إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الاشوريون والعقدة البابلية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الاشوريون والعقدة البابلية

    الاشوريون والعقدة البابلية

    نظام دولة المدينة city state في وسط وجنوب العراق بين (2900 ـ 2400) ق.م. وقد سمي بعصر فجر السلالات، حيث كان فيه البشر والماشية ملكاً للالهة. سمى السومريون يسمون حاكم دولة المدينة Ensi اما الاكاديون فكانوا يسمونه ايشاكو ešaku.

    ـ الاكديون انحدروا من الشمال وتحديداً من منطقة جبل سنجار غرب نينوى. سرجون الاكدي (2371 ـ 2316) ق.م مؤسس هذه الدولة. وحدّ البلاد وقضى على نظام دولة المدينة. اتبع سياسة تدمير اسوار المدن من اجل القضاء على مراكز تجمع المناوئين لسلطته. بسط نفوذه على كل بلاد سومر حتى انه يذكر في نص مسماري "غسل سلاحه في مياه البحر السفلي" اي مياه الخليج العربي. اتخذ مدينة أكد عاصمة له والتي ما يزال موقعها غير معروف لحد الان. بنى في عاصمته الجديدة معبداً للالهة عشتار التي يدعي بأنها هي التي منحته الحكم. تذكر النصوص المسمارية بأنه استولى في الغرب على مدينة ايتو (هيت) وماري وغابات الارز (جبال امانوس) وجبال الفضة (جبال طوروس) ومدينة ابلا في شمال سورية. وهناك نص مسماري عثر عليه في تل العمارنة في مصر عنوانه (ملك المعركة) يذكر بأن سرجون الاكدي وصل الى مدينة بورش خندا في اواسط اسيا الصغرى لنصرة جماعة من التجار الاشوريين الذين اصابهم الظلم على يد أحد الحكام هناك. انتهى العهد الاكدي في العراق بموت شار ـ كالي شرّى 2230 ق.م

    ـ احتل الكوتيون وادي الرافدين مدة قرن من الزمن تقريباً (2211 ـ 2120) ق.م وكانوا شعباً بربرياً قدم من جبال زاكروس ودمر كل شيء حضاري في العراق خلال فترة احتلاله له.

    ـ سلالة اور الثالثة مؤسسها اورنمو دامت هي الاخرى حوالي قرن من الزمن (2113 ـ2006) ق.م سقطت على يد العيلاميين، حيث احرقوا مدينة اور الجميلة ودمروها واخذوا الملك آبي ـ سين أسيراً الى عيلام. وبهذا انتهى آخر حكم سومري في البلاد وقد تردد صدى الفاجعة التي حلت بأور والبلاد كلها في عمل أدبي سومري يعرف بـ (مرثية اور) التي تصف الخراب الكبير على يد العيلاميين. واليكم مقطعاً منها:

    "ايه نانا، ان تلك المدينة قد حولت الى رميم.... / في ابوابها العالية، التي كانوا فيها يتنزهون، رميت جثث الموتى / وفي شوارعها المشجرة، حيث كانت تنصب الولائم، استلقوا متناثرين / وفي كل طرقاتها، التي كانوا فيها يتنزهون، سجت جثث الموتى / وفي ميادينها، حيث كانت تقام الاحتفالات / استلقى البشر بالاكوام...." [1]

    ـ قبائل مارتو أو آمورو (الاموريين): كانوا سبباً مباشراً في سقوط سلالة اور الثالثة السومرية، لان هجماتهم المتكررة أضعفت الدولة كثيراً واضطر ملكها شو ـ سن (2038ـ 2030) الى اقامة حصن دفاعي في مكان بين ماري واور لاتقاء شر غزواتهم. والمعروف عن هذه القبائل انهم كانوا يتنقلون في بوادي الشام لذلك كانوا أدنى تحضراً من سكان المدن. وقد وصلنا نصّ سومري يصفهم حسب تعبيره: " كانوا سكان خيام لا يعرفون بناء البيوت وكانوا يأكلون اللحم نياً ولا يدفنون موتاهم..."

    ان هذه النظرة السومرية عن البدو الاموريين لا ينبغي تفسيرها كما حاول بعض الباحثين بأنها تنم عن تعصب عنصري، وانما هي تصور واقع الحياة لهذه القبائل البدوية التي كانت أقل تحضراً من البلاد التي جاءوا للاستيطان فيها. [2] وفي الكتاب المقدس وعلى لسان النبي اشعيا ورد حول تأسيس بابل: " ها هي ذي أرض الكلدانيين الشعب الذي لم يكن فأسسها آشور لساكني القفار...." [3]

    ـ سلالة بابل الاولى (1894ـ1595) ق.م
    يعرف هذا العصر تأريخياً بالعصر البابلي القديم, لعدم ذكر وجود بابل بأي شكل قبل هذه الفترة (ويمكن الافتراض ان المدينة كانت عندئذٍ موقعاً غير مهم نسبياً) [4]. لقد اختار احد شيوخ القبائل الامورية الزاحفة الى وسط العراق واسمه (سومو ـ ابوم) منطقة أو قرية بابل الواقعة على الفرات والمفتوحة على الصحراء الغربية موطناً لتلك القبائل واتخذها مقراً له اثناء الصراع الدائر بين سلالتي آيسن و لارسا ذلك في السنة الاولى من حكم ملك لارسا سومو ـ آيل اي في سنة 1894 ق.م. واسمها القديم هو Babilú ، Babila ، Babilim وتعني باب الرب. وبنفس المعنى ورد اسم مدينة كربلاء بصيغة kar-Babila.

    استطاع هذا الشيخ الاستقلال في بابل وصار يحصنها , فبنى سوراً حولها وقام ببعض الاعمار واعمال الزراعة في محيطها. وخلفه اربعة ملوك قبل حمورابي اهتموا جميعاً بتحصين المدينة وانشاء المعابد وحفر قنوات الارواء وتوسيع نفوذهم الى بعض المدن المجاورة. وهم سومو لايل وسابيئوم وأبل ـ سين وآخرهم سين موباليت والد الملك البابلي الشهير حمورابي.

    وفي شمال بلاد الرافدين ظهر مركز سياسي قوي في ذلك الوقت, أي مع تسلم الملك شمشي أدد الاول (1814ـ1782) السلطة في مدينة آشور. وكان لهذا الموقع (مدينة آشور) في الماضي تاريخ طويل. ومنذ الالف الثالث ق.م في العصر الاكدي كما مرّ لعب دوراً مهماً في الحركة التجارية لاسيما تجارة القصدير. وكانت مملكة آشور في بداية الالف الثاني ايضاً تمتلك محطات تجارية وصلت حتى الاناضول البعيدة. وحسب مدونات اللغة الاشورية القديمة المكتشفة في kultepe (قانيش القديمة). فقد حمل الاشوريون بالدرجة الاولى القصدير الضروري في انتاج النحاس المحبب الى آسيا الصغرى، بالاضافة الى مواد أخرى. وحصلوا مقابل ذلك على الفضة والصفر الذي كانوا ينقلونه على ظهور الحمير عبر اراض جبلية وعرة الى آشور. ونشاهد هنا في آشور ومنذ هذا الوقت المبكر, وحسب واحدة من الاخبار بأن الملك الاشوري ايلوشوما وصل الى منطقة بابل في حوالي (1920) ق.م.

