهي حالة تبعثره ويعود لوحدته الأصلية).

      هـ) تتسم الغنوصية بميل إلى رفض الشرائع المُرسَلة للبشر، فالغنوصيون نورانيون لا يخضعون لمثل هذه الشرائع، فهم جزء لا يتجزأ من الإله ولذا لا يسري عليهم ما يسري على الآخرين (الأغيار) ولهذا يقدس الغنوصيون الشخصيات الملعونة في العهد القديم والجديد مثل قابيل، وهم يعبدون الشيطان تعبيراً عن رفضهم النواميس البشرية والشرائع الإلهية. ويظهر هذا أيضاً في الحركات الشبتانية اليهودية فأتباع الحركة الفرانكية كانوا يقدسون عيسو وقابيل وكانوا يسمون الأدوميين أي الحمر نسبة إلى أدوم وهو اسم آخر لعيسو. بل إن الثعبان الذي كشف لآدم وحواء سر شجرة المعرفة هو بطل قصة الخلق الحقيقي من وجهة نظر الغنوصية، فهو رمز تحدِّي الخالق، ورفض الحدود والشريعة، ورفض الجهل الذي ضربه الإله الصانع على الإنسان، أي أنه رمز رفض الكون.

      و ) ولأن الشر في العالم ليست له علاقة بالأخلاق، فإن الخلاص لا يتم من خلال التوبة والغفران وإنما من خلال البحث عن الصيغة السحرية المناسبة. والقبَّالاه ليست تمارين أخلاقية تهدف إلى كبح جماح الجسد أو إلى تهذيب نفس المؤمن وإنما تهدف إلى حل طلاسم الروح والعالم وكلمات التوراة للوصول إلى الخالق والقوة الحيوية في الكون وإلى التوراة الخفية أي الغنوص التي عن طريقها يمكن التحكم في العالم. والإصلاح (تيقون) يتم من خلال اتباع اليهود الأوامر والنواهي التي تحولت إلى شعائر مجردة تشبه التعويذات والصيغ الدقيقة، وما يهم فيها هو طريقة أدائها لا مضمونها الأخلاقي. بل إن المضمون الأخلاقي نفسه قد طُمس تماماً وحل محله مضمون ميتافيزيقي (بغير أخلاق) فهي تهدف إلى تقريب اليهود من الخالق للتعجيل بالخلاص ولتحقيق «يحود»، وهي كلمة عبرية تعني التوحد مع الخالق (وتعني أيضاً الجماع الجنسي). والغنوصية والقبَّالاه، في هذا، يشبهان تماماً العلم الحديث بنزعته الفاوستية للتحكم في العالم من خلال الصيغ الدقيقة، وهو يقدم ميتافيزيقا (ضرورة التحكم في العالم) دون أية أعباء أخلاقية.

      ز) المخلّص في المنظومة الغنوصية شخصية عجائبية، تتجاوز قوانين الطبيعة، وهو شخصية أزلية أبدية تتجسد من خلال شخصيات تاريخية (زائلة) يأتي هو لها بالعرفان الثابت. والماشيَّح في اليهودية (والقبَّالاه) شخصية عجائبية. وتتسم اليهودية بتعدد المشحاء الدجالين باعتبار أن كل واحد منهم هو تَجسُّد زمني للإله ويحمل العرفان. ويمكن القول بأن تقاليد النبوة المفتوحة في اليهودية تعبير عن النمط نفسه، نمط الحلول والوحي المستمر عبر التاريخ. وشخصية التساديك في المنظومة الحسيدية تعبير متطرف عن هذا النمط من التجسد المستمر للماشيَّح في التاريخ.

      ح) والمخلِّص في المنظومة الغنوصية مُرسَل من الإله، ولكن عملية الخلاص هي جمع الشرارات الإلهية الكامنة في الروحانيين، ولذا فإن المخلّص، حيـنما يُخلّص أصـحاب الغنـوص، إنما يُخلِّـص نفسه. وصوفيا قد تكون هي هدف الخلاص، فقد سقطت مع الشرارات الإلهية، ولكنها هي أيضاً أداته. والماشيَّح في القبَّالاه اللوريانية يأتي لينقذ الشخيناه المشتتة (الشعب اليهودي المشتت) التي هي الشرارات الإلهية فيجمعهم أي بقايا الشخيناه (صوفيا)، ويعود بها إلى الأصل الإلهي أي يجمع المنفيين من اليهود ويعود بهم إلى صهيون. والشخيناه هي هدف الخلاص وأداته، فالشعب اليهودي (الشخيناه) هو الذي سيُجمَع في أرض الميعاد، ومن خلال خلاصه (وجمعه) يعم السلام في العالم ويأتي الخلاص (مثل عودة النيوما إلى البليروما).ولكن الشخيناه (الشعب اليهودي) جزء من الإله/الآدم قدمون، وبالتالي فخلاصها هو خلاص الإله. ومن خلال عودة الشخيناه من المنفى والتبعثر، تعود للإله وحدته، فالمخلَّص إذن هو المخلِّص الذي يُخلِّص نفسه ويُخلِّص الآخرين، فهو المخلِّص المخلَّص.

      6 ـ المنظومة الغنوصية تتسم بالواحدية، ولذا فهي تتسم أيضاً بالثنائية الصلبة الزائفة، إذ تنحل الثنائية في واحدية سائلة. والقبَّالاه أيضاً نظام ثنائي صلب في ثنائيته، فهناك النور والظلام، والخير والشـر، واليمين واليسـار، وهي ثنائية واهية لأن الشر غير موجود أساسـاً، فهـو وهم. أو لأنه إن وُجد فهو جزء من الخير وصورة أخرى منه، فإن ما يظهر باعتباره شراً هو في واقع الأمر خير (وقد بعثت القبَّالاه العناصر الثنوية: الاهتمام المفرط بالملائكة والشياطين باعتبارها شريكة للإله عز وجل في الخلق، وميتاترون وليليت، وهي مفاهيم من بقايا الوثنيات الحلولية دخلت اليهودية).

      وتتضح الثنائية في المنظومة «الأخلاقية» الغنوصية والقبَّالية، فسلوك الإنسان قد يأخذ شكل رهبنة كاملة وإنكار متطرف للعالم ورفض له، وقد يأخذ شكل انغماس في الرذيلة هو في جوهره رفض للعالم (فهو مكان شرير وزمان رديء).

      والمخلِّص في القبَّالاه هو الماشيَّح الذي ينزل في عالم الظلمات أيضاً، وقد يكون هو المخلِّص الداعر الذي يرتكب الموبقات حتى ترهق الطبيعة (مثل جيكوب فرانك)، وهو ما يُسمَّى «الهبوط من أجل الصعود» (بالعبرية: يريداه بشفيل عالياه). وقد يكون راهباً منسحباً، وقد ينتقل من حالة إلى أخرى مثل شبتاي تسفي الذي كان يتأرجح بين الرهبنة الكاملة والعهر الكامل (وضمنه الشذوذ الجنسي)، ومثل البعل شيم طوف مؤسس الحركة الحسيدية الذي يُقال إنه امتنع عن معاشرة زوجته جنسياً لمدة أربعة عشر عاماً، ويذهب أتباعه إلى أن زوجته حملت ابنها هرشل «من خلال الكلمة». ومع هذا كان معروفاً عنه إقباله الشديد على النساء وشغفه بهن، وخصوصاً الجميلات منهن. وكثير من المخلِّصين أسقط الشريعة تماماً. وتحولت نواه مثل «لا تزن» إلى وصايا مثل «فلتزن».

      وتوجد تفاصيل أخرى عديدة تبين مدى التقابل المدهش بين الغنوصية والقبَّالاه، ولكن ما حاولنا حصره هو بعض السمات البنيوية المشتركة وتجلِّيها في بعض التفاصيل.

      الهندوكيـــة والقــــبَّالاه
      Hinduism and Kabbalah

      لاحَظ عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلي روفائيل باتاي أن ثمة تشابهاً عميقاً بين النسق الديني القبَّالي والنسق الديني الهندوكي يتمثل فيما يلي:

      1 ـ تبدأ القبَّالاه من اللاشيء الإلهي «الإين سوف» وهو «الخفي» وهو «العدم»، وكذا الهندوكية، فالإله «شيفا» هو «مُطلق المطلَق»، أي «الحالة التي لا يحدث فيها شيء»، وهو حالة سكون كاملة، وهو القصور الذاتي النهائي والخواء الكامل. وحتى اللعب بالألفاظ في القبَّالاه، بين «الإين» و«الآيين» و«الآني» له ما يقابله في الهندوكية، ذلك أن «شيفا» (بغض النظر عن حروف العلة) هو «شافا»، أي «الجثة». وهو يصبح «شيفا» حينما يضاف إليه حرف العلة، وتكون صاحبته الإلهية شاكتي (ممثلة الحياة والحركة)، حينئذ يصبح «شافا/العدم» هو «شيفا/الطاقة».

      2 ـ كما أن مراحل التجلي، التي يُطلَق عليها التجليات النورانية العشرة (سـفيروت) في القبَّالاه، لهـا ما يقابلها في الهندوكية، وهي تُسمَّى «تاتفـا»، أي «الأسس» أو «المقـولات الأساسـية» أو «الجـواهر». والتاتفا، مثل التجليات النورانية العشرة، تخرج الواحدة من الأخرى. وفي القبَّالاه عشرة تجليات من الكيتير عليون (التاج العلوي) في الأعالي إلى الشخيناه وهي التجلي الأدنى الذي يلي العالم الأرضي، وفي الأعالي ثمة وحدة أبدية بين الحوخمة والبيناه، وهي أبو الأعالي وأم الأعالي. وكذلك في الهندوكية، فكان هناك في القمة الوحدة الأزلية بين شيفا وشاكتي، وتخرج عشرة تجليات هي الحالات المادية العشر.

      3 ـ يُلاحَظ أن الإله في القبَّالاه نصفه ذكر ونصفه أنثى. وكذا في الهندوكية، فشيفا وشاكتي يكوِّنان وحدة إلهية هي جوهر الوجود الإلهي.

      4 ـ وفي كل من القبَّالاه والهندوكية فكرة الدورات الكونية.

      5 ـ وفي كل من القبَّالاه والهندوكية مقولة إدراكية جنسية أساسية تصف علاقة الابن بالابنة، أو الشيفا بشاكتي. وكل من الابن وشيفا لا تكتمل سيادتهما، بل وجودهما، إلا إذا اجتمعا مع الابنة وشاكتي.

      6 ـ وهناك أسطورة نفي في الهندوكية تماماً كما في القبَّالاه، إذ يقوم شيطان بغزو الكون، ويخرج الآلهة العظيمة من الجنة إلى المنفى. وحينما تذهب شاكتي إلى المنفى، فهي مثل الشخيناه، تفصل عن شيفا وتصبح عرضة للاغتصاب من قبل عمالقة مخيفين.

      7 ـ تُصوَّر الشخيناه، في أحد تجلياتها وحشاً كاسراً منتقماً، وفي الهندوكية تتجلى شاكتي على هيئة كالي، إلهة الانتقام.

      8 ـ يُصوَّر الشر في كل من القبَّالاه والهندوكية باعتباره جزءاً من الإله،وهو مجرد الجانب الآخر والشر هو المحارة أو القشرة الخارجية.

      9- تقوم كل من القبَّالاه والهندوكية بتجنيس الإله وتأليه الجنس (بمعنى الغريزة الجنسية).

      10 ـ تؤمن القبَّالاه كما تؤمن الهندوكية بالتناسخ.

      وهذا التشابه العميق يثير قضية التأثير والتأثر، ويطرح السؤال التالي: هل اطلع القبَّاليون على بعض المصادر الهندوكية أم أن بعض الأفكار الأساسـية تسربت إليهم، فقاموا بتطويرها داخل الإطار اليهـودي؟ أم مجرد تشابه بنيوي بمعنى أن البنية الحلولية في كل من القبَّالاه والهندوكية قد تطورتا بشكل مستقل ووصلتا إلى نسقين متشابهين بشكل مستقل؟ هذه قضية خلافية لا تزال مطروحة للنقاش.

      اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
      http://www.rasoulallah.net/

      http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

      http://almhalhal.maktoobblog.com/



      تعليق


      • #4
        علمــنة (صهينة) اليهوديـة (أو هيمنة الحـلولية الكمـونية)
        Secularization (Zionization) of Judaism (The Dominance of Immanence)

        نجحت عدة أيديولوجيات علمانية شاملة في التغلغل في اليهودية والاستيلاء عليها من الداخل، فاليهودية التجديدية هي مُركَّب من عدة مفاهيم علمانية (مثل التقدم في الإطار المادي) وقد تلبست لباساً يهودياً. ولكن أهم هذه الأيديولوجيات العلمانية هي الصهيونية التي نجحت في الاستيلاء على اليهودية تماماً وقامت بعلمنتها من الداخل إلى درجة أن الحركات الدينية الأرثوذكسية التي قامت في الأساس لمحاربة الصهيونية انتهى بها الأمر إلى أن تبنت الصهيونية إطاراً مرجعياً نهائياً. وقد أدَّى هذا إلى ظهور إشكالية حقيقية أمام اليهود الذين يرفضون التحالف مع ملحدين يسمون أنفسهم «يهوداً». ونحن نذهب إلى أن الصهيونية قد نجحت في الاستيلاء على اليهودية وعلمنتها بسبب الخاصية الجيولوجية التراكمية، إذ وجد الصهاينة سوابق في التراث الديني اليهودي تدعم مقولاتهم العلمانية الشاملة.

        ولكن السبب الأساسي الذي أدَّى إلى نجاح الصهيونية في تحقيق أهدافها هو تصاعُد معدلات الحلولية داخل اليهودية. وتدور الرؤية الحـلولية الكمونية حـول ثلاثة عناصر: الإله والإنسان والطبيعة. وفي إطار الحلولية اليهودية، يتحول الإنسان إلى الشعب اليهودي، وتتحول الطبيعة إلى الأرض اليهودية (إرتس يسرائيل ـ أرض الميعاد)، أما الإله فيتحوَّل إلى المبدأ الواحد الذي يحل فيهما معاً. ولا تختلف هذه الرؤية الحلولية الكمونية عن الصهيونية إلا في بعض التفاصيل وفي الطريقة التي تُسمَّى بها العناصر التي تكوِّن دائرة الحلول.

        ويمكن التعبير عن هذه الرؤية الحلولية الكمونية، اليهودية والصهيونية، على النحو التالي:

        الشعب اليهودي المبدأ الواحد الأرض اليهودي
        الرباط العضوي بين الشعب و الأرض
        أو القوة التي تسري فيهما
        1-يسميها الصهاينة المتدينون "الإله" .
        2-يطلق عليها الصهاينة العلمانيون أسماء
        كثيرة : "روح الشعب"-"التراث اليهودي"
        -"العرْق اليهودي"-"التوراة كتعبير عن روح الشعب"

        وأهم عناصر دائرة الحلول هو الإله الذي يصبح «المبدأ الواحد» والذي قد يُسمَّى «الإله» في الحلولية الكمونية اليهودية أو «روح الشعب» أو حتى «العرْق» في الحلولية الكمونية الصهيونية.

        ويُلاحَظ أنه لا يوجد فارق بين الإله والعرْق اليهودي (على سبيل المثال) فكلاهما (حالّ) في الشعب والأرض لا يتجاوزهما، فهو الشيء نفسه رغم اختلاف التسميات.

        وقد نجم عن حلول الإله في كلٍّ من الشعب والأرض أن أصبح الشعب مقدَّساً وأصبحت الأرض هي الأخرى مقدَّسة. يختلف الفريقان العلماني والديني في تسمية مصدر القداسة ولكنهما لا يختلفان قط في أن القداسة هناك، تسري في الشعب والأرض. وتسمية مصدر القداسة في المنظومات الحلولية الكمونية ليس أمراً مهماً إذ أن الحلول يجعل المادة المقدَّسة أكثر أهمية من مصدر القداسة. وإذا كان الصهاينة يؤمنون بحلولية بدون إله أو يؤمنون بقداسة دون مصدر غيبي للقداسة، فإن الدينيين يؤمنون بحلولية متطرفة، الإله داخلها جزء لا يتجزأ من الشعب وأرضه، ومن ثم فهو إله لا يختلف في أي وجه من الوجوه عن شعبه ولا ينفصل بأية حال من الأحوال عن أرضه وليس ذا إرادة مستقلة عنه. وسواء كانت الديباجات علمانية (شاملة) متطرفة في علمانيتها، أم دينية متطرفة في تديُّنها، فالجميع يتفق على أن المبدأ الواحد (الإله أو روح الشعب) حالّ في المادة كامن فيها، غير مفارق لها. ومن ثم يستطيع أعضاء الفريقين الصهيونيين، الديني والإلحادي، أن يترجما الثالوث الحلولي إلى شعار سياسي مثـل: أرض يسرائيل لشعب يسرائيل حسب توراة يسرائيل، وهي صيغة تفترض وجود علاقة عضوية صارمة بين العناصر الثلاثة تمنح أعضاء هذا الشعب حقوقاً مطلقة (فهم داخل دائرة الوحدة العضوية والقداسة والحلول) وتستبعد الآخرين. وتصبح توراة يسرائيل كتاباً مقدَّساً مرسلاً من الإله بالنسبة للصهاينة الدينيين، أو كتاب فلكلور يعبِّر عن روح الشعب بالنسبة للصهاينة الملحدين. وبينما يؤكد الحاخام كوك (الأب الروحي والفكري لجماعة جوش إيمونيم)، على سبيل المثال، أن روح الإله وروح يـسرائيل شـيء واحد، أي أن الشعـب في قداسـة الرب، فإن فلاديمير جابوتنسـكي يشـير إلى الشعـب اليهودي بوصفه ربه، ويشير موشيه ديان إلى الأرض باعتبارها ربه. وصياغة كوك الدينية وصياغة جابوتنسكي وديان الإلحادية متشـابهتان تماماً في بنيتهما، فكلتاهما تنتهيان إلى شعب مقدَّس له حقوق مطلقة في أرضه المقدَّسة، فهو شعب حل الإله فيه وفي أرضه، حسب صياغة كوك، وهو شعب/إله وأرض/إله في صياغة الملحدين، والفارق بين الصياغتين أمر شكلي.

        وقد قال نوفاليس إنه لا يوجد فرق كبير بين أن أقول "أنا جزء من الإله" أو "الإله جزء مني". ولا فرق بين أن أقول "إن الله هو العالم أو أن العالم هو الله". ويمكننا القول بأنه لا يوجد فرق كبير بين أن يقول الصهيوني المتدين الإله هو الشعب وأن يقول الصهيوني الشعب هو الإله فالمسافة بين الكل والجزء تختفي فيصبح الكل هو الجزء، ويصبح الشعب هو الإله.

        وعلمنة الحلولية اليهودية على يد الصهيونية، لم يكن أمراً فريداً وإنما كان متسقاً تمام الاتساق مع واحد من أهم إنجازات الغرب الفلسفية في العصر الحديث، أي اكتشاف تَرادُف وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، بحيث أصبح من الممكن الحديث عن الذات بلغة الموضوع وعن الموضوع بلغة الذات، وعن المقدَّس بلغة الزمني وعن الزمني بلغة المقدَّس، وعن الروحي بلغة المادي وعن المادي بلغة الروحي، وهو الإنجاز الذي وضع أسسه إسبينوزا وعمَّقه هيجل ووصل به إلى ذروته وأشاعه إلى درجة أن الخطاب الفلسفي الغربي أصبح في معظمه خطاباً حلولياً، سواء بين المتدينين أو بين العلمانيين.

        وقد وجد الصهاينة أن الإستراتيجية الإسبينوزية الهيجلية التي تفترض ترادف وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية هي أنسب الصيغ للتوجُّه للجماهير اليهودية في شرق أوربا، وهي جماهير كانت لا تزال إما متدينة أو تربطها علاقة وثيقة بالرموز الدينية. وقد أصبحت هذه الحلولية الأرضية المشتركة بين المتدينين والعلمانيين في الحركة الصهيونية.

        الحلولية والحرفية والصهيونية: آليات التلاقي بين الصهاينة المتدينين والعلمانيين
        Immanence, Literalism, and Zionism: The Mechanics of the Convergence between Religious and Secular Zionists

        من أهم آليات تضييق الرقعة بين الدينيين والعلمانيين (في إطار الحلولية الكمونية) تبنِّي الدينيين تفسيرات العهد القديم الحرفية والعقائد اليهودية. فالحلولية الكمونية تترجم نفسها في نهاية الأمر لا إلى أصولية تعود إلى الأصول وتحتكم إليها وإنما إلى حرفية في تفسير المفاهيم الدينية (التي عادةً ما تحتوي قدراً من الثنائية والتجاوز يجعل التفسير المجازي أمراً حتمياً). فالحرفية الحلولية ثمرة تصفية الثنائية والتجاوز، وثمرة اختزال المساحة التي تفصل بين الخالق والمخلوق وبين الدال والمدلول بحيث يُختزَل الواقع إلى مستوى واحد فلا يشير إلى أي عالم آخر أو أية منظومة أخرى وبحيث تصبح رؤية الواقع، في نهاية الأمر، واحدية لا تختلف كثيراً في بنيتها عن التفسيرات المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. وهذا ما حدث مع الأوساط الدينية اليهودية في عملية صهينة اليهودية، فقد أسقطوا التفسيرات المجازية وأحلوا محلها تفسيرات حرفية.

        فالأرض في المفهوم الحاخامي التقليدي (المجازي) كانت «صهيون الروحية» التي توجد في القلب، وقد وصفها نيثان برنباوم (بعد أن ترك الصهيونية وأصبح أرثوذكسياً) بأنها ليست وطناً مادياً جديداً بل كياناً دينياً لم يتوقفوا قط عن حبه والحنين إليه وتذكُّره. والشعب ليس شعباً عرْقياً مادياً مثل كل الشعوب وإنما جماعة دينية تدين بالولاء للإله من خلال الميثاق ومن خلال الإيمان بمنظومة قيمية. ولذا، فإن عودة هذا الشعب إلى أرضه لا يمكن أن تتم إلا بأمر الإله في نهاية التاريخ.

        بدلاً من هذه العقائد التي تحتوي قدراً من التجاوز، ومن ثم تتطلب تفسيرات مجازية، طرح الصهاينة المتدينون تفسيرات حرفية لا تختلف كثيراً عن التفسيرات العلمانية (التي تنكر التجاوز) رغم احتفاظها بالمصطلح الديني. فصهيون أصبحت الأرض التي يمكنهم متى شاءوا العودة إليها والاستيلاء عليها بقوة السلاح، والشعب أصبح مجموعة من البشر التي لها حقوق مطلقة منفصلة عن المنظومات القيمية الأخلاقية اليهودية، فهم ذوو حقوق مطلقة لا يختلفون كثيراً عن شعوب أوربا في المرحلة الإمبريالية.

        واكب هذه الحرفية في التفسير ظهور ديباجات علمانية حلولية، فالشعب في الخطاب الصهيوني أصبح الشعب العضوي (فولك) وهو مفهوم يَصدُر عن الإيمان بأن ثمة وحدة (وجود) عضوية تربط الشعب (العضوي) وأرضه وتراثه، وأن الجميع تسري فيهم روح واحدة هي مصدر الترابط العضوي هذا، الذي لا تنفصم عراه. وهذه الفكرة فكرة حلولية تجعل الذات القومية موضع التقديس وتخلع عليها المطلقية، والنسق الفلسفي الكامن وراءها نسق مغلق، إذ أن هذه الذات تصبح مرجعية نفسها، هي البداية والنهاية، وحتى برامجها السياسية تصبح مقدَّسة. وعادةً ما تصل هذه النماذج إلى لحظة تحقُّقها في لحظة نهاية التاريخ والفردوس الأرضي، حين تتجلى في كل مناحي الحياة، وتتجسد من خلالها. ولذا نجد أن الصور المجازية التي تُستخدَم فـي إطار هذه الأنساق صور مجـازية عضـوية تعبِّر عن عالـم عضـوي مصمت ملتف حول نفسه.

        ولأن العلاقة عضوية حتمية، فإن هذا يعني أن الأرض اليهودية (إرتس يسرائيل) ستظل خراباً ومهجورة إن تم فصل الشعب المقدَّس عن أرضه المقدَّسة. وهذا الشعب نفسه سيظل في حالة اغتراب وحزن (بل فساد وانحطاط) إن ظل بعيداً عن الأرض. فالأرض تكتسب الحياة من الشعب، والشعب يكتسب الحياة من خلال الأرض. وهذه الرؤية هي التي تفسر الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض". فالأرض (اليهودية) ترتبط بشكل عضوي حلولي كموني بالشعب اليهودي، ولذا فإن وُجد شعب آخر على هذه الأرض (الشعب الفلسطيني على سبيل المثال) فليس له وجود في المنظور العضوي الحلولي (ولذا لابد من تهميشه وطرده وإبادته). وإن وُجد 99% من يهود العالم خارج فلسطين، متشردين في بقاع الأرض، فهم لا يزالون بلا أرض بسبب العلاقة العضوية الحتمية التي تربطهم بالأرض المقدَّسة. والتاريخ اليهودي بأسره تعبير عن رغبة اليهود العارمة في العودة لهذه الأرض لتحقيق تلك الرابطة العضوية.

        وبعد أن أسقط المتدينون العنصر المجازي (والإيمان بالتجاوز) وتبنَّى العلمانيون الصيغ الرومانتيكية العضوية الحلولية، أصبح اللقاء بين الفريقين سهلاً، فعدَّل المتدينون متتالية العودة حتى يمكنهم تَقبُّل أطروحات الصهيونية العلمانية وممارساتها (اللاأخلاقية) وإعطاؤها شرعية دينية. فبدلاً من المتتالية التقليدية:

        نفي بأمر الإله ـ انتظار الماشيَّح ـ مقدم الماشيَّح بإذن الإله ـ عودة تحت قيادته.

        أصبحت المتتالية كما يلي:

        نفي ـ عودة مجموعة من اليهود (عودة مادية فعلية) للإعداد لمقدم الماشيَّح (دون انتظار مشيئة الإله) ـ مقدم الماشيح ـ عودة تحت قيادته.

        والعودة المقدَّسة، المادية الفعلية الحرفية، تتطلب بطبيعة الحال استخدام العنف والقتل ومساندة الإمبريالية العالمية وطرد الشعب الفلسطيني، وهذا ما فعله الصهاينة المتدينون وقاموا بتبريره بديباجات دينية تخلع على ذاتهم وأفعالهم قداسة ومطلقية (كما هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية الكمونية). وفي نهاية الأمر، تَبنَّى المتدينون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد أن قاموا بتهويدها، فبدلاً من: مادة بشرية تُنقَل إلى خارج أوربا لتوظيفها لصالح القوى الاستعمارية التي ستقوم بنقلها ودعمها، أصبحت: عودة الشعب المقدَّس (المستوطنين الصهاينة) إلى أرضه المقدَّسة (فلسطين) تنفيذاً للوعد الإلهي (على أن تكون العودة دون انتظار لمشيئته ودون تفرقة بين الوعد الإلهي ووعد بلفور). ورغم اختلاف الأسماء، فإن المسمى واحد ويؤدي إلى النتيجة نفسها (ويصل هذا الاتجاه إلى قمته في الصهيونية الحلولية العضوية وجماعة جوش إيمونيم). وقد توارت الصهيونية العلمانية الصريحة، صهيونية اليهود غير اليهود أو اليهود الملحدين، وانقسمت الصهيونية (من منظور الوعي اليهودي) إلى صهيونية إثنية علمانية وصهيونية إثنية دينية، وهما يتفقان تماماً في كل شيء باستثناء بعض الديباجات والزخارف اللفظية.

        وتتجلى الحلولية العضوية في موقف كلٍّ من الدينيين والملحدين من الجيش الإسرائيلي. فقد ذهب الحاخام تسفي كوك، حفيد الحاخام إسحق كوك، إلى أن الجيش الإسرائيلي هو القداسة الكاملة، وهو الذي يمثل حكم شعب الإله فوق أرضه. ولا يختلف الملحدون الحلوليون عنه في موقفهم من الجيش، فهم، عند احتفالهم بعيد الاستقلال على سبيل المثال، يُغيِّرون منطوق المزمور 118/24 الذي يقول: «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب» بحيث يصبح: "هذا هو اليوم الذي صنعه تسهال"، أي الجيش الإسرائيلي (مصدر التماسك والوحدة العضوية). وقد أسس الصهاينة دولتهم الصهيونية، بحيث تكون الإطار الشعائري (الحلولي الروحي أو المادي) الذي يعزل اليهودي عن العالم، فهي الدولة الجيتو التي تحيط المواطن برموز وشعارات يهودية، وهي الأداة التي يتحقق من خلالها الثالوث الحلولي المقدَّس.

        هذا لا يعني أنه لا يوجد اختلاف بين الحلوليين الملحدين والحلوليين الدينيين. فحلولية الملحدين، حلولية بدون إله، على عكس حلولية الدينيين. ولذا، نجد أن الدولة بالنسبة للدينيين هي أهم تجلٍّ للإله. أما بالنسبة للملحدين، فهي ليست تجلياً، وإنما هي نفسها موضع التقديس. وعادةً ما يُسـوَّى هـذا الخلاف بالطرق اللفظية السلمية. فعلى سبيل المثال، حين نوقش إعلان دولة إسرائيل، أصر المتدينون على ذكر عبارة "عناية الإله"، فرفضها اللادينيون، وتم حل المشكلة باستخدام عبارة "تسور يسرائيل"، أي "صخرة إسرائيل"، وهي عبارة تعني "الإله الذي يحل في الشعب ويجعله مطلقاً" بالنسبة للدينيين، وتعني "الذات القومية ومصدر المطلقية وموضع القداسة" بالنسبة لغير الدينيين. وقد استمر هذا الاتجاه بعد إنشاء الدولة، بل أخذ أشكالاً متطرفة من بعض النواحي، وأشكالاً صبيانية من بعض النواحي الأخرى. ففي احتفال عيد التدشين (حانوخاه)، يقول الدينيون: "من يتكلم بجبروت الرب" (مزامير 106/2)، ويقول العلمانيون (الماديون): "من يتكلم بجبروت إسرائيل"، أي شعب وأرض يسرائيل. وفي الاحتفالات الدينية، وخصوصاً بعد قراءة التوراة في يوم الغفران، وفي عيد بهجة التوراة في آخر أيام عيد الفصح، وفي عيد الأسابيع، يقول الدينيون: "يزكور إلوهيم"، أي "اذكروا الرب". أما اللادينيون فيقولون: "يزكور عام يسرائيل"، أي "اذكروا شعب إسرائيل". وقد جاء في سفر زكريا (4/6) عبارة "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود"، واللادينيون يُسقطون عبارة "رب الجنود"، وبـدلاً من كلمـة "بروحي" يقولـون "بالروح". وتوجد رقصة للأطفال في إسرائيل تصاحبها أغنية تَرد فيها عبارة من سفر القضاة (أنشودة دبوراـ 5/31) "وهكذا يبيد جميع أعدائك يارب"، فتصبح: "وهكذا يُبيد جميع أعدائك يا إسرائيل".

        كما يظهر الصراع بشكل حقيقي، وبحدة على مستوى الحياة اليومية في إسرائيل. فالأصوليون اليهود (أي الحرفيون أو الحلوليون المتدينون) يطالبون بأداء الشعائر التي لا يكترث بها كثيراً الحلوليون العلمانيون. فيطالب الأصوليون بمنع بيع لحم الخنزير، وإغلاق بعض الطرق يوم السبت، وفرض القيود على عمليات الإجهاض، وإغلاق صالونات الجنس، ومنع نشر إعلانات عن الخدمات الجنسية في الجرائد، ومنع القيام بحفريات أثرية في أماكن الدفن. كما يطالبون بتطبيق قوانين الطعام وتعديل قانون العودة لمنع هجرة غير اليهود، ويرفضون محاولة إصلاح قوانين الطلاق، ويرفضون الاعتراف بالزواج المدني. ويطالب الأصوليون كذلك بإلغاء صلاحيات الحاخامات الإصلاحيين التي تعطيهم الحق في القيام بمراسم اليهود وبمنع اليهود الإصلاحيين من الحصول على عضوية المجالس الدينية المحلية.

        ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن الإله الذي يتحدث عنه الدينيون الحلوليون، ليس إلهاً مفارقاً للشعب متعالياً عليه متجاوزاً له، وإنما هو حالٌّ وكامن فيه. ومن ثم، فهو يؤدي إلى قداسة هذا الشعب. ولذا، فإن الاختلاف بين الدينيين والملحدين سيظل سطحياً أو على مستوى الإجراءات العملية ومناطق النفوذ والشعائر. فالإله في النسق الحلولي ليس سوى اسم، أما المسمى فهو العالم المادي الذي يكمن فيه هذا الإله ولا يتجاوزه.

        وقد اكتسحت الصهيونية يهود العالم حتى أصبح من الصعب على الدارسين أو على كل من يتعامل مع اليهودية والصهيونية (وضمن ذلك اليهود أنفسهم) أن يُفرِّقوا بين العقيدة الدينية والعقيدة السياسية. وعلى أية حال، فإن وسائل الإعلام الغربية تساهم في تدعيم هذه الرؤية.

        وبعد عام 1967، وبعد احتلال الصهاينة ما تبقى من فلسطين، طرأ تحول على الأحزاب الدينية الصهيونية (مثل المفدال) وغير الصهيونية (أجودات إسرائيل). ففي البداية اعتبروا أن هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية ثم تحول موقفهم وأصبح الاستيلاء على الأراضي العربية هو بداية الخلاص. وأصبحت العناصر الأرثوذكسية التي كانت علاقتها بالصهيونية تتراوح بين الشك والعداء من أشرس العناصر الصهيونية ومن أكثرها تطرفاً وتمسكاً بكل الأراضي المحتلة وبضرورة الاستيطان بها، أي أن الحلولية تزايدت معدلاتها وأصبحت الأرض مقدَّسة في قداسة الشعب.

        ورغم وجود هذه العلاقة القوية بين الحلولية الكمونية اليهودية والصهيونية لا نستطيع القول بأن الحلولية اليهودية هي التي "أدَّت" إلى ظهور الصهيونية. فكل ما نريد تأكيده، في هذا السياق هو أن ثمة ارتباطاً اختيارياً قوياً بين التيار الحلولي الكموني والأفكار العلمانية. وهذه مقولة تنطبق على كل البشر وعلى كل العقائد ومنها العقيدة اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية. فالحلولية الكمونية ولَّدت عند معظم اليهود في شرق أوربا (ابتداءً من القرن الثامن عشر) استعداداً كامناً (كامناً وحسب) للتأثر بالرؤى المعرفية الحلولية العلمانية التي يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدَّس بالزمني، وهي رؤى تشجع على العزلة وعلى جعل الذات موضع القداسة وموضع الحلول والكمون. ولقد فجرت اللحظة التاريخية والجغرافية التي وُجدت فيها اليهودية في أوربا الإمبريالية (في نهاية القرن التاسع عشر) الإمكانات الحلولية وغلَّبتها على غيرها من الإمكانات وهيأت لها سُبُل التحقق، فلولا أن الإمبريالية الغربية كانت في حاجة إلى دولة استيطانية في فلسطين، لما قامت للصهيونية قائمة ولما استولت الحلولية الكمونية على اليهودية ولربما ظلت تياراً هامشياً ليس له أيُّ ثقل أو وزن، ولربما أخذ الدين اليهودي نفسه مساراً تاريخياً آخر. ولكن ظهور الصهيونية بمساندة الإمبريالية وتأييدها، أعاق هذا التطور وساعد التيار الحلولي الكموني على السيطرة. ولكننا، على أية حال، نتوقع أن ينحسر المد الصهيوني الحلولي تحت تأثير الضغط العربي وظهور الفلسطينيين مرة أخرى على مسرح الأحداث، وتزايد أزمة الصهيونية. ولربما انتشرت الرؤية التوحيدية مرة أخرى، كما يتضح في لاهوت التحرير اليهودي. وإن كان هذا أمراً صعباً للغاية باعتبار أن الفكر الديني اليهودي يتحرك الآن في تربة غربية حلولية علمانية. وما يحدث عادةً أن الحلولية يتغيَّر نطاقها، وبدلاً من أن تكون ثنائية صلبة فإنها تصبح شاملة سائلة.

        وقد وضع كثير من أعداء الصهيونية من اليهود وغير اليهود أيديهم على هذه الخاصية في الصهيونية باعتبارها حلولية واحدية روحية (أي باعتبارها شكلاً من أشكال الوثنية) تم تحويلها إلى حلولية مادية. وقد أشار بعض الحاخامات إلى دولة إسرائيل باعتبارها العجل الذهبي الجديـد الذي يعـبده اليهود. كما احتـج الحاخام جرسون كوهين بقولـه: "إن كثيراً من يهود العالم يتصورون أن إسرائيل هي معبدهم الأساسي، وأن رئيس وزرائها حاخامهم الأكبر".

        وقد ظهرت في ألمانيا، في الثلاثينيات، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا الطبيعة العدمية للرؤية الحلولية الكمونية وأدركوا تَورُّط الصهاينة فيها. وقد حذر هاينريش فريك اليهود من فكرة الشعب العضوي (أي الشعب الذي تكمن فيه قداسة دون مرجعية إلهية متجاوزة له) التي يدافع عنها النازيون والصهاينة. وعرَّف كلاًّ من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا) ـ وهي أمور مادية ـ إلى كيانات ميتافيزيقية، أي إلى دين. كما أشار فيلي ستارك إلى أنهما ضرب من ضروب المشيحانية السياسية التي تُحوِّل الدنيوي (المدنَّس) إلى مقدَّس، ولذا فهما يُحوِّلان الدم والتربة إلى قيمة مطلقة تحيطها القداسة الدينية، قيمة تضرب بجذورها في المشاعر الأسطورية الكونية، وفي ممالك الأرض بدلاً من مملكة السماء، ومن ثم توصَّل إلى أنه لا يوجد مجال للتفاهم بين المسيحية وعبادة الشعب العضوي اليهودية أو النازية.

        الخــــــــــــــلاص
        Redemption; Geulah

        «الخلاص» ترجمة للكلمة العبرية «جيئُّولاه»، وهي اصطلاح ديني يشير إلى الاختلاف العميق والجوهري بين ما هو كائن وما سيكون وإلى انتهاء آلام الإنسان. وفي العهد القديم معنيان لكلمة «خلاص»:

        1 ـ تخليص الأرض عن طريق شرائها (سفر اللاويين 25/25، حيث يتحدث السفر عن فك الأرض): "إذا افتقر أخوك فباع من ملكه يأتي وليه الأقرب إليه ويفك مبيع أخيه".

        2 ـ ثم أصبحت الكلمة تعني تخليص الأرض من عذابها بعد أن وقعت في يد غير اليهود، وبالتالي تحوَّل معنى الكلمة وأصبحت تشير إلى الخلاص بالمعنى المجازي.

        ومفهوم «الخلاص» غير متجانس وغير مستقر في اليهودية شأنه شأن كثير من الأفكار الدينية الأخروية الأخرى. فالخلاص في أسفار موسى الخمسة، خلاص قومي جماعي للشعب لا للأفراد، وهو خلاص قد يتم داخل الزمان لا خارجه، والآن وهنا لا في آخر الأيام، كما هو الحال في واقعة الخروج حيث يضرب الإله أعداء اليهود ويخرج بهم من مصر ثم يساعدهم على غزو كنعان، وهكذا دون أي ذكر لخلاص نهائي (في آخر الأيام خارج التاريخ أو حتى داخله). وأخذ المفهوم يكتسب أبعاداً إنسانية وأخلاقية فردية واضحة في كتب الأنبياء، إلا أنه مع هذا لم يفقد كثيراً من الأبعاد القومية، فالإله لا تزال تربطه علاقة خاصة مع الشعب، والخلاص يتم الآن وهنا كواقعة مادية تاريخية. ولكن مع التهجير البابلي، ومع الإحباطات المتكررة في هذا العالم، أصبح الخلاص مسألة ستتم في العالم الآتي (المستقبل) في آخر الأيام، ولكن داخل الزمان وبشكل فجائي. وهذه أساساً هي رؤية كتب الرؤى (أبوكاليبس)، على خلاف كتب الأنبياء حيث تتم عملية الخلاص من خلال جهد بطيء داخل التاريخ في معظم الأحيان. ثم ظهرت في القرنين الأخيرين قبل الميلاد فكـرة الخــلاص بعد البــعث خــارج الزمــان في كتاب دانيال وغيره من الكتب، إلى أن أصبح الإيمان بذلك الشكل من الخلاص أحد الأصول الأساسية لليهودية عند موسى بن ميمون.

        ورغم كل التطورات التي دخلت على مفهوم الخلاص واتساع أبعاده، فإن البعد القومي الجماعي ظل واضحاً. فالعصر المشيحاني، أي عصر الخلاص بالدرجة الأولى، هو عصر عودة جماعة يسرائيل واسترجاع سيادته على الأرض وربما على العالم. وقد يشارك البشر كافة في عملية الخلاص هذه وقد لا يشاركون فيها. ولكن جماعة يسرائيل تظل، مع هذا، حجر الزاوية. وهناك رأي يذهب إلى أن الخلاص يتم على مرحلتين: الأولى وهي العصر المشيحاني حيث تعود جماعة يسرائيل إلى صهيون ويُبعث أتقياء اليهود للحياة الأزلية، ثم المرحلة الثانية حيث يُبعث الموتى جميعهم أتقياؤهم وأشرارهم للحساب النهائي، وهذه هي الآخرة.

        والرؤية التلمودية للخلاص قومية في جوهرها إذ تظل جماعة يسرائيل محط اهتمام الخالق ومحور التاريخ. فحياة المنفى هي العقاب الذي قدَّره الإله على أعضاء هذه الجماعة بسبب بُعدهم عن عبادته الحقيقية وبسبب ما يقترفون من آثام. ولذا، فإن اليهود يُكفِّرون في المنفى عن ذنوبهم وسيخلصهم الإله في نهاية الأمر. لكن معصية جماعة يسرائيل هي السبب في تأخير عملية الخلاص النهائية، أي أن عملية الخلاص مرتبطة بسلوكهم، والمصير النهائي للعالم يتوقف على مصيرهم.

        وأصبحت إعادة بناء الهيكل واستعادة العبادة القربانية صوراً أساسية مرتبطة بعملية الخلاص يهتم بها التلمود أيما اهتمام، كما سجل الحاخامات تفاصيلها حتى يمكن القيام بها في آخر الأيام في لحظة الخلاص. وسابعة الثماني عشرة بركة التي تُتلَى في صلاة العميدا تُدعى «بركة الخلاص» لأنها دعوة للإله مخلص يسرائيل، وهذه الرؤية مختلفة عن الرؤية المسيحية التي ترى أن الإنسان كائن ساقط يعاني من الخطيئة الأولى وأن أفعاله أياً ما بلغت من خير لا يمكنها أن تأتيه بالخلاص.

        ويُلاحَظ في القبَّالاه أن مركزية يسرائيل تتزايد، وأن مفاهيم مثل «السقوط» و«الخطيئة» الأولى تدخل النسق الديني اليهودي إذ يصبح السقوط مسألة ميتافيزيقية كونية كامنة في الحالة الإنسانية بل الإلهية أيضاً. فحادث تَهشُّم الأوعية أدَّى إلى تَبعثُّر الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) واختلاط الخير بالشر وانفصال الأمير (التجلي السادس) عن الأميرة (التجلي العاشر). ولكن سقوط الإله وتبعثره يقابله سقوط آدم وسقوط أرواح كل البشر معه. ولابد من جَمْع الشرارات الإلهية التي تبعثرت حتى يستعيد الإله وجوده المتكامل ووحدته وخلاصه ويعود اسمه (فالاسم في التراث القبَّالي هو الإله في حالة تكامل عضوي) ويلتحم الأمير بالأميرة في الزواج المقدَّس. ولكن هذه العملية لا يمكن أن تتم دون جماعة يسرائيل، فهي أيضاً الشخيناه، أي التعبير الأنثوي عن الإله، تلك التي نُفيت مع تَبعثر الذات الإلهية. فكأن اليهود جزء من الإله، يوجد بين البشر ويشهد عليهم. والشعب اليهودي هو وحده القادر على أن يأتي بالخلاص عن طريق تنفيذ الأوامر والنواهي (متسفوت) فمن خلال هذه العملية ستتم استعادة الشرارات الإلهية واستعادة الإله نفسه، فيعود إلى الكون اتزانه، أي أن عملية الخلاص الكونية تتوقف على شعب يسرائيل. ويأخذ الخلاص شكل عودة الشخيناه من المنفى إلى أرض يسرائيل، فالعصر المشيحاني هنا أصبح جزءاً من دراما كونية تضم الإله وكل المخلوقات. وعودة اليهود إلى صهيون هي إلغاء حالة نفي البشر وتَبعثر الإله. وهنا يُلاحَظ أن نفي الشخيناه والشعب يشبه حادثة الصلب في المسيحية، فكأن الإله يتعذب بسبب سقوط الإنسان وتبعثر الشرارات، وسقوط آدم، والعودة تقابل البعث في اليوم الثالث، والتحام الأمير بالأميرة يشبه حادثة التجسد المسيحية، وهذا تعبير عن تنصر اليهودية تدريجياً.

        وفي بعـض التفسـيرات القبَّالية تشـمل عملية الخلاص البشر جميعاً، ولكنها في بعض التفسيرات الأخرى لا تشمل سوى اليهود إذ أن البشر خُـلقوا من طينة أخرى غير الطينة التي خُـلق منها اليهود (وهذا يتنافى مع الرؤية التوراتية للخلق). ولذا، فالأغيار ساقطون تماماً، مذنبون تماماً، ولا سبيل إلى إنقاذهم أو خلاصهم.

        ومن أهم المفاهيم القبَّالية المرتبطة بالخلاص مفهوم الخلاص بالجسد (عفوداه بجاشميوت). وجوهر هذه الفكرة أنه مع تبعثر الشرارات الإلهية، يتداخل الخير الشر ولا يمكن الوصول إلى الخير إلا من خلال الشـر. ولذا، فلا يمكن أن يتم الخـلاص إلا بالغوص في الرذيلة، ولا يمكن الصعود إلا من خلال الهبوط. وقد استفاد المشحـاء الدجـالون من هـذا المفهــوم في انغماسهم في الملذات، بل في ارتدادهم عن اليهودية، إذ فُسِّرت رذائلهم بأنها الطريق إلى الفضيلة.

        وفي القرن السابع عشر، ظهرت في صفوف البروتستانت العقيدة الاسترجاعية التي جعلت اليهود مركزاً لرؤية الخلاص إذ لا يمكن أن يتم الخلاص إلا بعد عودة اليهود إلى صهيون (فلسطين) وتنصيرهم، أي استيعابهم في الأمم.

        الرؤيـة الصهيونيــة للخــلاص
        Zionist View of Redemption

        اسـتوعبت الصهيونية كثيراً من الأفكـار اليهودية الخاصة بالخلاص، ذات التركيب الجيولوجي، بعد علمنتها:

        1 ـ فكرة «خلاص الشعب» بالمعنى العرْقي (وليس بالمعنى الديني) فكرة محورية في التصور الصهيوني للتاريخ.

        2 ـ يتم الخلاص كحادثة في التاريخ (مثل الخروج أو الهجرة من مصر) وليس كحادثة مشيحانية في آخر الأيام أو بعد البعث. ولذا، رفض الصهاينة فكرة انتظار مشيئة الإله وأخذوا زمام الأمور في أيديهم.

        3 ـ يرى الصهاينة أن الحياة في المنفى شكل مرضي من الحياة، وهذه علمنة للفكرة الحاخامية القائلة بأن المنفى عقاب للتكفير عن الذنوب.

        4 ـ يتمثل الخلاص (على الطريقة الصهيونية) في تطبيع الشخصية اليهودية الهامشية عن طريق تخليص الأرض والاستيطان فيها، وبإنشاء دولة طبيعية مثل الدول كافة، وبذا ينتهي الصراع القائم بين اليهود والعالم! (والخلاص هنا يعني التكيف مع مكونات العصر الحديث وحقائقه الصلبة). وهذه علمنة لفكرة عودة الشعب آخر الأيام، وأن يعم السلام العالمين، كما أنها علمنة لفكرة تنصير الشعب اليهودي.

        5 ـ يرى آرثر هرتزبرج أن الخلاص الذي كان يأخذ في الماضي شكل مواجهة بين الشعب والإله، يأخذ الآن شكل مواجهة بين الشعب وشعوب العالم الأخرى، وهذه علمنة أعمق لفكرة الخلاص.

        6 ـ ولكن الصهاينة لم يُسقطوا عنصر الاختيار والتفوق، شأنهم شأن الفكر الديني الحلولي التقليدي، فالدولة الصهيونية لها حقوق يهودية مطلقـة تجب الحقوق الأخرى كافة، وهي تشـير إلى نفسـها بأنها نور الأمم، وواحة الديموقراطية الغربية، ورائد العالم الثالث.

        7 ـ وقد قامت الدولة الصهيونية أيضاً بعلمنة فكرة تخليص الأرض أو فكها عن طريق شرائها، فقامت بتأسيس الصندوق القومي اليهودي ليضطلع بهذه المهمة. كما أن الدولة الصهيونية تشارك في عملية الخلاص هذه بطرد العرب، واستصدار قوانين مختلفة تيسِّر عملية الاستيلاء على الأراضي وتجعلها أمراً شرعياً.

        ويمزج مفهوم العمل العبري الصهيوني بين كل الاتجاهات السابقة، فيهودي المنفى يخلِّص نفسه، ويخلِّص الأرض في آن واحد، بأن يعود إليها ويفلحها بنفسه، فيُطهِّر نفسه من أدران المنفى (الخلاص بالجسد) التي علقت به، ويطهرها هي من سكانها الأصليين. وهكذا يتم خلاص اليهودي وأرضه عن طريق التخلص من أصحابها الأصليين.

        عرَّف الصهاينة الخلاص بشكل عام دون تحديد الدوافع أو الوسائل التي يتم بها، فالخلاص، في نهاية الأمر، خلاص الأرض والشعب. ولكن ذلك يتم لدوافع اشتراكية وبوسائل اشتراكية عند الصهاينة العماليين، أو يتم بدوافع رأسمالية وبوسائل رأسمالية عند الصهاينة الرأسماليين، كما يمكن أن يتم لأسباب دينية أو إلحادية، وبوسائل دينية عند المتدينيين وبوسائل إلحادية عند الملحدين. ويُلاحَظ أن ما يتغيَّر هنا ليس مضمون الخلاص أو حتى طريقته (فالجميع يلجأ إلى العنف والإرهاب) وإنما ديباجته وما يُعلَن للناس من أهداف.

        اليهـودية: تاريــخ
        Judaism: History

        من الشائع أن يقرن الدارسون تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية من جهة بتاريخ العقيدة (أو العقائد) اليهودية من جهة أخرى، وكذلك أن يوحدوا بينهما وكأنهما شيء واحد. وهو اتجاه ساعد عليه ما يمكن تسميته «التاريخ المقدَّس» أو «التاريخ التوراتي»، أي القصص التي وردت في التوراة على هيئة تاريخ. ونحن نرى ضرورة فصل تواريخ الجماعات اليهودية في العالم عن تاريخ العقيدة أو العقائد اليهودية، وذلك لاعتبارات منهجية وموضوعية، إذ أن الخلط بينها هو خلط بين مجالين مختلفين يؤدي إلى كثير من التشوش وعدم الفهم. وقد اعتاد الكثيرون النظر إلى اليهودية كما لو أنها عقيدة متكاملة وبناء ديني متكامل اتضحت معالمه الأساسية منذ ظهوره، وكما لو أن هذا البناء ظل محتفظاً بهذه السمات حتى الوقت الحاضر (كما هو الحال إلى حدٍّ كبير مع الإسلام والمسيحية على سبيل المثال). وهذا مناف للواقع، فتاريخ اليهودية طويل إلى أقصى حد. وقد مرت اليهودية كعقيدة بعدة تطورات عميقة غيَّرت طبيعتها وتوجهاتها شكلاً ومضموناً. هذا على الرغم من وجود أطروحات أساسية متواترة، مثل العهد والشعب المختار، تخلع عليها نوعاً من الوحدة. بل إن ثمة ظاهرة تنفرد بها اليهودية وهي ما يمكن تسميتها «الخاصية الجيولوجية التراكمية»، أي أن اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي المكوَّن من طبقات مختلفة غير متجانسة تراكمت الواحدة فوق الأخرى عبر الزمان دون أن تمتزج. فاليهودية استوعبت عناصر مختلفة عديدة، ولكنها لم تمزجها ولم تفرض عليها حداً أدنى من الاتساق الداخلي. ولذا فإننا نجد أن هناك أفكاراً توحيدية متطرفة عند الأنبياء، وأفكاراً حلولية متطرفة عند القبَّاليين وصفها الحاخامات بأنها شكل من أشكال الشرك. ونجد رؤى متناقضة تماماً للإله فيما يتصل بمفاهيم مثل البعث والثواب والعقاب. كما دخل اليهودية كثير من المعتقدات الشعبية التي هي أقرب إلى الفلكلور. وربما كانت هذه السمة الجيولوجية هي التي أدَّت، في نهاية الأمر، إلى تعريف اليهودي في الشريعة اليهودية بأنه من وُلد لأم يهودية، وهو تعريف يضم الملحدين الذين لا يؤمنون بالإله، كما يضم (من الناحية النظرية على الأقل) اليهود الذين تنصروا أو أسلموا.

        ويمكن تقسيم تاريخ اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً وعقيدة، بعيداً عن تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية، إلى عدة مراحل أساسـية، وتقسـيم كل مرحلة إلى فترات. وفي محاولتنا توصيف اليهودية، سنبين تتابُع ظهور كتب اليهود المقدَّسة، كما سنشير إلى المواجهات الخمس الكبرى بين اليهودية والحضارات الوثنية والتوحيدية المختلفة.

        والمراحل الثلاث الأساسية في تاريخ اليهودية هي:

        أولاً: يهودية ما قبل التهجير إلى بابل (حتى عام 587 ق.م)، أو العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية، تمييزاً لها عن اليهودية نفسها: وهي تقريباً المرحلة نفسها التي أطلقنا على اليهود فيها مصطلح «العبرانيون»، باعتبارهم جماعة عرْقية إثنية، و«اليسرائيليون» أو «جماعة يسرائيل» باعتبارهم جماعة دينية. وهذه المرحلة الكبرى تقسَّم بدورها إلى عدة فترات، وهي مرحلة يختلط فيها التاريخ بالأسطورة، وتُسقَط مفاهيم فترات لاحقة على فترات سابقة.

        ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:

        1 ـ فترة الآباء: (2100 ق.م ـ 1250 ق.م):

        وتمتد ابتداءً من إبراهيم حتى يوسف. وحسبما جاء في التوراة، وقد قطع الإله على نفسه عهداً لإبراهيم بأن يكون الشعب الذي سينحدر من صلبه شعباً عظيماً، وأن تكون أرض كنعان من نصيبه. وحسب ما ورد في التوراة يمكن القول بأن عبادة الآباء تأثرت بالتراث الديني السامي القديم بتقديسها القوى الطبيعية والإيمان بالروح والشياطين والتحريمات (التابو)، وتمييزها بين الطاهر والنجس. ويُلاحَظ وجود عناصر وثنية كما هو الحال في قضية الترافيم (الأصنام).

        2 ـ فترة موسى والخروج من مصر (فترة سيناء) (1275 ق.م ـ 1250 ق.م):

        تلقَّى موسى، في سيناء، الوحي الإلهي من يهوه، والأمر بألا يُعبَد إلاّه باعتباره الإله الواحد، وبعدم تجسيده أو تشبيهه بشيء واحد من خلقه، أي أن الخالق يُصبح خالق التاريخ والطبيعة منزَّهاً عنهما. وقد صاحبت هذا الوحي مجموعة من الطقوس والقوانين الاجتماعية تحكم القبائل العبرانية في محيطها الصحراوي، أي نزل قانون ديني دائم ينظم المجتمع وعلاقات أعضائه. وفي هذه الفترة تَجدَّد العهد الإلهي المُعطَى للآباء. ويُعَدُّ الخروج نفسه تحقيقاً لهذا الوعد، وتُعَدُّ حادثة الخروج اللحظة التي وُلدت فيها جماعة يسرائيل، أي العبرانيون باعتبارهم جماعة دينية متميِّزة.

        3 ـ المواجهة الأولى مع حضارة كنعان، والصراع بين يهوه وبعل (1200 ق.م ـ 587 ق.م):

        حينما تغلغل العبرانيون في كنعان وجدوا عبادة بعل، وهي عبادة حلوليـة من عبـادات الطبيعة كانت سـائدة هناك (في ذلك المجتمع الزراعي). وقد حملوا معهم من المجتمع الصحراوي عبادة يهوه، وهي عبادة توحيدية أو شبه توحيدية. وحينما امتزجوا وتزاوجوا مع السكان الأصليين وتبنوا لسانهم حدث الامتزاج بين العقيدتين. وقد أصبح التناقض بين عبادة يهوه (رب التاريخ والشعب) وعبادة بعل (رب الطبيعة والحياة اليومية) التوتر الأساسي الذي تَحكَّم في حياة العبرانيين الدينية، وذلك حتى سقوط الدولتين الشمالية والجنوبية. وشهدت هذه الفترة ظهور الأنبياء المدافعين عن عبادة يهوه. والإصلاح التثنوي (621 ق.م) تعبير عن التوتر بين الحلولية والتوحيد الذي كانت له أبعاده السياسية. وحسب التصور الديني اكتمل الوعد الإلهي بالأرض والخلاص في مرحلة الملوك، كما تم تشييد الهيكل في تلك المرحلة (مرحلة الهيكل الأول) وتحوَّل إلى محور العبادة القربانية المركزية التي كان يشرف عليها الكهنة. ورغم تأكيد وحدانية الإله، فقد ظهرت مفاهيم أخرى ذات طابع حلولي، مثل الاختيار بتضميناته العرْقية والتركيز على الأرض، وهي مفاهيم تحد من عالمية الإله وتجعله مقصوراً على شعبه وأرضه، الأمر الذي ينتقص وحدانيته. وقد ظل هذا توتراً أساسياً في النسق الديني اليهودي. فإله العالمين لا يحتاج إلى أرض أو شعب، أما الإله القومي فيحتاج إلى شعب وأرض. وهو توتر بين النزعة الدينية الأخلاقية التي تبحث عن الخلاص في الزمان، والنزعة الوثنية القومية التي تبحث عنه في المكان، وهي ما يمكن تسميته «نزعة صهيونية» بالمعنى العام والبنيوي. وقد أصبح داود الملك النموذجي الذي يحكم باعتباره حاكماً دينياً يساعده الكهنة، وارتبط اسمه بالماشيَّح المخلص الذي يأتي من نسله (إلا أن عقيدة الماشيَّح نفسها لم تكن قد ظهرت بعد في هذه الفترة). وقد ظهرت في هذه المرحلة بعض القوانين الأخلاقية والشعائر، مثل: الختان، وشعائر الطعام والزراعة والسبت، وعيد الفصح، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. وتتميَّز تلك المرحلة بأن الدين كان مرتبطاً بالجماعة الإثنية أو العرْقية ارتباطاً كاملاً، كما هو الحال في الشرق الأدنى القديم، وبأن اليهود تحوَّلوا تدريجياً، من خلال الاندماج مع السكان الأصليين، إلى جماعة زراعية بعد أن كانوا يشكلون جماعة صحراوية متنقلة. ويُلاحَظ وجود شعائر كثيرة مرتبطة بالزراعة. وتنتهي المرحلة بهدم الهيكل والتهجير إلى بابل (الذي يُطلَق عليه «السبي البابلي» في المصطلح الديني).


        ثانياً: مرحلة ما بعد التهجير (بعد 587 ق.م):

        وهي المرحلة التي اكتسبت خلالها العبادة القربانية المركزية، وهي المرحلة الثانية من عبادة يسرائيل، الملامح التي حولتها إلى العقيدة اليهودية في نهاية الأمر. وحينما نذكر اليهودية، فنحن عادةً ما نشير إلى يهودية ما بعد التهجير. وقد شهدت هذه المرحلة التعديل التدريجي للشريعة بحيث تحولت من كونها شريعة تشمل كل جوانب الحياة إلى شريعة تغطي بعض جوانبها وحسب، إذ تم تَقبُّل قوانين الدولة الحاكمة في عدة مجالات باعتبار أن «شريعة الدولة هي الشريعة» وهو ما أدَّى إلى تقلُّص مجال الشريعة اليهودية واقتصاره على الجوانب الدينية فقط وعلى الجوانب الخاصة بالعلاقات الداخلية لأعضاء الجماعات اليهودية.

        ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:

        1 ـ الفترة البابلية (والمواجهة الثانية مع الحضارة البابلية) والفارسية والهيلينية (والمواجهة الثالثة مع الحضارة الهيلينية) والرومانية (578 ق.م ـ 175 ق.م):

        شهدت هذه المرحلة تفتُّت وحدة اليهود الجغرافية وانفتاحهم على الأفكار الدينية البابلية التي تعرفوا إليها أثناء فترة التهجير (أو السبي)، وهو ما ترك أثراً عميقاً في بنية العقيدة بحيث أخذت العبادة اليسرائيلية تتحول بالتدريج إلى اليهودية. وقد سمح قورش لليهود بالعودة إلى مقاطعة يهودا وأمر بإعادة تشييد الهيكل، وهذه بداية مرحلة الهيكل الثاني في المصطلح الديني. ومع قيام الإسكندر بغزو الشرق الأدنى القديم، دخلت اليهودية مرحلة جديدة إذ تأثر المفكرون اليهود تأثراً عميقاً بالأفكار الدينية والفلسفة الهيلينية. ويُلاحَظ أن عمق تأثر اليهود بالحضارة الهيلينية مرتبط باختفاء السلطة الدينية المركزية. وقد ساعد تسَامُح الحضارة الهيلينية، ثم السلطة الرومانية، تجاه اليهود على تَزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية ومن ثم على تأثرهم بالمنظومات الدينية والمعرفية والفلسفية السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها. ولم تتعاون السلطة الحاكمة (البطلمية أو السلوقية أو الرومانية) مع القيادات الحاخامية للهيمنة على أعضاء الجماعات كما فعلت السلطة الفارسية وإنما أتاحت لهم مجال الاندماج، فانتشرت أنماط التفكير الهيليني بسرعة، ونسي اليهود الآرامية وتعلموا اليونانية التي تُرجم إليها العهد القديم. وقد حل الكاهن الأعظم محل الملك في الرئاسة الدينية، وأُعيد تشييد الهيكل بحيث أصبح الهيكل مركز العبادة مرة أخرى. وشهدت هذه الفترة إصلاحات عزرا ونحميا، وبداية تدوين العهد القديم. ويمكن القول بأن الفترة السابقة يمكن تقسيمها إلى ما قبل ما بعد الرؤى (أبوكاليبس)، والكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) في نهاية العصر الهيليني، وبدايات الشريعة الشفوية وتَرسُّخ عقيدة الماشيَّح، وظهور عقائد مثل: خلود الروح والبعث. وشهدت هذه الفترة أيضاً الانقسام السامري، وظل الدين في هذه الفترة مرتبطاً بالجماعة الإثنية رغم انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين.

        2 ـ فترة ما قبل ظهور اليهودية الحاخامية (أو المعيارية أو الكلاسيكية) حتى القرن السادس، ظهور الفريسيين وهدم الهيكل وظهور الأكاديميات (يشيفا) والمعبد اليهودي:

        يُعَدُّ ظهور الفريسيين قمة التطور الذي بدأ مع التهجيرالبابلي والذي أخذ شكل انفتاح مستمر على العناصر العالمية، وهي النقطة التي تحولت فيها العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية اليهودية بشكل نهائي. وجوهر الفريسـية هـو هجومهـا على طبقـة الكهنة المرتبطة بالهيكل، والعبادة القربانية المركزية مُمثَّلة أساساً في الصدوقيين وطرحها تصوراً لليهودية منفصلاً عن المكان، وعن الدولة، وعن الأرض، وإن لم يكن منفصلاً عن الجماعة الإثنية. وقد طوَّر الفريسيون مفهوم الشريعة الشفوية لتوسيع مجال التفسير، وحتى يمكن تحرير اليهود من قبضة العبادة القربانية. وشهدت هذه المرحلة ظهور المعبد اليهودي (سيناجوج). وواكب كل هذا انتشار الحضارة الهيلينية وقيمها بين اليهود الذين لم يعودوا يعرفون العبرية، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من عددهم داخلها. ولذا، أدَّى هدم الهيكل، على يد تيتوس، إلى تكريس اتجاه موجود بالفعل.

        وقد ظهرت المسيحية في هذه الفترة فمثلت تحقيقاً لعملية فصل الدين عن مؤسسات الدولة ثم عن الجماعة الإثنية، بحيث صار باب الخـلاص مفتــوحاً لجماعة المؤمنين بأسرها، وليس للمنتمين إلى جمــاعة إثنية محـددة. وقد أدَّى انتشار المسيحية إلى ضمور اليهودية.

        وفي القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي يتسم بزيادة الاتجاه نحو الحلولية والنزعة القومية، والذي ينسب إلى الإله صفات بشرية عديدة. ولم تَعُد القدس مركزاً دينياً وحيداً، بل أصبحت هناك مراكز عديدة منفصلة يقودها الحاخامات. ويُعدُّ هذا تاريخ ظهور اليهودية الحاخامية، وهي اليهودية التي انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن المشاكل الأساسية التي واجهتها اليهودية بدءاً من هذه الفترة أنها كانت ديانة توحيدية أو شبه توحيدية في تربة وثنية تكتسب هويتها من وحدانيتها وتحارب ضد الأسطورة والحلولية، ولكنها وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، ولذا عدَّلت إستراتيجيتها، وأخذت تتجه نحو الأسطورة والتعددية. ووصل هذا الاتجاه إلى قمته في القبَّالاه.

