إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قتيبة بن مسلم ... اسطورة الفتح الاسلامى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قتيبة بن مسلم ... اسطورة الفتح الاسلامى


    قتيبة بن مسلم
    أسطورة الفتح الإسلامي




    ليس من قبيل المبالغة أن يطلق على القائد "قتيبة بن المسلم الباهلي" العديد من الألقاب تكريمًا له، وذلك نظرًا للإنجازات المذهلة التي حققها في الفتح الإسلامي، والتي جعلت منه فاتح المشرق الإسلامي، فقد وصل بفتوحاته إلى الصين، وهي الفتوحات التي كانت السبب في دخول الكثير من الأقوام في دين الله تعالى لما رأوا في شخصية الفاتحين وقائدهم تجسيدًا لعظمة الدين الإسلامي.

    فمن "كبير المجاهدين" إلى "عملاق الفتوح"، تتوالى الألقاب على ذلك القائد المسلم، الذي صار اسمه علمًا على الفاتحين المسلمين لدرجة أن البعض لقب "طارق بن زياد" فاتح الأندلس باسم "قتيبة المغرب"، وليس هناك دليل على عظم قدر "قتيبة" أكثر من ذلك اللقب, وبالتالي صار من حق ذلك الفاتح العظيم أن يلقى بالضوء على حياته لكي يرى المسلمون منها لمحات تؤكد أن لهذه الأمة الإسلامية من التاريخ ما يجعلها قادرة على تجاوز أية عثرات تمر بها.



    بداية رحلة قتيبة بن مسلم الجهادية

    ولد هذا الفاتح العظيم في العام 48هـ, وفي بعض الأقوال 46 هـ، وقد كانت الفترة التي نشأ فيها فترة اضطراب سياسي عظيم في الدولة الإسلامية، وكان والده "مسلم بن عمرو" من الذين رافقوا "مصعب بن الزبير" الذي عينه "عبد الله بن الزبير" واليًا على العراق في تلك الفترة المضطربة من التاريخ الإسلامي.
    وترجع بدايات الرحلة الجهادية لـ"قتيبة بن مسلم" عندما اختاره القائد الكبير "المهلب بن أبي صفرة" كواحد من خيرة المقاتلين، وأرسله إلى والي العراق آنذاك "الحجاج بن يوسف الثقفي"، فأخضعه للعديد من الاختبارات التي أثبتت بعد نظر "ابن أبي صفرة" في حنكة ومهارة "قتيبة" حيث ولاه "عبد الملك بن مروان" ولاية الري، التي أبلى فيها بلاء حسنًا، فما كان من "الحجاج" إلا أن جعله واليًا على إقليم خراسان في العام 86 هجرية، لينطلق محلقًا في سماء الفتوحات منذ ذلك الحين.
    ويرجع السبب في أن ولاية خراسان كانت المنطلق الرئيسي في رحلة الفتوحات, أن هذه الولاية لم تكن مستقرة ولم تكن قد دانت كلها بالسيطرة للمسلمين، وبالتالي كانت في حاجة إلى الكثير من الجهد إما لاستكمال الفتوحات أو تأمين المناطق التي تم فتحها بالفعل.
    ومن بين السمات التي ساعدت قتيبة في القيام بفتوحاته حنكته وخبرته بالرجال سواء بين الأصدقاء أو في أوساط الأعداء، فعندما أخبروه بأن تمردًا وقع في خراسان وأشير عليه بإسناد أمر إخماد التمرد للقائد "وكيع بن الأسود" الرجل الثاني في جيش "قتيبة"، رفض الفاتح قائلاً: إن وكيعًا به من الكبر ما قد يجعله يقلل من قدرات أعدائه، مما قد يجعلهم يأخذونه على غرة.



    وهذا الموقف يشير إلى أن "قتيبة" كان حكيمًا في اختيار رجاله, فقد اختار مساعده من قبيلة بني تميم تلك القبيلة المتمرسة في القتال، والتي لعبت دورًا كبيرًا في الفتوح الإسلامية، إلا أنه رفض وضعه في موضع إخماد التمرد، مما يعني أنه كما يعرف للرجال مقدارهم فإنه يعرف قدراتهم.
    وبالإضافة إلى ذلك، أفلت "قتيبة" من فخ أعده له أحد العملاء المزدوجين ويسمى "تندر" أو "تنذر"؛ فقد كان هذا الرجل عميلاً لدى "قتيبة" أثناء حصاره لمدينة تسمى بيكند كانت تتبع بخارى فقام أهل البلدة بتجنيد هذا العميل، فحاول إيهام "قتيبة" بأن "الحجاج بن يوسف" قد خلع من ولاية العراق لكي يدفع "قتيبة" لفك الحصار عن المدينة والعودة للعراق، إلا أن القائد المسلم أدرك بحنكته أن الرجل يكذب، فاستمر في حصار المدينة وأمر بقتل الخائن، وسرعان ما فتحت المدينة، بل وعادت على المسلمين بالمال الوفير الذي ساهم في الانطلاق نحو حدود الصين؛ لأن هذه المدينة كانت مهمة اقتصاديًّا وكان يطلق عليها "مدينة التجار".
    كذلك كان يعرف كيفية دعم المقاتلين واختيار كل مقاتل للمهمة التي عليه القيام بها، فلكي يحفز المقاتلين على المزيد من الفتوحات، طلب من "الحجاج بن يوسف" أن يوزع الغنائم على المقاتلين المجاهدين للتخفيف من حدة ألمهم جراء الغربة وفراق الأهل، فوافق "الحجاج" مما كان له أكبر الأثر في دعم الروح المعنوية للجنود، ونفس الأسلوب اتبعه مع الرجال في فتح بخارى.



    فنعود مرة أخرى إلى بيكند, حيث كان حكام المدينة قد حشدوا كل جيوشهم في معسكر واقع على نهر بالمدينة، فصار هذا المعسكر أمنع نقطة في المدينة وبالتالي كان اقتحامه يعني فتح المدينة، لكن القيام بهذه المهمة كان في نظر الكثيرين ضرب من المستحيل.
    فما كان من قتيبة إلا أن اختار قبيلة بني تميم ذات الباع الطويل في القتال لكي تفتح تلك المدينة وتقتحم ذلك المعسكر الحصين، ونادى فيهم أن "من جاء برأس كافر فله 100 دينار"، كما أن "وكيعا"، قد دعا قومه -بني تميم- للانضمام إلى الجهاد مطلقًا صيحته الشهيرة: "من كان يريد الموت فليتبعني، ومن كان كارهًا فليثبت في مكانه"، وذلك حسب رواية "ابن أعثم"، مما كان له أكبر الأثر في سقوط المدينة ومن ثم فتح بخارى كلها، وكان ذلك في العام 87 هجرية.
    الصين والأتراك :
    واستمرت فتوحات "قتيبة بن مسلم الباهلي" في بلاد ما وراء النهر جيحون وسيحون، حتى استقر المقام للمسلمين هناك، ومن البلدات والمدن التي فتحها الطالقان والصغانيان وشومان وكفتان وسمرقند, وقد بلغ عظم فتوحاته مستوى جعل ملك الصين، مهاب الجانب في منطقته، يرسل بالهدايا إلى الفاتح العظيم حتى يدفعه إلى التراجع عن قسمه بأن يدخل المسلمون الصين، وأرسل له حفنة من تراب الصين ليطأها حتى يكون قد أبر بقسمه.
    غير أن القائد العظيم لم يتراجع واستمر يقاتل في تلك المناطق، وراح يخطط لكي ينطلق من فرغانة -وهو إقليم يمتد حاليًا بين أوزبكستان وطاجكيستان وقرغيزيا- نحو فتح الصين كلها، إلا أن التغيرات السياسية التي وقعت في هذه الفترة عقب وفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وتولي "سليمان بن عبد الملك" من بعده، قد أطاحت بـ"قتيبة" من منصبه واليًا على خراسان ومن قيادة الجيش، ليتوقف عند التخوم الغربية للإمبراطورية الصينية، وتحديدًا عند منطقة كاشغر، التي تقع في تركستان الشرقية داخل حدود الصين الحالية.
    وكان من بين الإيجابيات التي نجمت عن الفتوحات التي قادها "قتيبة بن مسلم" في تلك الأصقاع أن دخل الأتراك في الدين الإسلامي، فبعد أن دانت السيطرة للمسلمين على بلاد فارس، ودخل الفرس في دين الله في عهد الخلفاء الراشدين، دخل الأتراك في الإسلام على يد ذلك الفاتح العظيم، حيث كان نهر المرغاب هو الحد الفاصل بين الأتراك والفرس، فتجاوزه "قتيبة" في فتوحاته ودخل الأتراك الإسلام.
    وأدى دخول الأتراك الإسلام إلى العديد من الفتوحات الرئيسية في تاريخ المسلمين بعد ذلك، ومن أبرز تلك الفتوحات ما قام به العثمانيون في أوربا من الوصول إلى حدود النمسا، والسيطرة على أجزاء كبيرة للغاية من القارة الأوربية، إلى جانب ما قامت به فروعهم من فتح الهند وغيرها من الفتوحات في آسيا الوسطى.

    نهاية رحلة قتيبة بن مسلم

    وعلى الرغم مما يشاع عن أن "قتيبة" قد تمرد على الخليفة الأموي الجديد "سليمان بن عبد الملك" بسبب فتنة داخلية ضربت بين القبائل العربية في تلك الفترة، إلا أن هناك من الأقوال ما يشير إلى أنه لم يتمرد، وأن ما سرى من أنباء عن تمرده كان جزءًا من تلك الفتنة التي انتهى فصل من فصولها بمقتل "قتيبة بن مسلم" على يد الجيوش الموالية لـ"سليمان بن عبد الملك" في عام 96 هجرية/715 ميلادية، وهي الميتة التي أغضبت الجميع حتى أعداء "قتيبة"، فقال قائل: "يا معشر العرب قتلتم قتيبة، لو كان منا فمات فينا, جعلناه في تابوت, فكنا نستفتح به إذا غزونا".

    إن لهذا الفاتح العظيم قصة صمود رائعة، اعتمد فيها على إيمانه بالله تعالى، الذي دفع الكثيرين من غير المسلمين إلى الدخول في دين الله بسبب عظم شخصية "قتيبة"، وكذلك على بسالته القتالية، وعقليته النادرة التي جعلته يتميز حتى عن قائده "المهلب بن أبي صفرة" في أن يضع لكل غزوة من غزواته، حتى وإن كانت محدودة الحجم، هدفًا محددًا يجب إنجازه وإن طال المطال بها، فيقال مثلاً إن حصاره لمدينة بيكند استمر شهرين كاملين، ولكنه لم ييأس وقاتل وانتصر بإذن الله.
    لم يعتمد "قتيبة" على جاه ولا نسب، فقد كان ينتمي إلى قبيلة باهلة، وهي كانت في عرف عرب الجاهلية من أحط القبائل نسبًا، إلا أنه انتفض وشق طريقه، ولكنه في النهاية لم يلق تكريمًا إلا بالقتل في إطار تصفية حسابات داخلية، لكن يكفيه ما بدأنا به من أنه نال من الألقاب ما لم ينله فاتح آخر, كما يكفيه أن عرقًا كاملاً هو العرق التركي، بكل فروعه، قد دخل في الإسلام على يده.

  • #2

    فاتح الهند والصين
    قتيبة بن مسلم الباهلي


    أن يحقق الإنسان شهرة في مجال الحروب وينجز الانتصارات المبهرة فهذا أمر نألفه عند كثير من الناس على مر التاريخ، ولكن أن يجمع الإنسان مع شهرته في مجال الحروب الحنكة والدهاء ونبل الأخلاق والحرص على طلب العلم والتواضع لله سبحانه وتعالى فهذا لا نراه إلا في قلة من الناس ـ ومن تلك القلة قتيبة بن مسلم، فمن قتيبة هذا ؟

    إنه القائد المسلم الشهير قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصن بن ربيعة الباهلي، فاتح البلاد المترامية في الهند والصين وأفغانستان والشيشان وبخارا وخوارزم والري وسمرقند وفرغانة والترك، هذه البلاد التي لو شُرّف قائد بفتح بلد منها لسجل في سجل الخالدين، فكيف بمن فتح تلك البلاد كلها ؟

    وقد بدأت شهرته على الساحة عقب توليه إمارة الجيش الذي أعده الحجاج للقضاء على الخوارج الذين عاثوا في الأرض فساداً، إذ حقق نجاحا باهراً عليهم، واقتلع شوكتهم، فكافأه الحجاج بعد ذلك بأن ولاه إمارة خراسان (وذلك سنة 86 هـ في خلافة عبد الملك بن مروان) وكتب إليه يقول: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجِدك وجهادك أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي تحب، فأتمَّ مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه .

    فظل على ولاية خراسان ثلاث عشرة سنة، وكان من الشجاعة والحزم والرأي بمكان كما قال ابن خلكان .

    وقد بدأ عمله بفتح بلاد صاغان من الترك صلحاً ثم سار سنة ثمان وثمانين لمقابلة ابن أخت ملك الصين الذي حشد معه من أهل فرغانة والصغد حوالي مائتي ألف، فنصره الله عز وجل عليه نصراً مؤزراً.
    وتابع توغله في بلاد فرغانة حتى أتم فتحها سنة أربع وتسعين، وبعث من هنالك جيشا فافتتح الشاش.
    وبلغ في غزو الترك والتوغل في بلاد ما وراء النهر وافتتاح القلاع ما لم يبلغه أحد قبله، حتى إنه فتح بلاد خوارزم وسمرقند في عام واحد ومَن يعرف الطبيعة الجغرافية والمناخية لتلك البلاد يرى كيف كانت عظمة هذا القائد ومَن كانوا يغزون معه.

    وكان ـ رحمه الله ـ بعد فتح كاشغر من أرض الصين قد بعث إلى ملك الصين رسلا يتهدده ويتوعده، ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ويختم ملوكهم وأشرافهم، ويأخذ الجزية منهم أو يدخلوا في الإسلام.
    فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال: إن عليها تسعين بابا في سورها المحيط بها يقال لها خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعا ومعاملات وأموالا، حتى قيل: إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين.
    فلما دخلوا عليه وجدوا مملكة عظيمة حصينة ذات أنهار وأسواق وحسن وبهاء، وهو يقيم وسطها في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة، فلما التقوا به قال لترجمانه: قل لهم: ما أنتم وما تريدون ؟
    فقالوا: نحن رسل قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الإسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب، فغضب الملك وأمر بهم إلى دار، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم: انصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له: ينصرف راجعا عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم مَن يهلككم عن آخركم.
    فقال له هبيرة: تقول لقتيبة هذا ؟ ! فكيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ؟ وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادراً عليها، وغزاك في بلادك ؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلا إذا حضر فأكرمه عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
    فقال الملك: فما الذي يرضي صاحبكم ؟
    فقال: قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك، ويختم ملوكك، ويجبي الجزية من بلادك،
    فقال: أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهبا كثيراً وحريراً وثيابا صينية لا تُقوّم ولا يدرى قدرها..
    وقد أذهلت فتوحات قتيبة هذه الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: "بعثت قتيبة فتى بحراً فما زدته باعاً إلا زادني ذراعاً "..
    وقد عمل على استتباب الأمن في البلاد التي فتحها، وتصدى بكل حزم لمن فكر في التمرد عليه من ملوكها السابقين..

    فقد حصل أن ملوك الترك اتفقوا فيما بينهم على أن يثوروا عليه ويتحدوا ضده ويقاتلوه جميعا، وأن لا يولوا عن القتال حتى يخرجوا العرب من بلادهم، فاجتمعوا اجتماعا هائلا لم يجتمعوا مثله في موقف، لكنه كسرهم وقتل منهم أمما كثيرة، ورد الأمور إلى ما كانت عليه، ولم يزل يتتبع ملكهم الأعظم "نيزك " من إقليم إلى إقليم، ومن كورة إلى كورة، ومن رستاق إلى رستاق، حتى حصره في قلعة هنالك شهرين متتابعين، حتى نفذ ما عند نيزك من الأطعمة، وأشرف هو ومَن معه على الهلاك، فبعث إليه قتيبة مَن جاء به مستأمنا مذموما مخذولا، فسجنه عنده ثم كتب إلى الحجاج في أمره .

    كما كان حريصا على جنوده لا يوردهم المهالك ولا يتحرك بهم إلا في سرية تامة حتى يفاجأ به عدوهم فلا يصمد لمواجهتهم، وقد حدث أن جاء قبل فتح سمرقند رجل يسمى " المجسر بن مزاحم السلمى " فقال: إن لي حاجة فأخلني فأخلاه فقال: إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام، فطابت له الفكرة وأراد أن يتأكد أنها لم تفش بين الناس فيسمع بها السغد فيستعدون له فقال: أشار بهذا عليك أحد ؟ فقال المجسر: لا، فقال: فأعلمته أحدا ؟ قال: لا، فقال له قتيبة: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك، ثم وجه على الفور فريقا من جيشه فافتتحها(7)..
    ومع شجاعته وعظم مكانته كان سمحا، فقد جلس إليه رجل يسمى هبيرة بن مسروح فقال له: أي رجل أنت لو كان أخوالك من غير سلول ؟!! فلو بادلت بهم، فقال له الرجل: أصلح الله الأمير، أبادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة ( يقصد قبيلة قتيبة ).

    كما كان حريصا على طاعة الله متواضعا له، فقد جاء إليه رجل من مكة فقال له: أتيتك بهدية؟ فقال: وما هي، قال: قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد اللّه بن عمر؛ فحدثني عن أبيه عن جده عمر؛ عن رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال:
    ( من دخل السوق فقال: لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب اللّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة ) فصار بعد أن سمع منه هذا الحديث قلما وجد فراغا في وقته يركب في موكبه؛ فيأتي السوق؛ فيقولها ..