    دولة حمورابي (1792ـ1750) ق.م: في السنوات الاولى من حكمه لم يكن يملك حرية الحركة كما كان يريد حيث ان مجال حكمه ونفوذه لم يتعدى دائرة محيطها 80 كم حول بابل طيلة فترة الملوك الاقوياء وذوي التجربة مثل شمشي ـ أدد في آشور, وريم ـ سين في مدينة لارسا. اتبع حمورابي سياسة التأرجح واستغلال الفرص بين الاقوياء كونه دولة صغيرة طوال فترة حكمه الاولى, ويستدل من حقيقة الوثائق المنسوبة الى السنة العاشرة من حكمه ان القسَمْ لم يكن عند حمورابي فقط وانما تم تأديته كذلك عند شمشي ـ ادد في اشور "ما يدل على ان حمورابي كان يخضع الى السيادة الاعلى لملك اشور" [5].

    كما ان حملة حمورابي في السنة الثامنة من حكمه ضد أموتبال عبر مملكة لارسا والتي كان يحكمها ريم ـ سين: " لايعتقد ان حمورابي كان يستطيع القيام بهذه الحملة دون حماية ظهره على الاقل بل وحتى دون مساعدة آشور" [6], ولكن حمورابي سرعان ما فقد الحماية الاشورية بعد السنة العاشرة من حكمه أي بعد وفاة شمشي ـ ادد فصار ينتهج سياسة التعايش السلمي مع جيرانه في لارسا وآشنونا واشور نفسها وحتى ماري.

    الا اننا نشاهده بعد انتظار طويل قد دخل في حرب ضروس مع آشور في العقد الاخير من حكمه ولكن ليس من الواضح الى أي مدى حقق الانتصار ضد آشور. والى أي حد تم الحاق مركز بلاد آشور بدولة حمورابي، " أما عن تسمية ونينوى على انها من المدن الواقعة تحت سيطرة حمورابي كما ورد في العمود الرابع من المقدمة، الاسطر (55ـ63) لقوانين مسلته والمتكونة من (282) مادة... عدا المقدمة والخاتمة. فيبقى دليلاً غير مؤكد على خضوعها" [7]. وعندما لقب نفسه بـ "الملك العظيم، ملك بابل، ملك بلاد الاموريين كلها، ملك سومر وأكد, ملك الجهات الاربع" لم يذكر كونه ملك آشور!

    وقد وصف جورج رو حال نهضة بابل العظيمة هذه والتحلل السريع لمملكة حمورابي كما يلي: (كانت في العراق خمس دويلات ذات ماضٍ عريق في الاستقلال*... تمت عملية مركزتها مع بابل بالاكراه... وكانت جهود حورابي بجعل بابل المركز السياسي والاقتصادي والروحي للبلد، مرتبطة بالخير الذي تجلبه العملية الى البلاد... الا ان نائج العملية كان تحطيم المقاطعات بشكل او بآخر وخلق حالة تذمر متزايدة في مدن سومر واشور المجيدة، حيث كانت ذكرى انجازات شمشي ـ ادد الكبيرة ما تزال حية في الاذهان... لذلك لا نستغرب ان نشاهد اندلاع الانفجارات والعصيان بسرعة مع موت حمورابي والتي أدت الى التحلل السريع للمملكة... ومن الطريف ان نذكر ان المجد والقوة التي استعادتها بابل بعد ذلك كانت من عمل اجانب آخرين هم الكاشيون " [8]

    الكاشيون: اقوام سكنت جبال زاكروس قبل غزوهم لبلاد الرافدين واسمهم مشتق من اسم الههم القومي "كشو". ان فترة الخمسة قرون بين (1600 ـ 1100) ق.م التي كانت بابل تحت سيطرتهم تعتبر ذات أهمية كبيرة من حيث التطورات الدولية والعلاقات السياسية في منطقة الشرق الادنى. نتيجة لتعاصر ثلاثة قوى في المنطقة: الحثيون في آسيا الصغرى. والكاشيون في العراق وقيام مملكة الجديدة في مصر. بالاضافة الى الاشوريين في الشمال.

    لقد عرف هذا العصر بعصر العلاقات الدبلوماسية والسياسية وتبادل السفراء بين الملوك والامراء لتلك الدول. واستفاد الكاشيون كثيراً من توازن القوى في هذه الفترة من الزمن. حيث تكشف لنا نصوص تل العمارنة المكتشفة عام 1887 في انقاض قصر الملك اخناتون والتي يزيد عددها عن (360) رسالة وتعود الى زمن امنوفس الثالث واخناتون ابنه وهي مكتوبة بالخط المسماري واللغة الاكدية. وقد ارسلت الى هذين الملكين من قبل الملوك الكاشيين والميتانيين والاشوريين وعدد من حكام المقاطعات في سوريا وفلسطين...الخ

    ونقرأ في رسالة من الملك الكاشي برنابورياش الثاني (1380 ـ 1350) الى امنوفس الرابع (نو ـ خفيرو ـ رع) ملك مصر. كيف يمتعظ فيها الكاشي من الاستقبال المصري للوفد الاشوري بصفة رسمية ويدعي تبعيتهم اليه ".... أما ما يخص الاشوريين من اتباعي، أفلـَمْ أخبرك برسالتي في شأنهم، فلمَ دخلوا بلادك؟. وانت ستعمل على احباط سعايتهم وجهودهم. وفي الختام لقد ارسلت اليك هدية ثلاثة منات من حجر اللازورد وعشرة افراس لخمس عربات". [9]

    وقد بنى كوريكالزو الاول مدينة جديدة لتكون عاصمة له بدلاً من بابل وهي مدينة دور ـ كوريكالزو (عكركوف) الى الغرب من بغداد 20كم. والتي اقتحمها الملك الاشوري توكلتي ـ ننورتا الاول (1244 ـ 1208) ق.م محرراً بلاد بابل من الكاشيين وضمها الى الحكم الاشوري المباشر اذ وردنا في كتابة له: ".... وفي غمار تلك المعركة اطبقت يدي على كاشتيلياش الملك الكاشي... وجلبته وهو مكبل وعار امام الاله آشور. واخضعت بلاد سومر وأكد حتى ابعد حدودها لسلطتي فأمتدت حدود ارضي الى البحر الاسفل ذي الشمس المشرقة". [10]

    ـ الادوار التي مرت على بلاد آشور:
    قد ينسب الاشوريين الى اسم اول مركز حضاري كبير لهم (آشور). والذي تحول فيما بعد الى عاصمة مهمة لدولتهم. وقد اطلق اسم آشور على الاله القومي للاشوريين ايضاً. فلا يعرف على وجه التأكيد ايهما كان اصل الاخر، اسم المدينة أو اسم الاله.

