سفاح روستوف
الجزء الثاني
البحث عن الوحش

صور بعض ضحايا تشيكاتيلو
في عام 1983 قام تشيكاتيلو بقتل خمسة ضحايا آخرين، ولأن جرائم القتل جميعها وقعت في محيط منطقة جغرافية واحدة، وكذلك لتشابه النمط والأسلوب المستعمل في القتل كقلع العيون واجتثاث الأعضاء التناسلية .. الخ .. قاد ذلك كله إلى قبول الشرطة السوفيتية لفكرة وجود قاتل متسلسل طليق، وربما تكون تلك هي المرة الأولى التي تعترف بها السلطات بوجود قاتل متسلسل في الاتحاد السوفيتي، فلعقود طويلة حرصت ماكنة الإعلام الحكومية على تصوير المجتمع السوفيتي كمجتمع مثالي خالي من الجرائم والموبقات التي كانت تنسب للمجتمع الغربي الرأسمالي فقط. وكانت هذه الصورة المثالية هي الوحيدة التي يسمح بعرضها عبر وسائل الإعلام من خلف ما كان يسمى آنذاك بالجدار الحديدي .. لكن جرائم اندريه تشيكاتيلو كانت شرخا في جسم تلك الصورة المزيفة التي كان الكرملين يحاول تسويقها لشعوب العالم الأخرى .. ربما يكون شرخا صغيرا جدا .. لكنه ساهم في تمزيق الصورة تماما بعد سنوات قليلة فقط وقاد، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، إلى الانهيار والسقوط المهول للمارد السوفيتي عام 1991.
شرطة موسكو شكلت فريقا بقيادة الرائد ميخائيل فيتيزوف وأرسلته إلى مقاطعة روستوف للتحقيق في الجرائم، وكعادة أجهزة الشرطة في الدول الفاشية فقد تم اعتقال الناس على الشبهات وبدون دليل، وشملت هذه الاعتقالات أعداد كبيرة من المرضى العقليين والمثليين وأرباب السوابق من المتحرشين بالأطفال، وتم استخدام أبشع وسائل التعذيب لأخذ اعترافات تؤكد اقترافهم للجرائم، لكن استمرار ظهور الجثث في مناطق متفرقة من المقاطعة أجبر الشرطة على إخلاء سبيل الجميع والإقرار بأن الجاني الحقيقي مازال حرا طليقا.
في عام 1984 أضاف تشيكاتيلو 15 ضحية جديدة إلى قائمة ضحاياه الطويلة، احد هؤلاء كان طفلا في العاشرة يدعى ديميتري بيتشنكوف شاهده العديد من الأشخاص يمشي مع تشيكاتيلو قبل اختفاءه، وقد أعطى هؤلاء الشهود أوصافا دقيقة للمجرم إلا إن الشرطة لم تتمكن من القبض عليه. لكن في أيلول / سبتمبر عام 1984 قام احد المخبرين السريين باعتقال تشيكاتيلو عن طريق الصدفة بينما كان يحاول الإيقاع بإحدى السيدات في موقف للباصات، ولدى تفتيشه عثرت الشرطة على حبل وسكين في معطفه، لكن على الرغم من الإمساك به متلبسا وعلى الرغم من التشابه الكبير بين ملامحه وهيئته مع الأوصاف التي أعطاها الشهود للقاتل في قضية الطفل بيتشنكوف، إلا إن الشرطة لم توجه إلى تشيكاتيلو تهمة القتل وإنما أحالته إلى القضاء بتهمة السرقة من رب عمله السابق فتم الحكم عليه بالسجن لمدة سنة واحدة أمضى منها 3 أشهر فقط ثم أطلق سراحه.
