إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العشر الاواخر

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العشر الاواخر

    الحظ الوافر في إدراك مفاخر العشر الأواخر




    بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد قارب الضيف الكريم أن يغادرنا ، بعد أن جعل أرواح المؤمنين تخفق إيمانا وخشية وتوبة وخشوعا ، وأكسبها شفافية ورقة وذلة وخضوعا ، لرب كريم رحيم غفور تعاظمت فيه مننه وعطاياه ، وتكاثرت في أيامه منحه وهداياه ، فالموفق من نال من خيراتها النصيب الأزكى ، وكال من بركاتها الكيل الأوفى ، وعبّ من فيوضاتها كؤوسا ملأى ، وحصّل من فتوحاتها المقام الأسمى ، وتقلّد في ظلالها الوسام الأعلى ، وحجز في قطار التوفيق والقبول الدرجات الأرقى ، وانخرط في قوافل المحظوظين المشمرين منذ اللحظات الأولى ، حتى أصبح بصدق إقباله وخالص أعماله من الفوز والوصول قاب قوسين أو أدنى ، ليكتب في سجل أهل الفلاح والتقوى ، ولينال شرف التيسير لليسرى ، ليقرّبه كل ذلك إلى الله زلفى ، فيكون من ذوي القربى ، اللذين غشيتهم رحمته وشملته مغفرته ، ودخلوا سباق التتويج ليعتق سبحانه رقابهم من النار.
    فلا زالت الفرص قائمة والأبواب مشرعة ، ليستدرك المتخلف ويلتحق المحروم ويستيقظ الغافل، وقد دخلت العشر الأواخر بما تحمله من مفاخر ، لا يذق طعمها إلا صاحب الحظ الوافر ، فهل من مشمّر على ساعد الجد والاجتهاد ؟ ، لاستثمار ما بقي من موسم التحصيل والإمداد ، ليملأ خزائنه بكل ما لذ وطاب ، من موجبات الأجر والثواب ، ليختم له بالعزة والكرامة وينجو من الحسرة والندامة .
    فأعط هذه العشر حصتها من التكريم ، لتقابلك تكريما بتكريم ، وأجعلها خير محصّلة لما سبق وأحسن خاتمة لما أينع وأورق ، وأحرص على مراعاة خصوصيتها ، فخصّها بنصيب من الجد والاجتهاد وإدراك ما فيها من بركات وكرامات ، لتتوالى عليك منها الهدايا والأمداد ، فليكن لك حظ وافر منها ، مقتديا بخير الخلق صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا دخل العشر الأواخر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله(البخاري).
    فكن على خطاه ، لتنل أجر المتابعة وتشملك نفحات الليالي المباركات ، فالمحبون كانوا ينتظرونها ليعبروا عن صدق ولائهم :

    قد مزق الحب قميص الصبر وقد غدوت حائرا في أمري
    آه على تلك الليالي الغــــــــرّ ما كنّ إلا كليالي القــــــــدر
    إن عدن لي من بعد هذا الهجر وفيّت لله بـــكل نـــــــــــــذر
    وقام بالحمد خطيب شكــــــــري

    فليقم خطيب شكرك في هذه الليالي والأيام فيلهج بالحمد قولا وفعلا بأنواع القربات وجلائل الطاعات والتي في مقدمتها:

    1) ــ الاستجابة لنداء العشر الأواخر ومقابلته بالتشمير:

    فهي تناديك بلسان الحال لتنبهك إلى عظيم الأفضال وكرم الإفضال من الكبير المتعال فتقول لكيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشّعي ، يا شموس التقوى والإيمان أطلعي ، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي ، يا قلوب الصائمين اخشعي ، يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك وأركعي ، يا عيون المتهجدين لا تهجعي ، يا ذنوب التائبين لا ترجعي ، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي ، يا بروق الأشواق للعشاق المعي ، يا خواطر العارفين ارتعي ، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي ، ويا همم المؤمنين أسرعي ، فطوبى لمن أجاب فأصاب وويل لمن طرد عن الباب وما دعي).

    2) ــ ضبط الصوم على بوصلة القبول وتوفير شروطه:


    قال ابن الجوزي رحمه اللهليس الصوم صوم جماعة الطعام عن الطعام ، وإنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام ، وصمت اللسان عن فضول الكلام ، وغض العين عن النظر إلى الحرام ، وكفّ الكفّ عن أخذ الحطام ، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام ).
    فأضبط بوصلة صومك بهذه المواصفات ، ليكون غيثا نافعا على صحراء قلبك الجرداء القاحلة ، فيردّها جنة فيحاء ناظرة ، تتوالى عليها موارد التوفيق ، فتكن وسيلة للقبول وسببا للوصول .

    3) ــ تحرّي الليلة المباركة والحرص على قيامها:


    ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قالمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه).
    وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضانفيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم)(أحمد والنسائي).
    وبما أن التماسها في العشر الأواخر وفي الليالي الوتر منها ، فليكن قيامها جميعها هو عربون تحرّيها ، ففي أيّ ليلة جاءت وجدت المحلّ مهيّأ ، لتحطّ فيه أنوارها وتملأه بأفضالها وتشمله بألطافها ، فتفكّ عنه قيود الأوزار وتسلمه صك العتق من النار ، فينجو بذلك من غضب الجبار.
    فما عليه إلا أن يكتب اسمه في قوائم المقنطرين أو القانتين ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قالمن قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)(أبو داود).

    4) ــ مضاعفة خدمة المولى عز وجل ليرحل الضيف بالمدح والشفاعة:


    فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قالالصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات فشفّعني فيه، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، فيشفّعان)(أحمد والطبراني).

    ترحّل الشهر وا لهفاه وانصرمــا واختص بالفوز في الجنات من خدما
    وأصبح الغافل المسكين منكــــسرا مثلي فيا ويحه يا عظم ما حـــــــرما
    من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهمّ والنــــــــــــــدما
    وأحذر أن تجعل الصيام والقرآن خصماءك باستهتارك وغفلتك وهجرك ، بدل أن يكونا شفعاءك بإقبالك ويقظتك وملازمتك :
    ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ

    5) ــ ختمة خاصة بالعشر أو أكثر لمضاعفة الفرصة:


    قال ابن رجب رحمه اللهفأمّا الأوقات المفضلة كشهر رمضان ، خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة شرّفها الله لمن دخلها من غير أهلها ، فيستحب الإكثار من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان).

    6) ــ إحياء سنة الاعتكاف فهي من خصوصيات العشر:


    فلتحيي هذه السنة وليكن لك نصيب منها وإن قلّ ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى).
    قال بن رجبوإنما كان يعتكف صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر ، قطعا لأشغاله وتفريغا لباله وتخلّيا لمناجاة ربه وذكره ودعائه ، وكان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس ، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم..
    فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق ، للاتصال بخدمة الخالق).

    7) ــ زيادة الصدقات وإطعام الطعام لضمان الغرف وإجبار النقص:


    فثمن غرف الجنة وأنت طالبها ورمضان ميدانها والعشر الأواخر فرصتها المواتية ، ما جاء عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالإن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها .
    قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ ، قال : لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام و أدام الصيام وصلّى بالليل والناس نيام)(الترمذي وأحمد والحاكم).
    فضاعف الصدقات وأطعم الطعام لتنل الغرف وتحقق الهدف وتنجو من التلف وتتأسى بخير من سلف الذي كان في رمضان كالريح المرسلة.
    وفي العشر كذلك زكاة الفطر التي هي طهرة للصائم وطعمة للمساكين ، كما أن لها وظيفة أخرى ذكرها بعض العلماء المتقدمين فقالوا : صدقة الفطر كسجدتي السهو للصلاة ، فهي تجبر الصيام وتكمل النقص فيه ، تماما كما تفعل سجدتا السهو بالنسبة للصلاة.

    8) ــ ألزم الدعاء والتضرع والمناجاة بالأسحار:


    قال سفيان الثوري رحمه اللهالدعاء في تلك الليلة(ليلة القدر) أحبّ إليّ من الصلاة ، فإن جمع بين الصلاة والتلاوة والدعاء كان أفضل.
    فلو استنشقت ريح الأسحار ــ في هذه الليالي ــ لأفاق قلبك المخمور ، فرياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ، ثم تعود برد الجواب بلا كتاب .
    فإذا ورد بريد برد السحر يحمل ملطّفات الألطاف ، لم يفهمها غير من كتبت له ، يا يعقوب الهجر قد هبّت ريح يوسف الوصل ، فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا ولوجدت ما كنت لفقده فقيرا.
    لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا)(يوسف88) ، لبرز لهم التوقيع عليها لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف92).
    وزاحم ابن القيم رحمه الله على الباب الذي اختار الدخول منه على مولاه ، لما قال عن نفسهدخلت على الله من أبواب الطاعات كلها ، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول ، حتى جئت باب الذل والافتقار ، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ، ولا مزاحم فيه ولا معوق ، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته ، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه).

    9) ــ التماس العفو من العفوّ الكريم:


    قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ، ما أقول؟
    قال : قولي : اللهم إنك عفوّ تحب العفو فأعف عنّي)(الترمذي).
    والعفو من أسماء الله تعالى وهو : المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم ، وهو يحب العفو ، فيحب أن يعفو عن عباده ، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم على بعض ، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه وعفوه أحب إليه من عقوبته.
    قال يحي بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه ، لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه.
    يا رب عبدك قد أتـــــــــــا ك وقد أساء وقد هفا
    يكفيه منك حيــــــــــــــاؤه من سوء ما قد أسلفا
    حمل الذنوب على الذنـــــو ب الموبقات وأسرفـا
    وقد استجار بذيل عفـــــــو ك من عقابك ملحــفا
    يا رب فأعف وعافــــــــه فلأنت أولى من عفا

    10) ــ الطمع في الجائزة وهي القبول والغفران والعتق من النار:


    فيا أرباب الذنوب العظيمة ، الغنيمة الغنيمة ، في هذه الأيام الكريمة ، فما منها عوض ولا لها قيمة ، فكم يعتق فيها من النار ذي جريرة وجريمة ، فمن أعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العميمة والمنحة الجسيمة ، يا من أعتقه مولاه من النار ، إياك أن تعود بعد أن صرت حرّا إلى رق الأوزار ، أيبعدك مولاك عن النار وأنت تتقرب منها ؟ ، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.

  • #2
    نزلت بك عشر مباركة



    من رحمة الله بالعباد – وهو الغني عنهم – أن جعل أفضل أيام رمضان آخره إذ النفوس تنشط عند قرب النهاية , وتستدرك ما فاتها رغبةً في التعويض , والعشر الأواخر هي خاتمة مسك رمضان , وهي كواسطة العقد للشهر لما لها من المزايا والفضائل , التي ليست لغيرها ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفي بها احتفاءً عظيماً ,ويعظمها تعظيماً جليلاً , وماذاك إلا لعلمه بفضلها وعظيم منزلتها عند الله تعالى – وهو أعلم الخلق بالله وبشرعه المطهر- .

    لماذا نستغل العشر؟
    إن المؤمن يعلم أن هذه المواسم عظيمة , والنفحات فيها كريمة , ولذا فهو يغتنمها , ويرى أن من الغبن البين تضييع هذه المواسم , وتفويت هذه الأيام , وليت شعري إن لم نغتنم هذه الأيام فأي موسم نغتنم ؟

    وإن لم نفرغ الوقت الآن للعبادة فأي وقت نفرغه لها؟

    لقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يُعطي هذه الأيام عناية خاصة ويجتهد في العمل فيها أكثر من غيرها..ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها)أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها ) رواه مسلم.
    وكان (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها

    وفي المسند عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر.

    أيها الناصح لنفسك :

    - تذكر أنها عشرة ليال فقط , تمر كطيف زائر في المنام , تنقضي سريعاً , وتغادرنا كلمح البصر , فليكن استقصارك المدة معيناً لك على اغتنامها .

    - تذكر أنها لن تعود إلا بعد عام كامل , لا ندري ما الله صانع فيه , وعلى من تعود , وكلنا يعلم يقيناً أن من أهل هذه العشر من لا يكون من أهلها في العام القادم – أطال الله في أعمارنا على طاعته - , وهذه سنة الله في خلقه (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر:30)

    وكم أهلكنا الشيطان بالتسويف وتأجيل العمل الصالح , فهاهي العشر قد نزلت بنا أبعد هذا نسوف ونُؤجل ؟

    تذكر أن :

    غدا توفي النفوس ما كسبت --- ويحصد الزارعون ما زرعوا
    إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم --- وإن أساءوا فبئس ما صنعوا


    - تذكر أن فيها ليلة القدر التي عظّمها الله , وأنزل فيها كتابه , وأعلى شأن العبادة فيها ف(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه الشيخان . ,والعبادة فيها تعدل عبادة أكثر من ثلاث وثمانين سنة قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) ,فلو قُدِر لعابد أن يعبد ربه أكثر من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر , وقام موفق هذه الليلة وقُبلت منه , لكان عمل هذا الموفق خير من ذاك العابد , فما أعلى قدر هذه الليلة , وما أشد تفرطنا فيها , وكم يتألم المرء لحاله وحال إخوانه وهم يفرطون في هذه الليالي وقد أضاعوها باللهو واللعب والتسكع في الأسواق , أُو في توافه الأمور .

    - تذكر أنك متأسياً بخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم , وقد تقدم بعض هديه خلال العشر, فاجعله حاملاً لك لاغتنام هذه الليالي الفاضلة .

    أعمال يجتهد فيها الصادقون خلال العشر :



    - القيام في هذه الليالي , وفضل قيامها قد جاءت به النصوص المعلومة , واجتهادات السلف يعلمها كل مطلع على أحوالهم ,بل ومن عباد زماننا من سار على هديهم ,
    يذكر أحد الإخوة أن رجلاً معروفاً في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي التراويح مع الإمام ثم يتنفل بالصلاة إلى صلاة القيام ثم يصلي مع الجماعة صلاة القيام ثم يصلي إلى قبيل الفجر , هذا ديدنه كل عام . أرأيت الهمة ؟ هل عرفت كم نحن كسالى ؟
    ومن مشايخنا من يختم القرآن في هذه العشر كل ليلتين مرة في صلاة القيام .

    ويبقى الأمر المهم ما الذي جعلهم يقومون وننام ؟ وينشطون ونكسل ؟

    إنه الإيمان واليقين بموعود الله الذي وعد به أهل القيام , ولهذه الليالي مزايا على غيرها , أضف إلى اللذة التي تذوقوها حتى آثروا القيام , وما أجمل ما قاله بعض العلماء –عن لذة المناجاة – حيث قال : لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم .

    ولتعلم يا رعاك الله أن البعد عن الذنوب والمعاصي أثر في التوفيق للطاعة , فالطاعة شرف ورحمة من الرحمن لا ينالها إلا أهل طاعته .
    فلندع عنا التواني والكسل , ولنسعِ للجد في العمل , فعما قليل نرحل , وبعد أيام نغادر هذه الدنيا , ونخلفها وراءنا ظهريا , فلماذا التسويف ؟

    - اغتنمها في الدعاء – فدعاء ليلة القدر مستجاب – تذكر حاجتك لربك ومولاك , فمن يغفر الذنوب إلا هو ؟
    ومن يُثيب على العمل الصالح إلا الكريم سبحانه ؟

    ومن ييسر العسير , ويحقق المطلوب ويجبر المكسور إلا صاحب الفضل والجود؟

    فاغتنم هذه الفرصة فرب دعوة صادقة منك يكتب الله لك رضاه عنك إلى أن تلقاه , ولا تنسى الدعاء لإخوانك فهو من علامات سلامة القلب , وأيضا ًالدعاء للمسلمين من الولاة والعامة , ولا تحتقر دعوة فرب دعوة يكون فيها الخير لأمتك .

    - (ساعات السحر) في هذه العشر كثير من الناس يكونون مستيقظين هذه الساعة , وهو وقت شريف مبارك , وتعجب ممن يُمضون هذه الساعة في الأحاديث الجانبية أو لا يرتبون قضاء حاجتهم الضرورية قبل هذا الوقت فينشغلون بها عن اغتنامه ,
    أما الذين عرفوا قيمة هذه الساعة وعلو منزلتها فلا تجدهم إلا منكسرين ومخبتين فيها , قد خلا كل واحد منهم بربه يطرح ببابه حاجته , ويسأله مطلوبه , ويستغفره ذنبه , آلا ما أجلها من ساعة , وما أعظمه من وقت , فأين المغتنمون له؟

    - احرص على اعتكاف العشر كلها – دون التفريط بواجب من حق أهل وولد - , فإن لم تستطع فلا أقل من الليالي أو ليالي الوتر , فقد كان هذا هديه عليه الصلاة والسلام في هذا العشر, ويُشرع للأخت المسلمة أن تعتكف كالرجال إذا تهيأت لها الأسباب وأمنت على نفسها , أو على الأقل الليالي .

    ومن بشائر الخير ما نراه من كثرة المعتكفين والمعتكفات في الحرمين وفي مساجد الأحياء في مدن وقرى العالم الإسلامي , ولتحرص على اغتنام هذا الوقت بالطاعة , وملئه بما ينفع ومجاهدة النفس على ذلك .

    - أوصيك أخي بتطهير قلبك فهذه أيام الطهارة والتسامح والتجرد لله تعالى , واجعل حظ النفوس جانباً , فأنت ترجو المغفرة , وتأمل عفو ربك , وليكن شعارك العفو عن الناس وعمن ظلمك , واجعل هذا من أرجى أعمالك هذه الليالي, ولله در ابن رجب في لطيفته يوم قال تعليقا على حديث عائشة \" اللهم انك عفو تحب العفو فاعفو عني \" إذ يقول : من طمع في مغفرة الله وعفوه فليعف عن الناس فإن الجزاء من جنس العمل .

    - اجعل بعض مالك للصدقة ولا تحتقر القليل فهو عند الله عظيم مع صدق النية , وتذكر أن المال غادٍ ورائح , وما تنفقه باق لك , وأنت ترجو قبول دعائك هذه الليالي وللصدقة أثرها في قبول الدعاء والإثابة على العمل , ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه .

    تعليق


    • #3
      همسات العشر تقول .


      الحمد لله الكريم الوهاب ، خلق خلقه من تراب ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.

      نحن في شهر كثيرٌ خيره ، عظيم بره، جزيلة ُ بركته ، تعددت مدائحه في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسوله الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم ، والشهر شهر القران والخير وشهر عودة الناس إلى ربهم في مظهر إيماني فريد ، لا نظير له ولا مثيل.

      وقد خص هذا الشهر العظيم بمزية ليست لغيره من الشهور وها نحن ننتظر أيام عشرة مباركة هن العشر الأواخر التي يمن الله تعالى بها على عباده بالعتق من النار، وها نحن الآن في هذه الأيام ننتظر العشر المباركات وهمساتها تقول :-

      ها أنا العشر الأواخر من رمضان قد أقبلت ، ها أنا خلاصة رمضان ، و زبدة رمضان ، و تاج رمضان.

      وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحيي لياليَّ بالصلاة والذكر والقيام ويوقظ أهله شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في لياليَّ ـ وكان يشدُّ مئزره من أجلي أي يعتزل نساءه في هذه الليالي لإشتغاله بالذكر والعبادة فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيى ليله وأيقظ أهله وشد مئزره0

      همسات العشر تقول ...

      ضاعفوا الإجتهاد في هذه الليالي ، أكثروا من الذكر ... أكثروا من تلاوة القرآن ... أكثروا من الصلاة ، أكثروا من الصدقات ، أكثروا من تفطير الصائمين ... ففي صحيح مسلم أن رسول الله كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها0

      همسات العشر تقول ...

      اطلبوا تلك الليلةِ الزاهية ، تلك الليلة البهية ، ليلة العتق والمباهاة ، ليلة القرب والمناجاة ... ليلة القدر ، ليلة نزول القرآن ، ليلة خير من ألف شهر ...

      أطلّّي غُرّةَ الدهرِ .. أطلي ليلةَ القدرِ
      أطلي درّةَ الأيام مثلَ الكوكب الدرّي
      أطلّي في سماء العمر إشراقاً مع البدرِ
      سلامٌ أنتِ في الليل وحتى مطلعِ الفجرِ
      سلامٌ يغمرُ الدنيا يُغشّي الكونَ بالطهرِ
      وينشرُ نفحةَ القرآنِ والإيمانِ والخيرِ
      لأنكِ منتهى أمري فإني اليوم لا أدري
      فأنتِ أنتِ أمنيتي.. لأنك ليلة القدرِ
      فاجتهدوا لهذه الليلة التي من قامها إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في البخاري من حديث أبي هريرة ...

      فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية ، ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة ...

      وحتي تضمنوا قيام ليلة القدر والفوز بها اجتهدوا وشمروا في كلِّ لياليّ ... فحبيبكم صلى الله عليه وسلم يقول : (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري ... وقد خصَّها الرسول في الأوتار فقال
      تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) رواه البخاري 0

      قال الله ( ليلة القدر خير من ألف شهر )

      همسات العشر تقول ...

      يا أيها الراقـد كـم ترقـد *** قم يا حبيبا قد دنا الموعدُ
      و خذ من الليل وساعاته *** حظا إذا هــجع الـرُّقَـــُد
      لا تتركوني من دون القيام ...

      اتركوا لذيذ النوم ، وجحيم الكسل ، وانصبوا أقدامكم في جنح لياليّ ، وارفعوا هممكم ، وادفِنوا فتوركم ونافسوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يعلموا أنهم خلفوا ورآهم رجالا أصحاب تقىً وقيام ...

      قال تعالى ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا )

      فاغتنموني فإن ليلة القدر تستحق التضحية والإجتهاد ... .

      همسات العشر تقول ...

      ارفعوا عنكم التنازع والخصام فإنها سببٌ في منع الخير وخفائه ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى " أي تخاصم وتنازع " رجلان من المسلمين، فقال: " خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ) رواه البخاري 0

      همسات العشر تقول ...

      أحيوا فيَّ سنة الإعتكاف ، فإن هذه السُنَّة بلسمٌ للقلوب ، ودواءٌ لآفاته ، وقد قال ابن القيم رحمه الله ( الاعتكاف هو عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق فيعده بذلك بأنسه به يوم الوحشة في القبور حيث لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم )

      فيا من هجر الإعتكاف ...

      أحيوا هذه السنة العظيمة في مساجدكم ...

      فهذه السنة سبب في تعويد وتربية النفس على الإخلاص لأنك في معتكفك لايراك أحد إلا الله جل وعلا ، فالإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأنت في معتكفك تصلي وتصوم وتذكر الله جل وعلا وتقرأ القرآن فبذلك تربي نفسك على الإخلاص ...

      وهذه السنة تربي النفس على التخلص من فضول الكلام والطعام والنوم والخلطة وتعويد النفس على ذلك ...