    لقد سكن الانسان في بلاد آشور منذ اقدم العصور وحتى الان، واتفق العلماء على تقسيم مراحل التاريخ الاشوري كما يلي:
    1 ـ العصر الاشوري القديم (2000 ـ 1500) ق.م
    2 ـ = = الوسيط (1500 ـ 911) ق.م
    3 ـ = = الحديث (911 ـ 612) ق.م

    تشير النصوص الاشورية المكتشفة في موقع (كول تبة) قانش قديماً الى وجود جماعات آشورية تعمل بالتجارة في هذه المنطقة منذ اواسط الالف الثالث ق.م. وان هذه المستوطنات التجارية الاشورية كانت تتمتع بنوع من الاستقلال الاداري والقانوني ضمن اطار سيادة الحكام المحليين. وانها ظلت تحتفظ بولائها لآشور الام وتدين بديانتها وتتبع نظمها وتقاليدها وقوانينها وتعيش حياة آشورية بصورة عامة رغم بعدها الشاسع عن الوطن الام. وكان يطلق لفظة كاروم (Karum) على كل مركز من تلك المراكز التجارية الاشورية والذي يعني (ميناء).

    بدأت فترة النهوض القوية الاولى لآشور مع ظهور شمشي أدد الاول (1814 ـ 1782) وتحديداً عندما بدأ هذا الملك بتوسيع رقعة بلاده بضم بمدينة ماري على الفرات ثم امتدت علاقاته الى يمخد (حلب) وقرقميش (جرابلس) وقطنا. وفي الجهة الشرقية للملكة بسط نفوذه على القبائل الكوتية والتركية واللولبية ومع الجنوب أي مع حمورابي كانت له علاقات صداقة ومجاملة.

    وخلال العصر الاشوري الوسيط والذي بدأ مع حكم بوزور ـ آشور الثالث (1521) ق.م تقلبت اوضاع بلاد آشور في هذه الحقبة الطويلة من تاريخها والتي استمرت زهاء ستة قرون.

    فقد تمكن آشور اوبالط (1365 ـ 1330) من تحرير البلاد من النفوذ الميتاني في الاجزاء الشمالية منها. واعترفت مصر بسيادة قوة الدولة الاشورية واقامت معها علاقات صداقة. أما الكاشيون فقد فشلوا في تأليب المصريين ضد الاشوريين كما فشلوا في السيطرة على بلاد آشور. لذلك اختاروا طريق السلم والصداقة وعقدوا معاهدة مع الملك الاشوري ختمت بزواج سياسي بين ابنة الملك الاشوري وابن الملك الكاشي. ولكن هذه الصداقة سرعان ما تعرضت الى نقض من لدن البابليين فحدثت مؤامرة في البلاط الكاشي أبعد بموجبها صهر الملك الاشوري ونصب شخصاً آخر ملكاً مكانه مما جعل آشور اوبالط ان يتدخل ويعيد تنصيب حفيده من ابنته ملكاً على بابل. غير ان الاضطرابات بين الاشوريين والبابليين سرعان ما اندلعت مرة أخرى مع موت آشور اوبالط.

    اصبحت البلاد الاشورية منذ هذا التاريخ مهددة بالاخطار من جهات مختلفة. فكان على الملوك المتعاقبين ان يعملوا على تثبيت سياسة حكيمة لدرء الاخطار عن دولتهم. وقد خلقت هذه الظروف الصعبة زعماء اقوياء وحكماء في خبرتهم الادارية والعسكرية والدبلوماسية فأثبتوا للعالم كفائتهم في ذلك وأسسوا دولة منظمة قوية بسطت نفوذها على جميع انحاء الشرق الادنى القديم.

    من هنا صارت تواجه المختص في التاريخ الاشوري مشكلة متكررة وهي: ان الفترات التي كانت فيها دولة آشور قوية وملوكها من الشخصيات الرئيسية كانت تتناوب مع ظاهرة كون كل من الدولة والملوك قد تضاءل الى عدم الاهمية والمقدرة في المحيط الدولي والداخلي. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل ان الملوك المقتدرين هم الذين رفعوا شأن آشور الى القوة والرفاهية بكفاءاتهم الغريزية، أم ان تحسن الاوضاع الدولية بالنسبة الى الدولة الاشورية دفع ملوكها نحو الهدف والقوة العسكرية والاقتصادية؟

    المؤرخ الشهير هاري ساكز يرى: (ان الحقيقة تقع بين هذين الرأيين المتطرفين. فليس هناك ملك مهما كانت قابلياته يمكن ان يرفع شأن آشور بين فكيّ اوضاع دولية معادية. ولكن عندما تكون الاوضاع الدولية لصالح آشور فأن الملك المقتدر والعزوم فقط يتمكن ان يتسفيد استفادة قصوى من ذلك) [11]. يستنتج من هذا ان معظم الملوك الاشوريين كانوا مقتدرين يتحينون الفرص. ومن بين هؤلاء القادة العظام كان:

    شيلمنصر الاول (1274 ـ 1245) ق.م الذي اشتهر بفوتاحته الكبيرة وقضائه على الاقوام الجبلية شمال شرق البلاد الاشورية وبحملته على اورارطو (ارمينيا) لاول مرة. والحاقه دولة خانيكلبات بالدولة الاشورية وتأسيسه عاصمة جديدة للدولة وهي مدينة كالخو.

    خلفه ابنه توكلتي ننورتا الاول (1244 ـ 1208) ق.م سار على نفس السياسة الخارجية الاشورية حيث قام بفتوحات عسكرية كبيرة في الغرب والشمال. واتبع سياسة التهجير السكاني. اما بالنسبة الى بابل فقام بهجوم كاسح عليها واخضع الملك الكاشي ودخلت بابل لاول مرة تحت الحكم الاشوري المباشر. فكان ذلك السبب الاول والمباشر في تمازج الحضارتين. وانتقال عبادة مردوخ البابلي الى بلاد الاشوريين ودخول اسمه في تركيب كثير من الاسماء الاشورية وكان ذلك مؤشراً الى ميل الاشوريين للتحرر من الاقليمية والانفتاح الى بلاد بابل واقتباس بعض مقوماتها الحضارية. وفي الوقت نفسه انتقلت كثير من المظاهر الحضارية الاشورية الى بلاد بابل. والسبب الرئيسي وراء هذه الحملة الاشورية واحتلال بابل كانت اطماع الحاكم العيلامي اونتش ـ كال الذي خاض معركة ضد البابليين وربحها وذلك قبل اضطرار الاشوريين للتحرك صوب بابل وجلب ملكها كاشتيلياش اسيراً الى نينوى.

    وبعد مقتل الملك الاشوري هذا وانشغال الاشوريين بالاضطرابات الداخلية انتهز العيلامي شترُك ـ تاخنتي الفرصة وزحف بجيش كثير على بابل " واجتاح معظم جنوب العراق ونهبه بشكل لم يسبق له مثيل، فنقلت النصب المشهورة واعمال النحت الفنية الرفيعة ـ مثل مسلة حمورابي ونرام سين ونصب مانشتوسو الى سوسة". [12]

    وفي عام 1115 ق.م اعتلى العرش الاشوري الملك تجلات بليزر الاول الذي استطاع ان يعيد البلاد الاشورية الى قوتها السابقة وأكثر. حيث قضى على الاقوام التي عرفت بالمشكو في آسيا الصغرى وفي الشمال الغربي وصل الاشوريون الى الساحل السوري. اما في الغرب فهاجم القبائل البدوية الرحل أخلامو.