لم يمضي سوى عدة أشهر على إطلاق سراحه حتى عاد تشيكاتيلو لممارسة هوايته المفضلة في اقتناص وقتل البشر، في إحدى المرات قام بقتل امرأة مع ابنتها المراهقة، وفي حادثة أخرى استدرج فتاة في 16 من العمر إلى شقة ابنته الخالية وقتلها هناك. لكن أكثر ما يميز جرائم تشيكاتيلو الأخيرة كان تفضيله للصبيان والمراهقين الذكور على الفتيات والنساء.
الشرطة التي أصابها اليأس لجأت عام 1985 إلى بروفيسور في الطب النفسي يدعى اليكساندر بوخانوفسكي ليساعدها في مهمتها العسيرة في القبض على السفاح. بوخانوفسكي درس جميع المعلومات التي تملكها الشرطة وحلل جيدا جميع الأدلة التي جمعها المحققون من المواقع التي اقترفت فيها الجرائم؛ وقد خلصت دراسته إلى أن السفاح رجل يبلغ من العمر 45 – 50 عاما ويمتلك ذكاء متوسط، متزوج أو كان متزوجا في السابق، وهو نيكرو - سادي يحصل على لذته الجنسية من مشاهدة ضحاياه يتعذبون حتى الموت .. بوخانوفسكي توصل أيضا إلى استنتاج مهم، فبما إن اغلب جرائم القتل التي اقترفها السفاح وقعت بالقرب من المناطق المكتظة بالسكان، كمحطات القطار ومواقف الباصات، فالمرجح أن يكون عمل القاتل يتطلب منه التنقل بصورة مستمرة، كما إن وقوع اغلب الجرائم أثناء أيام العمل العادية يدل على أن القاتل لديه وظيفة مستقرة ومنتظمة.
الشرطة عممت الأوصاف التي حصلت عليها من البروفيسور بوخانوفسكي على جميع دوائرها، ونشرت مخبريها السريين في الأماكن المكتظة بالناس بحثا عن مشبوهين يحاولون التحرش والإيقاع بالنساء والمراهقين والأطفال. وقد أثارت تحركات وإجراءات الشرطة الأخيرة مخاوف تشيكاتيلو الذي كان يتابع باستمرار جميع ما يكتب عنه وعن جرائمه عبر الصحف المحلية، لذلك وضع شهوته ورغبته القاتلة تحت السيطرة وقلل من نشاطه الإجرامي بشدة خلال السنتين التاليتين، فلم يقتل أبدا في عام 1986 وقتل ثلاث مرات فقط عام 1987 وكانت معظم جرائمه تلك خلال رحلات عمل خارج مقاطعة روستوف، لذلك لم تربط الشرطة تلك الجرائم بالسفاح واعتقد المحققون بأنه ربما يكون قد أوقف نشاطه كليا أو مات.
لكن تشيكاتيلو خيب ظن الشرطة وعاد ليستأنف اقتناص وقتل ضحاياه في روستوف عام 1989، صحيح أن العدد كان قليلا، إلا إن أسلوبه المميز في القتل كان بمثابة رسالة واضحة إلى الشرطة في إن القاتل مايزال حيا يرزق.
أخيرا ... الوحش في قبضة العدالة

تشيكاتيلو ساعة القاء القبض عليه
خلال عام 1990 أصبح تشيكاتيلو أكثر تهورا في اقتراف جرائمه، صار يقتل في أماكن قريبة جدا من المحطات التي يقتنص ضحاياه فيها، لقد كان قريبا جدا من الوقوع في قبضة الشرطة في مناسبتين إلا انه افلت في اللحظة الأخيرة، لكن الحظ لم يكن إلى جانبه في 6 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1990، ففي ذلك اليوم قام تشيكاتيلو بقتل فتاة شابة في الثانية والعشرين من عمرها تدعى سفيتا كوروستيك ومثل بجثتها في الغابة القريبة من إحدى محطات القطارات التي كانت خاضعة لمراقبة مستمرة من قبل الشرطة، احد المخبرين شاهد تشيكاتيلو وهو يهم بمغادرة الغابة وانتبه إلى وجود بقع طينية وبقايا أوراق وحشائش على معطفه القديم، كما كانت هناك لطخة حمراء صغيرة على وجنته. المخبر أوقف تشيكاتيلو لبرهة ودقق في بطاقته الشخصية ثم تركه يذهب لعدم وجود سبب قانوني لاعتقاله، لكنه لم ينسى تسجيل اسم تشيكاتيلو الكامل وعنوانه وخلاصة لتصرفاته المشبوهة في ذلك اليوم.