      وكذلك سبب في تربية النفس على قيام الليل وقراءة القرآن والاستغفار والذكر والمناجاة ... وتقوية الصلة بالله تعالى واللجوء إليه ومناجاته ... والتفكر والتعود على الاستخدام الأمثل لنعمة العقل وخاصة في زمن الفتن والمحن ... وكذلك سبب في مراجعة النفس ومحاسبتها في أمور الدين والدنيا في أمور العبادة وغيرها ... كذلك سبباً في تربية النفس على الاستخدام الأمثل للوقت وعدم تضييع الثواني فضلاً عن الدقائق والساعات ... وكذلك سببا مباشر في تعويد النفس على الصبر ومجاهدة النفس وتأديبها على معالي الأمور ...

      فالزموا هذه السنة العظيمة ، وتخلصوا من الآفات التي يتعرض لها بعض المعتكفين من فضول الكلام والأكل والشرب والنوم والخلطة ...

      همسات العشر تقول ...

      ما جئتكم لتجعلوني موسماً لملء بطونكم بأصناف الطعام والشراب .. ولا جئتكم لتجعلوا ليلي نهاراً، ونهاري ليلاً ، وتقطّعوا ساعاتي الثمينة باللهو واللعب، والنظر إلى ما حرم الله وتقطيع الوقت في المنتزهات وغيرها.. !
      ... فأدركوا الحكمة من مجيئي إليكم . .

      همسات العشر تقول ...

      أيها المسلمون : إني لم أكن في يوم من الأيام وقتاً للنوم والبطالة وملء البطون والنوم والكسل إلا في هذه الأزمنة المتأخرة ..
      فهلا رجعتم إلى تأريخ أسلافكم العظام لتروا ما صنعوا في الأيام التي قبلي ... فلا تنسوا معركة بدر ، وفتح مكة ، واليرموك وحطين، إنها بطولات تحققت في رمضان .. ولم تكن هذه البطولات والانتصارات لتتحقق في أرض الواقع ، لو لا أنها تحققت أولاً في نفوس أولئك المؤمنين ، على أهوائهم وشهواتهم فمتى انتصرتم أيها المسلمون اليوم على أنفسكم وأهوائكم، نصركم الله على أعدائكم ، وعاد لكم عزكم ومجدكم المسلوب ..

      همسات العشر تقول ...

      لا تفسدوا صفو لياليَّ ببعضَ المعكرات التي تثيرُ الأشجان ... وتجلبُ الأحزان ... وتؤنبُ الضمائر ... وتقلقُ الخواطر ... فلقد اعتكف بعض الناس في لياليَّ في الأسواق التي قد ضاقت بها النساء وتهافتوا على المراكزِ التجارية ومسابقاتِها ...

      فلماذا لم يجد الناس أوقاتاً غير أوقاتي الفاضلة ...

      أم أن العادة فرضت نفسها على ضعفاء البشر ...

      فيمكنك أن تشتري ملابس العيد وأغراضه في شهر شعبان ، حيث الأسعار مناسبة ، والأعداد قليلة !! فتقضي حوائجك دون أن تخسر كثيرا أو أن تضيع وقتا فاضل ...

      همسات العشر تقول ...

      أيقظوا قلوبكم من النوم عن صلاة الظهر وصلاة العصر ... ولاتجعلوا القيام مندوحة ً لكم في ذلك ... فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ...

      همسات العشر تقول ...

      من ذهب لبيت الله الحرام فليحفظ بصره من فتن النساء التي كثرت في المسجد الحرام والله المستعان ... وإن خشيت على نفسك فالبقاء في بيتك أولى وأفضل ...

      وكذلك أهمس في أذن كلِّ أبٍ رءوم وأقول له اتق الله عز وجل عند ذهابك أنت وأسرتك إلى مكة ... ولا تفلت القيد لأهلك ... لأنه قد يذهب بعضهم لأغراض سيئة لا يحمد عقباها ...
      فكم من أبٍ قد ابتلَّ خدُّه من الدموع ، وبعض أبناءه في لجج المعاصي في أسواق مكة وما جاورها ...

      فالمصلحة المصلحة ابحثوا ... وكلُّ إناءٍ بما فيه ينضح

      همسات العشر تقول ...

      استغلوني ... فقد ذهب الكثير من رمضان ... ولا يعلم أحدٌ منكم هل سيصوم هذا الشهر في أعوامه القادمة أم سيكون في حفرة مظلمة من فوقه تراب ومن تحته تراب وعن يمينه تراب وعن شماله تراب ...

      همسات العشر تقول ...

      استودعكم الله التي لا تضيع ودائعه ... وقد لا ألتقي بكم في أزمنة قادمة ...

      تعليق


      • #4

        هاهي العشر الأواخر من رمضان على الأبواب ، ها هي خلاصة رمضان ،و زبدة رمضان ، و تاج رمضان قد قدمت .
        فيا ترى كيف نستقبلها ؟
        لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر الأواخر بعدة أعمال .
        ففي الصحيحين من حديث عائشة : ( كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لفظ لمسلم : ( أحيا ليله و أيقظ أهله ) و لها عند مسلم : ( كان رسول الله يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها )
        و لها في الصحيحين : ( أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ).
        و في الصحيحين من حديث أبي هريرة نهى رسول الله عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله ؟
        قال : و أيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني ).

        فمن هذه الأحاديث نرى أن النبي كان يجتهد بالأعمال التالية :
        1- أيقاظ أهله : و ما ذاك إلا شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في هذه الليالي العشر .
        2- إحياء الليل : فإنه إذا كان رمضان كان يقوم و ينام ، حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر أحيا الليل كله أو جله ، فقد أخرج أصحاب السنن بإسناد صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه : (صمنا مع رسول الله في رمضان فلم يقم بنا شيئا منه حتى بقي سبع ليال ، فقام بنا السابعة حتى مضى نحو من ثلث الليل ، ثم كانت التي تليها ... حتى كانت الثالثة فجمع أهله و اجتمع الناس فقام حتى خشينا الفلاح . فقلت : و ما الفلاح ؟ قال : السحور .
        3- شد المئزر : و المراد به اعتزال النساء كما فسره سفيان الثوري و غيره .
        4- الاعتكاف : و هو لزوم المسجد للعبادة و تفريغ القلب للتفكر و الاعتبار .
        5- الوصال : وهو أنه صلى الله عليه و سلم كان لا يأكل شيئا أبدا لمدة أيام وهذا من خصائصه .ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم ، فقيل : إنك تواصل ، فقال : ((إني لست مثلكم إني أُطعم و أُسقى)) ، ولهما من حديث أبي هريرة (( و أيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني)) و عند مسلم من حديث أنس (( أن النبي نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا ، واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : ( لو تأخر لزتكم ) كالمنكل لهم .وفي لفظ عند مسلم (( لو مد الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ..)) فمن هذه الأحاديث نعلم أن الرسول كان يواصل الصيام في العشر الأواخر بدليل أنهم رأوا الهلال و هذا لا يكون إلا في آخر الشهر . وأيضا شدة حرص الصحابة على الإقتداء به . وأيضا أن المراد بالإطعام و السقاء ليس هو طعام وسقاء حقيقي(( بل المراد ما يغذيه الله لنبيه من معارف و ما يفيض على قلبه من لذة مناجاته و قرة عينه بقربه و تنعمه بحبه و الشوق إليه و توابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب و نعيم الروح و قرة العين و بهجة النفوس و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء و أجوده و أنفعه حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمن و كما قيل
        لها أحاديث من ذكرك تشغلها *** عن الشراب و تلهيها عن الزاد
        لها بوجهك نور تستضيء به *** و من حديثك في أعقابها حادي
        إذا شكت من كلال السير أوعدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد
        و من له أدنى تجربة و شوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب و الروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، و لا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه ، و تنعم بقربه ، و الرضى عنه ، و ألطاف محبوبه و هداياه و تحفه تصل إليه كل وقت ، ومحبوبه حفي به ، معتنٍ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا أجل منه و أعظم ، و لا أجمل و لا أكمل و لا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، و ملك حبه جميع أجزاء قلبه و جوارحه و تمكن حبه منه أعظم تمكن ، وهذا حاله مع حبيبه ، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه و يسقيه ليلا و نهارا ؟ و لهذا قال (( إني أظل عند ربي يطعمني و يسقيني )) و لو كان ذلك طعاما و شرابا للفم ، لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا )) اهـ . كلام ابن القيم من الزاد
        ترى أيه الأحبة : لماذا يفعل رسول الله كل هذا ؟
        إنه يطلب تلك الليلة الزاهية ، تلك الليلة البهية ، ليلة القدر ، ليلة نزول القرآن ، ليلة خير من ألف شهر .
        نعم إنها ليلة القدر : التي من قامها إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (كما في البخاري من حديث أبي هريرة ).
        إنها ليلة القدر التي إن وفقت لقيامها كتب لك كأنك عبدت الله أكثر من ( 83 ) عاما .
        إنها ليلة القدر : ليلة عتق و مباهاة ، وخدم و مناجاة ، و قربة و مصافاة .
        وآه لنا أن فاتتنا هذه الليلة .
        وا حسرتاه إن فاتتنا ليلة القدر .
        و كيف لا يتحسر من قد فاتته المغفرة ،من فاته عبادة أكثر من ثلاث و ثمانين عاما ، إن من تفوته فهو المحروم ، وهو المطرود .
        عند ابن ماجة ( قال في صحيح الترغيب و الترهيب : حسن ) ( إن هذا الشهر قد حضركم فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا محروم )
        إنها ليلة القدر التي كان رسولنا يحث الصحابة على التماسها حثا شديدا .

        أيه الأحبة :
        إن إدراك ليلة القدر- و الله - لهو أمر سهل – على من سهل الله عليه – و ما ذاك ألا بأن نقوم العشر الأواخر كلها و بهذا نضمن إدراك ليلة القدر بإذن الله .
        أيه الأحبة :
        أن قيام الليل هو دأب الصالحين و شعار المتقين و تاج الزاهدين ، كم وردت فيه من آيات و أحاديث ، وكم ذكرت فيه من فضائل ، فكيف إذا كان في رمضان ، وفي العشر الأواخر منه حيث ليلة القدر .
        ماذا فاته من فاته قيام الليل ، أما لكم همة تنافسون الحسن و الفضيل و سفيان .
        أما لكم همة كهمة التابعي أبي إدريس الخولاني حيث كان يقوم حتى تتورم قدماها و يقول : و الله لننافسن أصحاب محمد على محمد صلى الله عليه وسلم و حتى يعلموا أنهم خلفوا ورآهم رجالا .

        يا أيه الراقد كم ترقد *** قم يا حبيبا قد دنا الموعد
        و خذ من الليل و ساعاته *** حظا إذا هجع الرقد
        من نام حتى ينقي ليله *** لم يبلغ المنزل أو يجهد
        قل لذوي الألباب أهل التقى *** قنطرة العرض لكم موعد
        آه يا مسكين لو رأيت أقواما تركوا لذيذ النوم ففازوا بليلة القدر فهم في قبورهم منعمين ، وغدا بين الحور العين جذلين ، وفي الجنان مخلدين .
        آه لو رأيت من ترك قيام الليل ، فهو في قبره ما بين حسرة و لوعة .
        يا عبد الله اهجر فراشك ، فإن الفرش غدا أمامك

        اهجر فراشك جوف الليل و ارم به *** ففي القبور إذا فوافيتها فرش
        ما شئت إن شئتها فرشا مرقشة *** أو رمضة فوقها السمومة الرقُشُ( الأفاعي )
        هذا ينام قرير العين نائما *** و ذا عليه سخين العين ينتهش
        شتان بينهما وبين حالهما *** هل يستوي الري في الأحشاء و العطش
        قاموا و نمنا و كل في تقلبه *** لنفسه جاهدا يسعى و يجتوش
        ألئك الناس إن عد الكرام فهم *** و إن ترد دبشا فنحن ذا دبش
        فيا عبد الله
        إن أردت لحاق السادة ، فاترك مخاللة الوسادة .
        يا ثقيل النوم : أما تنبهت ، الجنة فوقك تزخرف ، و النار تحتك توقد ، و القبر إلى جنبك يحفر ، و لربما يكون الكفن قد جهز .
        يا عبد الله :
        أمامك الجواهر و الدرر، أمامك ليلة القدر ، فعلاما تضيع الأعمار في الطين و المدر .
        يا طويل النوم :
        بادر قبل أن يفوتك ( تتجافى جنوبهم ) فتأتي يوم القيامة فلا تجد ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ).
        فيا أخي : و الله أن العمر كله قصير ، فكيف بعشر ليال .
        آلا تستحق ليلة القدر أن نضحي من أجلها بعشر ليال فقط .
        غدا يا عبد الله عندما يوفى الناس أعمالهم تحمد قيامك و صيامك .
        غدا يا عبد الله تفرح بتهجدك و صلاتك ، حين يتحسر أهل الغفلة .
        اللهم إنا نسأل أن تجعلنا من من يوفق قيام لليلة القدر و أنت أكرم الأكرم .

        تعليق


        • #5
          العشرة الأواخر والدعاء


          عندما تنزل الحاجة بالعبد فإنه ينزلها بأهلها الذين يقضونها ، وحاجات العباد لا تنتهي . يسألون قضاءها المخلوقين ؛ فيجابون تارة ويردون أخرى . وقد يعجز من أنزلت به الحاجة عن قضائها . لكن العباد يغفلون عن سؤال من يقضي الحاجات كلها؛ بل لا تقضى حاجة دونه ، ولا يعجزه شيء ، غني عن العالمين وهم مفتقرون إليه . إليه ترفع الشكوى ، وهو منتهى كل نجوى ، خزائنه ملأى ، لا تغيضها نفقه ، يقول لعباده { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
          كل الخزائن عنده ، والملك بيده { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ الملك]
          {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[ الحجر ] ، يخاطب عباده في حديث قدسي فيقول :(( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أًدخل البحر )) [ رواه مسلم 2577] ويقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[ فاطر] .
          لا ينقص خزائنه من كثرة العطايا ، ولا ينفد ما عنده ، وهو يعطي العطاء الجزيل
          { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96] قال النبي عليه الصلاة والسلام (( يدُ الله ملأى لا تغيضها نفقه سحاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع )) [ رواه البخاري 684 ومسلم 993] .
          هذا غنى الله ، وهذا عطاؤه ، وهذه خزائنه ، يعطي العطاء الكثير ، ويجود في هذا الشهر العظيم ؛ لكن أين السائلون ؟ وأين من يحولون حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق ؟ أين من طرقوا الأبواب فأوصدت دونهم ؟ وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا ؟ أين هم ؟ دونكم أبواب الخالق مفتوحةً ! يحب السائلين فلماذا لا تسألون ؟ .

          لماذا الدعاء ؟!
          لا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه ، وأنه تعالى يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، وأن خزائن كل شيء بيده ، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه ، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه . لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله ؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن ، قال الله تعالى :{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107] .
          نعم والله لا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى
          { إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53]
          { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67] سقطت كل الآلهة ، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }[ الإسراء : 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } [الفتح :11]
          لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله . ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا . ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره ، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله . ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله
          {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى }[طه:8] يغضب إذا لم يُسأل ، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع ، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه ، ويكشف كرب المكروب إذا سأله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }[النمل:62] .
          روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
          (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟)) [ رواه البخاري 7494 ومسلم 758]
          الله أكبر ، فضل عظيم ، وثواب جزيل من رب رحيم ، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه ؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه ؟ وأن يطلب العبادُ حاجاتهم من غيره ؟ أيسألون عبيداً مثلهم ، ويتركون خالقهم ؟! أيلجأون إلى ضعفاء عاجزين ، ويتحولون عن القوي القاهر القادر ؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم
          (( من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل )) [ رواه أبو داود 1645والترمذي وصححه 2326 ] .
          فضل الدعاء
          إن الدعاء من أجلِّ العبادات ؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال ، وذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرع له ، والانكسار بين يديه ، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى ؛ ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3370 وابن ماجه 3829] .
          وإذا دعا العبد ربه فربه أقربُ إليه من نفسه
          { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (( في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد )) [رواه ابن ماجه 1753 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 328 ] دعوةٌ عند الفطر ما ترد ، ودعاء في ثلث الآخر مستجاب ، وليلةٌ خير من ألف شهر ، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر . ما أعظمه من فضل ! وأجزله من عطاء في ليالٍ معدودات . فمن يملك نفسه وشهوته ، ويستزيد من الخيرات ، وينافس في الطاعات ، ويكثرُ التضرع والدعاء .
          ليالي الدعاء
          نحن نعيش أفضل الليالي ، ليالٍ تعظُم فيها الهبات ، وتنزل الرحمات ، وتقال العثرات ، وترفع الدرجات .
          فهل يعقل أن تقضى تلك الليالي في مجالس الجهل والزور ، وربُ العالمين ينزل فيها ليقضي الحوائج . يطلع على المصلين في محاريبهم ، قانتين خاشعين ، مستغفرين سائلين داعين مخلصين، يُلحون في المسألة ، ويرددون دعاءهم : ربنا ربنا . لانت قلوبهم من سماع القرآن ، واشرأبت نفوسهم إلى لقاء الملك العلام ، واغرورقت عيونهم من خشية الرحمن . فهل هؤلاء أقرب إلى رحمة الله وأجدر بعطاياه أم قوم قضوا ليلهم فيما حرم الله ، وغفلوا عن دعائه وسؤاله؟ كم يخسرون زمن الأرباح ؟ وساء ما عملوا ؟ ما أضعف هممهم ، وما أحط نفوسهم ، لا يستطيعون الصبر ليالي معدودات !!

          من يستثمر زمن الربح ؟!
          هذا زمن الربح ، وفي تلك الليالي تقضى الحوائج ؛ فعلق – أخي المسلم – حوائجك بالله العظيم ، فالدعاء من أجل العبادات وأشرفها ، والله لا يخيب من دعاه قال سبحانه : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60] وقال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[ الأعراف :56] .
          العلاقة بين الصيام والدعاء
          آيات الصيام جاء عقبها ذكرُ الدعاء { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] قال بعض المفسرين : (( وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجو الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان )) [ التحرير والتنوير 2/179] والله تعالى يغضب إذا لم يسأل قال النبي عليه الصلاة والسلام (( من لم يسأل الله يغضب عليه )) [ رواه أحمد 2/442 والترمذي 3373 ] .
          الله تعالى أغنى وأكرم
          مهما سأل العبد فالله يعطيه أكثر ، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذاً نكثر ، قال : الله أكثر )) [ رواه أحمد 3/18].
          والدعاء يرد القضاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
          (( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر )) [ رواه الترمذي وحسنه 2139 والحاكم وصححه 1/493] . وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : (( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )) [ رواه أحمد 5/234 والحاكم 1/493] فالله تعالى أكثر إجابة ، وأكثر عطاءً .
          الذل لله تعالى حال الدعاء
          إن الدعاء فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى وانكسار وانطراح بين يديه ، قال ابن رجب رحمه الله تعالى : وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل ، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار ، ومن افتقار القلب في الدعاء ، وانكساره لله عز وجل ، واستشعاره شدة الفاقةِ ، والحاجة لديه . وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء ، قال الأوزاعي : كان يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه )) [ الخشوع في الصلاة ص72] .
          أيها الداعي : أحسن الظن بالله تعالى
          والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به ؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد ، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه ، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة ، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني )) [ رواه البخاري 7505 ومسلم 2675] .
          الدعاء في الرخاء من أسباب الإجابة
          إذا أكثر العبدُ الدعاء في الرخاء فإنه مع ما يحصل له من الخير العاجل والآجل يكون أحرى بالإجابة إذا دعا في حال شدته من عبد لا يعرف الدعاء إلا في الشدائد . روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3282 والحاكم وصححه 1/ 544] .
          ومع أن الله تعالى خلق عبده ورزقه ، وأنعم عليه وهو غني عنه ؛ فإنه تعالى يستحي أن يرده خائباً إذا دعاه ، وهذا غاية الكرم ، والله تعالى أكرم الأكرمين .
          روى سلمان رضي الله عنه فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
          (( إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خالتين )) [ رواه أبو داود 1488والترمذي وحسنه 3556] .
          العبرة بالصلاح لا بالقوة
          قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته ؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً ، ولا يخيب له دعوة ، كالمذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم (( رب أشعث مدفوع ٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) [ رواه مسلم 2622] .
          أيها الداعي : لا تعجل
          إن من الخطأ أن يترك المرء الدعاء ؛ لأنه يرى أنه لم يستجب له ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي )) [ رواه البخاري 6340 ومسلم 2735] .
          قال مُورِّقٌ العجلي : (( ما امتلأت غضباً قط ، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء )) [ نزهة الفضلاء ص 398] .
          وكان السلف يحبون الإطالة في الدعاء قال مالك : (( ربما انصرف عامر بن عبد الله بن الزبير من العتمة فيعرض له الدعاء فلا يزال يدعو إلى الفجر ))[ نزهة الفضلاء 484] . ودخل موسى بن جعفر بن محمد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل فسمع وهو يقول في سجوده : (( عظمُ الذنبُ عندي فليحسن العفو عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ، فما زال يرددها حتى أصبح )) [ نزهة الفضلاء 538] .

          الصيغة الحسنة في الدعاء
          ينبغي – أيها المسلم – أن تقتفي أثر الأنبياء في الدعاء ، سئل الإمام مالك عن الداعي يقول : يا سيدي فقال : (( يعجبني دعاء الأنبياء : ربنا ربنا )) [ نزهة الفضلاء 621] .
          هذه أيام الدعاء
          هذا بعض ما يقال في الدعاء ، ونحن في أيام الدعاء وإن كان الدعاء في كل وقت ؛ لكنه في هذه الأيام آكد ؛ لشرف الزمان ، وكثرة القيام . فاجتهد في هذه الأيام الفاضلة فلقد النبي صلى الله عليه وسلم يشد فيها مئزره ، ويُحيي ليله ، ويوقظ أهله . كان يقضيها في طاعة الله تعالى ؛ إذ فيها ليلة القدر لو أحيا العبد السنة كلها من أجل إدراكها لما كان ذلك غريباً أو كثيراً لشرفها وفضلها ، فكيف لا يُصبِّر العبد نفسه ليالي معدودة .
          فاحرص – أخي المسلم – على اغتنام هذه العشر ، وأر ِ الله تعالى من نفسك خيراً . فلربما جاهد العبدُ نفسه في هذه الأيام القلائل فقبل الله منه ، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وهي تمرُّ على المجتهدين واللاهين سواء بسواء ؛ لكن أعمالهم تختلف ، كما أن المدون في صحائفهم يختلف ، فلا يغرنك الشيطان فتضيع هذه الأيام كما ضاع مثيلاتها من قبل .
          أسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ، وأن يرحمنا برحمته ، وأن يستعملنا في طاعته ، وأن يجعل مثوانا جنته ، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

          تعليق


          • #6
            فضل العشر الأواخر وليلة القدر


            فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يجتهد في غيرها مسلم(1175) عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري (1913) ومسلم(1169) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره " البخاري (1920) ومسلم (1174) زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره .

            وقولها " وشد مئزره " كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات .

            وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع .

            وقولهم " أحيا الليل " أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها . وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : " لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القران كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان" سنن النسائي (1641) فيحمل قولها " أحيا الليل " على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .

            وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) . لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة .

            وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .

            فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة ، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله ، وانتهى عمره ، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم .

            ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) سورة الدخان الآيات 1-6

            أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر.

            وقوله " فيها يفرق كل أمر حكيم " أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة .

            والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم - أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ ، قال ابن عباس " أن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات " أي انه كتب في ليلة القدر انه من الأموات . وقيل أن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة .

            ومعنى ( القدر ) التعظيم ، أي أنها ليلة ذات قدر ، لهذه الخصائص التي اختصت بها ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق ، ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها ، وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر ، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة ، من ( القدر ) وهو التضييق ، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 ، أي ضيق عليه رزقه .

            وقيل : القدر بمعنى القدَر - بفتح الدال - وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة كما قال تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) . ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها .

            فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ( 1910 ) ، ومسلم ( 760 ) .

            وقد خص الله تعالى هذه الليلة بخصائص :

            1- منها أنه نزل فيها القرآن ، كما تقدّم ، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . تفسير ابن كثير 4/529 .

            2- وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3

            3- ووصفها بأنها مباركة في قوله : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .

            4- أنها تنزل فيها الملائكة ، والروح ، " أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له " أنظر تفسير ابن كثير 4/531 والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه .

            5- ووصفها بأنها سلام ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد أنظر تفسير ابن كثير 4/531 ، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .

            6- ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) الدخان /4 ، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها ، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137،138 وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي 8/57 .

            7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 .

            وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة ، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها ، وهي قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر ) سورة القدر .

            فقوله تعالى : ( وما أدراك ما ليلة القدر ) تنويهاً بشأنها ، وإظهاراً لعظمتها . ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) أي : أي إحْياؤها بالعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة ، وهذا فضل عظيم لا يقدره قدره إلا رب العالمين تبارك وتعالى ، وفي هذا ترغيب للمسلم وحث له على قيامها وابتغاء وجه الله بذلك ، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير ، وهو القدوة للأمة ، فقد تحرّى ليلة القدر .

            ويستحب تحريها في رمضان ، وفي العشر الأواخر منه خاصة جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ( والقبة : الخيمة وكلّ بنيان مدوّر ) عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ قَالَ وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . صحيح مسلم 1167

            وفي رواية قال أبو سعيد : ( مطرنا ليلة إحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مُصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت إليه ، وقد انصرف من صلاة الصبح ، ووجهه مُبتل طيناً وماء ) متفق عليه ، وروى مسلم من حديث عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه نحو حديث أبي سعيد لكنه قال : ( فمطرنا ليلة ثلاثة وعشرين ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألتمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري 4/260

            وليلة القدر في العشر الأواخر كما في حديث أبي سعيد السابق وكما في حديث عائشة وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) حديث عائشة عند البخاري 4/259 ، وحديث ابن عمر عند مسلم 2/823 ، وهذا لفظ حديث عائشة .

            وفي أوتار العشر آكد ، لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ) رواه البخاري 4/259 .

            وفي الأوتار منها بالذات ، أي ليالي : إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين . فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر ، في الوتر ) رواه البخاري ( 1912 ) وانظر ( 1913 ) ورواه مسلم ( 1167 ) وانظر ( 1165 )

            وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري ( 1917 - 1918 ) . فهي في الأوتار أحرى وأرجى إذن .

            وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجلان من المسلمين ، فقال : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) البخاري ( 1919 ) . أي في الأوتار .

            وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع ، وبخاصة في الدِّين وأنه سبب في رفع الخير وخفائه .

            قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتاسعة تبقى ، لسابعة تبقى ، لخامسة تبقى ، لثالثة تبقى ) فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع وتكون الاثنان والعشرون تاسعة تبقى ، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى ، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح ، وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر ، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه ) انتهى المقصود من كلامه رحمه الله الفتاوى 25/284،285 .)

            وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى ، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) رواه البخاري ( 1911 ) ومسلم ( 1165 ) . ولمسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي .

            وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) مسند أحمد وسنن أبي داود ( 1386 ) . وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء ، حتى أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، قال زر ابن حبيش : فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها . رواه مسلم 2/268

            وروي في تعيينها بهذه الليلة أحاديث مرفوعة كثيرة .

            وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : ( أنها ليلة سبع وعشرين ) واستنبط ذلك استنباطاً عجيباً من عدة أمور ، فقد ورد أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة وجمع ابن عباس معهم وكان صغيراً فقالوا : إن ابن عباس كأحد أبنائنا فلم تجمعه معنا ؟ فقال عمر : إنه فتى له قلب عقول ، ولسان سؤول ، ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها من العشر الأواخر من رمضان ، فسأل ابن عباس عنها ، فقال : إني لأظن أين هي ، إنها ليلة سبع وعشرين ، فقال عمر : وما أدراك ؟ فقال : إن الله تعالى خلق السموات سبعاً ، وخلق الأرضين سبعاً ، وجعل الأيام سبعاً ، وخلق الإنسان من سبع ، وجعل الطواف سبعاً ، والسعي سبعاً ، ورمي الجمار سبعاً . فيرى ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين من خلال هذه الاستنباطات ، وكأن هذا ثابت عن ابن عباس .

            ومن الأمور التي استنبط منها أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين : أن كلمة فيها من قوله تعالى : ( تنزل الملائكة والروح فيها ) هي الكلمة السابعة والعشرون من سورة القدر .

            وهذا ليس عليه دليل شرعي ، فلا حاجة لمثل هذه الحسابات ، فبين أيدينا من الأدلة الشرعية ما يغنينا .

            لكن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب والله أعلم وليس دائماً ، فقد تكون أحياناً ليلة إحدى وعشرين ، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدّم ، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين كما جاء في رواية عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه كما تقدّم ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري 4/260) .

            ورجّح بعض العلماء أنها تتنقل وليست في ليلة معينة كل عام ، قال النووي رحمه الله : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ) المجموع 6/450 .

            وإنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها ، ويجدّوا في العبادة ، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها .

            فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر ، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله .

            وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ) رواه الإمام أحمد ، والترمذي (3513) ، وابن ماجة (3850) وسنده صحيح .

            ثالثاً : اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبى سعيد السابق أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط ، ثم أخبرهم انه كان يلتمس ليلة القدر ، وانه أريها في العشر الأواخر ، وقال : ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه ولهما مثله عن ابن عمر .

            وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة .

            وقال الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله يدخل قبل غروب الشمس ، وأولوا الحديث على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلى بنفسه بعد صلاة الصبح ، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف ، انظر شرح مسلم للنووي 8/68،69 ، وفتح الباري 4/277 . ويسن للمعتكف الاشتغال بالطاعات ، ويحرم عليه الجماع ومقدماته لقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة /177 .

            ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها .

            العلامات التي تعرف بها ليلة القدر :

            العلامة الأولى : ثبت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها . مسلم ( 762 )

            العلامة الثانية : ثبت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة ، ورواه الطيالسي في مسنده ، وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) صحيح ابن خزيمة ( 2912 ) ومسند الطيالسي .

            العلامة الثالثة : روى الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة بلجة " أي مضيئة " ، لا حارة ولا باردة ، لا يرمى فيها بنجم " أي لا ترسل فيها الشهب " ) رواه الطبراني في الكبير انظر مجمع الزوائد 3/179 ، مسند أحمد .

            فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة في بيان العلامات الدالة على ليلة القدر .

            ولا يلزم أن يعلم من أدرك وقامها ليلة القدر أنه أصابها ، وإنما العبرة بالاجتهاد والإخلاص ، سواء علم بها أم لم يعلم ، وقد يكون بعض الذين لم يعلموا بها أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة وذلك لاجتهادهم . نسأل الله أن يتقبّل منا الصيام والقيام وأن يُعيننا فيه على ذكره وشُكْره وحُسْن عبادته . وصلى الله على نبينا محمد .

            تعليق


            • #7
              النفحات الإلهية في العشر الأواخر



              نحن في شهر كثيرٌ خيره، عظيم بره، جزيلة ُ بركته، تعددت مدائحه في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسوله الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، والشهر شهر القران والخير وشهر عودة الناس إلى ربهم في مظهر إيماني فريد، لا نظير له ولا مثيل.
              وقد خص هذا الشهر العظيم بمزية ليست لغيره من الشهور وهي أيام عشرة مباركة هن العشر الأواخر التي يمن الله تعالى بها على عباده بالعتق من النار، وها نحن الآن في هذه الأيام المباركات فحق لنا أن نستغلها أحسن استغلال، وهذا عن طريق مايلي:

              الاعتكاف في أحد الحرمين أو في أي مسجد من المساجد إن لم يتيسر الاعتكاف في الحرمين، فالاعتكاف له أهمية كبرى في انجماع المرء على ربه والكف عن كثير من المشاغل التي لا تكاد تنتهي، فمتى اعتكف المرء انكف عن كثير من مشاغله، وهذا مشاهد معروف، فإن لم يتيسر للمرء الاعتكاف الكامل، فالمجاورة في أحد الحرمين أو المكث ساعات طويلة فيهما أو في أحد المساجد.

              أحياء الليل كله أو أكثره بالصلاة والذكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وأحيا ليله وشد المئزر، كناية عن عدم قربانه النساء صلى الله عليه وسلم وإحياء الليل فرصة كبيرة لمن كان مشغولاً في شئون حياته –وأكثر الناس كذلك- ولا يتمكن من قيام الليل، ولا يستطيعه، فلا أقل من يكثر الناس في العشر الأواخر القيام وأحياء الليل، والعجيب أن بعض الصالحين يكون في أحد الحرمين ثم لا يصلي مع الناس إلا ثماني ركعات مستنداً على بعض الأدلة وقد نسى أن الصحابة والسلف صلوا صلاة طويلة كثير عدد ركعاتها، وهم الصدر الأول الذين عرفوا الإسلام وطبقوا تعاليمه أحسن التطبيق فما كان ليخفى عليهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ولا تأويل أحاديثه الشريفة وحملها على أقرب المحامل وأحسن التأويلات.