    اما سياسته تجاه بابل فليست واضحة تماماً غير انه قام ببعض الغارات العسكرية التأديبية على حدود بابل.

    ـ العصر الاشوري الحديث:
    يمتد بين (911 ـ 612) ق.م ثلاثمائة سنة غيرت وجه الشرق الادنى بالكامل. حيث وصل الاشوريون خلالها الى قمة مجدهم وازدهارهم وعنفوان قوتهم العسكرية. ان التعاظم الاشوري هذا واتساع نفوذهم لم يكن محض صدفة بل لابد من وجود اسباب وعوامل عدة وراء ذلك. ومن هذه العوامل ما هي داخلية وأخرى خارجية. ومنها ما يمكن معرفته أو استنتاجه من متابعة تطور الاحداث ومنها ما يبقى غامضاً.

    لتحليل السياسة الاشورية في هذه المرحلة ذهب الباحثون منحيين مختلفين تماماً.

    ـ فهناك من الباحثين المحدثين من يعزي الانتصارات العسكرية الاشورية وتعاظم قوتهم العسكرية ومن ثم التجارية والادارية والعلمية الى الاساليب الهمجية البربرية التي اتصفت بها الحملات العسكرية والى تعطش وتلذذ الملوك الاشوريين العظام الى القتل وسفك الدماء وتعذيب الاعداء ونهب خيرات الاخرين..الخ. وقد يبدو هذا التوجه صحيحاً لاول وهلة طبقاً الى المصادر التي اعتمدها هؤلاء الباحثون.

    ولكن بمجرد اجراء دراسة تحليلية وعلمية للتاريخ الاشوري السياسي والحضاري للقرون الثلاثة الاخيرة. مع ألاخذ بنظر الاعتبار الظروف والمخاطر التي كانت تمر بها الدولة الاشورية سوف يتبين بوضوح خطأ هذا الرأي وعدم مطابقته لواقع السياسة الاشورية ومتطلبات الحالة انذاك. فالمصدر الرئيسي لمثل هكذا باحثين هو اسفار العهد القديم (التوراة) بالاضافة الى النصوص المسمارية التي دونها الملوك الاشوريون انفسهم عن اخبار حملاتهم العسكرية المتلاحقة الى الشمال والغرب والشرق من البلاد الاشورية. تلك الكتابات التي عرفت بالحوليات الملكية أو النصوص التاريخية الملكية. اضافة الى المشاهد المنحوتة التي صورها الفنانون الاشوريون وحسب رغبات الملك على الواح الرخام والتي كانت تزين جدران القصور الرئاسية.

    أما بالنسبة للتوراة نقول بما انه كتب في القرنين السادس والخامس ق.م اثناء السبي البابلي لليهود أي بعد زوال الدولة الاشورية وبعد قضاء الدولة الكلدية (البابلية الحديثة) على مملكة يهوذا وسبي سكانها الى بابل فمن الطبيعي ان يكون مثل هؤلاء الكتّاب من أشد الحاقدين على الاشوريين وبابليين. وجاءت كتاباتهم تظهر هذا الكره والحقد الشديد للاشوريين بصورة خاصة وللعالم غير اليهودي بصورة عامة. هكذا فقد أظهر التوراة الاشوريين بمظهر الطغاة والقتلة وخير صفاتهم الشراسة وسفك الدماء دون مبرر. وكأن ملوك اسرائيل ويهوذا ومصر، ومن قبلهم ومن بعدهم، كانوا حمامات السلام.

    أما عن النصوص الملكية المكتوبة فيمكن القول ان الملوك الاشوريين كأسلافهم الملوك العراقيين الذين سبقوهم كانوا يدونون اخبارهم ومنجزاتهم العسكرية والعمرانية على الواح خاصة لوضعها في المعابد والقصور وأمام تمثال الاله القومي للبلد أو المدينة لتكون بمثابة تقرير ملكي رسمي مقدم الى ذلك الاله للاطلاع على أعمال وكيله وقائد بلاده الملك المأمور والمفوض من قبل هذا الاله للقيام بحماية البلاد والعباد. ومن الطبيعي ان تكون لغة أو اسلوب المبالغة هو السائد في هذه النصوص.

    ومن هنا تظهر الانجازات والانتصارات فقط، غافلة الاخفاقات والخسائر في معظم الاحيان. ومن الطبيعي ايضاً اظهار قوة الملك وقسوته وقدرته على البطش بالاعداء وقمع الثورات. لانها أي هذه الالواح كانت الوسيلة الوحيدة المتيسرة لبث الدعاية والاعلام للملك ودولته ومقدار سلطته. هكذا فأن ما ذهب اليه المؤرخون المحدثون لايعطي الصورة الحقيقية والواقعية للسياسة الاشورية.

    ولكن يجب ان لا يفهم من هذا ان الاشوريين لم يكونوا شجعانا وأقوياء وأشداء على الاعداء وقساة مع المتمردين والعصاة وكل من كان يحاول النيل من أمن بلادهم. وفي هذا الصدد يورد توينبي ترجمة نص مسماري آشوري يصف روحية الجيش الاشوري والانضباط العسكري العالي فيه: " لن يتعب أي منهم أو يتعثر، ولن يتغلب النعاس على أي منهم أو ينام، كما لن يرتخي حزام خاصرة أي منهم أو ينقطع شريط حذاءه " [13].

    ان السياسة التي انتهجها ملوك وقادة آشور كانت هي السياسة الناجحة والوحيدة آنذاك لضمان أمن وسيادة الدولة الاشورية وحماية حضارتها من الدمار. كما ان الاشوريين لم يلجأوا الى القوة الا كحلّ أخير ونهائي لحل المشاكل لان سياستهم الخارجية كانت قد أتصفت بالاتزان والتعقل مقارنة مع سياسة الاقوام التي عاصرتهم وحتى تلك التي جاءت من بعدهم، وان حروبهم رغم قساوتها لم تختلف عن الحروب العيلامية والحثية والمصرية وحتى الحروب الفارسية واليونانية والرومانية التي جاءت بعد الاشوريين بكثير.

    كما ذكرنا وكما هو معلوم كانت ثلاثة قوى كبرى تتحكم بمصير بلدان الشرق الادنى القديم قبيل نهاية الالف الثاني قبل الميلاد: وهي الامبراطورية الحثية في آسيا الصغرى وشمال سوريا. والسلالة الكاشية في بابل والامبراطورية المصرية بالاضافة الى دولة آشور المتجهة نحو النمو والازدهار. وقد حصلت تغيرات عظيمة مع بداية الالف الاول ق.م حيث زالت الامبراطورية الحثية. وانكمشت مصر نتيجة الخلافات الداخلية وانهاك قوتها في الصراع مع الحثيين، ولكنها ظلت تحرض الدويلات السورية ومملكة يهوذا واسرائيل وتمدها بالعون للتمرد ضد النفوذ الاشوري الذي كان ينافسها في مصالحها التجارية على ساحل المتوسط. وعندما اصطدم الاشوريون معهم أي مع المصريين نتيجة هذا الموقف، مالبثت مصر أن فتحت ابوابها امام الجيوش الاشورية واصبحت تحت الحكم الاشوري المباشر.

    أما الى الجنوب اي في بلاد بابل فبعد زوال السلالة الكاشية في القرن الثاني عشر ق.م تعاقب على حكم البلاد عدد من السلالات المحلية والغريبة الضعيفة التي لم تقو على مجابهة اعدائها واعداء الاشورين، مما جعل الاشوريين في وضع صعب! عليهم الاختيار بين الزحف وضم بابل الى الحكم الاشوري المباشر لدرء الخطر القادم من الجنوب (بلاد البحر) أو تقديم الدعم والاسناد الى تلك السلالات البابلية الضعيفة وغير الملتزمة مع الاشوريين وسياستهم الحازمة. من هنا كانت مشكلة الاشوريين مع بابل أي انها هي العقدة البابلية التي استمرت طوال فترة العصر الاشوري الحديث وحتى بعد سقوط آشور.

    وفي هذه المرحلة المهمة من عمر الدولة الاشورية، كان على كل ملك آشوري يتقلد زمام الامور ان يثبت سلطته وكيان دولته المترامية الاطراف ويقوم بحملات عسكرية دون توقف والى الجهات المختلفة لمجابهة الاخطار وبسط نفوذ الدولة على الاقاليم المجاورة. هكذا تحقق الانتصار تلو الآخر وتأسست أعظم امبراطورية. في تاريخ العراق القديم. وكان السبيل الاول الى ذلك قوة وعزم وثبات الفرد الاشوري وصلابته بالاعتماد على النظم الادارية الكفوءة والدقيقة التي اتبعتها الحكومات المركزية في ادارة البلدان المفتوحة حديثاً والاقاليم التابعة. وعلى قدرة وكفاءة وقوة الجيش الاشوري وكفاءة عدده وحسن تنظيمه وتدريبه وقابليته للدفاع والهجوم وفي مختلف البيئات والظروف التي تميزت بها الجبهات الاشورية المختلفة.

    وبناء على نتائج هذا التوسع الاشوري الكبير تم ضمان سلامة الطرق التجارية وتطويرها مما سبب تدفق البضائع والاموال الى المدن الاشورية الرئيسية. وهذا بدوره سبب في ازدهار العمران والفن والعلوم والحياة الاجتماعية بصورة عامة.

    كما ان سياسة التهجير التي اتبعها معظم الملوك الاشوريين في هذه المرحلة كان لها الاثر الكبير في امتزاج الحضارات والثقافات ضمن الشرق الادنى على الاقل. ومن ثم انتقال مظاهر الحضارة الاشورية الى بلاد اليونان وجزر البحر المتوسط وبحر ايجة أثر اتصال الاشوريين عسكرياً بساحل البحر المتوسط وسواحل آسيا الصغرى واحتكاكهم بأقوام الحوض المتوسطي عموماً.

    ـ أدد ـ نيراري الثاني (911 ـ 891) ق.م
    اول ملك من العصر الاشوري الحديث الذي قام بحملة عسكرية على بلاد بابل سالكاً الطريق الشرقي، وعقد معاهدة معها لتثبيت الحدود بين الدولتين ولهذه المعاهدة أهمية خاصة لانها احتوت على موجز لتاريخ المنازعات بين الطرفين.

    ـ توكلتي نينورتا الثاني (890 ـ 884) ق.م
    توجه بحملته الثالثة الى بلاد بابل ووصل الى دور ـ كاريكالزو وسبار مما يدل على ضعف السلالة البابلية المحلية. وفي طريق عودته سار مع الفرات ومنه الى الخابور حتى وصل نصيبين وتوغل في اسيا الصغرى استظهاراً للقوة.

    ـ آشور ناصربال الثاني (883 ـ 859) ق.م
    الذي يصفه جورج رو: "وقد جمع كل مميزات ومساويء الملوك العظام الذين سبقوه حيث كان طموحاً شجاعاً متغطرساً ومجداً وظالماً. ولا نصادف في تمثاله الذي عثر عليه في نمرود والمعروض الان في المتحف البريطاني أي ظل لابتسامة، ولا حتى اية سمة انسانية بل نجد انفسنا امام تمثال صارم لعاهل متجبر ذي أنف يشبه منقار النسر ونظرة تتبدى عن نظرة مباشرة فاحصة لرئيس يتوقع من رعاياه طاعة مطلقة وفي يديه الرمح والصولجان". [14]

    وجه آشور ناصربال حملتين الى مدينة بابل فقضت على كل تمرد فيها. وهو الذي قام بتجديد مدينة كالخو بالكامل وافتتحها (879) ق.م في احتفال رسمي ضم حوالي سبعون الف شخص واقيمت احتفالات بالمناسبة لمدة عشرة ايام متتالية.

    وفي النص الخاص بتفاصيل هذه المادبة (الاحتفال) التي اقامها آشور ناصربال الثاني بمناسبة اكمال قصره الشمالي الغربي في كالخو. الذي ورد على مسلة حجرية كبيرة عثر عليها في كالخو وهي الان محفوظة في متحف الموصل. وفي الكتابة المرقمة (116) والتي بدايتها: (عندما قدس آشور ناصربال ملك بلاد آشور القصر البهيج القصر المليء بالحكمة، دعا آشور الاله العظيم وآلهة البلاد كلها...). وردت اسماء وكميات وتفاصيل المواد الغذائية والمشروبات والفاكهة المقدمة للمدعويين لهذه المناسبة السعيدة والذين بلغ عددهم (69574) وكما يلي:
    1 ـ 47074 رجل وأمرأة المدعويين في انحاء البلاد الاشورية.
    2 ـ 5000 من النبلاء والمبعوثين من الدول الصديقة والمجاورة.
    3 ـ 16000 سكان كالخو.
    4 ـ 1500 عمال القصر (زريقو).

    ويختتم النص هكذا [.... فقدمت لهم الطعام والشراب لعشرة ايام وجعلتهم يستحمون ويدلكون بالزيت. هكذا اكرمت (ضيوفي) واعدتهم الى بلدانهم بسلام وبهجة] [15]

    ولمعرفة عظمة هذا القصر ومدينة كالخو وعاهلها يكفي ان يفكر القاريء بكيفية التخلص من الفضلات الصلبة وفضلات المطبخ بالاضافة الى كيفية توفير الماء اللازم لمثل هذا العدد من البشر في زمن لم يكن نظام الاسالة والصرف الصحي في المدن معروفاً!؟.