في 13 من الشهر ذاته اكتشفت الشرطة جثة سفيتا، وأثناء مراجعة تقارير المخبرين المتواجدين بالقرب من ساحة الجريمة اطلع المحققون على تقرير المخبر السري الذي أوقف تشيكاتيلو وسجل اسمه في يوم الحادثة، لم يكن الاسم غريبا عليهم إذ تذكر بعضهم بأن الرجل كان قد اعتقل عام 1984 بسبب تحرشه بإحدى السيدات في موقف للباصات، كما كان اسمه ضمن قوائم المشتبه بهم بجرائم القتل عام 1987، ولدى مراجعتهم لسجله الوظيفي اكتشفوا عدة تقارير عن تحرشه بتلاميذه عندما كان يعمل مدرسا قبل عقد من الزمان.
في 14 من الشهر ذاته تم وضع تشيكاتيلو تحت المراقبة المستمرة على مدار الساعة، شاهده المخبرون السريون وهو يحاول التقرب والتحدث من الفتيات الشابات والمراهقين في محطات القطار ومواقف الباصات، غالبا ما كانت محاولاته فاشلة لأن معظم الذين كان يحاول التكلم معهم كانوا يقطعون الحوار بسرعة ويبتعدون عنه، لكنه لم يكن يستسلم إذ سرعان ما كان يتحول إلى شابة أخرى أو مراهق أخر ويحاول مجددا.
في ظهيرة يوم 20 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1990 كان اندريه تشيكاتيلو جالسا للاستراحة في أحد المقاهي بعد رحلة صيد فاشلة قضاها متجولا في عدة محطات محاولا اقتناص طرائده البشرية، فجأة اقترب منه أربعة رجال يرتدون ملابس مدنية وطلبوا منه مرافقتهم بهدوء، اقتادوه إلى سيارة شرطة وانطلقوا به في رحلة أخيرة عبر شوارع المدينة التي كانت لسنوات طويلة مسرحا لجرائمه الدموية.
الوحش يعترف ..

الوحش في قبضة العدالة
لعدة أيام حاولت الشرطة عبثا الحصول على اعتراف من تشيكاتيلو، حاولوا إغراءه بأنه سيعامل كمريض نفسي ولن تتم محاكمته على جرائمه لعلة الجنون، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل، أصر تشيكاتيلو على أنه بريء، خصوصا وهو يعلم بأن الشرطة لا تملك أي أدلة حقيقية يمكن أن تدينه.
أخيرا قرر المحققون الاستعانة بالبروفيسور بوخانوفسكي، الطبيب النفسي الذي درس وحلل جرائم تشيكاتيلو قبل عدة أعوام. بوخانوفسكي راجع ملف تشيكاتيلو جيدا، درس ماضيه وحالته الاجتماعية والنفسية ثم جلس إليه وتحدث معه بهدوء وروية على عكس أسلوب محققي الشرطة العنيف والصارم .. خلال ساعتين فقط من اللقاء اعترف تشيكاتيلو بارتكابه 36 جريمة قتل! وفي جلسة لاحقة اعترف بقتل 20 شخص آخرين وقاد المحققين إلى جثث ثلاثة من ضحاياه لم تكن الشرطة تعلم شيئا عنهم.