              تعليق


              • #8
                قبل أن يرحل رمضان


                دع البكاء على الأطلال والدار *** واذكر لمن بات من خل ومن جار
                وذر الدموع نحيباً وابك من أسف *** على فراق ليال ذات أنوار
                على ليال لشهر الصوم ماجعلت *** إلا لتمحيص آثام وأوزار
                يالائمي في البكاء زدني به كلفاً *** واسمع غريب أحاديث وأخبار
                ما كان أحسننا والشمل مجتمع *** منا المصلي ومنا القانت القاري
                وداعاً يا شهر يا رمضان ! وداعاً يا شهر الخيرات والإحسان ! وداعاً يا ضيفنا الراحل ! مضى كثيرك ولم يبق بين أيدينا منك إلا أيام قلائل ، عشر تجاورنا اليوم وهي إلى الرحيل أقرب من البقاء ، ولئن قال ابن رجب في لطائفه عند الفراق : ياشهر رمضان ترفّق ، دموع المحبين تدفّق ، قلوبهم من ألم الفراق تشقّق . عسى وقفة للوداع تطفيء من نار الشوق ما أحرق ، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ماتخرّق ، عسى منقطع من ركب المقبولين يلحق ، عسى أسير الأوزار يُطلق ، عسى من استوجب النار يُعتق . اهـ فما أحرانا بتدبّر قوله ، وفعل يطفيء حرارة الوداع .
                أيها الشباب قبل أن تُشيعوا ضيفكم الميمون عودوا إلى أنفسكم حفظكم الله وتأملوا ماذا قدّمتم بين يديه ؟ وما هي الأسرار التي بينكم وبين ربكم في أيام شهركم وسيرحل بها رمضان ؟ هاتفني شاب في رمضان بعد سماع إحدى المواعظ وحدثني في الهاتف حديث طويل أذكر من قوله : أشعر من حديثكم أنكم تشعرون بفقد الشهر ، وتتحسّرون على فوات أيامه ؟ فلماذا أنا لا أشعر بذلك ؟ وبعد حديث طويل عن سر فقد الفرحة في قلب من يحاورني قال لي : عفواً أخي في شهر رمضان أسررت المعصية ، وتجاهلت الطاعة ، وكم هي المرات التي لا أشهد فيها صلاة التراويح ، وإن شهدتها فصورة بلا معنى ، وحركات بلا روح ، القرآن عهدي به من زمن بعيد ، وقد حاولت أن أمد يدي إليه مع جملة الذاكرين لكن نفسي حبستني عن الاستمرار وهاأنا لا زلت في بدايته إلى اليوم . أما المعصية فتدفعي لها نفسي دفعاً حتى أنني واقعت أنواعاً من المعاصي مراراً في شهر رمضان فعيني تخطّت ستار المعروف واجتالت في حرمات الله تعالى ، وأذني أبت إلا أن تتجاوز حدها الشرعي فانتهكت ماحرم الله ، ونفسي التي بين جنبيّ جاهدتها كثيراً فكابرت ومانعت واستعصت علىّ ، بل ما زالت بي حتى أوقعتني في الفاحشة ........... ومازال يحدّث حتى أنهار باكياً ، واستعبر أمامي في البكاء ، وأخذ يردد أثناء حديثه أخشى أن لا أكون ممن غفر الله لهم ، أو تقبّل منهم ، أخشى أن يختم الله لي بخاتمة السوء ! فأصبح أسير أحزاني ! أنا لست وحيداً في طريق اليأس فكثير من الشباب أمثالي ، فما زلت به أخفف عنه هذه الآلام حتى عاد يسمع حديثي من جديد فقلت له أخي الشاب لازال في الأمل فسحة ، وفي الوقت بقية ، والعبرة بالخواتيم . وأنا وإياك نشهد هذه العشر المباركة فهل يمكن أن تضع يدي في يدك وتعاهدني على المسير فقال أي والله مسير يعيد لي الفرحة والبسمة في حياتي من جديد لم لا أقبل به ؟ ولما لا أعيشه وقد عشت كل معاني الحرمان في المعصية والدأب عليها ؟ فقلت له أقبل حفظك الله إلى حديث ، أرعني سمعك ، وجُد علىّ بشيء من وقتك فعندي سر السعادة التي تنتظرها ، عندي لك قول الله تعالى : (( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )) دواء للمنكسرين من أمثالك لكن بشرطها الوحيد : التوبة الصادقة التي رأيت من آثارها أثر الدموع بين عينيك . وعندي لك قول رسولك صلى الله عليه وسلم : (( لله اشد فرحاً بتوبة عبده عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة قاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح . متفق عليه من حديث أنس . إذاً لم يبق عليك حفظك الله إلا الإقبال على ما بقي من شهرك إذ هذه الأيام هي الخاتمة ، وهي سر الشهر ، وأفضل أيامه على الإطلاق ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول عنه عائشة رضي الله عنها : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجدّ ، وشد المئزر )) ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة . هذه الليلة العظيمة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ماتقدم من ذنبه )) متفق عليه من حديث أبي هريرة . وقد أخبر الله عن هذه الليلة أنها خير من ألف شهر في كتابه المبين فقال تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ماليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) وأخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن هذه الليلة في ليالي العشر حين قال صلى الله عليه وسلم : (( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان )) أقبل على عشر رمضان حفظك الله بكل جهدك وقوتك واحرص على أن يكون ختام شهرك ختاماً حياً مباركاً ، تزوّّد فيها بالطاعات ، احرص على الفريضة مع الإمام والله الله أن يشهد الله عليك أو حتى أحد من خلقه تخلُفاً عن الجماعة بنوم أو كسل ، إلزم النافلة القبلية والبعدية ، واحرص على أداء صلاة التراويح والقيام مع جموع المسلمين ، ولا زم فيها دعاء : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني فهي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين . أكثر من قراءة القرآن ، ونوّّع في القراء مابين حدر وترتيل ، ولتكن عنايتك بالتدبّر لآيات القران الكريم فإن في ذلك خير كثير . قم برعايتك والديك وقبّل رأسهما كل مساء ، والزمهما بالطاعة والبر فإن ذلك من أعظم فرص استغلال شهر رمضان . صل أرحامك ، وتعاهد جيرانك فإن ذلك من خلق المسلم . وإنني إذ أدعوك إلى التمعّّّن في هذه الأحاديث إنما أدعوك للتحرر من الكسل واستقبال الآخرة ، والإقبال على عشر رمضان الأخيةر ففيها بإذن الله تعالى سر السعادة المرتقبة التي تبحث عنها ، وإنما حين أقرر لك أن هذا هو طريق السعادة آمل منك أن تجرّب هذا الطريق ولن تجد أجمل منه ولا أسعد على وجه هذه الحياة ، وهؤلاء الذين تراهم في مجتمعك تبرق أسارير وجوههم يالاستقامة هم كانوا مثل ما أنت فيه الآن من الحيرة والاضطراب ، والهم والغم ، وخاضوا هذه التجربة في بداية حياتهم وحينما وجدوا المفقود والسر الغائب في حياتهم قرروا التوبة ، وهم اليوم وكل يوم يرددون قول القائل : والله إنها لتمر بي ساعات يرقص فيها القلب فرحاً من ذكر الله . ويلهجون بقول الله تعالى : (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) وفقك الله وسدد خطاك وعلى طريق الخير بإذن الله تعالى نلقاك .

                تعليق


                • #9
                  وظائف العشر الأواخر من رمضان
                  والعيد وما بعده


                  ها هو شهر رمضان قد اصفرّت شمسه ، وآذنت بالغروب فلم يبق إلا ثلثه الأخير ، فماذا عساك قدمت فيما مضى منه ، وهل أحسنت فيه أو أسأت ، فيا أيها المحسن المجاهد فيه هل تحس الآن بتعب ما بذلته من الطاعة . ويا أيها المفرّط الكسول المنغمس في الشهوات هل تجد راحة الكسل والإضاعة وهل بقي لك طعم الشهوة إلى هذه الساعة .
                  تفنى اللذاذات ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
                  تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
                  فلنستدرك ما مضى بما بقى ، وما تبقى من ليال أفضل مما مضى ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها . وفي رواية مسلم : ( كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه :أحدها : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر ، وهذا قيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة ، وقيل : كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات . وثالثها : أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة . ورابعها : أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر .
                  وعليه فاغتنم بقية شهرك فيما يقرِّبك إلى ربك ، وبالتزوُّد لآخرتك من خلال قيامك بما يلي :
                  1- الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر القربات والطاعات ، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل . قال الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك . وليحرص على أن يصلي القيام مع الإمام حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) رواه أهل السنن وقال الترمذي : حسن صحيح .
                  2- اجتهد في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر . قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر . وقال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم [إيماناً]أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و[احتساباً] للأجر والثواب وهذه الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه . وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري . وهي في السبع الأواخر أقرب , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر , فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم . وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : ( والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ) رواه مسلم .
                  وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته .
                  قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل ...ا.هـ. قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها , بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ...ا.هـ وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعاً وكثرة الأعمال الصالحة فيها وستظفر بها يقيناً بإذن الله عز وجل .
                  والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر .
                  3- احرص على الاعتكاف في هذه العشر . والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله تعالى . وهو من الأمور المشروعة . وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أزواجه من بعده , ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله - عز وجل – ثم اعتكف أزواجه من بعده ) ولما ترك الاعتكاف مرة في رمضان اعتكف في العشر الأول من شوال , كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين .
                  قال الإمام أحمد – رحمه الله - : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون والأفضل اعتكاف العشر جميعاً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل لكن لو اعتكف يوماً أو أقل أو أكثر جاز . قال في الإنصاف : أقله إذا كان تطوعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمى به معتكفاً لابثاً. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم .
                  وينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والاستغفار والقراءة والصلاة والعبادة , وأن يحاسب نفسه , وينظر فيما قدم لآخرته , وأن يجتنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا , ويقلل من الخلطة بالخلق . قال ابن رجب : ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس , حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن , بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتحلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه , وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية ...ا.هـ .