    ـ شيلمنصر الثالث (858 ـ 824) ق. م
    لقد فاق والده في كثرة حملاته العسكرية حيث كرس ثلاثة وثلاثين سنة من عهده الذي دام خمسة وثلاثين عاماً لشن الحروب على الاعداء. وكان نصيب بابل منها عندما قام باخماد الثورة التي نشبت فيها ضد الملك البابلي الموالي للدولة الاشورية والتي قادها شقيق الملك البابلي هذه المرة بدعم من القبائل البدو (الاراميين) وبلاد البحر. وبعد طلبْ الملك العون من شيلمنصر الاشوري الذي دحر المتمردين ودخل بابل وقدم الضحايا في معبد مردوخ ومعابد كوثا وبارسيبا وعامل سكان تلك البلاد المقدسة بكرم ورعاية، ويقول بهذا الصدد: " أعددت لشعب بابل وبارسيبا المحمي احرار الالة العظيمة وليمة فخمة فقدمت لهم الطعام والشراب وكسوتهم بالحلل الزاهية وقدمت لهم الهدايا ". [16] ثم تقدم الى الجنوب وهزم اعداء بابل الكلديين ولاحق فلولهم في كل مكان.

    ـ شمشي أدد الخامس (824 ـ 811) ق.م
    رغم مساعدة بابل له ابان الثورة التي اندلعت في اواخر ايام والده شيلمنصر والتي استمرت اربعة سنوات، الا انه اضطر بعد تسلمه الحكم الى توجيه حملة عسكرية ضد بابل نتيجة تحالفها السريع مع عيلام وبعض قبائل بلاد البحر ضد آشور. ولكن شمشي أدد استطاع القضاء على ذلك التحالف. وقدم القرابين لاله بابل عام (811) ق.م كما فعل اسلافه.

    ـ أدد ـ نيراري الثالث (811 ـ 781) ق.م
    كان قاصراً فصارت أمه (سمو ـ رمات) شميرام وصية على العرش الاشوري في بداية توليه السلطة. الا انه استطاع ادارة دفة الدولة بنجاح ولفترة غير قليلة.

    ـ تجلات بليزر الثالث (745 ـ 727)ق.م
    مع بدأ عهد الامبراطورية الاشورية الثانية ومع تسلمه السلطة كانت الدولة منكمشة على ذاتها وقد استقلت معظم اقاليمها التابعة لها وتدهور الاقتصاد ايضاً. الا انها تمكنت في ايامه من اعادة قوتها وسيطرتها السابقة بل وامتد نفوذها الى مناطق جديدة لم تكن واقعة تحت سيطرتها في السابق ابداً. وكانت اولى حملاته نحو نهر الكارون والتي دفعت ضغط قبائل البحر عن بابل التي حرص العرش الاشوري على استقرارها السياسي دوماً. حيث ورد اسم الملك البابلي في كتابة عن هذه الحملة، مؤكدة بأنه في حماية الملك الاشوري.

    وفي السنوات الاخيرة من حكمه اندلعت ثورة في بابل مرة أخرى والتي قادتها القبائل الكلدية القاطنة في اقصى الجنوب اي منطقة الاهوار، وازاحت الملك البابلي الموالي للاشوريين. ونصبت احد الشيوخ الكلديين بديلاً عنه. فما كان على هذا الملك القدير الا ان جهز حملة وقادها بنفسه وسلك الطريق الشرقي الى بابل ودخلها ونصب نفسه ملكاً عليها بعد ان خرّب منطقة القبيلة العاصية، وكان ذلك في عام (729) ق.م وقد عرف هذا الملك في المصادر البابلية ومن ثم العبرية باسم (بولو).

    ـ شيلمنصر الخامس ابن تجلات بليزر (726 ـ 722) ق.م
    اتبع نفس السياسة مع بابل حيث نصب نفسه ملكاً عليها دون ان يمارس القسوة مع سكانها في الوقت الذي زحف على رأس قوة عسكرية كبيرة الى بلاد سوريا وفلسطين وحاصر السامرة عاصمة اسرائيل وفتحها عنوة ونقل معظم سكانها الى مناطق بعيدة واحكم السيطرة عليها.

    ـ سرجون الثاني (721 ـ 705) ق.م
    بعد تتويج سرجون مباشرة وقعت حادثتان كان لهما أثر ستراتيجي في السياسة الاشورية والشرق الادنى لمدة مائة عام القادمة، وهما:
    تدخل مصر في فلسطين وعيلام في بابل، لعدم استعداد مصر وعيلام لمقارعة دولة كانت في أوج قوتها. فكانت تجربته مع بابل مطابقة لمن سبقه من الملوك الاشوريين. عندما كانت تعلن التمرد والعصيان مع وفاة الملك وتقلد ملك آخر بعده السلطة. فكانت اولى حملاته عليها عندما ثارت القبائل الكلدية كعادتها وزحفت على مدينة بابل وخلعت ملكها الموالي لاشور ونصبت بدلا عنه زعيم الكلديين مردوخ ـ ابلا ـ ادينا وتحالفت مع بلاد عيلام لضرب الاشوريين. كانت حملة سرجون الاولى غير حاسمة، لفرار مردوخ الى بلاد البحر واعلانه العصيان بعد حين. مما أجبر سرجون الى العودة الى بابل ثانية بقوة وحزم أكبر ودخل المدينة البابلية دخول الفاتحين ولقي الاشوريين الترحاب من لدن شعب بابل المحليين ـ ليس القبائل المتمردة في بلاد البحر ـ ونصب سرجون نفسه نائباً للاله في بابل وظلت بابل موالية للدولة الاشورية حتى نهاية عهده.

    ـ سنحاريب (704 ـ 681) ق.م
    هو الاخر شغل معظم فترة حكمه بحل مشكلة بابل الدائمة بالاضافة الى مشكلة الحوريين. أما بخصوص بابل فكما شاهدنا أنه مع كل حالة تغير ملك في آشور كانت القبائل الكلدية في الجنوب تثور ضد الملك البابلي وتقصيه عن الحكم وتنصب زعيماً من زعماء القبيلة ملكاً وذلك بدعم ومباركة عيلام، المحرك الاصلي لهؤلاء البدو والمثير الاول للمشاكل في جنوب ومن ثم في وسط البلاد عن طريق تغيير النظام في بابل.

    وهذا الذي حصل فعلاً بعد سنتين من تولي سنحاريب الحكم في نينوى، فجهز حملة عليهم وقضى على التمرد. غير ان التمرد البابلي ـ الكلدي ـ العيلامي عاد ثانية فقمعهم سنحاريب ايضاً. وللمرة الثالثة استمرت عيلام (شوش) في تحريض القبائل وتقديم الدعم العسكري لها. مما جعل سنحاريب ان يهاجم بلاد عيلام ـ مصدر العقدة البابلية ـ ويقضي عليها قضاءاً مبرماً. وقد استعمل السفن التي صنعها في نينوى والتي قادها البحارة الفينيقيين في الاهوار والخليج العربي خلال هذه الحملة.

    بعد ذلك توجهت جيوش سنحاريب تجاه بابل فدمرتها بالكامل وسلطت مياه الفرات عليها. بعد فشل سياسة اللين والترضية مع السكان المحليين الضعفاء والمغلوبين على امرهم امام دسائس الكلديين وعيلام. وأعلن سنحاريب نفسه ملكاً على بلاد بابل وقضى على المشكلة الى حين.

    ومن ثم زحف بقواته من بابل عبر الصحراء الى منطقة العريش أو رفح الحالية ويعد هذا أول عبور للصحراء من العراق الى البحر المتوسط في التاريخ. وربما كان في نيته غزو مصر لانها كانت تلعب نفس دور عيلام ضد الاشوريين ولكن مع دويلات ساحل المتوسط بالاضافة الى دولة يهوذا ومدينة اورشليم.

    ـ اسرخدون (681 ـ 669) ق.م
    كانت سياسته تختلف عن سياسة ابيه كثيراً وخصوصاً مع مدينة بابل والتي كان حاكماً عليها في فترة ما ايام حكم ابيه، فكان حله للمشكلة البابلية باسلوب السلم. فهو بعد ان قضى على التمرد فيها ابان اغتيال والده اتبع سياسة اللين وترضية السكان المحليين واعاد بناء المدينة وقصورها ومعابدها بالاعتماد على علاقاته الشخصية مع بعض البابليين المتنفذين. ويبدو ان هذه السياسة لاقت ترحيباً من لدن البابليين الى درجة انه اتخذ بابل قاعدة لهجومه على ايران كما ان محاولات عيلام لاثارة الاضطرابات لم تلق صدى لدى البابليين في تلك الفترة.

    وكانت الالهة في سدرة غضبها ايام سنحاريب قد قررت عدم بناء المدينة الخربة لمدة سبعين سنة. الا انهم استطاعوا ايجاد وسيلة للتغلب على هذه العقبة. حيث قلب الاله الرحيم مردوخ كتاب القدر رأساً على عقب وأمر بتجديد المدينة في السنة الحادية عشرة [17] من تاريخ هدمها. لان الرقم (70) في الخط المسماري يتحول الى (11) في حالة قلبه على عقب كما هو الحال مع الرقمين (9,6) في العربية او اللاتينية حالياً.

    ـ آشور بابنيبال (669 ـ 629) ق.م
    في ايامه تولى توأمه شمش ـ شم ـ اوكن العرش البابلي وحسب الترتيبات التي وضعها والدهما أسرخدون. وسارت الامور بهدوء في أول الامر ولكن ما لبثت المنافسة أن ظهرت بين الاخوين، لان العيلاميين وبواسطة الكلديين الدخلاء الى جنوب البلاد حاولوا جاهدين اشعال نار الفتنة بينهما وقد نجحوا في ذلك وتوتر الوضع بين بابل وآشور. فجهز آشور بانيبال حملة كبيرة على عيلام واحتل عاصمتهم سوسة والمدن المهمة الاخرى ونصب أحد افراد اسرتها الحاكمة ملكاً عليهم. وسبب ذلك المزيد من الحقد لدى العيلاميين ضد الاشوريين، فزادت محاولاتهم في اشعال نار الحرب بين بابل وآشور. واتفق ملك عيلام علانية مع شمش ـ شم ـ اوكن والقبائل الكلدية وقبائل صحراوية آخرى مثل العرب وبعض حكام سوريا وعقدوا حلفاً عسكرياً ضد آشور.

    ولكن آشور بانيبال جهز حملة عسكرية كبيرة واسرع بالهجوم على بابل ونشبت الحرب المدمرة بين الاخوين واستمرت ثلاث سنوات. انتهت باستسلام بابل وانتحار شمش ـ شوم ـ اوكن حارقاً نفسه وعائلته في قصره ببابل.

    وكان اشور بانيبال قبل ذلك قد وجه تحذيراً شديداً الى شعب بابل على أمل ان يصغوا اليه لانه لم يكن يرغب بتدمير بابل مضطراً كما فعل جده سنحاريب ولكن دون جدوى وهذا نصّ التحذير الملكي لبابل:

    " اما تلك الكلمات الجوفاء التي اسمعكم اياها ذلك الاخ العاصي فقد بلغت مسامعي كاملة، وهي ليست الا ريحاً ذاهبة فلا تصدقوه... لاتصغوا الى اكاذيبه نهائيا ولا تلطخوا اسمكم المجيد الناصع امامي وأمام كل العالم بالعار ولا تجعلوا من انفسكم آثمين بحق الالهة المقدسة" [18].

    أما عيلام مابرحت وعادت تتدخل في شؤون بابل فدخلها الجيش الاشوري مرة أخرى ودمرها وحمل آلهتها الى آشور. ونصب عليها اميراً موالياً لاشور (وكان من بين الغنائم املاك وبضائع وذهب وفضة تعود الى بلاد سومر وأكد وكل ارض بابل التي كان العيلاميون قد سلبوها) [19].

    سقوط الدولة الاشورية:
    تشير الاخبار الى وفاة اشور بانيبال حوالي (627) ق.م في ظروف غامضة واعتلاء العرش الاشوري ابنه اشور ـ اتل ـ ايلاني وقد رافقت ذلك ظروف معقدة واضطرابات داخل اشور. وفي الجنوب ظهر في تلك الاثناء زعيم كلدي آخر في بلاد البحر وهو الشيخ نبوبلاصر، تمكن من السيطرة على بابل وتعيين نفسه ملكاً عليها سنة (626) ق.م وبدأ يعد العدة للهجوم على آشور مستغلاً حالة الاضطراب والغموض في البلاط الاشوري فتحالف مع الميديين وملكهم كَي ـ اخسار وهجموا على مدينة آشور عام 615 ق.م وتم فتحها من قبل نبوبلاصر الكلدي والميديين عام 614 ق.م وفتحت نينوى عام 612 ق.م بعد حصار دام ثلاثة اشهر فقط. ودخلت الجيوش الغازية نينوى واضرمت النيران في قصورها ومعابدها وتعرضت المدينة الى السلب والنهب. وقام نبوبلاصر بنقل رماد القصور الاشورية الى بابل لانه كان يتوقع ان يجد فيه منصهرات التمائيل والالواح المعدنية المقامة في القاعات والممرات الرئيسية لقصور نينوى.

    الخلاصة:
    منذ القرن الرابع عشر ق.م ايام التسلط الكاشي على بابل، وكما رأينا اصبح البابليون عاجزين عن مجاراة الالة العسكرية الاشورية. ولكن الاشوريين رغم حملاتهم المتكررة على بلاد بابل وحتى احتلالهم لها عسكرياً "الا انهم كانوا يعاملون بابل ببعض الاحترام والكياسة باعتبارها موطن المدنية المشتركة للبلدين" [20].

    ومنذ (1250 ـ 950) ق.م فترة انسياح الشعوب حسب توينبي تعقد الوضع اكثر في جنوب ارض الرافدين ومنطقة بابل تحديداً بسبب استقرار القبائل الكلدية في الجنوب الغربي ومنطقة الاهوار من البلاد. "وهؤلاء المقتحِمون على اطراف بابل لا هم أخرجوا من قبل أهل البلاد كما حصل مع الكوتيين ولا هم اندمجوا مع السكان كما حصل مع الكاشيين. بل ظلوا اجانب يحدوهم الشعور بالعصبية القبلية والروح الحربية الخاصة بهم". [21]

    اذ ان البابليين وسائر سكان الوسط لم يكونوا راضين عن وجود هؤلاء الغرباء بين ظهرانيهم " سكان بابل المستقرين الفلاحين وسكان المدن لم يكونوا يرحبون بوجود هؤلاء البدو الرعاة من بلاد العرب." [22] ولما كان الاشوريون شعب مستقر ومتحضر ومشترك مع شعب بابل بالمصدر الحضاري السومري والاكدي. وكانت آشوربحكم الواقع الجغرافي والديموغرافي البشري، هي الحامي الطبيعي لبابل ضد سكان جبال زاكروس. فكان المفروض ان يكون التقارب والتعاون على أعلى المستويات. الا ان هذا الحال كان دوماً مقروناً بشرطين على بابل واشورالقبول بهما وهما:

    1 ـ وجوب كون تصرف الاشوريين نحو البابليين بارعاً لبقاً وان لايسمح للقبائل المقيمة في الجنوب ان تخرج عن الطوق. وفي حالة سيطرة هذه القبائل على بابل يصبح الاشوريين في مأزق ليس امامهم غير الاحتمالين التاليين: اما ان يقبلوا بخسارة سيطرتهم على بابل وهذا يترتب عليه الكثير من الضرر على الامن القومي الاشوري، لان حضارة كحضارة العراق المرتكزة على الزراعة والاشغال المعدنية (تجارة) تحتاج الى التعاون الوثيق بين المجاميع الرسمية والسياسية في الداخل والموقف المحايد على الاقل من قبل المناطق المجاورة. أو ان يسترجعوا سيطرتهم على بابل بالقوة. وهذا يترتب عليه الكثير من النكث بالالتزام الاخلاقي والديموغرافي! تجاه بابل وأهلها.

    2 ـ في حالة اتباع اسلوب القوة مع القبائل المتغلغلة في بابل كان ذلك يلحق الاساءة والخسارة المادية بالبابليين ويتم جرح كبريائهم. وهذا بدوره يسبب في احتمالية اتفاق البابليين الطوعي مع القبائل المجتمعة ضد الاشوريين.

    وقد مرت العقدة البابلية بهذه الحالة المستعصية ايام تجلات بليزر الثالث في حملته العسكرية الاولى 745 ق.م حين قام بتأديب القبائل المشاغبة بموافقة المؤسسة البابلية وكما مرّ ذكره، ولكن في عام 734 ق.م خرج الامر عن سيطرة المؤسسة البابلية. اذ استولى زعيم قبيلة بيت ـ اموكاني على العرش في بابل. مما اضطر تجلات بيلزر القضاء عليه ولكن لم يملآ الفراغ السياسي الا عندما قبض على يد مردوخ وأعلن نفسه ملكاً على بابل والجهات الاربعة. وقد تكررت مثل هذه الاحداث عشرات المرات، رغم كون البابليون اصدقاء للاشوريين وخصوماً للقبائل الكلدية المشاغبة في بلاد البحر.

    هكذا نرى ان تنظيم العلاقة بين بابل وآشور ـ العقدة البابلية ـ لم يكن من الامور اليسيرة لدى الطرفين فلا بابل واستقرار واستقلال دون آشور، ولا آشور قوية راسخة طليقة القرار والحركة ضد الاعداء دون الاستقرار في بابل. ومن هنا نرى وحسب هذا البحث المقتضب ان:

    ا ـ تسعة عشر ملكاً آشورياً كانت له نزاعات حدود أو حروب أو اجتياح وتدمير لمدينة بابل او الدفاع عن مدنهم ضد قوات بابل. ابتداء من ايلوشوما (1920) ق.م وانتهاء بسن ـ شار ـ ايشكوم وسقوط نينوى 612 ق.م وآشور اوبالط الثاني مع سقوط حاران آخر عاصمة آشورية. حسب ما أورده لنا التاريخ وحسب اهميته او طبقاً لما تم اكتشافه من الكتابات المسمارية بهذا الخصوص وقرائتها. ولكن حقيقة الاحداث هي أكبر من ذلك بكثير، لان المكتشف والمقروء من الكتابات التي تخص دول العراق القديمة ليس الا القليل. طبقاً لدراسات وتوقعات علماء الاسريولوجي.

    ب ـ ان القبائل الكلدية البدوية "حسب توينبي" والعنصر العيلامي المقلق لاستقرار العراق طوال تاريخه لم يستقر لها قرار الا بانهاء الحكم الوطني في العراق "سقوط آشور".

    ج ـ مدينة بابل وحضارتها وشعبها الذين صاروا جسراً لنقل الاعداء الى قلب العواصم الاشورية. لم يستطيعوا العيش والبقاء دون آشور. اذ نلاحظ ان هؤلاء الكلديين بعد بسط سيطرتهم على وسط وجنوب العراق لم تدم دولتهم في بابل اكثر من (73) سنة، والتي حكم العشرون سنة الاخيرة منها الملك نبونائيد الاشوري من مدينة حاران والذي يرجع اصله الى "السلالة الملكية الاشورية". وقد قام البابليون واليهود ذوي الهوى الفارسي بتشويه سمعة ملكهم نبونائيد ارضاءاً لاسيادهم الفرس الذين دخلوا بابل دون مقاومة في 12/10/539 بقيادة كورش بن قمبيز.

    د ـ ومما يتوجب ذكره هنا ان گوبارو (هٍنْبِرِا) حاكم القطر الاشوري انذاك والذي كان عليه حماية الزاوية اليسرى (الشمالة) لجيش بيليشاصر بن نبونائيد قد انحاز الى اعداء بابل مما عجّل في سقوطها. وربما كان ذلك الموقف ناجماً عن رغبة في الانتقام لمدينة اجداده نينوى، التي كان قد زحف عليها الميديين بدعم واسناد الكلديين في بابل.
    هـ ـ واخيراً مهما كان في الامر من غموض ومجال للاجتهاد، فأن بابل في التاريخ القديم لم تعمّر اكثر من نصف قرن دون آشور فهي عقدتها وهي العقدة في التاريخ الاشوري والمسيرة الاشورية المعاصرة.
    ادعوا لي بالشهادة في سبيل الله

  • #2
    والله يااخ مستكشف كلام من ذهي تستاهل علية الشكر والثناء ولا نريد الدخول في السياسة لكن ماسلف انما يؤكد عروبة العراق وصمودها على مر الزمن وكراهية اليهود والفرس الملاعين للعرب وتكاتفهم ضدنا من فجر التاريخ الى يومنا هذا
    اللهم لااله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين
    http://www.rasoulallah.net/

    http://www.qudamaa.com/vb/showthread.php?12774-%28-%29

    http://almhalhal.maktoobblog.com/



    تعليق

    يعمل...
    X