        3 ـ اليهودية الحاخامية، من القرن السابع الميلادي (بعد تدوين التلمود) حتى منتصف القرن السابع عشر (هيمنة القبَّالاه) (المواجهة الرابعة مع الديانات التوحيدية: المسيحية والإسلام).

        في هذه الفترة، تحوَّل اليهود إلى جماعات متفرقة لا تعمل بالزراعة، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في التركيب الطبقي والوظيفي لليهـود إذ أصبحـوا جماعات وظيفية وسـيطة، خصوصاً في العالم الغربي. وقد تدعَّم مركز الحاخامات، الذين حلوا محل الكهنة، واكتملت المعالم الأساسية للتفسيرات الحاخامية التي تُسمَّى «الشريعة الشفوية». وأخذ الفكر الديني اليهودي في الضمور في الغرب خلال العصور الوسطى في الغرب، بينما نجده ينفتح ويتطور نتيجة احتكاكه بالفكر الإسلامي التوحيدي، العقلاني والصوفي، وهذه هي المواجهة الرابعة مع الحضارة الإسلامية. وبلغ الانفتاح والتطور ذروته في كتابات موسى بن ميمون الذي قدَّم أول تحديد لأصول الدين اليهودي. وقد ظهر، تحت تأثير الفكر الإسلامي، الاحتجاج القرّائي (العقلاني) ورفض الشريعة الشفوية.

        ويُلاحَظ في هذه الفترة أن اليهودية لم تَعُد مرتبطة بالمكان، وذلك رغم أنها ظلت ديانة جماعة إثنية محددة. وأصبحت العودة مفهوماً دينياً وعملاً من أعمال التقوى، وأصبحت صهيون صورة مجازية دينية وكان على المؤمن ألا يحاول العودة إلى صهيون (فلسطين)، وأن ينتظر حتى يشاء الإله عودة الشعب. ونظراً لوجود اليهودية الغربية في حالة العزلة داخل الجيتو باعتبارها عقيدة جماعة وظيفية وسيطة، فقد أصابها الجمود وأصبحت عاجزة عن الوفاء بحاجات اليهود الدينية. وأخذت الأزمة تتفاقم مع القرن السادس عشر، مع بدايات الثورة العلمانية الكبرى، ومع هجمات شميلنكي عام 1648. وأخذ الاحتجاج على اليهودية الحاخامية (ويُقال لها أيضاً «التلمودية» أو «الربانية») شكل ثورات المشحاء الدجالين، مثل شبتاي تسفي، الذين يطالبون بإسقاط الشريعة والتلمود، وبالعودة الفعلية والفورية إلى فلسطين.

        وقد أخذت الثورة ضد اليهودية الحاخامية شكلاً آخر، وهو ظهور تراث القبَّالاه الصوفي المفرط في الحلولية مثل كتاب الزوهار وكتابات إسحق لوريا المتأثر بشكل مشوَّه ببعض المفاهيم المسيحية مثل التثليث والصلب. ويرى جرشوم شوليم أن القبَّالاه اللوريانية حققت هيمنتها الكاملة في منتصف القرن السابع عشر. كما ظهرت الحركات الشبتانية والحركة الحسيدية. ولم ترفض المؤسسة الحاخامية القبَّالاه تماماً، بل استوعبتها بعد حين، وجعلت الإيمان بها واحداً من أركان العقيدة اليهودية. لكن التوتر ظل قائماً بين المؤسسة الحاخامية التلمودية والمؤسسة القبَّالية الحسيدية، وتَمثَّل هذا في الصراع بين المتنجديم والحسيديين، وإن كانوا قد وحدوا صفوفهم في مواجهة الحركات التجديدية والإصلاحية الحديثة.

        ثالثاً: العصر الحديث (مع منتصف القرن السابع عشر تقريباً): وهي مرحلة المواجهة الخامسة مع الحضارة العلمانية في الغرب:

        بينما كانت اليهودية متخندقة في الجيتو، كان المجتمع الأوربي آخذاً في التطور السريع، وهو تطوُّر لم يشارك فيه أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (رغم أنه ترك فيهم أعمق الأثر). ومع ظهور الدولة القومية التي طالبت بفصل الولاء القومي عن الانتماء الديني، ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، وجد أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم في العصر الحديث، غير مهيئين على الإطلاق لإنجاز هذه العملية. ولقد بدأت المرحلة الحديثـة في هـولندا في القرن السابع عشر، في أمستردام، ثم فرنسا وألمانيا في القرن الثامن عشر، ومعظم بلاد أوربا في منتصف القرن التاسع عشر، والعالم العربي والعالم الإسلامي في القرن العشرين. وتسبَّب هذا الوضع في ظهـور أزمـة هــويـة عميقـة، وأخـذت ردود الفعــل أشكالاً كثيرة مثل:

        1 ـ حركة التنوير اليهودية وظهور اليهودية الإصلاحية، أواخر القرن الثامن عشر: تُعَدُّ حركة التنوير واليهودية الإصلاحية إحدى الاستجابات اليهودية للعصر الحديث، وهي استجابة تتقبل معطيات هذا العصر وعقلانيته المادية وتنطلق منه، وتحاول فصل الدين لا عن الدولة الحاكمة وحسب، وإنما عن الجماعة الإثنية تماماً بحيث يصبح «اليهودي يهودياً في منزله مواطناً في مدينته» (على حد قول يهودا جوردون).

        2 ـ الحركات الأرثوذكسية والمحافظة، أوائل القرن التاسع عشر: لم تكن كل قطاعات اليهود راغبة في ـ أو قادرة على ـ دخول العصر الحديث، وتَقبُّل قيمه. ولذا، انخرطت أعداد كبيرة منها في حركات دينية هي في جوهرها رد فعل للعصر الحديث يأخذ شكل الإمساك بتلابيب الصيغة الدينية القومية التقليدية، مثل: الحسيدية (التي بعثت التراث الصوفي) واليهودية الأرثوذكسية والمحافظة والتجديدية. ولا تزال الفرق اليهودية كلها مختلفة حول أمور شعائرية وعقائدية عديدة، وتبلورت الخلافات في موقفها من الشريعة، أهي ملزمة لليهودي في العصر الحديث أم يمكنه إعادة تفسيرها على طريقته، أو حتى التخلي عنها؟

        3 ـ الحركة الصهيونية بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر: رغم أن الصهيونية في جوهرها حركة علمانية لا دينية، فإن ظهورها أثر تأثيراً عميقاً في اليهودية والفكر الديني اليهودي إلى درجة أن اليهودية الأرثوذكسية التي بدأت بمعاداة الصهيونية، أصبحت العمود الفقري للاستيطان الصهيوني. واستفادت الصهيونية من الاتجاه القومي داخل اليهودية وحوَّلت كثيراً من المفاهيم الدينية الروحية إلى مفاهيم فيزيقية بحيث تحولت العودة في نهاية الأيام إلى الاستيطان الصهيوني هذه الأيام. كما تمت علمنة المفاهيم الدينية بحيث أصبح هناك ما يشبه التماثل البنيوي بين اليهودية الحاخامية والصهيونية. فهناك كثير من علماء الدين اليهودي يتحدثون عن دولة إسرائيل كما لو كان لها معنى أخروي ميتافيزيقي، وأنها علامة على تَدخُّل الإله في التاريخ لينقذ شعبه ويأتي له بالخلاص تماماً كما فعل في واقعة الخروج. وقد قرن أحد المفكرين الدينيين اليهود بين الإله والدولة إلى درجة أنه صرح عام 1967 بأن الإله نفسه مُهدَّد في هذه الحرب! وقد ظهر إلى جانب الصهيونية ما يُسمَّى «اليهودية الإثنية» التي أعادت تعريف اليهودية بحيث أفرغتها من محتواها الديني والأخلاقي أو جعلته في المرتبة الثانية وأكدت محتواها الإثني، فأصبح بإمكان اليهودي الذي لا يؤمن بالإله ولا يمارس التحريمات الخاصة بالطعام أن يصر على تسمية نفسه يهودياً. ورغم انتصار الصهيونية الكاسح، فلا تزال توجد جيوب مقاومة بين اليهود الأرثوذكس والإصلاحيين.

        4 ـ اليهودية في الولايات المتحدة: انتقل مركز اليهودية إلى الولايات المتحدة، وهو ما كان يعني انتقال اليهودية إلى تربة علمانية كاملة. فعمَّت الاتجاهات الإصلاحية والمحافظة، وضَعُفت اليهودية الكلاسيكية أو المعيارية (الأرثوذكسية). كما ضَعُف دور الحاخام تماماً بحيث أصبح اليهود العاديون يسيطرون على الجماعة، وأصبح المعبد اليهودي جزءاً من النشاط الاجتماعي لأعضائها، كما هيمنت الصهيونية، في مستوى من المستويات، على الجماعة اليهودية وعلى فكرها الديني.

        5 ـ لاهوت موت الإله: ظهر بعد الحرب العالمية الثانية تيار كاسح بين المفسرين الدينيين اليهود يَصدُر عن تقديس الشعب اليهودي وتاريخ هذا الشعب باعتباره سجلاً لما يقع له من أحداث وما يقوم به من أفعال. فكأن اليهودية سقطت مرة أخرى وبحدة في الحلولية الوثنية القديمة حيث يترادف الديني والقومي وحيث يستحيل تجاوز سطح المادة، فهي وثنية دون إله تحل فيها الذات القومية محل الذات الإلهية.

        وأهم أحداث التاريخ اليهودي (المقدَّس) من منظور هؤلاء المفكرين هو الإبادة النازية ، فهي دليل على فشل اليهودية الحاخامية تماماً، إذ جعلت اليهود شعباً مختاراً يقف شاهداً على الشعوب الأخرى لا يشارك في السلطة السياسية ولا سيادة له. والإبادة دليل أيضاً على اختفاء أو موت الإله، فحضور معسكرات الاعتقال دليل على غياب الإله. ويُلاحَظ أن الخطاب المستخدم هو خطاب ما بعد الحداثة، الذي يركز دائماً على عدم وجود مطلقـات تتجـاوز الواقع وغياب المركز، ومن ثم غياب علاقة الدال بالمدلول. ولكن اختفاء الإله كمطلق لا يعني اختفاء كل المطلقات إذ يظهر الشعب اليهودي باعتباره المطلق، ويصبح بقاؤه بأي ثمن القيمة الأخلاقية الكبرى، كما تصبح دولة إسرائيل التعبير الأمثل عن إرادة هذا الشعب وعن تَخلُّصه من عجزه وتأكيده سيادته. وشعائر هذا اللاهوت هي تَذكُّر الإبادة، وكتبه المقدَّسة هي الكتب اليهودية التي تُذكِّر اليهود والعالم بهذه الحادثة والمؤسسات الصهيونية (الكنيست الإسرائيلي ـ مؤسسات الجباية) هي مؤسسات العقيدة الجديدة. والأوامر والنواهي لم تَعُد لها أهمية، فأهم واجب ديني يهودي هو الدفاع عن بقاء الشعب اليهودي والدولة الصهيونية (مهما ارتكبت من آثام) والدفاع عن إسرائيل (ومن هنا يُسمَّى لاهوت موت الإله «لاهوت البقاء»، و«لاهوت ما بعد أوشفيتس»). وبطبيعة الحال، نجد أن الأخلاقيات الناجمة عن الإيمان بهذه الرؤية أخلاقيات براجماتية لا علاقة لها بالقيم المطلقة. وإذا كان هدف اليهود البقاء والإبقاء على دولتهم بأي ثمن، فإن البقاء يُعَدُّ قيمة طبيعية أو داروينية وليس قيمة أخلاقية أو إنسانية. ولاهوت موت الإله تعبير عن الهيمنة الصهيونية الكاملة أو إنسانية، وعلمنة النسق الديني اليهودي، إذ صفِّي النسق الحلولي تماماً من كل شائبة (وحتى من كلمة الإله)، وأصبح نسقاً خالياً من أي شيء سوى الذات القومية، وهو يشكل بالتالي عودة شبه كاملة للعبادة القربانية المركزية، ولكنها كما قلنا عبادة دون إله، الأمر الذي يعني تأليهاً متطرفاً للذات القومية.

        6 ـ إعادة تأكيد الانتمـاء الديني مقـابل الانتماء الإثني: في السبعينيات، بدأت تظهر مؤخراً حركات بين اليهود لا ترفض الصهيونية علناً، ولكنها تحاول التملص منها، وتؤكد ضرورة الاحتفاظ بالانتماء الديني مستقلاً عن الانتماء الإثني أو القومي أو السياسي. وأعضاء هذه الحركات يخشون اقتران اليهودية بالصهيونية اقتراناً كاملاً قد يقضي عليها. ولذلك، فهم يصرون على مركزية الدياسبورا (الجماعات) مقابل المفهـوم الصهيوني الخـاص بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، ومن أهم دعاة هذا الاتجاه الحاخام جيكوب نيوزنر أكبر علماء التلمود المعاصرين. كما ظهر ما يُسمَّى «لاهوت التحرير» الذي يُطوِّر كثيراً من هذه المفاهيم، فدعاة لاهوت التحرير يرفضون تقديس التاريخ اليهودي والمزاوجة بين القومي والمقدَّس، وهم من ثم يرفضون اعتبار العقائد أو الدولة الصهيونية مطلقات. بل إنهم يطالبون اليهود بألا يتذكروا ضحايا الإبادة من اليهود وحسب وإنما أن يتذكروا أيضاً الضحايا من غير اليهود. أما الدولة الصهيونية، بالنسبة لهم، فهي قد حلت بالفعل مشكلة العجز بسبب غياب السيادة ولكنها استخدمت سلطاتها في حرق البشر وفي كسر عظام الأطفال، وأصبح بقاؤها مرهوناً بموت الأطفال الفلسطينيين، ولذا يتعيَّن على اليهود أن يتذكروا ضحايا الصهيونية، وإذا كانوا يساندون هذه الدولة فيتعيَّن عليهم أيضاً التمسـك بالقيم الأخلاقية المطلقـة ومحاكمة هـذه الدولة من خلال هذه القيم.

        ويُلاحَظ أن التناقض بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرر هو نفسه التوتر القديم بين الكهنة والأنبياء وبين دعاة الانغلاق الوثني والانفـتاح الأخــلاقي العالمي، فكأن اليهودية لا تزال في حالة التوتر الأولى، وهذا يعود ولا شك إلى تركيبتها الجيولوجية التراكمية.

        اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
        http://www.rasoulallah.net/

        http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

        http://almhalhal.maktoobblog.com/



        تعليق


        • #5
          التصـور اليهــودي للإلـه
          Jewish Concept of God

          توجد داخل اليهودية، من حيث هي تركيب جيولوجي تراكمي، طبقة توحيدية تدور حول الإيمان بالإله الواحد الذي لا جسد له ولا شبيه، الذي لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد هو على أيٍّ منها إذ هو يتجاوزها جميعاً ويسمو عليها. وكل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليسـت إلا تعبيراً عن قـدرته، فهـو روح الكـون غير المنظورة، السـارية فيه، والتي تُمد الكون بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد. وقد وصل التوحيد في اليهودية إلى ذروته على يد بعض الأنبياء الذين خلَّصـوا التصـور اليهـودي للإله من الشـوائب الوثنية الحلولية التي علقت به، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسمواً، وأقل عزلة وقومية وتعالياً.

          وقد استمـر التيــار التوحيدي في مخـتلف فترات تاريخ اليهودية. وتتضمن الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل «آني مأمِّين» (إني مؤمن) و«يجدال» (تنزَّه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد. وقد سار الكثير من اليهود إلى حتفهم في العصور الوسطى في الغرب دفاعاً عن وحدانية الإله وتأكيداً لها.

          ولكن اليهـودية، كتركيب جيـولوجي، تراكمـت داخلهـا طبقات أخرى، وما التوحيد سوى طبقة واحدة ضمن طبقات مختلفة. فالعهد القديم، كما يتضح في مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.

          وتتبدَّى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، التي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحـك ويبكي، غضـوب متعطـش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة يسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14). وهـو إلـه متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسـه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22). وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد « أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً » (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة. والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها « أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين » (خروج 3/22). وهكذا، فإننا نجد منذ البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين. وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة يسرائيل في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها هارون أخو موسى)، وأن يقبل العهـد القـديم عناصـر وثنية مثل الترافيم والإيفـود (الأصنام)، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيراً عما جاء في العهد القديم. وليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة اليسرائيلية.
          ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضاً الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده داخل الإطار الحلولي الكموني يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة (الكونية الطبيعية أو التاريخية) ويصبح امتداداً لما هو نسبي، وامتداداً للشعب اليهودي على وجه الخصوص. فيصبح الخالق امتداداً لوعي الأمة بنفسها، فيظل إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب. ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع. ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب (وتلاحُم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي). ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود. ويتضح هذا في مفـهوم التاريخ اليهـودي المقدَّس الذي لا يمكن فهـم تاريخ الكـون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين. ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة (التي يفترض أنها معادلة للإله وتحوي سر الكون). وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه (التي تضم تفسير الحاخامات) شُبِّهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدَّسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل. وتُستخدَم كلمة «ابن الله» للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضاً اللوجوس. وتزداد أهمية اليهود كشعب مقدَّس، داخل الطبيعة والتاريخ، ويزداد التصاق الإله بهم وتحيُّزه لهم ضد أعدائهم. ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة. وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية. ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً. وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور (ولكن يجب الانتباه إلى أن هذه الطبقة الجيولوجية الحلولية توجد إلى جانبها في التلمود نصوص كثيرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه وتشجب النزعات التشبيهية).

          ويصل الحلول إلى منتهاه وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبَّالاه، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر. ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.

          وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر). كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث. وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي. وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً. ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين. ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان. وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله. وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص. وعند هذه النقطة، يصبح من الصعب الحديث عن اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية.

          ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبَّالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء (43/12)، حيث جاء فيها "أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله"، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه. وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضاً فيفسرها بقوله: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله"، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس. بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: "حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي. وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي". ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائماً عبارة «كما لو أن» لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.

          وعلى أية حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسياً في النسق الديني اليهودي بل كان يكتسب أحياناً قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني الإسلامي، كما هو الحال مع كلٍّ من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون. وكثيراً ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري)، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة. بل يُلاحَظ أن عبارة "كما لو أن" كانت تضاف حتى في التفسيرات القبَّالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبَّالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسـة الحاخامية نفسها وسيطر فكـر حلولي حـرفي متطرف. ومع تغلغل القبَّالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعاداً مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.

          ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.

          وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي. كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً (حلولية موت الإله)، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله). ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها. بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن «لاهوت موت الإله»، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله. وقد تفرَّع من هذا «لاهوت الإبادة» أو «لاهوت ما بعد أوشفيتس» الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله. ومن الصعب عند هذه النقطة الحديث عن اليهودية كديانة توحيدية، إذ أصبحت ديانة وثنية حلولية.

          ومع هذا، عبَّرت الطبقة التوحيدية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي مؤخراً عن نفسها، في محاولة مخلصة من جانب بعض المفكرين الدينيين اليهود من أعداء الصهيونية، لتخليص اليهودية من حلوليتها. فدعاة لاهوت التحرر يرفضون أن تصبح الإبادة النازية ليهود أوربا أو قيام الدولة الصهيونية أو بقاء اليهود هو المطلق، بل يتحدثون عن إله يتجـاوز المـادة والتاريخ، نسـقه الأخلاقي مُـلزم لكل البشر، ولذا فهو إله لا يُوظَّف في خدمة اليهود أو المنظمة الصهيونية العالمية. ومن ثم لا يرضى بذبح الأطفال على يد النازيين ولا بتكسير عظامهم على يد الصهاينة!

          التوحيد
          Monotheism

          انظر الباب المعنون «إشكالية الحلولية اليهودية».

          أســماء الإلـــه
          Names of God

          توجد أسماء كثيرة للإله في اليهودية، لبعضها دلالات تصنيفية، وبعضها الآخر أسماء أعلام، وتبلغ الأسماء نحو تسعين. ومن أهم الأسماء من النوع الأول، تسمية الإله باسم «السلام» (شالوم)، وهو أيضاً «الكمال المطلق» و«الملك»، و«الراعي»، و«مقدَّس يسرائيل» (قيدوش يسرائيل)، و«الرحمن» (هرحمان). ومن أهم الأسماء التي شاعت، العبارة الحاخامية «المقدَّس تبارك هو» (هاقدوش باروخ هو).

          أما أسماء الأعلام التي يتواتر ذكرها، في العهد القديم أساساً، فهي كثيرة ومن أهمها «إيل» بمعنى «القوي»، وهي الأصل السامي لكلمة «إله» التي تتضمنها كلمة «إسرائيل» أو «ناتان إيل». ومن الأسماء الأخرى، «شدَّاي» و«إلوهيم» (وهي صيغة الجمع لكلمة «إلواه»). وأكثر الأسماء شيوعاً هو اسم «يهوه» (أو «يهوفاه» أو «التتراجراماتون») وهو أكثر الأسماء قداسة. وكان لا ينطق به سوى الكاهن الأعظم في يوم الغفران في قدس الأقداس. أما بقية اليهود، فكانوا يستخدمون لفظة «أدوناي»، أي «سيدي». وبمرور الزمن، اكتسب هذا الاسم، هو الآخر، شيئاً من القداسة، وأصبح من العسير التفوه به. ولذا، يستخدم بعض المتدينين كلمة «هاشِّيم» (الاسم) للإشارة إلى الإله، كما يكتفي بعض الأرثوذكس بكتابة حروف عبرية مثل حرف اليود، أو حرف الهاء، اختصاراً لـ «هاشِّيم»، أو حرف الدال اختصاراً لـ «أدوناي». وباللغة الإنجليزية يكتفي بعض اليهود الأرثوذكس بكتابة الحرف الأول والأخير من كلمة «جود God» التي يكتبونها على شكل G-d كما يكتفي بعضهم برسم علامة جبرية مثل (*) للإشارة للإله (واستبعدت علامة (+) لأنها تشبه الصليب). ويُشار أحياناً إلى الإله بأنه «الذي لا يمكن التفوه باسمه» (هاشِّيم هامفوَّراش). وظهرت أسماء أخرى في الكتب الخارجية أو الخفية (الأبوكريفا) من أهمها «خالق كل شيء» (يوتسير هاكول)، و«درع إبراهيم» (ماجن أبراهام) و«صخرة إسحق» (تسور يتسحاق). وقد أضافت القبَّالاه أيضاً أسماء للإله أهمها: «الذي لا نهاية له» (إين سوف)، و «أقدم القدماء» (عتيقا دي عتيقين)، و«قديم الأيام» (عتيق يومين). وشاعت الإشارة إليه بأنه الشخيناه التي هي التعبير الأنثوي عن القوة الإلهية، وعاشر التجليات النورانية (سفيروت)، وهي أيضاً جماعة يسرائيل.

          ويُنظَر إلى اسم الإله في التراث الديني اليهودي الحلولي، وبخاصة القبَّالي، باعتباره أعلى تركيز للمقدرة الإلهية على الخلق أو باعتباره جوهر الإله نفسه الذي يتجاوز الفهم البشري واللغة الإنسانية.

          ورغم أن هذا الاسم يتجاوز كل ما هو بشري، ورغم أنه "وراء المعنى"( "بلا معنى" على حد قول جرشوم شوليم) إلا أنه هو نفسه المصدر الذي لا ينضب لكل معنى في العالم. وهو لهذا "نص مفتوح" يمكن تفسيره تفسيرات لا حصر لها ولا عدد. فاسم الإله مطلق ويتسم بالامتلاء الذي لا حد له ولذا فلا يمكن فهمه إلا من خلال الوساطة البشرية التي تقوم بالتفسير، أي الحاخامات (وهذه هي التوراة الشفوية).

          ويميِّز شوليم بين هذه « الكلمة التي لا معنى لها » وكلمات الكتاب المقدَّس والتفاسير الحاخامية ويبيِّن أن القبَّاليين يرون أن الكتاب المقدَّس إن هو إلا تحولات وتنويعات على هذه « الكلمة التي لا معنى لها »، ومن ثم يصبح الوصول إلى الكتاب المقدَّس العادي بدون وساطة المفسر أمراً مستحيلاً ولا يبقى سوى التفسيرات الباطنية (وهكذا فرغم عدم وجود كنيسة في اليهودية إلا أن وساطة المفسر لا تختلف البتة عن وساطة الكاهن).

          ولعل فكرة الوساطة هذه تتضح لنا بشكل أكبر وأكثر تبلوراً حينما ندرك أنه بتطور الحلولية اليهودية شاع الإيمان بأن من يعرف اسم الإله الأعظم (أي يعرف الجوهر الإلهي) يمكنه التأثير في الذات الإلهية وتغييرها في الأرض أو التحكم فيها (فهو الغنوص الكامل والصيغة السحرية اللازمة للتحكم في الكون بل في الذات الإلهية)، بل إنه هو التجليات النورانية العشرة في حالة تكامل عضوي، وهي فكرة ذات علاقة بالسحر والتأمل الباطني. ومن هنا، كان اهتمام القبَّاليين بأسماء الإله، فهي سبيلهم إلى التأمل الغنوصي في الطبيعة الإلهية، وفي السيطرة عليه وعلى الكون عن طريق السحر.

          وقد ظهرت جماعة «بَعْلِّي هاشِّيْم» أي «أصحاب الاسم» ومفردها «بَعلْ شيم»، أي «سيد الاسم»، وهم من الدراويش الذين تصوروا أنهم حصلوا على المعرفة الكاملة والدقيقة لطريقة نطق اسم الإله، وبالتالي بوسعهم التحكم فيه، والإتيان بالمعجزات. وكان أهم هؤلاء الدراويش إسرائيل بن إليعازر، المعروف باسم بعل شيم طوف، وهو مؤسس الحركة الحسيدية.

          ويرى القبَّاليون أن بعض حروف اسم الإله قد انتُزعت أو سقطت، وبالتالي أصبح اسمه ناقصاً، أي أنه هو نفسه أصبح ناقصاً. وهذه نظرية تشبه نظرية الخلل الكوني الناجم عن تهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية. وحتى يستعيد الإله توازنه الداخلي، يتعين على اليهودي أن يتوجه بكل كيانه إلى الداخل، كما يتعين عليه أن يقوم بأداء الأوامر والنواهي (متسفوت)، فيستعيد الإله توازنه ويكتمل اسمه. وأول شيء يقوم به أي ماشيَّح دجال هو التفوه باسم يهوه أمام الملأ، فيبطل الشريعة وكل النواميس، وهذا ما فعله شبتاي تسفي وغيره.

          وفي العصر الحديث، اختلفت الفرق اليهودية في ترجمة وتفسير أسماء الإله، فاتجه المفكرون اليهود في نهاية القرن الثامن عشر وفي معظم القرن التاسع عشر، تحت تأثير مُثُل الاستنارة والتنوير والدراسات التاريخية، إلى أن يفسروا هذه الأسماء على أساس فلسفي ميتافيزيقي. فترجم موسى مندلسون كلمة «يهوه» إلى «الأزلي»، وأشار نحمان كروكمال إلى الإله على أنه «الروح المطلق»، وترجم هرمان كوهين كلمة «الشخيناه» بتعبير «الراحة الأزلية».

          وعلى العكس من هذا، نجد أن مارتن بوبر وروزنزفايج يصران على الجانب التشخيصي (الصوفي الوجودي)، فبتأثير القبَّالاه ترجم بوبر كلمة «يهوه» إلى «أنت»، أو «هو». واتجه مناحم كابلان، زعيم اليهودية التجديدية التي تقرن الإله بمبدأ التقدم، إلى الإشارة إلى الإله باعتباره «القوة التي تؤدي إلى الخلاص» أو «القوة التي تؤدي إلى إفراز المثل العليا كافة». وحينما كانت تتم مناقشة نص بيان إعلان دولة إسرائيل، أثيرت مشكلة حول العبارة الأخيرة في البيان واقترح الدينيون أن تكون على الشكل التالي: "واضعين ثقتنا في الإله". ولكن اللادينيين رفضوا، فاتفق الجميع على عبارة «تسور يسرائيل» أو «صخرة إسرائيل»، وهي عبارة غامضة يمكن أن تُفهَم كإشارة للإله الواحد الأحد، على غرار عبارة «تسور يتسحاق» أي «صخرة إسحق» ، ولكنها يمكن أن تفهم أيضاً فهماً حرفياً أو تُفسَّر تفسيراً حلولياً، وتصبح الصخرة أرض يسرائيل أو جماعة يسرائيل.

          وتحت ضغوط حركة التمركز حول الأنثى في العالم الغربي، بدأت تُطرَح قضية أن كلمة «الإله» وصورته تفترض أنه مذكر، وأنه لابد أن يكون محايداً أو متضمناً كلاً من عناصر التذكير وعناصر التأنيث. وبالتالي، أُدخل تغيير في كتب الصلوات وترجمات الكتاب المقدَّس، بحيث أصبح يُشار إلى الخالق باعتباره هو/هي. وعلى سبيل المثال: «وصلوا له/لها، وقالوا هو/هي، الذي/التي، خلق/خلقت العالم». بل أحياناً يصرون على الإشارة إلى الإله على أنه مذكر أو مؤنث وجماد (بالإنجليزية: هي/شي/إت .(he/ she/ it)

          تقديس الاسم (قيدوش هاشيم)
          Kiddush ha-Shem

          «قيدوش هاشِّيم» عبارة عبرية تعني «تقديس الاسم المقدَّس». والمُصطلَح يشير إلى الاستشهاد، ولكنه أصبح يشير إلى أي عمل من أعمال التقوى والاستقامة. وهي ضد «حيلول هاشِّيم»، أي «تدنيس الاسم المقدَّس».

          إيل
          El

          «إيل» الاسم السامي للإله. و«إيل» مفرد كلمة «إيليم» الكنعانية يُراد بها الجمع والتعدد. وكلمة «إيل» في الأكادية تعني «الإله على وجه العموم». ولا يُعرَف أصل الكلمة، ولكن يُقال إنه من فعل بمعنى «يقود» أو «يكون قوياً». وقد ورد في النصوص المصرية التي تعود إلى عهد الهكسوس مُصطلَح «يعقوب إيل»، أي «ليعقب الرب بعده»، ومُصطلَح «بيت إيل» (تكوين 12/8، 35/7).

          وكثيراً ما يُستخدَم اسم «إيل» مع لقب من ألقاب الإله، مثل: «إيل عليون»، أي «الإله العلي»، و «إيل شدَّاي»، أي «الإله القدير». وتُستعمَل كلمة «إيل» كجزء من أسماء عديدة مثل «إليعازر»، أي «الإله قد أعان». والواقع أن أسلوب قَرْن أسماء الأشخاص بكلمة «إيل» لا يزال مستعملاً حتى يومنا هذا، مثل «ميخائيل». وربما يكـون أصـل كلمة «خليــل» هـو (خل ـ إيل)، أي «صديق الإله». ومن المرجح أن يكون معنى إسماعيل (شماع ـ إيل) هو «ليسـمع الإله». ويُقال أيضاً إلياهو، وصموئيل، ويسرائيل.

          يهــوه (يهـــوفاه)
          Jehovah; Yahweh

          الكلمة العبرية «يهوفاه» هي كلمة ساميِّة قديمة، ويُقال إنها مشتقة من مصدر الكينونة في العبرية « أهييه آشر أهييه » (خروج 3/14)، أي «أكون الذي أكون». وقد تكون الكلمة من أصل عربي. ويذهب البعض إلى أن الاسم مشتق من الفعل «هوَى»، بمعنى «سقط»، أي أن يهوه هو مُسقط المطر والصواعق. ويتم الربط بين معنى هذا الاشتقاق وبين الصفات التي عرفت عن يهوه كإله للعواصف والبرق والقوى الطبيعية، أو «هوَى» بمعنى «وقع»، أو «حدث» وما حدث يكون. ويُقال إن «يهوه»، مثله مثل معظم الأسماء العبرية في العهد القديم، صيغة مختصرة لعبارة «يهفيه أشير يهوفيه»، أي «يخلق الذي هو موجود»، أو لعلها اختصار «يهوه تسفاؤت» أي «رب الجنود». ويميل معظم العلماء إلى نطق الاسم على أنه «يهوه»، وإن كانت التفسيرات بشأن ذلك ليست نهائية.

          ولا يرد اسم «يهوه» في المصدرين الإلوهيمي أو الكهنوتي، إلى أن يسفر الإله لموسى عن نفسه (خروج 3/15، 6/2 ـ 3)، ولكن المصدر اليهوي يستخدم الاسم في سفر التكوين (2/4)، مفترضاً بذلك أنه يعود إلى أيام إبراهيم. ولكن يبدو أن هذا إسقاط من محرري العهد القديم لمُصطلَحات مرحلة لاحقة على مرحلة سابقة. وقد جاء في سفر الخروج أن الرب كلم موسى،وقال: «أنا الرب،وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء. وأما باسمي يهوه، فلم أعرف عندهم » (خروج 6/2 ـ 3).

          واسم «يهوه» أكثر الأسماء قداسة، وكان اليهود لا يتفوهون به، فكانوا يستخدمون كلمة «أدوناي» العبرية (أو «كيريوس» اليونانية في الترجمة السبعينية) بمعنى «سيدي» أو «مولاي» للإشارة إلى الإله، ثم أصبحوا يستخدمون كلمة «هشيم» العبرية بمعنى «الاسم» وحسب.
          والاسم العبري كما تَقدَّم يتكون من أربعة أحرف، ولذا سمِّي «تتراجراماتون»، أي «الرباعي»، وهي «ي هـ و هـ YHWH». ولكن، في القرن الرابع عشر، قرأ أحد الكتاب المسيحيين الكلمة خطأً على أنها «يهوفاه»، وذلك بأن وضع الحروف المتحركة لكلمة «أدوناي Adonai» مع أحرف «يهوه» الأربعة Yahowai. وهذا هو أصل كلمة Jehovah «جهيفواه». ويأتي ذكر «يهوه» أكثر من ستة آلاف مرة في العهد القديم، وهو أكثر أسماء الإله شيوعاً وقداسة. وكان يتفوه به الكاهن الأعظم فقط داخل قدس الأقداس في يوم الغفران.

          ويبدو أن يهوه كان رب الصحراء. عُرف أول ما عُرف في شبه جزيرة سيناء في الجزء المتاخم لشمال الجزيرة العربية، وفي أماكن متاخمة لهذه المنطقة. وكانت القرابين تُقدَّم له من بين القطيع.
          وقد نسب إليه العهد القديم صوراً عديدة من القسوة والوحشية. فهو يأمر شعبه بالإبادة والخيانة والغدر. وهو إله غيور يناصر شعبه ظالماً أو مظلوماً، ويعاقب الأبناء على الجرائم التي يرتكبها الآباء، ويعاقب الشعب على ما يرتكبه الملك، بل يعاقب على الأخطاء التي تُرتكَب عن غـير عمد، وهو محـدود المعرفة تُنـسَب إليه صفات البـشر كافة. وكان الغنوصيون يرون أن يهوه إله العهد القديم هو الإله الصانع الشرير، الذي خلق هذا العالم الفاسد وهذا الزمان الرديء وسَجَن البشر فيه وفرض عليهم قوانين جائرة لا يستطيعون تنفيذها، هذا على عكس إله العهد الجديد الإله الخيِّر الذي يضحي بنفسه من أجل البشر.

          إلوهيم
          Elohim

          «إلوهيم» كلمة من أصل كنعاني. وهي، حسب التصور اليهودي، أحد أسماء الإله. وهي صيغة الجمع من كلمة «إيلوَّه» أو «إله» أو «إيل»، وهو ما يدل على أن العبرانيين كانوا في مراحل تطوُّرهم الأولى يؤمنون بالتعددية. ولم ترد كلمة «إلوَّه» إلا في سفر أيوب، أما «إلوهيم»، فترد ما يزيد على ألفي مرة في العهد القديم، وبأداة التعريف «ها إلوهيم». وللكلمة معنيان، فهي تدل على الجمع فتكون بمعنى الآلهة (الوثنية) ككل، أو تدل على المفرد فتُعدُّ اسماً من أسماء الإله. ويُعامَل الاسم أحياناً باعتباره صيغة جمع وأحياناً أخرى باعتباره صيغة مفرد. ولذا، فهو يتبع أحياناً بفعل في صيغة الجمع، وفي أحيان أخرى يُتبَع بفعل في صيغة المفرد. وتتردد كلمة «إلوهيم» اسماً للإله في المصدر الإلوهيمي. وصفات الإله «إلوهيم» مختلفة عن صفات يهوه، فإلوهيم رحيم يراعي في أعماله القواعد الأخلاقية، وهو خالق السماوات والأرض.

          تتــراجـراماتــون
          Tetragrammaton

          «تتراجراماتون» كلمة إغريقية بمعنى «مُكوُّن من أربعة أحرف» أو «رباعي». وهو مُصطلَح يُستخدَم للإشارة إلى الاسم المقدَّس «يهوه» المُكوَّن من أربعة أحرف.

          أدونـاي
          Adonai

          «أدوناي» اسم من أسماء الإله حسب التصور اليهودي، وتعني «سيدي»، أو «مولاي».

          شـــدَّاي
          Shaddai

          كلمة «شدَّاي» مأخوذة من الجملة العبرية «شومير دلاتوت يسرائيل» ومعناها «حارس أبواب يسرائيل»، وهي أيضاً أحد أسماء الإله. وهي من أصل أكادي («شدر»)، وكانت تُستخدَم في الأصل للإشارة إلى القوى الشريرة التي تأتي من الجبال (بالأكادية «شديم») أي إلى الجن والشياطين. وقد تطوَّر استخدام الكلمة وأصبحت تشير إلى «إله الجبال» ثم إلى «الإله القوي». ويذهب بعض العلمـاء إلى أن أـصل الاسـم من جذر بمعنى «يخرب»، ولكنــه أصبح يعنــي «القدير»، أو «القادر على كل شيء». وقد فسـر الحاخـامات لفـظ «شــدَّاي» بأنه يعـني «الكافي»، ولكنه تفسير غير دقيق. وتُقرَن الكلمة بلفظة «إيل» فيُقال «إيل شدَّاي». وتُكتَـب كلمـة «شـدَّاي» فـي تميمـة الــباب (مزوزاه) التـي تأخـذ هيئة صندوق، بحيث تمكن رؤية الكلمة من ثقب صغير في الصندوق.

          اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
          http://www.rasoulallah.net/

          http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

          http://almhalhal.maktoobblog.com/



          تعليق


          • #6
            الشـعب المختـار
            Chosen People

            مصطلح «الشعب المختار» ترجمة للعبارة العبرية «هاعم هنفحار»، ويوجد معنى الاختيار في عبارة أخرى مثل: «أتَّا بحرتانو»، والتي تعني «اخترتنا أنت»، و «عم سيجولاه»، أو «عم نيحلاه» أي «شعب الإرث» أي «الشعب الكنز». وإيمان بعض اليهود بأنهم شعب مختار مقولة أساسية في النسق الديني اليهودي، وتعبير آخر عن الطبقة الحلولية التي تشكلت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي وتراكمت فيه. والثالوث الحلولي مُكوَّن من الإله والأرض والشعب، فيحل الإله في الأرض، لتصبح أرضاً مقدَّسة ومركزاً للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختاراً، ومقدَّساً وأزلياً (وهذه بعض سمات الإله). ولهذا السبب، يُشار إلى الشعب اليهودي بأنه «عم قادوش»، أي «الشعب المقدَّس» و«عم عولام» أي «الشعب الأزلي»، و«عم نيتسح»، أي «الشعب الأبدي». وقد جاء في سفر التثنية (14/2) "لأنك شعب مقدَّس للرب إلهك. وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض". والفكرة نفسها تتواتر في سفر اللاويين (20/24، 26): "أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب... وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميَّزتكـم من الشعـوب لتكونوا لي". ويشـكر اليهــودي إلهه في كل الصلــوات لاختيــاره الشعب اليهودي. وحينما يقع الاختيار على أحد المصلين لقــراءة التــوراة عليه أن يحمد الإله لاختياره هذا الشعـب دون الشعـوب الأخــرى، ولمنحه التوراة عـلامة على التميز.

            وقد حاول كثير من حاخامات اليهود وكثير من فقهائهم ومفكريهم تفسير فكرة الاختيار، فجاءوا بتفسيرات كثيرة. ولكن، وبغض النظر عن مضمون التفسير، فإن فكرة الاختيار على وجه العموم تؤكد فكرة الانفصال والانعزال عن الآخرين (تعبير عن القداسة الناجمة عن الحلول الإلهي في الشعب). وقد جاء في التلمود أن جماعة يسرائيل يُشبَّهون بحبة الزيتون لأن الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى، وكذلك أعضاء جماعة يسرائيل يستحيل اختلاطهم مع الشعوب الأخرى. وقد كانت عملية التفسير هذه ضرورية، في الواقع، لأن أعضاء الشعب المختار المقدَّس، الذي يفترض أن الإله قد حل فيه، وجدوا أنهم من أصغر الشعوب في الشرق الأدنى القديم وأضعفها، ولم يكونوا بأية حال أكثرهـا رقياً أو تفوقاً، كما حـاقت بهـم عدة هزائم انتهت بالسـبي البابلي.

            وقد وردت تفسيرات عدة للاختيار، هي في نهاية الأمر تعبير عن درجات متفاوتة من الحلول، فإن ازدادت النزعة الحلولية زادت القداسة في الشعب، ومن ثم زادت عزلته واختياره:

            1 ـ الاختيار كعلامة على التفوق:

            أ) لم يختر الإله اليهود بوصفهم شعباً وحسب، بل اختارهم كجماعة دينية قومية توحِّدها أفكارها وعقائدها، وقد عُرضت الرسالة على شعوب الأرض قاطبة، فرفضت هذه الشعوب حملها، وحملها الشعب اليهودي وحده. وقد حوَّلهم هذا الاختيار إلى مملكة من الكهنة والقديسين، وإلى أمة مقدَّسة تتداخل العناصر الدينية والقومية فيها. واختيار الإله لليهود هو جوهر العهد أو الميثاق المبرم بينه وبين إبراهيم (ولنقارن هذه الفكرة الحلولية، بالتصور الإسلامي التوحيدي العالمي، فقد عُرضت الرسالة على السماوات والأرض والجبال فأبيَّن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).

            ب) يدل الاختيار على تفوق اليهود عرْقياً، فقد اختير إبراهيم لنقائه، واختير اليهود لأنهم من نسله. وقد جاء في التلمود ما يلي: "كل اليهود مقدَّسون.. كل اليهود أمراء.. لم تُخلَق الدنيا إلا لجماعة يسرائيل.. لا يُدْعى أحد أبناء الإله إلا جماعة يسرائيل.. لا يحب الإله أحداً إلا جماعة يسرائيل".

            جـ) ويدل الاختيار على تفوق اليهود الأخلاقي، فقد اختار الإله الشعب اليهودي لأنه أول شعب يعبده وحده، أي أنه اختار الشعب لأن الشعب اختاره. وقد جاء في التلمود هذه الكلمات: "لماذا اختار الواحدُ القدوسُ تباركَ اسمُه جماعةَ يسرائيل، لأن... أعضاء جماعة يسرائيل اختاروا الواحد القدوس تبارك اسمه وتوراته".

            ويمكن أن تنحسر النزعة الحلولية قليلاً بحيث يصبح الاختيار علامة على التفرد وحسب (لا على التفوق). وقد قلَّص أحد المفكرين الإسرائيليين نطاق فكرة الاختيار بحيث جعلها تنصرف إلى علاقة الشعب بالإله وحسب، لا إلى علاقة اليهود بكل البشر.

            2 ـ الاختيار كتكليف ديني:

            اختار الإله الشعب اليهودي حتى يكون خادماً له بين الشعوب، وليكون أداته التي يُصلح بها العالم ويوحد بها بين الشعوب. وهذا يعني أن الاختيار ليس ميزة وإنما هو تكليف إلهي يعني زيادة المسئوليات والأعباء: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" (عاموس3/2)، وبالتالي يصبح اليهود "خدام الإله الطيعين". وكثيراً ما يُلاحَظ أن الأنبياء كانوا يعنفون الشعب لفساده الأخلاقي ولاتباعه طرق الشعوب الوثنية الأخرى، وفي هذا تأكيد للفكر التوحيدي. ومع هذا، يُلاحَظ أن الأنبياء، حتى في لحظات نقدهم للشعب اليهودي، كانوا ينطلقون من مقولة اصطفاء الشعب (وفي هذا تأكيد للرؤية الحلولية).

            3 ـ الاختيار كأمر رباني وسر من الأسرار:

            وأكثر التفسيرات تواتراً، على الأقل على المستوى الوجداني، هو أن الاختيار غير مشروط ولا سبب له، فهو من إرادة الإله التي لا ينبغي أن يتساءل عنها أي بشر، الإله الذي اختار الشعب ووعده بالأرض، وليس لأي إنسان أن يتدخل في هذا. وهذا هو تفسير راشي الذي كان متأثراً بالفكر الإقطاعي الغربي الوسيط والفكر المسيحي، فالاختيار هنا أمر ملكي على العبد الإذعان له وهو سر من الأسرار يشبه الأسرار المسيحية.

            والاختيار، حسب هذا التفسير، لا علاقة له بالخير أو الشر، ولا بالطاعة أو المعصية، فهو لا يسقط عن الشعب اليهودي، حتى ولو أتى هذا الشعب بالمعصية، إذ أن حب الإله للشعب المختار يغلب على عدالته، ولذلك لن يرفض الإله شعبه كلية، في أي وقت من الأوقات مهما تكن شرور هذا الشعب. بل يدَّعي أحد المفسرين أن الإله هو الذي اختار الشعب اليهودي، فالاختيار مُـلزم له هو وحده وليس ملزماً للشعب (وهذا بخلاف المفهوم الإسلامي للاختيار حيث جعل الاختيار مشروطاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنه ليس اختياراً عنصرياً أو عرْقياً بل هو اختيار أخلاقي غير مقصور على أمة بعينها).

            ورغـم أن أتباع كل جمـاعة دينية يرون أن ثمة علاقة خاصة تربطهم بالإله، وأنهم مختارون بشكل ما، فإن هذا التيار قد تعمق في اليهودية بشكل متطرف، وفَقَد الاختيار أي مضمون أخلاقي واكتسب أبعاداً عرْقية قومية، وتحوَّلت التجربة الدينية عند اليهود من تجربة فردية عمادها الضمير الفردي إلى تجربة جماعية عمادها الوعي القومي. ثم هيمنت القبَّالاه بالتدريج بحيث حولت الشعب اليهودي من مجرد شعب مختار إلى شعب يُعَدُّ جزءاً عضوياً من الذات الإلهية، فهو الشخيناه (التجسيد الأنثوي للحضرة الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش وتشاركه السلطة.

            وقد كانت النزعة الحلولية كامنة في داخل النسق الديني اليهودي، ولكن تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تعمل بالتجارة والربا زاد إحساسهم باختيارهم. فالجماعات الوظيفية، بسبب وضعها، يكون لديها دائماً إحساس بما يُسمَّى «مُركَّب الشعب المختار» لتبرر وضعها غير الإنساني كجماعة بشرية توجد داخل مجتمع ما ولا تنتمي إليه، فهي فيه وليست منه، تتعامل مع جماهير تُكِّن لها البغض والكراهية، لأنها تمثل مصالح النخبة الحاكمة. كما أن إحساس الجماعة الوظيفية بأنهم مقدَّسون وأن الآخر مدنَّس مُباح يُعمق الإحساس بالاختيار. وقد عبَّر التلمود عن هذا الوضع بمقارنة جماعة يسرائيل بخَدَم الملك. وهناك الكثيرون ممن يكرهون الملك، ولكنهم عاجزون عن الهجوم عليه، ولذا فهم يلومون خادم الملك ويهجمون عليه. فقد اختار الإله جماعة يسرائيل خادماً له، ولذا أصبحت محط حقد الأغيار الذين يهجمون عليها.

            ولقد عززت أسطورة الشعب المختار من النزعة المشيحانية في الفكر الديني اليهودي، فكل عضو في أمة الكهنة والقديسين هو تجسيد حي للإله، وصوته من صوت هذا الإله، أي أنه نبي أو شبه نبي بالضرورة. وقد عززت فكرة الاختيار أيضاً الإحساس الزائف لأعضاء الجماعات اليهودية بوجودهم خارج التاريخ وبأن القوانين التاريخية التي تسري على الجميع لا تسري عليهم. ومن المعروف أنه كلما كانت تزداد حال الجماعات اليهودية سوءاً، كان أعضاؤها يزدادون إصراراً على فكرة الاختيار.

            وفي العصر الحديث، حاول بعض المفكرين اليهود التخفيف من حدة مفهوم الشعب المختار. فقال ليو باييك إن كل شعب يتم اختياره ليكون له نصيب من تاريخ البشرية، ولكن حظ اليهود من هذا التاريخ أكبر من أي نصيب آخر. وقد تمرَّد دعاة حركة التنوير اليهودية، واليهودية الإصلاحية، على مفهوم الاختيار بمعناه العنصري والأخلاقي، وأحلوا محله فكرة الرسالة، ومفادها أن الإله شتَّت اليهود في أنحاء الأرض لا عقاباً لهم وإنما لينشروا رسالته وليصبحوا أداته في تحقيق السلام والخلاص. وقد تخلَّى التجديديون تماماً عن فكرة الاختيار. أما اليهـودية المحافظـة والأرثوذكسـية، فأبقت هذا المفهوم الديني وعمقته.

            وتسيطر فكرة الشعب المختار، بعد علمنتها، على الفكر الصهيوني بجميع اتجاهاته. وقد أكد آحاد هعام، منطلقاً من المفاهيم النيتشوية الخاصة بالسوبرمان، أن اليهود أمة متفوقة («سوبر أمة» على حد قوله). وتحدَّث المفكر الصهيوني الاشتراكي نحمان سيركين عن اليهودي بوصفه البروليتاري الأزلي. أما لويس برانديز، فقد تحدَّث عنه بوصفه الديموقراطي الأزلي، أي أن اليهودي قد اختير منذ القدم ليؤدي رسالة أزلية اشتراكية عند الصهيوني الاشتراكي، وأزلية ديموقراطية ليبرالية عند الصهيوني الديموقراطي الليبرالي.

            وقد صرح بن جوريون أن دولة إسرائيل تضم الشعب الكنز، ولهذا فإن بوسعها أن تصبح منارة لكل الأمم. وبإمكان المرء، حسب تصوُّر بن جوريون، أن يشير إلى ثلاثة عناصر فعالة في الدولة الصهيونية تلمح إلى المقدرة الأخلاقية والفكرية الكامنة في اليهود:

            أ) الاستيطان العمالي للأرض.

            ب) جيش الدفاع الإسرائيلي.

            جـ) رجال العلم والفن والأدب، أي العبقرية اليهودية.

            وبطبيعـة الحال، لم يذكر بن جوريون شـيئاً عن اغتصاب الصهاينة للأرض الفلسطينية وعن الإرهاب الصهيوني لأهلها. بل إن فلسفة بوبر الحوارية هي تعبير مصقول عن فكرة الاختيار، فالحوار الحق ممكن بين الإله واليهود، أساساً بسبب التشابه بينهما، وهو أمر ليس متاحاً لكل الأمم.

            ومرة أخرى، تظهر فكرة الاختيار كسر من الأسرار الدينية في لاهوت موت الإله ولاهوت ما بعد أوشفيتس، الذي يجعل الإبادة النازية حدثاً كونياً لا يمكن سَبْر أغواره، ويجعل الدولة الصهيونية نقطة الخلاص التي يتجسد من خلالها الشعب المقدَّس. ولا يزالون في إسرائيل، وفي الأوساط الصهيونية، يتحدثون عن ذكاء اليهود، وعن النسبة غير العادية من اليهود الحاصلين على جوائز نوبل، باعتبار أن هذه الصفات الإيجابية نابعة من الخصوصية اليهودية أو الجوهر اليهودي أو الطبيعة اليهودية داخل الأفراد.

            ولكن ثمـة تـياراً داخل الصهيونية يرى أن هدفها هو تطبيع اليهودي، أي تحويله من إنسان مقدَّس إلى إنسان سوِّي عادي يعيش في دولة قومية شأنه شأن الشعوب الأخرى.

            وقد ساهمت فكرة الاختيار هذه في نشر كثير من الأوهام والشائعات عن أعضاء الجماعات اليهودية، مثل: بروتوكولات حكماء صهيون، والمؤامرة اليهودية الكبرى أو العالمية. وقد ظهر مؤخراً لاهوت التحرير الذي يقلِّص النزوع الحلولي. وبالتالي، يتحول مفهوم الاختيار من مفهوم مطلق وسر من الأسرار إلى عملية تكليف ديني وإلزام خُـلقي.

            أمــــــة الــــــروح
            Nation of the Spirit


            «أمة الروح» بالعبرية «عم هاروَّح»، وهو مصطلح يطلقه اليهود على أنفسهم باعتبار أنهم أمة لا تعيش على أرض مشتركة، ولا تتحدث لغة واحدة، وإنما تتمركز حول التوراة والتراث اليهودي. وهي الصياغة الفريسية لليهودية التي استمرت منذ أن قام تيتوس بهدم الهيكل. ومفهوم أمة الروح مرتبط تماماً بمفهوم الشعب المختار والشعب اليهودي، وتستند الصهيونية الثقافية إلى هذا المفهوم. ولكن، رغم الزعم بأن الروح اليهودية تتمركز حول التوراة، إلا أن قارئ كتابات آحاد هعام ومارتن بوبر يُلاحظ أن العناصر الإثنية تشكل أساساً لهذه الروح، فالروح هنا هي روح الشعب العضوي اليهودي (فولك) التي لا تتحقق أو تعبِّر عن نفسها تاريخياً إلا في الأرض المقدَّسة. وهذه الأفكار تعود إلى كتابات الرومانسيين الألمان. ولذا، فليس من الغريب أن نجد بوبر يتحدث، مثل النازيين تماماً، عن التربة والدم والعرْق باعتبارها قيماً روحية مطلقة.

            الشعب المقدس
            Holy People


            «الشعب المقدَّس» ترجمة للعبارة العبرية «عم قادوش». وهي عبارة يُطلقها كثير من اليهود، وخصوصاً اليهود الأرثوذكس، على الشعب اليهودي باعتبار أنه شعب مختار له رسالة متميِّزة وسمات خاصة تميِّزه وتفصله عن الشعوب الأخرى. بل إن الفكرة تأخذ شكلاً متطرفاً أحياناً، فقد أتى في أحد كتب المدراش أن الشعب اليهودي والتوراة كانا كلاهما في عقل الإله قبل الخلق، أي مثل القرآن في الإسلام والمسيح في المسيحية. و«يسرائيل» (الشعب) و«يسرائيل» (التوراة) متعادلان، لأن يسرائيل وحدها هي التي ستحقق التوراة وتنفذ تعاليمها. فالعالَم بدون هذا الشعب، شعب التوراة، لا قيمة له، أي أن الشعب المقدَّس هو الركيزة النهائية للكون بأسره. وقد أصبح اليهود شعباً مقدَّساً بسبب الحلول الإلهي فيهم وتَقبُّلهم عبء الأوامر والنواهي، فحياة اليهودي لابد أن يتم تنظيمها بحيث يقلد اليهودي سمات الإله فتصبح حياته مقدَّسة. وانطلاقاً من هذا، تصبح القومية اليهودية نفسها قومية مقدَّسة. ويستند كثير من المفـاهيم الدينية إلى الإيمـان بقدسـية الشـعب اليهودي. وقد عمَّقت القبَّالاه هذا التيار وجعلت الشعب المقدَّس شريكاً للإله في عملية إصلاح الكون (تيقون). ومن المصطلحات الأخرى المستخدمة للإشارة إلى الفكرة نفسها، تعبير «الشعب المختار» أو «الشعب الأزلي». والواقع أن فكرة الشعب المقدَّس، أو الأفكار الأخرى المماثلة، هي في نهاية الأمر تعبير عن الطبقة الجيولوجية الحلولية في اليهودية حيث يتحول الشعب إلى شعب مقدَّس وتتحول الأرض إلى أرض مقدَّسة. وقد حاولت اليهودية الإصلاحية تخليص الدين اليهودي من مثل هذه المصطلحات، لكن الحركة الصهيونية بعثتها من جديد بعد أن قامت بعلمنتها.

            البقيـة الصالحـة
            Good Remnant


            مصطلح «البقية الصالحة» يقابلها في العبرية مصطلح «شئيريت يسرائيل». وفي الحقيقة، فإن هناك تياراً نخبوياً ممتداً يسري في مجرى الفكر الديني اليهودي ويعبِّر عن الحلولية الكامنة فيه. فقد كان الأنبياء يؤمنون، ضمن ما كانوا يؤمنون به من الفكر الأخروي، بأن أفراد هذا الشعب لن يهلكوا جميعاً رغم صنوف العذاب والويل التي تلحق بالشعب المختار، إذ ستبقى دائماً بقية أو نخبة صالحة سوف تعود وتشيد مملكة الإله في آخر الأيام. وترد الفكرة بصورة أساسية في سفر أشعياء (وخصوصاً 6/11 ـ 13، 10/21) الذي سمَّى ابنه «شيئار ياشوف»، أي «البقية ترجع» (7/3). ورغم نخبوية هذا المفهوم في فكر الأنبياء، فإن له مضموناً خلقياً، فهذه البقية صالحة لأنها قبلت عبء الوصايا وعبء مملكة الرب. ويرى الفيلسوف الألماني اليهودي روزنزفايج أن مفهوم «البقية الصالحة» مفهوم محوري في حياة جماعة يسرائيل، يتحكم في تاريخها منذ عصر الأنبياء. وقد عرَّف روزنزفايج كلمة «البقية» بأنها « نخبة احتفظت بإيمانها »، وأن أفراد البقية هم « الشعب داخل الشعب ». والتاريخ اليهودي، من هذا المنظور، هو تاريخ هذه النخبة التي تتكيف مع العالم الخارجي حتى يتسنى لها أن تنسحب إلى داخل عالمها الخاص تنتظر عودة الماشيَّح. وقد تَعمَّق هذا المفهوم مع زيادة هيمنة الحلولية على النسق الديني اليهودي إلى أن نصل إلى الحسيدية وفكرة التساديك الذي تُعَدُّ إرادته من إرادة الإله، والذي لا يمكن مساءلته أخلاقياً، فهو وحده الذي يفهم المدلول الأخلاقي لأفعاله.

            وقد علمن الصهاينة فكرة النخبة الصالحة وحولوها إلى فكرة سياسية. ولذا، نجد أن ثمة تياراً نخبوياً نيتشوياً داروينياً يسري أيضاً في الفكر الصهيوني، فالصهاينة يرون أنهم البقية أو النخبة الصالحة التي عادت وشيَّدت الدولة الصهيونية لتكون مركزاً لليهود واليهودية في العالم، لتحفظها من الاندماج والانصهار والاختفاء. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإنهم يؤمنون بضرورة نفي الدياسبورا، أي القضاء على الجماعات اليهودية، أو على الأقل استغلالها. واستناداً إلى هذا المفهوم أيضاً، فإن الصهاينـة فاوضـوا أيخمـان والنازيين وعقدوا معهم الصفقات. وبموجب إحدى هذه الصفقات، وافق أيخمان على السماح بترحيل بضعة آلاف من اليهود إلى فلسطين مقابل أن تتم عملية شحن يهود المجر إلى ألمانيا في نظام وهدوء لتتم إبادتهم. وقد وصف إيخمان النخبة أو البقية الصالحة التي أُرسلت إلى فلسطين بأنهم كانوا "من أفضل المواد البيولوجية". وهكذا نجد أن المفهوم الدارويني الخاص بأن البقاء للأصلح يلتقي بالمفهوم الصهيوني الخاص ببقاء النخبة!

            وبعد الحرب العالمية الثانية، اكتسب المفهوم بعداً جديداً، فقد نُحتَ مصطلح «شئيريت هبليتاه»، أي «البقية الباقية» أو «الناجية»، وهم اليهود الذين لم يبادوا، والذين عليهم أن يضطلعوا بالمهمة المقدَّسة، وهي تأكيد البقاء اليهودي والحياة القومية (الصهيونية الاستيطانية) وتأسيس دولة إسرائيل.

            كـلال يسرائيل
            Kelal Yisrael


            «كلال يسرائيل» عبارة عبرية تعني «جماعة يسرائيل» أو «عموم يسرائيل» أو «يسرائيل المجمعة على هويتها» أو «يسرائيل كافة». وتُستخدَم العبارة للإشارة إلى كل الشعب اليهودي ككيان عضوي متكامل يكتـسب تكـامله وتلاحمه العضـوي من خــلال الحلول الإلهي. ونحن نذهب إلى أن الرؤية الحلولية هي في جوهرها رؤية عضوية للكون، فكلاهما نسق يستند إلى ركيزة نهائية ليست متجاوزة للمادة الكامنة فيها. ومفهوم «كلال يسرائيل» مفهوم محوري في اليهودية المحافظة. فـ «كلال يسرائيل»، هي في الواقع صياغة دينية حلولية لمفهوم الشعب العضوي (فولك). وفي الواقع، فإن بعض المفكرين اليهود، مثل زكريا فرانكل، قد تأثروا بالتراث الألماني الرومانسي الذي مَجَّد روح الشعب وفكرة الشعب العضوي ثم حاولوا توليد فكرة مماثلة من داخل التراث الحلولي اليهودي. وقد طرح زكريا فرانكل تصوراً عضوياً نظر من خلاله إلى الحضارة اليهودية باعتبارها نسقاً كلياً عضوياً متلاحم الأجزاء، ورأى الشعب اليهودي باعتباره شعباً عضوياً. وهذا التصور هو الذي أفرز فيما بعد الفكر النازي ورؤية النازيين للشعب. ومثل هذه الأفكار العضوية هي التي أفرزت شعارات مثل « ألمانيا فوق الجميع »، وتفرز الآن شعارات التوسعية الصهيونية التي تنادي بأن « أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة إسرائيل ».

            كنيست يسرائيل
            Knesset Yisrael


            «كنيست يسرائيل» عبارة عبرية تعني «جماعة يسرائيل». وهو اصطلاح ديني حلولي يشير إلى الجماعة اليهودية ككل، ويُطلَق في التراث القبَّالي على الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) باعتبار أن الشعب اليهودي جزء من الإله متوحد معه يشغل مركز الكون ويشكل وجوده عنصراً أساسياً في خلاص الكون واتساقه وتوازنه. وقد استُخدمت العبارة في العصر الحديث للإشارة إلى التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948. وهي بذلك مرادفة تقريباً لكلمة «يشوف». ويُسمَّى البرلمان الإسرائيلي «الكنيست».

            العهــــد
            Covenant


            «العهد» ترجمة للكلمة العبرية «بريت»، وتُترجم أحياناً بكلمة «ميثاق». والعهد اتفاق يُعقَد بين طرفين بكامل حريتهما. وكانت كلمة «عهد» تعني «معاهدة سلام بعد الحرب»، فكان دخول العهد في دول وممالك الشرق الأدنى القديم يأخذ الشكل التالي: يمر الطرفان المتعاهدان بين قطع من لحم حيوان ضُحِّي به، ويقسمون بأنهم سيُقطَّعون إرباً إرباً مثل هذا الحيوان إذا هم حنثوا بالعهد، ومن هنا عبارة «قطع العهد» (كارات: قطع ـ بريت: عهد).

            ويدور التفكير الديني اليهودي حول العهود التي قطعها الإله على نفسه، وهي عهود متكررة عبر التاريخ المقدَّس الذي يحل فيه الإله ويوجهه حسب الرؤية الدينية اليهودية. فهذا التاريخ يبدأ بالعهد الذي قطعه الإله على نفسه لإبراهيم بأن يصطفيه دون العالمين وأن يُورِّث نسله أرض كنعان (فلسطين). وقد تم تأكيد العهد لإسحق ويعقوب. ثم جُدِّد هذا العهد مع الشعب ككل (أي مع جماعة يسرائيل) في سيناء، وذلك بعد الخروج من مصر، حيث يعلن الإله لأفراد الشعب أنه أخرجهم من مصر واختارهم شعباً له. وبذا، حوَّل العهد جماعة يسرائيل ككل إلى شعب مختار من الكهنة، وأصبحت ممثلة للإله بين الشعوب، وأصبحت وظيفتها إنقاذ الجنس البشري من الخطايا والذنوب التي يرتكبها الناس. وقد كان العهد مع إبراهيم منحة ملكية وليس عقداً بين طرفين. ولكن تحت تأثير الأنبياء، ظهرت فكرة العقد المتبادل، وهو أن الشعب يُطيع الإله ويتبع الشريعة، وأن الإله لذلك سيرعاه ويحميه، أي أن الاختيار يصبح هنا مشروطاً بفعل الخير. لكن هذا الموقف تآكل وأصبح العهد مرة أخرى عهداً أبدياً. فقد يخطئ هذا الشعب، وقد يزل، وقد يعصى ويفسد، بل قـد يعاقبه الإله، ولكنه سيظل مع هذا شعباً مختاراً. وتشبِّه المشناه هذه العلاقة بأنها مثل علاقة رجل بزوجته العاهرة، فرغم عهرها الواضح لا يمكنه التخلي عنها، لأنها أم أولاده (فسحيم 128 ـ ب). وقد استخدم هوشع هذا التشبيه من قبل فهو قد اتخذ «بأمر الرب» زوجة من الداعرات ليبرهن للشعب المقدَّس بشكل تجسيدي من خلال دراما شخصية أنه على الرغم من انحرافه عن طريق الرب فإن الإله تمسَّك به. ويَتصوَّر بعض مفكري اليهود أن العهد بين الإله والشعب مُلزم له وحده، وليس مُلزماً للشعب، فهو الذي قطع العهد على نفسه. وهم بذلك يُسقطون، مرة أخرى، البُعد الأخلاقي الذي أضافه الأنبياء.

            وقد عقد الإله عهوداً ومواثيق كثيرة، فقد عاهد نوحاً بأنه لن يرسـل طـوفاناً آخر يخرب الأرض، كما قطع عهداً منح فيه الكهانة لبيت هارون، أما نسل داود فمنحهم الملوكية. وقد يعقد الإله مواثيق مع الشعوب الأخرى، ولكن ميثاقه مع جماعة يسرائيل يظل هو الأساس. ويشير كل الأنبياء إلى اليهود بوصفهم «بنو يسرائيل» أو «بناي بريت (أبناء العهد)» على أساس من فكرة العهد هذه. ولكل ميثاق علامة تقف شاهداً على صلاحيته الدائمة، فعلامة الميثاق أو العهد مع نوح كانت قوس قزح، وعلامة الميثاق مع إبراهيم كانت الختان، وعلامة العهد مع جماعة يسرائيل في سيناء هي السبت والوصايا العشر والتوراة.

            وجاء في إرميا (31/31) إشارة إلى «بريت حداشاه » أي (العهد الجديد)، وهو عهد سيبرمه الإله مع الشعب ليحل محل العهد القديم الذي لم ينفذه الشعب. ومن هنا كانت التسمية المسيحية، إذ ترى المسيحية نفسها أنها هذا العهد الجديد الذي سيحل محل العهد القديم. والعهد الجديد سيتخلص من الحلولية القديمة ويطرح رؤية توحيدية عالمية تفتح باب الخلاص أمام الجميع، إذ أن الإله ليس إلهاً قومياً حالاًّ في شعب واحد يتحد معه وإنما هو إله العالمين المتجاوز للطبيعة والتاريخ. ويدور الفكر الصهيوني أيضاً حول فكرة العهد. فأحقية اليهود في أرض الميعاد، حسب تصوُّرهم، مسألة مطلقة لا تقبل النقاش بسبب هذا العهد. ويرى الصهاينة الدينيون أن العهد حقيقة تاريخية، ومن ثم فإنهم يرون أن مصدر المطلقية هو الإله، أما بن جوريون فكان يرى أن أعضاء جماعة يسرائيل هم الذين اختاروا الرب إلهاً لأنفسهم وبدونهم فلن يكون إلهاً. بل ويذهب بن جوريون إلى أنه لا يهم إن كانت واقعة العهد حقيقية أم لا، وإنما المهم أن هذه الأسطورة مغروسة في الوجدان اليهودي، ولذا فإن مصدر المطلقية هنا هو إيمان الشعب بأساطيره الشعبية. ولنلاحظ دائرية هذا المنطق والتفافه حول نفسه، ولنلاحظ أيضاً تساوي الإله بالشعب كمصدر للقداسة وهو أمر كامن في النسق الحلولي الديني اليهودي.

            الميثــــاق
            Covenant


            «الميثاق» ترجمة عربية لكلمة «بريت» ومعناها «عهد». وفي هذه الموسوعة نستخدم كلمة «عهد» نظراً لاستخدامها وشيوعها في عبارتي «العهد القديم» و«العهد الجديد».
            اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
            http://www.rasoulallah.net/

            http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

            http://almhalhal.maktoobblog.com/



            تعليق


            • #7
              الأرض (إرتــــس)
              The Land (Eretz)

              «الأرض» هي المقابل العربي لكلمة «إرتس» العبرية التي ترد عادةً في صيغة «إرتس يسرائيل» أي «أرض إسرائيل» (فلسطين). ويدور الثالـوث الحلولي حول الإله والشعب والأرض فتقـوم وحــدة مقدَّسـة بين الأرض والشعب لحلول الإله فيهما وتوحده معهما، ولذا ترتبط الديانات والعبادات الوثنية الحلــولية بـأرض محدَّدة أو بمكان محدَّد وبشعب يقيم على هذه الأرض أو على علاقة ما بها.

              والحلولية طبقة جيولوجية مهمة تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي، تتبدَّى في إضفاء القداسة على الأرض نتيجة الحلول الإلهي فيها، ولذا فإن إرتس يسرائيل (فلسطين) تُسمَّى «أرض الرب» (يوشع 9/3)، وهي الأرض التي يرعاها الإله (تثنية 11/12)، ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الرب، والأرض المقدَّسة (زكريا 2/12) التي تفوق في قدسيتها أيَّ أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار. وقد جاء في التلمود: « الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة يسرائيل سوى أرض يسرائيل». وهي كذلك «الأرض البهية» (دانيال 11/16).

              والواقع أن تعاليم التوراة، كتاب اليهود المقدَّس، لا يمكن أن تُنفَّذ كاملة إلا في الأرض المقدَّسة. بل، وكما جاء في أحد أسفار التلمود وفي أحد تصريحات بن جوريون، فإن السكنى في الأرض بمنزلة الإيمان: "لأن من يعيش داخل أرض يسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له". بل إن فكرة الأرض تتخطى فكرة الثواب والعقاب الأخلاقية (كما هو الحال دائماً داخل المنظومة الحلولية)، فقـد جـاء أن من يعيش خارج أرض الميعاد كمن يعبد الأصنام، وجاء أيضاً أن من يسر أربع أذرع في إرتس يسرائيل يعش لا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعـش في إرتـس يسـرائيل يطهر من الذنوب، بل إن حديث من يسكنون في إرتس يسـرائيل تـوراة في حد ذاته. وقد جاء في سفر أشعياء (33/24) أنه "لا يقول ساكـن [في الأرض] أنا مَرضْت. الشعب الساكن فيها مغفور الاثم".

              وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً، فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تُتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد، كما أن شعائر السنة السبتية (سنة شميطاه)، والشعائر الخاصة بالزراعة وبعض التحريمات الخاصة بعدم الخلط بين الأنواع المختلفة من النباتات والحيوانات لا تُقام إلا في الأرض المقدَّسة. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض، ويردد المحتفلون بالعيد الرغبة في التلاقي العام القادم في أورشليم، والواقع أن الثمانية عشر دعاءً (أهم قسم في الصلوات اليومية ويُدعى «شمونة عسريه» بالعبرية) يتضمن دعاءً بمجيء الماشيَّح الذي سيأتي في آخر الأيام ويقود شعبه إلى الأرض. وحتى الآن، يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض ليُنثَر فوق قبورهم بعد موتهم.

              وقد تَعمَّق التيار الحلولي، وتَعمَّق الارتباط اليهودي بالأرض، مع تدهور اليهودية، ولكنه مع هذا ظل ارتباطاً عاماً عاطفياً مجرداً بسبب وجود اليهود كجماعات منتشرة في العالم (لا يرغب معظمهم في العودة الفعلية). وقد عبَّر التراث التلمودي عن هذه الازدواجية بأن شجع على حـب صهيون والارتباط بـها، وحـذَّر في الوقت نفسـه من العودة الفعلية لها. وطالب الحاخامات اليهود بوجوب انتظار الماشيَّح والإذعان لإرادة الإله، وهو الرأي الذي رفضته الجماعات المشيحانية المختلفة ابتداءً بشبتاي تسفي وانتهاءً بالصهيونية التي ترتكب خطيئة «التعجيل بالنهاية» («دحيكات هاكيتس»). ومع هيمنة القبَّالاه، تَعمَّق الارتباط بالأرض وتعمقت قداستها، ولكن العودة ظلت أمراً محرماً، إلى أن نصل إلى العصر الحديث مع الحركة الصهيونية (أما في الإسلام، فإن الأمر مختلف حيث بدأ الإسلام في مكة والحجاز ثم انفصل عنهما لأنه دين مُرسَل إلى كل الناس في كل زمان ومكان، ولا تُقاس التقوى في الإسلام بمدى القرب أو البعد عن مكة، وإنما تقاس بمدى القرب أو البُعد عن القيم الأخلاقية الإسلامية، أي أن انفصال الإسلام عن المكان وارتباطه بمجموعة من القيم هو بمنزلة تأكيد لحرية الفرد المسلم ومسئوليته ومقدرته على تجاوز الواقع المادي والتسامي عليه إن أراد).

              وإذا كان الشعب يمتزج بالأرض في النسق الحلولي، فإن الزمان المقدَّس (التاريخ اليهودي) يمتزج بالمكان المقدَّس (الأرض). ويتبدَّى هذا في أن الأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد، لأن الإله وعد إبراهيم وعاهده على أن تكون هذه الأرض لنسله. وهي أيضاً «أرض المعاد» التي سيعود إليها اليهـود تحـت قيادة الماشيَّح، أي الأرض التي سـتشهد نهاية التاريخ. والأرض هي مركز الدنيا لأنها توجد في وسط العالم، تماماً كما يقف اليهود في وسط الأغيار وكما يشكل تاريخهم المقدَّس حجر الزاوية في تاريخ العالم وتشكل أعمالهم حجر الزاوية لخلاص العالم. فإذا كان الشعب اليهودي هو أمة الكهنة، فإن الأرض بمنزلة المعادل الجغرافي لهذا التصور. وليس التاريخ اليهودي، حسب التصورات الحلولية التقليدية أو الصهيونية، إلا تعبيراً عن الارتباط بالأرض، وهو في الواقع ارتباط يجمع بين التاريخ الحي والجغرافيا الثابتة، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء وجود اليهود التاريخي خارج فلسطين. فهو وجود خارج الأرض، وبالتالي خارج التاريخ. كما يُلغي تاريخ الأرض نفسها باعتبار أنها مكان مطلق منبت الصلة بالزمان، خاو على عروشه، ينتظر ساكنيه الأزليين المقدَّسين.

              وقد تَضخَّم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهود بها فتحولت إلى فكرة لاهوتية ونشأ ما يُسمَّى «لاهوت الأرض المقدَّسة». وكان من أهم المشكلات التي ناقشها لاهوت الأرض مشكلة حدودها، فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قـد قطع مع إبراهيم عهداً قـائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر العدد توجد خريطة مغايرة حددت على أنها «أرض كنعان بتخومها»، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر التكوين. وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.

              ومن المشـكلات الطريفـة التي واجهها لاهـوت الأرض مشـكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب غير مقدَّس. فمنذ بداية تاريخها وحتى عام 1000 ق.م، كان يقطن فيها الكنعانيون والفلستيون، ثم قطن فيها اليهود بضع مئات من السنين، ثم توافدت عليها بعد ذلك أقوام أخرى، إلى أن اختفى أي وجود يهودي حقيقي عام 70م. وهنا، كان على مفكري اليهود حل هذه المشكلة. وقد تناول الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: "في البدء خلق الإله السموات والأرض"، فكتب معلقاً: إن الإله يخبر جماعة يسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض يسرائيل وأخذتموها من أهلها فبإمكان اليهود أن يجيبوا بقولهم: « إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا ». فالأرض المقدَّسة، توجد، إذن، خارج التاريخ، وهي جزء من السماء والأرض اللتين خلقهما الإله قبل بداية التاريخ، والإله الذي يحل في الطبيعة والتاريخ هو صاحب التصرف فيهما معاً. وقد استخدم مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.

              وقد حاولت اليهودية الإصلاحية أن تنفي أية إشارات إلى الأرض والعودة إليها في الصلوات اليهودية، على عكس اليهودية الأرثوذكسية والمحافظة التي تؤكد أهمية العلاقة الأزلية والرابطة الصوفية بين اليهودي والأرض. أما الصهيونية بجميع مدارسها، باستثناء الصهيونية الإقليمية، فتقوم على أساس التقديس العلماني أو الديني للأرض. وقد أحيا الفكرالصهيوني الثالوث الحلولي في اليهودية القديمة (وحدة الإله أو التوراة بالشعب بالأرض)، فترك فكرة القداسة بشكل عام دون تحديد مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة دنيوية مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض اليهودية كامنة فيهما (وهي التي تأخذ بها الصهيونية اللادينية). والصيغة الدينية هي حلولية متطرفة بحيث يتم تقديس الأرض لأنها متوحدة مع الإله، أما الصيغة العلمانية فهي حلولية بدون إله حيث تصبح الأرض هي الإله، وقد صرح ديان أن أرض يسرائيل هي ربه الوحيد. وقد استولى الصهاينة على الأرض الفلسطينية، وطردوا سكانها بالقوة العسكرية باعتبارها الأرض المقدَّسة. وأُسِّس الصندوق القومي اليهودي لتحويل المفهوم الصهيوني إلى حقيقة. وهكذا، فإنه يقوم بالحصول على الأرض باسم الشعب اليهودي، ويحرِّم دستوره تأجيرها أو بيعها لغير اليهود أو للأغيار العرب.

              ونظراً لأن التراث الديني اليهودي يحتوي على عدة خرائط تتفاوت في اتساعها وضيقها، فإنه توجد مدارس صهيونية عديدة تطرح كل منها صيغتها التوسعية الخاصة. فمنهم من يوِّسع نطاق القداسة لتضم سيناء، ومنهم من يضيقها لتقف عند حدود 1948. وهناك مدارس مختلفة داخل الجيش الإسرائيلي. ويرى يوري أفنيري أن فكرة الأرض المقدَّسة تُستخدَم فقط كنوع من الاعتذاريات والمسوغات بعد عمليات الضم نفسها، وأن ما يقرر الضم والانسحاب هو حركيات القوة الذاتية الصهيونية. وقد أشار إلى أن مرتفعات الجولان ليست لها أية قداسة خاصة، أو أن درجة قداستها تقل عن قداسة شبه جزيرة سيناء. وقد انسحبت إسرائيل مع هذا من سيناء، ولكنها لم تنسحب من الجولان. ولذا، يرى أفنيري أن دراسة التوسعية الصهيونية تتطلب دراسة الملابسات السياسية والعسكرية لا الآراء الفقهية.

              وكما يؤكد الفكر الصهيوني أهمية الأرض كعنصر أساسي في البعث القومي، يؤكد الفكر النازي أيضاً الشيء نفسه، فالشعب العضوي لا يمكنه أن ينهض إلا في أرضه التي يرتبط بها برباط عضوي قوي، وفي هذه الأرض وحدها يمكن أن تُولَد روح الشعب من جديد. ومن هنا أبدى النازيون تفهماً واضحاً لرغبة اليهود الصهاينة في الهجرة إلى أرضهم. ومن ثم قال أيخمان، في محاكمته،إن النازية كانت تهدف إلى وضع قليل من الأرض الثابتة تحت أقدام اليهود الجائلين.وهذا القول لا يختلف كثيراً عن الشعار الصهيوني «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فالصورة المشتركة هي صورة شعب جائل تائه يحتاج إلى أرض راسخة يضرب بجذوره فيها.

              ويبدو أن الارتباط بالأرض (الوطن القومي البعيد) من السمات الأساسية للجماعات الوظيفية كافة، فهذا الارتباط يُضعف انتماءها للوطن الذي تعيش فيه. ومن ثم، يُضعف ارتباطها به، ويزيد انفصالها عنه وبالتالي تتزايد أيضاً موضوعيتها وتعاقديتها. كما أن الارتباط بالأرض (المقدَّسة البعيدة)، مقابل الأرض غير المقدَّسة القريبة، يزيد ترابط أعضاء الجماعة الوظيفية، وهو في نهاية الأمر يضعف الانتماء التاريخي، ومن ثم يعيش عضو الجماعة الوظيفية داخل مجتمع لا توجد بينه وبينها روابط تراحُم، فتزداد كفاءته في أداء وظيفته.

              صهيون
              Zion


              «تسيون» اسم تل وقلعة في القدس (يُشار له في اللغة العربية بـ «جبل المكبر» أو «جبل الزيتون»). وأصل الاسم غير معروف، ولكن هناك من ذهب إلى القول بأن الاسم مشتق من الكلمة الحورية «صيا» التي تعـني «قلعـة أو صـخرة أو مكاناً جافاً أو ماءً جـارياً». وقد استُخدم الاسم، في بداية الأمر، للإشارة إلى قلعة اليبوسيين جنوب شرقي القدس أسفل تل أوفيل وجبل الهيكل أو جبل البيت أو هضبة الحرم. وقد سُمِّيت «بيت داود» بعد أن وقعت في يد داود. وبعد أن نقل لها حكمه، أصبحت كلمة «جبل صهيون» تشير إلى كل من تل أوفيل وجبل البيت، وهذا هو الاستعمال الذي شاع في زمن الحشمونيين حينما كان يُشار إلى جبل البيت بأنه جبل صهيون. ويُقال إن داود قد دُفن فيه. ولكن، مع القرن الأول الميلادي، أصبح الموضع الحالي الذي يوجد جنوب غربي مدينة القدس والذي يُشار إليه باعتباره جبل صهيون، مع أن معظم العلماء يرون أنه لا يمثل موضع جبل صهيون الأصلي.

              وحسب الرؤية الحلولية اليهودية، يسكن الإله في هذا الجبل المقدَّس، فقد ورد في المزامير: « رِّنموا للرب الساكن في صهيون » (مزامير 9/11). ولكن الحلولية ترد كل شيء إلى مستوى واحد، وهو ما يعني تَداخُل الأشياء والظواهر وتَساقُط حدودها وذوبانها جميعاً في كلٍّ واحد. ولذا، تأخذ دلالة الكلمة في الاتساع إلى أن تشمل أي زمان ومكان لهما علاقة بالشعب المقدَّس. فكلمة «صهيون» لا تشير إلى الجبل وحده، بل إنها تشير أيضاً إلى المدينة المقدَّسة. ولكنها ليست مدينة وحسب، بل هي أيضاً «أم يسرائيل» التي سيُولَد الشعب اليهودي من رحمها. ولذا، يُطلَق على الشعب مُصطلَح «بنت صهيون». ويزداد نطاق دلالة الكلمة اتساعاً، فنجد أن صهيون ليست الأم فحسب، بل هي الزوجة المهجورة، أي أنها «الشعب اليهودي» نفسه الذي يقاسي من آلام النفي. ثم تتسع الدلالة أكثر، فنجد أن كلمة «صهيون» تشير إلى كلٍّ من الشعب والأرض، فالأرض المقدَّسة ككل تُسمَّى «صهيون». وتعني كلمة صهيون أيضاً «السماء». ومع هذا، تظل الدلالة تتسع حتى نكتشف أن صهيون (الجبل أو المدينة أو الأرض) ستصبح عاصمة العالم كله عند مقدم الماشيَّح، وتصبح ذات دلالات أخروية (إسـكاتولوجيـة) عميقة. وهكذا، تتمركز صهيون في وسط الجغرافيا والتاريخ، وعلى قمتهما.

              وفي محاولة لتهدئة النزعة المشيحانية في اليهودية، ولترويض الاتجاهات المتطرفة، فسر فقهاء اليهود كلمة «صهيون» بأنها المكان الذي اختاره الإله واصطفاه بالمعنى الديني وحسب. وبالتالي، يُعَدُّ السكن في صهيون عملاً خيِّراً بالمعنى الديني، ويُصبح حب صهيون والحنين إليها أمراً دينياً، أي أن صهيون ليسـت موقـعاً جـغرافياً وإنما هي مفهوم ديني.

              وقد أسقطت الحركة الصهيونية هذا التمييز وفسَّرت «صهيون» تفسيراً حرفياً، فلم تَعُد رمزاً دينياً، وإنما مكاناً ملائماً للاستيطان. وقد اشتق اسم الحركة الصهيونية من كلمة «صهيون».

              وبسبب اختلاط المجال الدلالي للكلمة، طبعت الكنيسة الإنجليكانية في نيوزيلندا كتاب صلوات يُسقط كلمة «صهيون» وكلمة «إسرائيل» ويحل محلهما كلمات مثل: «جبل الإله المقدَّس» بدلاً من «صهيون»، و«شعب الإله» بدلاً من «إسرائيل». وبالتالي، فإن الكنيسة تضمن عدم الخلط بين المُصطلَحات، التي أفسدها الصهاينة باستيلائهم عليها، وبين القصد الديني الأصلي.

              الأرض المقدسة
              Holy Land


              «الأرض المقدَّسـة» هي «إرتس يسرائيل»، أي أرض فلسطين )انظـر: «الأرض [إرتس]» ـ «إرتس يسرائيل»).

              أرض الميعــــــــاد
              The Promised Land


              انظر: «الأرض (إرتس)».


              احترام حياة اليهودي (بكوَّح نيفيش)
              Pikuah Nefesh


              «احترام حياة اليهودي» هي عبارة نستخدمها للتعبير عن مُصطلَح «بكوَّح نيفيش» العبري، وكلمة «نيفيش» تعني «نفس»، أما كلمة «بكوَّح» فتعني حرفياً «الوعي» (بقيمة الإنسان). وينطلق هذا التعبير من مفهوم تلمودي ويشير حرفياً إلى واجب إنقاذ الحياة الإنسانية إن تعرضت للخطر ولكنه يشير فعلياً إلى واجب إنقاذ حياة اليهود. وقد ورد في اللاويين (19/16) "لا تقف على دم قريبك" بمعنى أنك لن تقف متفرجاً حينما يسيل دم جارك (اليهودي). إذ يبدو أن احترام الحياة ينطبق على حياة أعضاء الشعب المقدَّس وحسب. ويذهب الحاخامات إلى أن مفهوم احترام الحياة يجبُّ حتى قوانين السبت وشعائره.

              وقد دارت حرب بين الحاخامات في إسرائيل حول هذا المفهوم، إذ طالب حاخام السفارد الأكبر السابق عوبديا يوسف بالانسحاب من الأراضي المحتلة لإنقاذ حياة اليهود عملاً بمفهوم بكوَّح نيفيش هذا، وقد أيَّده بعض الفقهاء في رأيه واقتبسوا من العهد القديم من سفر التثنية الإصحاح 30، فقرة 19 "قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك». ومن الواضح مرة أخرى أن المقصود حياة اليهود. وقد اقتبس المعارضون لرأيه من سفر العدد، إصحاح 33، فقرة 52 ـ 53 «كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها». وتبيِّن المقطوعة أن الأرض هي المطلق، والارتباط بها والحفاظ عليها يجبُّ كل القيم الأخرى، ومنها حياة اليهود أنفسهم، وكان بوسع معارضي الحاخام عوبديا يوسف ألا يذهبوا بعيداً وأن يكتفوا باقتباس الفقرة التي تأتي بعد الفقرة التي اقتبسها مؤيدوه (سفر التثنية 30/20) والتي جاء فيها «إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها». والفقرة الثانيـة تجعل الحياة الإنسـانية (ومنها حياة اليهود) ثانوية بالنسبـة للأرض، فالإله يطيل حياة اليهود لكي يسكنوا الأرض.

              والواقع أن الصراع هنا صراع بين رؤيتين داخل التركيب الجيولوجي اليهودي تعبِّران عن درجتين من الحلول، وفي الرؤية الأولى يتم الحلول الإلهي في الشعب اليهودي (دون الأرض) فيصبح اليهودي مركز الكون ومن ثم تصبح حياته أمراً مهماً. أما الرؤية الحلولية الأخرى فتختزل الوجود بأسره إلى مستوى واحد ويتم الحلول الإلهي في كل من الشعب والأرض، ليكتمل الثالوث الحلولي ويفقد الإنسان أية مركزية وأهمية لتحل الأرض محله وتسيل الدماء من أجلها. وقد وصف الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري أرض إسرائيل بأنها ليست مجرد قطعة أرض أو إقليم وإنما إلهة ثأر وثنية بذيئة لا تشبع قط من شرب دماء عابديها، فهي تطالب بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى. وقد لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عزرا أن الإسرائيليين الشباب الذين يخدمون في الجيش يشعرون بأن أهلهم، بالاشتراك مع الدولة، يضحون بهم بدون تعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون بأن هذه الحروب هي «تضحية علمانية بإسحق»، أي أنها تضحية تدور في إطار حلولية بدون إله، ولذا فهي تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.

              إن الدائرة الحلولية بدون إله قد انغلقت على رأس المستوطنين، فالأرض مقدَّسة، بل «هي ربي الوحيد» على حد تعبير موشى ديان، وهي موضع الحلول الإلهي دون إله، ولذا فهي صماء لا تعي ولا تنطق، ولذا فلا مجال للحفاظ على حياة العرب ولا حياة الإسرائيليين أو اليهود، لا مجال لبكوَّح نيفيش، فهذا المفهوم الحلولي يفترض وجود إله يحابي شعبه، أما الصهيونية فقد أعلنت موت هذا الإله وبقيت الأرض مقدَّسة دون أي احترام لأي حياة، سواء كانت حياة اليهود أم غيرهم. ولذا لا يملك ديان إلا أن يقول: "إننا جيل من المستوطنين لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت بدون الخوذة الحديدية والمدفع، وعلينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا، علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".
              اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
              http://www.rasoulallah.net/

              http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

              http://almhalhal.maktoobblog.com/



              تعليق


              • #8
                الكُتـــب المقدَّســـة والدينيــة
                Sacred and Religious Books


                تتَّسم اليهودية بتعدد كُتُبها الدينية المقدَّسة. ويعود هذا إلى عدة أسباب من أهمها فكرة العقيدة الشفوية الحلولية التي تضفي القداسة على كتابات الحاخامات الدينية واجتهاداتهم، بل تعادل بين الوحي الإلهي (التوراة) والاجتهاد البشري (التلمود). وقد مرّت اليهودية، كنسق ديني، بمراحل تطور تاريخية طويلة؛ متعددة ومتناقضة. ولذا، فهي تأخذ شكل تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات تتعايش جنباً إلى جنب، أو الواحدة فوق الأخرى، ويتبدَّى هذا التراكم الجيولوجي في الصراع الحاد بين التوحيد والحلولية، والذي يتضح في كتب اليهود المقدَّسة وأهمها الكتاب المقدَّس أو التوراة، والتي تُقسَّم إلى أسفار موسى الخمسة (وهي أهم أجزائه وأكثرها قداسة)، ثم كتب الأنبياء (وهي أكثر الأسفار توحيدية)، وأخيراً كتب الحكم والأمثال والأناشيد. وبعد انتهاء تدوين العهد القديم واعتماده من قبَل الحكماء اليهود، ظهرت كتب الرؤى وغيرها من الأسفار التي استُبعد بعضها، وأصبحت تُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) أو غير القانونية، وسُمِّي بعضها الآخر الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا). ومعظم هذه الكتب ذو أصل شعبي واتجاه حلولي واضح. وقد نسى اليهود هذه الكتب طوال العصور الوسطى في الغرب، ولم يكتشفوها إلا مع عصر النهضة. ومع القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي أصبح كتاب اليهود الديني الأول، حتى أنه حل محل العهد القديم نفسه، وبذلك تكون النزعة الحلولية قد انتصرت وبدأت في الهـيمنة التدريجـية على النسـق الديني اليهودي. ومع القرن الثالث عشر، ظهرت كتب القبَّالاه ابتداءً من الباهير فالزوهار ثم كتابات إسحق لوريا التي سادت الفكر الديني اليهودي تماماً حتى أن التلمود أُهمل من قبَل معظم أعضاء الجماعات وحاخاماتهم، وأصبح مقصوراً على أرستقراطية الحاخامات وحسب. ويشكل شيوع القبَّالاه الهيمنة الكاملة للطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. ولليهود كتب صلوات تضم صلواتهم، وتُضاف إليها بركات وأدعية وأناشيد وقصائد، بعضها حلولي والبعض الآخر توحيدي.
                وقد انعكس هذا التركيب الجيولوجي على الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يضم اتجاهات فكرية مختلفة علمانية وإلحادية ووجودية وصوفية، كما انعكس على الصهيونية وعلى الفكر المعادي للصهيونية. ويجد كل فريق سنداً لرأيه في التراث الديني الذي يضم طبقات متراكمة مختلفة. ويمكن القول بأن الحلولية بدون إله قد وجدت هي الأخرى كتبها المقدَّسة، فقد أكد ماكس نوردو أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة والكتب الدينية الأخرى. ورغم مغالاة هذا الزعيم الصهيوني، فإن من يدرس الفكر الديني اليهودي، بعد أن تمت صهينته، وبعد أن تم إضفاء مركزية دينية على الدولة الصهيونية، لا في الوجدان الشعبي فقط وإنما في العقيدة نفسها، لا يملك إلا أن يرى قدراً كبيراً من الصدق في هذا القول. وقد جاء حاييم كابلان ليؤكد أن وثائق التاريخ الأمريكي تُعتبَر أيضاً من كتب اليهود المقدَّسة، كما أن الولايات المتحدة تشكل أساس المطلقية.

                ويذهب أحد مفكري لاهوت موت الإله (إرفنج جرينبرج) إلى أن العهد القديم هو كتاب اليهود المقدَّس في مرحلة الهيكل، وأن التلمود كتاب مرحلة الشتات اليهودي، أما في المرحلة الثالثة (مرحلة ما بعد أوشفيتس وتشييد الدولة الصهيونية) فإن كتابهم المقدَّس هو النصوص التي تُذكِّر الشعب اليهودي بالإبادة وبضرورة البقاء، ومن هنا يعتبر جرينبرج كتابات إيلي فيزيل، على سبيل المثال، كتابات مقدَّسة، وكذلك إعلان استقلال إسرائيل. وحالة السيولة هذه أمر متسق تماماً مع الحلولية بدون إله.

                العهــد القــديم
                Old Testament


                «العهد القديم» مصطلح يستخدمه المسيحيون للإشارة إلى كتاب اليهود المقدَّس، بينما يُستخدَم مصطلح «العهد الجديد» للإشارة إلى الأسفار التي تتضمنها الأناجيل الأربعة وإلى أعمال الرسل ورسائلهم (سبعة وعشرين سفراً). أما اليهود أنفسهم، فيستخدمون عبارة «سيفري هاقودش» أو «كتبي هاقودش»، أي «الكتب المقدَّسة»، ويستخدمون أحياناً تعبير «كتوفيم»، أي «الكتب». كما يُستخدَم لفظ «توراة» في بعض الأحيان. ومن الألفاظ الأخرى المستخدمة، لفظ «المقرا» و«تناخ». ويشتمل العهد القديم على الأقسام التالية:

                أولاً: أسفار موسى الخمسة (بالعبرية: حوميش موشيه)، وتُعرَف أيضاً باسم «التوراة» أو «شريعة موسى». وهي تحتوي على الشرائع والقوانين والشعائر والوصايا العشر التي أوصى الإله بها موسى، كما تضم أخباراً تاريخية عن جماعة يسرائيل:

                1 ـ سفر التكوين. ويهتم بوصف الخليقة، وأصل العبرانيين (جماعة يسرائيل) حتى الخروج من مصر.

                2 ـ سفر الخروج. ويروي تاريخ العبرانيين في مصر وخروجهم منها.

                3 ـ سفر اللاويين. ويعالج واجبات الكهنة والطقوس الأخرى.

                4 ـ سفر العدد. وفيه تعداد رؤساء الشعب وحاملي السلاح، وفيه أيضاً أخبار تذمُّر الشعب، والتجسس على أرض كنعان.

                5 ـ سفر التثنية. أي تثنية الاشتراع أو إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل.

                ثانياً: أسفار الأنبياء (بالعبرية: نفيئيم).

                هذا القسم يتضمن ما وقع للعبرانيين من أحداث بعد موت موسى حتى هدم الهيكل المقدَّس. وهو يغطي فترة زمنية تمتد بين سنة 1300 وسنة 200 ق.م تقريباً، وينقسم إلى قسمين:

                1 ـ الأنبياء الأولون أو المتقدمـون (نفيئيم ريشونيم)، وعدد أسفاره سـتة: سفر يشوع (يوشع بن نون) الذي يروي قصة احتلال جماعة يسرائيل أرض كنعان وتقسيم الأرض بين الأسباط أو القبائل العبرانية، وسفر القضاة الذي يذكر أسماء القضاة وتاريخ جماعة يسرائيل في عهدهم وانتصارهم على الفلستيين، وسفرا صموئيل: وهما (الأول والثاني) اللذان يعالجان تأسيس المملكة العبرانية المتحدة وقصة داود، وسفرا الملوك (الأول والثاني) وهما يغطيان فترة حكم داود وسليمان وسقوط المملكة الشمالية ثم المملكة الجنوبية.

                2 ـ والأنبياء الآخرون أو المتأخرون (بالعبرية: نفيئيم أحرونيم): وهذا القسم يضم مجموعة من النبوءات والمواعظ والقصص، وعددها خمسة عشر سفراً، منها ثلاثة لأنبياء كبار (أشعياء، وإرميا، وحزقيال)، واثنا عشر لأنبياء صغار (هوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوفديا، ويونس [وهو نبي مرسل إلى نينوي وليس إلى جماعة يسرائيل]، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجاي، وزكريا، وملاخي).

                وتتبع أسفار موسى الخمسة وأسفار الأنبياء نسقاً تاريخياً متصلاً يحكي تاريخ العبرانيين منذ ظهورهم في التاريخ حتى عودتهم من التهجير إلى بابل. وتشكل الأسفار كلها ما يشبه الملحمة، تدور أحداثها حول عبقرية هذا الشعب المختار والمصاعب التي واجهها، وطريقة انتصاره عليها وتحقيقه إرادته.

                ثالثاً: كتب الحكمة والأناشيد (بالعبرية: كيتوفيم)، أي «الكتابات». وهي مجموعة من الأسفار التي تضم مواد تاريخية وقصصية وغنائية وعددها أحد عشر، إذا اعتبرنا سفري عزرا ونحميا سفراً واحداً. وترتيب هذه الأسفار حسب ورودها في العهد القديم كما يلي:

                1 ـ مزامير داود. ويُنسَب معظمها إلى داود، وهي أناشيد شكر للإله وتراتيل روحية.

                2 ـ سفر الأمثال.

                3 ـ سفر أيوب. ويحدثنا عن حياة أيوب الصالح (ويُعتقَد أن هذا السفر من أصل عربي، فأيوب من بني عيسو).

                4 ـ نشيد الأنشاد. وهو من الأغاني الشعبية للأفراح والزفاف، ويُقال إنه نشيد غزل بين الإله وجماعة يسرائيل، ويُنسب إلى سليمان.

                5 ـ راعوث. وهي قصة بطلة ترجع إلى عصر القضاة.

                6 ـ مراثي إرميا. وهي قصائد بكاء على أورشليم (القدس) بعد تخريبها.

                7 ـ سفر الجامعة. وهو خواطر فلسفية ذات طابع عدمي.

                8 ـ سفر إستير. ويتحدث عن خلاص جماعة يسرائيل على يد إستير. ويحتفل اليهود بهذه المناسبة في عيد النصيب.

                9 ـ سفر دانيال. ويحدثنا عن سيرة هذا النبي.

                10 ـ سفر عزرا. ويتحدث عن عودة العبرانيين (أعضاء جماعة يسرائيل) إلى أورشليم (القدس)، وإعادة بناء الهيكل الثاني.

                11 ـ سفر نحميا. وهو يعنى أيضاً بعودة اليهود من السبي البابلي.

                12و13 ـ سفرا أخبار الأيام (الأول والثاني). وهما تلخيص للوقائع التاريخية الواردة في العهد القديم منذ بدء الخليقة حتى السبي البابلي.

                وقد أضاف المسيحيون، إلى كل ذلك، الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا)، ثم أضافوا العهد الجديد، وقد اتخذ كل هذا اسم «الكتاب المقدَّس».

                ويختلف ترتيب العهد القديم عند الكاثوليك عنه عند البروتستانت، وهذا يعود إلى أن الكاثوليك يقرون الأسفار التي وردت في الترجـمة السـبعينية زائدةً عن الأصل العـبري، بل يفضلونه، ذلك لأنه ييسر عملية ربط العهد الجديد بالعهد القديم. هذا، بينما لا يعتبر معظم البروتستانت تلك الزيادات مقدَّسة، فهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم.

                وتتضارب الآراء المتصلة بتاريخ تدوين الأسفار، ولا تزال المسألة خلافية. وأولى المشاكل هي الإشارات العابرة في العهد القديم إلى نصوص لم تُدوَّن، مثل: كتاب حروب الرب، وسفر ياشر، وسفر أخبار شمعيا، وسفر أمور سليمان، وسفر كلام ناتان النبي، وسفر أخبار الأيام لملوك يهودا، وسفر ملوك جماعة يسرائيل، وغيرها. وتـدل أســماء الأسـفار السـابقة على أن ملـوك العبرانيين كانوا يدونــون أخبـارهم على عادة ملـوك الشــرق الأدنى القديم، وأن كتب الأخبار وكتب الملوك الحالية هي كل ما تبقى.

                والمشكلة الثانية هي أن نصوص العهد القديم تم تَناقُلها شفاهةً. ولذا، فإن معظم المؤرخين يرجحون تعرُّضها إلى ما تتعرض له عادةً كل الأقوال المنقولة مشافهة، وبالتالي دخلتها التناقضات وتداخلت النصوص والمصادر. ومن هنا، فقد قام علم نقد العهد القديم بتطوير نظرية المصادر وتفسير التناقضات وعدم التجانس الأسلوبي.

                والواقع أن تدوين العهد القديم بدأ في فترة زمنية تَبعُد عن موسى مئات السنين، وكذلك عن كثير من الأحداث التي تم التأريخ لها. كما أن عملية التدوين لم تتم دفعة واحدة، وإنما تمت خلال مدة زمنية طويلة. وتم اختيار بعض النصوص المقدَّسة من بين نصوص مقدَّسة أخرى. ويرى كثير من الباحثين أن أول جزء من العهد القديم تم تدوينه هو أسفار موسى الخمسة، ويُقال إن هذه العملية تمت في بابل أثناء فترة التهجير (587 ق. م) أو ربما قبل ذلك بوقت قصير، ذلك أنه لم يأت ذكر لقراءة التوراة في الاحتفالات الخاصة بافتتاح الهيكل، وأول إشارة إلى قراءة التوراة هي قراءة عزرا عام 444 ق.م.

                أما كُتُب الأنبياء، فمن الأرجح أنها دُوِّنت أثناء المرحلة الفارسية فيما قبل عام 333 ق.م. ومما يدعم هذا الرأي أن سفري الأخبار لم يحلا محل سفري صموئيل والملوك ولم يلحقا بهما، الأمر الذي يدل على أن كتب الأنبياء كان قد تم تدوينها والاعتراف بها ككتب قانونية. ولا توجد في أسفار الأنبياء أية كلمة إغريقية، ولا أية إشارة إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية أو ظهور الإمبراطورية اليونانية. ولكن لابد أن ثمة فترة زمنية قد مرَّت بين تدوين أسفار موسى الخمسة وتدوين أسفار الأنبياء، ذلك لأن هذه الأخيرة لم تكن تُقرأ في الاجتماعات العامة التي وُصفت في سفر نحميا (8 و10). كما أن السامريين الذين انفصلوا عن اليهود، وبنوا هيكلهم في جريزيم عام 428 ق.م، اعترفوا بالتوراة ولم يعترفوا بكتب الأنبياء. وقد جُمعت أسفار الأنبياء ونُظِّمت خلال الفترة الممتدة من القرن السادس حتى القرن الثالث قبل الميلاد، ويبدو أنها أُلِّفت في فترة كانت فيها أسفار موسى مجهولة منسية، إذ يَندُر أن تجد فيها ذكراً لاسمه. ويبدو أن بعض الأنبياء أيضاً (عاموس مثلاً) لم يكن لهم به علم.

                أما القسم الثالث، وهو كتب الحكمة والأناشيد، فقد أُلِّف بعضه أثناء عصر الأنبياء، ولكنها لم تُضَم إلى كتب الأنبياء باعتبار أنها لم تكن ثمرة الوحي الإلهي. أما الكتب ذات الطابع النبوي، مثل كتب دانيال وعزرا والأخبار، فلابد أنها كُتبت في مرحلة متأخرة بحيث لم يمكن ضمها إلى كتب الأنبياء. ولقد ضُمَّت أسفار الحكمة والأناشيد، لكنها لم تُعتبَر جزءاً من العهد القديم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، فقبل ذلك التاريخ كان الحديث يتواتر عن التوراة باعتبارها أسفار موسى الخمسة والأنبياء دون إشارة إلى كتب الحكمة والأناشيد. ومن الأدلة الأخرى على أن هذه الأسفار كانت متأخرة، وجود كلمات يونانية في نشيد الأنشاد ودانيال، وكذلك الإشارة في سفر دانيال إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية. ولا يشير بن سيرا إلى سفر دانيال أو إستير. وقد اسـتمر الجـدل حول أسـفار مثل: الأمثـال، ونشيد الأنشاد، وإستير، وسفر الجامعة، هل تُضَم مع الأسفار القانونية أم لا؟

                ويُطلَق مصطلح «كانون Canon» أي «الأسفار القانونية»، على تلك الأسفار أو النصوص التي تم اعتمادها. أما الكتب غير القانونية، فتُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية أو الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا). والقواعد التي استخدمها محررو العهد القديم لضم أو استبعاد هذا أو ذاك النص غير معروفة، ولكن يبدو أن هذه القواعد هي بشكل عام:

                1 ـ أن يكون النص مكتوباً بالعبرية. ويبدو أن بداية ونهاية سفر دانيال تُرجمتا من الآرامية إلى العبرية بسرعة حتى يمكن ضمهما إلى النص القانوني المُعتمَد.

                2 ـ أن يكون النص قد كُتب في مرحلة ما قبل النبي مالاخي، أي في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي الفترة التي يرى الحاخامات أن النبوة توقفت عندها في جماعة يسرائيل.

                3 ـ أن يتفق مضمون النص مع المعايير الدينية التي تبناها الحاخامات.

                ويبدو أن مشادات فقهية بين الفقهاء، كانت تحدث من وقت لآخر، في شأن بعض الأسفار نظراً لما تحتويه من أفكار غنوصية مثل سفر حزقيال واتفقوا في نهاية الأمر على تركه داخل إطار الكتب القانونية مع عدم تدريسه للصغار.

                ولغة الكتاب المقدَّس (اليهودي) هي العبرية، وإن كانت التراكيب والأساليب وبعض المفردات تختلف باختلاف هذه الأسفار وتنم عن الفترة التي وُضع فيها كل سفر. ومع هذا، فإن هناك أجزاء وُضعت باللغة الآرامية. والعبرية، مثلها مثل العربية، تتميَّز بالعلامات الصوتية المميِّزة للحرف، أي علامات التشكيل. ولما كان النص العبري الأصلي مكتوباً دون علامات التشكيل، فقد كان لابد أن يتم الاتفاق على قراءة معيارية. وبالفعل، ظهر النص المعتمد كتابةً وقراءة، وهو الذي يُطلَق عليه مصطلح النص «الماسوري» أو «ماسوراتي». ويُطلَق على المحققين الذين وضعوا علامات الضبط بالحركات «الماسوريون».

                وقد قُسِّم العهد القديم إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع في القرن الثالث عشر، فنص التوراة الذي كُتب على لفائف التوراة لا يزال حتى الآن بدون علامات تشكيل ولا علامات فصل بين الأسفار والإصحاحات والفقرات المختلفة. وقد تُرجم الكتاب المقدَّس إلى مختلف لغات العالم تقريباً. ومن أهم الترجمات: الترجمة اليونانية، وهي ما يُعرَف باسم «الترجمة السبعينية»، والترجمة الآرامية وأهمها «الترجوم»، والترجمة اللاتينية وتُعرَف باسم «الفولجاتا أو الشعبية». كما تُرجم الكتاب المقدَّس إلى السريانية باسم «البشيطاه»، وكذلك تُرجم إلى العربية. وأقدم ترجمة هي ترجمة سعيد بن يوسف الفيومي، فيما نعلم، إلا أن ثمة محاولات سابقة عُثر عليها في الجنيزاه القاهرية باللهجة المصرية العامة.

                ويرى اليهود الأرثوذكس أن كلمات العهد القديم، وأسفار موسى الخمسة بصفة خاصة، هي كلام الإله الذي أوحى به إلى موسى حرفاً حرفاً، وأملاه عليه حينما صعد إلى جبل سيناء، وهو كلام أزلي لا يتغيَّر. والكتب التاريخية وأسفار الأنبياء والأناشيد والحكم، هي الأخرى نتاج الروح المقدَّسة، وإن كانت بدرجة أقل، تلك الروح التي تغمر روح الإنسان فيتحدث باسم الإله. وتُعتبَر كل كلمة، وكل جملة وردت في العهد القديم، ذات معنى داخلي ومغزى عميق. لكل هذا، نجد أن العهد القديم، بالنسبة إلى اليهود الأرثوذكس، هو السلطة العليا التي لا يمكن التشكيك فيها، وهو المرجع الأخير في الحياة الدينية. ولكن أسفار موسى الخمسة، مع هذا، تظل أهم الأجزاء التي تشكل جوهر اليهودية وشريعتها.

                أما بالنسبة إلى اليهود الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين، فإن العهد القديم يُعَدُّ مجرد إلهام من الإله وليس وحياً منه. وقد وصل هذا الإلهام إلى واضعي الكتاب المقدَّس بدرجات مختلفة. ولذا، فإن بعض أجزاء العهد القديم ذو قيمة روحية وأخلاقية أعلى من غيره. كما لم يكن الوحي الإلهي، أي الإلهام، خالصاً. فقد اصطبغ هذا الوحي بصبغة إنسانية، فلزم أن يقوم اليهودي بإعادة تفسيره ليستخلص الوحي الإلهي (المطلق) من النص الذي يضم عناصر إنسانية تاريخية (نسبية). ويُعتبَر العهد القديم العبري من مصادر التشريع اليهودي الأساسية، وقد ظل قروناً طويلة يشكل المنهج الدراسي الوحيد في المدارس الدينية اليهودية، وإلى جانبه التلمود الذي هو تفريع منه. وفي إسرائيل، فإن منهج الدراسة يتضمن خمس ساعات أسبوعياً لدراسة العهد القديم.

                كما أن الصهاينة اللادينيين يعتبرون العهد القديم وكتب اليهود المقدَّسة كتباً عظيمة تشكل جزءاً مهماً من تراث اليهود وفلكلورهم القومي وهو تعبير عن انتشار الحلولية بدون إله بين الصهاينة. وقد نشر أحد التربويين الإسرائيليين في أحد الكيبوتسات كتاباً يروي قصص العهد القديم باعتبارها أدباً من صنع البشر، ومن ثم فإنه قد استبعد أي إشارة إلى الإله.

                التوراة
                Torah


                «توراة» كلمة من أصل عبري مشتقة من فعل «يوريه» بمعنى «يُعلِّم» أو «يوجِّه»، وربما كانت مشتقة من فعل «باراه» بمعنى «يُجري قرعة». ولم تكن كلمة «توراة» ذات معنى محدد في الأصل، إذ كانت تُستخدَم بمعنى «وصايا» أو «شريعة» أو «علم» أو «أوامر» أو «تعاليم»، وبالتالي كان اليهود يستخدمونها للإشارة إلى اليهودية ككل، ثم أصبحت تشير إلى البنتاتوخ أو أسفار موسى الخمسة (مقابل أسفار الأنبياء وكتب الحكمة والأناشيد). ثم صارت الكلمة تعني العهد القديم كله، مقابل تفسيرات الحاخامات. ويُشار إلى التوراة أيضاً بأنها القانون أو الشريعة، ويبدو أن هذا قد تم بتأثير الترجمة السبعينية التي ترجمت كلمة «توراة» بالكلمة اليونانية «نوموس» أي «القانون». وقد شاع هذا الاستخدام في الأدبيات الدينية اليهودية حتى أصبحت كلمة «توراة» مرادفة تقريباً لكلمة «شريعة».

                ويُلاحَظ أنه، داخل الإطار الحلولي، تتداخل حدود الأشياء والـدوال وتذوب المدلولات بعضـها في البعـض وتنفصل الدوال عن المدلولات، وهـذا ما يحـدث في لفظ «توراة» مـع هيمنـة الحلولية بشكل تدريجي. وقد وَسَّع الحاخامات معنى الكلمة استناداً إلى العقيدة أو الشريعة الشفوية الحلولية التي تساوي بين الوحي الإلهي والتفسير الحاخامي والقائلة بأن هناك توراتين أو شريعتين: واحدة مكتوبة تلقاها موسى عند جبل سـيناء، والأخرى شـفوية يتناقلـها الحاخامات عن موسى، ولها نفس قداسة التوراة المكتوبة. وبهذا أصبحت كلمة «توراة» تعني «هالاخاه»، وكل الأوامر والنواهي التي ورد ذكرها في كل من التوراة والتلمود والشولحان عاروخ وفتاوى الحاخامات وتفسيراتهم، بل أحياناً ما ورد ذكره في الكتب القبَّالية. وقد جاء في التلمود أن الإله يقول: "ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة" (حجيجاه 1/7)، وهي عبارة تعبِّر عن درجة عالية من الحلولية باعتبار أن التوراة هنا مطلق منفصل عن الإله، وربما يفوقه في الأهمية. والمقصود هنا هو التوراة الشفوية، أي آراء الحاخامات وتفسيراتهم.
                ومن ناحية أخرى، فإن المجال الدلالي للكلمة واسع للغاية، وقد أشار القبَّاليون إلى التوراة الظاهرية والتوراة الباطنية أو توراة الخلق (بالآرامية: توراه دى بريئاه) وتوراة الفيض (بالآرامية: توراه دي أتسليوت). وتوراة الفيض هي التوراة التي يمكن أن يتوصل لها المفسرون العالمون بالقبَّالاه، وهي مختلفة تماماً عن التوراة المتداولة بين اليهود ولها تعاليم وشرائع تقف الواحدة أحياناً على الطرف النقيض من الأخرى. وتُستخدَم كلمة «توراة» أيضاً للإشارة إلى سلوك أتقياء اليهود وأقوالهم باعتبارها «توراة». وقد جاء في التلمود أن حديث من يعيش في أرض الميعاد «توراة»، كما أن الحسيديين كانوا يقولون إن حديث بعل شيم طوف توراة، بل كذلك حديث وأفعال كل تساديك حسيدي يلتصق بالإله!

                وتحتل التوراة، بمعنييها الضيق والواسع، مكاناً مركزياً في الوجدان الديني لليهود، فهي أقدم من هذا العالم، بها ولها خلق الإله الدنيا، وهي عروس الرب التي تجلس إلى جواره على العرش، والتي ستُزَف إلى الماشيَّح حينما يأتي إلى هذا العالم. ويُحتفَظ في المعبد اليهودي بـ «تاج التوراة»، وبمؤشر من الذهب أو الفضة على شكل يد لاستخدامه في قراءة التوراة. ومن أقدس الأماكن في المعبد اليهودي، الدولاب المسمَّى «تابوت العهد» الذي يُحتفَظ فيه بلفائف الشريعة.

                وتُستخدَم كلمة «توراة» كذلك للإشارة إلى كل التراث الديني اليهودي بقضه وقضيضه، وكل ما أوصى الإله به لجماعة يسرائيل، أو للعالم كله من خلال جماعة يسرائيل. وفي المصادر الكلاسيكية اليهودية لم يكن يشار إلى «اليهودية» وإنما إلى «التوراة»، بل لم يظهر مصطلح «يهودية» إلا في العصر الهيليني. ولكن، ورغم ترادف المصطلحين، فإن ثمة اختلافاً دقيقاً بينهما، فبينما تُستخدَم كلمة «توراة» للإشارة إلى الجوانب الإلهية الثابتة في العقيدة اليهودية، تستخدم كلمة «يهودية» للإشارة إلى الجوانب المتغيرة التاريخية، ومن هنا يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية»، أو «اليهودية الإصلاحية»، ولكن لا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية»، أو «التوراة الإصلاحية».

                ويرى بعض علماء اليهود أن كلمة «توراة» هي، بالمعنى العام، المقابل لكلمة «لاهوت» في المسيحية، فلاهوت اليهودية هو التأمل في التاريخ اليهودي والتقاليد اليهودية، تماماً مثل اللاهوت المسيحي، ولكنه لاهوت معلمين وحاخامات وليس لاهوت كنيسة، جانبه الخارجي هو الهالاخاه، أي الشريعة، وجانبه الداخلي هو الأجاداه، أي القصص الوعظية، وكلاهما «توراة».

                وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى مخطوط أسفار موسى الخمسة المكتوب بخط اليد (لفائف الشريعة)، والذي يُحفَظ في تابوت العهد في المعبد اليهودي. وكان الأطفال اليهود يتعلمون في الجيتو أن التوراة هي الشيء الوحيد الباقي، أما العالم فزائل، ولذا يجب على اليهودي أن ينفق كل وقته في دراستها، وأن هذا واجب ديني نص عليه العهد القديم. وفي واقع الأمر، لا يوجد مثل هذا النص لا في أسفار موسى الخمسة ولا في كتب الأنبياء، ويبدو أن فكرة دراسة التوراة ذات أصل يوناني. وقد قال أحد الفقهاء اليهود إن اليهود يعملون بالتجارة والربا، لأنهم بهذه الطريقة يحققون أرباحاً كبيرة سريعة دون أن يعملوا، وبذلك يتفرغون لدراسة التوراة.

                على أن هـذه الدراسـة لا تهـدف إلى الخـروج من الذات وتحدِّيها، بقدر ما هي ضرب من عبادة الذات وتوثينها، إذ أننا نكتشف أن التوراة (مكتوبة وشفوية) ليست نتاج عبقرية الشعب فحسب، بل هي أيضاً «جماعة يسرائيل»، وهما معاً يكوِّنان شيئاً واحداً. ومن الواضح أن هناك جوانب قومية للاهتمام اليهودي بالتوراة، كما هو الحال مع الأنماط الحلولية. فالحكمة ملك لكل الشعوب، أما التوراة فهي الكتاب المقدَّس لليهود وحدهم وهي مصدر الحياة بالنسبة إليهم والشاهد على عبقريتهم الدينية وعلى اتخاذهم كشعب مختار دون سائر أهل الأرض. وتحتوي الصلوات اليهودية على شكر للإله لإرساله التوراة إلى الشعب. وحينما يُنادَى على أحد المصلين ليقرأ أسفار موسى الخمسة، فإنه يقول: «مبارك الرب الذي خلقنا من أجل جلاله وفضَّلنا عمن ضلوا سواء السبيل، وأرسل لنا التوراة، وبذا غرس الحياة الأبدية وسطنا فليفتح الرب قلوبنا على التوراة». وهكذا تكون التوراة تجسيداً لروح الإله، ولكنها في الوقت نفسه هي الشعب الذي هو بدوره تجسيد لروح الإله، أي أنها دائرة حلولية مقدَّسة مغلقة يعبِّر فيها كلٌّ من التوراة والشعب عن روح الإله بالدرجة نفسها.

                والفقيه اليهودي الذي يربط في فتواه بين دراسة التوراة والتجارة والربا وضع يده (دون أن يدري) على العلاقة بين دراسة التوراة ودور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. فالجماعات الوظيفية تعيش في بلد ما دون أن تكون منه، ولذا فهي تحتاج إلى وطن أصلي. وفي حالة الجماعات اليهودية الوظيفية، كانت صهيون هي هذا الوطن الأصلي الذي تشتتوا منه والتوراة (والتلمود) هو الوطن المتنقل الذي يستطيعون التمركز حوله وتطوير هويتهم وضرب أسوار العزلة حول أنفسهم من خلاله، وهي عزلة أساسية كي يضطلعوا بدورهم. كما أن ارتباطهم بهذا الوطن يقلل حركيتهم، فهو وطن متنقل معهم.

                والجدير بالذكر أن التوراة تشكل الأرضية المشتركة بين اليهود المؤمنين واليهود الملحدين، فهما يشتركان في تقديسها. فأما المؤمنون منهم، فإنهم يرونها مقدَّسة لأنها مرسلة من الإله. وأما الملحدون (الذين يدورون في إطار الحلولية بدون إله)، فإنهم يقدسونها لأنها جزء من فلكلور الشعب اليهودي وتعبير عن عبقريته. والخلاف في نهاية الأمر ظاهري لأن البنية الحلوليـة لليهـودية توحـد بين الشـعب والإله. وفي التراث الصهيوني، يؤكد المفكرون الصهاينة أهمية ثالوث الشعب والأرض والإله أو التوراة إذ تؤمن الصهيونية الثقافية (اللادينية) بثالوث الشعب والأرض والتوراة، في حين تؤمن الصهيونية الدينية بثالوث الشعب والأرض والإله (الذي يعادل التوراة). وفي الوقت الحاضر، تُستخدَم كلمة «توراة» في العبرية الحديثة مرادفة لكلمة «عقيدة» أو «نظرية»، ومن هنا يمكن الحديث عن «التوراة العلمانية» أو «التوراة الماركسية».

                الكتــــاب
                The Book


                «الكتاب» اصطلاح يُستخدَم للإشارة إلى العهد القديم أو إلى التوراة (بالمعنى المحدد للكلمة)، ويتحدث بعض المفكرين اليهود والصهاينة عن اليهود باعتبارهم «شعب الكتاب».

                سـفـر
                Book


                «سفر» وهي «سيفر» بالعبرية وتعني «كتاباً». ويُشار إلى كتب العهد القديم بكلمة «أسفار». ويُقسَّم السفر إلى إصحاحات ويُقسَّم كل إصحاح إلى فقرات، وتُقسَّم كل فقرة إلى مقاطع.

                إصـحـاح
                Chapter


                تُسمَّى أقسام الكتاب المقدَّس «أسفاراً»، ويُقسَّم كل سفر إلى إصحاحـات، ويُقسَّم كل إصحـاح إلى فقـرات والفقرات تُقسَّم إلى مقاطـع.

                أسفار موسى الخمسة
                Pentateuch


                «أسفار موسى الخمسة» تشكل القسم الأول من العهد القديم، ويشمل خمسة أسفار، هي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية. ويعتقد اليهود المتدينون أن الإله أنزلها على موسى في سيناء وأملاها عليه حرفاً حرفاً، وهي تبدأ بسرد أحداث العالم منذ بدء الخليقة حتى وفاة موسى. والكلمة مرادفة لكلمة «توراه»، وإن كانت أكثر دقة كما أن دلالاتها أكثر تحدداً قياساً إلى كلمة «توراه» فضفاضة المعنى متعددة الأبعاد والدلالات.

                تنــــاخ
                Tanach


                «تَناخ» اسم عبري للعهد القديم، وهو مختصر من الحروف الأولى لثلاث كلمات عبرية هي: التوراة (أسفار موسى الخمسة)، ونفيئيم (أسفار الأنبياء)، وكتوفيم (المزامير وسفر الأمثال ونشيد الأنشاد وبقية أسفار الحكمة وغيرها).

                ويُفضِّل اليهود استخدام مصطلح «تَناخ» على عبارة «العهد القديم» لأن هذه العبارة الأخيرة تفيد أن العهد الجديد قد أكمل كتاب اليهود المقدَّس وحل محله. أما مصطلح «تَناخ» فهو تعبير وصفي وحسب، وهو يخلو من أي اعتراف ضمني بقدم الكتاب المقدَّس، وبأن «العهد الجديد» قد أكمله وحل محله.

                الكــــــــــــتاب المقــــــــــد س
                Bible; Holy Book; Holy ******ures


                «الكتاب المقدَّس» هو المقابل العربي للعبارة العبرية «كتيفي هاقودش». وتُستخدَم عبارة «الكتاب المقدَّس» عند المسيحيين للإشارة إلى العهدين القديم والجديد. أما في الدراسات اليهودية والصهيونية، فهي تشير إلى العهد القديم وحسب. ولذا، فقد يكون من المفيد ألا نستخدم هذا المصطلح («الكتاب المقدَّس») إلا إذا اضطرنا السياق إلى ذلك، نظراً لغموضه، ونستخدم بدلاً منه مصطلحات مثل: «العهد القديم» أو «تَناخ» أو «أسفار اليهود».
                ومن أسماء الكتاب المقدَّس عند اليهود «المقرا» وتعني «القراءة» أو «المطالعة».

                الإنجيل
                Bible


                «إنجيل» كلمة ذات أصل يوناني من كلمة «أونجليون» ومعناها «خبر طيب». والإنجيل هو الكتاب المقدَّس عند المسيحيين الذين يشيرون إلىه أحياناً بكلمة «العهد الجديد»، ويتكون من أربعة أقسام، هي: إنجيل متَّى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. وقد أطلق اليهود (بين القرنين الثالث والخامس) على الإنجيل «جليون هامينيم» أي «لفيفة المهرطقين».

                الماسـوراه
                Masorah


                «ماسوراه» كلمة عبرية من فعل «مَسَار» بمعنى «تلقَّى» و«تناول»، ولكنها تشير إلى مجموعة القواعد التي وضعها الحاخامات عبر القرون والتي تتصل بطريقة هجاء وكتابة وقراءة العهد القديم. ويُشار إلى نص العهد القديم الذي ارتضاه العلماء ورفضوا ماعداه بأنه «النص الماسوري» أو «الماسوراتي». والكلمة لا تشير إلى نسخة العهد القديم التي جمعها عزرا، بل يضاف إلى ذلك ضبطها بالحركات، وتقسيمها إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع، وتعيين مواضع الفصل والوصل والوقوف عند التلاوة، وتحديد نطق بعض الألفاظ التي كُتبت بطريقة لا تؤدي إلى النطق الشرعي الصحيح.وقد استغرق إقرار هذا النص الشرعي،في صورته النهائية، عدة أجيال،واستمر حتى عهد الفقهاء (جاءونيم).

                الترجـوم
                Targum


                «ترجوم» كلمة آرامية من الأصل الفارسي «تورجمان» وهي تعني «ترجمة». ويُطلَق هذا المصطلح على الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس. وقد وُضعت هذه الترجمات في الفترة الواقعة بين أوائل القرن الثاني وأواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أصبحت مثل هذه الترجمة أمراً مهماً وحيوياً بالنسبة إلى اليهود، نظراً لأن الآرامية حلَّت محل العبرية بعد التهجير البابلي. فمنذ أيام عزرا، كانت تُضاف ترجمة آرامية بعد قراءة أجزاء من العهد القديم، وقد صار هذا تقليداً ثابتاً. ومن أشهر الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس: ترجوم أونكيلوس لأسفار موسى الخمسة وحدها، وترجوم يوناثان لبقية أسفار العهد القديم. ويُعتقَد أن آرامية الترجوم كانت مُتكلَّفة إلى حدٍّ ما. وسعت التراجم الآرامية إلى إضفاء مسْحَة من ثقافة عصرها على النص فقام المترجمون بإدخال مصطلحات مثل «الجن والملائكة» بديلاً عن الإشارة إلى الرب مجسداً.


                الفولجاتا (أو الشعبية)
                Vulgate


                «فولجاتا» من الكلمة اللاتينية «فولجاتوس Vulgatus» وتعني «شائع». وتُستخدَم الكلمة للإشارة لترجمة العهد القديم اللاتينية التي اضطلع بها إيرونيموس (340 ـ 420) عن الترجمة السبعينية، ومع هذا فإنها لم تأت مطابقة لها كل المطابقة. وقد اشتملت الفولجاتا على سفرين اثنين فقط للمكابيين، مقابل أربعة في السبعينية، وحُذفت منها أسفار عزرا الثلاثة وزيد عليها سفر باروخ. وفيما عدا ذلك، لا يوجد فرق يذكر بين الترجمتين. وقد أقرت الكنيسة الكاثوليكية جميع الأسفار والأجزاء الزائدة في الترجمة اللاتينية على الأصل العبري، واعتبرتها جميعاً أسفاراً أو أجزاء مقدَّسة من أسفار العهد القديم وأجزائه. ولكن معظم البروتستانت لا يعتبرون هذه الزيادات مقدَّسة، وهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم. أما اليهود، فإنهم يدخلونها في القسم الذي يسمونه الأسفار الخارجة أو الخفية (أبوكريفا).

                البشيطَّاه
                Peshitta


                «بشيطَّاه» كلمة سريانية تعني «البسيطة». وتشير إلى الترجمة السريانية للعهد القديم التي تم إنجازها في القرن الثاني بعد الميلاد من نسخة للعهد القديم تختلف عن النص القياسي (الماسوري). ويتخذها مسيحيو سوريا والنسطوريون في العراق وفارس كتاباً مقدَّساً لهم.

                الترجمة السبعينية
                Septuagint


                كلمة «سبتواجينت» الإنجليزية من الكلمة اللاتينية «سبتواجينتا» ومعناها «سبعون»، وهي إشارة إلى الأسطورة القائلة بأن اثنين وسبعين من علماء اليهود قاموا بترجمة العهد القديم العبري إلى اليونانية بأمر من بطليموس فيلادلفيوس (228 ـ 247 ق.م)، وهي أقدم ترجمات العهد القديم بأية لغة. وتقول الأسطورة إن كل عالم جلس في حجرته بمفرده ليترجم العهد القديم، وعند الانتهاء وجدوا أن الترجمات كلها متماثلة. وبغض النظر عن مدى صدق الأسطورة، فقد كان الغرض من الترجمة إلى اليونانية سد حاجة المصريين اليهود المتأغرقين الذين كانوا يجهلون العبرية تماماً بسبب اندماجهم في المحيط الهيليني، واتخاذهم اللغة اليونانية السائدة آنذاك في حوض البحر الأبيض المتوسط لغةً لهم. وقد تمت الترجمة بالتدريج ابتداءً من القرن الثالث قبل الميلاد، وتم الانتهاء منها في السنوات الأخيرة قبل رسالة المسيح. ولم تكن الترجمة على مستوى رفيع، فلم يكن المترجمون ملمين بالعبرية بالقدر الكافي، ولم تكن النصوص التي ترجموا عنها نصوصاً جيدة، كما أن المترجمين أخذوا في الاعتبار حساسيات العالم الهيليني. فمثلاً تُرجمت كلمة «الأرنب» (لاويين 11/6)، وهو حيوان مدنَّس حسب الشريعة اليهودية، بعبارة «ذو الأقدام الخشنة» لأن كلمة «الأرنب» باليونانية هي «لاجوسlagos»، وهـي أحـد ألقاب أسـلاف الأسرة البطلمية. وتم تغـيير عبـارة «آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك» (تثنية 26/5) فصارت «أبي ترك سوريا وذهب إلى مصر»، وذلك لإرضاء البطالمة أيضاً حيث كانت سوريا تحت حكم السلوقيين أعدائهم، وكلمة «آرامي» تعني «سوري» وأسقط المترجمون أسماء الأعلام التي كان يتسمَّى بها الإله مثل «أدوناي، و«شدَّاي صباءوت»، واستخدموا بدلاً من ذلك أسماء مثل «الإله» أو «الخالق». وبدلاً من تأكيد خصوصية الإله وخصوصية علاقته بالشعب، يصبح هو الكائن الأعظم للجنس البشري. وهذا يعود إلى وجود اتجاه عام في العالم الهيليني نحو تعظيم الخالق الواحد، وكانت الآلهة المحلية آخذة في الاختفاء. كما أسقط المترجمون العبارات التي تنسب إلى الخالق صفات جسدية، فبينما تتحدث النسخة العبرية عن أنهم «رأوا إله يسرائيل» (خروج 24/10)، فإن الترجمة اليونانية تتحـدث عـن أنهـم «رأوا المكان الذي كان قد وقف فيه إله يسـرائيل». والهدف من هذا كله هو:تقريب التوراة من العقل الهيليني.

                وقد تم أغرقة المصطلح تماماً في بعض الأحيان، فتُرجمت «توراة» بكلمة «نوموس» اليونانية، والتي تعني «قانون». أما كلمة «إيموناه»، وهي بمعنى «إيمان»، فتُرجمت بالكلمة اليونانية «بيستيس pistis» وتعني «الاعتقاد».

                وتجدر بنا الإشارة إلى وجود صياغات في الترجمة السبعينية لم نجدها في النص العبري الحالي. ومع هذا عُثر على نظيرها العبري في مخطوطات قُمران، وهو ما يؤكد اعتماد المترجمين على نصوص عبرية متعددة.

                وقد تجاهل العلماء الهيلينيون العهد القديم، ولم تصلنا أية تعليقات لهم عليه. ولكن الفقهاء اليهود في فلسطين، قبلوا الترجمة واعتمدوها في بادئ الأمر، فأجَّلها اليهود المتحدثون باليونانية، واستفادت اليهودية منها في عملية التبشير. ونظراً للاختلافات بين الترجمة والنص العبري، وهي اختلافات استفاد منها المسيحيون الأولون، وبعد أن اعترفت الكنيسة المسيحية بالترجمة السبعينية باعتبارها الإنجيل الرسمي، أظهر الحاخامات العداء لها، وخصوصاً ابتداءً من عام 70 الميلادي. وأصبحت الترجمة السبعينية تشبَّه بـ «العجل الذهبي».

                وقد ساهمت الترجمة السبعينية في نشر المسيحية بين اليهود المتأغرقين وبين العناصر الهيلينية في الإمبراطورية الرومانية. وتشتمل الترجمة السبعينية على عدة أسفار لا توجد في الأصل العبري الذي وصل إلينا، وهي: سفر طوبيا، وسفر الحكمة لسليمان، وأسفار المكابيين وعددها أربعة أسفار، وسفر يهوديت، وسفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، ونشيد الأطفال الثلاثة، وسفر الحكماء الثلاثة، وسفر بعل والتنين، وثلاثة أسفار منسوبة إلى عزرا، وذلك زيادة على السفر المثبت في الأصل العبري، وبعض زيادات في سفر إستير ودانيال، وهي الأسفار التي أصبحت تشكل أبوكريفا العهد القديم (الكتب الخارجية أو الخفية). ولقد تُرجم العهد القديم إلى اللاتينية (في الترجمة المعروفة بالفولجاتا عن الترجمة السبعينية).

                سفر التكوين
                Genesis


                يُسمَّى «سفر التكوين» في العبرية «يريشيت» بمعنى «في البدء»، وهي أول كلمة ترد في السفر. و«التكوين» اسم أول أسفار موسى الخمسة، ويحكي تاريخ العالم من بدء تكوين السماوات والأرض، وقصة آدم وحواء، ونوح والطوفان وأولاده سام وحام ويافث، ونسل سام إبراهيم وإسحق ويعقوب، والعهد بين الخالق وشعبه. وينتهي هذا السفر بقصة يوسف ومجيئه إلى مصر ولحاق يعقوب وأبنائه الأحد عشر به واستقرارهم في أرض الفراعنة.

                وتعكس الأجزاء الأولى التقاليد الحضارية لبلاد الرافدين بعد أن دخلت عليها العناصر التوحيدية.ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن سفر التكوين ليس متجانساً وإنما قام بوضعه كُتَّاب مختلفون،في حين يرى البعض الآخر أنه عمل متكامل يستند إلى فلسفة متسقة مع نفسها،وأن تكرار بعض الأجزاء ليس إلا من قبيل الصيغة الأدبية، وأنه وُضع في القرن التاسع قبل الميلاد،أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.

                سفر الخروج
                Exodus


                يُسمَّى «سفر الخروج» في العبرية «شيموت»، أي «الأسماء»، وهي كلمة مأخوذة بتركيب الحروف الأولى من كلمات العبارة الافتتاحية فيه. وسفر الخروج ثاني أسفار موسى الخمسة، ويعرض تاريخ جماعة يسرائيل في مصر. كما يأتي فيه ذكر قصة موسى وذهابه إلى سيناء، والوحي الإلهي الذي جاء فيه، والعهد بين الإله وجماعة يسرائيل، وعودة موسى إلى مصر ليساعد اليهود على الخروج من أرض العبودية. ثم تلقَّى موسى الوصايا العشر في سيناء، وقيادته جماعة يسرائيل حتى حدود أرض كنعان. كما يشتمل السفر على طائفـة من أحكـام الشريعة اليهـودية في العـبادات والمعاملات، وما إلى ذلك مما يشبه قوانين حمورابي، وترد فيه أيضاً قصة عبادة العجل الذهبي وما تبع ذلك من محاولات تطهير الدين.

                ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن ثمة مصادر عديدة لهذا السفر، وأنه وُضع نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.

                سفر العَدد
                Numbers


                يُسمَّى «سفر العَدد» بالعبرية «بميدبار»، أي «في البرية»، وهي أول كلمة ترد في السفر، وسفر العدد رابع أسفار موسى الخمسة. وسُمِّي سفر العدد بهذا الاسم لأنه يشتمل في معظمه على إحصاءات عن قبائل العبرانيين وجيوشهم وأموالهم وكثير مما يمكن إحصاؤه من شئونهم كما يشتمل على أحكام تتعلق بطائفة من العبادات والمعاملات. ويأتي في هذا السفر ذكر تذمُّر جماعة يسرائيل من متابعة السير على خطوات موسى، وهو ما أثار غضبه عليهم، وقد دُوِّن هذا السفر بعد التهجير البابلي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

                ســفر التثنيـة
                Deuteronomy


                يُسمَّى «سفر التثنية» بالعبرية «ديفاريم»، أي «الكلمات»، وهي أول كلمة ترد في السفر. وهو يُسمَّى أيضاً «مشنا توراه»، ومعناها «إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من سيناء»، أو «تثنية الاشتراع». وهو آخر أسفار موسى الخمسة، ويتكون من:

                أ) المقدمة، وتحوي مراجعة موسى لما حدث منذ عبور سيناء.

                ب) نصائح موسى الأخلاقية (ومنها إعادة الوصايا العشر)، وتتضمن تلخيصاً للتشريع الذي قبلته جماعة يسرائيل.

                جـ) خطب موسى الأخيرة.

                د) أفعال موسى الأخيرة وأغنية الوداع ومعها سرد لأحداث موته.

                ويختلف هذا السفر من حيث الأسلوب واللغة عن الأسفار السابقة، بل يناقضها أحياناً. ولذا، يرى بعض العلماء أن بعض القوانين التي أتت في سفر التثنية إنما هي من وضع مجموعة من المؤلفين قاموا بكتابة بعض الأجزاء الأخرى في أسفار موسى الخمسة. ويختلف العلماء في تحديد تاريخ هذا السفر، فيرى بعضهم أنه وُضع أثناء عصر القضاة، ويرى البعض الآخر أنه وُضع في وقت لاحق في أواخر القرن السابع قبل الميلاد.

                سفر اللاويين
                Leviticus


                يُسمَّى «سفر اللاويين» في العبرية «فايقرا» أي «دعا أو نادى» وهي الكلمة التي يبدأ بها سفر اللاويين. وكان في الماضي يُعرَف باسم «تورات كوهانيم» أي «شريعة الكهنة»، وهو ثالث أسفار موسى الخمسة. ويتوقف السرد القصصي في هذا السفر ليحل محله تناول شئون العبادات، وخصوصاً ما يتعلق بالأعياد والأضحية والقرابين والمحرمات من الحيوانات والطيور وما يتعلق بالطهارة، وكذلك التعاليم الأخلاقية والنظم الاجتماعية التي لم ترد في سفر الخروج، والتعليمات الخاصة بخيمة الاجتماع.

                واللاويون هم سدنة الهيكل والمشرفون على شئون الذبح والأضحية والقرابين. وثمة وحدة في الموضوع بين هذا السفر والجزء الأخير من سفر الخروج وجزء كبير من سفر العدد. ويرى بعض علماء الكتاب المقدَّس أن هذا السفر تجميع لوصايا متفرقة كُتبت على حدة في بداية الأمر، كما أن بعضهم يرى أن السفر كله لم يُكتب إلا بعد التهجير البابلي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

                الوصــايــــــــا العشــــــــــر
                Ten Commandments; Decalogue


                ورد في العهد القديم، في سفر التثنية، عبارة «عسِّيريت هادبروت»، أي «الكلمات العشر» التي كُتبت على لوحي حجر (تثنية 4/13). ووردت العبارة نفسها تقريبـاً في سفر الخـروج (34/28): «فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر». وفي اللغة الإنجليزية يُفرَّق أحياناً بين تعبير «تن كوماندمنتس Ten Commandments» وكلمة «ديكالوج Decalogue»، فتُستخدَم العبارة الأولى عادةً للإشارة إلى ما يُسمَّى بالوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج (20/1 ـ 7) أو سفر التثنية (5/6 ـ 21)، أما كلمة «ديكالوج» فتشير إلى الشيء نفسه في هذه الصيغة أو الصيغ الأخرى التي وردت في العهد القديم، وهي كثيرة ومتنوعة. لكن التعبيرين كثيراً ما استُخدما بشكل يفيد الترادف.

                ويذهب بعـض الدارسـين إلى أن الوصايا العشر هي جوهر اليهودية، وروح اليهودية والقوانين اليهودية ككل؛ لكننا لا نأخذ بهذا الرأي. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله طبقات عديدة، والوصايا العشر بصيغها المختلفة تعبير عن الظاهرة نفسها، فهي تضم وصايا ذات تَوجُّه توحيدي عالمي أخلاقي، وأخرى ذات تَوجُّه حلولي قومي لا أخلاقي. ومن ثم يكون من الصعب الحديث عن شيء متناقض مثل الوصايا العشر باعتباره جوهر اليهودية، إلا إذا كان في ذهننا تركيبها الجيولوجي.

                وثمة مشاكل عديدة تثيرها الوصايا العشر، أولاها أن من المتفق عليه في الموروث الديني اليهودي أن موسى ذهب إلى جبل سيناء، وصام أربعين يوماً، ونزلت عليه الوصايا هناك، لكنه حطمها عندما اكتشف أن أعضاء جماعة يسرائيل يعبدون العجل الذهبي، وعاد فصام أربعين يوماً أخرى، وأعطاها الإله له مرة أخرى. ولكن ليس من المعروف على وجه الدقة هل أعطاها الإله له مباشرة، وقام هو بتوصيلها للشعب أم أنه أعطاها له على مسمع من الشعب، أم أن الإله أعطاها للشعب مباشرة. وهناك إشارات عديدة إلى كل هذه الاحتمالات في سفر الخروج (19/9 ـ 25 و20/18 ـ 2)، وسفر التثنية (4/10 و5/4ـ 5 و5/22)، بل يُقال في الاجتهادات الحاخامية إن الإله خطها بإصبعه على جانبي اللوحين (لوحي الشهادة)، أي أنها كانت صيغة مقروءة وليست مسموعة استناداً إلى النص الوارد في سفر الخروج (31/18، 32/15 ـ 16).

                ولكن المشكلة الأكثر حدة هي ما أثاره نقاد العهد القديم، فالإشارة الواردة في سفر الخروج إلى الكلمات العشر تتعلق بالصيغة المألوفة الواردة في سفري الخروج (20/1 ـ 7) والتثنية (5/6 ـ 21). ولكن هناك صيغة ترد مباشرة قبل عبارة «الكلمات العشر» في سفر الخروج (34/28)، وهي في سفر الخروج أيضاً وفي الإصحاح نفسه (34/11 ـ 26)، وهي تختلف تماماً عن الصيغتين الأخريين المألوفتين شكلاً ومضموناً.

                ولنبدأ بنـص الصـيغة غير المألـوفة: "احفظ ما أنا موصيك اليوم. هأنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحيثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخاً في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم:

                1 ـ فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم، فتُدعَى وتأكل من ذبيحتهم، وتأخذ من بناتهم لبنيك، فتزنى بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن.

                2 ـ لا تصنع لنفسك آلهة مسبوكة (أي من معدن مصهور).

                أما بقية الوصايا، فجاءت على النحو التالي:

                ـ تحفظ عيد الفطير (الفصح). سبعة أيام تأكل فطيراً كما أمرتك في وقت شهر أبيب. لأنك في شهر أبيب خرجت من مصر.

                ـ لي كل فاتح رحم. وكل ما يُولَد ذكراً من مواشيك بكراً من ثور وشاه. وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه ولا يظهروا أمامي فارغين.

                ـ ستة أيام تعمل. وأما اليوم السابع فتستريح فيه، في الفلاحة وفي الحصاد تستريح.

                ـ وتصنع لنفسك عيد الأسابيع.

                ـ أبكار حصاد الحنطة وعيد الجمع في آخر السنة. ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله يسرائيل فإني أطرد الأمم من قدامك وأوسع تخومك ولا يشتهي أحد أرضك حين تصعد لتظهر أمام الرب إلهك ثلاث مرات في السنة.

                ـ لا تذبح على خمير دم ذبيحتي.

                ـ ولا تبت إلى الغد ذبيحة عيد الفصح. أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الإله إلهك.

                ـ لا تطبخ جدياً بلبن أمه.

                ويرى نقاد العهد القديم أن هذه الصيغة تعود إلى المصدر القيني (K) أقدم مصادر العهد القديم، وهو مصدر يختلف اختلافاً تاماً عن المصادر الأخرى نصاً وروحاً. ويشير نقاد العهد القديم إلى هذه الصيغة باعتبارها «الوصايا القربانية»، لأنها تحتوي على عدد كبير من الطقوس الخاصة بالأعياد والقرابين، كما أن الأخلاقيات الواردة فيها بدائية إلى أقصى حد تعكس بيئة رعوية.

                ويرى أحد نقاد العهد القديم أنه توجد صيغ أخرى مثل تلك الواردة في خروج (13/3 ـ 16، 23/10 ـ 19)، وهي لا تختلف كثيراً عن الصيغة السابقة في بدائيتها، وتعكس بيئة شمالية أكثر ثراء. كما يشيرون إلى صيغ أخرى موجودة بشكل متناثر في سفر التثنية. ويُفسَّر تعدُّد الصيغ بالإشارة إلى الثورات المختلفة في المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية ضد العبادات الأجنبية، وأن كل ثورة كانت تؤكد صيغة جديدة.

                وأهم الصيغ التي وردت هي، كما تَقدَّم، في سفري الخروج (20/1 ـ 17) والتثنية (5/6 ـ 21)، والصيغتان متشابهتان تماماً إلا في تفاصيل قليلة لا دلالة لها، باستثناء الوصية الثالثة حيث نجد أن ثمة اختلافاً جوهرياً بين الصيغتين، والوصيتين التاسعة والعاشرة حيث هناك تباينات لفظية. وقد أوردنا فيما يلي الصيغة الأولى بأكملها، بعد أن أثبتنا بين قوسين في السياق الوصايا الثالثة والرابعة والتاسعة والعاشرة في صياغتها الأخرى:

                ثم تكلم الإله بجميع هذه الكلمات قائلاً: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية:

                1 ـ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن. لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي. وأصنـع إحسـاناً إلى ألـوف من محـبي وحافظـي وصاياي.

                2 - لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً. لأن الرب لا يبرئ من نطق اسمه باطلاً.

                3 - اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدَّسه [وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك. واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر. فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة. لأجل ذلك أوصاك الإله إلهك أن تحفظ يوم السبت].

                4 ـ أكرم أباك وأمك لكي تطول على الأرض التي يعطيك الرب إلهك [أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك].

                5 ـ لا تقتل.

                6 ـ لا تزن.

                7 ـ لا تسرق.

                8 ـ لا تشهد على قريبك شهادة زور.

                9 ـ لا تشته بيت قريبك [لا تشته امرأة قريبك].

                10- لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك [لا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك]».

                ويمكن تقسيم الوصايا علي النحو التالي من (1) إلى (3): وصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإله، وبقية الوصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإنسان. وتبدأ الوصايا بالإله يُعرِّف نفسه، وأهم سماته هي مساهمته في التاريخ اليهودي، فهو يُعرِّف نفسه بأنه الإله الذي «أخرجك من أرض مصر وأرض العبودية»، أي أن ديباجة الوصايا العشر ذات طابع حلولي ترسِّخ الإحساس بالعلاقة الخاصة بالإله الذي يتدخل في التاريخ لصالح جماعة يسرائيل، وتعمَّق الإحساس بكره الأغيار (المصريين). كما يُلاحَظ أن فكرة التوحيد ليست كاملة، إذ أن هذه الوصية تعترف ضمناً بوجود آلهة أخرى. أما الوصية الأولى، فهي تتحدث عن الإله الغيور الذي يتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائه، وهي بذلك تنسب صفات بشرية إلى الإله، وتتضمن أخلاقيات بدائية إذ يصبح الشر والخير بالضرورة مسألة موروثة وليست مسألة دينية مرتبطة بقيم أخلاقية وبالاختيار والمسئولية الفردية.

                أما الوصية الثالثة، فهي الوصية التي يرد فيها تفسيران مختلفان لتقديس يوم السبت. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى تعدُّد المصادر، ولكن الحاخامات فسروا الاختلاف باعتبار أنه يعود إلى أن موسى حطم لوحي العهد، فلما عاد أتى بنسخة أخرى من الوصايا، وكانت النسخة الأخرى غير مطابقة تماماً للنسخة الأولى. وقد فسر آخرون هذا الاختلاف بأنه معجزة محضة، فقد أرسل الإله النسختين في آن واحد. وهو التفسير الذي ساد والذي يتسق إلى حدٍّ كبير مع تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي الذي تتعايش داخله الطبقات المتراكمة المتناقضة. ولهذا التفسير الحاخامي الأخير دلالة خاصة. فالصيغتان الأولى والثانية، كما بيَّنا، تتفقان في كل التفاصيل تقريباً، إلا في الوصية الثالثة التي تختص بتقديس يوم السبت، حيث يختلف تفسير مصدر القداسة من صيغة إلى أخرى، فصيغة سفر الخروج (20/11) تورد أن الإله قد خلق الأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، أما سفر التثنية (5/15) فيذكر أن ذلك اليوم مقدَّس لأنه اليوم الذي أخرج الإله فيه جماعة يسرائيل من مصر، أي أنه من خلال ربط الصيغتين يتم مزج المقدَّس بالدنيوي والإلهي بالقومي. فقد ساوت الصيغتان الحادثة الكونية (خلق العالم أو الطبيعة) بحادثة قومية تاريخية (الخروج من مصر) في بداية التاريخ اليهودي. وهكذا ترتبط الطبيعة والتاريخ، ويُمنَح اليهود عطلة يوم السبت لسببين: أحدهما كوني، والآخر تاريخي يختص بالشعب المقدَّس، ولكنهما يتساويان في الدرجة. والسبت في هذا لا يختلف عن معظم الأعياد اليهودية التي هي أعياد دينية تاريخية وهي في الوقت نفسه أعياد طبيعية لا علاقة لها بالدين أو التاريخ أو الأخلاق. وفي هذا اتساق مع النمط الحلولي الذي لاحظناه، وهو تداخل النسبي والمطلـق، والدنيـوي والمقدَّس، وإضفاء مركزية كونية على التاريخ اليهـودي.

                وتعـالج بقيـة الوصايا قضايا أخلاقية عامة ومهمة لتنظيم أي مجتمع، وإن كان هناك تخصيص في الوصية الأخيرة التي توصي اليهودي بعدم ارتكاب المعاصي ضد أقاربه من اليهود، وتلتزم الصمت تجاه الأغيار.

                وثمة تشابه واضح بين الوصايا العشر في موضوعاتها وعناصرها الأساسية وأقسامها وترتيب أجزائها من جهة والمعاهدات المعروفة في حدود النصف الأول من القرن الثالث عشر ق.م. مثل المعاهدات المبرمة بين الملوك الحيثيين والدويلات الخاضعة لهم من جهة أخرى. فهذه المعاهدات تبدأ بديباجة أو مقدمة تاريخية، يليها شروط تتعلق بحفظ المعاهدة. وقد أخذت الوصايا العشر شكل إحدى هذه المعاهدات. فالرب هو الحاكم الإلهي الذي يذكر لعبيده أفضاله عليهم، وما أسدي إليهم من جميل، ثم يملي عليهم شروطه، ويهدد بإنزال العقوبات على المخالفين منهم. كما كانت مثل هذه المعاهدات تتطلب أن تُقرأ نصوص المعاهدة علناً بشكل دوري، وأسلوب الوصايا العشر يدل على أنه يجب قراءتها بصوت عال على الملأ. وقد وُضعت الوصايا العشر في سفينة العهد التي كان يُنظَر إليها باعتبارها مسند قدم الإله. والواقع أن هذه العادة سادت الشرق الأدنى القديم حيث كانت تُودَع نسخ من المعاهدات تحت أقدام الإله الذي شهد عليها.

                وثمة تشـابه بـين الجــانب الأخـلاقي في الوصـايا وبـين الدليـل الـذي كان يُوضَع بجـوار الموتى في مصر الفرعونيـة، ليهــديهم في اليـوم الآخر، والمسمَّى «إعلان البراءة»، الذي ورد فيه: «لم أسرق؛ لم أطمع في شيء؛ لم أقتل إنساناً؛ لم أكذب؛ لم أزن».

                وقد أصبحت الوصايا العشر جزءاً من الصلاة التي تتلى في عيد الأسابيع (عيد نزول التوراة) وهو ما يدل على أنه كان هناك عيد يسرائيلي قديم (لتجديد العهد)، وأنه كان يتضمن قراءة نصوص الوصايا العشر. وكانت الوصايا العشر، في الأصل، جزءاً من الصلاة في الهيكل، وكان اليهود يريدون أن تصبح هذه الوصايا جزءاً من الصلاة اليومية، ولكنهم مُنعوا من ذلك، حتى تُدحَض ادعاءات الفرق اليهودية المهرطقة التي كانت تدَّعي أنها وحدها المنزلة من الإله وما عدا ذلك فهو اجتهاد بشري ولذا فهو غير مُلزم لأحد. ورداً على ذلك، جاء في الأجاداه أن هذه الأوامر والنواهي كانت مكتوبة على لوحي العهد في الفراغات بين الكلمات، وهذه محاولة لخلع القداسة على الشريعة الشفوية التي يحمل الحاخامات مشعلها. ولكل هذا، لم تُضَم الوصايا العشر إلى الصلوات اليومية. والواقع أن الأهمية الخاصة والوحيدة لهذه الوصايا هي أن المصلين يقفون عند تلاوتها في المعبد. وفي احتفالات بلوغ اليهودي سن التكليف الديني (برمتسفا) في المعابد الإصلاحية، يقوم المُحتفَـل به بتلاوتها أمام تابوت العهد.

                وقد أضاف حاخامات اليهود ما يُسمَّى الأوامر والنواهي أو المتسفـوت وعـددها 613. ويوجد أيضاً ما يُسمَّى شريعة نوح، وهي تضم مجمـوعة من الأوامــر والنواهي الملزمة لليهود وغير اليهود.

                سفر أيوب
                Job


                «أيوب» اسـم لا يُعرَف معناه على وجـه الدقـة، ليـس له اشتقاق عبري، أشار جيزينوس إلى أنه من أصل عربي من آب بمعنى رجع/عاد/تاب، ولعله قريب من اللفظة العربية «آيب» بمعنى «الراجع إلى الإله أو التائب»، و«أيوب» اسم سفر يعالج مسألة عذاب الأبرار، وتدور أحداثه حول رهان بين الإله وبين الشيطان الذي سُمح له بأن يختبر إيمان أيوب. وابتـلي أيوب، ففـقد ممتلكاتـه وحُرم من أسـرته وأصيب في جسده. وتلت المقدمة حوارات شعرية بين أيوب وثلاثة أصدقاء جاءوا لمواساته. ويضم السفر إشارات عديدة يُفهم منها إنكار البعث والحياة في الآخـرة، وأن الثـواب والعقـاب يقتـصران على الحياة الدنيا. ومع هذا، يظهر الإله لأيوب في العاصفة ويوجه إليه اللوم على الاعتراض على حكمه، فعقل الإنسان قاصر عن إدراك حكمة الإله ولذا لا يحق له أن يعترض على حكمه، فيتوب أيوب وينيب ويعود إلى نجاح فاق نجاحه الأول.

                ولا توجد أية إشارة إلى يهوه في الحوار الشعري الذي يدور في السفر، ولا إلى تاريخ جماعة يسرائيل، ولا إلى أيٍّ من شرائعهم، إذ أن تناول القوانين الأخلاقية يتم بشكل إنساني عام. كما أن السفر خال من الزخارف اللفظية، من الصور التي تسم الأسفار ذات الأصل العبراني. كل هذا حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن الكتاب من أصل أدومي أو تقليد لنص أدومي. ولم يُحدَّد، على وجه الدقة، تاريخ كتابة السفر، فالبيئة والظروف التي يتحدث عنها تشبه البيئة والظروف التي عاش فيها الآباء الأولون. ولذلك يُحتمَل أنه يرجع إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وإن كانت هناك آراء تذهب إلى أنه وُضع في تاريخ متأخر من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما بعد ذلك.

                وكان الكاهن الأعظم يتلو سفر أيوب في يوم الغفران. ولا يزال السفارد يقرأونه في التاسع من آب.

                سفر الأمثال
                Proverbs


                يُسمَّى «سفر الأمثال» بالعبرية «ميشاليم» وهو يضم مجموعة من الأمثـال، ويتـناول موضـوعات مختلفـة مثل: مخافة الإله، وطاعة الوالـدين، واحـترام المعلمـين، والنـهي عن المنكر، والأمر بالعدل، والصبر، وعدم الغش في الكيل، والتَبصُّر في الأمور. ويؤكد السفر أن الصالحين من العلماء سيُكافَأون وأن الصالحين من الجهلاء سيُجازون. والتوجه الأخلاقي للسفر فردي إنساني وليس قومياً. كما يخلو السفر من النهي عن عبادة الأوثان. وتُنسَب معظم أجزاء السفر إلى سليمان، كما تُنسَب أجزاء أخرى إلى مؤلفين آخرين حُدِّدت أسماء بعضهم ولم تُحدَّد أسماء البعض الآخر. ويشبه السفر كتب الحكم والأمثال المصرية، كما يُلاحَظ تأثره بأدب الأمثال الكنعاني والآشوري. ويختلف ترتيب مجمـوعات الأمثال في النسـخة العـبرية عن ترتيبها في الترجمة السبعينية، الأمر الذي يدل على تعدُّد المصادر.

                وينسب الحاخامات نشيد الأنشاد وسفر الأمثال وسفر الجامعة إلى سليمان، فيقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في تمام عقله وحكمته، والثالث في شيخوخته.

                سفر الجامعة
                Ecclesiastes


                ويُسمَّى بالعبرية «قوهيليت» أي «الجامعة»، وهو رابع المجلات الخمس، وأحد أسفار العهد القديم، يحاول واضعه أن يُعرِّف معنى الحياة وهدفها، ولكنه يرى أن كل شيء باطل وعبث، فيسقط في العدمية والحسية والقدرية، وشعاره هو "باطل الأباطيل، كل شيء باطل"، فكل شيء مقرَّر من قبل لا مجال للاختيار الإنساني. ويرى صاحب السفر أن الحكمة والمعرفة لا جدوى من ورائهما، فلا فرق بين الحيوان والإنسان، ولا حساب بعد الموت، ولذا فيوم الوفاة خير من يوم الميلاد، وأن يذهب الإنسان للعزاء خير من أن يذهب ليبارك مقدم مولود. وثمة تَماثُل في بعض الوجوه بين سفر الجامعة وبين الفلسفة اليونانية، إذ يقول بركليس: «إن الخير كل الخير ألا يولد الإنسـان أصلاً، ولكن ما يلي ذلك هو أن يمـوت الإنسان صغيراً». وقد ضُمِّن السفر في العهد القديم برغم رؤيته اللادينية. ويبدو أنه قد وُضع في القرن الثالث قبل الميلاد، وكُتب في أسلوب دقيق سهل ناصع، ولغته قريبة من عبرية المشناه. وينسب اليهود نشيد الأنشاد إلى سليمان، وكذلك سفر الأمثال وسفر الجامعة. ويقولون إنه كتب الأول في شبابه والثاني في تمام عقله وحكمته والثالث في شيخوخته. ويُقرأ سفر الجامعة في عيد المظال.

                سفر المزامير
                Psalms


                ويُسمَّى بالعبرية «تهيليم» أي «المزامير». سُمِّي «سفر المزامير» بهذا الاسم لأنه يحوي مجموعة من الأغاني تُنشَد بمصاحبة المزامير. وتُقسَّم المزامير إلى خمس مجموعات (1)، (42)، (78)، (90)، (107)، وتُختَم كل مجموعة بتسبيحة شكر. وقد نُسبت المزامير أساساً إلى داود، ولكن بعضها نُسب إلى سليمان أو مؤلفين آخرين، كما أن بعضها لا يُنسب إلى أحد. ويتناول هذا السفر موضوعات كثيرة، كالترانيم والأدعية والتسابيح، والتعبير عن ثقة وإيمان المؤمنين بإله الكون، وأغان تعبِّر عن الحزن والفرح، وأناشيد تُغنَّى في مناسبات مثل يوم الزفاف الملكي واعتلاء العرش وفي الأعياد وأغاني الأفراح والحروب. وكان بعض المزامير يُغنَّى بشكل جماعي والبعض الآخر يُغنَّى بشكل فردي. ويشبه كثير من المزامير القصائد الأوجاريتية، كما يظهر في المزمور رقم 104 أثر قصيدة أخناتون التي يخاطب فيها معبوده الشمس، وتوجد أيضاً تأثيرات بابلية. ولا يُعرَف على وجه الدقة متى أصبح إنشاد المزامير جزءاً من الصلوات في المعبد اليهودي، وإن كانت أغلبية الباحثين تميل إلى القول بأن ذلك تم بعد التهجير البابلي. وقد أصبح كثير من المزامير جُزءاً من الصلوات اليهودية والمسيحية، نظراً لجمال بعضها وبساطته. ولكن البعض الآخر يتسم بالنزعة القومية العنصرية (بل العسكرية أيضاً). وقد خُصِّصت بعض المزامير لمناسبات معيَّنة ولأيام محدَّدة. وفي التراث القبَّالي، يُنظَر إلى المزامير باعتبارها «أسلحة» في يد المؤمن يبيد بها أعداءه. ومن ناحية أخرى، فإن إصحاحات السفر مرتبة في النـص العـبري بطريقة تختلـف في هذا السفر عنها في الترجمة السبعينية.

                سفر نشيد الأنشاد
                Song of Songs


                بالعبرية «شيرهشيريم» أي «نشيد الأنشاد»، ويُسمَّى «نشيد الأنشاد» أحياناً «نشيد سليمان»، وهو أولى المجلات الخمس. يضم نشيد الأنشاد قصائد حب كُتبت على هيئة حوار، وقد فسرها البعض على أنها مسرحية شعرية ذات فصول ومناظر، شخصياتها هي الراعية شولاميت وبنات أورشليم والراعي الشاب، وتدور أحداثها حول غرام سليمان بشولاوميت التي كانت تحب الراعي بعد أن خطبت له، وبقيت وفية على حبها له إلى أن تزوجا في النهاية. ويرى البعض أنها مجرد أغاني حب وزفاف. وتتسم قصائد السفر بالإسراف في التعبير عن عاطفة الحب والحسية في الوصف الأمر الذي أثار الجدل حوله، وقد تم تفسيره تفسيراً رمزياً باعتباره نشيد زفاف جماعة يسرائيل إلى الإله، أو زفاف التوراة إلى جماعة يسرائيل. ويُعَد نشيد الأنشاد من أهم أسفار العهد القديم من منظور التراث القبَّالي لأنه يستخدم صوراً مجازية جنسية. ويُلاحَظ أن اسم الإله لم يُذكَر في هذا السفر إلا مرة واحدة (8/6): «اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك. لأن المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب».

                ويُنسَب نشيد الأنشاد إلى سليمان، كما يُنسَب إليه الأمثال والجامعة. ويقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في أيام العقل والحكمة، والثالث في شيخوخته.

                سفر المراثي (مراثي إرميا)
                Lamentations


                ثالثة المجلات الخمس (وهو بكلمة «إيخاه = كيف» العبرية ويضم مراثي أشبه بالبكائيات على الأطلال)، ويضم خمسة إصحاحات من المراثي تتناول هدم يهودا وأورشليم والهيكل على يد البابليين. وتقرر المراثي أن ما حدث من خراب ودمار لأورشليم، إنما هو نتيجة أعمال قاطنيها وشرورهم. ويبكي الشاعر احتلال أورشليم ورحيل حكامها، ويدعو إلى التوبة ويأمل في رحمة الإله وفي انتقامه من الأعداء، وأخيراً فإنه يستعطف الإله ويرجوه إرجاع المجد القديم. وتوجد كتب مراث للمدن المهدمة في الأدب السوري والأكادي، وكلها تتناول موضوعات مثل: المجاعة وتهديم المدينة والمعبد ونهب المدينة والأسر والنحيب، وهو ما يشير إلى احتمال تأثيرها في مراثي إرميا. ويُنشد السفر في التاسع من آب. ومن الواضح أن له أكثر من مؤلف .
                اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                http://www.rasoulallah.net/

                http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                http://almhalhal.maktoobblog.com/



                تعليق


                • #9
                  تفســــير العهـــــد القـــــديم
                  Exegesis of the Old Testament


                  بالعبرية «بيروشيم أوبيئوريم» = «تفسيرات وشروح»، وتُعَدُّ قضية التفسير مسألة أساسية بالنسبة للعهد القديم، نظراً لعدم اتساقه وتعدُّد مصادره وعدم تمازجها. وتفسير العهد القديم هو ما يشكل الشريعة الشفوية التي فاقت في أهميتها (عند اليهود) الشريعة المكتوبة المتمثلة في العهد القديم. وكان أول طرح للقضية في القرن الأول قبل الميلاد، حينما تحوَّلت قضية التفسير إلى قضية سياسية في الصراع الدائر بين الفريسيين والصدوقيين، إذ رأى الفريسيون أن الشريعة المكتوبة لا تكفي، وأنه لابد من إكمالهـا بالشريعة الشفوية، أي بالتفسير الحاخامي، الأمر الذي يعني في واقع الأمر توسيع نطاق المشاركة في إدارة حياة اليهود وصياغة رؤيتهم للكون بحيث لا يستأثر الكهنة (الصدوقيون) بمفردهم بهذه العملية. وقد قدَّم الغيورون، وخصوصاً حَمَلة الخناجر منهم، تفسيراً شيوعياً بدائياً لليهودية وجد صداه بين الجماهير اليهودية، فاندلع التمرد الأول ضد الرومان.

                  وبعد استقرار اليهودية الحاخامية، مر تفسير العهد القديم بعدة فترات. تمتد الفترة الأولى حتى القرن السادس الميلادي. وقد بدأت هذه الفترة مع تدوين العهد القديم نفسه، إذ صاحب ذلك ظهور كتب المدراش المختلفة (بشقيها الهالاخي والأجادي، أي التشريعي والوعظي القصصي) التي تمثل النواة الأولى للشريعة الشفوية. وقد وُضعت قواعد مختلفة للتفسير، وظهرت مدارس مختلفة، لكن من الواضح أن التفسير اكتسب من البداية مركزية وحل محل النص المقدَّس كمرجع نهائي. وقد ظل التفسير ينطلق من النص ويعود إليه في حلقات متداخـلة حيـث يفرض المفسـر الرأي الراجـح في تصوُّره.

                  وقد ظهرت مدارس مختلفة للتفسير، منها الحرفي والمباشر (بيشاط)، ومنها ما يحاول أن يغوص في المعنى الكامن (دراش)، ومنها الرمزي (ريميز)، وأخيراً هناك التفسير الذي يحاول أن يصل إلى المعنى الفلسفي أو اللاهوتي والباطني والغنوصي (سود)، وهو أيضاً التفسير الصوفي. وقد ساد النوعان الأول والثاني في بادئ الأمر، وفي هذه الفترة فسَّر فيلون العهد القديم تفسيراً مجازياً حاول فيه أن يوفق بين اليهـودية والفلسفـة اليونانية. ومن أشـهر مدارس التفسير، في هذه الفترة، بيت شماي وبيت هليل. وقد ظهرت الحلقات التلمودية، إبان هذه الفترة، في فلسطين وبابل ظهرت طبقات الشارحين المختلفة: الكتبة (سوفريم)، ومعلمي المشناه (تنائيم)، والشراح (أمورائيم)، والمفسرين (صابورائيم)، والفقهاء (جاؤنيم). ويرى بعض النقاد أن ترجمات العهد القديم، اليونانية (السبعينية) والسريانية (البشيطَّاه) واللاتينية (الفولجاتا)، هي في الواقع من قبيل التفسير إذ أن المترجمين كانوا يضيفون أحياناً كلمات هنا وهناك لتوضيح المعنى. كما أن فكرة الكتب الخارجية والخفية (أبوكريفا)، والكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا)، هي أيضاً من قبيل كتب التفسير التي تلقي الضوء على نصوص الكتاب المقدَّس. ومع نهاية هذه الفترة، جُمعت التفسيرات والفتاوى والشروح المختلفة في التلمود وفي كتب المدراش المختلفة. وبدأت التفسيرات الصوفية في الظهور، وخصوصاً تفسيرات قصة الخلق، كما ظهرت التأملات الخاصة بتركيب السماء والأرض.

                  أما في الفترة الثانية، فقد ظهرت طرق تفسير جديدة بتأثير الحضارة الإسلامية. وعلى سبيل المثال، ابتعد سعيد بن يوسف الفيومي عن التفسير الوعظي الملتصق بالنص، واشتهر باستخدام المعارف الدنيوية السائدة في عصره، وتطبيق طرق البحث الفلسفية واللغوية لتفسير العهد القديم. وقد تطورت هذه الطرق في إسبانيا، الإسلامية ثم المسيحية، حيث ظهرت جذور علم نقد العهد القديم. ووصل التفسير الفلسفي قمته في أعمال موسى بن ميمون الذي لم يكتب تفسيراً كاملاً للعهد القديم، ولكن أعماله الفلسفية تتضمن الكثير من التفسيرات للعديد من النصوص. وقد استخدم ابن ميمون معرفته بالفلسفة الإسلامية، والعلوم الدنيوية في الحضارة الإسلامية التي عاش في كنفها، ليقدم تفسيراً عقلانياً لا يستبعد الجوانب الرمزية، بل يستفيد من معرفة قوانين المنطق واللغة. أما في أوربا الغربية، فقد انحصر راشي (في القرن الحادي عشر) داخل نطاق التفسير الحرفي والمباشر، فلم يرجع إلا لكتب المدراش، وكانت تفسيراته ذات طابع لغوي ضيق.

                  ومما يجدر ذكره أن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي اكتسبت مركزية وأهمية في هذه الفترة. ويتبدى هذا في هيمنة الشريعة الشفوية التي تذهب إلى أن التفسير البشري أهم من الوحي الإلهي، ولذا نجد أن الحاخامات أعطوا أنفسهم الحق في إصدار تفسيرات وتشريعات لا تستند بالضرورة إلى النص وتهدف، في تصوُّرهم، إلى حماية الأوامر التوراتية. كما يُلاحَظ أن تفسيرات الحاخامات لها منزلة أعلى من النص نفسه، فإن تناقضت أحكامهم مع أحكام التوراة، أي مع كلمات الإله، فإن تفسيرهم يكون التفسير الملزم لأن التوراة، بعد أن أعطاها الإله للإنسان، أصبحت خاضعة لتفسيره. وقد جاء في التلمود أن الإله وافق على أنه يجب أن يُفسِّر الحاخامات ما قاله هو. وعلى كلٍّ تقرر الشريعة الشفوية أنها تَصدُر عن الإرادة الإلهية، شأنها في هذا شأن الشريعة المكتوبة، الأمر الذي عارضه السامريون والقرّاءون. وقد شهدت هذه الفترة هيمنة التلمود (ثمرة الشريعة الشـفوية) بحـيث حـل محـل العهـد القديم باعتباره أهم كتب اليهود المقدَّسـة.

                  ويُقسِّم التلمود اليهود وفق ترتيب هرمي حدّي يتناسب مقدار الصعود أوالهبوط فيه تناسباً طردياً مع مدى التعمق في التفسير ومن ثَمَّ درجة الحلول الإلهي في التفسير. فأقل اليهود منزلة هم الجهلاء الذين لا يعرفون العهد القديم ولا تفسيراته، يعلوهم أولئك الذين يعرفون العهد القديم، ثم أولئك الذين يعرفون المشناه والأجزاء الوعظية القصصية (الأجادية) منها أو تلك الموجودة في الجماراه. أما أعلى اليهود منزلة، فهم أولئك الذين يعرفون الأجزاء التشريعية (الهالاخية) من المشناه والجماره ويفسرونها. وهذا الترتيب الهرمي يبين مدى علاقة التفسير بالسلطة بحيث نجد أن الحاخامات (مفسري الشريعة)، أصحاب الشريعة الشفوية، يقفون على قمة الهرم. وقد سادت القرن الثامن عشر طريقة البيلبول، وهي طريقة في التفسير تهدف إلى إبراز براعة المفسر ومقدراته، بغض النظر عن مدى صدق تفسيره أو مطابقته للنص.

                  وقد انفصلت الدراسات التلمودية تماماً عن الواقع، أي واقع، بحيث انغمست في الاعتبارات المنطقية التي لا يربطها أي رابط مع مشاكل أعضاء الجماعات اليهودية وحياتهم. وعلى سبيل المثال، فمن الضروري ألا يتزوج الكاهن الأعظم إلا عذراء. ورغم هدم الهيكل وانتهاء العبادة القربانية، فإن التلمود والحاخامات استمروا في مناقشة أدق التفاصيل الخاصة بذلك التحريم، مثل محاولة تعريف العذراء. ويتساءل التلمود عن امرأة تمزَّق غشاء بكارتها بسبب حادث وقع لها، فتطرح أسئلة مثل: هل وقع الحادث قبل أو بعد سن الثالثة؟ وعن طريق جسم معدني أو خشبي؟ وهل وقع الحادث بسبب تَسلُّق شجرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل وقع الحادث أثناء صعودها أم أثناء نزولها من الشجرة؟ وذلك إلى جانب عشرات من الأسئلة الأخرى.

                  ومع الدراسات التلمودية، نشأت التفسيرات الصوفية القبَّالية في القرن الرابع عشر، جنباً إلى جنب، وأخذت في الانتشار حتى سادت تماماً مع بدايات القرن السابع عشر، واتبعت منهجاً حلولياً باطنياً في التفسير.
                  والحلولية لا توحد الإله والطبيعة وحسب، وإنما توحد الكل والجزء كذلك، ولذا تصبح المادة والأجزاء، داخل الإطار الحلولي، إما الجسد الإلهي نفسه أو مادة مقدَّسة مُستمَدة من الإله لها معنى رمزي باطني، ولكن المفارقة تكمن في أنها قد تصبح عكس ذلك تماماً، مجرد مادة خام يسبر عقل الإنسان المقدَّس أغوارها ويشكلها حسب هواه ويفرض عليها أي معنى باطني يعن له باعتبار أن الإنسان تَجسُّد للإله الذي حل فيه.

                  ويُلاحَظ أن علاقة الدال بالمدلول داخل الإطار الحلولي تضطرب تماماً وتعكس الموقفين المتناقضين نفسيهما، فقد يلتصق الدال بالمدلول (التصاق أو تَوحُّد التوراة مع الإله) ليصبح الدال أو النص (مثل جسد الإله) مقدَّساً ويشمل كل شيء، أو العكس إذ يصبح الدال ظاهرياً جافاً منفصلاً عن مدلوله (الحقيقي) ومن ثم يفرض المفسر عليه أي معنى يشاء (وهذا يعني موت النص وهيمنة المفسر). وفي التراث القبَّالي، كل شيء انعكاس لشيء آخر بسبب اختفاء الحدود في النسق الحلولي وذوبان الكل في الجزء واختفاء الثغرة، ولذا يمكن أن يدل أي دال على أي مدلول. كما أن الرمز، لهذا السبب، يصبح أحياناً هو المعنى نفسه (مثل الصليب أو الأيقونة). وثمة تشابه بين هذه الطريقة في التفسير وبين بعض أطروحات المدرسة التفكيكية التي أسسها جاك دريدا، وخصوصاً مفهوم «لا ديفيرانس La differance» ، وهي كلمة مركبة تفيد الاختلاف والإرجاء، أي أن كل دال مختلف عن أي دال آخر، ومع هذا فهو على صلة بكل الدوال الأخرى فمعناه النهائي مختلف ومرجأ، ولذا نعبِّر عن هذا المفهوم بكلمة «الإخترجلاف». وفي كلتا الحالتين، يحاول المفسر أن يصل إلى المعنى الباطني وهو الغنوص الكامل الذي يمكن التحكم من خلاله في الإله ومن ثم في الكون.

                  وتذهب إحدى مدارس التفسير القبَّالية إلى أن التوراة عبارة عن مجرد مادة خام (هيولي) يشكلها المفسر القبَّالي بالطريقة التي يراها حسـب هواه. وقد ذكر إسـحق لوريا أن للتوراة سـتمائة ألف معنى أو وجه، وهذا العدد هو نفسه عدد أعضاء جماعة يسرائيل الافتراضي في سيناء حين أوحى الإله إلى موسى بالتوراة. ومعنى هذا أن لكل يهودي تفسيره الخاص، أو كما يقول لوريا: كل يهودي يقرأ التوراة بطريقته، حسب «جذره». وقد اتبع القبَّاليون منهج الجماتريا في التفسير وهو حساب القيمة الرقمية للأعداد وتحوير معاني المفردات، بحيث يستنطقها المفسر بما يريد من مدلولات، الأمر الذي يعني أن النص المقدَّس ينطق بما يراه المفسر.

                  وقد تعمقت الحلولية وازداد المجال الدلالي اضطراباً مع هيمنة القبَّالاه التي يدور موقفها من التوراة حول موضوعين أساسيين: أولهما أن «التوراة» اسم للإله أو دال عليه. ويُنظَر في التراث اليهودي إلى هذا الاسم باعتباره أعلى تركيز للمقدرة الإلهية (وهي فكرة لها علاقة بالسحر وبالتأمل الباطني)، ومعنى ذلك أن التوراة ليست مجرد مادة خام بل لم تَعُد كتاباً ينقل معنىً أو مدلولاً محدداً، وإنما هي وحدة صوفية تهدف إلى التعبير عن قدرة الإله المتركزة في اسمه، وما القصص والمواعظ والمعاني التي ترد فيها سوى رداء خارجي للاسم المقدَّس. وحينما كان القبَّاليون يشيرون إلى أن التوراة هي «اسم الإله»، فإنهم لم يكونوا يعنون بذلك أنها اسم يُنطَق به، وإنما كانوا يعتقدون أنها الوجود الإلهي المتسامي نفسه، أي أنها هي نفسها اللوجوس أي تجسُّد الإله وليس مجرد دال علىه أو رسالة منه (في التفسيرات المسيحية يُنظَر إلى النص باعتباره قصة رمزية بسيطة، بالإنجليزية: أليجوريكال allegorical) ، أي أن علاقة المستوى الرمزي بالمستوى الواقعي علاقة مباشرة وواضحة، ومن ثم فأحداث القصة علامات تشير إلى مغزى أخلاقي رمزي آخر، فتكون أحداث القصة الدال الذي يشير إلى مدلول وراءه). وقد جاء في الأجاداه أن التوراة أداة الإله في خلق العالم، كما جاء في أحد كتب المدراش أن الإله نظر إلى التوراة ثم خلق العالم، أي أن القانون الذي يحكم العالم يوجد في التوراة، وهنا يتداخل التأمل مع السحر. وتعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله، بل هي جزء منه. ومن هنا، فإن الإشارة كانت إلى التوراة الكونية (توراة قيدوماه) باعتبارها أحد التجليات النورانية العشرة (سفيروت). ومن هنا، كان الحديث عن أن التوراة هي الإله، حروفها جسده ومعناها روحه.

                  أما الموضوع الثاني، فهو أن التوراة كيان عضوي حيّ، وهذه فكرة نابعة من الفكرة السابقة. فالتوراة اسم، ولكنه اسم على هيئة كيان حيّ، ولذا يشار إليها بأنها شجرة الحياة تظهر على هيئة إنسان. وهنا يتحد كل من التوراة وجماعة يسرائيل، فالتوراة التي تجسد الإله متوازية مع الشعب، والشعب هو الشخيناه التي هي أحد تجليات الإله. وبالتالي، فإن الشعب أحد التجليات النورانية، أي أنه جزء عضوي من الإله.

                  وقد امتد هذا التصور ليشمل فكرة التوراة الشفوية التي تعتبر الكل الذي يضم مختلف فتاوى الحاخامات. والتوراة الشفوية هي التي تكمل التوراة المكتوبة وتجعلها متعيِّنة، أي أن التوراتين تمثلان كلاًّ عضوياً، وكل منهما تكمل الأخرى ولا يمكن تصوُّر الواحدة منفصلة عن الأخرى. وقد قرن القبَّاليون التوراة المكتوبة بالتجلي النوراني المسمَّى «تفئيرت» (الإله من حيث هو عنصر مذكر)، في حين تكون التوراة الشفوية الوعاء المتلقي أو الشخيناه، أي جماعة يسرائيل (الإله من حيث هو عنصر مؤنث)، ومعنى هذا أن الإله والتوراة والشعب يكوِّنون كلاًّ عضوياً. والواقع أن مضامين الفكرة جادة وخطيرة للغاية، فالتوراة المكتوبة تكتسب مضمونها من خلال التوراة الشفوية وليس العكس. ويكتسب الإله هويته من خلال الشخيناه (الشعب) وليس العكس (وهنا يتبدَّى النمط الحلولي الكامن الذي يبدأ بحلول الإله في الإنسان، ولكنه يصبح دونه مرتبةً ومنزلةً ومعتمداً عليـه). والشيء نفسـه يُقال عن التوراتين، فالتوراة الشفوية (التي وضعها الإنسان) تفوق التوراة المكتوبة المرسلة من عند الإله. وقد قال نحمانيدس إنه جاء في الأجاداه أن التوراة كُتبت بنار سوداء على نار بيضاء، ولذا فإن حروف التوراة المكتوبة لا معنى لها دون المفسرين، فهم يكتشفون التوراة المكتوبة بالنار البيضاء الخفية التي لا يمكن إلا لكبار المفسرين قراءتها، إذ أن التوراة التي بين أيدينا مكتوبـة بالحروف السـوداء التي تعطي معنى مباشراً عادياً، أي أنه ليست هناك سوى التوراة الشفوية في نهاية الأمر. بل إن نحمانيدس يذهب إلى القول بأن كتابة التوراة كانت متصلة بدون أي فراغ بين الكلمات، أي أنها كلمة واحدة متصلة الأمر الذي يجعل من الممكن قراءتها: إما بالطريقة التقليدية كتاريخ ووصايا، أو بالطريقة الباطنية كأسماء للإله. وجاء أيضاً أن موسى تلقى التوراة التي تُقرأ كوصايا، ولكن التوراة الشفوية هي التي ستمكنه من قراءتها بوصفها أسماء للإله. وقال بعض القبَّاليين بنظرية الحرف الناقص، وهو حرف الشين الغائب أو الباطني الذي له أربع أسنان على عكس الشين العبرية الظاهرة التي لها ثـلاث أسـنان فقط، مثلـها مثـل الشين العربية. ويقول البعض الآخر إن هناك حرفاً ناقصاً من العبرية المعـروفة لنا، وسيُكشَف هذا الحـرف للعـوام في الدورة الكونية المقبلة، ولكنه يمكن أن يُكشَف للعالمين بالقبَّالاه في الدورة الكونية الحالية. وحسب هذه النظرية، فعند قراءة أوامر ونواهي التوراة، تكون النواهي مرتبطة بهذا الحرف الناقص، فإن وُضع في موضعه فإن الأوامر مثل «لا تسرق، لا تزن» ستتحول إلى دعوة للإباحية بمعنى «فلتسرق، ولتزن». وستظهر هذه التوراة الكاملة البيضاء في العصر المشيحاني.

                  وقد طوَّر القبَّاليون فكرة التوراتين على أسس جديدة، فآمنوا بوجود توراتين: توراة الخلق الظاهرة (توراه دى بريئاه)، وتوراة الفيض الباطنة (توراة دي أتسيلوت). وهاتان التوراتان، على عكس التوراة المكتوبة والشفوية، كلماتهما واحدة ولكن ثمة معنى خفياً وراء النص الظاهر لا يمكن أن يصل إليه سوى الماشيَّح ومن هم في منزلته. والواقع أن توراة الخلق هي توراة هذا العالم المكتوبة على رقائق الجلد والورق وتحوي الأوامر والنواهي والتحريمات. أما توراة الفيض الكاملة، فهي توراة عالم الخلاص؛ توراة الحرية وعدم التقيد بأية حدود أو أوامر، توراة الإباحة الكامنة وراء توراة الخلق. ولذا، فإن من يدرك كنهها، مثل شبتاي تسفي وفرانك، يتحلل تماماً من الشريعة.
                  ويمكن القول بأن ثمة نمطاً كامناً وراء كل التفسيرات الحلولية يفترض أن ثمة تساوياً بين الإله والتوراة والشعب بحيث يصبح الشعب إلهاً، وهو ما يؤدي إلى الإباحة التي تؤدي بدورها إلى الإباحية الكاملة. ويتحدث التراث القبَّالي عن حادثة طرد آدم من الجنة، وكيف أنه بعد أن أكل من شجرة المعرفة اكتشف عورته التي بدا له أنها خطيئة، ولذا اضطر إلى ارتداء ثوب ليستر به عورته (معرفته). وبالمثل، فإن الشخيناه التي تتجسد في التوراة، والتي ترافق جماعة يسرائيل في منفاها، بل تصبح هي نفسها كنيست يسرائيل، تصبح في حاجة إلى الثياب لكي تغطي بها أصلها الحقيقي. ومن ثم، فإنها ترتدي ملابس الحداد الكئيبة (الأمر الذي يوضح أثر فكرة السقوط المسيحية وفكرة الجسد من حيث هو خطيئة). والتوراة/الشخيناه ترتدي هي الأخرى الثياب التي تتمثل في الأوامر والنواهي التي ينبغي على اليهودي مراعاتها في عالم المنفى، أي في عالم السقوط (إذا استخدمنا المصطلح المسيحي). أما في عصر الخلاص أو العصر المشيحاني، فإن التوراة التي بين أيدينا (توراة شجرة المعرفة المغطاة برداء من الوصايا) سوف تتجرد من ملابسها لتظهر التوراة الحقيقية (توراة شجرة الحياة)، ومن ثم تكون العودة إلى الحالة الفردوسية (قبل السقوط) حين كان آدم وحواء يقفان عاريين دون حاجة إلى ثياب تستر عورتهما، أي أن كل شيء ينتهي في الفردوس ليسود الحلول الإلهي الكامل ويترسخ إلغاء الشريعة والإباحية والترخيصية، ويباح كل شيء.

                  ومعنى التوراة الخفي، الذي لا يدركه سوى العالمين بأسرار القبَّالاه، مرتبط بفكرة الدوائر الكونية التي تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام، وكل واحدة تتكون من وحدات من سبعة أعوام، والتاريخ يتكـون من سـبع دورات كونية، ويُقال إننا في ثاني هـذه الدورات. وفي كل دورة تأخذ التوراة شكلاً محدداً، والتوراة التي بين أيدي اليهود هي مجرد شكل للتوراة في دورتها الحالية، ولكن هذا الشكل ليس الشكل الأوحد أو النهائي لها، فلكل دورة كونية توراتها، ولكل توراة معنى مختلف تماماً.

                  ويؤكد التراث القبَّالي وجود درجات وطبقات للمفسرين تعبِّر عن درجات القداسة أو الحلول الإلهي، أهمها هو من «يعرف التوراة وجهاً لوجه». وقد جاء في التوراة أن موسى عرف الإله وجهاً لوجه، أي رآه رؤية العين. ولكن كلمة «عرف» تعني في العهد القديم، «نكح»: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين» (تكوين 4/1). وفي التراث اليهـودي الصوفي، يُقال إن موسـى عرف الشخيناه، أي الحضرة الإلهية، بمعنى أنه ضاجعها ونكحها. وكذلك تفسير التوراة، فمن يعرفها وجهاً لوجه يكون كمن نكحها. وتصور القبَّالاه مراحل التفسير مستخدمة هذه الصورة المجازية الجنسية، فالعابد يدخل مخدع حبيبته التوراة، فتقف من خلف حجاب كثيف، وكلما تَعمَّق في القراءة وغاص في المعنى كشفت له عن نفسها حتى تتجرد تماماً من ملابسها وتقف عارية أمامه، فيقف هو أمامها وجهاً لوجه فيما يشبه الزواج المقدَّس. وهذا هو أساس جميع التهويمات الفكرية والجنسية (فلنقارن هذا بفكرة لذة النص عند رولاند بارت، ولنتذكر أن الصورة المجازية الجنسية أساسية في النسق الحلولي وفي فلسفة ما بعد الحداثة).

                  ومما يجدر ذكره أن كتب القبَّالاه (مثل الباهير والزوهار وكتابات لوريا)، وكلها كتب تفسير للعهد القديم، حلت بين الجماهير وصغار الحاخامات محل التلمود وأصبحت في واقع الأمر الشريعة الشفوية. وكان هذا هو الوضع السائد حين لاح العصر الحديث في الغرب وقام مندلسون بترجمة العهد القديم وكتب مع بعض زملائه تعليقه الشهير عليه ، وهو ما يُعرَف باسم «البيئور». وقد استفاد مندلسون من التفاسير القديمة، ولكنه وَجَّه الأنظار نحو المعرفة الدنيوية على حساب التقاليد. وبعد ذلك، اتسع نطاق نقد العهد القديم، وظهر ما يُسمَّى «علم اليهـودية» والتفسـيرات الحديثـة المختلفة التي تستفيد من المعارف الدنيوية، مثل علم النفس وعلم الأنثربولوجيا.
                  ومن أهم الاتجاهات في التفسير ما يمكن تسميته «الاتجاه الوجودي الحلولي» عند مارتن بوبر، وهو اتجاه يرى أن ما يهم ليس النص في حد ذاته وإنما المواجهة بين الإله والإنسان (أو بين الإله واليهودي)، بمعنى أن النص (كمادة خام له ستمائة ألف معنى) يختفي لتظهر بدلاً منه ذات المفسر، الأمر الذي يعني موت النص ومولد الناقد وهيمنته. وهذا الموقف لا يختلف في أساسياته عن التفسيرات القبَّالية التي تفرض أي معنى باطني على النص، والتي تقتل المؤلف (الإله) وتُعلي إرادة المفسر.

                  لكل ما تقدَّم، يصبح من المهم جداً، عند قراءة نص توراتي أو تلمودي، أن نحدِّد التفسير المقصود. ولنأخذ، على سبيل المثال، العبارة التي وردت في التلمود حيث يقول الإله: «ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة»، فهل المقصود بهذا التوراة الناقصة أم أن المقصود التوراة الكاملة، توراة الخلق أم توراة الفيض، أم أن المقصود أقوال الحاخامات، أي التوراة الشفوية؟ وعلى كلٍّ، فإن معنى كلمة «توراة» (كما بيَّنا) متداخل ومتضارب في المجال الدلالي، ولذا فإن الجملة في حد ذاتها لا تعني شيئاً، والمهم هو تفسير المقصود من كلمة «توراة».

                  والشيء نفسه ينطبق على أي اقتباس من التوراة، فعبارة مثل تلك التي ترد في الشماع «الإله واحد» تحمل معاني مختلفة بعضها حلولي مغرق في الحلولية والشرك لا علاقة له بالتوحيد. فحينما يقولها القبَّالي بمفهوم التجليات العشرة النورانية، فإنه يعني شيئاً مختلفاً تماماً عما يقصد إليه الحاخام الإصلاحي أو الأرثوذكسي. وإن اقتبس أحد عبارة من تلك العبارات التي تحضه على الإحسان إلى «أخيك»، فإن الأخ في كثير من التفسيرات تعني «اليهودي» وحسب.والوصية الخاصة بترك لقاط الحصيد «للمسكين والغريب» (لاويين 19/9، 10)، تُفسَّر بأن المقصود المسكين اليهودي والغريب اليهودي وحسب. بل أية إشارة إلى الإنسان أو الرجل هي، حسب كثير من التفسيرات، إشارة إلى اليهودي وحده.

                  ومن أهم التطورات في تاريخ اليهودية ظهور ما يمكن تسميته «حلولية شحوب الإله» وهي مرحلة تالية لمرحلة وحدة الوجود الروحية، فبعـد الحـلول الكامل يتوحد الإله مع المادة (الأرض المقدَّسة ـ الشعب المقدَّس) فيَضمُر ويشحُب ويصبح لا أهمية له بل يموت داخلها (وهذا يُشكل مرحلة الانتقال من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وهي حلولية بدون إله)، وبذا تصبح المادة مصدر القداسة. وقد تبدَّى هذا في الفكر الديني اليهودي حين وصف أحد زعماء جوش إيمونيم الجيش الإسرائيلي بأنه القداسة الكاملة (مادة مقدَّسة دون مرجعية إلهية متجاوزة). وقد أخذ بن جوريون الخطوة المنطقية وأعلن أن الجيش الإسرائيلي خير مفسر للتوراة، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للقداسة الإسرائيلية المسلحة لكي تفرض التفسير الذي تراه. وعلى كلٍّ، فإن هذا أمر مفهوم تماماً إذا كانت الكلمات دالاً بدون مدلول، أو كان مدلولها مرجئاً ومؤجلاً (على حد قول دريدا)، ذلك لأن ما يحدد المعنى في هذه الحالة هو القوات المسلحة أو المخابرات العسكرية، فهي وحدها القادرة على إغلاق النسق المتبعثر وتزويده بالمركز والمعنى، وهي وحدها القادرة على أن تحوِّل كلمة «فلسطين» إلى «إرتس يسرائيل» بحيث يصبح الدال (فلسطين) يشير إلى مدلولات أخرى يرتضيها صاحب السلاح الأقوى.

                  ويُلاحَظ أن المدارس المسيحية لتفسير العهد القديم تختلف في منهجها عن المدارس اليهودية، فهي تميل إلى التفسير المجازي، أو تميل إلى التفسير الرمزي الذي يفترض وجود علاقة بين الرمز ومجاله الدلالي، على عكس كثير من المدارس اليهودية التي إما أن ترتبط بالتفسيرالحرفي أو تتركه تماماً وتفصل الدال عن المدلول تماماً. ويُلاحَظ أن كثيراً من مدارس التفسير البروتستانتية (المتطرفة) يأخذ بتفسير حرفي لنصوص العهد القديم ويفرض عليه معنىً صهيونياً. وقد تأثر كثير من النقاد اليهود، من دعاة المدرسة التفكيكية، بالقبَّالاه اللوريانية وبطرق التفسير القبَّالية. ولهارولد بلوم كتاب بعنوان القبَّالاه والنقد.

                  نقـــــد العهـــــــــد القــــــــديم
                  (Biblical Criticism (of the Old Testament


                  جـاء في التلمـود (بابا باترا، 14ب ـ 15أ) أن موسى هو الذي كتب، أي حرَّر ودوَّن التوراة (أسفار موسى الخمسة)، والجزء الخاص عن بلعام وسفر أيوب، وأن يوشع بن نون هو كاتب السفر المسمَّى باسمه وآخر ثماني مقطوعات في أسفار موسى الخمسة، وأن صموئيل كتب السفر المسمَّى باسمه وسفري القضاة وراعوث، وأن داود هو صاحب المزامير وقد ضمنها كتابات من سبقوه مثل آدم وإبراهيم، وأن إرميا كتب السفر المسمَّى باسمه وكتب الملوك والمراثي، وأن حزقيال كتب سفر أشعياء والأمثال ونشيد الأنشاد وسفر الجامعة، وأن أعضاء المجمع الكبير كتبوا (أي حرروا) سفر حزقيال وأسفار الاثني عشر نبياً وسفر دانيال وسفر إستير، وأن عزرا كتب السفر المسمَّى باسمه.

                  وقد قسَّم علماء التلمود المتناقضات في العهد القديم إلى ما يلي:

                  أ ) متناقضات تامة، تناقض المقطوعة منها الأخرى تماماً (بالعبرية: هحخحاشوت).

                  ب) ما يثير الدهشة (بالعبرية: تموهوت) مثل خلق الطير من الماء.

                  جـ) المتقدم والمتأخر (بالعبرية: موقدام أو مؤْحَر)، أي عدم ترتيب المادة التاريخية في العهد القديم.


                  وفي العصر الحديث، يذهب علماء العهد القديم إلى أن هذا الرأي يتنافى مع القرائن الموجودة داخل النصوص نفسها. فعلى سبيل المثال، يُلاحَظ أنه ورد في نهاية سفر التثنية: «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسـب قـول الرب» (34/5). ثم يسـتمر السفر، حتى نهايته، في الحديث عن موت موسى. وجاء في سفر التكوين ما يلي: «وهؤلاء هم الملوك الذين ُمِّلكوا في أرض أدوم قبلما مَلَكَ ملكٌ لبني يسرائيل» (تكوين 36/31)، أي أن كاتب هذه الفقرة عاش بعد أن عرفت جماعة يسرائيل نظام الملكية، ولم يحدث ذلك إلا بعد عدة قرون من موت موسى. كما أن التوراة كُتبت بالعبرية، ولم يكن موسى الذي عاش في مصر يتحدث العبرية، وإنما كان في الأغلب يتحدث لغة المصريين القدامى أو كان يتحدث لغة كنعانية متأثرة بالمصرية القديمة.

                  لكل هذا، ظهر ما يُسمَّى «نقد العهد القديم»، وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة نصوص العهد القديم باعتبارها نصوصاً تاريخية على الدارس أن يُطبِّق عليها كل المعايير التي يطبقها على أية نصوص تاريخية أخرى. كما يهدف إلى اكتشاف أسباب التناقضات التي قد توجد بين نص وآخر، وعدم الاتساق فيما بينها، ثم محاولة تفسيرها في ضوء المعطيات التاريخية. ويلجأ علم نقد العهد القديم إلى تحليل النصوص المختلفة ليصل إلى عناصرها الأساسية، وإلى الربط بينها لإيضاح تتابعها التاريخي بحيث تلقي الضوء على تطوُّر العبرانيين وعقائدهم منذ مراحلهم البدائية حتى اكتمال النسق الديني اليهودي، أي أن نقد العهد القديم هو العلم الذي يهدف إلى إبراز وتوضيح سائر المشاكل الخاصة بنصوص العهد القديم، وبالتالي وضع أساس للدراسات الأخرى، الاجتماعية والتاريخية والدينية، التي تتناول العصور التي تم فيها وضع العهد القديم وتدوينه.

                  وقديماً كان يتم التمييز بين الدراسة النقدية أو الأدبية (العليا) والدراسة النقدية (الدنيا) أو الأولية. فبينما كانت الدراسة الأولية تختص بدراسة النص وحسب، فإن الدراسة العليا كانت تركز على تحليل مؤلف النص وظروفه التاريخية والمغزى من مؤلفه. ولكن الجهد يتجه الآن نحو مزج الدراستين، وبالتالي قد تؤدي الدراسة التاريخية أو الأدبية (العليا) لنـصٍّ ما إلى إعـادة صياغة كلمات النـص وطريقة نطقها (الدراسة الأولية)، والعكس صحيح، بمعنى أن اكتشاف طريقة جديدة لنطق بعض الكلمات قد يلقي ضوءاً على مؤلف النص وتاريخه.

                  وقد أدرك الحاخامات، منذ البداية، وجود التناقضات وعدم الإتساق داخل النصوص التوراتية، ولكن جل همهم انصرف إلى محاولة تفسيرها. فعلى سبيل المثال، عرف الحاخامات أن الإصحاح رقم 34 في سفر التثنية لا يمكن أن يكون موسى قد كتبه، ففُسِّر على أساس أنه كتبه وهو يموت، وأن الإله أملى عليه هذه الكلمات، وأنها كُتبت بروح النبوة. وقد أدرك الحاخامات كذلك، منذ أيام الترجمة السبعينية، أن عدد السنين التي تفصل بين لاوي وموسى لا تصل إلى 430 سنة (حسبما ورد في سفر الخروج) ففسروها بأن الفترة الزمنية بدأت مع مولد إسحق.

                  وقد بدأ نقد العهد القديم على يد المؤلف اليهودي القرّائي (حيوي البلخي) الذي عاش في القرن التاسع. وقد ظهرت محاولات متفرقة هنا وهناك، أهمها دراسة إسحق أبرابانيل (1447 ـ 1508) الذي قدَّم أول دراسة علمية لنصوص العهد القديم. كما أن ابن حزم الأندلسي وبعض الدارسين المسلمين القدامى لاحظوا أن ما ينسبه العهد القديم إلى الأنبياء من جرائم، يُعدُّ دخيلاً على النص الأصلي. ولكن العلم نفسه، بالمعنى الحديث، بدأ مع الفيلسوف اليهودي إسبينوزا الذي قال بأن أسفار موسى ليست من تأليف موسى، وأن عزرا مؤلفها الحقيقي. وبعد ذلك، تتالى العلماء الغربيون في دراسة العهد القديم من وجهة نظر نقدية. وكان أول الكتب لجان إستروك الأستاذ في جامعة باريس عام 1753، وتبعه كتاب ج. آيتشورن عام 1779، وهناك آخرون بينوا مصادر العهد القديم المختلفة، ولم يبق سوى تبيان تتاليها التاريخي، وهو ما أنجزه فون جراف عام 1866، وفلهاوزن (1876ـ 1878)، وكونهيل. ويُلاحَظ أن هـؤلاء الثلاثة من أشـهر علماء الإسلاميات في الغرب، ولابد أن النقد القرآني للتحريفات التي وردت في التوراة، كان دافعاً لدراستهم النقدية. وقد انضم إليهم آخرون، من بينهم جايجر (أحد مؤسسي اليهودية الإصلاحية) وجراييتس وكاوفمان وكوهلر. وظهر علم اليهودية الذي يحاول اكتشاف الأسس التاريخية للنصوص المقدَّسة.

                  وقد استخدم نقاد العهد القديم في دراساتهم المعايير التالية:

                  1 ـ التناقض في الأجزاء التشريعية: وكما هو واضح في الحكمة من فرض شريعة السبت، فقد ورد مرة أنه فُرض "لأن الرب استراح في اليوم السابع بعد أن خلق السماوات والأرض" (خروج 20/11). أما في سفر التثنية، فلا يوجد ذكر للخلق، وإنما الإشارة إلى الخروج من مصر (تثنية 5/12 ـ 15).

                  2 ـ التناقض في القصص: فقد ورد في سفر التثنية (2/4) أن العبرانيين مرُّوا بأرض الأدوميين (بني عيسو) في طريقهم إلى كنعان. أما في سفر العدد (20/21)، فقد ورد شيء مخالف تماماً.

                  3 ـ التناقض بين ما جاء في الشرائع وما ورد في القصص: فسفر التثنية (12/5، 6) يصر على ضرورة تقديم القرابين في مذبح مركزي، ومع هذا قدَّم إلياهو قرابين على جبل الكرمل (ملوك أول 18/19 - 37). وتؤكد أسفار موسى الخمسة أهمية تقديم القرابين خلال سنوات التيه، بينما يؤكـد النبي عامـوس أن مثل هـذه القرابين لم تُقدَّم (عاموس 5/25). وينكر إرميا أن الإله أمر بمثل هذه القرابين ( إرميا 7/22).

                  4 ـ تباين الأسلوب الأدبي: وقد توصَّل الباحثون، بعد دراسة الاختلافات الواضحة في مفردات النصوص وأفكارها، إلى أن هذه النصوص تعود إلى فترات زمنية مختلفة. فسفر الخروج يعلن أن الآباء يعرفون الإله باسم «شدَّاي»، وهو ما يساعد على تحديد هذه النصوص وتحديد تاريخها، وأنها تعود إلى المصدر نفسه. كما أن اختلاف الخلفيات التاريخية في سفر أشعياء والمزامير يُسهِّل عملية معرفة المؤلف وتاريخ التأليف.

                  5 ـ استخدام ترجمات العهد القديم المختلفة: يجد النقاد أن الترجمات القديمة للعهد القديم تظهر فيها نصوص أو مقطوعات ليست في النص العبري، كما وجدوا أيضاً ما هو مخالف. فالترجمة السبعينية لسفر أيوب (38/2) تضم فقرة لا توجد في النص العبري تُغيِّر تفسير السفر تماماً.

                  6 ـ الاكتشافات الأثرية: يدرس ناقدو العهد القديم الآثار والمدونات الآشورية والبابلية والمصرية ليحصلوا على المعلومات التي تلقي ضوءاً جديداً على التاريخ. وتتفق هذه المدونات مع الرواية التوراتية أحياناً، وأحياناً تتناقض معها. وقد ألقت عقائد أمم الشرق الأدنى القديم الكثير من الضـوء على عقائد العبرانيين القــدامى، وعلى تطـوُّر العقيدة اليهودية.

                  وقد اتفق نقاد العهد القديم على أن أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع بن نون ترتد إلى مصادر (بالإنجليزية: سورسيز (Sources أربعة أساسية:

                  1 ـ المصدر اليهوي: مصدر (J) وهذا هو الحرف الأول من كلمة «Jahwist» نسبة إلى «جهوفاه». ومن الواضح أن هذا المصدر يحمل اسم الإله يهوه، ويرجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ويُرجعه البعض الآخر إلى القرن العاشر. وقد سُمِّي «مصدر يهوه» لأنه يستخدم هذا الاسم للإشارة إلى الإله، وكان رواته من المملكة الجنوبية. والواقع أن تصوُّر الإله في هذا المصدر قَبَلي ضيق يتداخل فيه المقدَّس والزمني والمطلق والنسبي (فهو حلولي وثني)، والإله سلطته محدودة بمكان خاص باليهود، وهو يتعصب لليهود ويناصرهم على أعدائهم ويتجلى في تاريخهم، وهو ذو سمات بشرية عديدة. فالإله لا يختلف كثيراً عن مخلوقاته، فهو يغار منهم، ويخشى أن يصبح الإنسان عاقلاً أو قوياً، وهو يصارع يعقوب ولكن يعقوب يهزمه. كما أن قيمه الأخلاقية ليست سامية ولا عالمية، فإبراهيم يكذب على فرعون ليضمن بقاءه، ويجعل زوجته تدَّعي أنها أخته «ليكون لي خير بسببك» (تكوين 12/13)، فهي امرأة حسـنة المنـظر. وبالفعل «رآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فـرعون، فأُخـذت المرأة إلى بيـت فرعون. فصنع إلى أبرام خيراً بسببها» و«صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال» (تكوين 12/11 ـ 16). ويعقوب يخدع إسحق وعيسو، ويهودا يضاجع زوجة ابنه، وهكذا.
                  وقصص هذا المصدر متأثرة بالأدب الشعبي والقصص الديني للشعوب التي عاش العبرانيون بينها، سواء في الفكرة أو الحبكة القصصية. ويؤكد هذا المصدر أهمية سبط يهودا، ويرى أن عصر داود هو العصر الذهبي الذي تحقَّق فيه الثالوث الحلولي، إذ ارتبط الإله بالشعب بالأرض في رباط حلولي عضوي. وهذا المصدر هو الذي يشير إلى أرض كنعان باعتبارها أرض يسرائيل.

                  2 ـ المصدر الإلوهيمي: مصدر (E) نسبة إلى «إلوهيم Elohim». ويحمل هذا المصدر اسم «إلوهيم» باعتباره اسم الإله، ويتحاشى اسم «يهوه»، وقد أُلِّف حوالي 770 ق.م في المملكة الشمالية. وهذا المصدر يتسم بالرؤية التوحيدية أو شبه التوحيدية للإله، فهو يصوِّرالإله في صورة أسمى مما يفعل المصدر اليهوي، فهو الإله الذي يقول «كن فيكون» ويتسامى عن صفات وعواطف البشر. وهو إله شامل قد تكون له علاقة خاصة بشعبه، ولكنها علاقة لا تنتقص من عالميته، كما أن ثمة شعوراً دينياً عميقاً بطاعة الإله والولاء له. ويُلاحَظ على هذا المصدر تأكيد البُعد الأخلاقي بكل وضوح على حساب الجانب الشعائري. كما تسيطر عليه رؤية الأنبياء إذ هناك أحكام مشابهة لأحكام الأنبياء. وهو ينفرد بنسبة النبوة إلى إبراهيم ويوسف وموسى (ولذا، فإن كثيراً من النقاد يعتبرون المصدر الإلوهيمي الإطار النظري لحركة النبوة). والواقع أن المصدر الإلوهيمي يفتح الباب واسعاً أمام أعضاء جماعة يسرائيل لإعلان توبتهم وندمهم على ما اقترفوه من أخطاء، وعن طريق التوبة والندم يحدث العفو الإلهي. والمصدر الإلوهيمي ينظر إلى المصريين نظرة أكثر تسامحاً. ويُعنى هذا المصدر بسرد التاريخ الديني لجماعة يسرائيل، كما أنه يعكس بيئة المملكة الشمالية. وقد استقى المصدر قصصه من قبيلة أفرايم.

                  3 ـ مصدر التثنية: مصدر (D) نسبة إلى «ديتيرونومي Deuteronomy» أو تثنية الشريعة. وقد أُدخل هذا المصدر في صميم العهد القديم عام 621ق.م. ويحاول المصدر التوفيق بين المصدرين الإلوهيمي واليهوي، وبين تراث الشمال وتراث الجنوب. وكذلك بين الفكر النبوي والفكر الكهنوتي المتعارضين، فالأول يركز على الجوانب الروحية، والثاني يركز على العبادة القربانية، ولذا فإن هذا المصدر يحتفظ بالاتجاه القومي العنصري (اليهوي) والاتجاه العالمي المثالي (الإلوهيمي). كما أن هذا المصدر صادر عن وسط مثقف مرتبط بالإصلاح الديني (التثنوي) الذي حدث عام 622 ق.م، حين أرسل الملك يوشيا (641 ـ 611 ق.م)، أي بعد وفاة موسى بما يقرب من سبعمائة عام، أحد أتباعه إلى الكاهن الأعظم، ليحسب النقود التي دفعها زوار الهيكل. فوجد «توراة موسى» في بيت الإله وندموا على أنهم كانوا قد نسوها. ويبدو أن كاتب هذا السفر هو أحد الكهنة.

                  والواقع أن النص كان يمثل رد فعل للغزو الثقافي الآشوري الذي اكتسح العبرانيين آنذاك فانصرفوا عن عبادة يهوه، ولذا كان لابد للكهنة والأنبياء أن يوحدوا صفوفهم، وهو ما ينجزه هذا المصدر الذي يشـبه أسلـوبه أسـلوب إرمـيا الذي عــاش في ذلك الوقت. كما أنه يصر على أن التضحية ليهوه لابد أن تتم في مكان واحد يختاره هو، أي الهيكل، وهو الأمر الذي يتفق مع إصلاحات يوشيا ومع أهداف الكهنة، كما يتفق مع محاولة تقوية الدولة من خلال العبادة القربانية المركزية.

                  4 ـ المصدر الكهنوتي (حواشي الكهنة): مصدر (P) من كلمة «بريستلي Priestly»، أي الكهنوتي ويعـود تاريخـه إلى ما بعـد فترة التهجير البابلي. ويضم أساساً قوانين اللاويين والإحصاءات والأرقام التي وردت في أسفار موسى الخمسة، كما يضم بعض الروايات التي وردت في سفر التكوين والخروج والعَدد. ويستخدم هذا المصدر القصص إطاراً للشرائع، بهدف إعطاء القوانين والشرائع صفة القدسية. والإله في هذا المصدر هو خالق كل شيء، كائن وحاضر في كل آن ومكان، وفي كل شيء. ومؤلفو هذا المصدر يتمتعون بثقافة عالية، ولذا فهو يتسم بالصياغات المنطقية. كما أن أسلوبهم دقيق ونمطي وجاف، ويظهر فيه التمييز بين الكهنة واللاويين، ويرد فيه أول ذكر للأعياد ووصف تفصيلي لخيمة الاجتماع.

                  وقد امتزج المصدران، اليهوي والإلوهيمي، حوالي عام 650 ق.م، ولذا يشار أحياناً إلى المصدر (JE) الواحد، أي المصدر اليهوي الإلوهيمي. كما توجد مصادر سابقة أخرى، مثل مصدر (H) نسبة إلى «هولينيس Holiness» ويُطلَق عليه «مصدر القداسة». ويُنسَب إلى مجموعة من الكتاب أثناء السبي البابلي، وقد حاولوا أن يعطوا طابعاً شخصياً للإيمان الديني يَبعُد عن الشـعائر البرانيـة الجافة، وقد تبنوا مجموعة من المبادئ الأخلاقية العالية. وأخيراً، فإن هناك مصدر (K) من «كينايت Kenite»، أي «المصدر القيني»، ويُقـال إنه أقدم المصـادر على الإطلاق، ولكن أجزاءً كثيرةً منه فُقدت. وقد استفاد منه كتَّاب المصدرين اليهودي والإلوهيمي وحذفا منه الكثير. ويذكر الدكتور محمد خليفة حسن أحمد في كتابه علاقة الإسلام باليهودية أن ثمة مصادر أخرى للتوراة غير هذه المصادر الأربعة الأساسية، ولكنها تقل عنها كثيراً في الأهمية وفي وجودها داخل النص. وقد اتجه بعض النقاد إلى ضم هذه المصادر. بل مال بعضهم إلى تقسيم المصدر الواحد إلى عدة مصادر داخلية والتمييز بينها بإعطاء رقم معيَّن كأن نقول مثلاً يهوي1، يهوي2، يهوي3 أو إلوهيمي2، إلوهيمي3، وهكذا.

                  وهناك مصدر مهم لم يتمكن النقاد من ضمه بسهولة إلى مادة المصادر الأربعـة الرئيسـية. ولهذا، فقـد اتجه بعض النقاد، مثل إيسفلت، إلى إعطائه علامة تميِّزه عن غيره. ووقع اختيار إيسفلت على الرمز (L) للدلالة على مادة هذا المصدر. وهذا الرمز اختصار لكلمة «لاي Lay» التي نترجمها هنا إلى كلمة «العامي» أو «غير الكهنوتي»، وقد اعتبر إيسفلت هذا المصدر أقدم المصادر على الإطلاق لاحتوائه على عناصر تبدو أصلية وبدائية في آن واحد. منها، مثلاً، نظرته إلى الإنسان القديم بوصفه بدوياً، وإلى البشرية آنذاك باعتبارها جماعةً من البدو، وإلى جماعة يسرائيل باعتبارها جماعةً بدويةً، وهي صورة لا نجدها في بقية المصادر. كما أن تصوير هذا المصدر للألوهية تصوير تجسيدي تشبيهي.

                  ويجب ألا تُفسَّر كلمة «مصدر» بأنها نص كتبه مؤلف واحد، فقد يكون نصاً كتبته مجموعة من المؤلفين في فترة زمنية واحدة. وقد تداخلت المصادر كالطبقات الجيولوجية دون أي تمازج، وهو ما يفسر وجود التناقضات المختلفة، وخصوصاً في مفاهيم محورية مثل مفهوم الخالق، إذ تتفاوت بين الحلولية ذات النزعة الأخلاقية القومية والتوحيدية ذات النزعة الأخلاقية العالمية. ويتضح تعدُّد المصادر وعدم تمازجها بصورة كبيرة في أسفار موسى الخمسة، ثم يطَّرد التناقض في أسفار القضاة والملوك والأيام. ونجد أن أسفار الأنبياء عادةً ما تضم خطبهم ونبوءاتهم وتتسم بكثير من الاتساق ماعدا سفري أشعياء وزكريا. أما كتب الحكم والأمثال، فمصادرها متنوعة وكثيرة ومتناقضة.

                  وتعبير «تكستوال ويتنسيز ****ual witnesses» يشير إلى تلك البقايا (الترسبات) التي وردت من عصور مختلفة لتدلنا على فترة (أو فترات) زمنية لم يكن كل مصدر فيها قد تبلور بعده وتُعَدُّ لفيفة المعبد (مجيلات هامقدش) من تلك الشواهد، كما أن مخطوطات قمران والترجمة السبعينية تُعَدُّ هي الأخرى دليلاً على أن هناك حالة من الاضطراب في وضع المصادر سادت بين المحررين للتوصل إلى قدر من المواءمة بين النصوص (بالإنجليزية: هارمونيست تكست harmonist ****، أي «نص متوائم»). وهذه المصادر هي النص في حالة سديمية. فمخطوطات قمران هي النص في الحالة الجنينية ومرحلة النص الماسوري هي المرحلة الناضجة.

                  والواقع أن أثر نقد العهد القديم في اليهودية المعاصرة واضح بيِّن، فاليهودية الإصلاحية تنطلق من تَقبُّل نتائجه، فهي تنطلق من دنيوية أو نسبية أو تاريخية أو زمنية التراث الديني اليهودي بأسره، وهذا ما يعني أنه ليس مرسلاً من الإله وإنما نتيجة قريحة عقل الإنسان، وربما بإلهام (وليس بوحي) من الإله. ولا تختلف اليهودية المحافظة أو التجـديدية عن اليهـودية الإصلاحيـة في هـذه الناحيــة إلا من ناحية الدرجة.

                  كما أن الصهيونية وسائر التيارات التي تعرِّف اليهودية بأنها انتماء إثني أو عرْقي، وليس دينياً، تستند إلى معطيات نقد العهد القديم الذي يحوِّل كتب اليهود المقدَّسة إلى شكل من أشكال الفلكلور. واليهودية الأرثوذكسية وحدها هي التي ترفض نقد العهد القديم.

                  أما الفكر المسيحي، فقد استفاد بنقد العهد القديم في نقده اليهودية، إذ يشير كثير من المفكرين الدينيين المسيحيين إلى أن اليهودية تحوي عناصر وتراكمات وثنية عديدة حاول الأنبياء القضاء عليها وتطهير النسق الديني اليهودي منها، وقد نجحوا في ذلك بعض الوقت. ولكن اليهودية سقطت مرة أخرى في الوثنية والعبادة القربانية، والالتفاف حول الهيكل، والانغماس في النزعة العرْقية. ولذا، فلم يكن بالإمكان إنقاذ الجوهر الديني الحق لليهودية إلا عن طريق المسيحية.

                  الكتب الخارجية أو الكتب الخفية (أبوكريفا)
                  Apocrypha


                  «الكتب الخارجية»، كمصطلح، يقابل كلمة «أبوكريفا»، وهي كلمة يونانية تعني «الخفي» أو «غير الموثوقة» أو «غير المعترف به». وقد كان هناك نوعان من المعرفة الدينية عند اليونان: النوع الأول يشمل عقائد وطقوساً عامة، بإمكان جميع طبقات البشر معرفتها وممارستها. أما النوع الثاني، فيشمل حقائق عميقة غامضة لا يمكن أن يفهمها أو يدرك كُنهها إلا قلة من الخاصة، ولذلك بقيت مخفاة عن العامة. ومصطلح «أبوكريفا» يشير إلى النصوص المقدَّسة غير القانونية، التي لم يعترف بها اليهود ضمن أسفار العهد القديم، ولم تُسجَّل باعتبارها أجزاء معتمدة منه، ولا تبلغ نفس درجته من القداسة عندهم. والواقع أن كلمة «أبوكريفا» تسمية مغلوطة، فالكتب التي أوصى الحاخامات بإخفائها، أي «سيفاريم جينوزيم» (دانيال 11/43) الكنوز المخفية عن العامة (على أن يطلع عليها الخاصة وحدهم) لا تتعدى كتاباً واحداً أو اثنين. أما بقية الكتب فهي «أبوكريفا»، بمعنى أنها استُبعدت من الكتاب المقدَّس المعتمد لدى اليهود لأسباب أخرى فهي تنطوي مثلاً على تناقض مع ما جاء في التوراة، أو كُتبت بعد انتهاء عهد الأنبياء والوحي وبعد أن قام عزرا بتدوين العهد القديم، أو هي مجرد كتب حكمة لا علاقة لها بالدين ودُوِّنت إعجاباً بقيمتها، أو هي كتب لا ترتفع إلى المستوى الروحي الماثل في الأسفار القانونية، ولذلك لا يمكن اعتبارها وحياً. كما استُبعدت بعض النصوص الأسطورية التي تروي قصصاً نشورية تتصل بنهاية العالم. ونظراً لاستبعادها، يسميها بعض الباحثين بالكتابات الخارجية.

                  وقد كُتبت معظم الكتب الخفية في الفترة بين عامي 200 قبل الميلاد و100 بعده، وهي:

                  1 ـ أسفار تاريخية ورؤياوية، وتشمل: عزرا الثاني الذي يُقال له أسدراس الأول في الترجمة السبعينية وأسدراس الثالث في الفولجاتا، والمكابيين الأول والثاني، وإضافات إلى سفر دانيال، وهي (أ) نشيد الثلاثة الفتية المقدَّسين (ب) تاريخ سوسنة (جـ) تاريخ انقلاب بيل (بيل والتنين)، وبقية سفر إستير، وباروخ الأول، ورسالة إرميا (التي تظهر كجزء من باروخ الأول)، وصلاة منَسَّى.

                  2 ـ أسفار قصصية تحوي أساطير، وهي سفر باروخ وسفر طوبيت، وسفر يهوديت.

                  3 ـ سفران تعليميان، هما سفر حكمة سليمان وسفر حكمة يشوع بن سيراخ. لكن كثيراً من هذه الكتب وُضع أصلاً بالآرامية، وفُقد الأصل ولم يبق سوى الترجمة اليونانية المتمثلة في الترجمة السبعينية أو اللاتينية المتمثلة في الفولجاتا.

                  وتجب التفرقة بين الكتب الخفية والكتب المنحولة أو المنسوبة (سيود إبيجرفا)، فالأولى ذات توجُّه أخلاقي واجتماعي (ويُقال إن الفريسيين هم واضعوها) والثانية ذات توجُّه أخروي حاد (ويُقال إن الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين هم واضعوها). والكتب الخفية التي استبعدها علماء اليهود، اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية كجزء معتمد من الكتاب المقدَّس (باستثناء عزرا الثاني) وإن كان أُطلق عليها مصطلح «كتب تثنوية» (أي مجموعة ثانية من الكتب المعتمدة). وقد حذت حذوها الكنائس الأرثوذكسية: اليونانية والأرمنية والقبطية الإثيوبية. ومن الطريف أن يهود الفلاشاه يحذون حذو الكنائس القبطية. أما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد اعتمدتها وإن كانت قد أعطتها مكانة أقل من كتب العهدين القديم والجديد. أما الكنيسة القبطية المصرية، فقد استبعدت هذه الكتب ولم تعطها أية قيمة دينية. كما استبعدها البروتستانت وقالوا إن قراءتها أمر مستحسن.
                  ورغم أن الكتب الخفية والمنسوبة كتبها يهود ليقرأها اليهود، فإن حاخامات العصور الوسطى في الغرب كانوا يجهلون أمرها تماماً، إذ أن الكنيسة هي التي احتفظت بها. ولا توجد أية إشارات لها في التلمود إلا كتاب حكمة بن سيراخ، ولم يَعُد علماء اليهود إلى دراستها مرة أخرى إلا في عصر النهضة. ويطلق الكاثوليك كلمة «أبوكريفا» على الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا).

                  الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا)
                  Pseudepigrapha


                  «الكتب المنسوبة»، مصطلح يقابل كلمة «سيودإبيجرفا» اليونانية، وتعني «المنسوبة خطأ لغير مؤلفها» أو «الزائفة النسبة» أو «المنحولة». وتشير هذه الكلمة إلى الكتب التي تُنسَب إلى بعض مشاهير أبطال الكتاب المقدَّس، مثل باروخ وحنوخ، والتي لم تُضَم إلى الترجمة السبعينية اليونانية أو الفولجاتا (الترجمة اللاتينية). ولذا، فهي ليست من الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا). والكتب المنسوبة أكثر عدداً من الكتب الخفية، ولا يزال بعضها يُكتَشف حتى الوقت الحاضر، ومن أهمها: مزامير سليمان وصعود موسى وصعود أشعياء ووصايا الآباء الاثنتا عشرة، وهو عمل أخلاقي مهم ينصح فيه أبناء يعقوب أولادهم ضد الخطيئة التي ارتكبها كل واحد منهم. وترد في هذا الكتاب فكرة الماشيَّحين: أحدهما من قبيلة يهودا والآخر من قبيلة لاوي. وتختلف الكتب الخارجية أو الخفية عن الكتب المنسوبة في أن الأولى تشبه كتب الحكم والأمثال في الكتاب المقدَّس. أما الكتب المنسوبة، فهي ذات توجه أخروي حاد، ولذا يُقال إنها في أغلب الأمر من وضع الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين الذين أداروا ظهرهم للمجتمع. كما أنها لم تكن موجهة إلى اليهود ككل، وإنما إلى قطاعات منهم وحسب. أما الكتب الخفية، فيُقال إنها من وضع الفريسيين الذين كانوا حريصين على التعامل مع المجتمع كله، ولذا فهي موجهة إلى اليهود بأجمعهم. ولهذا، فإن الفريسيين، مبالغةً في الحرص من جانبهم، فرقوا بين الكتب المعتمدة (العهد القديم) وأية كتب أخرى سواء كانت من الكتب الخفية أو المنسوبة، وأقاموا سياجاً حول العهد القديم لحمايته. وقد تبنت الكنيسة الكاثوليكية الكتب الخفية لأنها موجهة إلى الشعب ككل، على عكس الكتب المنسوبة ذات الطابع الطائفي. ولذا، أصبحت الأولى جزءاً من كتابها القياسي المعتمد، وأصبحت الكتب المنسوبة هي أبوكريفا الكاثوليكية.

                  مخطوطات البحر الميت
                  Dead Sea Scrolls


                  هي لفائف مدوَّنة على الرق والبردي، بالعبرية والآرامية واليونانية، من أسفار أصلية من العهد القديم وكتابات أدبية أخرى وُجدت على هيئة مخطوطات في كهوف ومغاور النهاية الشمالية الغربية للبحر الميت في فلسطين منها: خربة قمران، ووادي المربعات، وخربة المرد (شمال وادي النار)، وكهف القشخة، وكانت اللفائف الكتابية مُغلقة، وملفوفة، ومحفوظة بعناية في قدور كبيرة من الفخار لصيانتها من الرطوبة أو العبث. وقد كشفت لنا البعثات الأثرية (المُشكَّلة من إرساليات المدارس الإنجليزية والفرنسية، وبعد ذلك الهيئة الأثرية الإسرائيلية) عن أحد عشر كهفاً حتى الآن، ولا تزال الاكتشافات تتوالى في المنطقة وما حولها (وتقوم بها ـ حالياً ـ جمعية دراسة «إرتس يسرائيل» وآثارها وهي تابعة للجامعة العبرية).

                  وقد عُثر في المغارة الرابعة منها على الكم الأكبر من هذه المكتبة بعد إعادة التنقيب عنها (على مدى ثلاث بعثات للتنقيب) منها كتب تراتيل وطلاسم سحرية وأدعية وتعاويذ لإبعاد الأرواح الشريرة والشياطين. وعلى ما يبدو، يميل الاتجاه الغالب لدى الباحثين إلى نسبة تلك الكتابات إلى جماعة الأسينيين وافتراض أن أفرادها دأبوا على نسخ تلك المخطوطات التي تتضمن حتى الآن ما يلي:

                  1 ـ أسفار العهد القديم:

                  أهم ما وصل إلينا منها كاملاً، سفر أشعياء النبي، وهو من نسختين إحداهما كاملة وتتفق في النص مع السفر المعتمد حالياً وإن اختلفت في بعض الفقرات والقراءات وفي هجاء بعض الكلمات، وأخرى متفقة نصاً مع النص المعتمد (الماسورتي). وتُعدُّ اللفيفة المدوَّنة في أربعة وخمسين عموداً أقدم نسخة كاملة لسفر من أسفار العهد القديم. وبالإضافة إلى ذلك، عُثر على أجزاء عديدة من أسفار العدد وصموئيل.
                  وتبدو أهمية هذه الأسفار في أنها تُمثل لنا اتجاهاً مبكراً إلى إيجاد نصوص متوائمة تتلافى التناقضات التي يعثر عليها الباحثون في النص الحالي للعهد القديم، وهو ما يدلنا على انفصال كُتَّابها عن المدرسة الكتابية للعهد القديم. وفي عام 1950، نشرت المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية لأول مرة النص المخطوط من سفر أشعياء، وتابعت المدرسة الفرنسية للدراسات الأثرية نشر ما يُعثر عليه من لفائف العهد القديم.

                  2 ـ تفاسير على أسفار العهد القديم:

                  وهي تفاسير متنوعة أهمها تفسير كامل لسفر حبقوق. ونُلاحظ اقتصار الناسخ على إصحاحين فقط، وهو ما يدل على عدم قانونية الإصحاح الثالث (وهو أمر ألمح إليه النقاد الدارسون للعهد القديم). وأسلوب التفسير الذي تنتهجه طائفة قمران هو الأسلوب الباطني بمعنى العودة بالنص إلى مدلول مختلف وإخراجه من سياقه المباشر أو شبه المباشر. وتُلقي التفاسير الضوء على الفترة التي عاشت فيها الطائفة القمرانية وعلى نظرتها للأحداث مثل دخول بومبي القدس وتناظر بينه وبين أحداث الماضي (دخول سنخريب للقدس).

                  3 ـ ميثاق الجماعة (سرَخ هايحاد):

                  ويضم ثلاث وثائق منفصلة نصاً ولكنها تتفق مضموناً في تنظيم شئون الجماعة وعلاقتها الحالية والمستقبلية بما حولها. وتدلنا هذه الوثيقة على انتهاج الطائفة أساليب صارمة في التنظيم وفرضها لعقوبات على من يخالف نظامها أو ينشر أسرارها، وهي تشير إلى علاقة الفرد بالآخرين ممن هم خارج جماعته وإلى عدم جواز مخالطتهم أو الإفاضة عليهم مما أفاء الله عليه من علم بالشريعة وأسرارها!

                  4 ـ لفيفة حرب أبناء النور وأبناء الظلام:

                  هي خطة حربية محكمة (خيالية) يتوقع أفراد الجماعة أنهم سيخوضونها قريباً، بعد عودتهم من «صحراء الأمم» في دمشق فسيُعينهم الرب بملائكته وجنده ليقضوا على كل الأعداء التقليديين المذكورين في العهد القديم (الفلسطينيين والآشوريين.. إلخ). وتبدو الإشارات إلى الشعوب المعادية في اللفيفة كإشارات رمزية إلى جماعات عرْقية سكنت فلسطين في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول الميلادي.

                  5 ـ مخطوطة لامك (أبوكريفون جينسيس أو بريشيت أبوكريفون):

                  هو سفر غير قانوني يُعتبَر إعادة صياغة لأحداث قصة لامك. والشخصية الأساسية في السفر هي شخصية لامك حفيد حنوخ والد نوح. إلا أن المضمون العام يتضمن تكرار قصة الخلق والآباء مع إضافات عديدة منها ما يشير إلى التشكك في ولادة نوح والتساؤل عن ولادته الإعجازية بتناسل البشر مع أنصاف الملائكة (وهي كائنات سماوية شاع الاعتقاد في وجودها في الفترة من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي)، الأمر الذي يوضح صلة طائفة قمران بالمسيحية الناشئة التي تبنَّت مثل هذه الاعتقادات.

                  6 ـ مزامير التسبيح والشكر (هودايوت):

                  هي أكثر من 300 من المزامير الترتيلية تُستهَل بعبارة «أوديخاي أودناي» أي «أشكرك يا ربي»، وهي تتضمن تصويراً لمعلِّم الجماعة ومعاناته مع مناوئيه، ومحاولتهم إثناءه عن شريعة الرب. ومع أنه لا يذكر اسمه تحديداً، إلا أن الإشارة إلى الأسرار الإلهية التي انكشفت له تعبِّر عن الاتجاه الغنوصي الواضح داخل فكر الجماعة.


                  7 ـ الوثيقة الدمشقية والأسفار الخارجية:


                  عُثر من الوثيقة الدمشقية (سفر عهد دمشق) على 12 جزءاً مقتطفاً من سفر عهد دمشق القاهري الذي كان قد عثر عليه سلومو شيختر عام 1890 ونشر نسختيه عام 1910. وكان أول نص عُثر عليه في القاهرة في معبد بن عزرا (بالفسطاط)، وأُطلق عليه "جذاذات من وثيقة صدوقية". وقد دلتنا الأسفار الخارجية (بالعبرية والآرامية) التي لها صلة وثيقة بمضمون كتابات الطائفة وبلغتها على أنها جميعاً تنتمي إلى التيار الديني نفسه الذي تمثله جماعة قمران المنشقة. وتمثل وثيقة دمشق القاهرية نقداً لاذعاً للفرق الدينية التي انعزلت عنها الجماعة، وتكمل لنا صورة التطور التاريخي للجماعة اليهودية عموماً. وتطلق الجماعة على أفرادها اسم «أبناء العهد الجديد»، وهو الاسم الذي أدَّى ببعض الباحثين للربط بينها وبين المسيحية.
                  ودلنا الكشف الأثري على الدأب الذي تميَّز به سكان قمران في استنساخ الأسفار المقدَّسة وكتابات الطائفة، وعلى أنهم خصصوا لهذه الغاية قاعة معيَّنة أقاموا فيها الموائد والمقاعد للكتابة، وأنشأوا مغاسل (قاعات استحمام) للتطهر الطقوسي قبل بداية أداء الشعائر وقسَّموها حسب درجة قدسية كل فرد ينتمي إلى الجماعة.

                  وقدَّر الباحثون عمر المخطوطات اعتماداً على دراسة اللغة والخطوط والمادة المكتوبة عليها والمادة التي دُوِّنت بها وشكل الأحرف والصياغة والرق والكتان والنحاس والأوعية الفخارية والعملات. ونجح البحث الأثري (باستخدام طريقة الكربون 14 المشع لفحص الكتان الذي لُفت به الوثائق والجرار الفخارية) في إعطائنا معلومات تقديرية عن عمر المخطوطات حيث قُدِّرت بالفترة من 300 قبل الميلاد حتى 70 ميلادية.

                  لقد كُتب أكثر من ثلاثة آلاف دراسة عن المخطوطات: مضمونها وتفسيرها وشروحها وتأويل ما بها وتقدير الأحداث التي تتناولها بالاستعانة بالبحث التاريخي المقارن.ولا ندري هل ستؤدي هذه الدراسات إلى إجراء تعديلات أو تأويلات مختلفة حول نشوء المسيحية، فهذه مسألة تنتظر إجابات بعد الدراسات النهائية الكاملة المقارنة بالنصوص التاريخية ونصوص العهد القديم المعتمدة والترجمة عنها.

                  وتثير مخطوطات البحر الميت كثيراً من الإشكاليات. نذكر منها ما يلي:

                  1 ـ رغم الافتراضات العديدة، لا يستطيع الباحثون إلى الآن الجزم بانتماء هذه المخطوطات إلى فرقة بعينها دون غيرها، والتساؤلات المطروحة في هذه النقطة هي: إلى أي حد تمايزت الفرق اليهودية في بداية نشأتها؟ وما مصداقية ما قاله المؤرخون اليهود وغيرهم مما نقله عنهم بعد ذلك آباء الكنيسة والمؤرخون اليونان والرومان القدامى؟ وما الصلة القائمة بين الفرقة التي دوَّنت المخطوطات (أو نسختها) وغيرها من فرق طريدة سكنت مناطق مجاورة من برية نهر الأردن؟ ولماذا عُثر في قلعة ماسادا على كتابات خاصة بطائفة قمران التي يُظن أنها طائفة من الزهاد؟ ولماذا عُثر بين مخطوطات هذه الفرقة، التي تُنسَب إلى القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، على مخطوطة (أو أجزاء منها) تنتمي إلى منسوخات القرن العاشر الميلادي في معبد بن عزرا؟ وما مصير الطائفة التي نسخت أو دوَّنت النصوص؟ هل ذابت الطائفة داخل التيار المسيحي الناشئ أم قضى عليها الصراع الطائفي؟ وهل ما زالت لها بقايا أو ذيول في الفكر اليهودي للجماعات المتمردة على اليهودية الرسمية أو ممثليها؟

                  2 ـ تبلورت في اليهودية اتجاهات عديـدة (قبل الفترة اليونانية الرومانية)، فهل جاء إليها هذا النمط الفكري مع التيار الكاسح من التيارات الثقافية والدينية العديدة التي حملتها الهيلينية؟ وهل صمدت اليهودية أم تطورت داخلياً لتواجهه؟ وهل بدأت شيع منها تذوب في هذا الخضم من الأفكار الشرقية الهيلينية التي اكتسحت الشرق الأدنى القديم؟ وهل الأسينية حركة يهودية؟ وما الصلات القائمة بين الأسينية والمسيحية الناشئة وبين أتباع الجماعات السرية والغنوص الوثني؟

                  3 ـ تثير المخطوطات قضية علاقة الغنوصية (تلك الحركة التي طاردها بكل عنف آباء الكنيسة الأولون) باليهودية؟ وهل يُخفي العداء الغنوصي للإله اليهودي «يهوه» نقداً يهودياً للإله؟ ثم هل سبقت الجماعات من أشباه الغنوصيين «اليهود» ظهور الغنوصية نفسها أم أنها ظهرت متزامنة مع جماعات ظهرت في كلٍّ من الإسكندرية ومدن يونانية عديدة خلقتها ظروف متشابهة ناتجة عن مزج عقائد الشرق والغرب؟

                  ثم ما الصلة بين هذه الجماعة وأصول القبَّالاه (وهي التي يطلق عليها جرشوم شوليم «الغنوص اليهودي»)؟ وإلى أي حد قد تكشف لنا هذه المخطوطات من الأسرار الخفية التي وردت عنها شذرات في التلمود (حجيجاد 2/12 وغيرها) بشأن البحث في كرسي العرش الإلهي والكروبيم والأسرار المقدَّسة واسم الرب الأعظم (هشيم همفوراش)؟

                  4 ـ العثور على أسفار ونسخ من أسفار الأبوكريفا (غير القانونية) لأول مرة بالآرامية وليس بالترجمات اليونانية المعروفة للنصوص التي كانت تُعتبر غير قانونية وهذا ما يثير التساؤل بشأن مصداقية حفاظ زعماء اليهود على معيار ثابت يقدرون به قانونية أو عدم قانونية الأسفار المقدَّسة؛ والتساؤل عن احتفاظ جماعة من الأتقياء بأسفار أفتى الفقهاء بعدم قانونيتها.

                  5 ـ أما بالنسبة لكتابة المدراش والتفاسير على الأسفار المقدَّسة وهي تفاسير لأسفار الأنبياء الصغار ولأجزاء من سفري صموئيل والتثنية وأشعياء، فقد طُرحت تساؤلات عديدة بشأن بداية مدارس تفسير يهودية قديمة، وأسباب اتجاه بعض التيارات الفقهية المنشقة (مثل القرائين) للأخذ بمثل هذه المناهج التفسيرية، ومدى الصلة بينها وبين مدرسة قمران التفسيرية. وكذلك زعزعت التفاسير الفقهية على النصوص الهالاخية في قمران وجهة النظر القائلة بعدم وجود شرائع شفهية لدى جماعات أخرى في اليهودية (مثل الصدوقيم) إن ثبت انتماء المخطوطات إليهم. ويُطرَح أيضاً التساؤل عن أسباب أخذ بعض الفلاسفة اليهود أمثال فيلون السكندري بالمنهج الرمزي في التفسير ومن بعده آباء الكنيسة أمثال هيرونيموس.

                  وقد هُرِّبت المخطوطات المكتشفة من بعض البلاد العربية وجرى الاتجار فيها بصورة غير شرعية وحصلت الحكومة الإسرائيلية على بعض المخطوطات المعروضة في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1957، حصلت الحكومة الأردنية على المخطوطات الأثرية المُكتشفَة في منطقة البحر الميت بجميع أنواعها وبكل اللغات المكتوبة بها ثم سمحت بعرض بعضها في المتاحف بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وإنجلترا.

                  وقد خالفت إسرائيل اتفاقية لاهاي المبرمة عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وذلك عندما نقلت أثناء معركة القدس (يونيه 1967) كميات كبيرة من مخطوطات البحر الميت بدعوى الحفاظ عليها بصفة مؤقتة. وحتى اليوم، لم تتم إعادة مخطوطات البحر الميت إلى مكانها الأصلي في (المتحف الفلسطيني - الأردني).

                  وبالمقارنة بين مصير مخطوطات وبرديات نجع حمادي ومخطوطات البحر الميت، نجد أن برديات نجع حمادي الغنوصية (اكتُشفت عام 1947) نُشرت بالكامل بينما لم يتم نشر وتحقيق مخطوطات قمران وهي تحت سيطرة فريق محدد من الباحثين (إلا أن هناك عالمين أمريكيين قاما بتركيب نسخة من خلال معجم كلمات المخطوطات، وقد بدآ في نشر بعض أجزاء منها).

                  والسؤال الذي لا يزال مطروحاً هو:

                  لماذا التأجيل الذي دام عشرات السنين؟ ولماذا يصر الفريق الدولي الباحث على إرجاع المخطوطات إلى ما قبل ظهور المسيح والمسيحية الناشئة وعلى تصوير جماعة قمران على أنها جماعة منعزلة غير مؤثرة بعيدة كل البُعد عن الواقع الديني والاجتماعي والسياسي في ذلك العصر؟

                  في محاولة للإجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بأن ثمة تشابهاً واضحاً، قد يصل إلى درجة التطابق أحياناً بين نصوص من العهـد الجديد (الأناجيل) ونصـوص وردت إلينا من مخطـوطات البحر الميت. ومن ذلك ما ورد في أعمال الحواريين (الرسل) من أن أعضاء الكنيسة الأولى كانوا يشاركون في كل شيء. وثمة نص صريح يتصل بهذه الحياة التعاونية المشاعية في المخطوطة المعروفة باسم «ميثاق الجماعة»، وكذلك مجموعة نصوص أخرى منظمة لشئون الجماعة.

                  ووفقاً لنص أعمال الحواريين أيضاً، فإن ثمة قيادة جماعية للكنيسة الأولى تتكون من اثنى عشر حوارياً، وثمة ثلاثة لهم أهمية خاصـة (جيمـس وبطرس وجون) وهو التقسيم نفسه الذي نجده في فتاوى جماعة قمران دون ذكر أسماء.

                  كذلك ثمــة تشابه شـديد في الطقـوس على سبـيل المثــال، فطقس التعميد وهـو أحد أهم الطقوس المسيحية له نظيره في نصوص قواعد الجماعة حيث يرد: "إن الماء الطاهر ليُطهِّر الشخص الذي يرتضي لنفسه الخضوع للحق والإيمان بشريعة الرب حقاً، تطهــيراً من آثامـه ولا يتطـهر لو اغتسـل بالأنهــار والبــحار وهــو لا يزال على شـريعة مخالفة". يرد ذلك تمشياً مع المنهج الأخلاقي لسـفر أشعياء: "اختنوا أولاً غرلة قلوبكم قبل ختان غرلة أجسادكم".

                  كذلك نجد أن هناك توجُّهاً واحداً ذا طابع مشيحاني فيما يخص كلاًّ من الكنيسة الأولى ونصوص قمران. وبالطبع، فإن الماشيَّح المنتظر في الكنيسة الأولى هو «يسوع المخلِّص»، بينما لا يوجد ذكر اسم محدد في نصوص قمران وإنما ثمة لقب هو «مُعلم الفضيلة». والشيء المهم هنا أن نصوص قمران لا تتكلم إطلاقاً عن أية طبيعة إلهية لمعلم الفضيلة المذكور، وهنا مربط الفرس، فلو كان ثمة ربط بين جماعة قمران وبين المسيحيين الأوائل لأمكن أن نقول إن مُعلم الفضيلة «موريه هاتسيدق» هو السيد المسيح نفسه. وهكذا، تنتفي الصفة الإلهية التي ينسبها بعض النصارى للسيد المسيح، وبذلك نستطيع أن نفهم سبب الإصرار على إبعاد هذه الجماعة عن التداخل مع الواقع المحيط بها تماماً.

                  كما أن تأكيد عزلة تلك الجماعة يخدم أيضاً غرضاً آخر، فلو أن هذه الجماعة كانت متداخلة في الحياة والواقع المحيط بها لأمكن القول بأن المسيحية نشأت في إطار دعوة عامة للعودة إلى الحق والشريعة التي انتهكتها جماعة اليهود (في فلسطين)، وأن ثمة تواصلاً واطراداً تاريخياً بين جماعات متفرقة ومستمرة منذ انهيار حق اليهود في فلسطين وبين المسيحيين الأوائل الذين كانوا يحملون أفكاراً مشابهة ترفض الرؤية الشكلية للديانة والانغماس في الشهوات وما إلى ذلك، أي أن ثمة جماعات يهودية متعددة وليس مجرد شعب يهودي واحد ذي تاريخ واحد وتطلعات واحدة. ومن ثم، إن ثبت أن هذه الجماعة كانت تمثل رأياً مهماً ورمزاً أساسياً في الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في وقتها، فإن أسطورة الشعب اليهودي الواحد تتهاوى من الأساس وينهار معها أهم الروافد الأيديولوجية الصهيونية. وحينذاك، نستطيع أن نفهم لماذا يتفق الصهاينة مع المعادين لليهود على طمس وإخفاء هذه الحقائق التاريخية طوال هذه الفترة.
                  اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                  http://www.rasoulallah.net/

                  http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                  http://almhalhal.maktoobblog.com/



                  تعليق


                  • #10
                    الأنبيـــــاء والنبـــــوة
                    Prophets and Prophecy


                    تعني كلمة «نافيء» في اللغة العبرية «من يتحدث باسم الإله»، أو «من يتحدث الإله من خلاله»، أو «من يتكلم بما يوحي به الإله»، أو «من يدعوه الإله». وصيغة الجمع لكلمة «نافيء» هي «نفيئيم»، والإله يختار النبي ويوحي إليه ليحمل رسالته إلى الناس، والنبي يكرس نفسه كلها للإله. كما أن النبي لابد أن يكون الإله قد اصطفاه وفضله على من عداه من بين قومه وزوده بهبة روحية وأمده بعون من عنده وبالقدرة على استقبال الوحي الإلهي وتلقينه لجماعته وبالدعوة التبشيرية لرسالته. ويُلاحَظ أن النبي رغم كل هذه المقدرات ليس تجسداً للكلمة الإلهية وإنما هو مجرد حامل ومبلغ لها وحسب. بل يمكن القول بأن فكرة النبوة هي تعبير عن رفض الحلولية والواحدية الكونية التي تردُّ كل شيء إلى مستوى واحد وتعبير عن رفض المباشر والمادي (الذي يأخد شكل كهنوت وقرابين وسحر) وعن تَقبُّل الثنائية الكونية (الخالق والمخلوق). ولذا، فإن النبي يبلغ كلمة موحى بها من الخالق تتضمن نسقاً أخلاقياً ثم يقوم بتدوينها فتصبح رسالة مكتوبة. ويمكننا القول بأنه إذا كان الكهنوت تعبيراً عن الرؤية الحلولية التي تذهب إلى أن الإله والإنسان (والطبيعة) يكوِّنون كلاًّ واحداًً، فإن النبوة تعني أن ثمة مساحة تفصل بين الخالق والمخلوق، كما أن النبي بحمله الرسالة من الإله للبشر يحوِّل هذه المسافة إلى مجال يتفاعل فيه البشر مع الإله.

                    وإذا كان الكهنوت (شأنه شأن السحر) هو التقرب من الإله (بل وتقديم الرشاوي له) لتطويع إرادته لخدمة الإنسان في الحاضر والمستقبل، فإن جوهر النبوة هو النظر إلى الماضي ورؤية الحضور الإلهي في التاريخ، ليرى الإنسان معناه ومغزاه، الأمر الذي قد يهديه سواء السبيل في الحاضر والمستقبل، إن شاء الإنسان ذلك. ثمة عنصر صراعي حتمي يسم علاقة الخالق بالمخلوق في الإطار الكهنوتي (السحري)، وثمة حيز إنساني ومجال للاختيار بين الخير والشر في إطار فكرة النبوة.

                    وإذا كانت كلمة «نبي» ذات مدلول واضح إلى حدٍّ كبير في العربية، يزداد تحدُّداً ووضوحاً من خلال النص القرآني وأقوال الرسول، فإن كلمة «نبي» لا تتمتع في العبرية أو داخل النسق الديني اليهودي بمثل ذلك التحدد والوضوح، ويرجع ذلك إلى طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي.

                    ويمكننا أن نقول إن مؤسسة النبوة هي إحدى محاولات حل مشكلة الحلول الإلهي، أي كيفية التقاء الخالق بمخلوقاته (المطلق بالنسبي وما وراء الطبيعة بالطبيعي) وكيف يبلغهم قصده وأوامره. والحل الوثني للقضية معروف، وهو الحلول الإلهي في الشعب والأرض، ويتركز الحلول في طبقة كهنوتية ثم يزداد تركُّزاً في أسرة مالكة إلى أن يصل إلى قمة تركُّزه في شخص الملك (أو الكاهن الأعظم) الذي يصبح هو نفسه الإله المعصوم في الأرض. وهذا المخروط أو الهرم البشري (الزمني) يقابله مخروط أو هرم مكاني يتمثل في الأرض المقدَّسة (التي يوجد فيها الشعب) يشيَّد عليها المعبد المركزي المقدَّس (الذي يقوم على خدمته من الخارج صغار الكهنة) الذي تضطلع داخله أسرة كهنوتية متميزة بهذه المهمة، إلى أن نصل إلى قدس الأقداس قمة تركز الحلول وهو البقعة التي لا يدخلها إلا الكاهن الأعظم أو الملك لينطق باسم الخالق فيتم التواصل بين السماء والأرض، أو بين الخالق والمخلوقات، من خلال شخصه.

                    وتنتمي العبادة اليسرائيلية إلى هذا النمط، فهي عبادة وثنية حلولية يسيطر عليها الكهنة وتدور حول الشعائر والتمائم والأوثان (مثل الإيفود والترافيم) وحول محاولة معرفة الغيب والسحر، وهي إن لم ترتبط في بداية الأمر بأرض فهذا يعود إلى طبيعة التركيب البدوي للمجتمع العبراني القَبَلي المتنقل.

                    ويمكن القول بأن مؤسسة النبوة هي محاولة لحصار الحلولية الوثنية وإحلال رؤية أكثر توحيدية محلها، وذلك بطرح طريقة أكثر نقاءً وتجريداً لتواصل الخالق مع مخلوقاته. وكانت فكرة النبوة شائعة بين الشعوب السامية في بلاد الرافدين (في ماري) وفي كنعان. ويبدو أن النبوة (أو ما يُقال له النبوة) لعبت دوراً أساسياً ومهماً ومركزياً بين العبرانيين القدامي (جماعة يسرائيل). ولكن مفهوم النبوة في هذه الحضارات السامية، وضمنها الحضارة العبرانية، كان مُختلَطاً إذ كانت شخصية النبي تختلط بشخصية الكاهن والعراف.

                    ولفهم مفهوم النبوة عند العبرانيين، قد يكون من المفيد الإشارة إلى مقطوعة في سـفر الخروج (19/20 ـ 25) ترد فيها هـذه الحـادثة: "ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل. ودعا الإله موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى فقال الرب لموسى انحدر حذِّر الشعب لئَلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون. وليتقدس أيضاً الكهنة الذين يقتربون إلى الرب لئَلا يبطش بهم الرب. فقال موسى للرب لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء لأنك أنت حذَّرتنا قائلاً أقم حدوداً للجبل قدَّسه. فقال له الرب اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك. وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئَلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب".

                    ومعنى كل هذا أن المواجهة المباشرة والجسدية والمادية مع الخالق أمر صعب للغاية، وقد يؤدي إلى الاحتراق، وأنه لابد أن تكون هناك حدود وحاجز ومسافة بين الخالق ومخلوقاته. وهذا الحاجز والوساطة هو موسى، أي أن الحلول الإلهي سينحسر بذلك عن الشعب والكهنة وسيصبح النبي وحده حلقة الوصل بين الشعب والإله التي سيتم من خلالها التبليغ الإلهي، حيث يسمع النبي كلمة الإله (لوجوس) وهي كلمة غير متجسدة، وإنما كلمة تُسمَع وتُقرأ وتُدوَّن. وقد تأكد هذا المعنى في سفر التثنية (5/5) «أنا كنت واقفاً بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب، لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل». ثم يتكرر المعنى مرة ثالثة في سفر التثنية (5/26 ـ 27) «لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش. تَقدَّم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلهنا فنسمع ونعمل». فهنا، بدلاً من الاتصال المباشر بين الإله والشعب، يقف النبي كي يأتي برسالة يسمعها من الإله ثم يدوِّنها ويبلغ كلماته إلى الشعب، أي أن الاتصال بين الإله ومخلوقاته لا يصبح اتصالاً جسدياً مباشراً وإنما يصبح اتصالاً غير مباشر أو مجرداً. وبدلاً من أن يصبح الشعب لوجوس، كلمةً مقدَّسة متجسدة في التاريخ، وبدلاً من أن يصبح النبي لوجوس ابن الله، يتركز الحلول الإلهي في رسالة مكتوبة، أي رسالة هي حرفياً «لوجوس» أي كلمة.

                    وتدوين الكلمة مسألة في غاية الأهمية، لأنها تعني أن الرسول ليس سوى أداة تحمل الرسالة، فالرسالة حينما تُدوَّن تنفصل عن حاملها الذي يفقد أهميته، ويتم التركيز على القول نفسه، أي على اللوجوس بالمعنى الحرفي. بل إن الكلمة ـ لأنها مدوَّنة ـ تخضع لتفسير من يقرؤها.ولكل هذا، يُلاحَظ أنه بعد أن يقوم موسى بدور الرسول، يتم تدوين الرسالة على الفور على لوحين (بل يُقال إن الرسالة أتته مدوَّنة أو أن الإله دوَّنها بنفسه على اللوحين). وجوهر الرسالة هو الوصايا العشر التي تبدأ بتأكيد وحدانية الإله وتنزُّهه عن المخلوقات، ففكرة النبوة قد تحددت من البداية بأنها: انحسار الحلولية، وظهور التوحيد، واختفاء الكهانة، وظهور النبي، وضمور الشعائر، وتأكيد الالتزام الخلقي، وتجاوز القومية، والصعود إلى العالمية، ونبذ المباشر والجسدي والمادي، وتبنِّي غير المباشر والمتجرد والمنزه. ويذهب نُقَّادُ العهد القديم إلى أن هذه الفقرات التي تُنسَب إلى موسى ليست سوى إضافات قام بها محررو العهد القديم لينسبوا إلى عصر سابق فكرة لاحقة ظهرت في عصر لاحق، أي أنها فقرات كتبها أحد كتاب أسفار الأنبياء ليضفي رؤية الأنبياء التوحيدية على أسفار موسى الخمسة.

                    ومهما يكن الأمر، فإن الأمور، مع بداية تأسيس الدولة العبرانية المتحدة، كانت مختلطة تماماً. ولذا، فقد سقطت اليهودية مرة أخرى في العبادة القربانية والحلولية الوثنية الأولى، وكان يُشار إلى النبي بأربعة مُصطلَحات متناقضة يتبدى من خلالها تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي:

                    1 ـ «حوزيه»، أي «رائي»، وهو الشخص الذي يتنبأ بالغيب ويخبر بما سيكون، حسب علامات معروفة تلقى دلالاتها وتأويلاتها من السابقين، فهو حكيم وساحر وعراف وكاهن أكثر من «نبي» (مثل «الرائي» أو «الكاهن» العربي قبل الإسلام).

                    2 ـ «روئيه»، أي «رائي»، وهو لا يختلف كثيراً عن الحوزيه.

                    3 ـ «إيش إلوهيم»، أي «رجل الإله»، وهو رجل اختاره الإله وحباه وخصَّه بالمعرفة، فيقوم بتبليغ رسالته، وهو دال غير محدد الدلالة. ويُستخدم اللفظ للإشارة إلى كلٍّ من الحوزيه والروئيه والنبي (نافيء).

                    4 ـ «نافيء»، أي «نبيّ».

                    وقد جاء في سفر صموئيل الأول (9/9) ما يلي: «هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يُدعى سابقاً الرائي... فذهبا إلى المدينة التي فيها رجل الإله». وجاء في سفر صموئيل الثاني (24/11) إشارة إلى «جاد النبي رائي داود». وفي سفر أخبار الأيام الأول (29/29) ثمة إشارة إلى «صموئيل الرائي (روئيه) وناتان النبي (نافيء) وجاد الرائي (حوزيه)» وكلهم من رجال الإله (إيش إلوهيم).

                    ومن الواضح أن الأمور من الاختلاط بحيث لا يمكن التوصل إلى الصورة الواضحة. ولعل وجود ما يُسمَّى «أبناء الأنبياء» (بالعبرية: هانفيئيم)، وهم جماعات من الأنبياء أو الدراويش، شاهد آخر على مدى اختلاط المحيط الدلالي لكلمة «نبي» في العبرية وفي النسق الديني اليهودي.

                    وتُستخدَم كلمة «نبي» بهذا المعنى الجيولوجي المختلط للإشارة إلى عدة شخصيات دينية تتسم كلها (ما عدا الفريق الأخير) بأنها لم تترك رسالة مدوَّنة:

                    1 ـ الآباء: أخنوخ ونوح وإبراهيم ويعقوب وهارون وموسى.

                    2 ـ القضاة: ديبورا وصموئيل.

                    3 ـ وفي تقسيم العهد القديم تُستخدم كلمة «الأنبياء» للإشارة إلى قسمين مختلفين:

                    أ ) الأنبياء الأولون أو المتقدمون (بالعبرية: نفيئيم ريشونيم) أو الشفويون، وكانوا يكتفون بالنطق بنبوءاتهم، كما يُشار إليهم بوصفهم «ما قبل الكلاسيكيين».

                    ب) الأنبياء المتأخرون (بالعبرية: نفيئيم أحرونيم)، ويسمَّون أيضاً بالأنبياء الأدبيين أي الذين دوِّنت أسفارهم. ويشار إليهم أيضاً بالكلاسيكيين، ونحن نميل إلى تسميتهم «الكتابيين».

                    وتضم قائمة الأنبياء الأولين الأسماء التالية مرتبة ترتيباً تاريخياً: داود، وناتان، وصادوق، وجاد، واخيا، وعدّو، وشمعيا، وعزريا بن عوديد، وحناني، وياهو بن حناني، وإيليا، وإليشع، وميخا بن يمله، وزكريا بن يهوياداع، وعوديد، ويدوثون. ويبدو أن النبوة لم تكن مقصورة على الرجـال، فهناك إشـارات إلى نبيات منهن مريم أخت هارون.

                    ولكن، ورغم استخدام الدال «نبي» للإشارة إلى هذا الحشد الكبير، فإننا نرى أن كلمة «نبي» بالمعنى المحدد للكلمة، والذي تم تعريفه في إطار الطبقة التوحيدية في اليهودية، يستبعد كل الأنبياء ما عدا الأنبياء الآخرين (الأدبيين أو الكتابيين أو الكلاسيكيين) للأسباب التالية:

                    1 ـ يُلاحَظ، على سبيل المثال، أن قيام الآباء بدور الأنبياء يعني أن النبوة هنا أمر مرتبط بالعرْق لا بالوحي، فكلمة «آباء» تعني الارتباط بجماعة يسرائيل، وهذا يعني أن القداسة تُورَّث (فالإله يحل في الإنسان ويجري في العروق). كما يُلاحَظ أن الأنبياء من القضاة ينحون منحى قومياً شرساً، فهم يعبِّرون عن النموذج الحلولي القومي حيث يظل الإله مرتبطاً بشعبه، ولذا فهم لا يظهرون إلا في وقت الضائقة القومية. وبين الانتماء العرْقي والانتماء القبلي (القومي) تفقد الرسالة عالميتها وإنسانيتها. ولذا، فإننا نجد أن فكرة تبليغ كل البشر برسالة الإله الواحد إله العالمين، المنزه عن الطبيعة والتاريخ، ليست مطروحة، بل تظل النبوة شأناً عرْقياً قبلياً قومياً (حلولياً وثنياً) مقصوراً على جماعة يسرائيل. وتظل رسالة الأنبياء رسالة إلى جماعة يسرائىل وحدها، من إله قومي إلى شعب مختار يرتبط بالإله بعقد خاص، ولا يستهدف البشرية كلها.