                  ختام الشهر
                  ها هو شهر رمضان قد قوِّصت خيامه ، وغابت نجومه . وها أنت في ليلة العيد ، فالمقبول منا هو السعيد . وإن الله قد شرع في ختام الشهر عبادات تقوي الإيمان وتزيد الحسنات . ومنها :
                  1- التكبير ، من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد قال تعالى :{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[البقرة:185] .
                  ومن الصفات الواردة فيه : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .
                  2- زكاة الفطر ، وهي صاع من طعام ويبلغ قدره بالوزن :كيلوين وأربعين غرماً من البر الجيد . فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراماً من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث تملؤه ثم يكيل به . والأفضل أن يخرجها صباح العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما :(( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة )) متفق عليه . ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين .
                  3- صلاة العيد . وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته رجالاً ونساء مما يدل على تأكدها . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنها واجبة على جميع المسلمين وأنها فرض عين . وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن القيم أيضاً .
                  ومما يدل على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العوائق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن المصلى , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) متفق عليه .
                  والسنة : أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر , يقطعهن على وتر , لحديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً ) رواه البخاري .
                  ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب . كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله , ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما هذه لباس من لا خلاق له ) وإنما قال ذلك لكونها حريراً. وهذا الحديث رواه البخاري . وبوب عليه : باب في العيدين والتجمل فيهما . وقال ابن حجر : وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين .
                  وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد متبذّلة , غير متجملة ولا متطيبة , ولا متبرجة , لأنها مأمورة بالستر , والبعد عن الطيب والزينة عند خروجها .
                  ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد مسافة لقول علي رضي الله عنه :
                  ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن . والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم , يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً , وأن لا يركب إلا من عذر ... ا.هـ .
                  وينبغي مخالفة الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه . فعن جابر رضي الله عنه قال :
                  ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) رواه البخاري . وفي رواية الإسماعيلي كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه . قال ابن رجب وقد استحب كثير من أهل العلم لللإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره . وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
                  ويستحب التهنئة والدعاء يوم العيد . فعن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك . قال أحمد : إسناده جيد . وقال ابن رجب : وقد روي عن جماعة من الصحابة التابعين أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .
                  تنبيهات مهمة على أمور تحصل في يوم العيد
                  1- لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة , حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , فكم حصل من جرّاء التساهل بذلك من أمور لا تحمد عقباها . قال الله تعالى : (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )[الأحزاب : 33] وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) رواه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) [ الأحزاب : 39] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
                  2- الحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء , وهو محرم كل وقت وحين . وإنما حصل التنبيه هنا لكثرة اجتماع الناس في هذا اليوم وتكرر الزيارات واللقاءات العائلية والرحلات البرية فيه .
                  3- تحرم المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي . وهي عادة قبيحة مذمومة . وإذا كان النظر إلى الأجنبية محرماً فالمصافحة أعظم فتنة . ولما طلبت النساء المؤمنات من النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة على الإسلام أن يصافحهن امتنع وقال : ( إني لا أصافح النساء ) أخرجه مالك وأحمد والنسائي والترمذي بنحوه . وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حبان . قال ابن عبد البر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ) دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له , ولا يمسها بيده ولا يصافحها . وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي , وقال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح . وصححه الألباني .
                  4- صلة الرحم فريضة وأمر حتم , وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب , قال صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) متفق عليه . ويوم العيد فرصة لصلة الرحم وزيارة الأقارب وإدخال السرور عليهم . وهذا من جلائل الأعمال وسبب في بسط الرزق وتأخير الأجل , قال صلى الله عليه وسلم :( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه . ولا تكن صلتك لأقاربك مكافأة لهم على قيامهم بحقك, بل صلهم ولو قطعوك , قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري . واعلم أن من صلة الرحم الاتصال الهاتفي على الأقارب عند تعذر المقابلة , والاطمئنان على صحتهم , وسؤالهم عن أحوالهم , وتهنئتهم عند المحاب , ومواساتهم عند الشدائد والمكاره .
                  5- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب , وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أوشحناء , فلتغتنم هذه الفرصة , ولتجدد المحبة , وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران ,مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران . وقد قال النبي صلى
                  الله عليه وسلم :
                  ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) رواه مسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد : ( فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ) وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم:( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) رواه أبو داود , وصححه الألباني .
                  وماذا بعد رمضان ؟!
                  لقد تقضى شهر رمضان بأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه , ولئن كان ذلك الشهر موسماً عظيماً من مواسم الخير والطاعة فإن الزمان كله فرصة للخير والتزود للدار الآخرة , وليست العبادة خاصة بشهر رمضان بل الحياة كلها عبادة قال الله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [الحجر :99]. فعليك أيها المسلم أن تواصل أعمال الخير من الصلوات والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن وسائر القربات . فإن من علامة قبول العمل اتباع الحسنة بالحسنة .
                  فبادر بالعمل قبل حلول الأجل , واغتنم حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل حصول أضدادها . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (
                  اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك ). رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وحسن إسناده العرابي .
                  أيها الصائم القائم , لئن كان رمضان موسماً للصيام والقيام فإن العام كله موسم للأعمال الصالحة , وإليك طائفة من الأعمال المشروعة في مجال الصلاة والصيام فاحرص على فعلها وتحقيقها :
                  1- صيام ستة أيام من شوال : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر )
                  2- صيام ثلاثة أيام من كل شهر : قال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان , فهذا صيام الدهر كله ) رواه مسلم وقال أبو هريرة رضي الله عنه : (أوصاني خليلي بثلاث ... وذكر : ثلاثة أيام من كل شهر ) متفق عليه . والأفضل أن تكون في أيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(يا أبا ذر , إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ) رواه الترميذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان .
                  3- صيام الاثنين والخميس : فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس ) رواه الترمذي وحسنه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) رواه الترمذي وحسنه .
                  4- صيام يوم عرفة , ويوم عاشوراء : ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة , فقال : ( يكفر السنة الماضية والباقية ) وسئل صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء , فقال صلى الله عليه وسلم : ( يكفر السنة الماضية ) .
                  5- صيام شهر محرم : ففي مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ) .
                  6- صيام شهر شعبان : ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل شهراً قط إلا شهر رمضان , وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان , وفي لفظ : كان يصومه كله إلا قليلاً )
                  7- صيام يوم وإفطار يوم : قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصيام عند الله صوم داود – عليه السلام – كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) متفق عليه .
                  8- قيام الليل في كل ليلة من ليالي العام : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ) وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا – تبارك وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر , فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ) . وصلاة الليل تشمل التطوع كله والوتر . وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة .
                  9- السنن الرواتب التابعة للفرائض : وهي ثنتا عشرة ركعة أربع قبل الظهر , وركعتان بعدها , وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء , وركعتان قبل صلاة الفجر . فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد مسلم يصلي لله – تعالى – كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ) رواه مسلم .
                  10- سنة الضحى : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( أوصاني خليلي بثلاث ... وذكر منها : وصلاة الضحى ) متفق عليه . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله )) رواه مسلم .
                  تقبل الله من الجميع صالح الأعمال ، وصلى الله وسلم على نبى الله الحبيب

                  تعليق


                  • #10
                    وظائف العشر الأواخر من رمضان
                    والعيد وما بعده


                    ها هو شهر رمضان قد اصفرّت شمسه ، وآذنت بالغروب فلم يبق إلا ثلثه الأخير ، فماذا عساك قدمت فيما مضى منه ، وهل أحسنت فيه أو أسأت ، فيا أيها المحسن المجاهد فيه هل تحس الآن بتعب ما بذلته من الطاعة . ويا أيها المفرّط الكسول المنغمس في الشهوات هل تجد راحة الكسل والإضاعة وهل بقي لك طعم الشهوة إلى هذه الساعة .
                    تفنى اللذاذات ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
                    تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
                    فلنستدرك ما مضى بما بقى ، وما تبقى من ليال أفضل مما مضى ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها . وفي رواية مسلم : ( كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )وهذا يدل على أهمية وفضل هذه العشر من وجوه :أحدها : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر ، وهذا قيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة ، وقيل : كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن . وثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات . وثالثها : أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة . ورابعها : أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر .
                    وعليه فاغتنم بقية شهرك فيما يقرِّبك إلى ربك ، وبالتزوُّد لآخرتك من خلال قيامك بما يلي :
                    1- الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر القربات والطاعات ، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل . قال الثوري : أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك . وليحرص على أن يصلي القيام مع الإمام حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنه من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) رواه أهل السنن وقال الترمذي : حسن صحيح .
                    2- اجتهد في تحري ليلة القدر في هذه العشر فقد قال الله تعالى :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر:3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر . قال النخعي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر . وقال صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم [إيماناً]أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و[احتساباً] للأجر والثواب وهذه الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه . وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري . وهي في السبع الأواخر أقرب , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر , فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم . وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : ( والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ) رواه مسلم .
                    وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته .
                    قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل ...ا.هـ. قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها , بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها ...ا.هـ وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعاً وكثرة الأعمال الصالحة فيها وستظفر بها يقيناً بإذن الله عز وجل .
                    والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر .
                    3- احرص على الاعتكاف في هذه العشر . والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله تعالى . وهو من الأمور المشروعة . وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أزواجه من بعده , ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله - عز وجل – ثم اعتكف أزواجه من بعده ) ولما ترك الاعتكاف مرة في رمضان اعتكف في العشر الأول من شوال , كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين .
                    قال الإمام أحمد – رحمه الله - : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون والأفضل اعتكاف العشر جميعاً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل لكن لو اعتكف يوماً أو أقل أو أكثر جاز . قال في الإنصاف : أقله إذا كان تطوعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمى به معتكفاً لابثاً. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم .
                    وينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والاستغفار والقراءة والصلاة والعبادة , وأن يحاسب نفسه , وينظر فيما قدم لآخرته , وأن يجتنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا , ويقلل من الخلطة بالخلق . قال ابن رجب : ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس , حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن , بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتحلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه , وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية ...ا.هـ .

                    ختام الشهر
                    ها هو شهر رمضان قد قوِّصت خيامه ، وغابت نجومه . وها أنت في ليلة العيد ، فالمقبول منا هو السعيد . وإن الله قد شرع في ختام الشهر عبادات تقوي الإيمان وتزيد الحسنات . ومنها :
                    1- التكبير ، من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد قال تعالى :{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[البقرة:185] .
                    ومن الصفات الواردة فيه : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .
                    2- زكاة الفطر ، وهي صاع من طعام ويبلغ قدره بالوزن :كيلوين وأربعين غرماً من البر الجيد . فإذا أراد أن يعرف الصاع النبوي فليزن كيلوين وأربعين غراماً من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث تملؤه ثم يكيل به . والأفضل أن يخرجها صباح العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما :(( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة )) متفق عليه . ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين .
                    3- صلاة العيد . وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته رجالاً ونساء مما يدل على تأكدها . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنها واجبة على جميع المسلمين وأنها فرض عين . وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن القيم أيضاً .
                    ومما يدل على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العوائق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن المصلى , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) متفق عليه .
                    والسنة : أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر , يقطعهن على وتر , لحديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً ) رواه البخاري .
                    ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب . كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله , ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما هذه لباس من لا خلاق له ) وإنما قال ذلك لكونها حريراً. وهذا الحديث رواه البخاري . وبوب عليه : باب في العيدين والتجمل فيهما . وقال ابن حجر : وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين .
                    وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد متبذّلة , غير متجملة ولا متطيبة , ولا متبرجة , لأنها مأمورة بالستر , والبعد عن الطيب والزينة عند خروجها .
                    ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد مسافة لقول علي رضي الله عنه :
                    ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن . والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم , يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً , وأن لا يركب إلا من عذر ... ا.هـ .
                    وينبغي مخالفة الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه . فعن جابر رضي الله عنه قال :
                    ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) رواه البخاري . وفي رواية الإسماعيلي كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه . قال ابن رجب وقد استحب كثير من أهل العلم لللإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره . وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
                    ويستحب التهنئة والدعاء يوم العيد . فعن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك . قال أحمد : إسناده جيد . وقال ابن رجب : وقد روي عن جماعة من الصحابة التابعين أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .
                    تنبيهات مهمة على أمور تحصل في يوم العيد
                    1- لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة , حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , فكم حصل من جرّاء التساهل بذلك من أمور لا تحمد عقباها . قال الله تعالى : (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )[الأحزاب : 33] وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) رواه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح . وصححه ابن خزيمة وابن حبان . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) [ الأحزاب : 39] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
                    2- الحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء , وهو محرم كل وقت وحين . وإنما حصل التنبيه هنا لكثرة اجتماع الناس في هذا اليوم وتكرر الزيارات واللقاءات العائلية والرحلات البرية فيه .
                    3- تحرم المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي . وهي عادة قبيحة مذمومة . وإذا كان النظر إلى الأجنبية محرماً فالمصافحة أعظم فتنة . ولما طلبت النساء المؤمنات من النبي صلى الله عليه وسلم في المبايعة على الإسلام أن يصافحهن امتنع وقال : ( إني لا أصافح النساء ) أخرجه مالك وأحمد والنسائي والترمذي بنحوه . وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حبان . قال ابن عبد البر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ) دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له , ولا يمسها بيده ولا يصافحها . وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي , وقال المنذري : رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح . وصححه الألباني .
                    4- صلة الرحم فريضة وأمر حتم , وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب , قال صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) متفق عليه . ويوم العيد فرصة لصلة الرحم وزيارة الأقارب وإدخال السرور عليهم . وهذا من جلائل الأعمال وسبب في بسط الرزق وتأخير الأجل , قال صلى الله عليه وسلم :( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه . ولا تكن صلتك لأقاربك مكافأة لهم على قيامهم بحقك, بل صلهم ولو قطعوك , قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) رواه البخاري . واعلم أن من صلة الرحم الاتصال الهاتفي على الأقارب عند تعذر المقابلة , والاطمئنان على صحتهم , وسؤالهم عن أحوالهم , وتهنئتهم عند المحاب , ومواساتهم عند الشدائد والمكاره .
                    5- العيد مناسبة طيبة لتصفية القلوب , وإزالة الشوائب عن النفوس وتنقية الخواطر مما علق بها من بغضاء أوشحناء , فلتغتنم هذه الفرصة , ولتجدد المحبة , وتحل المسامحة والعفو محل العتب والهجران ,مع جميع الناس من الأقارب والأصدقاء والجيران . وقد قال النبي صلى
                    الله عليه وسلم :
                    ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) رواه مسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث , يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا , وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد : ( فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار ) وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم:( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) رواه أبو داود , وصححه الألباني .
                    وماذا بعد رمضان ؟!
                    لقد تقضى شهر رمضان بأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه , ولئن كان ذلك الشهر موسماً عظيماً من مواسم الخير والطاعة فإن الزمان كله فرصة للخير والتزود للدار الآخرة , وليست العبادة خاصة بشهر رمضان بل الحياة كلها عبادة قال الله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [الحجر :99]. فعليك أيها المسلم أن تواصل أعمال الخير من الصلوات والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن وسائر القربات . فإن من علامة قبول العمل اتباع الحسنة بالحسنة .
                    فبادر بالعمل قبل حلول الأجل , واغتنم حياتك وشبابك وفراغك وصحتك وغناك قبل حصول أضدادها . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (
                    اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك ). رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وحسن إسناده العرابي .
                    أيها الصائم القائم , لئن كان رمضان موسماً للصيام والقيام فإن العام كله موسم للأعمال الصالحة , وإليك طائفة من الأعمال المشروعة في مجال الصلاة والصيام فاحرص على فعلها وتحقيقها :
                    1- صيام ستة أيام من شوال : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر )
                    2- صيام ثلاثة أيام من كل شهر : قال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان , فهذا صيام الدهر كله ) رواه مسلم وقال أبو هريرة رضي الله عنه : (أوصاني خليلي بثلاث ... وذكر : ثلاثة أيام من كل شهر ) متفق عليه . والأفضل أن تكون في أيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(يا أبا ذر , إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ) رواه الترميذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان .
                    3- صيام الاثنين والخميس : فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس ) رواه الترمذي وحسنه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) رواه الترمذي وحسنه .
                    4- صيام يوم عرفة , ويوم عاشوراء : ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة , فقال : ( يكفر السنة الماضية والباقية ) وسئل صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء , فقال صلى الله عليه وسلم : ( يكفر السنة الماضية ) .
                    5- صيام شهر محرم : ففي مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ) .
                    6- صيام شهر شعبان : ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل شهراً قط إلا شهر رمضان , وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان , وفي لفظ : كان يصومه كله إلا قليلاً )
                    7- صيام يوم وإفطار يوم : قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصيام عند الله صوم داود – عليه السلام – كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) متفق عليه .
                    8- قيام الليل في كل ليلة من ليالي العام : ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ) وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا – تبارك وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر , فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ) . وصلاة الليل تشمل التطوع كله والوتر . وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة .
                    9- السنن الرواتب التابعة للفرائض : وهي ثنتا عشرة ركعة أربع قبل الظهر , وركعتان بعدها , وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء , وركعتان قبل صلاة الفجر . فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد مسلم يصلي لله – تعالى – كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ) رواه مسلم .


                    تقبل الله من الجميع صالح الأعمال ، وصلى الله وسلم على نبى الله الحبيب

                    تعليق


                    • #11
                      ثلاث رسائل ما بعد رمضان



                      بسم الله الرحمن الرحيم

                      (1) الرسالة الأولى : \" إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ \"
                      أيها الأحبة الأفاضل الأكارم ها هو شهر رمضان قد ودعنا وصعد إلى الله تعالى بأعمالنا , وقد سبق فيه من سبق , وفاز فيه من فاز , وخسر فيه من خسر , فمن المقبول فنهنيه ومن الخاسر فنعزيه ؟ , فالله تبارك وتعالى لا يتقبل إلا من المتقين المخلصين, قال تعالى: \" { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27) سورة المائدة.
                      وعَنْ شَدَّادٍ أَبِى عَمَّارٍ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ. أخرجه النسائي 6/25 وفي \"الكبرى\" 4333 .
                      وعَنْ ثَوْبَانَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: \" لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي ، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا\". أخرجه ابن ماجة (4245) الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 2 / 18, وانظر حديث رقم : 5028 في صحيح الجامع .
                      وأثر عن علي رضي الله عنه:\"كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول \"إنما يتقبل الله من المتقين\" (المائدة /27).
                      خرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: أيُّها الناس صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! .
                      وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟.

                      غدا توفى النفوس ما كسبت * * * و يحصد الزارعون ما زرعوا
                      إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم * * * و إن أساءوا فبئس ما صنعوا
                      قال ابنُ رجب رحمه الله : لقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان ، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم .

                      ( 2 ) الرسالة الثانية : \" وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ\":

                      إن من أعظم الجرم , وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم ، وأن يرتد بعد الإقبال مدبراً وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجراً وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضاً ؛ فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيا حياة كاملة بالإيمان ولم تستنر نورها التام بالقرآن , وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة , وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفاً وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهناً لأننا أيها الإخوة على مدى شهر كامل دورة تدريبية على الطاعة والمسارعة إلى الخيرات والحرص على الطاعات ودوام الذكر والتلاوة, ومواصلة الدعاء والتضرع والابتهال والمسابقة في الإنفاق والبذل والإحسان ثم ينكس المرء بعد ذلك على عقبه .
                      فاحذر أيها – الحبيب - من العودة إلى المعاصي وإلى الغفلة والانتكاسة بعد الهداية , والاعوجاج بعد الاستقامة, يقول تعالى : \" وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) سورة المائدة .

                      يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت* * *فيه الضمائر والإخلاص للعمل
                      أرمضت يا رمضان السيئات لنا* * *بشر بنا للتقى علا على نهل
                      ولقد قال الله تعالى واصفاً حال بعض الناس في العبادة : \" ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) سورة الحج .
                      قال السعدي رحمه الله في تفسيره : أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه، إما خوفا، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ } أي: إن استمر رزقه رغدا، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه. فهذا، ربما أن الله يعافيه، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه، { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } من حصول مكروه، أو زوال محبوب { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي: ارتد عن دينه، { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ } أما في الدنيا، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله، وعوضا عما يظن إدراكه، فخاب سعيه، ولم يحصل له إلا ما قسم له، وأما الآخرة، فظاهر، حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واستحق النار، { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي: الواضح البين. فهذا حال المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه. وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر. تفسير السعدي 534 .
                      فلا تكن كعبد السوء إن أعطي رضي وإن منع قنط وسخط , بل وطن نفسك مع الصادقين المخلصين .
                      ولا تجعل نفسك في زمرة هؤلاء المنتكسين , الذين بدلوا نعمة الله كفرا , وأحلوا النقم مكان النعم .

                      ( 3 ) الرسالة الثالثة : \" أحب الأعمال إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ\":

                      الله تعالى بحكته ورحمته لم يكلف الناس من العبادات والطاعات والتشريعات ما لا يطيقون , بل كلفهم بما يستطيعونه ويقدرون عليه , قال تعالى : \" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ أنَهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحَبُّ إلى اللَّهِ ؟ قَالَ : أدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ . وَقَالَ : اكْلُفُوا مِنَ الأعمال مَا تُطِيقُونَ. أخرجه أحمد 6/176 والبخاري 8/122 و\"مسلم\" 2/189.
                      إن الكثير منا ليشعر بالتقصير ويؤنبه ضميره دائما لتقصيره في العبادات والتقرب من الله الطاعات فتأتيه مشاعر صادقة بعد موجة الندم تلك فنجده قد التزم بالأعمال الصالحة الكثيرة , فهو قد ألزم نفسه بالصوم المتواصل والقيام الدائم والذكر الكثير , حتى إنه يملاْ أيامه الأولى كلها بتلك الأعمال الصالحة ،،ولكنه وللأسف ما إن يمضي بعض الوقت إلا ونجده قد خفت همته وبدأ حماسه يقل ,وهذه آفة قد تعتري البعض منا ,, فما يأتي فجأة يذهب فجأة كما قيل،وهنا يقال لا ينبغي لمن كان يعمل صالحاً أن يتركه؛وليحرص على مداومته لتلك الأعمال الصالحة ولو كانت تلك الأعمال قليلة , فقليل دائم خير من كثير منقطع .
                      عن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ:قَالَ لِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا عَبْدَ اللهِ ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. ( متفق عليه ) .
                      إن المسلم الحق هو الذي يستغل مواسم الطاعات , وفترات إقبال العبادات , قال تعالى : \" وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) سورة إبراهيم .
                      عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : الْتَمِسُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ ، فَإِنَّ لِلَّهِ نفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ. قال الألباني في \" السلسلة الصحيحة \" 4 / 511 :رواه الطبراني في \" الكبير \" ( رقم - 720 ) .
                      فالإيمان يزيد وينقص , يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي والسيئات , فلا يمكن لٌيمان أن يسير على وتيرة واحدة بل لا بد من الزيادة والنقصان , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو . قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ ، يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا . فَقَالَ : تِلْكَ ضَرَاوَةُ الإِسْلاَمِ وَشِرَّتُهُ ، وَلكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ ، وَلكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ وَسُنَّةٍ ، فَلأُمٍّ مَا هُوَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْمَعَاصِي ، فَذَلِكَ الْهَالِكُ.أخرجه أحمد2/165(6539).
                      والعاقل هو من يستغل فترة زيادة الإيمان , كان علي رضي الله عنه يقول : \" إن للقلوب إقبالا وإدبارا ، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض .

                      والمداومة على الخير وإن كان قليلاً أفضل عند الله تعالى من تركه بالكلية , فلرب شق تمرة تنقذ صاحبها من غضب الجبار , ومن دخول النار , عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ:مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ.أخرجه \"البُخَارِي\"8/14(6023) و\"مسلم\" 3/86(2312) .
                      أيها الحبيب , لربما يوفق الله تعالى عبداً من خلقه إلى عمل من أعمال الخير يداوم عليه , ثم يقبضه وهو مقيم على هذا العمل الصالح فيدخل به الجنة , عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ، قِيلَ : وَمَا اسْتَعْمَلُهُ ؟ قَالَ : يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ ، حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ. أخرجه أحمد 5/224(22295) . وعَبْد بن حُمَيْد (481).

                      وأخيراً – أيها الغالي الحبيب - قل لنفسك :

                      لا تقل من أين ابدأ؟ * * * طاعة الله البداية
                      لا تقل أين طريقي؟ * * * شرعة الله الهداية
                      لا تقل أين نعيمي؟ * * * جنة الله الكفاية
                      لا تقل في الغد ابدأ * * * ربما تأتي النهاية

                      اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي , اللهم أعنا على ذكرك وشكرك , وحسن عبادتك .

                      تعليق


                      • #12
                        احسنت الاختيار اخي الفاضل

                        بارك الله لكم على الجهود المبذوله اثراءكم الموقع روائع المواضيع
                        ولا حرمكم ربي الاجر
                        وجعلها في موازين حسناتك يوم القيامة




                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق

                        يعمل...
                        X