    كما كان مشهوراً بمروءته، ومما روي له في هذا الشأن أن الحجاج كان يطلب الشعبي لاشتراكه في فتنة ابن الأشعث، وقال: لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مسك جمل، فخرج الشعبي إلى خراسان والتحق بجيش قتيبة وهو لا يعرفه، فاجتمع به يوما وهو يحتاج لكاتب، فقال له: أيها الأمير عندي علم، فقال له قتيبة: ومَن أنت ؟ فقال الشعبي: أعيذك لا تسألني عن ذاك، فعرف أنه ممن يخفي نفسه لأمر ما فلم يرد أن يكرر عليه السؤال، ودعا بكتاب فقال له: اكتب مسودة ( ليختبر قدرته ) فقال الشعبي: لست ممن يحتاج، ثم كتب له كتابا إلى الحجاج فأعجب به وكافأه..
    ولم تمض أيام حتى جاءه الرد على كتابه من الحجاج يقول: إذا نظرت في كتابي هذا فإن صاحب كتابك هو عامر الشعبي فإن فاتك قطعت يدك ورجلك وعزلت.
    فالتفت إلى الشعبي ـ وكان بجواره وهو يقرأ الكتاب ـ فقال له: ما عرفت قبل الساعة فاذهب حيث شئت، وعزم على أن يتحمل هو مسئولية غضب الحجاج لولا أن الشعبي رفض ذلك، وقال له: إن مثلي لا يخفى، فقال له: أنت أعلم ثم أرسله في أناس وأوصاهم أن يحسنوا إليه حتى دخل على الحجاج فاعتذر له فقبل منه عذره.

    وكان عادلا في رعيته لا يولي عليهم قاضيا إلا بمشورتهم، فقد استشار أهل مرو يوما في رجل يجعله على القضاء، فأشاروا عليه بعبد الله بن بريدة فدعاه وقال له: إني قد جعلتك على القضاء بخراسان، فقال ابن بريدة: ما كنت لأجلس على قضاء بعد حديث سمعته من أبي بريدة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    ( القضاة ثلاثة، فاثنان في النار وواحد في الجنة، فأما الاثنان فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم فهو في النار، وقاض قضى بغير الحق وهو لا يعلم فهو في النار، وأما الواحد الذي هو في الجنة فقاض قضى بالحق فهو في الجنة )...

    ومن براعته الإدارية أنه خرجت عليه يوما خارجة بخراسان، فأهمّه ذلك فقيل له: ما يهمّك منهم؟ وجّه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكهم، فقال:لا، إنّ وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلّت مبالاته بعدوّه فلم يحترس منه فيجد عدوّه منه غرّة وعين غيره..

    ومع اشتغاله بالجهاد والفتوحات إلا أنه لم يحرم نفسه من فضل الانتساب إلى رواة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وله رواية عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري .

    وكان يكل نصره إلى الله عز وجل لا ينسب منه شيئا لنفسه، حتى إنه صافّ التّرك ذات يوم فسأل عن رجل يسمى محمد بن واسع، فقيل له: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه ينضنض ( يحرك أو يشير ) بأصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحبّ إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير .
    وكان عفيف اللسان والسمع، حتى إنه سمع ذات يوم رجلا يغتاب عنده آخر، فقال له: أمسك أيها الرجل، فواللّه لقد تلمظت بمضغةٍ طالما لفظها الكرام .

    وكان كريما في عطاياه دون مَنٍ، فقد دخل عليه رجل فقال: أتيتك في حاجةٍ رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقضها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك، فأمر له بحاجته وعوضت تلك الخصال قتيبة عن حسبه ونسبه، حيث شاع في عصره السخرية من قبيلته باهلة حتى جاء في النوادر أنه قيل لأعرابي: أيسرك أنك باهلي وتدخل الجنة ؟ قال: إي والله، بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي، يقول الذهبي: لم ينل قتيبة أعلى الرتب بالنسب، بل بكمال الحزم والعزم والإقدام، والسعد، وكثرة الفتوحات، ووفور الهيبة.
    ثم كانت وفاته ـ رحمه الله ـ سنة سبع وتسعين هـ، ولم يكتمل عمره خمسين عاما، حيث كان مولده سنة تسع وأربعين هـ ، وهي حياة قصيرة بالقياس لأعمار كثير من الناس، ولكنها مليئة بالفتوحات


    الدكتور أحمد عبد الحميد عبد الحق

    تعليق

    يعمل...
    X