                    2 ـ ويُلاحَظ كذلك الاختلاط في ملك مثل داود الذي ارتكب عدداً لا بأس به من الذنوب ومع هذا ارتبط اسمه بالنبوة أيضاً، حيث تُنسَب إليه المزامير، كما أن الماشيَّح (نبي الأنبياء) سيكون من نسله. وثمة إشارة مبهمة في مزمور 16/8 ـ 11 توحي بعلاقة داود الخاصة للغاية مع الإله وتضعه تقريباً في مصاف الأنبياء. أما سليمان الغَزل، الذي سمح لزوجاته الوثنيات العديدات بإحضار آلهتهن معهن، فهو منشد نشيد الأنشـاد أحـد الكتب الدينية اليـهودية (ولكن يبدو أن النبـوة لم تُنسَب له قط).

                    ونحن لو دققنا، لوجدنا أن نبوة داود هي في واقع الأمر تعبير عن مؤسسة الملكية المقدَّسة، على نمط الحلوليات القديمة في الشرق الأدنى القديم حيث يتم الحلول داخل شخص الملك الذي هو أيضاً الكاهن الأعظم.

                    3 ـ كان الأنبياء الأولون يتحركون داخل نطاق البلاط الملكي، الأمر الذي يعني تداخل القومي والديني وارتباط مؤسسة الملكية بالعقيدة الدينية. وكان الملوك والملكات يطلبون المشورة والنصح من الأنبياء نظير أجر يبلغ، في بعض الأحيان، ربع شيكل. وقد لعب هؤلاء الأنبياء الأولون دوراً سياسياً مهماً، فكانوا يطلقون نبوءات سياسية. كما أن صموئيل مثلاً عيَّن شاؤول ملكاً على العبرانيين، ثم عيَّن من بعده داود، وكان دور ناتان في بلاط داود نشيطاً وفعالاً. ويصل هذا التوحد بين القومي والمقدَّس إلى قمته حين يصبح الشعب اليهودي بأسره أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء والمشحاء المخلصين، فعضو جماعة يسرائيل يوصف بأنه «خادم الإله» و «كنز الإله الغالي»، وهذه أوصاف تُستخدَم لوصف الأنبياء وحدهم، أي أن اختلاط المجال الدلالي هنا يصبح كاملاً.

                    4 ـ ويمكن أن نبيِّن مدى تركيبية الصورة بالإشارة إلى الجماعات المسماة «أبناء الأنبياء»، وهم جماعات من «الأنبياء» أو ربما الدراويش يدل وجودهم على أن النسق الديني بين العبرانيين لم يكن قد اكتسب الأبعاد العالمية التي دخلته فيما بعد. وكان هؤلاء الأنبياء يتحركون في جماعات تبلغ المئات أحياناً يتقدمها رباب ودف وناي (أي أنهم كانوا في مظهرهم يشبهون الدراويش، وهو ما يبيِّن أن التيار الحلولي كان قوياً) وكان الوحي يأتيهم بشكل جماعي، وتزورهم روح الإله كجماعة لا كأفراد، وكان هؤلاء أقرب من بعض الأوجه إلى العرافين: يقرأون الطالع ويحاولون معرفة أحداث المستقبل يقومون بأعمال السحر، ويأتون بالمعجزات، فهم ليسوا أصحاب رسالة عالمية أخلاقية، وإنما يبحثون عن الحل السحري (الغنوصي).

                    وفي تصوُّرنا أن صموئيل يشكل شخصية انتقالية للنبي من مستوى الرائي (روئيه أو حوزيه أو إيش إلوهيم) إلى مستوى النبي بالمعنى الدقيق والتوحيدي للكلمة وباعتباره عنصراً يتفاعل الإنسان مع خالقـه من خلاله دون حاجـة إلى حلول إلهي. هذا ما يقوله النص التوراتي، وهو ما يعني انفصال الرائي (بكل ما يحمل من صفة الكهنوت) عن النبي (بكل ما يحمل من مقدرة على التبليغ). لكن النـص ينطوي، مع هذا، على اسـتمرار واختلاط بين العنصرين. ولعل تعيين صموئيل لشاؤول، وتردده في ذلك في الوقت نفسه، هو تعبير عن هذه الانتقالية، فكأن صموئيل هو الشخصية التي يتم من خلالها الانتقال مرة أخرى من الحلولية ومؤسسات الملكية المقدَّسة الوثنية إلى التوحيد، ومن السحر والعرافة إلى النبوة الحقة، تماماً كما حدث مع موسى حينما عاد بالوصايا العشر المكتوبة على اللوحين. ومما له دلالته أن الأنبياء الآخرين هم أيضاً دعاة توحيد يدونون أسفارهم ولا ينغمسون في قراءة الطالع والتنبؤ ومعرفة الغيب. ورغم أننا قدمنا صموئيل بوصفه شخصية انتقالية تفصل بين الأنبياء الأولين والآخرين، فإن هذا لا يعني أن الأنبياء الذين كانوا على نمط الأنبياء الأولين قد توقفوا عن نشاطهم، إذ من المعروف أنه كان هناك أنبياء من هذا النوع بعد ظهور الأنبياء الآخرين الكتابيين.
                    ويُقسَّم الأنبياء الآخرون أو المتأخرون أو الكتابيون إلى أنبياء كبار وأنبياء صغار. أما الأنبياء الكبار فهم: أشعياء وإرميا وحزقيال (ويذهب البعض إلى أن إليا أو إلياهو أحد الأنبياء الكبار وأنه أولهم). أما الأنبياء الصغار فهم: هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وزكريا وملاخي .

                    والواقع أن تقسيم الأنبياء إلى كبار وصغار يستند إلى حجم نبوءاتهم وليس إلى كيفها. ولذلك، فإن هذا التصنيف لا مغزى له لأن أعمال الأنبياء الكبار لا تشكل وحدة، ولأنها تنسب إلى أكثر من مؤلف. كما أن أعمال حزقيال ليست مرتفعة القيمة، وأعمال أشعياء كمٌّ مركب من المواد التي أتت من عصور ومؤلفين مختلفين. وقد رتب مؤرخو العهد القديم المحدثون الأنبياء الكتابيين ترتيباً تاريخياً يختلف عن ترتيب أسفارهم في العهد القديم:

                    أ) أنبياء ما قبل السبي:

                    يونان (حوالي 785 ـ 745 ق.م) عاصر يُربعام الثاني في المملكة الشمالية (وفي رأي آخر أنه عاش في القرن الرابع قبل الميلاد).

                    يوثام (حوالي 760 ـ 746 ق.م) عاصر عزيا في المملكة الجنوبية، وعاصر يربعام الثاني في المملكة الشمالية.
                    هوشع (حوالي 750 ـ 722 ق.م) عاصر عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا في المملكة الجنوبية وعاصر يربعام الثاني في المملكة الشمالية.

                    أشعياء (حوالي 734 ـ 680 ق.م) عاصر عزيا ويوثام وحزقــيا في المملكة الجنوبية.

                    ميخا (حوالي 730 ـ 701 ق.م) عاصر يوثام وآحاز وحزقيا في المملكة الجنوبية.

                    ناحوم (حوالي 633 ق.م)

                    صفنيا (حوالي 630 ق.م) منذ أوائل ملك يوشيا في المملكة الجنوبية.

                    إرميا (حوالي 626 ـ 586 ق.م) عاصر يوشيا ويهوياقيم ويهوياكين وصدقيا في المملكة الجنوبية.

                    حبقوق (حوالي 605 ق.م).

                    ب) أنبياء فترة السبي:

                    دانيال (حوالي 605 ـ 537 ق.م) عاصر نبوختنصر ودارا وقورش .

                    حزقيال (حوالي 593 ـ 570 ق.م) عاصر نبوختنصر.

                    جـ) أنبياء ما بعد السبي:

                    حجَّاي (حوالي 520 ق.م) عاصر دارا.

                    زكريا (حوالي 520 ـ 518 ق.م) عاصر دارا.

                    عوبديا (حوالي 450 ق.م) .

                    ملاخي (حوالي 450 ق.م) .

                    يوئيل (حوالي 450 ق.م).


                    ولفهم السياق الاجتماعي للأنبياء الكتابيين، لابد أن نعود إلى عهد القضاة حيث كانت الأسرة تشكل الوحدة الاقتصادية الأساسية، وكانت الرابطة القَبَلية الشكل الأساسي للتضامن وكانت كل النشاطات الاقتصادية من رعي وزراعة وغيرهما تتم داخل هذا الإطار السياسي الاجتماعي. ولكن الملكية الخاصة للأراضي بدأت تظهر بالتدريج، وهو اتجاه أخذ في الزيادة مع ظهور نظام الملكية التي قامت بأعمال الإنشاءات الحكومية الضخمة كالهيكل والقصور الملكية، وهو ما أدَّى إلى تراكم الثروات في أيدي بعض الأفراد. ثم انتهت الحروب مع الآراميين بعد أن كسر الآشوريون شوكتهم. ومع انتهاء الحرب، ظهرت علامات الاستقطاب الطبقي داخل المجتمع العبراني إذ ازداد الفقراء فقراً والأثرياء ثراء. وقد أدَّى كل هذا إلى ضعف سلطان الأسرة، وضعف واضمحلال النظام القَبَلي، وتزايد بروز الفرد كوحدة اقتصادية، وإلى ازدياد الصراع بين القرية والمدينة.

                    هذا على مستوى العلاقات داخل المجتمع العبراني. ولكن العنصر الحاسم ربما كان هو الخلفية الدولية. فقد كان المجتمع العبراني مجتمعاً صغيراً لا أهمية له بين إمبراطوريات الشرق الأدنى القديم الضخمة، والتي كانت تتميَّز آنئذ بظهور الآشوريين ثم البابليين كقوى عظمى، ثم ازدياد الهيمنة المصرية. وكان على المجتمع العبراني أن يتخذ قرارات سياسية محددة لحماية نفسه في خضم العلاقات الدولية الصاخبة. وكان الحوار المتصل بهذه القرارات هو الذي يشكل مضمون معظم كتب الأنبياء.

                    ونظراً لاحتكاك العبرانيين بالكنعانيين والإمبراطوريات العظمى، بدأت تظهر عناصر دينية جديدة داخل المجتمع العبراني. فكانت الملكات اللائي يأتين من بيوت ملكية أجنبية يُحضرن معهن آلهتهن وبعض الكهنة للاستمرار في عبادة آلهة بلادهن، بل كُنَّ يحاولن فرض هذه العبادات على العبرانيين، كما فعلت إيزابيل. كما انتشرت عبادة آلهة الكنعانيين، فترك أعضاء جماعة يسرائيل عبادة يهوه التوحيدية، وانصرفوا إلى عبادة بعل. وقد كانت مثل هذه العبادات تجد سنداً لها، في كثير من الأحوال، في البيت الملكي والسلطة الحاكمة.

                    هذه هي العناصر الاجتماعية والدولية والعقائدية التي تشكل خلفية أسفار الأنبياء الآخرين، والتي تركت أثرها العميق في نبوءاتهم، وفي التفكير الديني في العالم. ويُلاحَظ تراجع النزعة القومية الحلولية الجماعية في كتاباتهم وتأكيد النزعة التوحيدية، فقد صار لكل نبي صوته الفردي، فأصبح يتحرك بمفرده كنبي صاحب رسالة يواجه المجتمع، وليس كجماعة ولا كفرد ملحق بالبلاط الملكي، الأمر الذي كان يعني الانفصال النسبي للديني عن القومي وللمطلق عن النسبي. كما بدأ المضمون الأخلاقي للنبوءات يتعمق، وازداد تأكيد المسئولية الأخلاقية الفردية، وأخذ نطاقها السياسي يتسع لتصبح هذه النبوءات أكثر أممية وتوحيدية وأقل قَبَلية وحلولية. وازدادت النبوءة علانية بحيث أصبحت الرسالة التي ينقلها النبي أكثر أهمية من الظواهر العجائبية التي تصاحبها، مثل: الإغماء وتعطُّل الحواس والتصرفات غير الواعية. وصار مُصطلَح «نبي» لا يشير إلى من يقرأ الطالع أو يحاول معرفة أحداث المستقبل (أي أن النبوة تخلصت من محاولة البحث عن الحل السحري والتحكم الكامل في الواقع)، وإنما يشير إلى مُعلِّم ديني يتحدث باسم الميثاق أو العهد مع الإله ويخبر عنه وعن خفايا مقاصده وعن الأمور المستقبلية ومصير الشعوب والمدن والأقدار (بوحي خاص منه). وهو يفعل ذلك لا ليبين مقدراته العجائبية على التنبؤ وإنما لينقل مضموناً أخلاقياً ملزماً. وهو لا يختار أن يكون نبياً وإنما يقع عليه الاختيار ليضطلع بهذه المهمة، فالنبوة ليست ميزة لصاحبها وإنما هي تكليف إلهي. ويبدي بعض الأنبياء اليهود شيئاً من الإحجام والتردد عندما يتم اختيارهم، لإحسـاسـهم بأنهـم غير جـديرين بالمهمة.

                    ومع هذا، يجب ألا نفترض أن الاختلاف بين الأنبياء الأولين، والأنبياء الآخرين يعني أن لا علاقة بينهما، فالفريقان في نهاية الأمر ينتسبان إلى التقاليد الدينية نفسها تقريباً. فكان الأنبياء الآخرون، على سبيل المثال، شأنهم شأن الأنبياء الأولين يأتون بأفعال رمزية. فقد سار أشعياء عارياً حافياً مدة ثلاثة أعوام ليرمز إلى أن ملك آشور سيقود المصريين والكوشيين عارين إلى المنفى (أشعياء 20/2 ومايليها). واشترى إرميا إبريقاً فخارياً ثم كسره أمام أعين القوم، تماماً كما سيكسر الإله هذا الشعب وهذه المدينة (إرميا 19/1 وما يليها). كما أن الأنبياء الأولين، مثل الآخرين، تعتريهم أحوال وشطحات في لحظات الوحي.

                    ولم يختـف الصـوت القومي الحلـولي تماماً في كتب الأنبياء الآخرين، فهوشع يرى في يهوه أباً لجماعة يسرائيل يغار عليهم ويحبهم حباً جماً. وكان تفكيرهم الأخروي يتسم بأنه مازال إلى حدٍّ كبير يدور في إطار يوم الإله حينما تعلو جماعة يسرائيل على العالم.

                    ورغم عدم تَجانُس رؤى الأنبياء وتأرجحهم بين أقطاب متعارضة، فيمكن رصد موضوعات أساسية تبين تصاعُد النزعة التوحيدية وتراجُع النزعة الحلولية، من بينها أنهم كانوا يهتمون بالوضع الراهن، والأحداث التاريخية (على عكس مؤلفي كتب الرؤى [أبوكاليبس] فيما بعد). والإله ـ حسب رؤيتهم ـ هو محرك أحداث التاريخ، لا التاريخ العبراني وحسب، وإنما محرك التاريخ البشري ككل. كما أنه سيعاقب كل الأمم على ما تقترفه من معاص، وإن كان يخص جماعة يسرائيل بعقابه وحبه في الوقت نفسه. ومن ناحية أخرى، فإن نبوَّات الأنبياء ذات مضمون أخلاقي تدور حول سلوك جماعة يسرائيل في الوقت الحاضر وتوبتهم وعودتهم إلى الإله. وقد طوَّر الأنبياء عقائد اليهود الأخروية، وبدأت الآخرة ترتبط بفكرة الخير والشر والثواب والعقاب حين يعاقب الإله الأشرار، ولا يبقي سوى البقية الصالحة التي ستؤسِّس مملكته. وبدأت فكرة البعث تظهر بشكل جنيني عند دانيال وربما أشعياء. وقد ساهم الاحتكاك بالحضارة البابلية المتفوقة، ثم التهجير إلى هناك، في تعميق فكر الأنبياء. ونحن نذهب إلى أن تبلور الفكر الأخروي واكتسابه مضموناً أخلاقياً (ارتباط الثواب والعقاب بالخير والشر) هو أيضاً تعبير عن ضمور الحلولية التي يتراجع داخل إطارها التفكير الأخروي والمضامين الأخلاقية.

                    وقد شَنَّ الأنبياء حرباً شعواء على انزلاق جماعة يسرائيل إلى الشرك والحلولية والوثنية وطالبوا الشعب بالعودة إلى الإله: إله شخصي يهتم بمصير البشر ولكنه لا يشبههم (فهو منزّه عن الطبيعة والتاريخ)؛ إله خلق العالم من عدم ولم يهجره؛ إله أخلاقي عادل يريد من عابديه أن يتمسكوا بأهداب الفضيلة وأن يمارسوا العدل، ولذا فهو لا يُسرُّ بالذبائح وإنما بالعيش حسب قواعد الأخلاق، أي أن الأنبياء بدأوا في تحرير اليهودية من الحلولية وما يرتبط بها من أسرار الكهنوت والعبادة القربانية. وقد ظهرت النبوة، في واقع الأمر، احتجاجاً على عبادة بعل (الطبيعية الحلولية)، وضد الظلم الاجتماعي، فطرحت رؤية توحيدية تنكر وجود الآلهة الأخرى. ولقد ظهر التوحيد الحقيقي على أيديهم، فقد كان موسى وداود (حسب النصوص التوراتية) من أتباع المرحلة الوسطى، مرحلة التوحيد المشوب بالشرك والاعتقاد بوجود إله واحد أعلى دون أن يمنع ذلك الاعتقاد بآلهة أخرى. ولأن رؤى الأنبياء توحيدية صارمة، فإنها أيضاً رؤى أممية في الغالب. ولذا، فالإله حسب تصوُّرهم لم يكن مقصوراً على جماعة يسرائيل، وإنما هو إله العالمين، ومن الممكن أن تكون آشور أو بابل أداة عقاب في يد الإله يضرب بها العصاة، حتى لو كان هؤلاء العصاة شعبه المختار.

                    ومما يجدر ذكره، أن الأنبياء كانوا ينطقون بنبوَّاتهم سواء كانت ترضي سامعيهم أم لا، فالنبي يرى أن مهمته هي أن يبلغ الناس إرادة الإله بأمانة، حتى ولو كانت ضد إرادته الشخصية أو ضد إرادة الناس الذين سيقوم بإبلاغهم الرسالة. ولذا، فإننا نجد أن أسفارهم تضم الكثير من التقريع لجماعة يسرائيل والانتقادات الموجهة إليها. ومن أهم سمات الأنبياء الآخرين تدوينهم لأسفارهم، وقد أشرنا إلى دلالة عملية التدوين هذه.

                    ومن أهم الموضوعات التي ترد في كتب الأنبياء، فكرة «الميثاق» أو «العهد الجديد» الذي سيحل محل «العهد القديم»، والذي سيكون أساسه القلب لا القرابين والطقوس، وهو عهد عالمي لكل الأمم وليس مقصوراً على جماعة يسرائيل (والمسيحية ترى أنها هي هذا العهد الجديد بين الإله والشعب، وأن الشعب هو كل من يؤمن بالمسيح لا اليهود وحسب، أي أن المسيحية هي استمرار رسالة الأنبياء بأخلاقيتها وعالميتها).

                    وفي مجال التفرقة بين الموقف الإسلامي والموقف اليهودي (الحاخامي) من النبوة والأنبياء يمكن أن نذكر العناصر التالية:

                    1 ـ لا يقتصر الوحي داخل النسق اليهودي على نبي أو رسول واحد (كما هو الحال في الإسـلام)، بل نجده ينتقـل من نبي إلى نبي. ومن هنا، فإن إحدى هبات الإله لجماعة يسرائيل (حسب تصوُّر الحاخامات) أنه أرسل وسيرسل لها دائماً عدداً من الأنبياء يكملون الطرق المعتادة للإرشاد والهداية التي يستخدمها الكهنة (ولهذا، فإن هناك توتراً دائماً بين الكهنة والعقيدة الشعبية السائدة من جهة والأنبياء من جهة أخرى). ويعبِّر هذا في تصورنا عن أن التركيب الجيولوجي اليهودي لم يتخلص من الصراع الحاد والدائم بين النزعة الحلولية (الوقوع في براثن الشرك وعبادة العجل الذهبي) والنزعة التوحيدية، وأن تعدُّد الأنبياء - على مستوى من المستويات - هو تعبير عن هذا. كما أنه نظراً لاختلاف المجال الدلالي لكلمة «نبي» في اليهودية، واختلافه عن المجال الدلالي للكلمة في الإسلام، فإننا نجد أن عدداً ممن سموا «أنبياء» في التراث اليهودي لم يرد لهم ذكر في المصادر الإسلامية.

                    2 ـ ويرى الدكتور أحمد خليفة أن التاريخ الذي يقدمه الإسلام للأنبياء هو تاريخ لكل الأنبياء والرسل باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأجناسهم ولغاتهم، بينما التاريخ الذي يقدمه التراث اليهودي للأنبياء هو تاريخ خاص قد تختلف فيه أزمنة الأنبياء ولكن تتحد فيه أمكنتهم وجنسهم ولغتهم (فالمكان هو فلسطين، والجنس هو العبرانيون، واللغة هي العبرية).

                    3 ـ ويذكر الدكتور علي وافي أن ثمة اختلافاً جوهرياً في بنية القصص في أسفار العهد القديم وقصص القرآن الكريم، فأسفار العهد القديم قد تناولت كل قصة من قصص الأنبياء في صورة سلسلة كاملة من الأجزاء مترابطة الحوادث (كما تفعل كتب التاريخ) وتناولتها لغرض تاريخي بحت. على حين أن القرآن يكتفي بذكر مواقف من هذه القصص، باستثناء قصة يوسف، ولكنه على كل حال لا يذكرها للتاريخ وإنما يذكرها للعظة والذكرى على وجه الخصوص وبحسب المناسبات. فقد يذكر القرآن موقفاً من قصة لمناسبة خاصة، ثم يذكر موقفاً آخر من القصة نفسها في سورة أخرى لمناسبة أخرى.

                    وعلى هذا الأساس، يجب على القارئ المسلم أن يميز بين أنبياء اليهـود والأنبياء الذين يرد ذكرهم في القرآن، حتى لو حملوا نفـس الاسم. فموسى (موشيه) القائد الحربي «القومي» ليس هو سيدنا موسى عليه السلام. وداود (ديفيد) قاطع الطريق والملك ليس هو سيدنا داود عليه السلام. وسليمان (شلومو) قاتل منافسيه ليس هو سيدنا سليمان عليه السلام. فرغم الاتفاق في الأسماء وفي بعض تفاصيل القصص، فإن السياق والبناء العقائدي والديني والقصصي الذي ترد فيه هذه الأسماء يختلف اختلافاً جوهرياً، والسياق والبناء وحده هو الذي يحدد المعنى العام والشامل.

                    وفي كتاب دانيال، يُلاحَظ بدايةً اختفاء النبرة النبوية باهتمامها بالحاضر والإصلاح الأخلاقي ومواجهة الواقع. وتتضح بداية هيمنة الحلولية (وهو تيار استمر مع التلمود ووصل إلى قمته مع القبَّالاه) إذ تبدأ نبرة كتب الرؤى (أبوكاليبس) التي تركز على التغير الفجائي والتحولات الفجائية اللاتاريخية والهروب من الواقع في الحلول محل النبرة النبوية. وتُعَد الإصحاحات الأخيرة في كتاب دانيال بداية كتب الرؤى. ويُفسَّر هذا التغير على أساس أن الروح النبوية عادت لبعض الوقت بعد العودة من بابل، ولكن الهيكل الثاني لم يحقق أياً من أمنيات اليهود وآمالهم المشيحانية إذ أنهم لم يسودوا العالم. وقد حلت الإمبراطورية اليونانية محل الإمبراطورية الفارسية، فأدَّى تحطُّم الأمال إلى تصاعُد الحمى وتكاثر كتب الرؤى بنهجها التعويضي ونزوعها الحلولي. ورغم أن الحاخامات قد نادوا بأن روح النبوة انتهت بالنبي زكريا آخر الأنبياء الصغار (أي ظهر مفهوم يشبه مفهوم خاتم المرسلين الإسلامي)، إلا أن ارتباط بنية اليهودية نفسها بالطبقة الحلولية الكامنة فيها تقف ضد هذا المفهوم. ولذا، نجد أن تقاليد النبوة نفسها تم تحويلها من الداخل بحيث استولت عليها النزعة الحلولية، فيُقال إن موسى ـ حسب الرواية التوراتية ـ تمنى على الإله أن يكون كل أفراد شعبه من الأنبياء، وهذا ما يمكن تسميته «تقاليد النبوة المنفتحة» والمتاحة لكل فرد في كل زمان ومكان، وهو مفهوم ينطوي على فكرة حلول إلهي مستمر في التاريخ وفي بعض البشر، بل في الشعب اليهودي بأسره. وبطبيعة الحال، ومع ظهور مفهوم الشريعة الشفوية التي تَجبُّ الشريعة المكتوبة، يعود الحلول بكامل قوته ويصبح حامل الرسالة (الحاخام) أكثر أهمية من الرسالة المكتوبة.

                    وبالفعل، نجد أن أعضاء المجمع الكبير والحكماء والحاخامات الذين أتوا من بعدهم أصبحوا هم نقطة الاتصال بين الخالق والمخلوق، يزعمون لأنفسهم المقدرة على التنبؤ. وبدلاً من الأنبياء الذين يبلغون نصاً مكتوباً للبشر وينادون بطاعة الإله والامتثال لأوامره، تظهر تقاليد الشريعة الشفوية التي تؤكد أن التفسير البشري (الحاخامي) لكلام الإله أكثر أهمية وإلزاماً، ومن ثم ورد في التلمود أن حكماء اليهود أعلى قدراً من الأنبياء (بابا باترا). ومع هيمنة تراث القبَّالاه، يصبح المفسر الذي يصل إلى المعنى الباطني (توراة الفيض) هو النبي الحقيقي الذي لا يعرف رسالة الإله وإنما يبلغها (توراة الخلق) ويعرف إرادة الإله ويغيِّرها، ونصه الشفوي الذي ينطق به أكثر إلزاماً من النص الإلهي المكتوب، ولذا فكل ما ينطق به «توراة». وهذا الاتجاه يصل إلى ذروته في التساديك الحسيدي. وقد ورد في التراث الشفوي أن الشعب اليهودي سيصبح كله شعباً من الأنبياء، أي أن الحلول أو التواصل الإلهي سيشمل الشعب بأسره ويصبح الشعب جزءاً من الإله، وفي هذا عودة للوثنية الحلولية اليهودية قبل ظهور الأنبياء. وهذا المفهوم الأخير هو الذي يشكل خلفية معظم الآراء الدينية اليهودية في فكرة النبوة في العصر الحديث.

                    وقد حاول مندلسون أن يُقلِّل أهمية التقاليد النبوية المنفتحة في اليهودية، وهذا أمر طبيعي حيث إنه كان يحاول وقف النزعة الحلولية ومن ثم التفرقة بين الزمني والمقدَّس وبين القومي والديني. أما الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين، فكان يحاول استعادة المضمون التوحيدي الأخلاقي لرسالة الأنبياء، فأكد أن النبي هو المدافع عن الأخلاقيات العالمية، وأن الأنبياء مفكرون تقدميون حاولوا تخليص الإنسان من أوهام الأساطير. ويُصرُّ الفكر الأرثوذكسي عند هيرش على فكرة الوحي (لا مجرد الإلهام كما يعتقد الإصلاحيون)، وهو وحي يأخذ شكل رسالة على هيئة كلمات. ولكن الفكر الأرثوذكسي الحاخامي، وريث مفهوم الشريعة الشفوية، لا يعبِّر عن فكرة الأنبياء وحدها، وإنما يعبِّر بشكل أكبر عن الفكر التلمودي الحلولي الذي قوضه وحل محله.

                    ويرى بوبر أن النبوة حوار بين الإله والإنسان وليس رسالة منزلة، وأن ثمة حواراً بين الإله والشعب اليهودي ككل، الأمر الذي حوَّل تاريخ الشعب إلى وحي وحوَّل الوحي إلى تاريخ. فالإله هنا حالٌّ تماماً في التاريخ لا يتجاوزه، وهو امتداد لذات الشـعب، ولذا فهو شـعب من الأنبيـاء.

                    وتتأكد الحلولية في موقف الحاخام الصهيوني كوك من النبوة فهي ـ حسب تصوره ـ ضرب من الاتحاد الصوفي بالشخيناه، أو الحضرة الإلهية، وأن الإنسان يصل إلى الاستنارة والشفافية من خلال هذا الاتحاد حتى يصل إلى أعلى درجات النبوة، وبذا تصبح النبوة هدف أية تجربة دينية، ويصبح كل يهودي مخلص في مصاف الأنبياء. ويتداخل الموضوعي والذاتي تداخلاً كاملاً وتدخل النبوة مرحلة شحوب الإله حتى أن النبوة عُرِّفت بأنها صوت الإله واستجابة الإنسان لها بحيث لا يمكن تمييز الصوت عن الاستجابة ولا الموضوع عن الذات. ويتحدث برانديز وكابلان، فيريان علاقة وثيقة بين الأفكار النبوية اليهودية والأفكار الديموقراطية الأمريكية.

                    ويدور الفكر الصهيوني في إطار الحلولية بدون إله ووحدة الوجود المادية، فأنكر كلٌّ من آحاد هعام وحاييم كابلان الطبيعة الميتافيزيقية للنبوة، فالنبوة إن هي إلا تعبير عن الروح القومية اليهودية وليس لها أي مصدر إلهي. ولذا، يمكن الحديث عن بن جوريون باعتباره النبي المدجج بالسلاح، وعن جابوتنسكي باعتباره النبي المحارب. وبإمكان بن جوريون أن يتحدث عن اليهودي العادي باعتباره نبياً أو شهيداً، بينما يؤكد نحمان سيركين أن استشهاد اليهودي قد رفعه إلى مصاف الأنبياء.

                    صموئيل )القرن الحادي عشر قبل الميلاد)
                    Samuel


                    «صموئيل» (أو «شموِّئيل») اسم عبري معناه «اسم الإله» أو «اسمه إيل»، أي الإله. وصموئيل اسم لنبي عبراني وآخر القضاة. وهو أول نبي عبراني يقف إلى جوار الملوك. ويرتبط اسم صموئيل بفكرة الملكية بين جماعة يسرائيل، فالقبائل العبرانية لم يكن يحكمها سوى قضاة أو زعماء يظهرون عندما تدعو الحاجة. ويرى ماكس فيبر أنها نوع من أنواع القيادة الكاريزمية البطولية. ولذلك ذهب شيوخ العبرانيين إلى زعيمهم الديني صموئيل، وطلبوا إليه أن يجعل لهم «ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب». وقد حذرهم صموئيل من أن الملكية في تصوُّره حنث بالميثاق أو العهد بين الإله والشعب، ذلك العهد الذي جاء فيه أن جماعة يسرائيل لن يكون لها ملك سوى الإله. ولكنه في نهاية الأمر توَّج شاؤول ملكاً عليهم. وبعد تتويج شاؤول، تدهورت العلاقات بينهما حتى انفصمت تماماً، فتوج داود ملكاً بدلاً منه.

                    ويبين سفرا صموئيل العناصر التي أدَّت إلى ظهور الملكية وجذورها المقدَّسة، ويؤكدان أن الملك، شأنه شأن الشعب، مُلزَم بإطاعة العهد وبإرادة الإله. وتدور أحداث السفر الأول حول صموئيل نفسه وشاؤول. أما السفر الثاني، فتدور أحداثه حول الملك داود.

                    إلياهـو (النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد)
                    Elijah


                    «إلياهو» (أو «إليا») اسم عبري معناه «إلهي هو يهوه»، والصيغة اليونانية للاسم هي «إلياس» التي تُستعمل أحياناً في العربية. وإلياهو نبي في المملكة الشمالية أثناء حكم كلٍّ من أخاب وأحازيا. جاء أصلاً من جلعاد. ويمكن اعتباره أول الأنبياء الكبار. كان يعمل راعي أغنام، وسعى إلى استرجاع العبادة الأصلية ليهوه، وخصوصاً بعد أن قامت إيزابيل بإدخال عبادة بعل، فعارض البلاط الملكي دعوته لأسباب سـياسـية، بل شـجع عبادات الشـعوب المجاورة. واضطر إليا إلى الهرب، ولجأ إلى الصحراء، ولكنه قاد الشعب، وذبح كهنة بعل. ومن المعروف أن ثورة إليا التوحيدية كانت ثورة ضد الظلم الاجتماعي أيضاً. وقد انضم إليه في دعوته صديقه النبي إليشع.
                    وحسب الرواية التوراتية، لم يمت إليا وإنما صعد إلى السماء في عربة نارية تجرها خيول نارية. وهو يُعَد المبشر بالماشيَّح وأهم علامة مؤكدة تبشر بمقدمه، وسينفخ في البوق (الشوفار) معلناً قدومه، وسيلعب دوراً أساسياً في العصر المشيحاني، فسيقوم بتطهير النفوس مما علق بها من فساد ويهيئ اليهود لهذا العصر، وهو كذلك سيضع الحلول لجميع المشاكل، وسيجلو الغموض الذي يتعلق بالدين والقضاء والشريعة، كما سيقوم ببعث الموتى.

                    وفي احتفالات عيد الفصح، تُصَبُّ له كأس، ويُعَدُّ له كرسي عند احتفالات الختان يُسمَّى «كرسي إليا». ويأخذ إليا في الوجدان الشعبي اليهودي في شرق أوربا هيئة النبي الجوال على الأرض الذي لا يعرف شخصيته أحد، يرتدي ملابس بدوي، ويقدم العون في لحظات الخطر والضيق، ويظهر للمتصوفة والعلماء ليعلمهم الحقائق الخفية. وقد وردت قصة إليا في سفر الملوك الأول (الإصحاحان 16 ـ 19)، وفي سفر الملوك الثاني (الإصحاحات 1 ـ 2).

                    يــونان (حوالي 785-745ق0م)
                    Jonah


                    «يونان» أو «يونس» هما الصيغة السريانية والعربية للاسم العبري «يوناه» ومعناه «حمامة». ويونان خامس الأنبياء الصغار. تنبأ في أيام يربعام الثاني باتساع حدود المملكة الشمالية في عهده. وقد ورد في هذا السفر أن الإله طلب إلى يونان أن يذهب إلى نينوي، عاصمة الإمبراطورية الآشورية، ليعلن خرابها. ولكن القوم في نينوي أصغوا إلى نصيحة يونان وتابوا، فلم يُخرِّبها الإله وصفح عنهم، فاغتم يونان لذلك فقرَّعه الإله. كما ورد في السفر حادثة ابتلاع الحوت ليونان، حيث مكث في بطنه ثلاثة أيام. والسفر يتسم بالرؤية العالمية.

                    هوشع (حوالي 750-722 ق0م)
                    Hosea


                    «هوشع» اسم عبري معناه «الإله المنقذ المخلِّص». وهوشع نبي عاش وتنبأ في المملكة الشمالية في عصر يُربعام الثاني، وخصوصاً في الأيام الأخيرة للمملكة. وهو معاصر لعاموس قبل الغزو الآشوري، وقد استمرت نبوَّته أربعين عاماً.

                    وينصرف جل اهتمام هوشع إلى محاربة عبادة الأوثان، فلا يركز كثيراً على فكرة العدالة الاجتماعية. وقد تبع الازدهار والفساد، في عصر عاموس، فترة من الضعف الشديد والحرب الأهلية، كما أخذت قوة آشور في التصاعد. وقد كان لكل ذلك صداه في سفر هوشع، فتنبأ بسقوط المملكة الشمالية ونفى سكانها، وهاجم الشرك باعتباره تعبيراً عن تفكك الأمة.

                    والصـورة المجازية الأساسـية في سفر هوشـع هي صـورة الزنى: "وأول من كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الأرض"(1/2). وقد أنجب هوشع من زوجته الزانية ثلاثة أبناء لهم أسماء رمزية، فالأول يُسمَّى «يزرعئيل» باسم البقعة التي ذبح فيها ياهو أسرة آخاب (1/4)، والثاني طفلـة سماها «لورحامة» (من العـبرية: «لا رحمة»): «لأنني لا أعود أرحم بيت يسرائيل بل أنزعهم نزعاً » (1/6)، والثالث سماه «لوعمي» (من العبرية: «ليس شعبي»): "لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم" (1/8). فذنب جماعة يسرائيل هو سلوكها اللاأخلاقي واعتمادها على القرابين والقوة العسكرية.

                    ويهيب هوشع دائماً بالماضي فيشير إلى يعقوب، وإلى الخروج والتيه، فالرب هو الذي أخرج الشعب من مصر ولكن الشعب أثبت أنه غير وفيّ حتى قبل أن يصل إلى أرض الميعاد. وحينما وصلوا إلى هناك، أخفقوا في معرفة مصدر نجاحهم الحقيقي ونسبوا إلى بعل الخيرات التي منحهم يهوه إياها، ولذا فإن الرب سيعاقب الأمة ويلحق بها الخراب وينقل سكانها.

                    ولكن، مع كل هذا، ورغم فساد الأمة، فإن يهوه في علاقته بجماعة يسرائيل يشبه هوشع في علاقته بزوجته الزانية. فيهوه هو الزوج الذي تركته زوجته الزانية التي تسير مع الفساق الآخرين، ولكنه مع هذا يظل على حبه لها. ولذا، وإلى جانب العقاب والوعيد، فإن هوشع يدعو الشعب للتوبة ويبشر بالعودة (14/1 ـ 9). ويمكن القول بأن العلاقة بين يهوه والشعب علاقة حب مشبوب لا يمكن أن تنال منه خطايا الشعب.
                    وتوجد في السفر صور مجازية أخرى مثل صورة الأب والابن (11/1 ـ 3)، والطبيب والمريض (7/1)، والصائد والطير (7/12). وسفر هوشع أول أسفار الأنبياء الصغار.

                    أشعياء (حوالي 734-680 ق0م)
                    Isaiah


                    «أشعياء» (أو «يشعياهو») اسم عبري معناه «الإله يخلص». وأشعياء اسم نبي من أهم أنبياء اليهود، بل هو أعظم أنبياء العهد القديم قاطبةً. كان من أسرة نبيلة، أو ربما من دم ملكي، كما كان ذا ثروة طائلة. ولذا، كان أشعياء مقرباً من البلاط الملكي. ويُقال إن منَسَّى أعدمه.

                    ويُشكل صعود القوة الآشورية، التي تهددت العبرانيين القدامى، الخلفية التاريخية لنبوءات أشعياء. وربما كان أهم حدثين تاريخيين في نبوءات أشعياء هما: الأول رفض آحاز ملك المملكة الجنوبية الانضمام إلى ملوك المملكة الشمالية في الحلف المضاد لآشور، وقد أيَّد أشعياء هذه السياسة المحايدة.

                    والثاني أن حزقيال (ملك المملكة الجنوبية) تحدَّى آشور، وقد أدَّى هذا إلى حصار القدس. وحتى عندما انسحب الجيش الآشوري فجأة (701 ق.م)، استمر أشعياء في التحذير من المصير النهائي. وقد كان حسه التاريخي والسياسي دقيقاً إذ تنبأ بامتداد سلطان الآشوريين على الشرق الأدنى، ورأى في المستقبل البعيد الخطر المحدق من قبَل بابل على المملكة الجنوبية، وعارض اعتمادها على مصر وتعاونها معها ضد آشور.

                    وكان أشعياء يرى يد الإله وراء كل الحوادث التاريخية، فكان يؤكد أن آشور هي أداة عقابه (10/5)، وأن شعب الإله يجب ألا يثق إلا به، وألا يعتمد إلا عليه، فالإله وحده هو سند الشعب. وقد أكد أن الخلاص لا يتأتى إلا بتنفيذ مطالب الإله الأخلاقية، فالشفقة والبر بالفقراء أكثر أهمية عندالإله من تقديم القرابين. وكان أشعياء من الأنبياء الذين اتجهوا إلى القضية الاجتماعية، فهاجم الأثرياء والحكام لتَقبُّلهم الرشاوى وظلمهم المساكين وبذخهم وترفهم وطمعهم وجشعهم وسكرهم وانعدام الحس الأخلاقي عندهم.

                    وقد أعلن أشعياء بوضوح أن للعالم كله إلهاً واحداً، الإله الحي الحقيقي الذي ستعترف به كل الأمم في النهاية، ويعود الجميع إليه، ويتوحدون فيما بينهم «وفي ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجيء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعبد المصريون مع الآشوريين، في ذلك اليوم يكون يسرائيل ثلثاً لمصر ولآشور بركة في الأرض. بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبي مصر وعمل يدي آشور وميراثي يسرائيل» (19/23 ـ 25). ثم تصل الأمور ذروتها في آخر الأيام حين تتوقف الحروب ويأتي الماشيَّح ملكاً من نسل داود.

                    وفي السفر المسمَّى باسمه يتحدث أشعياء عن العذراء التي ستحمل وتلد ابناً اسمه عمانوئيل (7/14)، وعن حلم السلام العام تحت رئاسة «أمير السلام»، فتعم سلطته العالم، ويطبع الناس سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل ويسكن الذئب مع الحمل. ولكثرة نبوءات هذا السفر عن الماشيَّح (9/6 ـ 7) يُشار إليه بأنه النبي الإنجيلي، وتُقتبَس نبوءاته في العهد الجديد أكثر من أي سفر آخر في العهد القديم.

                    ورغم عالمية نبوءاته، فإنه كان يصر على إيمانه بخصوصية الشعب اليهودي. فجماعة يسرائيل هي الشعب المختار الذي قد يلحق به العذاب، دون أن يفنيه الإله تماماً، إذ ستبقى دائماً بقية صالحة تعود إلى فلسطين وتجدد الصلة بين الإله والأرض المقدَّسة.

                    أعطى أشعياء ولديه اسمين رمزيين: فسمَّى أحدهما «شئار ياشوف»، أي «البقية ترجع» (7/3)، وسمَّى الآخر «مهير شلال حاش باز»، أي «يُعجِّل السلب ويُسرع النهب» (8/1، 4). وربما كان له ابن ثالث هو عمانوئيل، أي «الإله معنا» (7/14). ويُعتبَر الأسلوب الأدبي الرائع الذي كتب به سفره أجمل ما ورد في العهد القديم.

                    والسفر الذي يحمل اسمه، هو أول سفر في كتب الأنبياء، وينقسم إلى قسمين: أشعياء الأول (1/39). وأشعياء الثاني (40/66)، كتبهما مؤلفان مختلفان، وإن كان يُقال إن الجزء الأخير (56/66) هو أشعياء الثـالث وكتبــه مؤلــف ثالــث. ويُقــال أيضــاً إن تاريخ أشعياء الأول هو 740 ق.م، وأشعياء الثاني هو 540 ق.م، أما الثالث فيرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد.


                    ميخا (حوالي 730-701 ق0م)
                    Micha

                    «ميخا» اسم عبري معناه «مَنْ مثل يهوه». وميخا نبي من المملكة الجنوبية من أصل فلاحي، نشر تعاليمه بين عامي 730 و722 ق.م، وكان معاصراً لأشعياء، كما كان يشبهه في أسلوبه ونهج كتابته. وقد دافع ميخا عن الفقراء، وتحدَّث عن الشعب واضطهاد الطبقات الحاكمة له (3/1 ـ 3)، وكان أول من أنذر بدمار البلد والنفـي إلى بابل (3/12)، كما تنبأ بملك من نسـل داود سيأتي بالخير للعالم، وبذلك تتضح النزعتان العالمية والقومية في نبوءاته.


                    عاموس (حوالي 670-746 ق0م)
                    Amos

                    «عاموس» اسم عبري معناه «مُحَمَّل» أو «المُثقل بالأحمال»، وعاموس أول نبي يهودي يُسمَّى باسمه أحد الأسفار. أعلن رسالته عام 750 ق.م. وكان عاموس يعمل راعياً، وجاني جميز في مدينة تقواع الصحراوية على بعد تسعة عشر كيلو متراً من القدس. ولكنه نشر رسالته في المملكة الشمالية في عهد يربعام الثاني الذي أدَّت فتوحاته إلى تدفُّق الثروات والسلع الترفية الجديدة على المجتمع العبراني، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار الفساد، وإلى ظهور طبقة من الأثرياء وملاك الأراضي الذي كبلوا صغار الملاك بالديون، وصادروا أملاكهم، وأفسدوا ذمم القضاة (عاموس 2/6 ـ 7، 3/10، 5/10، 12).

                    وقد هاجم عاموس هذا الفساد بضراوة، بل إننا نجد أن فكرة التوحيد عنده مرتبطة بالعدالة الاجتماعية. وثمة رفض في سفر عاموس للعبادة القربانية والأضاحي (5/21 - 24)، فالعبادة والطقوس والقرابين ليست إلا سخرية واستهزاء. ولذا، فإن الأخلاقيات التي بشر بها عاموس أخلاقيات أممية، وكانت تُعَدُّ جديدة على عصره، كما أنها لم تكن تمثل الروح القومية الحلولية اليهودية. فيهوه هو إله كل الشعوب والأمم "ألستم لي كبني الكوشيين يا بني يسرائيل يقول الرب، ألم أصعد يسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين [أي الفلستيين] من كفتور والآراميين من قير" (9/7). فلم يكن خروج العبرانيين من مصر هو وحده الحادثة التاريخية ذات المغزى الخاص، بل خروج الشعوب الأخرى أيضاً. ولكن يهوه يظل، مع هذا، تربطه علاقة خاصة بشعبه، فهو يعرف جماعة يسرائيل فقط، ولذا فسيعاقبها على ذنوبها (3/2). ثم تأخذ الكارثة شكل هزيمة عسكرية يعقبها نفي جماعة يسرائيل. وكان عاموس مدركاً مدى خطورة التهديد الآشوري. ومن المحتمل أنه أُعدم على يد الكهنة (ويُقال إنه نُفي إلى تقواع) لأنه تنبأ بزوال المملكة الشمالية وزوال بيتها الملكي.

                    وسفر عاموس ثالث أسفار الأنبياء الصغار، وهو مكتوب بأسلوب سهل يتواتر فيه عدد كبير من الصور المستمدة من الطبيعة ومن حياة الرعاة والمزارعين.

                    ناحـوم (حوالي 633 ق0م)
                    Nahum


                    «ناحوم» اسم عبري معناه «المُعزَّى» (صيغة اسم مفعول). وناحوم أحد الأنبياء الصغار. تنبأ في السفر المسمَّى باسمه بسقوط نينوي. وأسلوب سفره أدبي ناصع يدل على أن مؤلفه امتلك ناصية اللغة وفن الوصف.

                    صــــفنياه (حوالي 630 ق0م)
                    Zephaniah


                    «صفنياه» اسم عبري معناه «يهوه يستر» أو «يهوه يكنز». وصفنياه نبي من أسرة نبيلة في المملكة الجنوبية. تنبأ في السنين الأولى من حكم يوشيا، وكانت نبوءاته ذات طابع أخروي، فهو يصف يوم الإله، وكيف سيعاقب الأشرار. ويؤكد في سفره أن الفقراء سيرثون الأرض، وأن كل الأمم سـتعود إلى الإله وسـتعتمد عليه بقية جمـاعة يسرائيل وتصبح مقدَّسة، فسيجمعهم ويصيِّرهم تسبيحةً في الأرض كلها، ويحكم وسطهم ملكاً في وسط شعبه.

                    إرميــــا (حوالي 626-586 ق0م)
                    Jeremiah


                    «إرميا» أو «إيرمياهو»، وهي عبارة عبرية تعني «الإله يؤسس» أو «الإله يثبت» أو «الإله يُعلِّي». وإرميا ثاني الأنبياء الكبار، وكان من أسرة من الكهنة ناصبته العداء بسبب موقفه.

                    بدأ في التنبؤ عام 627 ق.م أثناء ملك يوشيا، فأعلن أن القدس ستسقط في يد البابليين، وحذر من الثورة ضدها. وقد اتهمه الكهنة بمحاولة الانضمام إلى العدو وسجنوه في قبو ليموت جوعاً، ولكن الملك رأف بحاله ونقله إلى سجن آخر وقدَّم له فيه الطعام. وظل إرميا على هذه الحال إلى أن سقطت القدس في يد البابليين على يد نبوختنصر، وتحوَّلت بعدها الدولة الجنوبية إلى دويلة تابعة. وبعد سقوط القدس، قام الموظفون البابليون بحمايته، بسبب موقفه الممالئ لبابل. ولكن بعد مقتل جداليا، وبعد أن نال الذعر من الثوار العبـرانيين، فرَّ العبرانيون إلى مصر واضطر إرميا إلى الفرار معهم، حيث استــمر في التنبــؤ هــناك. وكانت آخــر نبوءاته أن اللعنة ستـحل على يهود مصر لعبادتهم الأوثان (43، 44).

                    اتصفت نبوءته بالآلام والمرارة، ولكنه يطرح رؤية جديدة تماماً للتجربة الدينية يتجاوز بها الحلولية المادية الوثنية ويصل بها إلى التوحيدية الحقة إذ ينقلها من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، ومن عالم القرابين إلى عالم القلب والحياة، ومن عالم المسئولية الجماعية إلى عالم المسئولية الأخلاقية الفردية. فالإله لا يطلب الذبائح فحسب، بل يطلب الطاعـة الداخليـة، فهو يريد من البشر حياة أخلاقية رفيعة (7/21 ـ 23): «محرقاتكم غير مقبولة وذبائحكم لا تلذ لي» 6/20). والإله لا يرضى إلا عن ذبائح المستمع المطيع (17/24 ـ 27). وسيأتي وقت لا يُذكَر التابوت فيه (3/16)، وإنما ينظر الإله إلى القلب وحسب (17/10، 20/12). وقد تنبأ إرميا بالعهد الجديد، حين يكون للشعب قلب جديد، وتُكتَب شريعة الرب في هذا القلب (24/7). غير أن ما يتوَّج سفر إرميا هو ما جاء في الإصحاح 31 في الفقرتين 31 ـ 33 إذ يقطع يهوه عهداً جديداً مع شعبه حيث يجعل شريعتهم في نفوسهم ويكتبها على قلوبهم، وليس على ألواح حجرية (لوحى الشريعة) كما حدث في عهد آبائهم. ومن هنا يعلن مبدأ المسئولية الفردية.

                    وقد ارتفع إرميا بفكرة الإله من مستوى الفكر القومي الضيق إلى مستوى الفكر العالمي، حيث تصبح العقيدة ديانة شخصية يعتنقها الفرد بعد أن يتوب إلى الإله ويرجع إليه، وتصبح الأساس الذي ينبني عليه العهد الجديد. وتصبح عبادة عالمية تتبعها كل الشعوب (3/17)، وسيعترفون بأن آلهتهم أكاذيب لا قيمة لها (16/19 ـ 20).

                    حــبقوق (حوالي 605 ق0م)
                    Habkuk


                    «حبقوق» اسم عبري معناه «يعانق»، وهناك رأي يذهب إلى أنها كلمة فارسية بمعنى «زئبقة سوداء» أو نوع من الزهور. وحبقوق أحد الأنبياء الصغار، تنبأ في المملكة الجنوبية، وكان لاوياً يغني في الهيكل. وقد تنبأ في القرن السابع أثناء حصار الكلدانيين (البابليين) لنينوي. يضم سفره صرخة يتوجه بها إلى الإله ضد العنف والعسف والظلم، وضد انتصار البابليين، ثم يتساءل هل سيسمح الإله للبابليين بأن يتلفوا ويخربوا من هم أبر منهم. والجواب أن البابليين سيهلكون، أما البار فبإيمانه يحيا (حبقوق 2/1 ـ 4).

                    والسفر في أساسه ـ فيما يُرجح العلماء ـ مكوَّن من إصحاحين (الأول والثاني) أما الإصحاح الثالث فله جانب أسطوري واضح، ولذا افتُرض أنه منحول. ومما يؤكد ذلك اكتشاف تفسير للسفر في قمران لا يحتوي إلا على الإصحاحين الأولين منه.

                    دانيال (حوالي 605-537 ق0م)
                    Daniel


                    «دانيال» كلمة عبرية معناها «الإله قضى». ودانيال أحد الأنبياء الأربعة الكبار. كان دانيال من عائلة شريفة، ويُظن أنه وُلد في القدس. والسفر المسمَّى باسمه ينقسم إلى قسمين، يضم القسم الأول والمعروف باسم دانيال (الإصحاحات من 1 إلى 6)، وتضم ست قصص عن محن دانيال وانتصاراته هو ورفاقه الثلاثة. وقد جاء في هذا القسم أن دانيال ورفاقه جـاءوا إلى بابل بأمر من نبوختنصر، فتعلمـوا الكلدانيـة، وأبوا أن يأكلوا من طعام الملك أو أن يشربوا من خمره حتى لا يتنجسوا. ومع هذا، وجدهم الملك عند نهاية فترة التعليم أكثر ذكاء وبهاء من الآخرين. وقد فسر دانيال حلماً لنبوختنصر، وسُرَّ الملك بتفسيره، وعينه ورفاقه مديرين لكل مقاطعة بابل. وكان الملك قد طلب إليهم أن يسجدوا للتمثال الذي نصبه، وحينما رفضوا ألقى برفاق دانيال الثلاثة في النار، ولكنهم لم يلحق بهم أي أذى، فعبَّر الملك عن إعجابه بإله اليهود. وقد فسر دانيال حُلْمَ الملك عن الشجرة العظيمة التي قطعت، وأخيراً فسر الكتابة على الحائط في الوليمة التي أقامها بيلشاصر، والتي كان ينوي أن يستخدم فيها الأوعية التي أحضرها البابليون من الهيكل، وأخبره دانيال بأن نهايته قد دنت. وبعد ذلك رفعه دارا الميدي إلى أسمى المناصب فأثار هذا حسد أعدائه فكادوا له، وأُلقي به في جُب الأسود ولكن الإله نجاه.

                    أما القسـم الثاني (دانيال B)، فيضـم الإصـحاحات مـن 7 إلى 12. وهنا تتغيَّر شخصية دانيال، ويتحول من حكيم يفسر الأحلام، والإشارات للملوك، ومن وزير يقع ضحية دس منافسيه إلى صاحب رؤى (أبوكاليبس). فدانيال هو نفسه الذي يرى الأحلام المفزعة هذه المرة، ويقوم ملاك بتفسيرها له. أما الرؤيا الأولى، فهي تمثل قوى العالم الأربع العظمى الطاغية (بابل ميديا وفارس واليونان) على شكل أربعة حيوانات، ثم تزول هذه القوى وتسود من بعدها "مملكة شعب قديس العلا"، أي اليهود.

                    أما الرؤيا الثانية، فيرى فيها القوة التي يمثلها تيس المعز الذي له قرن كبير ينكسر وينبت بدلاً منه أربعة قرون أخرى (الإمبراطورية اليونانية تحت حكم الإسكندر ثم خلفائه من بعده)، وينبت قرن أصغر (وهو أنطيوخوس إبيفانيس)، ويحارب تيس المعز ضد كبش له قرنان أحدهما أطول من الآخر (الأسرة المالكة الإيرانية: الميديون والفرس).

                    أما الرؤيا الثالثة، فهي رسالة حملها إلى دانيال الملك جبرائيل تتعلق بالمملكة المشيحانية التي ستأتي بعد تسعة وأربعين عاماً، بعد أن يكفِّر اليهود عن خطاياهم.

                    أما الرؤيا الرابعة، وهي أطول الرؤى، فتأخذ شكل رسائل من الإله تؤكد محبته للمؤمنين الأمناء في شعبه، وهي تخبره عما سيحدث من وقت السفر الافتراضي (ثالث عام من حكم قورش) حتى خلاص جماعة يسـرائيل. فسـيأتي بعـد قورش ثلاثة ملوك فرس، ولكن اليونان سيحلون مكانهم، أولهم ملك عظيم (الإسكندر الأكبر). ثم يستمر السفر في سرد تفاصيل الحروب والزيجات الملكية المختلفة بين ملوك الممالك اليونانية، إلى أن يصل إلى التدخل الروماني الذي اضطر أنطيوخوس الرابع (إبيفانيس) إلى الانسحاب من مصر عام 168 ق.م، ثم اضطهاده لليهودية. ويتناول بقية السفر ما سيحدث بعد ذلك.

                    والجزء الثاني من سفر دانيال يُعَد من كتب الرؤى (أبوكاليبس)، والتي تختلف اختلافاً جوهرياً عن كتب الأنبياء. فبينما تركز كتب الرؤى على تفسير التاريخ تفسيراً عجائبياً غير أخلاقياً، حيث يأتي الخلاص ويصبح كل ما يحدث في التاريخ الإنساني مصيراً محتوماً، تركز كتب الأنبياء على الخلاص التدريجي، ومن خلال الإرادة الإنسانية. وقد أصبح السفر أساساً لكثير من التأملات الرؤياوية والصوفية، وخصوصاً تلك المتعلقة بحسابات مقدم الماشيَّح. والواقع أن هذا السفر في عداد القسم المسمَّى بالكتب في العهد القديم، وقد كُتب بعضه بالعبرية وبعضه بالآرامية. وكان بعض الباحثين يرى أن هذا السفر كتبه علماء المجمع الكبير. ولكـن معظم العلمـاء يرون الآن أن الجــزء الأكبر كُتب عـام 300 ق.م، أما الثاني، فكُتب في عهد أنطيوخوس الرابع في وقت كانت اليهودية تتعرض فيه للاضطهاد الشديد على يد هذا الحاكم السلوقي، ولذا فإن رسـالة الأمـل التي يحمـلها السفر مناسبة للعصر.

                    وسفر دانيال أول سفر ترد فيه إشارة صريحة وواضحة إلى حياة ما بعد الموت والبعث، وهي حياة مقصورة على كلٍّ من الأخيار والموغلين في الشر (12/2). وترد في السفر أيضاً إشارات عديدة إلى الملائكة، وأن لكل أمة ملاكهـا، وميـخائيل هو ملاك جمــاعة يســرائيل. ويُقــال إن شخصــية دانيــال رُسمت على طراز «دانيال» الذي أشير إليه في حزقيال (14/13 ـ14)، وهو شخص معروف بحكمته، يظهر في بعض النصوص الأوجاريتية. ويثير سفر دانيال كثيراً من الجدل، فهو أولاً لا يرد ضمن كتب الأنبياء في النسخة العبرية من العهد القديم، وإنما يرد ضمن كتب الحكمة. أما الترجمــة السبعــينية، فتورده في القسم الخاص بالأنبياء، ولعل هذا يعود إلى أن نص السفر كُتب متأخراً كما أنه كُتب بالعبرية والآرامية. وقد اقتبس كتاب «رؤيا يوحنا اللاهوتي» كثيراً من أفكار وتصويرات ورؤى سفر دانيال عن الممالك الكونية وسقوطها. ويمثل سفر دانيال المعين الذي لا ينضب لتفسيرات كنائس السبتيين المسيحية (الأدفنتست) الذين يتبنون رؤيته للتاريخ الكوني.

                    حزقيـال (حوالي 593-570 ق0م)
                    Ezekiel


                    «حزقيال» أو «يحزقئيل» كلمة عبرية معناها «الإله يقوِّي». وحزقيال نبي من أسرة صادوق الكهنوتية ومن قبيلة إفرايم، وهو معاصر لإرميا، وقد كان على دراية تامة بتعاليمه وصوره المجازية الإيضاحية. أطلق حزقيال نبوءاته في القدس، ثم في بابل حيث هُجِّر مع اليهود الذين هُجِّروا إلى هناك، واستمر في التنبؤ لسنوات طويلة (593 ـ 570ق.م). ويبدو أنه نُفي قبل التدمير النهائي للقدس (586 ق.م)، فقد تنبأ بدمارها، وألقى باللوم على اليهود الذين بقوا في المملكة الجنوبية لاتباعهم طرق الشر، ولثقتهم البالغة في نجاتهم من التهجير البابلي. وقد استخدم حزقيال «الزنى» كصورة مجازية، وهي الصورة التي استخدمها هوشع من قبل، ولكنه طورها. كما أنه كان يرى أن تاريخ الشعب كله، منذ الخروج، تاريخ عصيان (20/1 ـ 38).

                    ولكنه، بعد تحطيم القدس، أدخل العـزاء على قـلب المتــقين برؤى الخــلاص ونبـوءات الخـراب التي سـتلحق بالأغيار. وقد فسَّر حزقيال الغرض الإلهي من شتات اليهود بأنه نشر العدالة في العالم، وبشر بفكرة أورشليم المستقبل حينما يغفر الإله للشعب. وبين لهم أن خطايا الجيل السابق لا تمنع الجيل الحالي من أن يقرر، إن شاء، العودة إلى الإله. وثمة أمل في أن يعود الشعب إلى أرضه، ليعيش في سلام وطمأنينة يسوس أموره حكامه، ويكون الإله هو راعيه الصالح. وسيقوم الشعب ببناء الهيكل الجديد. ويبشر حزقيال كذلك بطبيعة الشعب التي ستُخلَق من جديد، فجماعة الإله الجديدة هي موضوع رجاء شعبه (36/24 ـ 30). ويتميَّز حزقيال بتأكيده المسئولية الفردية بشكل أوضح (18، 33/1 ـ 20).
                    وسفر حزقيال ثالث الأسفار في كتب الأنبياء العظام، وهو مكتوب بضمير المتكلم، وأسلوبه شعري ويحوي صوراً مجازية ورموزاً عديدة.

                    حـجاي (حوالي 520 ق0م)
                    Haggai


                    «حجَّـاي» اسـم عبــري معـناه «عــيد» (مولــود في يـوم عيـد). وحـجَّاي أحـد الأنبيــاء الصـغار. تنـبأ بعد التهجير إلى بابل في العـام الثـاني من حكــم دارا الأول. وقـد دعـا إلى إعادة بناء الهيكــل، وتحـدث عـن قـوانين النجــاسة، وتنبأ بعظمة الهيكل.

                    زكريـــــا (حوالي 520 ق0م)
                    Zechariah


                    «زكريا» (زخارياه) اسم عبري معناه «يهوه قد ذكر». وزكريا أحد الأنبياء الصغار. وقد كتب زكريا سفره أثناء حكم دارا الأول وبعد العودة من بابل، وكان زكريا من الكهنة. وتتعلق نبوءاته بتجميع المنفيين، والتحرر من النير الأجنبي، وتوسيع القدس. وهو يصف رؤاه وتفسيرها من خلال ملاك. وينسب بعض العلماء الإصحاحات 9 - 14 إلى مؤلف آخر عاصر فترة الهيكل الأول، وذلك على أساس لغتها ومضمونها.

                    ملاخــي (حوالي 450 ق0م)
                    Malachi


                    «ملاخي» اسم عبري معناه «رسولي» أو «ملاكي». وملاخي آخر أنبياء العهد القديم، يقرنه البعض بعزرا، ويساوون بينهما. ويرى بعض العلماء أن «ملاخي» ليس اسم عَلَم وإنما صفة لكاتب السفر. وقد عاش ملاخي بعد بناء الهيكل الثاني. ويتضمن السفر توبيخاً للكهنة، لتراخيهم في تطبيق قواعد القرابين والعشور، فهم يقدمون ذبائح بها عيوب ولا يعيشون وفقاً للشريعة، وهم لا يعلِّمون الناس الحق. وهو يذم التزوج بمن هن من خارج المجتمع. وينتهي السفر برؤية أخروية ليوم الإله.

                    عـوبديــا (حوالي 450 ق0م)
                    Obadiah


                    «عوبديا» اسم عبري معناه «عبد يهوه». وعوبديا رابع الأنبياء الصغار، يوجه اللوم العنيف في سفره إلى أدوم، لأنها لم تهبّ لمساعدة القدس ساعة محنتها. ويؤكد فيه أن يوم الرب قريب. ومن غير المعروف متى كُتب السفر، ولكن من المتفق عليه أنه كُتب بعد هدم الهيكل.

                    يوئيل (حوالي 400 ق0م)
                    Joel


                    «يوئيل» تركيب عبري معناه «يهوه هو الإله». ويوئيل أحد الأنبياء الصغار، وهو أيضاً مؤلف السفر الذي يُعرف باسمه. ويمكن تقسيم سفر يوئيل إلى ما يلي: الإصحاحين الأول والثاني اللذين ترد فيهما نكبة الجراد، ثم الإصحاحين الثالث والرابع اللذين يتناولان يوم الرب حينما يعيد الرب شعبه من السبي ويعاقب أعداءه. والتاريخ الذي كُتب فيه السفر غير معروف، فمن العلماء من يظن أن كاتبه كان معاصراً لأشعياء، ومنهم من يذهب إلى أنه عاش في ملك يوشيا، ولكن ثمة اتفاقاً عاماً بين العلماء على أن يوئيل تنبأ بعد العودة من بابل.
                    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                    http://www.rasoulallah.net/

                    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                    http://almhalhal.maktoobblog.com/



                    تعليق


                    • #11
                      اليهـودية الحاخاميـة (التلمـودية)
                      Rabbinical (Talmudic) Judaism


                      «اليهودية الحاخامية» أو «اليهودية التلمودية» أو «اليهودية الربانية» أو «اليهودية الكلاسيكية» أو «اليهودية المعيارية» هي شكل العقيدة اليهودية السائد بين معظم الجماعات اليهودية في العالم ابتداءً من حوالي القرن التاسع الميلادي وحتى نهاية القرن الثامن عشر. وهي عبارة استخدمها اليهود القرّاءون ليؤكدوا أن النسق الديني الذي يؤمن به الفريق الديني المعادي لهم لا يتمتع بالمطلقية وإنما هو ثمرة جهود الحاخامات (بمعنى الفقهاء) الذين فسروا التوراة (الشريعة المكتوبة) وابتدعوا الشريعة الشفوية (التوراة الشفوية أو التلمود) وجعلوها الأساس الذي تستند إليه رؤيتهم الدينية والمحور الذي تدور حوله وذلك تمييزاً لها عن اليهودية (التوراتية، إن صح التعبير) التي تستند إلى التوراة وحسب (الشريعة المكتوبة) المرسلة من الإله. ولكن، بتحوُّل القرائين إلى جماعة دينية هامشية، أصبح مصطلحا «يهودية حاخامية» و«يهودية» مترادفين.

                      واليهودية السائدة في إسرائيل على المستوى الرسمي هي اليهودية الحاخامية التلمودية، وهو ما يسبب كثيراً من المشاكل لأعضاء الجماعات الدينية أو الإثنية اليهودية الأخرى، مثل: الفلاشاه والسامريين وبني إسرائيل (من الهند)، فهم لا يعترفون بالتلمود ولا يعرفونه أصلاً. والوضع نفسه يسري تقريباً على اليهود الإصلاحيين والمحافظين (رغم ادعاء الفريق الثاني أن يهوديتهم المحافظة إن هي إلا تطوير لليهودية الحاخامية). وفي مقابل هذا، فإن دار الحاخامية في إسرائيل (ممثلة اليهوديـة الحاخامية) لا تعترف بهم كيهود.

                      اليهوديــة الربانيــة
                      Rabbinical Judaism


                      «اليهودية الربانية» مصطلح مرادف لمصطلح «اليهودية الحاخامية التلمودية». وتستخدم هذه الموسوعة المصطلح الأخير لأننا نترجم كلمة «رابي» إلى كلمة «حاخام» التي كانت شائعة في الدولة العثمانية. وكلا المصطلحين مرادف أيضاً لكلٍّ من «اليهودية المعيارية» و«اليهودية الكلاسيكية».

                      اليهوديـة المعياريـة
                      Normative Judaism


                      «اليهودية المعيارية» صياغة أخرى لمصطلح «اليهودية الكلاسيكية» أو «اليهودية الحاخامية والتلمودية»، وهو مصطلح يستند إلى تصوُّر أن ثمة جـوهراً ثابتاً لليهـودية، فلُب اليهودية (حسـب هذا التصور) متفق عليه، وهو أن عدم التجانس لا ينصرف إلا إلى الأفكار الفرعية، وأن العقائد اليهودية الأساسية أمر مستقر ومحدد. ولكن، نظراً لتركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي، فإن هذا الجوهر من الصعب الوصول إليه، إذ يصعب تقرير الأساسي والفرعي وتمييز اللباب عن القشور. والواقع أن ما يراه مفكر ما لب اليهودية، يجده آخر أمراً ثانوياً، وقد تكون التصورات اليهودية الخاصة بالإله وتأرجحها بين التوحيد والحلولية مثلاً جيداً على ذلك. ويرفض كثير من المفكرين اليهود المحدثين فكرة اليهودية المعيارية مفضلين رؤية اليهودية ككيان عضوي متطور منفتح يتغيَّر بتغيُّر الظروف والبيئة، أي أنها نسق فكري (تاريخاني) غير متجاوز للزمان والمكان.

                      ولعل في افتقار اليهودية إلى المعيارية ما جعل بوسع الصهيونية أن تبحث لنفسها عن شرعية من خلال الدين اليهودي نفسه، ثم تنجح في الاستيلاء على اليهودية ككل من خلال علمنتها من الداخل. وهذا أيضاً هو السبب في أن اليهودية التجديدية التي لا تؤمن بالإله أو تسوِّي بينه وبين فكرة التقدم وتقرنه به مازالت تستطيع أن تُطلق على نفسها مصطلح «يهودية». وللسبب نفسه، فإن أكثر من خمسين في المائة من يهود العالم لا يؤمنون بالإله، ومع هذا يصرون على تسمية أنفسهم «يهوداً» (وإن كانوا يقرنون كلمة «يهودي» بكلمة «إثني» حتى يميِّزوا أنفسهم عن اليهود المتدينين أو المعياريين).

                      اليهودية الكلاسيكية
                      Classical Judaism


                      مصطلح «اليهودية الكلاسيكية» مرادف مصطلح «اليهودية المعيارية». وفي هذه الموسوعة فإننا نشير إلى «اليهودية الكلاسيكية» بتعبير «اليهودية الحاخامية» أو «اليهودية التلمودية». ويمكن أن نقول إن تاريخ ظهورها يرجع إلى ما بعد تدوين التلمود وبداية العصور الوسطى في الغرب (القرن التاسع تقريباً). وقد بدأ نفوذ اليهودية الكلاسيكية ينحسر مع عصر الاستنارة والانعتاق في نهاية القرن الثامن عشر، وانقسمت بعدها اليهودية إلى فرق عديدة. وتُعَدُّ اليهودية الأرثوذكسية استمراراً لليهودية الكلاسيكية أو المعيارية أو الحاخامية.

                      التلمــود: تاريــخ
                      Talmud: History


                      «التلمود» كلمة مشتقة من الجذر العبري «لامد» الذي يعني الدراسة والتعلم كما في عبارة «تلمود توراه»، أي «دراسة الشريعة». ويعود كل من كلمة «تلمود» العبرية وكلمة «تلميذ» العربية إلى أصل سامي واحد. والتلمود من أهم الكتب الدينية عند اليهود، وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، أي تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة (التوراة). ويخلع التلمود القداسة على نفسه باعتبار أن كلمات علماء التلمود كان يوحي بها الروح القدس نفسه (روح هقودش) باعتبار أن الشريعة الشفوية مساوية في المنزلة للشريعة المكتوبة. والتلمود مُصنَّف للأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية، وسجل للمناقشات التي دارت في الحلقات التلمودية الفقهية اليهودية حول المواضيع القانونية (هالاخاه) والوعظية (أجاداه). وقد أصبح التلمود مرادفاً للتعليم القائم على أساس الشريعة الشفوية (السماعية). ومن هنا، يطلق المسعودي (المؤرخ العربي الإسلامي) على سعيد بن يوسف اسم «السمعاتي» (مقابل «القرائي» أو من يرفض التراث السماعي ويحصر اهتمامه في قراءة التوراة المكتوبة).

                      وتتضح الخاصية الجيولوجية اليهودية في التلمود، فهو يضم داخله وجهات نظر شتى متناقضة تماماً، فهو عبارة عن موسوعة تتضمن الدين والشريعة والتأملات الميتافيزيقية والتاريخ والآداب والعلوم الطبيعية. كما يتضمن، علاوة على ذلك، فصولاً في الزراعة وفلاحة البساتين والصناعة والمهن والتجارة والربا والضرائب وقوانين الملكية والرق والميراث وأسرار الأعداد والفلك والتنجيم والقصص الشعبي، بل ويغطي مختلف جوانب حياة اليهودي الخاصة، أي أنه كتاب جامع مانع بشكل لا يكاد يدع للفرد اليهودي حرية الاختيار في أي وجه من وجوه النشاط في حياته العامة أو الخاصة، إن هو أراد تطبيق ما جاء فيه. ويشيرون إلى التلمود بعبارة «كلُّ بو» (أي: كلٌّ به)، فهو يشتمل على كل ما يَعنُّ لليهودي أن يسأل عنه من شريعة دينه.

                      والواقع أن التلمود ليس من الكتب الباطنية أو تلك التي تحيط بها هالة من السرية والغرابة والإخفاء (كما يتوهم البعض). وهناك نسخ منه في معظم المكتبات الجامعية المتخصصة في الولايات المتحدة وفي بعض مكتبات مراكز البحوث أو الجامعات في الدول العربية. ويُلاحَظ أن التلمود كتاب ضخم متعدِّد الأجزاء، مجلداته كثيرة وضخمة تصل في بعض الطبعات إلى ما يزيد على عشرين مجلداً. لكن هناك طبعة «إفري مانز تلمود Everyman's Talmud» المختصرة.

                      وهناك تلمودان:

                      1 ـ التلمودالفلسطيني: وينسبه اليهود خطأً إلى أورشليم (القدس) فيقولون «الأورشليمي»، ذلك مع أن القدس خلت من المدارس الدينية بعد هدم الهيكل الثاني، وانتقل الحاخامات إلى إنشاء مدارسهم في يفنه وصفورية وطبرية. كما أطلق يهود العراق على التلمود الفلسطيني اسم «تلمود أرض يسرائيل»، وأطلقوا عليه أحياناً اسم «تلمود أهل الغرب» نظراً لوقوع فلسطين إلى الغرب من العراق.

                      2 ـ التلمود البابلي: وهو نتاج الحلقات التلمودية (أكاديمية - يشيفا) في العراق (بابل)، وأشهرها سورا ونهاردعه وبومبديثا. ويُعرَف هذا التلمود في حالات نادرة جداً باسم «تلمود أهل الشرق».

                      وكلا التلمودين مُكوَّن من المشناه والجماراه. والمشناه في كل منهما واحد لا اختلاف بينهما، أما الجماراه فاثنتان: إحداهما وُضعت في فلسطين، والأخرى في العراق. ولما كانت الجماراه البابلية أكمل وأشمل من الجماراه الفلسطينية، فإن التلمود البابلي هو الأكثر تداولاً، وهو الكتاب القياسي عند اليهود. ولذا، فحين يُستخدَم لفظ «التلمود» بمفرده، محلَّى بأداة التعريف، فإن المقصود به هو التلمود البابلي دون سواه، وذلك على أساس الميزة والأفضلية والتفوق. وفي الكتابات العلمية، يشير اللفظ إلى الجماراه وحدها. ويضاف عادةً تعليق راشي على التلمود عند طبعه، وإن كان هذا التعليق لا يُعَدُّ جزءاً منه. ويبلغ عدد كلمات التلمود البابلي مليونين ونصف مليون كلمة في نسخته الأصلية (تشكل الأجاداه 30% منها)، وعلى هذا فإن حجمه يبلغ ثلاثة أضعاف حجم التلمود الفلسطيني. وقد كُتب التلمود بأكثر من لغة، فالمشناه كُتبت بعبرية خاصة تُسمَّى عبرية المشناه، أما الجماراه فكُتبت بالآرامية (كُتبت الجماراه الفلسطينية باللهجة الآرامية الغربية، أما الجماراه البابلية فكُتبت باللهجة الآرامية الشرقية). وتتسم الشروح الواردة في التلمود الفلسطيني بأنها أقصر وأكثر حرفية وقرباً من النص.

                      ويُلاحَظ أن بعض المفاهيم القانونية في التلمود البابلي تعكس أثر القانون الفارسي. كما أن التلمودين مختلفان في بعض المواطن، فيُلاحظ مثلاً أن الموقف من الوثنيين في التلمود البابلي أكثر تسامحاً لأن وضع اليهود في بابل كان جيداً، فقد جاء في التلمود البابلي أن الأغيار خارج فلسطين لا يمكن اعتبارهم من الوثنيين. وبينما يُحرِّم التلمود الفلسطيني بيع أية سلع للوثنيين في الأيام الثلاثة التي تسبق أي عيد وثني، فإن علماء بابل حرموا البيع في أيام العيد الوثني وحسب.

                      ومن أهم التطورات التي دخلت الشريعة اليهودية ما جاء في التلمود البابلي من أن: «شريعة الدولة هي شريعتنا»، بل قد ورد في التلمود البابلي دعاء خاص يُتلى أمام ملوك الأغيار ويطلب لهم البركة، نصه: "مبارك هو الذي منح مخلوقاته شيئاً من جلاله".

                      وتعود الآراء والفتاوى التي وردت في التلمود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وقد بدأت عملية جمعها وتدوينها مع القرن الثاني الميلادي، واستمرت عملية التفسير والتدوين حتى القرن السادس. وبعد اكتمال نـص التلمود، اسـتمرت الإضافات والتعـليقات، حتى القرن التاسع عشر، حين أضاف إلياهو )فقيه فلنا) تعليقاته. ويمكن تلخيص ظهور التلمود وتطوُّره على النحو التالي:

                      السنة / الإضافات والتعليقات

                      400 - 100 ق.م / الكتبة (سوفريم) يكتبون كتب المدراش بالعبرية.

                      150 ق.م - 30 م / الأزواج (زوجوت).

                      100 ق.م - 70 م / الفريسيون دعاة الشريعة الشفوية.

                      70 - 200 / معلموا المشناه (التنائيم)، يهودا الناسي يجمع أقوال العلماء الدينيين السابقين في المشناه المكتوبة بالعبرية.


                      200 - 400 / الشراح (أمورائيم) الجماراه الفلسطينية بالآرامية، وقليل من العبرية.

                      200 - 500 / الشراح (أمورائيم) الجماراه البابلية بالآرامية وقليل من العبرية.

                      500 - 700 / المفسرون (صبورائيم) تدوين المشناه والجماراه. وبذا يكون قد انتهى تدوين التلمود، وتبدأ مرحلة التعليقات.

                      700 - 1000 / الفقهاء (جاءونيم) في بابل ينشرون التعاليم التلمودية.

                      1000 / تعليقات راشي (1040 - 1105)، وتعليقات الشراح الإضافيين (توسافوت) - أهم التعليقات بالعبرية.

                      1200 / موسى بن ميمون (1135 - 1204) يؤلف مشنيه توراه (تثنية الشريعة).

                      1300 / يعقوب بن آشر يؤلف سفر هاطوريم (كتاب الصفوف).

                      1600 / جوزيف كارو (1488 -1575) يؤلف الشولحان عاروخ (المائدة المصفوفة) عام 1564 ، ويشير إلى أن الإيمان بالقبالاه فرض ديني.

                      1850 / إلياهو (فقيه فلنا) يضيف تعليقاته.

                      ويتكون التلمود من عنصرين؛ فهناك العنصر الشرعي والقانوني (هالاخي) الذي يُذكِّرنا بأحكام الفرائض والتشريعات الواردة في أسفار الخروج واللاويين والتثنية، وهناك العنصر القصصي والروائي والأسطوري (أجادي) بما يشمله من الأقوال المأثورة (والأخبار والخرافات والشطحات والخيال) إلى جانب السحر والتراث الشعبي. ومعظم المشناه تشريع (هالاخاه)، بينما معظم الجماراه قصص وأساطير (أجاداه). ويُلاحَظ أن التفسير يستمد أهميته وثقله من مدى قدمه، فالأقدم أكثر ثقةً وأهمية من الأحدث.

                      ويشكل التلمود، بسبب ضخامته وطريقة تصنيفه، صعوبة غير عادية في محاولة استخدامه والاستفادة منه. ومن هنا، بدأت جهود تصنيفه بعد الانتهاء منه. وقد كانت أولى هذه المحاولات هي هالاخوت بيسكوت (القوانين المقررة) التي تُنسَب إلى يهوداي جاءون، والقوانين العظمى التي كتبها سيمون كيارا، وكلا العملين يلخصان المادة التلمودية المتعلقة بالشـرائع. وظهـرت عـدة مصـنفات أخرى في القرن الحادي عشر، وخصوصاً في العالم العربي، في شمال أفريقيا وأوربا وأهمها:

                      1 ـ مشنيه توراه، أي «تثنية التوراة» أو «إعادة الشريعة» التي كتبها موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر. وهي من أهم الأعمال التي صدرت في هذا الحقل. ويختلف منهجه عن التلمود في أنه لا يكتفي بالعرض دون ترجيح. وهو لا يجمع روايات ولا يخوض غمار المناقشات بل نجده يفصل في الأمور حكماً فاصلاً. وقد اتبع ابن ميمون مبدأ عقلانياً، فأقصى عن مادته جميع القواعد الشعبية التي كانت في منزلة الشريعة في زمن التلمود والتي ترجع جذورها إلى الخرافات الشائعة. والموقف الأساسي لديه يتلخص في القول بأن الشريعة والشعائر وُجدت من أجل الإنسان وليس العكس. وقد أعاد موسى بن ميمون توزيع السداريم الستة إلى أربعة عشر كتاباً يُسمَّى الواحد منها «السفر». وقد اشتهر كتابه باسم «يد حزقاه» (أي «اليد القوية») لأن الياء تساوي عشرة والدال تساوي أربعة في حساب الجمل، وفي ذلك ما يرمز إلى الأربعة عشر جزءاً التي يتألف منها الكتاب.

                      2 ـ وقد أثّر مصنف ابن ميمون في المصنفات التي جاءت بعده. ويظهر هذا في كتاب سـفر هاطوريم، أو كتاب الصفوف الذي وضعه يعقوب بن آشر في الأندلس في القرن الرابع عشر حيث اعتمد على تثنية التوراة في تنسيق الأحكام الشرعية وثيقة الصلة بالحياة العملية، وحذف تلك الشرائع التي أصبحت بالية منذ هدم الهيكل.

                      3 ـ الشولحان عاروخ. وقد وضعه جوزيف كارو في القرن السادس عشر، وقد اتبع تقسيم سفر هاطوريم، وهو آخر التصنيفات وأصبح أهمها، وخصوصاً بعد أن قام موسى إيسيرلز (موشى يسرائيليتش) بإضافة شروحه. ويُعَدُّ الشولحان عاروخ المستودع الأساسي للأفكار والقيم الحاكمة في اليهودية الحاخامية أو التلمودية.

                      وقد ظل التلمود مجهولاً تقريباً في أوربا المسيحية، ولم يكتشفه المسيحيون إلا في أواسط القرن الثالث عشر، وذلك عن طريق اليهود المتنصرين. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح التلمود محط سخط السلطات الدينية لأنها كانت تراه كتاب خرافات مسئولاً عن عدم اعتناق اليهود المسيحية، كما كانت ترى أنه يحتوي على ملاحظات مهينة ضد المسيحية كعقيدة، وضد شخص المسيح. ومما يذكره التلمود عن المسيح أنه كان يهودياً كافراً، وأن تعاليمه كفرٌ بيِّن، وأن المسيحيين كَفَرة مثله، وأن أمه حملت به سـفاحاً من جنـدي رومـاني يُدعى بندارا. ويضم التلمود، فضلاً عن ذلك، أجزاء عن محاكمة المسيح في السنهدرين، ويُقر بأن اليهود هم الذين صلبوا المسيح، وأنهم يتحملون المسئولية كاملة عن ذلك. وقد كانت الكنيسة تنظم مناظرات (مجادلات خلافية) علنية يشترك فيها عادةً يهود متنصرون ملمون بالتلمود ويعرفون جوانبه السلبية. ومن أهم المناظرات، وربما آخرها، تلك المناظرة التي تمت في بولندا في يونيه 1757 ويوليه 1759 بين أتباع يعقوب فرانك وممثلي المؤسسة الحاخامية. وقد كانت الكنيسة تحرق نسخ التلمود التي تُضبَط من آونة إلى أخرى.

                      ويُلاحَظ أن تزايد انتشار التلمود بين اليهود يشكل تزايداً في هيمنة الحلولية الواحدية على الفكر الديني اليهودي. ومما ساهم في عملية شيوع التلمود، تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، لا ترتبط بالوطن الذي تعيش في كنفه، وإنما بوطن وهمي. وهذا الارتباط يحقق لها قدراً من الهوية شبه المستقلة عن مجتمع الأغلبية، وكان هذا أمراً ضرورياً لها كي تضطلع بوظيفتها التي تتطلب عادةً الحياد والانفصال العاطفي وأحياناً الفعلي. وإذا كانت صهيون الوطن الوهمي البعيد، فإن التلمود أصبح الوطن المتنقل. وتنحو الجماعات الوظيفية منحى حلولياً (في إيمانها بأنها موضع القداسة وفي موقفها المنكر للزمان والمكان). وقد ساهم هذا بكل تأكيد في تَزايُد شيوع التلمود بين أعضاء الجماعات اليهودية. ومما ساعد التلمود على اكتساب مركزية في الفكر الديني اليهودي جهل أوربا المسيحية بوجوده حتى القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ما يعني أنه أصبح الرقعة اليهودية الخالصة، بعد أن اعتبرت الكنيسة العهد القديم (كتاب اليهود المقدَّس) أحد كتبها المقدَّسة. ولكل هذا، حل التلمود محل التوراة في العصور الوسطى باعتباره كتاب اليهود المقدَّس الأساسي، حتى أن كثيراً من الحاخامات كانوا يعرفون التلمود أساساً ويعرفون العهد القديم بدرجة أقل. وقد تركزت في التلمود، بعد تدوينه، كل السلطة الدينية والروحية في اليهودية، حتى أن كل قرار في الحياة اليهودية، مهما علا شأن هذا القرار أو صَغُر، قد جرى اتخاذه وفقاً للسلطة التلمودية.

                      ومع هذا، فقد أخذت قبَّالاة الزوهار، والكتب القبَّالية الصوفية الحلولية الأخرى، تحل ابتداءً من القرن السادس عشر محل التلمود، إلى أن اكتسبت الصدارة في القرن السابع عشر. ويُقـال إن اليهود المنتشرين في الشتتلات، بعيداً عن مراكز الدراسات الحاخاميــة، كانــوا يعرفـون الزوهار، ولا يعرفون إلا أقل القليل عن التلمود. وعلى كل، فإن التلمود كان دائماً كتـاب الأرستقراطية الدينية الحاخامية، فهــو مكتوب بأسلــوب مركب وبلغــة لا تعرفها الجمـاهير التـي كانت لا تعــرف العــبرية ولا الآرامـية (بطبيعة الحال). ولهذا، كانت حركات الاحتجاج الشــعبي بين اليــهود (الصــوفية والمشيــحانية) تأخذ شـكل معـاداة التلمود ومعاداة سلطتـه ومعــاداة المؤســسة التي تدرســه وتهيمن باسمه. وأولى هذه الحركات هـي الحركـة القرائيــة التي لم تكن حركـة شعــبية بـقدر ما كانت حركة عقلانية متأثرة بالفكر الإسلامي. ولكن الحركات الصوفية المشيحانية اليهودية كانت شعبية إلى حدٍّ كبير، وقد اتخذت موقفاً سلبياً من التلمود، فكان المتصوفة ينظرون إليه باعتباره المحارة التي يكمن داخلها المعنى الخفي للتوراة. كما أن الحركات المشيحانية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رفضته تماماً. ومع هذا، يُلاحَظ أن التفسيرات السائدة داخل كثير من المدارس التلمودية العليا، وداخل الدوائر الحاخامية، كانت تفسيرات قبَّالية.

                      ولكن الضربة القاضية جاءت مع حركة التنوير، فحركة التنوير بين أعضاء الجماعات اليهودية، في مراحلها الأولى، كانت ذات اتجاه ربوبي إصلاحي يهدف إلى إصلاح اليهودية دون التخلي عنها. ومن هنا وجَّه دعاة الحركة سهام نقدهم إلى التلمود وأنكروا قداسة الشريعة الشفوية ككل، وأصروا على اعتبار التلمود بمنزلة مجموعة من تفسيرات المشرعين والشارحين يرجع عهدها إلى فترة متأخرة، كما نفوا كل سلطة إلزامية، وأنه في واقع الأمر يعبر عن السلطة الحاخامية، وبينوا ما في التلمود من خرافات وحكايات شعبية تتنافى ـ في تصورهم ـ مع العقل.

                      وكان معظم هؤلاء النقاد ممن تلقوا تعليماً غربياً علمانياً، ولذا لم تكن لديهم الكفاءات الأكاديمية اللازمة لفَهْم التلمود أو تفسيره، ومع هذا استمروا في هجومهم الشرس الذي تصاعد بعد ذلك مع تصاعُد حدة حركة التنوير نفسها، التي انتقلت من مرحلة الربوبية إلى مرحلة إلحادية صريحة معادية لا للتفسيرات البشرية وحسب وإنما لأية نصوص مقدَّسة. وأعلن دعاة حركة التنوير أنه لا أمل يُرجى في تطوُّر اليهود إلا بالإطاحة بسلطة التلمود وبينوا للحكومات الغربية مدى خطورة هذا الكتاب وأنه سبب هامشية اليهود وتخلفهم. ولكن الحاخامات الأرثوذكس، أعضاء المؤسسة الدينية الحاخامية الذين كان يدور عالمهم حول التلمود وحده، والذين كانوا لا يعرفون الكثير عما يدور حولهم، ولا يدركون أهمية الإصلاح، دافعوا دفاعاً مستميتاً عن التراث التلمودي ووقفوا بشراسة ضد كل محاولات التطوير. وحينما حاولت حكومات شرق أوربا ووسطها تحديث اليهود، كان الجهد ينصب دائماً على التلمود فكان يُستبعَد تماماً من مدارس اليهود، كما كان يُحرَّم على اليهود أحياناً قراءته لأبنائهم قبل بلوغهم سن الرشد. وفي الوقت الحالي، فإن الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعات اليهودية يرفضون التلمود بل يجهلون ما جاء فيه ولا يعرفون حتى حجمه.

                      وأثر التلمود والشرع التلمودي واضح في قوانين الأحوال الشخصية في إسرائيل، فالتشريعات التي تضبط قضايا الزواج والطلاق فيها لا تختلف عن الأحكام التلمودية الواردة في أسفار سدر ناشيم. وفي شئون الطلاق، لا يزال سفر جيطين المصدر الأساسي للأحكام المتعلقة بوثيقة الطلاق (جيط) التي يكتبها الزوج. وفي مسائل الزواج وتسجيل المواليد، لا تزال أحكام الشريعة التي حددها التلمود هي الشريعة السائدة، فاليهودي هو المولود لأم يهودية، أو من اعتنق اليهودية على يد حاخام أرثوذكسي. وعملية التهود ليست هينة، إذ يصر الحاخام على التقيد بالشعائر التلمودية، ومن بينها الحمام الطقوسي الذي يجب أن تخضع له الأنثى التي تريد التهود، فتدخل الحمام عارية تماماً، بحضور ثلاثة من الحاخامات وتحت أنظارهم.

                      وكذلك تُطبَّق في إسرائيل الشرائع التلمودية الخاصة بقوانين الطعام والقـوانين الزراعية التي وردت في سـفر براخوت من سـدر زراعيم. ويُدرَّس التلمود في إسرائيل، وتقتصر الدراسة في المدارس والمعاهد الدينية على دراسته، كما أن جامعة بار إيلان تشترط على طلابها تحصيل معرفة تمهيدية بالتلمود.

                      وقد طُبع التلمود الفلسطيني في البندقية (1523 ـ 1524). كما أن التلمود البابلي كان قد بدأت طباعته في إسبانيا عام 1482. لكن أقدم طبعة كاملة ظهرت في البندقية أيضاً (1520 ـ 1523)، وأشرف على طبعها دانيال بومبرج. وقد أصبحت هذه الطبعة النموذج الأصلي الذي حذت حذوه مختلف الطبعات التي تلتها. وقد نُشـرت الطبعـة القياسـية في فلــنا عام 1886، وهي تحوي تعليقات، وتعليقات على تعليقات في أكثر من عشرين جزءاً. فكان يتم طبع المشناه والجماراه في العمود الأوسط، وتُطبَع ببنط أسود، ثم تُطبَع في العمود المجاور لها تعليقات راشي على النحو التالي:

                      وقد تُرجم التلمود إلى معظم اللغات الأوربية الأساسية،




                      صفحة من سفر ماكوت من سدر نزيقين (طبعة فلنا) ، وهي تناقش مصير إنسان صدر عليه حكم ولكنه فر. وكيف يمكن إصدار حكم آخر عليه.

                      1- نهاية الجماراهمن مقطوعة المشناه السابقة.

                      2- المقطوعة داخل المربع هي مقطوعة المشناه موضع النقاش في هذه الصفحة.

                      3- الجماراه المتعلقة بها.
                      أ) مدراش تشريعي (هالاخي) يؤيد ما جاء في المشناه.
                      ب) ثلاثة تعليقات قصيرة من حلقات فلسطين وسورا وبومبديثا التلمودية.

                      4- علامة تدل على انتهاء الفصل.

                      5- مقطوعة مشناه أخرى.

                      6- تعليق راشي.

                      7- تعليق الشراح الإضافيين (التوسافوت)تناقش نقطة محددة من الجماراه وتعليق راشي.

                      8- إحالات لمصادر تلمودية وحاخامية أخرى.

                      9- تعليقات كتبها جويل سيركيس (1561 - 1640).

                      10- إشارات لمصنفات موسى بن ميمون ، ويعقوب بن آشر.

                      11- تعليقات أحد حاخامات شرق أفريقيا من القرن الحادي عشر.

                      12- إشارات للكتاب المقدس.

                      13- ملاحظات كتبها إلياهو (فقيه فلنا).
                      وتُرجمت مختارات قصيرة منه إلى العربية لا تمثل الطبيعة الجيولوجية المتناقضة للفكر التلمودي. ولكنه تُرجم بأكمله إلى الإنجليزية (في لندن) وإلى كثير من اللغات الأوربية الأخرى.

                      ويُلاحَظ أن الرقابة الحكومية كانت تفرض على اليهود أحياناً أن يحذفوا بعض الفقرات التي تُظهر عداءً متطرفاً للأغيار، أو أن يُضيِّقوا المجال الدلالي لبعض الكلمات والعبارات العنصرية المتطرفة. ولذا، حلت كلمة «عكوم» بمعنى «عابد الكواكب وأبراج النجوم»، و«كوتي» بمعنى «سامري»، و«كوشي» بمعنى «زنجي»، أو «حبشي» محل «نكري»، أو «جوي» بمعنى «أجنبي» أو «غريب». وحلت كلمة «بابليم»، أي «البابليين»، و«كنعانيم»، أي «الكنعانيين»، محل «أوموت هاعولام»، التي تعني «أُمّمُ العالم». والواقع أن جميع المحاولات تُضيِّق المجال الدلالي لكلمة «الأغيار» وتخصصها، وتجعلها مقصورة إما على الوثنيين وحسب، أو على جماعة محدَّدة من الناس مثل السامريين أو البابليين. وهذا من قبيل استرداد البُعد التاريخي لمصطلح الأغيار (العام) حتى تتكيف نصوص التلمود مع الواقع الجديد حيث لم يَعُد الأغيار وثنيين بل أصبحوا من عبدة الإله. وكان يُسجَّل في مستهل كل صفحة من التلمود إعلان رسمي يقرِّر أن قوانين التلمود ضد الوثنية لا تنطبق على الأمم التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وأنها لا تنطبق إلا على الوثنيين وحسب (وحينما احتلت إنجلترا الهند، قيل إن المقصود هو الهنود، كما ضُمَّ إلى قائمة المعنيين بالهجوم سكان أستراليا الأصليون). وبعض الطبعات تقرر أن المعني بالهجوم هو «اليشماعيلي» وتعني «المسلم العربي».

                      وكما يقول الحاخام آجوس، فإن هذه الصيغة التي كانت قوانين الرقابة تتطلبها كان يتم تجاهلها في النصوص المختلفة، لأن كتَّاب التلمود وشارحيه لا يعرفون سوى نوعين من البشر: اليهود، وغير اليهود. وحتى حينما كان بعض الزعماء الدينيين اليهود يعترضون على النزعة الحلولية العنصرية المتعالية، كان اعتراضهم ينطلق من أسباب عملية مثل: الخوف من اعتياد اليهود ممارسة الشر، والخوف من الإساءة إلى سمعة اليهود، أو إثارة حنق الأغيار وكرههم. وكثيراً ما كان يتبادل أعضاء الجماعات اليهودية فيما بينهم، دون علم السلطات، مخطوطات خاصة تضم المحذوفات التلمودية، أي تلك النصوص التي حذفتها الرقابة الحكومية. كما كان يُعاد شرح بعض المصطلحات الجديدة، مثل «بابلي» أو «كوتي»، حتى يُعرَف معناها الأصلي والحقيقي لتكون بمعنى «مسيحي». ويُعاد في إسرائيل طبع النسخة الأصلية من التلمـود دون تعـديل. ولما كانـت عملية الطباعـة مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، فقد نشروا كتاباً في طبعة شعبية رخيصة بعنوان حسرونوت شاس (أي المحذوفات التلمودية).

                      وقد صدرت في إسرائيل موسوعة تلمودية ضخمة تُسهِّل عملية الوصول إلى الأحكام الفقهية. ورغم ذلك، ففي إحصاء أُجري عام 1987، قرر 84% من الإسرائيليين أنهم لم يقرأوا التلمود قط ولم يطلعوا على أي جزء منه. وفي الوقت الحالي، يقوم الحاخام آدين ستانيسلاتس بإعداد طبعة جديدة من التلمود (البابلي والفلسطيني) تكون في متناول القارئ العادي، وهي مزودة بترجمة عبرية حديثة للنصوص الآراميـة فضـلاً عن شروح الكلمات الصعبة. وقد طُبعت المشناه والجماراه، وكذلك الشروح المتعلقة بهما ببــنوط طباعية مختـلفة. وقد صدر حتى الآن عشرون جزءاً من التلمود البابلي. ومن المتوقع أن يَصدُر التلمود في أربعين جزءاً خلال خمسة عشر عاماً. وقد ظهرت ترجمة إنجليزية للأجزاء الأولى.

                      أقســـام التلمــــود
                      Tracts of the Talmud


                      ينقسم التلمود إلى المشناه والجماراه. وتبلغ أقسام المشناه ستة، وتُسمَّى «سداريم»، وهي أيضاً أقسام التلمود الأساسية (وذلك باعتبار أن الجماراه تعليق على المشناه وشرح لها). وتنقسم السداريم بدورها إلى أسفار تُسمَّى «ماسيختوت» تنقسم بدورها إلى فصول تسمَّى «براقيم». وقد قام الدكتور أسعد رزوق بوضع وصف موجز لأقسام التلمود (البابلي) وأسفاره حتى يُعرِّف بالموضـوعات والمسـائل الـواردة فيه، وهي:

                      أ) السدر الأول: سدر زراعيم (البذور):

                      يتألف هذا السدر من أحد عشر سفراً أو مقالة، ويتناول قوانين التوراة الزراعية من الناحيتين الدينية والاجتماعية، ويسهب في شرح الأحكام التوراتية المتصلة بحقوق الفقراء والكهنة واللاويين في غلال الأرض والحصاد. كما يَبسُط القواعد والأنظمة المتعلقة بالفلاحة والحرث وزراعة الحقول والجناين وبساتين الأثمار، والسنة السبتية والعشار، بالإضافة إلى المواد المحظور خلطها في النبات والحيوان والكساء. أما أسفار سدر زراعيم فهي:

                      1 ـ براخوت (البركات):

                      ويتناول هذا السفر صلوات اليهود وعباداتهم والقواعد المتعلقة بالأجزاء الأساسية للصلوات اليومية.

                      2 ـ فعاه (زوايا الحقل):

                      ويتناول القوانين المتعلقة بزوايا الحقل واللقاط المنسي مما ينبغي تركه للفقراء، وغير ذلك من الفرائض والواجبات التي يرد ذكرها في سفر اللاويين (19/9 ـ 10).

                      3 ـ دماي (المشكوك بأمره من المحاصيل):

                      يتحدث هذا السفر عن المحاصيل الزراعية، كالذرة وغيرها من منتوجات الأرض، وعن استخراج العشار اللازم منها أو عدمه.

                      4 ـ كلائايم (المخاليط أو الأخلاط):

                      ويعالج هذا السفر الأحكام التوراتية الواردة في اللاويين (19/19)، والتثنية (22/9 ـ 11)، بالنسبة لخلط البذور المختلفة في الزراعة، أو الجمع بين جنسين من المواد في الثوب.

                      5 ـ شفيعوت (السنة السابعة أو السبتية):

                      ويبحث في القوانين المتعلقة بإراحة الأرض والإبراء من الديون في السنة السبتية.

                      6 ـ تروموت (التقدمات: الرفائع أو جراية الكهنة):

                      ويعالج القوانين والفرائض المتعلقة بذلك القسم من الغلال والمحاصيل المعين للكاهن.

                      7 ـ معشروت (العشور):

                      وموضوعه العشار الأول المتوجب دفعه سنوياً إلى اللاوي من غلة الحصاد، واللاوي بدوره يعطي الكاهن منه نسبة العُشر.

                      8 ـ معشر شيني (العشار الثاني):

                      يتناول هذا السفر موضوع العشار الثاني الذي يحمله المالك بنفسه إلى أورشليم (القدس) لكي يؤكل هناك.

                      9 ـ حلّه (أول العجين):

                      ويتعلق هذا السفر بذلك القسم من العجين المفروض إعطاؤه للكاهن. وقد سمي هذا السفر كذلك لأنه يتناول قانون العجين الأول وفرائضه.

                      10 ـ الغُرله (بلاختان ـ الغلفاء):

                      ويتناول هذا السفر الحظـر على استعمال ثمار الأشجار الصغيرة خلال السنوات الثلاث الأولى، وقواعد الاعتناء بهذه الأشجار في السنة الرابعة طبقاً لما جاء في سفر اللاويين (19/23 ـ 25).

                      11 ـ البكوريم (البواكير، الثمار الأولى):

                      وهنا أيضاً، فإن هذا السفر ينص على قوانين تقديم الثمار الأولى في الهيكل، ويتضمن وصفاً للشعائر التي ترافق التقدمة.

                      ب) السدر الثاني: سدر موعيد (الأعياد والمواسم).

                      يؤلف سدر موعيد القسم الثاني من التلمود البابلي في طبعة سونسينو، وهو يتوزع على اثنى عشر سفراً تضمها أربعة مجلدات ضخمة. أما تسمية «موعيد» بمعنى «الموعد» أو «الموسم المقدَّس»، فهي مأخوذة على الأرجح من سفر اللاويين (23/2). والملاحَظ أن المسائل الأساسية التي تتناولها أسفار هذا القسم تتعلق بالسبت والأعياد وأيام الصوم وغير ذلك من المواسم والمناسبات الدينية، بالإضافة إلى الطقوس والشعائر والفرائض والقرابين، وإلى قواعد تنظيم التقويم العبراني «حساب الميقات للأعياد اليهودية.. وكيفية معرفة الأشهر العبرية القمرية من السنة الشمسية لتعيين الأعياد اليهودية». وهنا أيضاً يطالعنا الكثير من شرائع التوراة والشرائع والقوانين المستمدة من خارج التوراة، جنباً إلى جنب:

                      1 ـ شبات (السبت):

                      يتناول هذا السفر قوانين السبت والقواعد اللازمة لمراعاة عطلة يوم الراحة، كما يتحدث بالتفصيل عن الأعمال المحظورة في ذلك النهار. وفي مواضع أخرى من التلمود، نجد الحاخامات يضعون السبت مقابل جميع الأحكام الأخرى الواردة في التوراة من حيث الأهمية وقد وضع الحاخامات قائمة مفصلة تتضمن تسعة وثلاثين عملاً من الأعمال الأساسية وأضافوا إليها سلسلة أخرى من الأعمال الفرعية وغيرها.

                      2 ـ عيروبين (المقادير):

                      لفظة «عيروب» تكون بمعنى «الخليط» أو «المزيج»، ومن هنا فإن صيغة الجمع «عيروبين» تكون بمعنى كمية من الأطعمة المحددة التي تُودَع في مكان معيَّن لكي تكون بمنزلة الزاد للمسافرين أثناء عطلة السبت دون أن تبتعد تلك الأمكنة عن بعضها البعض الآخر فيصبح الانتقال خرقاً لقانون السبت. والعيروبين هي المقادير المثالية التي يصح الجمع بينها فيما يتعلق بالأمكنة والأطعمة والمسافات بحيث يؤدي ذلك إلى توسيع حدود السبت. لذا، نجد هذا السفر يتناول القوانين والأنظمة التي تتيح لليهودي حرية الحركة خارج نطاق الحدود الموصوفة وأثناء السبت والأعياد.


                      3 ـ فصاحيم (خراف الفصح):

                      ويتناول هذا السفر قوانين إتلاف الخمائر أثناء عيد الفصح اليهودي، وتقديم الخراف والذبائح قرباناً، ومواسم الرب المقدَّسة. وفي الفصل العاشر والأخير من هذا السفر، ترد التفاصيل المتعلقة بوليمة عشية الفصح والصلوات التي تصاحبها.

                      4 ـ شقاليم (الشواقل):

                      من «شيقل»،أي «شيكل» وهو «المثقال من الفضة». ويحوي هذا السفر أحكام الضرائب والرسوم التي تتم جبايتها لصيانة الهيكل وتأمين نفقاته وتقديم الذبائح بصورة منتظمة. كما يتحدث بالتفصيل عن الأشياء التي تُنفَق من أجلها الشواقل، ويتضمن القوائم التي تسرد أسماء كبار العاملين الرسميين في الهيكل.

                      5 ـ يوما (اليوم):

                      يُعرف هذا السفر أيضاً باسم سفر «يوم الغفران» لأنه يتناول أنظمة هذا العيد وفرائضه داخل الهيكل، كما يَبسُط قوانين الصوم وأحكامه ويصف الاحتفالات والطقوس التي كان يترأسها الكاهن الأعظم في ذلك اليوم.

                      6 ـ سوكاه (المظلة):

                      يحوي هذا السفر قوانين عيد المظال، وكيفية إقامة المظلة أو الخيمة، والإقامة تحتها سبعة أيام. كما يتحدث عن شعائر هذا العيد وصلواته، وعن النباتات الأربعة التي تؤخذ أغصانها لصنع المظلة.

                      7 ـ بيصة (بيضة العيد):

                      ويُعرف أيضاً باسم «العيد» أو «يوم طوف»، إذ يرسم الحدود التي تتحكم في إعداد الأطعمة أثناء الأعياد. كما يسرد مختلف أنواع الأعمال التي يُحظَر إتيانها أو يُسمَح بها خلال أيام العيد.

                      8 ـ روش هشاناه (رأس السنة):

                      يتناول المسـائل المتعلقـة بالتقـويم العـبري ورؤية الأهلة للسنة الجديدة، مثلما يحوي القوانين التي تجب مراعاتها في مطلع الشهر السابع (تشري)، أي رأس السنة المدنية عند اليهود.

                      9 ـ تعنيت (الصوم):

                      ويتناول أحكام الصوم للأيام الرسمية أو المناسبات الطارئة على الصعيدين الشخصي والجماعي، وترتيب الصلوات التي تُتلى في ذلك اليوم.

                      10- مجيلاه (لفافة التوراة):

                      ويتناول هذا السفر كتاب إستير (بالدرجة الأولى) لأنه يتناول أحكام قراءة قصة إستير في عيد النصيب. كما ترد فيه أحكام أخرى تتعلق بقراءة التوراة أثناء العبادات العامة.

                      11 ـ موعيد قاطان (العيد الصغير):

                      ويُعرف هذا السفر أيضاً باسم «مشكين»، نسبة إلى الكلمات الأولى في السفر. ويتناول أحكام العمل أثناء الأيام الفاصلة بين أوائل عيد الفصح وأواخره وبين عيد المظال. كما يتحدث عن الفرائض المتعلقة بالحزن والحداد.

                      12 ـ حجيجاه (قرابين الأعياد):

                      يتناول القوانين والأحكام المتصلة بالقرابين التي تُقدَّم في الأعياد، ويقارن بين شعائر الأعياد الثلاثة الكبرى، بالإضافة إلى الحديث عن فريضة الحج إلى القدس، وأنواع القرابين التي ينبغي تقديمها في مثل تلك المناسبات. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا السفر يتضمن ذلك الاستطراد الشهير عن التعليم الباطني للتوراة، حيث تكثر التخريجات والشطحات الخيالية التي وجدت تربتها الخصبة في كتاب الزوهار، وكان لها أبعد الأثر في تعاليم القبَّالاه أو التصوف اليهودي.

                      جـ) السدر الثالث: سدر ناشيم (النساء).

                      تشتمل أسفار هذا القسم من التلمود على قوانين الزواج والطلاق، وغير ذلك من الأحكام التي تحدد العلاقات بين الزوجين، وبين الجنسين بصورة عامة. وهي تبلغ السبعة عدداً، موزعة على أربعة مجلدات في طبعة سونسينو.

                      1 ـ يباموت:

                      وهذه الكلمة صيغة جمع مؤنث في اللغة العبرية مفردها «يَبَماه»، واليبماه هي امرأة الأخ المتوفي التي يجب على أخيه الباقي على قيد الحياة الزواج منها. وهذا السفر يبدأ بالحديث عن الشرع التوراتي القائل بوجوب زواج الأخ من امرأة أخيه الذي تُوفي دون أن ينجب. كما يتناول الزيجات المحظورة بشكل عام، وحق الفتاة القاصر في إبطال عقد زواجها، بالإضافة إلى التقليد اليهودي المعروف باسم «خلع النعل». و«خلع النعل» يتم عند امتناع الرجل عن أخذ امرأة أخيه عملاً بقوانين زواج الأرملة.

                      2 ـ كتوبوت (شئون الزواج والعقود):

                      يتناول هذا السفر أحكام الاتفاق حول العروس والغرامة المتوجبة عن الإغواء، بالإضافة إلى واجبات الزوجين وحقوق الأرملة والأولاد المنحدرين من زيجات سابقة.

                      3 ـ نزاريم (النذور):

                      يصف هذا السفر مختلف أشكال النذور، والأنواع غير الصحيحة منها، وكيفية إلغائها والتراجع عنها. كما يتحدث عن قوة إلغاء النذور التي نذرتها المرأة أو الابنة وألزمت نفسها بها.


                      4 ـ نازير (النذير أو الناذر):

                      ويتحدث هذا السفر عن النذر الذي يُلزم الناذر به نفسه وكيفية التخلي عنه، والأمور المحظورة على الناذر والقيمة التي تُعطَى لنذر النساء والعبيد.

                      5 ـ سوطه (المرأة المشبوهة):

                      الموضوع الأساسي في هذا السفر هو المحنة التي تتعرض لها المرأة التي يشكك زوجها في إخلاصها، ويتهمها بارتكاب الزنى، والإجراءات التي ترافق ذلك. وهناك موضوعات أخرى تتعلق بالمعادلات والصياغات الدينية، ما يجوز منها بلغات أخرى، وما لا يصح إلا بالعبرية وحدها. كما يتحدث هذا السفر عن الأنواع السبعة من الفريسيين، وعن الإصلاحات التي أوجدها هيركانوس إلى جانب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أريسطوبولس وهيركانوس حينذاك.

                      6 ـ جيطين (كتب أو ثائق الطلاق):

                      ويعرض بالتفصيل للظروف المختلفة التي تؤدي بالرجل إلى مناولة المرأة وثيقة طلاقها عندما يفسخ الزواج. وفي الشرع اليهودي، هناك أسباب معينة (كما هو الحال في الشرائع الدينية الأخرى) تخوِّل الزوج حق إرغام زوجته على قبول الطلاق، والعكس بالعكس. وصيغة المفرد من كلمة «جيطين» هي «جيط» ومعناها «كتاب الطلاق» أو «وثيقة الطلاق».

                      7 ـ قدوشيم (التكريس):

                      يتناول هذا السفر الشعائر والفرائض المتصلة بالخطوبة والزواج، كما يتحدث عن كيفية اقتناء العبيد والأقنان بصورة شرعية، وتملُّك العقارات، إلى جانب مبادئ الأخلاق وغير ذلك من المسائل المتعلقة بعقود الزواج والقران... إلخ.

                      د) السدر الرابع: سدر نزيقين (الأضرار).

                      وتُقسَّم الأسفار العشرة في هذا الجزء من التلمود إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يضم الأسفار، أو الأبواب الثلاثة الأولى (الباب الأول والأوسط والأخير) وموضوعها العام هو القانون المدني. وفي التلمود الفلسطيني تندرج هذه الأسفار الثلاثة تحت واحد وشامل: قضايا المال. أما القسم الثاني، فيضم مقالتي «سنهدرين»، و«ماكوت» في القانون الجنائي، وتأتي الأسفار الخمسة الباقية كملاحق لهما.

                      1 ـ بابا قاما (الباب الأول):

                      التسمية آرامية الأصل، والمُسمَّى يتناول أحكام الأضرار اللاحقة بالأملاك، والأذى المرتكب ضد الأشخاص بدافع إجرامي، أو على صعيد الجنحة. كما يعالج قضايا التعويض عن السرقة والسلب واقتراف العنف. ومن أحكامه الشـائعة في شـتى المصنفات والمقتبسـات عن التلمود، ما يلي: إذا نطح ثور الإسرائيلي ثوراً يملكه رجل كنعاني، فإن صاحب الثور اليهودي لا يلتزم بشيء. أما إذا كان الثور الكنعاني هو البادئ بالنطح، فعلى صاحبه أن يتكفل بالتعويض الكامل عن كل عطل وضرر.

                      2 ـ بابا متسيعا (الباب الأوسط):

                      ويتناول الأحكام المتعلقة بالأشياء المفقودة التي يتم العثور عليها،والبيع والمبادلة والربا والغش والاحتيال واستئجار العمال والبهائم،بالإضافة إلى الإيجار والتأجير والملكية المشتركة للبيوت والحقول.

                      3 ـ بابا باترا (الباب الأخير):

                      يعالج هذا السفر القوانين المتعلقة بتقسيم أملاك الشراكة والعقارات، وقوانين التجارة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على الأملاك الخاصة والعامة وحقوق الملكية والوراثة. كما يتناول مسألة التملك والتمليك، وإعداد مسودات الوثائق.

                      4 ـ سنهدرين (المحاكم القضائية):

                      ويتناول تأليف مختلف المحاكم القضائية،وإجراءات المحاكمة،وعقوبات الموت والإعدام عن الجرائم الكبرى.فهو مليء بالقوانين المتعلقة بالمحاكمات والتحكيم والإجراءات القضائية في القضايا المالية وفي الجرائم الكبرى.كما يتضمن مواصفات كيفية تنفيذ أحكام الإعدام وعقوبات الموت،إلى جانب العقائد المتصلة بالديانة اليهودية.ويحوي السفر الشيء الكثير مما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمحاكمة السيد المسيح والعقوبة التي يجب إنزالها بالخارج على دينه.

                      5 ـ مكوت (الجلدات):

                      يتحدث هذا السفر عن اليمين الكاذبة والحنـث باليـمين وشـهادة الزور، وعن «مدن اللجوء». بالإضافة إلى الآثام التي عقوبتها الجلد بالسياط، والأحكام المتعلقة بكيفية تنفيذ الجلد (39 جلدة).

                      6 ـ شبوعوت (القَسَم أو اليمين):

                      يتناول هذا السفر مختلف أنواع اليمين، أي ما يحلفه الشخص بمفرده أمام المحكمة. ويمين المحكمة يصدق على الشهود والمتقاضين، مثلما يصدق على المراقبين والأوصياء.

                      7 ـ عيديوت (الشهادات):

                      ويتضمن هذا السفر مجموعة من القوانين والأحكام المختلفة.

                      8 ـ عفوده زاراه (عبادة الأصنام):

                      ويتحدث هذا السفر عن عبدة الأصنام والأوثان: شعائرهم وطقوسهم وأعيادهم. كما يتضمن مواصفات الأحكام التي ينبغي إنزالها بعبدة الأصنام، والذين يشاركونهم، أو يختلطون معهم عن طريق التعامل أو الاتصال الاجتماعي. ويتضمن السفر كثيراً من الأحكام والأقوال ذات الطابع الانتقامي التعويضي.


                      9 ـ آفوت (سفر الآباء):

                      ويتضمن التعاليم والأقوال المأثورة عن آباء التراث اليهودي منذ السنهدرين الأكبر فصاعداً. وهو مليء بالتعاليم الأخلاقية والأقوال الحكمية المنسوبة في معظمها إلى معلمي المشناه (تنائيم).

                      10 ـ هورايوت (الأحكام أو القرارات):

                      ويتناول هذا السفر الأحكام الخاطئة التي تَصدُر عن السلطات الدينية في المسائل المتعلقة بالشعائر والطقوس. كما يتحدث عما يجب تقديمه من تضحيات وذبائح، إذا تَصرَّف الجمهور وفقاً لهذه التعاليم والأحكام الخاطئة.

                      هـ) السدر الخامس: سدر قداشيم (المقدَّسات).

                      يدور الموضوع الأساسي في هذا القسم من التلمود حول الطقس القرباني والتضحيات المتعلقة بالهيكل. وكانت معظم الفرائض والأحكام الواردة في أسفاره مرتبطة أشد الارتباط بوجود الهيكل. لكن الحاخامات، في فلسطين وبابل، تابعوا اهتمامهم بالطقوس القربانية والعبادات رغم هدم الهيكل وانقطاع الصلة بين الممارسة الفعلية والغرض الأساسي من وراء تلك الشعائر. ويحاول الحاخام الذي كتب مقدمة هذا الجزء في طبعة سونسينو إرجاع الاهتمام لدى المدارس الدينية المتأخرة بموضوع الطقوس القربانية إلى اعتبارات تاريخية أكاديمية وأخرى عملية على حدٍّ سواء. فمن جهة، كان هناك الأمل اليهودي في تطلُّعه الدائم إلى إعادة بناء الهيكل عاجلاً أم آجلاً واستعادة العبادة القربانية. لذا، فقد رأوا أن من واجبهم الإلمام بقوانين تلك الطقوس التي سوف تؤذن بالرجوع إلى سابق العهد. ومن جهة ثانية، نما اعتقاد الحاخامات بأن دراسة الشرائع والفرائض القربانية يمكنها أن تحل محل طقس الهيكل، وهي بالتالي لا تقل قيمة عن تقديم القرابين والتضحيات في حد ذاتها.

                      ويقسَّم هذا السدر إلى أحد عشر سفراً كما يلي:

                      1 ـ زباحيم (الذبائح):

                      يحتوي هذا السفر على الأحكام المتعلقة بتقديم الذبائح الحيوانية على اختلاف أنواعها وعلى اختلاف المراحل التي تمر بها. كما يضع الشروط التي تجعل القرابين مقبولة أو غير مقبولة. ويسهب السفر في شرح الشعائر المتصلة برش الدماء، وإحراق القطع الدهنية أو الذبيحة الحيوانية كلها، إلى آخر تلك التفاصيل المتعلقة بهذه الممارسات.

                      2 ـ مناحوت (قرابين اللحوم والشراب):

                      ويصف قواعد إعداد قرابين الطعام والشراب وكيفية القيام بها: من سكب الزيت على القرابين إلى الدقيق الملتوت، ومن حزمة أول الحصيد إلى الرغيفين المخبوزين «خميراً باكورة للرب»، إلى الفطائر الاثني عشر التي تُخبَز من الدقيق أيضاً.

                      3 ـ حولين (الدنيويات):

                      ويتضمن هذا السفر مواصفات ذبح الحيوانات والطيور للاستهلاك العادي، بالإضافة إلى تعداد مختلف الأمراض التي تجعل أكل تلك الذبائح محرَّماً. وهناك معالجة عامة لجميع قوانين الأطعمة والأحكام التي ينبغي التقيد بها في إعداد الطعام.

                      4 ـ بكوروت (البواكير):

                      ويتناول القوانين المتعلقة بالمواليد البكر من الحيوان والإنسان.

                      5 ـ عراخين (التقديرات):

                      ويتضمن هذا السفر قواعد تحديد الكمية التي ينبغي تقديمها وفاءً لنذر ما للهـيكل، بحـيث يجري تقييم الشخص أو الشيء المنذور. ويختلف التقييم باختلاف السن والجنس (الذكر والأنثى)، كما أن تجنيس البهيمة وتقييمها عائد إلى كاهن الهيكل. وعلاوة على التقييـمات المذكورة، يتناول السـفر القـوانين التابعة لسنة اليوبيل.

                      6 ـ تموره (الإبدال أو البدل):

                      ويتناول قواعد إبدال القرابين وتغييرها: الجيد بالرديء والرديء بالجيد، أي أن الموضوع يتعلق بتبديل بهيمة نجسة بأخرى سَبَق تقديمها على مذبح الهيكل.

                      7 ـ كريتوت (الرسوم الجزائية):

                      ويعالج الآثام والأخطاء التي تخضع لعقاب القطع (كريتاه) أو الفصل فيما لو جرى اقترافها بمحض الإرادة. أما إذا جرى ارتكاب الخطيئة عن غير قصد، فلابد أيضاً من تقديم القرابين تكفيراً عنها. ويبحث هذا السفر كذلك الحالات التي يتوجب فيها تقديم القرابين بصورة غير مشروطة أو يتوجب فيها تعليق القرابين.

                      8 ـ معيله (الإثم والخطيئة):

                      ويتناول هذا السفر مسألة انتهاك الحرمات والمقدَّسات وتدنيس الأشياء التابعة للهيكل أو المذبح.

                      9 ـ تاميد (التضحية اليومية أو المستمرة):

                      ويصف خدمات الهيكل من حيث اتصالها بتقديم القرابين اليومية في الصباح والمساء، وخصوصاً الخراف التي ينبغي تقديمها على المذبح صباحاً وعشية.

                      10 ـ متروت (المقاييس والأبعاد):

                      يحتوي هذا السفر على مقاييس الهيكل ومواصفاته، سواء فيما يتعلق بالساحات والأبواب والقاعات، أو فيما يتعلق بالمذبح. كما يتضمن وصفاً للخدمات التي يؤديها الكهنة أثناء وجودهم في الهيكل، وأثناء قيامهم بحراسته وتدبير شئونه.

                      11 ـ قنِّيم (الأعشاش):

                      ويسرد الأنظمة والأحكام المتعلقة بتقديم العصافير والطيور قرباناً للتكفير عن الخطايا والمعاصي التي يقترفها الفقراء. كما يتناول بعض الأحوال والشروط المتصلة بالنجاسة والقذارة. ويبحث حالة الخلط بين الطيور التي تخـص مختلف الأشـخاص أو التي تنتمـي إلى قـرابين مختلفة.


                      و) السدر السادس: سدر طُهاروت (التطهيرات).

                      والواقع أن الموضوع المشترك بين أسفار هذا الجزء السادس والجزء الأخير من التلمود يتصل بأحكام الطهارة والنجاسة (أو الرجاسة) لدي الأشياء والأشخاص. وتؤلف هذه الأحكام جزءاً من مجموعة قوانين تتعلق بالطهارة اللاوية. ومما يجدر التنبيه إليه أن قوانين النجاسة هذه لم تكن سارية المفعول خارج فلسطين، فقد بطل معظمها في فلسطين بعد هدم الهيكل وطويت في عالم النسيان، إلا ذلك القانون المتعلق بأحكام الحيض لدى النساء فما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وقد أصبح التشديد محصوراً بالدرجة الأولى في مسألة النجاسة اللاوية وتَعدَّى نطاق العلاقات الزوجية. والمعروف أن أحكام الطهارة هذه تستند إلى عدد من الأوامر والنواهي الواردة في أماكن مختلفة من الأسفارالخمسة للتوراة، وبشكل خاص في الإصحاحات (11/15) من سفر اللاويين.

                      1 ـ كلائايم (الأواني والأوعية):

                      ويتحدث هذا السفر عن قواعد النجاسة في الأواني والأدوات التي تُستخدَم للمنفعة البشرية، فيحاول تبيان الظروف والشروط التي تتحكم في نجاسـتها أو تجـعلها عرضة للتنـجس. والأواني تشمل الأثاث والملابس، وغير ذلك من أدوات الاستعمال.

                      2 ـ أُهالوت (الخيام):

                      ويتناول الخيام والمساكن باعتبارها ناقلة للنجاسة والرجس، سواء عن طريق جثة الميت، أو بواسطة الأواني والأوعية التي توجد معها تحت سقف الخيمة أو المسكن، حيث تنتقل منها إلى الأشخاص والأدوات الأخرى.

                      3 ـ نجاعيم (البَرَص والطواعين والأوبئة):

                      يبسط القوانين المتعلقة بمعالجة البَرَص في البشر والألبسة والمساكن. كما يتضمن المواصفات الضرورية لتطهير الأبرص وطرد النجاسة من بدنه.

                      4 ـ باراه (العجلة الحمراء ـ البقرة الصغيرة):

                      ويتحدث هذا السفر عن الخصائص الواجب توافرها في العجلة الحمراء (باراه أدوما) وصولاً إلى إعداد رمادها للاستخدام في التطهير من النجاسة والرجاسة.

                      5 ـ طُهاروت (تطهيرات):

                      ويعالج أحكام النجاسة في الأطعمة والأشربة على اختلاف أنواعها ودرجاتها. كما يبين الشروط التي تتحكم في تنجيسها عن طريق الاحتكاك بمختلف مصادر النجاسة ودرجاتها.

                      6 ـ مقواؤوت (الآبار والخزانات):

                      ويتضمن هذا السفر مواصفات الآبار والصهاريج والخزانات فيما يتعلق بالمتطلبات التي تجعلها صالحة شعائرياً للتطهير والتغطيس. كما يتناول القواعد الحاكمة في جميع أنواع التغطيس الشعائري والطقسي.

                      7 ـ نيدّه (الحائض والحيض):

                      ويفصل القول في أحكام النجاسة الشرعية التي تنشأ لدى النساء بسبب الحيض والنفاس وبعد الولادة.

                      8 ـ مقشيرين (الاستعدادات):

                      ويتناول الظروف التي تصبح الأطعمة بموجبها قابلة للنجاسة أو عرضة للتنجس بعد احتكاكها بالسوائل، كما يعدِّد السوائل التي تجعل الأطعمة في تلك الحالة.

                      9 ـ زافيم (الزاب ـ السيلان):

                      ويتحدث هذا السفر عن نجاسة الرجال والنساء عند الإصابة بأمراض الزهري والسيلان المنوي وغير ذلك.

                      10 ـ طِّبول يوم (الغسل اليومي):

                      ويبحث في طبيعة النجاسة لدى الشخص الذي قام بالغسل الشعائري (المفروض أثناء النهار) لتطهير نفسه، فإن عليه الانتظار حتى غروب الشمس لكي يُعتبر طاهراً ونظيفاً.

                      11 ـ ياديم (اليدان وتطهيرهما):

                      ويتناول نجاسة اليدين قبل الغسل وكيفية تطهيرهما بطريقة شعائرية مستمدة من الشريعة الشفوية، والتطهير يتم بالماء. ويتضمن إلى جانب ذلك بحثاً عن بعض أسفار التوراة، كما يسجل شيئاً من المناظرات والخلافات التي دارت بين الصدوقيين والفريسيين.

                      12 ـ عقصين (سويقات الثمار وقشورها):

                      ويعرض للظروف والشروط التي تصبح بموجبها سويقات النبات والثمر قابلة لنقل النجاسة إلى الثمار والنباتات المتصلة بها والعكس بالعكس،أي كيف تتنجس هذه الأشياء لدى ملامستها الأشياء النجسة.

                      الموضوعات الأساسية الكامنة في التلمود
                      Major Themes in the Talmud


                      منذ نهاية القرن السابع للميلاد، ومع مطلع القرن الثامن، صار التلمود العامل الجوهري في التجربة الدينية للجماعات اليهــودية، إذ أصبـح المعيـار السـائد المقـبول في كل ما يتعـلق بحيــاة اليهــود وأعمـالهم ونشـاطهم الفكــري. حتى أننـا حينـما نتحدث عن «اليهودية» بعد ذلك التاريخ، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن «اليهودية الحاخـامية»، أي «التلمـودية». وقد اسـتُـخدم التلمود حتـى نهــاية القـرن التاسـع عشر أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فكان الدارسون في كثير من الجماعات اليهودية في الغرب يستذكرونه سبع ساعات يومياً طوال سبع سنوات.

                      والتلمود سجل المحاولات التي بذلها حاخامات اليهود لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس باعتبارهم شعباً مستقراً في أرضه له عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض والعاصمة والهيكل. وهو أيضاً تعبير عن محاولة اليهودية الحاخامية (التلمودية) عزل جماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخصوصاً بعد ظهور المسيحية التي اتخذت من العهد القديم كتاباً مقدَّساً، وأكملته وعدلته بالعهد الجديد. والآلية الكبرى لتعميق العزلة هي تغليب الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي على غيرها من الطبقات والنزعات بحيث يحل الإله في الشعب ويملؤه قداسةً تعزله عن العالم المدنَّس العادي حوله، وهذه الانعزالية مسألة عادية في معظم المجتمعات الوثنية وفي كثير من المجتمعات التقليدية التي كانت تشجع الفصل بين الطبقات والجماعات الدينية وتسهل عملية إدارة شئونها. بل تُعَدُّ مسألة حيوية وأساسية بالنسبة للجماعات الوظيفية المالية وهو الدور الذي اضطلعت به معظم الجماعات اليهودية في العالم حتى بدايات القرن التاسع عشر. فبدون الانعزالية، لم يكن بإمكان أعضاء الجماعات الوظيفية الاحتفاظ بحيادهم وتعاقديتهم وموضوعيتهم وهي أمور لازمة وأساسية للقيام بالأعمال المالية في المجتمعات التقليدية. ولكن هذه الانعزالية، في حالة الجماعات اليهودية، شأنها في هذا شأن أية جماعة وظيفية أو أقلية تُوجَد في الوضع نفسه، كانت تأخذ في الغالب شكل التعالي على الناس. وقد تعمقت الانعزالية حتى أصبح التعارض بين اليهود وغير اليهود (الأغيار) من المقولات الأساسية في التلمود وفي غيره من الكتابات الفقهية اليهودية.

                      والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود بحيث يمكننا اعتبار التصور التلمودي للإله يشكل نكسة للفكر التوحيدي وللرؤية التي طرحها الأنبياء في العهد القديم. فالتلمود يخلع العديد من الصفات الإنسانية واليهودية على الإله. والعصمة ليست من صفاته، فهو يكون مشغولاً خلال اثنتى عشرة ساعة يومياً: يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعـات الثـلاث التالية يرزق العـالم كلـه من أكبر الحيوانات إلى أصغرها. وفي الثلاث الأخيرة، يلعب مع التنين أو الحوت. والإله، في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبِّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يُمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد. ولكنه في آخر الأيام، بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه، وعبثآً يتوافد الوثنيون طالبين قبولهم. ويتبدَّى التعصب الإلهي في أنه حينما يأتي الماشيَّح سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة يسرائيل.

                      وتظهر الحلولية والانعزالية في تلك القداسة التي تحيط بالتلمود. وهو في الواقع ـ كما أسلفنا ـ مجرد تفسير للعهد القديم وضعه الحاخامات، إلا أنه، مثله مثل كل كتب التفسير اليهودية، يكتسب قداسة خاصة. وقد سيطرت أسطورة الشريعة الشفوية على الوجدان اليهودي سيطرة تامة بعد ظهور المسيحية، فكان يُنظر إلى التلمود في بداية الأمر باعتبار أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة، ولكنه أصبح بعد حين يُلقَّب بالتوراة الشفوية، أي صار مساوياً لتوراة موسى في المرتبة، ولم يَعُد في وسع أي يهودي مخالفته. وأخذت درجة قداسته في الازدياد والاتساع حتى أصبح أكثر قداسة من التوراة نفسها. وقد قال أحد الحاخامات: «يا بني كن حريصاً على مراعاة أقوال الكتبة [أي الحاخامات واضعي التلمود] أكثر من حرصك على أقوال التوراة، لأن أحكام التوراة تحوي الأوامر والنواهي. أما شرائع الكتبة، فإن من ينتهك واحـدة منها يجلب على نفسه عقوبة الإله». وقـد جـاء أيضاً أنه: «لا خلاص لمن ترك التلمود واشتغل بالتوراة لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى، وهي أفضل من أقوال الأنبياء».

                      وفي معرض تقديس التلمود والإيمان المطلق بكل ما دوَّنه الحاخامات فيه، ورد في التلمود أن خلافاً ما قد وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرَّر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وفي هذا المقام أيضاً، ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.

                      ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب. (كان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش إيمونيم الحلولية).

                      وتساءل كُتَّاب التلمود عن سبب تشبيه اليهود بشجرة الزيتون، وترد الإجابات التالية:

                      1 ـ لأن شجرة الزيتون لا تفقد أوراقها، كما أن كل اليهود لن يضيعوا في هذا العالم أو العالم الآتي.

                      2 ـ وكما أن الزيتون لا ينتج زيتاً إلا بعد العصر والضغط عليه، فإن أعضاء جماعة يسرائيل لن يعودوا كذلك إلى جادة الصواب إلا بعد الآلام والعذاب.

                      3 ـ شُبِّه اليهود بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة يسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدَّعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة يسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه، وخصوصاً إذا عرفنا أن الإله كان يقطن بينهم حينما كانوا في أرض الميعاد، وأن الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) بقيت معهم حينما نُفوا خارجها إذ أن موسى طلب ذلك من الإله.

                      وكان الاختيار في بادئ الأمر تلقائياً نابعاً من رحمة الإله وإرادته الإلهية، ولكن اليهود ـ حسب الرؤية التلمودية الحلولية ـ بينوا أنهم جديرون بهذا الاختيار. ولذا، تحوَّل الاختيار من مجرد منحة من الإله إلى حق من حقوقهم مُلزم له وإلى دين عليه أن يؤديه حتى لو ضلوا الطريق. وقد جاء في التلمود على لسان الإله: «لن أعامل جماعة يسرائيل كالأمم الأخرى، حتى وإن لم تعمل حسنات إلا قليلاً تافهاً كروث الدجاج المتناثر في الحظيرة، فسأجمع هذه الحسنات ليكون لها حسنات كثيرة». وهكذا اختل التوازن الحلولي لصالح اليهود مرة أخرى، وإن كان هناك رأي تلمودي مغاير يرى أن الاختيار تكليف إلهي وعبء مُلقى على كاهل اليهود عليهم أن يضطلعوا به. والتوراة هي ميراث الشعب المختار وحده، ومن يدرسها من الأغيار يستحق الموت (ولكن ثمة رأياً تلمودياً مغايراً يرى أن الوثني الذي يدرس التوراة هو في منزلة الكاهن الأعظم).

                      هذه النزعة الانعزالية المتعالية توجد في معظم صفحات التلمود المليء بالأحكام الموجهة ضد غير اليهود (وخصوصاً سفر عفوده زاره أو عبادة الأوثان)، فلن يدخل الجنة سوى اليهود. وقد خلق الإله الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين بخدمة اليهود الذين خُـلقت الدنيا من أجلهم، إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية. ولا يُعتدُّ بشهادة غير اليهودي أمام المحاكم إلا في حالات قليلة. وإذا وقع أذى بشخص، فمن المهم جداً تحديد هل هذا الشخص يهودي أم لا، بل إن هذا التمييز يسري أيضاً في المعاملات التجارية. وفي مسائل الطهارة، يعتبر الأغيار أنجاساً في حياتهم. ولكن مقابرهم، باعتبار أنها غير مقدَّسة، لا تنجس الكهنة. والعكس صحيح بالنسبة إلى اليهود، فهم طاهرون في حياتهم وقبورهم مصدر نجاسة أساسي للكهنة اليهود.

                      ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يسـتخدموا مقياسـين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود (انظر: بابا متسيعا 95 أ، وبابا قما 113 أ). وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن تُرك، ولكنه من الممكن أن يُباع لغير اليهودي، كما يُحرَّم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).

                      ولأن التلمود يرى أن اليهود وحدهم يجسدون روح الإله، لذا نجده لا يرحب بالمتهوِّدين. وقد ورد فيه «إن المتهوِّدين مثل القذى في عين جماعة يسرائيل» وهو موقف لا يزال يسيطر على المؤسسة الأرثوذكسية وريثة التراث التلمودي في إسرائيل. وكان اليهودي يشكر إلهه على أن مكانه «بين أولئك الذين يجلسون في بيت الدراسة والمعبد [أي اليهود] ولم تجعل مكاني بين أولئك الذين يذهبون إلى المسارح والسيرك [أي غير اليهود]». وحتى حينما كان بعض المفسرين ينصحون اليهود بعدم الكذب على الأغيار، فإنهم يصرون على ضرورة عدم الاحتكاك بهم، أو الدخول معهم في علاقة. وقد قال أحد الشارحين في القرن السابع عشر في بولندا إن من الواضح أن التوراة تأمر اليهود بأن يحتفظـوا بالكراهـية بينهـم وبين الأغيـار حتى يبعدوا خطر الزواج المُختلَط. ولذا، فلا يمكن السماح بتلك الأفعال التي قد تقلل الكره بين اليهود والأغيار. وتصل النزعة المتعالية ذروتها في عبارة: «اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي». وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدَّى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية.

                      فالحلولية إذن هي الإطار الفلسفي، والانعزالية والتعالي الإثنيين هما الترجمة العملية لها. ولكن التلمود كتاب جيولوجي ضخم يضم موضوعات شتى وتراكمت فيه رؤى وآراء مختلفة، فكل العقائد اليهودية المعروفة قد دُوِّنت وصُنِّفت فيه، بشكل واضح أحياناً، وبشكل غامض مشوش أحياناً أخرى. كما يضم التلمود أيضاً موضوعات وطرائف لا تنضوي بالضرورة داخل إطار فلسفي واضح، أو رؤية دينية محددة، فهو يتحول أحياناً إلى مجرد وثيقة اجتماعية لا توجه الواقع وإنما تعكسه وحسب. فصفحات التلمود تعكس وضع اليهود الاقتصادي كجماعة وظيفية تعمل بالتجارة. ولذلك، كان على اليهودي، حسب التقاليد التلمودية، أن يتلو ثلاث تسبيحات شكر كل يوم لأن الإله خلقه يهودياً، ولأنه لم يخلقه امرأة ولم يخلقه فلاحاً. وقد جاء أنه «لا يوجد عمل أكثر امتهاناً من فلاحة الأرض». ومع هذا، هناك أقسام طويلة في التلمود عن الزراعة وقوانينها وأفضالها. ومن أهم أنواع التجارة التي مارسها أعضاء الجماعات اليهودية تجارة الرقيق. ولذا، فإننا نجد أن التلمود نظم عملية امتلاك عبد من الأغيار. فهو يُمتلَك بالشراء أو بالصك أو بالخدمة الفعلية. ويوجد في التلمود صيغة لاستمارة يتم ملؤها للحصول على عبد تقول: «هذا العبد تم استعباده بصورة قانونية وليس له أي حق من حقوق الأجراء، وليست له مطالب يقدمها للملك أو الملكة. وليست به أية علامة إنسانية، وهو خال من أية عيوب جسدية ومن أية علامة في الجلد تدل على إصابته بالبرص سواء حديثاً أم في الماضي». وكانت طبقة العبيد مُحتَقرة كما كان يسود الاعتقاد بأنهم كسالى: «هناك عشرة مقاييس من النوم نزلت إلى العالم، فأخذ العبيد تسعة منها وأخذ بقية الناس الواحد المتبقي». ولا يتمتع العبد بثقة كاتبي التلمود، فهو لا يُعَدُّ إنساناً، ولذا فليس بإمكان اليهودي أن يصلي معه أو أن يصلي عليه أو يسير في جنازته.

                      ولا يقتصر التلمود على حياة اليهود العامة، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. فهو يتناول، ضمن ما يتناول، كل دقائق إعداد الطعام وتناوله والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته والطمث. وينبعث من صفحات التلمود احتقار عميق للمرأة، وقد كتب أحدهم يقول: «هناك أربع خصائص للنساء: فهن شرهات، ومتصنتات وكسولات وغيورات، وهن أيضاً كثيرات الشكوى وثرثارات». وقد أفاض التلمود بشأن الصفة الأخيرة: "نزلت إلى العالم عشرة مقاييس للكلام، أخذت النساء تسعة منها وأخذ الرجال واحداً".

                      والتلمود كتاب طبي أيضاً. ولذا، فإننا نجد فيه وصفات طبية عديدة، فهو ينصح بضرورة التعرض للماء البارد بعد حمام ساخن. كما نجد في التلمود شرحاً لأسباب الإمساك وطريقة معالجته. وينصح التلمود أيضاً بأن من: «يطيل البقاء في المرحاض، يطيل الرب أيامه وسنيه». وهناك صلاة شكر تُتلى بعد تلبية نداء الطبيعة.

                      وعلاوة على كل هذا، يمكن اعتبار التلمود كتاب فولكلور يعكس شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان نشأته، سواء في بابل أو في الأماكن الأخرى التي عاش فيها الشارحون. ولأن كُتَّاب التلمود يدورون في نطاق حلولي، فإننا نجدهم يؤمنون بإمكانية التحكم الكامل والتوصل للحل السحري (الغنوصي) وبفاعلية العلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقى والتعاويذ. والتلمود أيضا كتاب تنجيم وسحر وتفسير أحلام. ومما يُذكَر فيه أن قارئه الراغب في رؤية العفاريت رؤية العين يمكنه ذلك باتباع خطوات تم تحديدها بدقة متناهية، وإن أراد طرد العفاريت فصفحاته تضم تعاويذ تفي بذلك الغرض. وتصل الحلولية إلى ذروتها (أو هوتها) حين يؤكد التلمود أن الحاخامات كانوا قادرين على الخلق، فقد ذكر أن حاخاماً خلق مرة إنساناً بأن نطق اسم الإله الأعظم وأرسله إلى الحاخام زعيرا الذي تحدَّث إليه، ولكنه لم يستطع أن يجيب، فتعجب الحاخام قائلاً: «أنت مخلوق بفعل السحر، ارجع إلى التراب».

                      وقد أثر التلمود، بما احتوى من نظرة حلولية انعزالية، في كثير من أجزائه، في الفكر الصهيوني، حيث وجد المفكرون الصهاينة ما يدعم اتجاهاتهم. فقد جاء في سفر «عفوده زاره» على سبيل المثال لا الحصـر: «ينبغي ألا تُؤجَّر البيوت لغير اليهود في أرض يسرائيل، ناهيك عن الحقول». وهذه إحدى القواعد الأساسية للصندوق القومي اليهودي. كما أن الصهاينة يقتبسـون من التلمـود عبارات مثل: «من يقيم خارج أرض يسرائيل هو مثل إنسان بدون إله» (كتوبوت 110ب).

                      ولكن نظراً لخاصية التلمود الجيولوجية، فإننا نجد أنه يرد فيه عكس هذه الأفكار تماماً، فقد قال الحاخام يهودا: "من يصعد من بابل إلى أرض يسرائيل، فقد انتهك إحدى الوصايا الإلهية". ويستشهد بسفر إرميا (27/22)، ثم يقول: "مثلما أنه ممنوع مغادرة أرض يسرائيل إلى بابل، فمن الممنوع أيضاً مغادرة بابل إلى غيرها من البلدان"، ثم يستطرد قائلاً: "إن من يعيش في بابل كأنه مقيم في أرض يسرائيل" (كتوبوت 111أ). كما توجد في التلمود أيضاً أفكار متناقضة عن العصر المشيحاني، بعضها ذو نكهة صهيونية انعزالية والبعض الآخر معاد لها وله نزعة اندماجية عالمية.

                      وتجد التوسعية الصهيونية تبريراً لها في الصورة التي يرسمها التلمود لحدود الأرض في المستقبل، فهي سوف تمتد وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون لينصبوا خيامهم في الوسط. وقد جاء أيضاً: "إن فلسطين تُدعى أرض الظبي، فكما أن جلد الظبي يعجز عن استيعاب لحمه وجسمه، كذلك هي أرض يسرائيل: عندما تكون مأهولة تجد لنفسها متسعاً، لكنها تتقلص متى كانت غير مأهولة". فحدود هذه الأرض متغيرة، وتزداد بازدياد المستوطنين اليهود فيها. ولا يختلف هذا القول كثيراً عن موقف تيودور هرتزل من الحدود حين بيَّن أن ما سيقرر حدود الدولة هو مدى حاجة الصهاينة: "كلما ازداد عدد المهاجرين ازدادت حاجتنا إلى الأرض".

                      ورغم أن ثمة عناصر صهيونية في التلمود، إلا أنه لا يمكن القول بأنه تسبَّب في ظهور الصهيونية. فالصهيونية حركة سياسية تهدف إلى استعمار فلسطين عن طريق توطين عنصر سكاني غريب فيها، وتعود جذورها أساساً إلى الفكر الألفي الاسترجاعي البروتستانتي وإلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية كجماعة وظيفية وإلى الإمبريالية الغربية. كما أن المؤسسة الحاخامية التلمودية ذات العلاقة الوثيقة بأثرياء اليهود في كل أنحاء العالم، والتي امتزجت مصالحها بمصالحهم بحيث أصبح الفريقان يشكلان النخبة القائدة، كانت تقف ضد فكرة العودة المشيحانية لأن مصالح هذه النخبة (ومصالح الجماعة الوظيفية ككل) كانت مرتبطة تمام الارتباط بمجتمعاتها المختلفة ومتجذرة فيها، ومن هنا كان حرصها على تأسيس حلقات ومدارس تلمودية (أكاديميات ـ يشيفات) تعمل على تخريج حاخامات ملمين بالأوضاع المحلية الخاصة، قادرين على إصدار الفتاوى الملائمة التي تفسر الأوضاع الجديدة وتتكيف معها. وبعد التهجير البابلي، استقلت الحلقات التلمودية في بابل، وحينما ظهرت حضارة الأندلس حرص أثرياء الجماعة اليهودية هناك على استقلال الحلقات فيها. وقد استقل يهود الغرب الإشكناز بحاخاماتهم ومدارسهم التلمودية. ولم يكن من مصلحة هؤلاء الأثرياء العـودة إلى فلسـطين، بل كانت مصلحتهم في البقاء في المنـفى. ومن هنا، يتواتر الحديث في التلمود عن أن "شريعة الدولة هي شريعتنا"، وعن ضرورة انتظار الماشيَّح في صبر وأناة حتى يأذن الإله. ومن هنا أيضاً، وقفت المؤسسة الحاخامية التلمودية ضد النزعات المشيحانية الصهيونية التي كانت أسـاساً نزعـات شـعبية تعبِّر عن بؤس فـقراء اليهود، وعدم إدراكهم للعلاقات الدولية أو لطبيعة البؤس الواقع عليهم. وقد ظلت هذه المؤسسة واقفة بقوة ضد كل المشحاء الدجالين تستعدي عليهم السلطات وتجند فقهاءها لإثبات كذبهم كما فعل الحاخام نحميا مع شبتاي تسفي. كما كانت تُكفِّر كل من كان يفكر في العودة وتُوجِّه إليه تهمة أنه ارتكب جريمة التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس). ويُلاحَظ أن ظهور الصهيونية الحديثة مرتبط بتآكل المؤسسة الحاخامية التلمودية وبانهيار نفوذ التلمود تماماً. وحينما نشر هرتزل كتيب دولة اليهود، عارضه كبار الحاخـامات جميـعاً، وبالذات الأرثوذكـس (التلموديون). ولذا، فإن التلمود، على مستوى من المستويات، كان مسئولاً إلى حدٍّ ما عن تخفيف حدة النزعة المشيحانية في اليهودية، وبالتالي نجح في صد الصهيونية.

                      وقد تقصَّى الدكتور أسعد رزوق موقف التلمود من العرب، فوجد أنه (في بعض نواحيه) تعبير عن الانعزالية المتعالية نفسها. وقد جاء في سفر سوكاه (52 ب) أن الإله ندم على خلقه أربعة أشياء: المنفى، والكلدانيين، والإسماعيليين (أي العرب)، ونزعة الشر. وينسب التلمود إلى العرب أعمال السحر، فقد جاء في سفر سنهدرين (67ب) أن عربياً امتشق السيف وقطع به الناقة، ثم قرع جرساً فنهضت دون وجود آثار عليها. والعرب، حسبما جاء في التلمود، خبراء في الطب، وخصوصاً الطب الشعبي. ويرد في التلمود العديد من القصص الطريفة والأعاجيب عن العرب. وهناك قصص ليست في صالح راويها الحاخامي إذ أن بعضها يدل على خبرة العرب وبراعتهم واحترامهم موتى اليهود أكثر من احترام الحاخام إياهم. وأخيراً، فقد جاء في سفر السبت (11 أ) القول التالي: "لا بأس من الخضوع لحكم واحد من أبناء إسماعيل بدلاً من حكم الغريب [أي الأدومي]". وبحسب ما جاء في حاشية الشارح، فإن المقصود بذلك هو تفضيل الحكم العربي على البيزنطي، وهو ما يشكل أساساً تلمودياً للمصالحة مع العرب بل قبولهم حكاماً!

                      هذه بعض الأفكار والموضوعات الأساسية في التلمود. ويجب أن نقرر مع جيمس باركس، وهو مؤرخ غير يهودي متعاطف مع اليهودية، قوله: «إنه لم يكن من الصعب أن يقتبس أي دارس للتلمود، وبيسر شديد، كثيراً من الآراء والمشاعر التافهة والمضحكة بل الكريهة، وبوسعه أن يفعل ذلك دون أن يخطئ في الاستشهاد أو يزيف السياق، إذ أن مثل هذه النصوص توجد في الأدب الحاخامي [الجيولوجي] الضخم وغير المترابط». ونحن إذا وافقناه على رأيه هذا، فلن نحيد عن طريق الصواب، فهذا أيضاً هو رأي الحاخام جيكوب آجوس أحد أهم مؤرخي اليهودية.

                      وهذا هو أيضاً رأي المؤلف اليهودي الصهيوني برنارد لازار، الذي وصف التلمود بأنه "كتاب ضد المجتمع". وقد لعب دوراً حاسماً في تحويل اليهود إلى شعب واحد، فهو الذي صنع النفس اليهودية وصاغ خصائصها، وهو "خالق الجنس أو صانع العنصر اليهودي"، و"هو الذي علَّم اليهود الاستعلاء والتفوق المليء بعصبية ضيقة وضارية". ولعل مثل هذه الآراء، التي تفسر سلوك اليهود في إطار بعض ما جاء في التلمود، هي المسئولة عن موقف المعادين لليهود الذين يجعلون كل يهودي في كل زمان ومكان مسئولاً عما ورد فيه من آراء متعصبة. ومثل هذا الرأي ينم عن عدم إدراك لطبيعة التلمود أو طبيعة علاقة اليهودية به. فالتلمود ليس كلاًّ متجانساً، كما أن اليهود ليسوا على معرفة بما جاء فيه ككل، وهو لا يحدِّد سلوك اليهود كافة في كل زمان ومكان. والواقع أن من يحوِّل التلمود إلى نموذج تفسيري لسلوك اليهود أو أعضاء الجماعات اليهودية (كما يفعل كثير من الدارسين)، يكون قد حكم على نفسه بالانفصال عن الواقع والفشل الذريع في التنبؤ.
                      اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
                      http://www.rasoulallah.net/

                      http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

                      http://almhalhal.maktoobblog.com/



                      تعليق


                      • #12
                        ســــــمات التلــــــمود الأساســـــية
                        Essential Characteristics of the Talmud


                        حينما يتم تناول أي نص أياً كانت قداسته، لابد أن يؤخذ في الاعتبار سياقه التاريخي، فلا يمكن فهم ما جاء في العهدين القديم والجديد إلا بفهم الوضع في فلسطين منذ التسلل العبراني في كنعان حتى ظهور المسيح، ولا يمكن فهم ما يقوله المسيح (رغم أهميته الدينية والأخلاقية المطلقة) إلا بإدراك الأبعاد التاريخية في أقواله. فالمطلق رغم مطلقيته، لابد أن يتبدَّى من خلال النسبي (في لحظات) إذ أن الإنسان الذي يعيش في التاريخ لا يمكنه أن يدرك المطلق إلا من خلال النسبي. ورؤية المطلق في علاقته بالنسبي، والإلهي في علاقته بالتاريخي، لا تعني بالضرورة أن يُردَّ الأول برمته إلى الثاني، وإنما تعني أن الثاني هو المجال الذي يتبدى من خلال الأول. وإذا كان هذا ينطبق على الكتب الدينية (المقدَّسة)، فهو لا شك ينطبق بشكل أكبر على كتب الشروح والتفسير، مهما خلعت على نفسها من قداسة وإطلاق. والتلمود هو، في نهاية الأمر، كتاب تفسير وضعته القيادة الدينية لأقليات متناثرة كانت تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق بها (الحقيقي والوهمي) في عصور لم يكن يُعترَف فيها بحقوق أعضاء المجتمع، ناهيك عن حقوق أعضاء الأقليات، تلك الأقليات التي كانت تلعب دور الجماعة الوظيفية المرتبطة بالطبقة الحاكمة، ولكنها كانت غير محبوبة منها، كما كانت قريبة من الطبقات الشعبية ولكنها مكروهة منها. لقد كانت هذه الجماعة تعيش، إذن، في عزلة عن الجميع (وكان التلمود من أهم وسائل هذا العزل). وقد نتج عن هذا الوضع إحساس زائد بالذات، ولذا فَقَد أعضاء الجماعات اليهودية وقياداتهم قدراً كبيراً من علاقتهم بالواقع وانفصل فكرهم عنه، وأصبح التلمود مجالاً للتعويض عما يلاقونه من اضطهاد، فتحوَّل التلمود إلى صياغـات لفظية يمارسـون من خـلالها الانتقام من أعدائهم، عن طريق الحط من شأنهم وإظهار التفوق اليهودي، وخصوصاً في آخر الأيام بعد عودة الماشيَّح حيث يبطشون ويبطش ربهم بكل أعدائهم. وقد كان شراح التلمود ينغمسون في هذه التهويمات اللفظية في الوقت الذي كانوا يعانون فيه صنوف العذاب ويُعامَلون معاملة الحيوان في بعض الأحيان. ومما له دلالته العميقة أن التلمود البابلي أكثر تسامحاً تجاه الأغيار من التلمود الفلسطيني، نظراً لأن وضع أعضاء الجماعة اليهودية في بابل كان أفضل من وضع أعضاء الجماعة في فلسطين، الأمر الذي صعَّد حدة العمليـة الانتقاميـة التعويضية في فلسطين وخفف من حدتها في بابل. والتلمود كان يُكتَب بلغة أو لغات ميتة لا تفهمها الشعوب التي كان اليهود يعيشون بين ظهرانيها، كما أن عدم وجود الطباعة ووسائل النشر ذات الإمكانيات العالية كان يجعل الحصول على نسخة من التلمود مسألة صعبة، فتحوَّل التلمود إلى جيتو لفظي يمارس فيه اليهودي حريته الوهمية كاملة!

                        وقد بدأت عملية التفسير والتعليق على العهد القديم حين كان اليهود يعيشون في وسط حلولي وثني مشرك، الأمر الذي جعل نبرة الفتاوى والشروح الحاخامية الأولى بشأن الأغيار حادة رافضة، وهي حدة تعود إلى العهد القديم نفسه حين وجد اليهود أنفسهم مكروهين يعيشون بين شعوب وثنية (كنعانيين ثم بابليين وفرس وهيلينيين ورومان) وتحت هيمنتها أحياناً، ويشكل التعامل معهم خطراً على الدين التوحيدي الجديد. ومن هنا جاءت النظرة المتطرفة إلى الأغيار، والتي تُسوِّغ الاستيلاء على أملاك الوثنيين وتستنكر تقديم أيِّ نوع من المساعدة إلى عبدة الأصنام. ورغم أن المجتمعات التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعات قد تغيَّرت بعد أن تبنت ديانات سماوية توحيدية، فإننا نجد أن اليهودية وقد تحولت إلى عقيدة أقلية، مهددة، تود الحفاظ على هويتها، وتبنت رؤية حلولية متعالية للذات مقابل الآخر. وحدث الخلط بين عبدة الأوثان والمسيحيين، كما يظهر في إشكالية العكوم، فقد وُجِّه إلى التلمود اتهام بأن كلمة «عكوم» الواردة فيه ليست في حقيقتها اختصاراً للعبارة العبرية «عوفيد كوخانيم أومزالوت»، أي «عابد الكواكب وأبراج النجوم»، وإنما اختصار لعبارة «عبودت كريستوس وميريام»، أي «عبدة المسيح ومريم»، أي «المسيحيين». والمسألة موضع نقاش ونظر ولكنها تبين طبيعة الخلط.

                        ويتكون التلمود من نص، وشرح، وتعليق، وتعليق على التعليق، وإضافات شتى. وقد استمرت عملية وضعه مئات الأعوام في أزمنة وأمكنة مختلفة، ربما ابتداءً من التهجير إلى بابل حتى تم الانتهاء من تدوينه وإضافة التعليقات في القرن الثاني الميـلادي. واستمرت التعليقات حتى نهاية القرن التاسع عشر، أي أن كتابته استمرت عبر التاريخ واشترك فيها ما يزيد على ألف حاخام. فهو يتكون، إذن، من تراكم مستويات على مستويات أخرى دون أن تتفاعل معها بالضرورة مثل تراكم الطبقات الجيولوجية. ولذا، يمكننا أن نقول إن التلمود ليس الثمرة النهائية للتفكير بقدر ما هو عملية التفكير نفسها، ولكنه على أية حال ليس تفكيراً يتسم بحد أدنى من الوحدة، بل ينبع من حركيات اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة ويتأثر بها. واستمرت عملية التراكم هذه دون حذف الأفكار الانعزالية الكريهة التي عبر عنها بعض الحاخامات بغير رقابة ذاتية أو خارجية عليها. وقد عمَّق هذا الاتجاه تلك القداسة التي خلعها التلمود على نفسه. وقد أدَّى هذا إلى أن عملية التحرير، والتغيير والتعـديل، أصبحـت أمراً مسـتحيلاً لا يمكـن حتى التفكير فيه، فالنص المقدَّس لا يصح تعديله أو الخوض فيه أو تبديله.

                        ومع هذا، فقد جرت محاولة لإعادة صياغة التلمود تهدف إلى تضييق المجال الدلالي لبعض الكلمات، بحيث تحل الكلمة المحددة محل الكلمة العامة حتى لا ينطبق ما جاء فيه من آراء وأحكام على كل الناس في كل زمان ومكان، وبحيث يضيق المجال الدلالي لكلمة مثل «الأغيار» وتحل محلها كلمة «الكنعانيين»، أو «البابليين».

                        ولكل ما تقدَّم، لا يتسم التلمود بالاتساق الداخلي، إذ يحوي داخله العديد من الأفكار والأطر الفلسفية المتناقضة. فثمة تعارض بين العقل والطبقة التوحيدية من جهة والنزعة الحلولية من جهة أخرى، وهناك الاهتمام المفرط بالطقوس مقابل الاهتمام بالتجربة الدينية الداخلية. وهناك من النصوص ما يؤيد هذا الموقف أو ذاك. وقد أشرنا أثناء عرضنا بعض أفكار التلمود الأساسية إلى أفكار مثل الشعب المختار وضرورة العودة إلى أرض الميعاد، بل إلى أفكار أكثر تطرفاً تحمل الضغينة والكراهية نحو الآخرين. وقد أشرنا إلى أن التلمود يضم أيضاً أفكاراً متناقضة جداً تتصل بهذه الأفكار المحورية نفسها. ويقتصر المعادون لليهود عادةً على اقتباس الأفكار السلبية الحلولية الانعزالية والمتعالية وحدها متجاهلين الأفكار الإنسانية. وحتى نبين مدى عمق ذلك التناقض، يمكننا أن نقتبس من التلمود بعض النصوص ذات البعد الإنساني العميق التي تتجاوز الانعزالية والحلولية. وسيُلاحَظ على سبيل المثال أن الاختيار يكتسب أبعاداً دينية عالمية، إذ أن الإله سينزل العقاب باليهود: "إن لم يتحدثوا عن قداسته للعالمين". فقد نُفيت جماعة يسرائيل وشُتِّتَتْ بهدف واحد هو "الدعوة لليهودية وكسب المتهودين" (بساحيم 87ب). وهذه النزعة التبشيرية، التي تحدد اليهودية باعتبارها عقيدة لا باعتبارها ميراثاً عرْقياً وإثنياً، تفترض تساوي البشر وتتجاوز الحلولية التي ترى أن الإله محصور بين اليهود مقصور عليهم، وقد تبنت اليهودية الإصلاحية هذا الموقف من عملية التهويد.

                        وتصل الإنسانية قمتها في ذلك النص الذي جاء فيه أن الروح القدس تستقر على الجميع، اليهودي وغير اليهودي، الرجل أو المرأة، العبد والجواري، كل امرئ "حسب أفعاله". كما جاء في جطين (616) أن أحـد الحاخـامات أوصى بإطـعام فـقراء الأغيـار مع فـقراء اليهـود، "وبزيارة مرضاهم مثلما نزور مرضانا، وأن يُدفَن موتاهم مع موتانا حتى ندعم سبل السلام".

                        ومن الأمور الأخرى التي تُعاب على التلمود، باعتباره أحد الكتب الدينية، أنه يتناول من الموضوعات ما قد يرى البعض، استناداً إلى تجربتهم الدينية، أنها لا علاقة له بالدين مثل الطب وطريقة شراء العبيد. ولكن ما هو مقدَّس لا يوجد بمعزل عما هو دنيوي. كما أن كل نمـوذج ديني يُعرِّف ما هـو ديني ومقدَّس وما هـو دنيوي بطريقتـه الخاصة. وقد اتسع نطاق القداسة في اليهودية بسبب الطبقة الحلولية داخلها ليضم كثيراً من مناحي الحياة. فالأوامر والنواهي (متسفوت) والبالغ عـددها 613 تغـطي تقـريباً كل كبيرة وصغيرة في حياة اليهودي. كما أن التلمود ليس كتاباً دينياً وحسب، وإنما هو أيضاً كتاب فلكلور الجماعات اليهودية. والواقع أن تناقضاته الداخلية لا تنصرف إلى موضوعاته ومنطلقاته الدينية والفلسفية وحسب وإنما تنصرف أيضاً إلى نوعه أو جنسه الأدبي، فهو كتاب فقه وقصص وحكم وأمثال. وعلى قارئ التلمود ودارسه أن يفرق بين ما هو ديني وما هو شعبي.

                        وفي نهاية الأمر، لابد أن نشير إلى أن كثيراً من الأقوال والأحكام التي وردت في التلمود لا علاقة لها بأي واقع محدد، وإنما هي أحكام خاصة بالهيكل بعد تشييده، أو بدلائل آخر الأيام، وما سيحدث فيها فيما بعدها، الأمر الذي يجعل علاقتها واهية بالسلوك السياسي للأفراد والجماعات. كما أن قضية التفسير أساسية حينما نتناول أي نص ديني. ورغم أن التلمود هو نفسه تفسير، فإنه يخضع دائماً لعملية تفسير من قبل الحاخامات (وتنطوي عملية التفسير على انتقاء واختيار واسـتبعاد). ولما كان التلمـود كتاباً ضخـماً متناقضـاً، فهـو بالضـرورة «حمَّال أوجه»، ويمكن أن يُفسَّر بألف طريقة. وفي كثير من المختارات التي تَصدُر في العصر الحديث، يُلاحَظ أن محرريها يستبعدون العبارات الجارحة والأفكار الكريهة والمواقف العنصرية ويفسرون ما قد يرد منها تفسيراً يضفي عليها معاني إنسانية. وقد تهدف عملية الانتقاء والتفسير هذه إلى إخفاء الجوانب السلبية للتلمود، حتى لا تسبب حرجاً لليهود، ولكن الإحساس بالحرج نفسه يدل على الرغبة في الابتعاد عن المضمون الحلولي العنصري المتعالي.

                        التلمــود وأعضــاء الجماعــات اليهوديـــة
                        The Talmud and the Jewish Communities


                        يفترض المعادون لليهود الذين يهاجمون أعضاء الجماعات اليهودية بسبب ما جاء في التلمود، أن كل يهودي قد درس التلمود بعناية فائقة، وأنه يُخْضع كل حركاته وسكناته لما ورد فيه من تعاليم سلبية. لكن هذا تصوُّر ساذج وتبسيط آلي، فما يحدد سلوك فرد ما، يهودي أو غير يهودي، ليس كتبه الدينية ومُثُله العليا وحسب وإنما مركب هائل من الأسباب التاريخية (الاقتصادية والاجتماعية) التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولا يمكن فهم سلوك العرب المحدثين في ضوء ما جاء في تراثهم الديني، أو في ضوء ميثاق جامعة الدول العربية، رغم أهمية كل ذلك في تحديد هذا السلوك. والواقع أن دراسة التلمود مسألة شاقة للغاية تتطلب معرفة بالقراءة والكتابة باللغتين العبرية والآرامية، وهما لغتان ساميتان يصعب على الإنسان غير المتخصص دراستهما في الوقت الحاضر. ولذا، لم يكن يقرأ التلمود سوى أعضاء النخبة المتعلمة التي كانت في المراكز الدينية. أما جماهير اليهود، فكانت لا تعرف ما جاء فيه لأنها لم تكن تملك المقومات الثقافية لذلك. بل إن صغار الحاخامات أنفسهم الذين وجدوا في القرى المتناثرة، أو أولئك البعيدين عن المدارس التلمودية العليا، لم يكونوا يعرفون ما جاء فيه.

                        وقد تكون علاقة أعضاء أكبر جماعة يهودية في العالم (أي يهود بولندا) في بدايات العصر الحديث بالتلمود مثلاً جيداً على طبيعة العلاقة بين اليهود وهذا المجلد الضخم (التلمود). فقد انتشر اليهود، في القرن السادس عشر، في الشتتلات التي شيدها النبلاء البولنديون (شلاختا) في أوكرانيا وغيرها، فعاشوا بجوار الفلاحين الأوكرانيين المسيحيين السلاف بعيداً عن مراكز الدراسات التلمودية، واكتسبوا عبر السنوات سمات الفلاحين الذين كانوا يعيشون بينهم ومنها فلكلورهم الشعبي وبعض معتقداتهم الدينية (والواقع أن التمييز بين معتقدات دين ومعتقدات دين آخر مسألة صعبة بعض الشيء على المستوى الشعبي، كما أن الديانات الشعبية تركيبات جيولوجية تتسم في معظمها بالحلولية). ولقد أدَّى هذا الوضع إلى انتشار الحركات المشيحانية والصوفية بين اليهود ابتداءً من القرن السابع عشر، وهي حركات شعبية يهودية كانت موجهة ضد المؤسسة الحاخامية التلمودية الأرستقراطية، وكانت تجد تربة خصبة في الأطراف (وخصوصاً في مقاطعة بودوليا) بعيداً عن سلطة المؤسسة. وفي التربة نفسها، ظهرت الحركة الفرانكية والحركة الحسيدية، وكلتاهما حركتان شعبيتان ترفضان سلطة التلمود. وقد كان الفرانكيون يطلقون على أنفسهم اسم «الزوهاريين» نسبة إلى كتاب الزوهار القبَّالي. وقد انضم إلى هذه الحركات أساساً صغار التجار والحرفيين وصغار الحاخامات الذين لم تكن لهم علاقة كبيرة بالمؤسسة التلمودية الأرستقراطية.

                        ومع تحديث أغلبية اليهود وعلمنتهم التدريجية داخل الحضارة الغربية، ومع انتقاد اليهودية الإصلاحية للتلمود ورفضها له، ضعفت العلاقة بين اليهود والتلمود حتى اختفت تماماً بالنسبة إلى الأغلبية العظمى. فالأمريكيون اليهود (اليهود الجدد) والإسرائيليون لا يعرفون ما جاء في التلمود، ويُصدَم كثير منهم حينما تُذكَر أمامهم بعض أقواله. ويبدو أن أهم مفكرين دينيين يهوديين في العصر الحديث، مارتن بوبر وفرانز روزنزفايج، لم يدرسا التلمود، وربما لم يقرآه كاملاً. وقد حصل بوبر على أول نسخة منه في عيد ميلاده الستين! وفي استطلاع للرأي أُجري في إسرائيل صرح 84% ممن شملهم الاستطلاع أنهم لم يقرأوا التلمود قط.

                        لكل ما تقدَّم، يجب ألا تُجرَّد النصوص التلمودية من سياقها، وألا يُجرَّد التلمود نفسه من سياقه التاريخي، بل يجب أن يُنظَر إليه في كليته لا ككتاب ديني وحسب وإنما أيضاً ككتاب أدب شعبي لا يتسم بكثير من التناسق أو التجانس، كما يجب أن يُقرأ باعتباره كتاباً يحوي الفكرة ونقيضها، وباعتباره كتاباً لا يحدد وحده سلوك الفرد اليهودي الذي عادةً ما يجهل ما جاء فيه. والواقع أن استخدام التلمود كنموذج تحليلي ينم عن الكسل الفكري، فهو رفض للتعمق في كلية الظاهرة اليهودية وتركيبيتها وتنوعها بحيث يصبح كل أعضاء الجماعات اليهودية في كل زمان ومكان مجرد يهود، ويصبح المحدد الأساسي لسلوكهم هو التلمود (وهذا ضرب من ضروب الحلولية المعرفية إذ يتم اختزال الواقع بأسره إلى مستوى واحد ويتم القضاء على التعددية وعلى كل الثنائيات). وينجم عن هذا، بطبيعة الحال، فشل كامل في رصد سلوك أعضاء الجماعات اليهودية أو التنبؤ به.

                        كتب التفسير (مدراش)
                        Midrash


                        «مدراش» من الكلمة العبرية «درش»، أي «استطلع» أو «بحث» أو «درس» أو «فحص» أو «محص». والكلمة تُستخدَم للإشارة إلى ما يلي:

                        1 ـ منهـج في تفسير العهـد القديم يحاول التعمق في بعض آياته وكلماته، والتوسع في تخريج النصوص والألفاظ، والتوسع في الإضافات والتعليقات، وصولاً إلى المعاني الخفية التي قد تصل إلى سبعين أحياناً. وهناك قواعد مدراشية للوصول إلى هذه المعاني. ومثل هذه المعاني الخفية، تُذكَر دائماً مقابل الـ «بيشات» أي «التفسير الحرفي».

                        2 ـ ثمرة هذا المنهج من الدراسات والشروح، فالتلمود مثلاً يتضمن دراسات مدراشية عديدة، بمعنى أنها اتبعت المنهج المدراشي. ولكن هناك كتباً لا تتضمن سوى الأحكام والدراسات والتفسيرات المدراشية المختلفة ويُطلَق عليها أيضاً اسم «مدراش».

                        ويُفترَض أن مثل هذه الكتب المدراشية تعود إلى تواريخ قديمة شأنها في هذا شأن كل فروع الشريعة الشفوية. ويبدو أن العلماء المعروفين باسـم الكتبة (سـوفريم)، بدأوا بعد العـودة من بابل بزعامة عزرا، في دراسة التفسيرات التقليدية للشريعة المكتوبة، وأخذوا يطبقونها على الاحتياجات اليومية للجماعة اليهودية، واستمروا في ذلك حتى بداية ظهور معلمي المشناه (تنائيم).

                        وقد ازدهر الأدب المدراشي في عصر معلمي المشناه (تنائيم)، لكن البدء في تدوين كتب المدراش لم يحدث إلا بعد عدة قرون من إلقاء المواعظ. وهناك نحو أربع وعشرين مجموعة مدراشية يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام حسب المرحلة التاريخية:

                        1 ـ الكتب المدراشية المبكرة (وتم جمعها في الفترة 400 ـ 600).

                        2 ـ كتب المرحلة الوسطى (640 ـ 1000).

                        3 ـ كتب المرحلة المتأخرة (1000 ـ 1200).


                        وهناك مختارات مدراشية من القرن الثالث عشر، إلى جانب مواعظ مدراشية يمكن أن ترد في مجموعات مدراشية مختلفة أو في الجماراه.

                        وتنقسم كتب المدراش إلى نوعين:

                        1- المدراش التشريعي الهالاخي (مشنوي)، وهي كتب المدراش التي تتضمن، أساساً، المبادئ الهادية إلى أحكام الشرع الديني (هالاخاه) - وهي تعليق على النصوص الشرعية، ومن أهمها:

                        أ) المخيلتا، وهذه كلمة آرامية تعني «المعيار» أو «المكيال» أو «الوعاء»، وتتضمن تسعة أبواب تُعالَج فيها أحكام شرعية موجودة في نص الكتاب المقدَّس (سفر الخروج) وتبدأ بالإصحاح رقم 12، وترجع المخيلتا إلى القرن الرابع أو القرن الخامس الميلادي.

                        ب) مخيلتا الحاخام شمعون بن يوحاي، وهي أيضاً تدور حول ما جاء في سفر الخروج من أحكام.

                        جـ) السفرا، أي «الكتابة» أو «الكتاب»، ويُسمَّى أيضاً «توراة الكهنة»، وهو تعليق على سفر اللاويين.

                        د) السفري (جمع سفرا)، وهو تعليق على سفر العدد، ابتداءً من إصحاحه الخامس، وعلى سفر التثنية بكامله.

                        هـ) سفر زوتا، وهو عن سفر العدد وحده.

                        ويختلف المخيلتا والسفري، عن بقية الكتب المدراشية، في المصطلح والمنهج. ويجب هنا أن نذكر ما يُسمَّى «مدراش معلمي المشناه (تنائيم)»، وهو تعليق على سفر التثنية ويتألف من فقرات مدراشية متفرقة وُجدت ضمن مختارات عُثر عليها في اليمن وتُسمَّى «مدراش هاجَّادول» أي «المدراش الأكبر».

                        ـ المدراش الأجادي، وهي التي كتبها الشراح (أمورائيم) وتتكون من المواعظ التي ألقوها في المعابد،واتبعوا فيها الأسلوب الأجادي أو الشرح القصصي على سبيل الوعظ.ومن أهم كتب المدراش الأجادية «مدراش رابا» (المدراش الكبير) الذي يتضمن أسفار موسى الخمسة، وتُدعى «بريشت (تكوين) راباه» و«شيموت (خروج) راباه» وهكذا في نشيد الأنشاد وراعوث وإستير وغيرها. وهناك مصنفات مدراشية أجادية أخرى مثل مدراش تنحوما ومدراش جالوت.

                        ويتكون التلمود أساساً، وخصوصاً المشناه، من أحكام مدراشية، ولكنه يتميَّز عن هذه الكتب المدراشية بأنه عبارة عن مناقشات وشروح تدور حول نصوص الأحكام الشرعية الناتجة من التفسير المدراشي بحيث لا يستند الشرح والتفسير إلى نصوص العهد القديم استناداً تاماً. فالمشناه تقدم الشريعة مجردة دون الأصل التوراتي، على عكس المدراش الذي يفسِّر نصاً أو نصوصاً توراتية. والاستخدام الشائع الآن لكلمة «مدراش» هو المدراش بالمعنى الأجادي أو القصصي الوعظي.

                        ويُقال إن يهود المدينة في عصر البعثة المحمدية كانوا لا يعرفون التلمود وكانوا يتداولون فيما بينهم بعض كتب المدراش.

                        المشــناه
                        Mishnah


                        «مشناه» كلمة عبرية مشتقة من الفعل العبري «شنَّاه» ومعناه «يُثنِّي» أو «يكرر». ولكن، تحت تأثير الفعل الآرامي «تانا»، صار معناها «يدرس». ثم أصبحت الكلمة تشير بشكلٍّ محدد إلى دراسة الشريعة الشفوية، وخصوصاً حفظها وتكرارها وتلخيصها. والمشناه مجموعة موسوعية من الشروح والتفاسير تتناول أسفار العهد القديم، وتتضمن مجموعة من الشرائع اليهودية التي وضعها معلمو المشناه (تنائيم) على مدى ستة أجيال (10ـ 220).

                        وتُعَدُّ المشناه مصدراً من المصادر الأساسية للشريعة، وتأتي في المقام الثاني بعد العهد القديم الذي يُطلَق عليه لفظ «مقرا» (من «قرأ») باعتبار أن العهد القديم هو الشريعة المكتوبة التي تُقرأ. أما المشناه، فهي الشريعة الشفوية، أو التثنية الشفوية، التي تتناقلها الألسن، فهي إذن تكرار شفوي لشريعة موسى مع توضيح وتفسير ما التبس منها، ولابد من دراسـته (وتسـمية العهد القديم بالمقرا حدثت في العهد الإسلامي، وهي صدى للتفرقة بين القرآن والسنة، فظهرت التفرقة بين المقرا والمشناه). ولهذا، فإن المشناه تُسمَّى «الشريعة الثانية». وتتضارب الآراء المتصلة بمدلول كلمة «مشناه»، فيذهب البعض إلى أنها تشير إلى الشريعة الشفوية بكاملها (مدراش وهالاخاه وأجاداه). ولكن الرأي الآن مستقر على أن المشناه تعني الهالاخاه فقط، حتى أن كلمتي «مشناه» و«هالاخاه» أصبحتا مترادفتين تقريباً. ومع هذا، فإن هناك فقرات أجادية في نهاية كل قسم من أقسام المشناه. وعلى أية حال، فإن فقرة واحدة تتضمن سنة واحدة في الفقهيات التشريعية يُسمَّى «مشناه» وجمعها «مشنايوت». أما كتاب المشناه ككل فيشار إليه أحياناً بأنه «هالاخاه» وجمعها «هالاخوت».

                        وقد دوِّنت المشناه نتيجة تراكم فتاوى الحاخامات اليهود (معلمي المشناه) وتفسيراتهم وتضاعفها كمياً بحيث أصبح من المستحيل استظهارها، فبدأ تصنيفها على يد الحاخام هليل (القرن الأول الميلادي)، وبعده الحاخام عقيبا ثم مائير. أما الذي قيدها في وضعها الحالي كتابةً، فهو الحاخام يهودا الناسي (عام 189م) الذي دونها بعد أن زاد عليها إضافات من عنده (ولكن هناك من يقول إنه لم يدونها رغم اقترانها باسـمه، وقد ظـلت الأجيـال تتناقـلها حتى القرن الثامن الميلادي). ويتكون كل من التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي من المشناه والجماراه. ووجه الاختلاف بينهما في الجماراه، أما المشناه فهي مشتركة بين التلمودين. والواقع أن لغة المشناه هي تلك اللغة العبرية التي أصبحت تحتوي على كلمات يونانية ولاتينية وعلى صيغ لغوية يظهر فيها تأثر عميق بقواعد الآرامية ومفرداتها، وتُسمَّى عبرية المشناه. ويصل حجم المشناه في الترجمة الإنجليزية إلى 789 صفحة. ولذا، ورغم أنها تعليق على العهد القديم، فإنها أكبر منه حجماً. ويجب التمييز بين المشناه والمدراش، فالمدراش (حتى التشريعي الهالاخي) تعليق على النصوص التوراتية نفسها، أما المشناه فتهدف إلى تقديم المضمون القانوني للشريعة الشفوية بشكل مجرد ودون العودة إلى النصوص التوراتية.

                        وتنقسم المشناه إلى ستة أقسام )سداريم):

                        1 ـ سدِّر زراعيم، أي البذر أو الإنتاج الزراعي: ويُعنى بالقوانين الدينية الخاصة بالزراعة والحاصلات الزراعية وبنصيب الحاخام من الثمار والمحصول.

                        2 ـ سدِّر موعيد، أي العيد: ويُعنى بالأعياد (والسبت)، والأحكام الخاصة بها.

                        3 ـ سدِّر ناشيم، أي النساء: وفيه النظم والأحكام الخاصة بالزواج والطلاق.

                        4 ـ سدِّر نزيقين، أي الأضرار: ويتناول الأحكام المتعلقة بالأشياء المفقودة والبيع والمبادلة والربا والغش والاحتيال، كما يُعنى بالحديث عن عصر المسيح ومحاكمته وصلبه. وهذا الكتاب موضع اهتمام الذين حاولوا إرجاع ما يُسمَّى «الأخلاق اليهودية» إلى تعاليم التلمود.

                        5 ـ كتاب قُدَاشيم، أي المقدَّسات: ويحوي الشرائع الخاصة بالذبح الشرعي، والطقس القرباني وخدمة الهيكل. ويُقال إن واضعي المشناه قد أدركوا أنه (بعد القضاء على ثورة بركوخبا) لم يَعُد هناك احتمال في المستقبل القريب لإعادة بناء الهيكل، ولذا فقد وضعوا القوانين الخاصة بالهيكل على مستوى آخر حيث أصبحت دراسة قوانين الهيكل بديلاً دينياً للطقوس المقدَّسة التي يقوم بها الكهنة في المعبد.

                        6 ـ كتاب طهاروت أو الطهارة: ويعالج أحكام الطهارة والنجاسة.

                        وهذه الكتب الستة أو السداريم (جمع سدر)، أصبحت تُسمَّى «شيشا سداريم»، وهي تنقسم بدورها إلى أحكام فرعية أو مباحث تُسمَّى «ماسيختوت»، ومفردها «مسيخت»، وهي من جذر آرامي بمعنى «نسج»، أو «حاك»، ويُقال لها أيضاً «الأسفار» أو «المقالات». ويتناول كل كتاب موضوعاً بعينه في عدة فصول أو براقيم أو مفاصل. ويتألف كل فصل بدوره من فقرات عديدة تُعرف باسم «هالاخوت» (جمع هالاخاه) وهي الأحكام الشرعية.

                        ويرى واضعو المشناه أنها جزء لا يتجزأ من الوحي الذي تلقاه موسى، فهي التوراة (أو الشريعة الشفوية) لا بمعنى أن بعض أجزائها تلقاه موسى شفاهة في سيناء ثم تم تناقلها شفاهة عبر الأجيال من حاخام إلى آخر، وإنما بمعنى أن تقاليد التوراة الشفوية لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا. بل يرى بعض العلماء اليهود أن المشناه هي المقابل اليهودي للعهد الجديد، فكلاهما إكمال للعهد القديم وشريعة موسى. والمشناه هي، في الواقع، الرد اليهودي على العهد الجديد. بل إن بعض العلماء اليهود يرون أن المشناه، شأنها شأن المسيح، هي تجسيد للعقل الإلهي، أي أنها اللوجوس (الكلمة). وإذا كان المسيح هو اللوجوس، وقد أصبح بشراً، فإن هذا التجسيد يأخذ في المشناه شكل لغة قانونية متزنة تشكل وتنظم مسار الواقع.

                        وقد ظلت المشناه أهم كتب اليهود المقدَّسة والمصدر الحقيقي للتشريع والأحكام والفتاوى، رغم كل الأبهة الشعائرية التي تحيط بالعهد القديم. ومع هذا، فإن المشناه بدأت تفقد منذ القرن السادس عشر، مثلها مثل باقي أقسام الشريعة الشفوية ككل، شيئاً من أهميتها ومركزيتها، وذلك مع شيوع القبَّالاه وازدياد نفوذ القبَّاليين الذين أخذوا يهاجمون الحاخامات ويُصدرون الفتاوى استناداً إلى الزوهار وأقوال لوريا. وكان القبَّاليون يشيرون إلى المشناه بأنها «مقبرة موسى» ويشيرون إلى الحاخام بلفظ «الحمار المشناوي» (لأنه ينوء تحت طقوس المشناه ويكررها أحياناً دون فهم لمعناها).

                        الجـماراه
                        Gemara


                        «جماراه» كلمة آرامية تعني «التتمة» أو «التكملة» أو «الدراسة». وهي عبارة عن التعليقات والشروح والتفسيرات التي وضعها على المشناه الفقهاء اليهود الذين يسمَّون بالشراح (أمورائيم) في الفترة 220 ـ 500م. وهي تأخذ عادةً شكل أسئلة وأجوبة. وتُعَدُّ الجماراه جزءاً من الشريعة الشفوية. لكن تسميتها بالجماراه، أي «المكملة»، هي من قبيل المجاز، فالشراح لم يكتفوا بالتفسير والتوضيح فحسب، بل قاموا بالتعديل حتى تطابق المشناه ظروف الزمان والمكان، أي أنهم فعلوا بالمشناه ما فعله رواة المشناه بالعهد القديم. وكما أن المشناه أطول من العهد القديم، فإن الجماراه أطول من المشناه. وهناك جماراتان إحداهما فلسطينية والأخرى بابلية. ويبلغ عدد كلمات الأولى نحو ثلث عدد كلمات الثانية.

                        وفي القرن الرابع، نسقت مدارس فلسطين التلمودية شروحها في الصورة المعروفة بالجماراه الفلسطينية. أما الجماراه البابلية، وهي أطول من المشناه عشر مرات، فقد جُمعت في مائة عام كاملة، وظل الحاخامات المفسرون (صبورائيم) نحو مائة وخمسين سنة أخرى يراجعون هذه الشروح الضخمة ويصقلونها حتى أخذت صورتها التي لدينا.

                        ووجه الاختلاف بين التلمود البابلي والتلمود الفلسطيني ماثلٌ في الجماراه وليس في المشناه، فالمشناه مشتركة بينهما. ولما كانت الجماراه البابلية أكمل وأشمل من الجماراه الفلسطينية، ويزيد حجمها على حجم الجماراه الفلسطينية، فإن التلمود البابلي هو التلمود المتداول الآن بين اليهـود، وهو الكتاب القيـاسي عندهم. والواقع أن كلمة «التلمود»، في الأوساط العلمية، تشير إلى الجماراه وحسب.

                        ولغة الجماراتين هي الآرامية (الآرامية الشرقية في حالة التلمود البابلي والآرامية الغربية في حالة التلمود الفلسطيني)، وقد كُتبتا بأسلوب إيضاحي بسيط. وإذا كان معظم المشناه تشريعياً قانونياً هالاخياً، فإن الجماراه تجمع بين القانون والمواعظ والقصص (أجاداه).

                        التشريع والشريعة
                        Halakhah


                        مصطلح «التشريع» هو المقابل العربي لكلمة «هالاخاه» العبرية. وهذا المصطلح يعني «القانون» أو «التشريع». وكلمة «هالاخاه» من أصل آرامي، ومعناها الحرفي هو «الطريق القويم»، وإن كان يُقال في التفسيرات الحديثة إن معنى الكلمة الأصلي هو «الضريبة» أو «القاعدة الثابتة». وكلمة «هالاخاه» لها معنى ضيق، وقد ورد لأول مرة في كتابات معلمي المشناه (تنائيم) وكانت تعني في بداية الأمر «الحكم الشفهي الذي يصدره الفقهاء» ثم أصبحت تشير إلى «الفقرة الواحدة المُتضمَنة في سنة واحدة في الفقهيات الشرعية». ثم أصبحت الكلمة تشير إلى الجانب التشريعي لليهودية ككل (وضمن ذلك الشريعة الشفوية) بحيث أصبحت تشمل في نطاقها العرف والعادة والقوانين المحلية والمراسيم الشرعية وهي في ذلك مثل كلمة «لو Law» في الإنجليزية أو «قانون» في العربية، فيمكن أن نشير مثلاً إلى «قانون العقوبات»، وإلى «القانون الجنائي» كما يمكن أن نشير إلى «القانون» بشكل عام. وهكذا يُقال: "ما الهالاخاه المتصلة بهذا الموقف؟"، أي "التشريع الخاص بهذا الموقف"، كما يمكن القول "لقد امتلك فلان ناصية الهالاخاه" أي "التشريع بشكل عام". والكلمة تكاد تكون مرادفة لكلمة «توراة» التي تعني أيضاً «الشريعة» و«القانون» بالمعنى العام. ولعل الفرق يكمن في أن كلمة «توراة» تظل ذات دلالة عامة فقط، بينما كلمة «هالاخاه» تكون أحياناً ذات معنى عام أو معنى خاص. وحتى لا نخلط، يمكن القول بأن «هالاخاه» تشير إلى الصياغة القانونية المحددة لتفاصيل الشريعة اليهودية، وذلك في مقابل:

                        1 ـ المدراش: الدارسة والوعظ الذي يعتمد دائماً على الاستشهاد بالتوراة، وعلى البحث عن المعاني الخفية.

                        2 ـ الأجاداه: التي تعتمد على الوعظ عن طريق القصص.


                        ويحتـوي التلمـود على أجزاء هـالاخية تشـريعية، أي قانونية مختلفة، وأخرى أجادية قصصية وعظية. ولكن المشناه تتميز بأنها تحتوي على تشريع أكثر مما تحوي القصص والمواعظ، في حين تتسم الجماراه بأن فيها من الأجاداه (أي من القصص والمواعظ) أكثر مما فيها من الهالاخاه (أي من التشريع). وتُعَدُّ المصادر الأساسية للتشريعات: الشريعة المكتوبة (أي التوراة) والشريعة الشفوية والعرف الساري بين اليهود.

                        ويرى بعض الحاخامات أن التشريع بكامله مُوحى به من الإله. بل إن بعضهم يدعي أنه، منذ هدم الهيكل، لم يَعُد هناك من شغل شاغل للإله إلا هذا التشريع. ويُلاحَظ أن كلمة «تشريع» أو «هالاخاه» يضيق نطاقها أحياناً لتشير إلى الشعائر بالدرجة الأولى، بحيث إن الحوار بشأن الهالاخاه أصبح حواراً بشأن الشعائر. وهنا يمكننا أن نقول إن نطاق كلمة «هالاخاه» بهذا المعنى هو تعبير عن الطبقة الحلولية داخل اليهودية.بل إن ترادف كلمة «هالاخاه» بمعنى «قانون» و«هالاخاه» بمعنى «شعيرة» هو نفسه تعبير عن النزعة الحلولية حيث تتلاحم كل الدلالات وحيث يقل التجريد والتسامي. ويتبدَّى النسق الحلولي لا في الإيمان بالله الواحد وإنما في ممارسة عدد هائل من الشعائر التي تعبِّر عن قداسة الممارس وعزلته عن الآخرين.

                        ويُلاحَظ أن الفلاسفة الدينيين اليهود في العالم الإسلامي، مثل سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون، لم يطبقوا تفكيرهم الفلسفي على التشريع والشعائر مكتفين بالتعامل مع القضايا الفلسفية الكبرى المجردة. فموسى بن ميمون، في كتابه مشنيه توراة، وهو مُصنَّفه التشريعي الضخم، يكتب فصلاً فلسفياً تمهيدياً لا علاقة له بالتشريعات اليهودية التي ترد في الكتاب. بل إنه يشير إلى أن التشريعات اليهودية، مثل تحريم طبخ الجدي في لبن أمه وغير ذلك من الوصايا والنواهي والشعائر، هي بقايا عبادات وثنية اختفت منذ زمن قديم، وأنها طريقة إلهية لمخاطبة عقول البسطاء والبدائيين. وبالنسبة للفلاسفة، لا يوجد أي معنى للتشريعات، وإن وجد معنى ما، فهو معنى فلسفي مجرد يُقلل شأن التشريع نفسه. ولكن القبَّاليين نجحوا فيما فشل فيه الفلاسفة، إذ جعلوا التشريع جزءاً من عالمهم السحري، بحيث أصبح تنفيذه كالتميمة السحرية والوسيلة الأكيدة للتأثير في العالم العلوي ومعنى هذا أنهم وصلوا بالنسق الحلولي إلى نتيجته المنطقية.

                        وفي إسرائيل، يواجه الناس كثيراً من المشاكل الناجمة عن محاولة تطبيق التشريعات بحذافيرها بعد تفسيرها حرفياً. وقد أنشئ معهد للتكنولوجيا والهالاخاه (التشريع)، الهدف منه حل بعض المشاكل الناجمة عن محاولة إقامة الشعائر التي نص عليها الشرع، فتم تطوير نوع من أنواع النباتات العلفية التي لا تنتشر حتى لا تختلط مع النباتات الأخرى، الأمر الذي يُعَد تحايلاً على التحريم الخاص بعدم الخلط بين النباتات المختلفة. كما تم تطوير طريقة لزراعة الخضر في الماء حتى يمكن إراحة الأرض في السنة السبتية. كما تم التوصل كذلك إلى أدوات كهربائية ذات مفاتيح زمنية يتم ضبطها قبل يوم السبت، بحيث تنير من تلقاء نفسها يوم السبت.

                        والتشريعات المختلفة هي محور الخلاف بين الفرق اليهودية في العصر الحديث. ويرى اليهود الأرثوذكس أنهم ملتزمون بتنفيذ كل ما جاء في التــشريعات، وأن نمـط حياتهم يتبع قواعـدها. أما الإصلاحيون، فيرون أن التشريعات مرتبطة بزمان ومكان محددين، وأن قواعدها غير ملزمة لهم. ويرى اليهود المحافظون أنهم ينفذون روح التشريعات دون حرفيتها. وقد تخلَّى معظم يهود العالم عن تنفيذ التشريعات اليهودية من الناحية الفعلية والنظرية، أي أنهم لا يتبعونها من ناحية المبدأ. كما أن هناك أعداداً كبيرة تخلت عنها من ناحية الممارسة وحسب، دون أن تتخلى عنها من ناحية المبدأ. ولم يبق سوى جماعة صغيرة (تتراوح بين 5% و10%) ترى أن ما جاء في هذه التشريعات مُلزم لها وتحاول وضعها موضع التطبيق.

                        هالاخــاه
                        Halakhah


                        «هالاخاه» كلمة عبرية تعني «التشريع» أو «الشريعة». وعادةً ما يتم الحديث عن «هالاخاه» مقابل «أجاداه» (القصص والمواعظ). ويحتوي التلمود على أجزاء هالاخية وأخرى أجادية، أي على أجزاء تشريعية وأخرى قصصية وعظية.

                        التفسيرات القصصية الأسطورية (أجاداه)
                        Agadah


                        لفظ «أجاداه» أو «هجاداه» آرامي، ويعني «روى» أو «حكى» أو «قص»، كما يعني أيضاً «أسطورة» أو «حدوتة فلكلورية»، وهو مشتق من أصل عبري غير معروف على وجه الدقة، فيُقال إنه من فعل «هَجْيد» بمعنى «قيل» للإشارة إلى القصص الشفوية مقابل القصص المدوَّنة. وإن كان يُقال إنه مشتق من عبارة «هجَّدْتا لبنيخا»، أي «تخبر ابناءك» (خروج 13/8). وتستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى الفقرات والقطع التلمودية التي تعالج الجوانب الأخلاقية أو القصصية الوعظية أو الأدعية أو الصلوات أو مديح الأرض المقدَّسة أو التعبير عن الأمل في وصول الماشيَّح. كما تشير إلى الأجزاء التي تتناول التاريخ والسير والطب والفلك والتنجيم والسحر والتصوف.

                        وتُقرَن الأجاداه دائماً بالهالاخاه. وتُعرَف الأجاداه بأنها ذلك الجزء من التعاليم الحاخامية الذي لا يعالج الهالاخاه (أو الجوانب القانونية أو التشريعية). وحتى حينما تتعرض الأجاداه إلى مثل هذه الجوانب، فإنها تقتصر دائماً على الحديث عن الحكمة من إرسال القوانين. ويقول الحاخامات إنه يمكن استخلاص الأجاداه من الهالاخاه، ولكن العكس غير صحيح لأن الهالاخاه هي الأصل والأساس. والأجاداه هي من باب التفسير القصصي، ولذلك فليس لها وزن وثقل الهالاخاه. وتختلط العناصر الأجادية بالعناصر الهالاخية في التلمود. وتتسم المشناه بقلة العنصر الأجادي فيها على عكس الجماراه. وتُطبَع أحياناً المقطوعات الأجادية من التلمود في كتب، ويُطلَق على مثل هذه الكتب أيضاً «أجاداه».

                        وتتَّسم القصص الأجادية بمبالغاتها الأسطورية ومعانيها الغريبة. وقد حاول الفلاسفة اليهود الدينيون أن يفسروها تفسيراً عقلانياً، ولكنهم لم يهتموا بها كثيراً. وهذا على عكس المفكرين القبَّاليين الذين اهتموا بها وطوروها واستفادوا منها في تفسيراتهم المفتعلة. وقد أثرت الأجاداه تأثيراً عميقاً في الوجدان الديني الشعبي اليهودي، ونبتت في تربتها القبَّالاه. ويمكن القول بأن الأجاداه والقبَّالاه هما اللذان صاغا هذا الوجدان. أما الجوانب التشريعية في التلمود، فقد كانت مقصورة على الأرستقراطية الدينية التي كانت موجودة في المدارس التلمودية العليا (الأكاديميات - اليشيفات) والمراكز الدينية الكبرى بعيداً عن القرى والمدن الصغيرة. وقد ثار كثير من المفكرين الإصلاحيين على الأجاداه، وإن كانت ال