الشرطة نقلت تشيكاتيلو إلى احد السجون الروسية حيث حبسوه في زنزانة خاصة ووضعوا كاميرات تراقبه على مدار الساعة، تم توفير حماية استثنائية لزنزانته لأن جرائم قتل الأطفال والتحرش الجنسي بهم تعتبر محرمة لدى عصابات الجريمة المنظمة الروسية، والشخص الذي يقترف هكذا جرائم يعتبر منبوذا في السجن وهناك احتمال كبير في تعرضه للقتل.
تشيكاتيلو كان يتصرف بغرابة ويتظاهر بالجنون في جلسات التحقيق، لكن في زنزانته كان يتصرف مثل أي شخص طبيعي وسوي، كان ينام جيدا ويمارس التمارين الرياضية كل صباح، وكانت شهيته مفتوحة للطعام ويقضي وقته في مطالعة الكتب والصحف وكتابة الرسائل لزوجته وعائلته .. فرغم جرائمه البشعة كان تشيكاتيلو في حياته الخاصة زوجا محبا وأبا حنونا لأطفاله! لذلك لم تصدق عائلته أبدا بأنه قاتل .. بل إن زوجته صرحت لوسائل الإعلام قائلة بأن زوجها غير قادر على إيذاء ذبابة!.
المحاكمة والإعدام

في قاعة المحكمة تم عرض رأس فتاة قتلها تشيكاتيلو
تم إخضاع تشيكاتيلو للجنة طبية لاختبار حالته العقلية، وقد انتهت هذه اللجنة إلى انه يتمتع بكامل قواه العقلية مما أهله للخضوع للمحاكمة عام 1992 وأصبحت محاكمته أهم حدث في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 18 آب / أغسطس عام 1991.
تم وضع تشيكاتيلو في قفص فولاذي أثناء المحاكمة لحمايته من أقارب ضحاياه الغاضبين الذين وجهوا له العديد من التهديدات والشتائم وطالبوا القاضي بإطلاق سراحه ليقطعوه بأيديهم أربا. كان العديد منهم يبكي وينتحب أثناء تناول المحكمة لتفاصيل مقتل أحباءهم وأحيانا كان يغمي على البعض منهم.
تشيكاتيلو استمر بادعاء الجنون خلال المحاكمة، أحيانا كان يرفض الإجابة على أسئلة القاضي، وأحيانا كان يغني ويصفر في القاعة، وفي إحدى المرات قام بخلع ملابسه وأومأ بأعضائه التناسلية باتجاه الحضور.
المحاكمة كانت مثيرة بحق، شهدت تبديل القاضي بسبب اعتراض تشيكاتيلو عليه، وشهدت الكثير من المناوشات ما بين أقارب الضحايا والقاتل، كان آخرها قيام شاب كانت شقيقته من بين الضحايا برمي قطعة حديدية نحو قفص تشيكاتيلو الفولاذي أصابته في صدره، وحين حاولت الشرطة اعتقال الرامي نشبت معركة حامية الوطيس مع أقارب الضحايا الذين حاولوا حماية الشاب.
في 15 تشرين الأول / أكتوبر عام 1992 وجدت المحكمة اندريه تشيكاتيلو مذنبا في 52 فقرة قتل وحكم عليه بالإعدام مرة مقابل كل فقرة منها، أي 52 حكما بالإعدام. النطق بالحكم رافقته صيحات التأييد والفرح من قبل أقارب الضحايا فيما دخل تشيكاتيلو في موجة من الغضب فراح يشتم ويركل قضبان قفصه الفولاذي بقدميه.
في 4 كانون الثاني / يناير عام 1994 رفض الرئيس الروسي بوريس يلتسين التماسا أخيرا بالرحمة من قبل القاتل. وفي 14 شباط / فبراير من نفس العام اقتيد تشيكاتيلو إلى إحدى الغرف العازلة للصوت حيث تم إعدامه بإطلاق الرصاص من مسدس على رأسه .. اندريه تشيكاتيلو كان في الثامنة والخمسين من عمره حين فارق الحياة.
اترك تعليق: