إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شهادة المستشرقين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شهادة المستشرقين


    شهادة المستشرقين





    نحب هنا أن نورد جملة من مقالات المستشرقين الذين درسوا الإسلام، فقالوها صريحة:
    إنَّ هذا هو الدين الصحيح الذي يتمشى مع كل زمان وكل عصر.

    ومن عجب أن نَجِدَ من بعض من ينتمون للإسلام من يشنّها حربًا لا هوادة فيها على الإسلام، ويتمنَّون إقصاءه عن الحياة، فهم أعداء ألداء في ثياب أصدقاء، أمَّا أولئك المستشرقون، فقد قال منهم من أنصف الحقيقة، والحق ما شهد به الأعداء.قال الكونت هنري دي كاستري أحد وزراء فرنسا، وأحد حكام الجزائر السابقين في كتابه "الإسلام"، قال بعد أن ذكر عقيدة التوحيد عند المسلمين وإيمانهم بإله واحد فرد صمد، وهو اعتقاد قوي يؤمن به المسلمون على الدَّوام، ويَمتازون به على غيرهم من القبائل والشعوب:
    أولئك حقًّا هم المؤمنون كما يسمون أنفسَهم، فظهور هذا الاعتقاد بواسطته - يعني: النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم - دفعة واحدة هو أعظمُ مظهر في حياته، وهو ذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته.


    ولو قال قائل: إنَّ القرآنَ ليس كلام الله، بل كلام محمد
    ، فلا بُدَّ لنا على الحالين من الاعتراف بأن تلك الآيات البينات لا تصدر عن مُبتدع أبدًا، خلافًا لرأي من ذهب إلى تكذيب نبوته، ولعل رأيهم جاء من ضيق اللُّغة التي تلجئنا إلى أن نرمي بالكذب نبيًّا هو في الحقيقة شخص مُلِئ أمانة وصدقًا، إذًا ليس محمد من المبتدعين، ولا من المنتحلين كتابهم، وليس هو نبي سلاب كما يقول مسيو مايوس، ثم يتحدث عن أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاء مصدقًا للكتب قبله، ثم يقول:
    وحينئذ، لا عَجَبَ إذا تشابهت تلك الكتب في بعض المواضيع، خصوصًا إذا لاحظنا أنَّ القرآن جاء ليتمها، كما أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاتم النبيين، ولكن الأمر الذي تهم معرفته هو أنَّ القرآن آخر كتاب سماوي ينزل للناس، وصاحبه خاتم الرسل، فلا كتابَ بعد القرآن، ولا نبيَّ بعد محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولن تجد لكلماتِ الله تبديلاً.
    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

  • #2


    وقال إسحاق طيار رئيس الكنيسة الإنكليزية:


    الإسلام ينشر لواء المدنية التي تعلم الإنسان ما لم يعلمه، والتي تقول بالاحتشام في الملبس، وتأمر بالنظافة والاستقامة وعزة النفس، فمنافع الدين الإسلامي لا ريب فيها، وفوائدها من أعظم أركان المدنية ومبانيها.

    وقال واشنطون إيرفنج:
    القرآن فيه قوانين زكية سنية.

    وقال جيبون:
    القرآن مُسَلَّم به من حدود الإقيانوس الإتلانتيكي إلى نهر الفانج بأنه الدستور الأساس ليس لأصول الدِّين فقط، بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشَّرائع التي عليها مدار نظام حياة النوع الإنساني وترتيب شؤونه،
    وقال أيضًا: إنَّ الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعًا في أحكامها من أعظم ملك إلى أقل صعلوك، فهي شريعة حيكت بأحكم وأعلم منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين.

    وقال المؤرخ الهولندي رينهاردت دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام":

    شعب ظهر فجأة بين تلك الصحاري التي لا يكاد يعرفها أحدٌ، شعب جديد بدأ يُمثل دوره على مسرح الحياة، بعد أنْ ظل نهبًا مقسمًا تُناوئ كلُّ قبيلة منه القبيلة الأخرى، فيحتدم النِّزاع وتقع الحرب الطاحنة، ها قد رأيناه يتحد، ويجمع شمله الشتيت للمرة الأولى.
    ذلكم هو الشعب الناهض الذي تَملك نفسه حب الحرية، وساعدته على النجاح صفاته النبيلة، فقد كان متقشفًا في طعامه مُخْشَوشنًا في لباسه، نبيلاً في أخلاقه، كما كان طروبًا سريع البديهة حاضر النكتة، كان شريف النفس أريحيًّا، فإذا استثرته، فهو قاسٍ غَضُوب شرس لا يني عن أخذ ثأره، ولا يرده عن انتقامه شيء.
    ذلكم هو الشعب الذي قلب في لحظة واحدة إمبراطورية الفُرس بعد أنْ ظلَّ السوس ينخر في عظامها قرونًا عِدَّة، وانتزع من خلفاء قسطنطين أجملَ ضواحيهم، ثم سحق مملكة جرمانية حديثة العهد تحت قدميه، وشرع يهدد بعد ذلك بقية أوروبا، بينما كان في ذلك الوقت نفسه يوالي فتوحه وانتصارَه في الجانب الآخر من المعمورة، حتى وصلت جيوشُه الظافرة إلى الهملايا لم يكن ذلك الشعب فاتحًا فحسب، كغيره من الشعوب الأخرى، بل كان داعيًا إلى دين جديد، ومبشرًا به أيضًا.
    كان داعيًا إلى دين جديد، فقام يناوئ الوثنية الفارسية والمسيحية التي أفسدتها الخرافات والبدع، حاملاً إلى الناس توحيدًا خالصًا لم يلبثْ أن دانَ به الملايين من الناس، إن ديانة العرب الأولى كانت واهية لا ترتكز على أساس مَتين، ومتى أقررنا ذلك، سهل أن نفرضَ أنه كان من اليسير على العرب أن يقبلوا دينًا آخر، فيدينوا بالمسيحية أو اليهودية مثلاً هذا كلام صحيح ولكن إلى حد ما.
    إنَّ المسيحية انتشرت لهذا السبب نفسه في جهتين في الحبشة جنوبًا، وفي سوريا شمالاً؛ حيث لقيت شيئًا من القَبول، وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مُبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية، كما تنصر عرب سوريا، على أنَّ هذا النجاح لم يكن في أيِّ مكان تقريبًا إلاَّ مظهرًا من المظاهر لا حقيقة من الحقائق.
    أمَّا في أواسط بلاد العرب وفي قلب جزيرتهم حيث نبتت جرثومة العربي القح وأرومته، فلم تنجح الدعاية للدين المسيحي، ولم تكن لترى إلا أثرًا ضعيفًا إن لم نقل معدومًا.
    كانت المسيحية في ذلك الزمن على وجه عام بما تحويه من معجزات وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتَّصل بذلك من رب مصلوب، قليلة الجاذبية، بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساحر الذكي، وآية ذلك ما نراه واضحًا فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة حوالي سنة 513 من الميلاد، فإن المنذر ليُصغي إلى ما يقوله الأساقفة بانتباه؛ إذ دخل عليه أحد قُوَّاده، فأسَرَّ إليه بضع كلمات، ولم يكد ينتهي منها، حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق، فتقدم إليه أحد القساوسة يسأله متأدبًا متلطفًا عمَّا أشجاه.فأجابه الملك: يا له من خبر سيئ، لقد أعلمني قائدي أنَّ رئيسَ الملائكة قد مات فواحسرتا عليه، فأجابه القسيس، هذا محال أيُّها الملك، فقد غَشَّك من أخبرك بذلك، إنَّ الملائكة خالدون، ويستحيل عليهم الفناء.
    فأجابه الملك: أحقٌّ ما تقول، وتريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت؟ العربي رجل عملي مادي، لا يُعنى بغير الحقائق حتى في شعره، فهو لا يسبحُ في الخيال والوهم، ولا يَميل إلى الأخذ بتلك الألغاز والمعميات الدينية، التي يعتمد الإنسان في استيعابها على التخيُّل أكثر من اعتماده على التعقل.


    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

    تعليق


    • #3
      وقال دوزي أيضًا: بينما أهلُ أوروبا نائمون في ظلام الجهالة لا يرون الضَّوء إلا من سَمِّ الخياط؛ إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية من علوم وأدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك؛ حيثُ كانت مدن بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفارس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف، ومنها انتشرت في الأمم، واغتنم منها أهل أوربا في القرون الوُسطى مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة.

      وقال دوزي أيضًا في كتابه
      "ملوك الطوائف":
      إننا نرى أن الإسلام قد انتشر بسرعة مدهشة بين تلك الشعوب التي غزاها، وهذه ظاهرة لم يَرَ لها العالم مثيلاً من قبل، وهي تبدو لأول وهلة لُغزًا مستسرًّا، لا سبيل إلى حله وتعليله، لا سيما إذا عرفنا أن هذا الدين لم يكره أحدًا على الدُّخول فيه، وقد كان محمد يأمر بالتسامُح والإغضاء، وقد وضع للمسلمين قاعدةَ الجزية، وفرضها على كلِّ من لم يُدِنْ به من أهل الكتب المنزلة من اليهود والنصارى، فمنحهم حريتهم الدينية على أنْ يدفعوا ما فرضه عليهم من الجزية، وزاد في تسامُحه، فمنح هذه المزية لمن يقطن إقليم البحرين من المشركين.

      أضف إلى هذا أن الحكمَ الإسلامي كان يتوخَّى التيسير والخير العام والبر بالشعوب المحكومة
      ؛ فقد كان سوادُ المسيحيين في الشرق ينتمي إلى مذاهبَ لَقِيَت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابَها إرهاقًا، فلما جاء الإسلام - ومن طبيعته التسامح والإخاء - ترك لهم الحرية التامَّة في البقاء على دينهم ما داموا يؤثرونه على غيره من الأديان، وظَلَّلهم بحمايته، وسوى بينهم في الحقوق على اختلاف مَذاهبهم وشتَّى نحلهم، ولا تنسَ أنَّهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الرُّوماني، فلما جاء الإسلام أعفاهم منها، ولم يفرض عليهم إلا جزية معتدلة لا ترهق أحدًا، ومتى عرفت هذه الأسباب، زالت دهشتك وعجبك من إيثارهم حكم المسلمين على حكم الرُّومان، واندفاعهم إلى مساعدة العرب في فتوحاتهم بكل قلوبهم وقواهم، بدلاً من مناوأتِهم والتألُّب عليهم.


      وقد ألمعنا آنفًا إلى ما يعود من الفائدة المادية إذا أسلموا
      ؛ لأن إعفاءهم من الجزية على اعتدالها كان مما يُرغبهم في الإسلام، وأضف إلى هذا ما يشعرون به من الكرامة الشخصيَّة إذا أسلموا، وأصبح لهم من الحقوق ما للمسلمين على أنَّ إسلام المسيحي كان الخطوة الأولى إلى الكرامة والشُّعور بالعزة، والزَّمن وحده كفيل بتحقيق ما يليها من الخطوات، ولن يلبث ابن المسيحي أنْ يصبح مسلمًا أصيلاً يتمتع بكل ما يتمتَّع به العربي من عزة وكبرياء.

      ولو صح ما قاله القساوسة من أن محمدًا نبي منافق كذاب، فكيف نعلل انتصاره؟
      وما بال فتوحات أتباعه تَتْرَى، وتتلو إحداها الأخرى؟وما بال انتصاراتهم على الشعوب لا تقف عند حد؟وكيف لا يدل ذلك على معجزة هذا الرسول؟
      لقد كانوا يعتقدون أول أمرهم أن خذلان المسلمين سيتم بمعجزة قريبة، فقد طالما سمعوا عن مُعجزات الكنيسة التي كانت تحدث لأقل مناسبة، وانتظروا هذه المعجزة التي تخلص البلاد المسيحية من غزوات المسلمين، ولكن انتظارهم تلك المعجزة قد طال، وذهب صبرهم أدراج الرياح، وعبثًا حاولوا وقوعَ هذه المعجزة، وأعجب من ذلك أنَّ معجزة إنْ لم نقل معجزات قد حدثت حقًّا في ذلك العصر.
      وكانت معجزة أعظم مما كان يتوهمه القديسون أنفسهم، وأي مُعجزة أروع وأعجب من أن نرى شعبًا كان إلى زمن قليل في غيابه من الخمول، ثم ظهر إلى الدُّنيا فجأة، وظل يتقدم بسرعة لا مثيلَ لها وهو يغزو الأرجاء الفسيحة، وينتصر على قطر بعد قطر فتدينُ له البلاد بالطاعة والولاء، وتقبل على دينه من كل حدب وصوب راضية غير مكرهة، ولو أننا عزونا إقبالَ المسيحيين على الإسلام إلى الفائدة الشخصية أو الرغبة في التخلُّص من الذل والضعة، فنحن جديرون أن نقرَّ أن الثابت المحقق أن كثيرًا من المسيحيين دانوا بالإسلام عن عقيدة وإيمان.


      من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

      تعليق


      • #4
        وقالت الكاتبة الإيطالية الدكتورة (لورافيتشا فالييري) في كتابها "محاسن الإسلام":

        في بلد قفر بوادٍ غير ذي زرع، منعزل عن الإنسانية المتمدنة تفجَّر ينبوعُ ماء سلسل عَذْب منعش بين قوم من الهمج، جبابرة غلاظ القلوب، لا يَخضعون لسلطان، ولا يتقيدون بقيد، ذلك الينبوع هو دين الإسلام الذي تدفَّق بغزارة واتَّخذ سبيله في الأرض سربًا، فكان نُهَيرًا، استحال بعده إلى نهر عظيم سرعان ما تفرعت منه آلاف الجداول والأنهار التي تغلغلت في البلاد طولاً وعرضًا، ولم يلبثِ الناسُ أن تذوقوا هذا الشراب العجيب، وشُفُوا من أمراضهم الاجتماعية.

        واتَّحد المختلفون منهم والمتخاصمون، وانطفأت نيرانُ الحقد والكراهية المشبوبة في صدورهم، وزالت بينهم أسبابُ النفور والخلاف، استحال هذا الماء المقدس سيلاً جارفًا اكتسح بقوته الساحرة بلادًا عظيمة، فثل عروشها، وطوى مَجْدَها طي السجل للكتب.
        لم يشهد التاريخ حادثًا مماثلاً لهذا الحادث الخطير؛ لأن السرعة العظيمة التي أتم بها الإسلام فتوحاته، كان لها أبلغ الأثر في حياته؛ إذ إنه بعد أن كان عقيدة نَفَرٍ قليلٍ من المتحمسين، أصبح دينًا لعدة ملايين من الناس.

        وليت شعري كيف تأتَّى لهؤلاء المجاهدين غير المدربين أن ينتصروا على شعوب يفوقونهم مدنية وثروة
        ، ويزيدون عليهم دربة ومراسًا للحروب؟ وكيف استطاعوا أن يبسطوا سلطانَهم على بلاد متسعة الأرجاء، وأن يحتفظوا بفتوحاتهم هذه، ويوطدوا هذا الصرح العظيم الذي ثبت أمام حروبٍ شديدة استمرت قرونًا عديدة، فلم تقوَ على هدمه، ونقض بنيانه الشامخ المتين.

        وكيف أمكن هذا الدين أن يوطد في نفوس أولئك المهتدين الحديثي الإيمان أمتن الأسس؟ وكيف تسنَّى له أن يحتفظ بحيويته العظيمة، التي لم تعرف مثلها ديانة أخرى قبلُ، حتى بعد ثلاثة عشر قرنًا خلت بعد حياة مؤسسه؟ وكيف استطاع هذا الدين أنْ يغرسَ تلك الحماسة الدينية في نفوس أتباعه الجدد المختلفين عن أتباعه الأُوَل في الجنس والثقافة، فحَذَوا حَذْوَهم في الإخلاص له والتضحية في سبيله؟
        لَعَمْري، إن هذا كله لمما يبعث في الإنسان الشيءَ الكثير من الدهشة والذُّهول.
        ثم قالت: أفليس من أكبر معجزات هذا الدين أن يؤلِّف بين قلوب أقوام كهؤلاء العرب، عاشوا أجيالاً عديدة في مخاصمات شديدة، وحروب أهلية مُستمرة، فعرفوا بفضله الاتِّحاد والإخاء والسلام؟
        أما الخلفاء الذين خلفوا محمدًا في حكم الدولة الإسلامية، والذين كانوا تراجمة ضميره، فقد ساروا على سنته التي سَنَّها لهم، وحملوا راية الإسلام إلى قلب القارة الأسيوية من جهة، وإلى أمواج المحيط الأطلسي من الجهة الأخرى.
        لم تكن قد مضت سوى ست عشرة سنة عندما سقطت دولة الفُرس في أيدي العرب بعد موقعة القادسية، مع أن هذه الإمبراطورية ظلت مدى أجيال في عراك مُستمر مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية دُونَ أن تتغلب إحداهما على الأخرى، أمَّا ملك الفرس كسرى، فقد هرب من العرب، وجعل يلجأ إلى إقليم بعد إقليم، حتى بلغ حدودَ بلاده، ومات في سنة 31 هجرية، وبذلك صارت إمبراطوريته بأجمعها بلادًا عربية، وبعد أن زالت مدنِيَّتا الدولتين الفارسية والرومانية، وتهدمت ديانتاهما، سرى في عروق الشُّعوب تيارٌ جديد، وانتشرت بينهم ديانة جديدة بسيطة تتحدث إلى العقل والقلب معًا.
        كما ظهر نظام جديد للحكم يفضُل كثيرًا تلك النظم التي كانت مُتبعة هناك في ذلك الوقت؛ نظرًا لمبادئه الخلقية القويمة، كذلك انتقلَ مال المجوس من خزائن الأشراف إلى أيدي الفقراء، وعامة الشعب، وأخذت تتناولُه الأيدي مرة ثانية، وتستفيد من ثمراته، وقد ظهر في الحكم رجال أذكياء مستنيرون أقاموا حكومةً رشيدة تستند إلى آراء ديموقراطية صحيحة، وقد تدرجوا في الحكم، وتبوؤوا أسمى المراكز.
        كما أن المقهورين كانوا يَجدون من حكامهم الجدد كلَّ ضمان لطمأنينتِهم، ويتمتعون بحقوقهم المشروعة كافَّة، كما أن أرواحهم وأملاكهم كانت مكفولة.أخذ الناس الذين دهشوا لهذا الانقلاب الاجتماعي الديني السياسي يتساءلون عن سببه الأول، ولكنَّ الكثيرين منهم كانوا لا يبصرون أو تعمدوا إغماضَ عيونِهم، فظلوا يتخبطون طويلاً في مجاهل الغلط والشطط، ولم يدركوا أنَّ القوة الإلهية هي التي أعطت الإشارة الأولى لهذه الحركة المباركة الواسعة النِّطاق، ولم يشاؤوا أن يصدقوا أن الحكمة الإلهية هي التي اقتضت أن يكون محمدٌ خاتَمَ الأنبياء والمرسلين، وسجلت له إلى الآن رسالة عامة إلى الناس أجمعين، بغير تمييز بين جنس وجنس، أو بين بلد وبلد...إلى أن قالت: وحسبنا ما قدمناه من الأدلة والبراهين؛ لأنَّ رجالَ الغرب قد بدؤوا يقتنعون بأن إخلاص محمد في دعوته كان أمرًا لا ريبَ فيه، ولقد كان محمد كرسولٍ يدعو إلى الله رجلاً رحيمًا لَيِّنَ الجانب حتى لأعدائه الشخصيِّين، وبذلك اجتمعت فيه فضيلتان كلتاهما أكبر الفضائل التي يتصورها العقل البشري:
        الرحمة، والعَدَالة، ولا نرى بنا من حاجةٍ إلى إيراد الأمثلة على ذلك، فمن السهل الوقوف على كثير منها في الكتب الموضوعة عن تاريخ حياته.
        وحسبُك أنَّ الحروب التي هي أقصى ضرورات الحياة الإنسانية قد صارت بفضله أقلَّ وحشية وقسوة؛ إذ إنَّه كان يطلب من جنودِه ألا يقتلوا شيخًا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا يهدموا بيوتًا لم تتخذْ كمعاقل حربية، ولا يدمروا ما بها من أسباب الحياة، ولا يَمسوا الأشجارَ المثمرة والنخيل.

        من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

        تعليق


        • #5

          والآن وقد انتهينا من الرد على تلك التهم التي وجهت إلى الإسلام في الغالب نضعُ هذا السؤال:


          كيف لم ينقطع الإسلام عن الانتشار والذُّيوع في إفريقيا وأسيا، رغم حرية الاعتقاد الكبيرة التي يتمتع بها غيرُ المسلمين في البلاد الإسلامية، ورغمًا من الانصراف عن الاهتمام بالشؤون الدينية في هذه الأيام الأخيرة.
          وهو الآن لا يسبقه سيف الفاتحين، بل على النقيض من ذلك، فإنَّ البلادَ التي كانت ترفرف فوقَها رايته، أضحت محكومة برجال ذوي عقائد أخرى، ولم يستطيعوا مع ذلك أنْ يصرفوا رعاياهم عنه، أو يقتلوه من قلوبهم، فأيَّة قوة عجيبة تنطوي عليها هذه الديانة؟
          وما قوةُ الإقناع التي تستند إليها؟ وفي أيَّة عروق النفس البشرية تَجِد غذاءَها وقوام حياتِها إلى أنْ تقول:
          إنَّ الناس لتتلهَّف على دين يتفق وحاجاتِهم ومَصالحهم الدُّنيوية، ولا يكون قاصرًا على إرضاء مشاعرهم وإحساساتِهم.
          ويريدون أن يكون هذا الدين وسيلةً لأمنهم وطمأنينتهم في الدُّنيا والآخرة، وليس هنا من دين تتوفر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى دين الإسلام، إنَّه ليس مُجرد دين فحسب، بل إن فيه حياة للناس؛ لأنه يعلمهم كيف يحسنون التفكير والكلام، ويَحضهم على فعل الخير وصالح الأعمال، ولذلك سُرعان ما شق طريقه إلى القلوب والأفهام.

          وقال المسيو (ليون روش)، وهو الذي أقام في بلاد المسلمين ثلاثين سنة تعلَّم في أثنائها اللغة العربية وفنونَها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر المسلمين في الجزائر وتونس والأستانة ومصر والحجاز، وقد ألف كتابًا عنوانه: "ثلاثون عامًا في الإسلام"، قال فيه: "اعتنقتُ دين الإسلام زمنًا طويلاً لأدخل عند الأمير عبدالقادر دسيسة من قبل فرنسا، وقد نَجحت في الحيلة، فوثق بي الأمير وثوقًا تامًّا، واتَّخذني سكرتيرًا، فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرُ أفضلَ دين عرفته، فهو دين إنساني طبعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلاَّ وجدته مشروعًا فيه، بل إنَّني عدت إلى الشريعة التي يسميها (جول سيمون) الشريعة الطبيعية، فوجدتها كأنها أخذت عن الشريعة الإسلامية أخذًا.
          ثم بَحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوَجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالاً وكرمًا، بل وجدت هذه النُّفوس على مثل ما يَحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة والمعروف، في عالم لا يعرف الشَّرَّ واللغو والكذب، فالمسلم بسيطٌ لا يظن بأحد سوءًا، ثم هو لا يستحل محرمًا في طلب الرزق، ولذلك كان أقل مالاً من الإسرائيليِّين، ومن بعض المسيحيين.

          ولقد وجدت فيه حلَّ المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم طُرًّا:


          الأول في قول القرآن:
          ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، فهذه أجملُ مبادئ الاشتراكية.
          الثاني: فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حقَّ أخْذِها غصبًا إن امتنع الأغنياءُ عن دفعها طوعًا، وهذا دواء الفوضوية.
          ثم قال عن الإسلام إجمالاً:
          إنَّه دين المحامد والفضائل، ولو أنَّه وجد رجالاً يعلمونه الناس حق التعليم، ويفسرونه تمام التفسير، لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين، وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وجد بينهم ويا للأسف شيوخ يُحرِّفون كلمه، ويَمسخون جماله، ويدخلون فيه ما ليس منه.

          وقال المستر درابر أستاذ كلية نيويورك بأمريكا: إنَّ أقوى وأكبر الممالك الدينية التي لم يَرَ العالم مثلها قد ولدت فجأة، وامتدت من المحيط الأتلانتيكي إلى أسوار الصين، ومع ذلك فلم تكُ قد بلغت نهاية ما قدر لها من الامتداد والنُّفوذ، فلقد أتى عليها بعد ذلك حين من الدَّهر طردت فيه خلفاء القياصرة، وملكت بلاد اليونان، ونازعت النصرانية السلطة على أوروبا، ونشرت نفوذ عقائدها خلال الصَّحاري الموحشة والغابات الموبوءة من أول شواطئ البحر الأبيض المتوسط إلى خط الاستواء.

          وقال سنكس في مقال له بعنوان: "محمد صلَّى الله عليه وسلَّم": ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر بإشرابها الأصولَ الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعِهَا إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة، ثم قال:
          إنَّ الديانة الإسلامية أحدثت رقيًّا كبيرًا جدًّا في الفكرة الدينية في العالم، وخلصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهَّان ذوي الصبغ الدينية المختلفة، نعم: ارتقى العقل بواسطة الإسلام للاعتقاد بحياة أخروية.

          وهذه العقيدة هي الوازع الأقوى في مُحاولات الإنسان المادية، وإلى الإخبات لإله واحد يستطيع أنْ يعبدَه بنفسه دون مداخلة أحد بينه وبينه، وأن يرتقي في مصاعد كرامته إلى مَجال أنواره دون وُسطاء ولا شفاعة الشافعين من بني جنسه، ولقد توصل محمد بمحوه كلَّ صورة في المعابد وإبطاله كلَّ تَمثيل لذات الخالق المطلق، وإلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة التي كانت من لوازم الفكر البشري في القرون الخالية.
          وأجبر النوع الإنساني بتأثير هذه التعاليم لِأَنْ يرجع إلى نفسه، ويبحث عن الله - تعالى - خالقه في أعماق روحه وصميم سره؛ ليستطيع أن يرتفعَ بهذه العقيدة النقية إليه – تعالى - بواسطة العبادة القلبيَّة المملوءة احترامًا وشكرًا ومحبة، ولقد قصر الناس في الالتفات إلى ذلك الرقي الأدبي الباهر الذي تم بواسطة الديانة الإسلامية، وحصل هذا الرقي بعيدًا عنا لدى شعوب يسهل علينا وصفهم ظلمًا بالمتوحشين، بمجرد كونهم لا يَخضعون لأفكارنا ولا يقولون بعقائدنا.

          وقال إدوار مونتيه مدير جامعة جنيف في محاضرة له: إنَّ الإسلام دينٌ سريع الانتشار، ينتشر من تلقاء نفسه دون أيِّ تشجيع تقدمه له مراكز منظمة، وذلك لأن كل مسلم مبشر بطبيعته، المسلم شديد الإيمان، وشدة إيمانه تستولي على قلبه وعقله، وهذه مَيْزَة في الإسلام ليست لدين سواه، ولهذا السبب ترى المسلم الملتهب إيمانًا يبشر بدينه أينما ذهب وأنَّى حَلَّ، وينقل عدوى الإيمان الشديد لكل من يتَّصل به من الوثنيِّين، ولعمري، إنَّ للإيمان الإسلامي الشديد أكبر فضل في نشره هذا الانتشار السريع، وفضلاً عن الإيمان، فالإسلام تمشي مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وله قدرة عجيبة على التكيف بحسب المحيط وعلى تكييف المحيط حسب ما يقتضيه هذا الدين القوي.
          ولا شك أن الإسلام يُعَدُّ من أكبر وسائل تَمرين الناس وترقية أحوالهم الاجتماعية والدينية والخلقية والاقتصادية.

          الإسلام حضارة قائمة بنفسها، رغم انحطاط المسلمين في فترة من الزَّمن، إلا أنَّهم الآن ينتبهون مرة ثانية، وينشرون المدنية والرقي في كل أنحاء العالم
          ، تأثير الإسلام في السكان مفيد أكثر من تأثير المسيحية، فالمسيحية ضعفها ظاهر في إفريقيا بينما قوة الإسلام وعظم تأثيره في الحالات الاجتماعية والدينية والخلقية والاقتصادية ظاهر جلي.
          وآخر ملاحظاتي هي: أنَّ للإسلام قوة اندماج وملائمة للأوساط الإفريقية والأوساط الراقية والمدنية العالية. وليست هذه المزية لأي دين أو نظام اجتماعي غيره.


          من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

          تعليق


          • #6
            وقال المستشرق جب:
            ما زال الإسلامُ يحفظ التوازنَ بين الاتجاهين المتغاليَين، المتقابلين في دنيا الغرب، فهو يساوي ويوائم بين الاشتراكية القومية الأوربية، وبين شيوعية روسيا، فلم يهوِ بالجانب الاقتصادي من الحياة إلى ذلك النطاق الضيق الذي أصبح من مميزات أوربا في الوقت الحالي، والذي هو اليوم من مميزات روسيا أيضًا.

            وقال جب أيضًا: ليس هنالك أيَّة هيئة سوى الإسلام يُمكن أن تنجح مثله نجاحًا باهرًا في تأليف هذه الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة، وإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العُظمى موضع الدرس، فلا بُدَّ من الالتجاء إلى الإسلام لحسم النزاع.
            وقال موريس المستشرق الفرنسي: إنَّ القرآن هو الكتاب الذي ادخرته العناية الأزلية لبني البشر، فهو ندوة للعلماء ومُعجم لمن يطلب اللغة ودائرة مَعارف لمن يطلب الشرائع والقوانين وجميع الكتب السماوية التي أنزلت قبله لا تساوي أكثر من آية من آياته.
            وقال الماجور أرثر جلين ليونارد: يجب أن تكون حالة أوروبا إزاء الإسلام بعيدة من كل هذه الاعتبارات الثَّقيلة، فتكون حالة شكر أبدي بدلاً من نكران الجميل الممقوت والازدراء المهين، فأوروبا لم تعترف قطُّ إلى يومنا هذا بإخلاص طوية وقلب سليم بالدين العظيم المقيم إلى الأبد، الذي تُدانُ به إلى التربية، والمدنية الإسلامية اعترفت به بفتور وعدم اكتراث عندما كان أهلها غارقين في بحار الهمجية، والجهل في العصور المظلمة فقط.
            المدنية الإسلامية عند العرب وصلت إلى أعلى مُستوى في العظمة العمرانية والعلمية، حتى أحيت جذوة المجتمع الأوروبي المشتعلة وحفظته من الانحطاط.
            ألم نعترف نحن الذين نعتبر أنفسنا في أعلى قمة التهذيب المدنية بأنه لولا
            التهذيب الإسلامي ومدنيته وعلمه وعظمة العرب العمرانية وحسن نظام مدارسهم، لكانت أوروبا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل؟
            هل نسينا أن التسامح الإسلامي كان يَختلف اختلافًا شديدًا عن الحالة التي لا تُطاق التي كانت عليها أوروبا إذ ذاك.
            هل نسينا أنَّ الخلافة نشطت في أيام أعظم انحطاط لروما والفُرس، وأن السواد الأعظم من أوروبا كان نائمًا تحت سحابات الوحشية السوداء القاتمة؟
            أتهمل أوروبا في زوايا النسيان بالحقد وعدم الشكر تلك الأعمال التي أتوها، والشهرة التي تركوها وراءهم في الكتب، ألَم نفقد مرأى نشاط العالم الإسلامي الذِّهني العجيب في عصوره الأولى، لا سيما في زمان العباسيِّين؟
            ألم ننسَ الخسارة الفادحة التي جنيناها على أدبيَّات العرب، بل الجناية التي جنيناها على العالم أجمع بتدميرنا بجهل وفجور آلاف الكتب التي حضنا على تدميرها الترفُّض والتعصب المسيحي؟
            ألا يمكن أن يقال حقًّا: إنَّ أوروبا المسيحية بذلت كلَّ ما بوسعها من قرون مضت لأن تُخفي شكرها للعرب؟
            إلاَّ أن مثل هاتيك التشكرات المؤكده تأكيدًا تامًّا أعظم وأرفع من أن تختفي طويلاً، دَعْ أوروبا، وبالأحرى دع القارة المسيحية تقر وتعترف بخطئها، دَعْها تعلن للعالم أجمع عن غباوتها الغزيرة بعدم الشكر الواجب عليها، إنَّها ستضطر بعدُ للاعتراف بالدِّين الأبدي المدينة به للإسلام

            .
            وقال إدموند بوك الخطيب السياسي الإنكليزي: القانون المحمدي قانون ضابط للجميع من الملك إلى أقل رعاياه، وهو قانون نسج بأحكمِ نظام قضائي، وأعظم قضاء علمي، وأعظم تشريع منور، ما وجد قطُّ مثله في هذا العالم من قبل.

            وقال إرثر دروز في كتابه "شهود تاريخ يسوع": إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي نعرف عنه باليقين أنَّ مؤسسه كان شخصًا له وجود حقيقي تاريخي؛ اهـ.

            ويقول ويل ديورانت مؤلف كتاب "قصة الحضارة" في مقدمة كتابه:
            إنَّ السيادة الأوربية تسرع نحو الانهيار وإنَّ من أعظم أخطاء الغرب تجاهلُه فضلَ الشرق في فضائله وحيويته وانتعاشه، وإصراره على كتابته التقليدية للتَّاريخ بأن يبدأ قصة الحضارة من اليونان، ويكتفي بالحديث عن أسيا كلها في سطر واحد.

            ويقول في موضع آخر:

            وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا: إنَّ محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أنْ يرفعَ المستوى الرُّوحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارةُ الجو وجدب الصَّحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانِه فيه أيُّ مصلح آخر في التاريخ كله، وقلَّ أن نجد إنسانًا غيره حقق كل ما كان يحلم به، وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين.

            ويقول:
            والقرآن يبعث في النفوس الساذجة أسهل العقائد، وأقلها غموضًا، وأبعدها عن التقليد بالمراسيم والطقوس، وأكثرها تحررًا من الوثنية، والكهنوتية، وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، وحضهم على اتِّباع القواعد الصحية، وحرر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة.

            وحسَّن أحوال الأرِقَّاء، وبعث في نفوس الأذلاء الكرامة والعِزَّة
            ، وأوجد بين المسلمين درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض.
            ولقد علَّم الإسلام الناس أن يواجهوا صعاب الحياة ويتحملوا قيودها بلا شكوى ولا ملل، وبعثهم إلى التوسُّع توسعًا كان أعجب ما شهده التاريخ كله، وقد عرف الدين، وحدده تحديدًا لا يجد المسيحي ولا اليهودي الصحيح العقيدة ما يَمنعه من قَبوله.

            ويختم حديثه عن الحضارة الإسلامية بقوله: لقد ظل الإسلام خمسة قرون - على الأقل - من عام 700م إلى 1200م يتزعم العالم كُلَّه في القوة والنظام، وبسطة الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني والآداب والبحث العلمي والعلوم والطب والفلسفة... إلخ.
            يتبع...


            من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

            تعليق


            • #7

              وقال الفيلسوف الإنكليزي توماس كارليل في كتابه "الأبطال":


              لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدن من أبناء هذا العصر أنْ يُصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خداع، وأن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإنَّ الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير، مدة اثني عشر قرنًا لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا.
              أفكان يظن أن هذه الرِّسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أمَّا أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرَّواج، ويصادقان منهم مثل ذلك التصديق والقَبول، فما الناس إلا بله ومجانين، وما الحياةُ إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها أن لا تخلق، فواأسفاه، وما أسوأ مثل هذا الزعم! وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والرحمة!
              وبعد؛ فعلى مَن أراد أن يبلغَ منزلة ما في علوم الكائنات أنْ لا يصدق شيئًا أَلْبَتَّة من أقوال أولئك السفهاء، فإنَّها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب، وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان، ولعلَّ العالم لم يَرَ قطُّ رأيًا أكفر من هذا وألأم، وهل رأيتم قطُّ معشر الإخوان أنَّ رجلاً كاذبًا يستطيع أن يوجد دينًا وينشره؟
              عجبًا والله، إنَّ الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب، فهو إذًا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجص والتُّراب وما شاكل ذلك، فما ذلك الذي يبنيه بيت وإنَّما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، نعم وليس جديرًا أنْ يبقى على دعائمه اثني عشر قرنًا يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه، فينهدم فكأنه لم يكن.

              كذب - والله - ما يذيعه أولئك الكافرون، وإن زخرفوه حتى خيلوه حقًّا وهو زور وباطل، وإن زينوه حتى أوهموه صدقًا، ومحنة والله ومصاب أن ينخدعَ الناس شعوبًا وأممًا بهذه الأضاليل، وتسود الكذبة وتقود بهاتيك الأباطيل، وإنَّما هو كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة يحتال لها الكذاب حتى يخرجها من كفه الأثيمة، ويحيق مصابها بالغير لا به.
              وأي مصاب وأبيكم؟
              مصابو الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن يصيحون بملء أفواههم: هذه الأوراق كاذبة.
              ولسنا نعد محمدًا هذا قطُّ كاذبًا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرِّسالة التي أداها إلا حقٌّ صريح، وما كلمته إلا صوت صادر من العالم المجهول، وإنَّما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلبُ الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء، وهذه حقيقة تدفع كل باطل، وتدحض حجة القوم الكافرين.
              ويتحدث عن الكعبة، فيقول:
              وما أعجب هذه الكعبة! وأعجب شأنها! فهي في هذه الآونة قائمة على قواعدها، عليها الكسوة السوداء التي يرسلها السُّلطان كل عام يبلغ ارتفاعها سبعًا وعشرين ذراعًا، حولها دائرة مزدوجة من العُمُد، وبها صفوف من المصابيح وبها نُقوش وزخارف عجيبة، وستوقد تلك المصابيح الليلة لتشرق تحت النُّجوم المشرقة، فنعم أثر الماضي هي، ونعم ميراث الغابر هذه كعبة المسلمين، ومن أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب، من دلهي إلى مراكش متجهة أبصار العديد المُجَمْهَر من عباد الله المصلين شطرها، وتهفو قلوبهم نحوها خمس مرات، هذا اليوم وكل يوم، نعم لهي والله من أجل مراكز المعمورة وأشرف أقطابها.

              ثم يذكر حال العرب في الجاهلية، وما هم عليه من وثنية وتفرق وخمول - قال:
              وعلى هذه الطريقة عاش العرب دهورًا، خاملي الذكر، غامضي الشأن، أناسًا ذوي مناقب جليلة وصفات كبيرة، ينتظرون من حيث لا يشعرون اليومَ الذي يشاد فيه بذكرهم، ويطيرون في الآفاق هيبتهم، ويرتفع إلى عَنَان السماء صوتُهم، وما ذلك ببعيد، وكأنَّما كانت وثنياتهم قد وصلت إلى طور الاضمحلال وأذنت بالسقوط.
              وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم أنْ ولد محمد - عليه السَّلام - عام 580 ميلادية، وتذكر المزاعم الباطلة التي يروجها بعضُ المتعصبين من أنَّ محمدًا تعلَّم من الراهب بحيرا، ويفند ذلك الزعم ويسفهه إلى أنْ يقول:
              ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أنَّ محمدًا لم يكن يريد بقيامه إلا الشُّهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسُّلطان، كلا وايم الله، لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيرًا وحنانًا وبرًّا وحكمة وحِجًى وأربة ونُهَى أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطان والجاه.
              وكيف؟ تلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يُمكنهم إلا أن يكونوا مُخلصين جادين، فبينما نرى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة، ويسيرون طبق الاعتبارت الباطلة، إذ نرى محمدًا لم يرضَ أن يلتفع بمألوف الأكاذيب، ويتوشح بمنبع الأباطيل، لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه، كما قلت بأهواله ومخاوفه ورونقه ومباهره، لم يكُ هنالك من الأباطيل ما يَحجب ذلك عنه، فكأن لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه "ها أنا ذا"، وما كلمة مثل هذا الرجل إلاَّ صوتٌ خارج من صميم قلب الطبيعة، فإذا تكلم، فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية وكل كلام ما عدا ذلك هباء، وكل قول جفاء.

              أيزعُم الكاذبون أنَّه الطَّمع، وحبّ الدُّنيا هو الَّذي أقام محمَّدًا وأثاره؟
              حمق وايم الله وسخافة وهوس هذا الزعم، أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة؟
              وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حينٍ من الدَّهر؟
              أفي مشيخة مكة وقضيب مفضض الطرف، أم في ملك كسرى وتاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة؟
              كلاَّ، إذًا فلنضرب صفحًا عن مذهب الجائرين القائلين: إنَّ محمدًا كاذب، ولنعد موافقتهم عارًا وسبة وسخافة وحمقًا، ولنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع.
              فمن فضائل الإسلام تضحية النفس في سبيل الله، وهذا أشرف ما نزل من السماء على نبي الأرض، نعم، هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل، فأنار ظلماتها، هو ضياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك.
              ولقد قيل كثير في شأن نشر محمد دينه بالسيف
              ، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه فشذَّ ما أخطؤوا وجاروا، فهم يقولون:
              ما كان الدين لينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟
              هو قوة ذلك الدين، وأنه حق والرأي الجديد أوَّل ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد فالذي يعتقده هو فرد ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الفرد سيفًا وقام في وجه الدنيا فقلَّما والله يضيع.
              وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأيَّة طريقة حسبما تقتضيه الحال؛ أولم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانًا، وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون، وأنا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف أم بالسلطان أم بأية آلة أخرى، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة، أو بالصحافة، أو بالنار، لندعها تكافح وتجاهِد بأيديها وأرجلها وأظفارها، فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم، وليس في طاقتها قطُّ أن تفني ما هو خير منها، بل ما هو أحط وأدنى، إن دينًا آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوه بقلوبهم النارية لجديرٌ أن يكون حقًّا، وجدير أن يصدَّق به، وإن ما أُودِع هذا الدين من القواعد لهو الشيء الوحيد للإنسان أن يؤمن به وهذا الشيء هو روح جميع الأديان، روح تلبس أثوابًا مختلفة وأثوابًا متعدِّدة، وهي في الحقيقة شيء واحد، وباتباع هذه الروح يصبح الإنسان إمامًا كبيرًا لهذا المعبَّد الأكبر، الكون جاريًا على قواعد الخالق تابعًا لقوانينه لا محاولاً عبثًا أن يقاومها ويدافعها، ولم أعرف قطُّ تعريفًا للواجب أحسن من هذا.


              من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

              تعليق


              • #8

                وجاء محمد وشِيَع النصارى تقيم أسواق الجدال وتتخبَّط بالحجج الجائرة، وماذا أفاد ذلك؟ وماذا أثمر؟


                لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة، والنحل الباطلة فابتلعها وحُقَّ له أن يبتلعها؛ لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة، وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية، وكل ما لم يكن بحق فإنها حطب ميت أكلته نار الإسلام فذهب والنار لم تذهب.
                أمَّا القرآن فإن فرط إعجاب المسلمين به وقولهم بإعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة، هذا وإن الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة، وحسن الصياغة، ولذلك لا عجب إذا قلت:
                إن الأوربي يجد في قراءة القرآن أكبر هناء فهو يقرؤه كما يقرأ الجرائد لا يزال يقطع في صفحاتها قفارًا من القول المملِّ المتعِب، ويحمل على ذهنه هضابًا وجبالاً من الكلم؛ لكي يعثر في خلال ذلك على كلمة مفيدة.
                أمَّا العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة، ولأنه لا ترجمة ذهبت بحسْنه ورونقه فلذلك رآه العرب من المعجزات، وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى لإنجيلهم، وما بَرِح في كل زمان ومكان قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها.
                والوحي المنزَّل من السماء هدًى للناس وسراجًا منيرًا يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطًا مستقيمًا، ومصدرًا أحكام القضاة، والدرس الواجب على كل مسلم حفظه والاستنارة به في غياهب الحياة، وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه، وكذلك ما برح هذا الكتاب يرنُّ صوته في آذان الألوف من خلق الله، وفي قلوبهم اثني عشر قرنًا في كل آن ولحظة.

                وإني لأحب محمدًا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع.
                وفي الإسلام خلَّة أراها من أشرف الخلال وأجلِّها وهي: التسوية بين الناس، وهذا يدلُّ على أصدق النظر وأصوب الرأي فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء، والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنَّة محبوبة، بل يجعلها فرضًا حتمًا على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل فتكون جزءًا من أربعين من الثروة تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين، جميل والله كل هذا وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة.
                ولقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيا به من العرب أمَّة خاملة وأرضاها مُدَّة، وهل كانت إلا فئة من جوَّالة العرب خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحسُّ منها حركة، فأرسل الله لهم نبيًّا بكلمة من لدنه ورسالة من قِبَله فإذا الخمول قد استحال شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والشرارة حريقًا، وسع نوره الأنحاء، وعمَّ ضوؤه الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب، وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس، وأشرقت دولة الإسلام حِقَبًا عديدة ودهورًا مديدة بنور الفضل، والنبل والمروءة، والبأس والنجدة، ورونق الحق والهدى، على نصف المعمورة، وكذلك الإيمان العظيم، وهو مبعث الحياة ومنبع القوة، ومازال للأمَّة رُقِيٌّ في درج الفضل، وتعريج إلى ذرى المجد، ما دام مذهبها اليقين، ومنهاجها الإيمان.
                وقال: إن أركان القرآن الأساسية جاءت من ناحية صحَّة حقيقته، فهو كتاب لا ريب فيه، ولا يستطيع أحد أن يدسَّ فيه شيئًا ليس منه؛ لأن فصاحة القرآن فوق كل فصاحة.

                وقال بوسورث سميث في القرآن:
                هو نسيج وحدِه في مصدره وفي سلامته، حتى ما يستطيع أحد أن يلقي شيئًا من الشك في صحة روايته، حتى أن السير وليم ميور (1819- 1905م) يعترف بقوله:
                ليس ثمة - على الأرجح - كتابًا آخر في العالم قد بقي اثني عشر قرنًا نقيًّا من كل شائبة كالقرآن، ثم هو يزيد مع فون هامر فيقول:
                إننا نعتقد في القرآن أنه اليوم بكل تأكيد كما نطق به محمد، مثلما يعتقد المسلمون أنه كلام الله، فالمسلم إذ يملك كتابًا صدر عن وحي إلهي، ثم بقي سليمًا مصونًا في خلال العصور؛ ليهديه إلى خيره الاجتماعي والخلقي، وإذ يقتدي بنبي عظيم نبيل كمحمد الذي نجد في اختباره المتنوع في الحياة أحسن قواعد السلوك في جميع أحوال الحياة الإنسانية، هذا المسلم حقيقٌ أنه لم يرد حقيقة أوحاها الله - تعالى - إلى شعب من الشعوب، ولا أنكر قيمة خبر وقع عليه في حياة رجل خير، فالمسلم إذًا لا يعتقد فقط بالوحي الإلهي كله فحسب، ولا هو يتقبَّل فقط ما جاء به هُداة جميع الشعوب، ولكنه يتبع أيضًا الحقائق الخالدة التي تضمنها الوحي ويقتدي بالرجال الطيبين في كل خير عملوه في حياتهم.


                وقال الإمبراطور نابليون بونابرت:


                الإسلام شعب حديث السيرة في المدنية يوحِّد الله، ومع ذلك فإنه حمل بالقرآن جوهر الحقيقة التي جاء بها موسى والمسيح إلى أقاصي الجزيرة العربية وأفريقيا والهند، وكان متممًا لها في استئصال الوثنية، وقال أيضًا: الإسلام دين الفقراء والأمراء معًا، وإني أجد فيه بساطة ليست في طقوس الكنيسة وغفراناتها وكهاناتها.

                وقال المستر وليم شد في كتابه "الإسلام والكنيسة الشرقية":
                ليس في أخبار التاريخ الماضية ما يماثل سرعة انتشار الإسلام وتقدمه وتبسطه.
                ويقول المستشرق (ماسينيون): إن لدى الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدَّد في تحقيق فكرة المساواة؛ وذلك بفرض الزكاة التي يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض الديون البابوية، والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجات الأوَّلية الضرورية.
                ويقف في نفس الوقت إلى جانب الملكية الفردية ورأس المال التجاري، وبذا يحلُّ الإسلام مرَّة أخرى مكانًا وسطًا بين نظريات الرأسمالية البرجوازية ونظريات البلشفية الشيوعية، إلى أن يقول:
                وللإسلام ماضٍ بديع من تعاون الشعوب وتفاهمها، وليس من مجتمع آخر له مثل ما للإسلام من ماض كله النجاح في جمع كلمة مثل هذه الشعوب الكثيرة المتباينة على بساط المساواة في الحقوق والواجبات.


                من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                تعليق


                • #9

                  ويقول ماركس في نظام الزكاة:

                  وكانت هذه الضريبة فرضًا دينيًّا يتحتَّم على الجمع أداؤه، وفضلاً عن هذه الصفة الدينية فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدَّخر به الدولة المحمدية ما تمدُّ به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة لا استبدادية تحكُّمية ولا عرضية طارئة، وهذا النظام البديع كان الإسلام أوَّل مَن وضع أساسه في تاريخ البشرية عامَّة، فضريبة الزكاة التي كانت تجبر طبقات الملاَّك والتجَّار والأغنياء على دفعها؛ لتصرفها الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها - هدَمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة، وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يقوم على أساس الإثرة البغيضة.

                  ويقول المؤرخ الإنكليزي المشهور هـ . و . ولز:
                  كل دين لا يسير مع المدنية في كل طور من أطوارها فاضرب به عرْض الحائط ولا تبالِ به؛ لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنبًا إلى جنب لهو شر مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك، وإن الديانة الحقَّة التي وجدتها تسير مع المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئًا من هذا فليقرأ القرآن، وما فيه من نظريات علمية وقوانين وأنظمة لربط المجتمع، فهو كتاب ديني علمي، اجتماعي تهذيبي، خلُقي تاريخي، وكثير من أنظمته وقوانينه تستعمل حتى في وقتنا الحالي، وستبقى مستعمَلة حتى قيام الساعة.

                  وإذا طلب مِنِّي أحد القرَّاء أن أحدِّد له الإسلام، فإنِّي أحدِّده بالعبارة التالية:
                  هل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كان فيه الدين الإسلامي مغايرًا للمدنية والتقدُّم؟

                  كان النبي محمد زراعيًّا وطبيبًا وقانونيًّا وقائدًا، واقرأ ما جاء في أحاديثه تتحقق صدق ما أقول، ويكفي أن قوله المأثور:
                  ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع))، هو الأساس الذي بني عليه علم الصحة، ولم يستطع الأطباء - على كثرتهم ومهارتهم - أن يأتوا حتى اليوم بنصيحة أثمن من هذه.

                  والخلاصة أن محمدًا كان مجموعة من الحس والنبوغ والبحث، وهذا هو التحديد الصحيح الذي يجب على كل مسلم أن يعرفه.

                  إن محمدًا هو الذي استطاع في مُدَّة وجيزة لا تزيد عن ربع قرن أن يكتسح دولتين من أعظم دول العالم، وأن يقلب التاريخ رأسًا على عقب، وأن يكبح جماح أمَّة اتَّخذت الصحراء المحرقة سكنًا لها، واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر واتباع آثار آبائها، ولم تستطع الدولة الرومانية أن تغلب الأمَّة العربية على أمرها، فمَن الذي يشكُّ أن القوة الخارقة للعادة هي التي استطاع محمد أن يقهر خصومه بها هي من عند الله.

                  وقال في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية":
                  كان الإسلام منذ البداية قويَّ المقاومة إلى حدٍّ بعيد لعمليات الصقل والتفاصيل اللاهوتية التي أربكت المسيحية، وكان مليئًا بروح الرفق والسماحة والأخوَّة، وكان عقيدة سهلة يسيرة الفهم، كان غريزة مسجرة تحوي عواطف الفروسية في الصحراء.
                  ولم تكن كتلة الناس الذين جاءتهم دعوة الإسلام يهتمُّون إلا بشيء واحد هو أن ذلك الرب (الله) الذي كان يبشِّر به الرسول كان بشهادة الضمير المنطوية عليه قلوبهم رب صلاح وبر، وأن القبول الشريف لمبادئه وطريقته يفتح الباب على مصراعيه في عالم تقلقل وخيانة وانقسامات لا نسامح فيها على أخوَّة عظيمة متزايدة من رجال جديرين بالثقة في الأرض.

                  ويقول المسيو دي شامبيون مدير مجلة "ريفو بارلنتيرا" الفرنسية: لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على تقدُّم العرب في فرنسا لما وقعت فرنسا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصُّب الديني والمذهبي، ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت إسبانيا من وصْمة محاكم التفتيش، ولولا ذلك لما تأخَّر سيرُ المدنية ثمانية قرون، نحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة مع أننا نزعم السيطرة على تلك الشعوب العريقة في الفضائل، وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري مُدَّة ثمانية قرون، بينما كنَّا يومئذ مثال الهمجية، وإنه لكذب وافتراء ما ندَّعيه من أن الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثِّلون اليوم ما كنَّا نمثِّله نحن فيما مضى.

                  ويقول المسيو كلود فارير في المقدمة التي كتبها للترجمة الفرنسية من رواية "العباسة أخت الرشيد"؛ تأليف جرجي زيدان:
                  أصيبت الإنسانية والعالم الغربي عام 732م بكارثة عظمى لم تصب بمثلها في القرون الوسطى، وبقي أثرها ظاهرًا في العالم مُدَّة سبعة قرون أو ثمانية إن لم يكن أكثر من ذلك؛ لأن روح التجدُّد كانت يومئذ قد بدت للعيان حتى وقعت تلك الكارثة، فكان من نتائجها تأخُّر سير الحضارة ورجوع العالم إلى الوراء، هذه الكارثة هي الانتصار المؤلم الذي أحرزه وحوش (الهاركا) من جيوش الإفرنج التي كان يقودها شارل مارتل سليل الكالنجيين محاربًا بها كتائب العرب والبربر التي لم يحسن عبدالرحمن جمعها وحشدها بالمقدار الكافي؛ فكان ذلك سبب خذلانها وتقهقرها، في ذلك اليوم المظلم تقهقرت الحضارة إلى الوراء ثمانية قرون، وحسب الذين يبتغون أن يشهدوا مثالاً من مدنية العرب يومئذ أن يتنقَّلوا بين حدائق الأندلس الغناء، ثم يأتوا الآن فيتردَّدوا بين خرائب ذلك العصر الماثلة للأنظار في إشبيلية وقرطبة وطليطلة وغرناطة.

                  وقال الدكتور غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ حاكمًا أعدل ولا أرحم من العرب.
                  وقال الدكتور غوستاف لوبون أيضًا في كتابه "حضارة العرب": ومهما يكن من أمر فإن ممَّا لا ريب فيه أن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام - ومنها اليهودية والنصرانية - ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا.

                  وإذا ما قِيسَت قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ، وأخذ بعض علماء الغرب ينصفون محمدًا مع أن التعصُّب الديني أعمى بصائر مؤرِّخيهم عن الاعتراف بفضله.

                  قال العلامة بار تامي سنت هيلر: كان محمد أكثر عرب زمانه ذكاء، وأشدهم تديُّنًا، وأعظمهم رأفة، ونال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوُّقه عليهم، ونعدُّ دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده جزيل النعم على جميع الشعوب التي اعتنقته.

                  ونشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سرُّ قوة الإسلام، والإسلام وإدراكه سهلٌ خالٍ ممَّا نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذَّوق السليم من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحًا، وأقل غموضًا من أصول الإسلام القائلة بإله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وببضعة فروض يدخل الجنة مَن يقوم بها، ويدخل النار مَن يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة رأيته يعرف ماذا يجب عليه أن يعتقده، ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك عكْس النصراني الذي لا يستطيع حديثًا عن التثليث والاستحالة، وما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.
                  وساعَد وضوح الإسلام، وما أمر به من العدل والإحسان على انتشاره في العالم، وبتلك المزايا نفسِّر سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام؛ كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حُكْم القياصرة القسطنطينية، فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسِّر به السبب في عدم تنصُّر أيَّة أمَّة بعد أن رضيت بالإسلام دينًا سواء كانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.
                  ويجب على مَن يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني ألاَّ ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم بل إلى مدى تأثيره.
                  والإسلام إذا ما نُظِر إليه من هذه الناحية وُجِد من أشد الأديان تأثيرًا في الناس
                  ، وهو مع مماثلته لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاح... إلخ، يعلم هذه الأمور بسهولة يستمرئها الجميع، وهو يعرف - فضلاً عن ذلك - أن يصب في النفوس إيمانًا ثابتًا لا تزعزعه الشبهات، ولا ريْب في أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيمًا إلى الغاية؛ فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلَّفة من إمارات مستقلة، وقبائل متقاتلة على الدوام، فلمَّا ظهر محمد ومضى على ظهوره قرن واحد كانت دولة العرب ممتدَّة من الهند إلى إسبانيا وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهَّاج في جميع البلدان التي خفقت راية النبي فوقها، والإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيبًا للنفوس، وحملاً على العدل والإحسان، والتسامح والبدهية، وإن فاقت جميع الأديان السامية فلسفة تراها مضطرة إلى التحوُّل لتستمرئها الجموع وهي لا شكَّ دون الإسلام في شكلها المعدل هذا.
                  وجرت حضارة العرب التي أوجدها أتباع محمد على سنة جميع الحضارات القديمة، نشوءٌ فاعتلاءٌ فهبوطٌ فموتٌ، ومع ما أصاب حضارة العرب من الدثور كالحضارات التي ظهرت قبلها لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي ولا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئًا من قوتها.يدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسيا الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين، ثم جميع إفريقية تقريبًا إلى ما تحت خط الاستواء.
                  وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتَّخذت القرآن دستورًا لها ووحدة اللغة والصلاة التي يسفر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي.
                  ويجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي لذلك أكثر لغات العالم انتشارًا على ما يحتمل.
                  وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق والعنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام.
                  وقضى أعداء الإسلام من المؤرِّخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة فعزَوها إلى ما زعموه من تحلُّل محمد وبطشه، فيسهل علينا أن نثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول:
                  إن مَن يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة وأن ما أباحه القرآن من تعدُّد الزوجات لم يكن غريبًا على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور محمد.
                  وما قيل من دليل حول تحلُّل محمد نقضه منذ زمن طويل العلامة الفيلسوف بايل على الخصوص فبعد أن أثبت بايل أن ما أمر النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد ممَّا أمر به النصارى - قال:
                  إن من الضلال أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شقَّ من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق فقد دون هو تنجر قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى مع القصد في مدح الإسلام أن تلك القائمة تحتوي على أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان من التحلِّي بمكارم الأخلاق والابتعاد عن العيوب والآثام.
                  وسيرى القارئ حين نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن فقد ترك العرب المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانيةِ الإسلامَ واتَّخذوا العربية لغةً لهم؛ فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين ممَّا لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
                  والتاريخ أثبت أن الأديان لا تفرَض بالقوة، فلمَّا قهَر النصارى عرب الأندلس فضَّل هؤلاء القتلَ والطردَ عن آخرهم على ترك الإسلام.ولم ينتشر الإسلام بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقت الإسلام الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول، وبلغ من انتشار الإسلام في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل أن زاد عدد المسلمين فيها على خمسين مليون نفس، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا مع أن الإنكليز الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعًا إلى الهند؛ لتنصير مسلميها على غير جدوى.ولم يكن القرآن أقلَّ انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قط، فترى في فصل آخر ساعة أن الدعوة الإسلامية فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونًا في الوقت الحاضر.
                  وللفتوح العربية طابع خاص لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاؤوا بعد العرب؛ فالبرابرة الذين استولوا على العالم الروماني والترك وغيرهم - وإن استطاعوا أن يقيموا دولاً عظيمة - لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشقَّة من حضارة الأمم التي قهروها، وعكس ذلك أمر العرب الذين أنشؤوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها وتمكَّنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم، فضلاً عن حضارتهم الجديدة، واتَّصلت بالعرب أممٌ قديمة كشعوب مصر والهنود، فاعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عماراتهم، واستولت بعد ذلك الدَّور أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب؛ فظلَّ نفوذ العرب فيها ثابتًا، ويلوح لنا رسوخ هذا النفوذ إلى الأبد في جميع البقاع الأسيوية والأفريقية التي دخلوها، والتي تمتدُّ من مراكش إلى الهند، والإسبان وحدهم استطاعوا أن يتخلَّصوا من الحضارة العربية، ولكنهم لم يصنعوا ذلك إلا ليقعوا في الانحطاط العضال.


                  من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                  تعليق


                  • #10

                    وقال لوثو وب ستودارد الأمريكي في كتابه "حاضر العالم الإسلامي":


                    كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دوِّن في تاريخ الإنسان، ظهر الإسلام في أمَّة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطَّة الشأن، فلم يمضِ على ظهوره عقود حتى انتشر في نصف الأرض ممزِّقًا ممالك عالية الذُّرَى، مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرَّت عليها الحِقَب والأجيال، ومغيرًا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيًا عالمًا حديثًا متراصَّ الأركان:
                    هو عالم الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيافيها شتَّى القبائل الرحَّالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفَّق وينتشر وتتَّسع رقعته في جهات الأرض مجتازًا أفدح الخطوب، وأصعب العقبات، دون أن يكون له من الأمم الأخرى عوْن يذكر ولا أزْر مشدود، وعلى شدَّة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصرًا مبينًا عجيبًا؛ إذ لم يكد يمضي على ظهروه أكثر من شهرين حتى باتت راية الإسلام خفَّاقة من (البرانس) حتى (هملايا) ومن صحاري أواسط أسيا حتى صحاري أواسط أفريقية، كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق عوامل ساعدت عليه؛ أكبرها أخلاق العرب، وماهية تعاليم صاحب الرسالة، وشريعته، والحالة العامَّة التي كان عليها المشرق المعاصِر في ذلك العهد.
                    إن العرب وإن كان ماضيهم ما برح منذ عهد متطاول في القدم حتى عصر الرسالة ماضيًا غير مشرق باهر - قد كانوا أمَّة استودعت فيها قوة عجيبة، تلك القوة الكامنة التي بدأت منذ نشوء الإسلام تظهر جليَّة إلى عالم الوجود؛ فقد ظلت بلاد العرب أجيالاً طوالاً من قبل محمد مباءة يشتدُّ فيها تذخار القوى الحيوية وجيَشان العوامل الروحانية.
                    كيف لا؟ وكان العرب قد فاقوا آباءهم وأجدادهم إيغالاً في الشرك والوثنية، وانقضى عليهم - وهم على هذه الحالة - عهد ليس بالقليل، حتى استحالت عناصر أمزجتهم من شدَّة ذلك كله؛ فصاروا توَّاقين بفعل غرائزهم وأخلاقهم إلى تبديل حالهم، وتحسين شأنهم هكذا كانت حالتهم العقلية والنفسانية حالة الاستحالة الكبرى، والانقلاب العظيم، والاستعداد الكبير، لمَّا صاح فيهم نفير الإسلام.
                    إنْ محمد - وهو عربي من العرب - إلا روح قومه متجسِّدة ونفوسهم متجسِّمة، استطاع محمد وهو يبشِّر بالوحدانية تبشيرًا عاريًا عن زخارف الطقوس والأباطيل أن يستثير حقَّ الاستثارة من نفوس العرب الغَيْرة الدينية، وهي الغيرة الكامنة متمكِّنة على الدوام في كل شعب من الشعوب السامية، وذهب العرب لنصرة ابن عبدالله من بعد ما ذهبت من صدورهم الإِحَن المزمِنة والعداوات الشديدة التي كان من شأنها من قبلُ الذهاب بحولهم وقوَّتهم، وانضمَّ بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص تحت لواء الرسالة في رأسه نورٌ للناس وهدى للعالمين، أخذوا يتدفَّقون تدفُّق السيل من صحاريهم في شبه الجزيرة؛ ليفتحوا بلاد الإله الأحد الفرد الصمد... إلخ.

                    ويقول و. وندل كليلاند: فالإسلام اليوم هو دين زهاء 000ر000ر300 نسَمة فهو لذلك دين حيويٌّ وحيٌّ، ولئن كان من أغراض الدين أن يحدِث استقرارًا اجتماعيًّا ليمكن القول أيضًا أن من أغراض الدين الحي أن يتطوَّر حسب تطوُّر ظروف الحياة، وأن تاريخ الإسلام قد أظهر قدرته على إحداث هذا التطوُّر، ولنا أن نعتقد أن هذه المقدرة ما تزال موجودة، على أن المسؤولية تتوقَّف على المسلمين أنفسهم، حقًّا أنه لا إكراه في الدين، عدا إكراه الضمير في داخل النفس.

                    ويتحدَّث فيليب وايرلند بوزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن عن المناقضة بين الإسلام والشيوعية ويقول:
                    إن قبول المسلمين للشيوعية يستلزم حسب القواعد الدينية التي نصَّ عليها القرآن والحديث حواجز أخرى، وأولى هذه القواعد هي وحدانية الله، لا إله إلا الله وهذا الركن من أركان العقيدة كان الجامع لشمْل المسلمين جميعًا؛ فإن الإيمان بالله ووحدانيته هو قلب الإسلام بقدر ما هو الاستسلام لإرادة الله، والركن الثاني هو أن محمدًا رسول الله، وأحد أنبيائه وأعظمهم، ولم يكن وساطة الوحي في حياته فحسب، بل في جميع الأوقات وجميع العصور، والاعتقاد بأن محمدًا رسول الله هو ركن أساسٌ من أركان الإيمان يلي الإيمان بالله كما يرد في الصلوات، والركن الثالث هو الإيمان بأن القرآن كلام الله الموحَى به إلى النبي محمد باللغة العربية، ومن الأركان الأخرى الإيمان باليوم الآخر والثواب والعقاب من الله، ومقابلة سطحية بين هذه القواعد وبين النظريات المادية والآراء الماركسية واللينينية والستالينية تكفي لإظهار المناقضة بين الإسلام والشيوعية، والدليل على ذلك ليس مجرَّد تصريح لينين المأثور سنة 1905م:
                    "إن الدين هو أفيون الشعوب"، بل اتجاه الشيوعية الذي كان هائمًا إلحاديًّا وضدَّ الدين، ومثال ذلك ورد في التصريح الرسمي الموجَّه إلى الشباب الشيوعيين سنة 1946م أن النظريات المادية وفلسفة ماركس ولينين وأساس الحزب الشيوعي النظري تُناقِض الدين، إن نظر الحزب يعتمد على الحقائق العلمية في حين أن الدين يناقض العلم.

                    وبما أن الحزب يعتمد في نشاطه على أسس علمية فمن الواجب أن يخالف الدين، ونصح الشباب الشيوعي بما يلي:
                    إن الدعاية للإلحاد كانت جزءًا حيويًّا من نشاط المؤسسات العلمية والثقافية في الاتحاد السوفيتي منذ أول يوم من أيام الحكم السوفيتي، وسيستمرُّ الحزب في متابعة دعايته ضد الدين؛ لأنها الوسيلة التي يمكن أن تقضي على رجعية الدين قضاءً تامًّا.
                    ومن البدهي - بِناءً على ذلك - أنه لا يوجد في الشيوعية مكانٌ لله، أو محمد أو لأيِّ نبي آخر، أو للقرآن بوصفه كتابًا منزَّلاً أو شريعة، أو لليوم الآخر، أو لقضاء الله وقدره، فالشيوعية هي نقيض الإسلام، وهناك مبدأ آخر يناقض الإسلام وهو ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وللملكية، في حين أن نظام الملكية الفردية وقداسته قد أقرَّهما القرآن، وجرى عليهما المسلمون، وقد ورد مثلاً في خطبة الوداع التي خطبها النبي العبارة التالية:
                    ((أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمون أن كل مسلم أخ لكلِّ مسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحلُّ لامرئ إلاَّ ما أعطاه عن طِيب نفس منه)).
                    وورد في نفس الفتوى التي أذاعها مفتي الديار المصرية أن العقلية الإسلامية التي تعترف بحقِّ الملكية المقدَّس تناقض تعاليم الدعاة الهدَّامين الذين ينكرون حقَّ الملكية الفردية للأرض، والذين أقاموا نُظمهم الاقتصادية والاجتماعية على هذا المبدأ، ويتَّضح من هذا أن المسلمين المخلصين العاملين يقاومون الشيوعية مقاومة صادقة.
                    إلى أن يقول: يبدو من النظرة الأولى أنه توجد ظروف ملائمة جدًّا للديمقراطية في داخل الإسلام فإن الإسلام كان أعظم الديانات توفيقًا في إزالة فوارق الجنس واللون والقومية؛ ففي المسائل الدينية كما قال هـ.ا. جب: يتساوى أحقر مسلم مع الخليفة، أو قاضي القضاة، والسلطة النهائية ترجع إلى إجماع الشعب.

                    وقال الدكتور نظمي لوقا القبطي المصري في كتابه "محمد الرسالة والرسول" وقد صدر في العام الماضي وأحدث صدوره ضجَّة بين المسيحيين، قال تحت عنوان (برح الخفاء):

                    لم يبقَ شك في أن رسالة الإسلام جاءت مناسِبة لطور البشرية الطبيعي، جاءت رسالة الإسلام متلافية أوْجه الغموض في العقيدة الإلهية وأوجه العسر والعنَت وأوجه إغفال الدنيا، وفطرة البدن والروح في كيان واحد.
                    ثم مع هذا لم يقفل باب الاجتهاد في السُّمُوِّ الروحي، فما كانت دعوة تهوين أو إسفاف، بل دعوة اتساع في الأفق وشمول في النظر، يأخذ كل إنسان منها على قدر طاقته، ثم هو متروك في أمر طاقته لضميره وسريرته أن يقول صادقًا: ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾ [البقرة: 286]،
                    ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، فالمعول على السريرة والنية والصدق، فهذا الدين - كما قال رسوله - يسر لا عسر، وهو دين متين فأوغلوا فيه برفق، لا زيف في هذا الدين إذًا، وهو ملبٍّ حاجة البشرية كافَّة سوادهم وخاصَّتهم لا مسْخ فيه ولا إسفاف، ولا عسر فيه ولا إجحاف، وإنما هو صراط مستقيم لا إعنات فيه للفكر السليم والبداهة السديدة، برح الخفاء وأثبت أن هذا الدين نفسه دين هداية بالحق، وارتفاع بقيمة العقل عن الانسياق وراء المعميات والخوارق الغريبة عن طبيعة، معدنه في الإقناع والتصديق، ورد اعتبار البدن بوصفه هيكل الروح، فهو ليس مصدر خزي لصاحبه ولا هو بالرجس وإنما الرجل في مقارفة المحرَّمات المحدَّدة شرعًا وفي الإضرار بالنفس أو الغير وبغلَبة الشهوة على صاحبها، فصاحب الرسالة هو القائل:
                    ((إن لبدنك عليك حقًّا))، والقرآن يكرِّر ذلك المعنى في أكثر من موضع: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا ﴾ [البقرة: 168]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [البقرة: 267]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 87]، ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31]، هو دين يسع الناس كافَّة، ويهديهم كافَّة، ولكن حذارِ أن يظن ظانٌّ أن دعوة الإسلام استهوت الناس بتملُّق غرائزهم، أو رشوة منافعهم وإثرتهم، أو إباحة الأهواء والشهوات، فإن ذلك يكون ضلالاً كبيرًا، وجنوحًا إلى عكس مضمون تلك الدعوة.
                    إن الرسالة الإسلامية جاءت تنظيمًا لحياة الناس؛ بحيث يخرجون عن دائرة المنفعة الذاتية والأنانية بكل توابعها من الشهوة أو الهوى والقسوة والظلم والإباحية.فرضت على المرء أن يعمل، وجعلت قيمته وشرفه معلَّقين بعمله ﴿ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].
                    وفرضت الزكاة على الأموال، وجعلت للفقير في عنق الغني حقًّا مفروضًا هو الصدقة، وفرضت الصفْح والعفو، ومحت الثأر والشحناء، وفرضت الصلاة والصيام، وحرمت البذخ والسرف، وفرضت التواضع، وحرَّمت الخُيَلاء، فأحلَّت الزواج وحرمت الزنا، وضيقت زواج الجاهلية؛ فجعلت أقصاه أربعًا، وحضَّت على زواج الواحدة.
                    وفرضت الأخوَّة والمساواة، وألغت العصبية والاستعلاء بالنسب والجاه، وحرَّمت الخمر، وحرَّمت الفسوق والتجبُّر والميسر والعدوان على حقوق الناس وأعراضهم، فلئن قيل: إن الإسلام اعترف بحق البدن، فإنما يقال ذلك بوجه معين: إنه لم يغفل عن وجود البدن، وفطرة الله للبشر ذوي أبدان لا ملائكة من نور، فهو دين حصيف شامل، لا يرهق الناس من أمرهم عسرًا ولكنه إذ يمتنع عن الغلو في إنكار الجسد لا يغلو في إطلاق العنان له، بل إنه يلزمه حدوده، ويجعل الزمام في يد العقل؛ كي يسلك صاحبه مسلكًا طاهرًا يتمتَّع بالطيبات ممَّا أحلَّ الله شاكرًا لأنعمه مبتغيًا رضوانه، فذلك البدن إذًا أشبه ما يكون بمطية أحرى براكبها أن يرتحلها إلى كل ما هو طيب ويتنكَّب بها كل ما هو خبيث من المحارم، فإذا نظرنا إلى الرسالة الإسلامية لوجدناها أبعد ما تكون عن شبهة تملُّق الشهوات، أو إباحة الأهواء أو رشوة المنافع واللبانات.
                    كان العرب في الجاهلية أهل إباحة لا وازع ولا رادع، قصفهم مجون، ولهوهم فجور، وحياتهم عدوان، وكسبهم سُحْت، وليلهم خمر وميسر، فكيف يقال عن دين اقتلع جذور هذا كله ووضع الحدود لكل وجه من وجوه النشاط البشري أنه استدرج هؤلاء بما تملَّقه من غرائزهم وما أباح لهم من مباذلهم؟إن لم يكن هذا هو التنظيم والتضييق والسمو فما عساه يكون؟
                    ما فعل الإسلام إلا أن اعترف للمرء بحقِّ الحياة التي برَّأه الله فيها وركَّب فيه فطرة حبها وطلبها، فاستطاع الإنسان أن يعيش غير مضطرب أو متأثِّم من طبيعته السوية، وقد رسمت له حدود تتَّفق وواقع فطرته.

                    وتسمح له بالتسامي ما استطاع، ومَن لم يستطع فلا تثريب عليه، وفي رحمة الله الذي خلقه وعرف ضعفه متَّسعٌ.
                    ومَن سمى هذا التوسيع لباب رحمة الله والاعتراف بفطرة الله التي فطر عليها بني آدم إباحة وتملُّقًا للشهوات إنه إذًا لمغالط أو مخالط.
                    أترى إن قيل للناس: لا تتنفسوا يكون ذلك معقولاً مقبولاً وتكون إباحة التنفس تملقًا لأهوائهم أو رغباتهم؟
                    بل ذلك هو بقدر الاستطاعة وعدم قطع الناس عن رحمة الله، فلا تكون لهم حجة بعد في تحدي حدود العقيدة، وقد نظرت إلى حقيقة طبائعهم بغير إعنات، وهذا هو القسطاس الحق في تنظيم أمور الناس من غير تحيُّف، بحيث يطيق كل منهم تسويد العقل والروح على نوازع نفسه، ومَن شاء اتَّخذ إلى ربه سبيلاً.
                    وما جاء الرسل بالأديان بلاء للناس بل رحمة.
                    برح الخفاء، والرسالة رسالة حق.

                    ثم يقول الدكتور نظمي لوقا في ختام كتابه بعنون "لا بُدَّ ممَّا ليس منه بُدٌّ":
                    ماذا بقي من مزاعم لزاعم؟ إيمان امتحنه البلاء طويلاً قبل أن يفاء عليه بالنصر، وما كان النصر متوقَّعًا أو شبه متوقع لذلك الداعي إلى الله في عاصمة الأوثان والأزلام.
                    وعقيدة جاءت في طَوْرها الطبيعي ملبِّية لحاجة الإنسان الطبيعية، موفِّقة بين دينه ودنياه، ومتلافية تلك القسمة المقسَّمة بين الروح والبدن في السر والعلَن.
                    ونزاهة ترتفع فوق المنافع وسموٌّ يتعفَّف عن بهارج الحياة وسماحة لا يداخلها زهوٌ أو استطالة بسلطان مُطاع، لم يفد ولم يورث اله ولم يجعل لذريته وعشيرته ميزة من ميزات الدنيا ونعيمها وسلطانها، وحرم على نفسه ما أحلَّ لآحاد الناس من أتباعه، وألغي ما كان لقبيلته من تقدُّم على الناس في الجاهلية حتى جعل العُبدان والأحابيش سواسية، وملوك قريش، لم يمكِّن لنفسه ولا لذريته وكانت لذويه بحكم الجاهلية صدارة غير مدفوعة، فسوَّى ذلك كلَّه بالأرض، أيُّ قالة بعد هذا تنهض على قدمَين لتطاول هذا المجد الشاهق، أو تدافع هذا الصدق الصادق؟
                    لا خيرة في الأمر، ما نطق هذا الرسول عن الهوى.
                    لا خيرة في الأمر، ما ضل هذا الرسول وما غوى.لا خيرة في الأمر، وما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلامٌ عليه بما هدى من سبيل، وما قوَّم من نهج، وما بيَّن من محجة، وسلام على الصادقين.


                    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                    تعليق


                    • #11
                      شعور من اعتنقوا الإسلام:
                      وهنا نحبُّ أن نذكر طائفةً من أقوال بعض مَن اعتنقوا الإسلام عن وعيٍ ودراسة، فكان الاطمئنان وانشراح الصدر؛ ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعَام: 125].
                      قال اللورد هيدلي الإنكليزي في كتابه "إيقاظ الغرْب للإسلام" - وقد أسْلم اللورد، وتسمَّى بسيف الرحمن رحمة الله فاروق، وهو رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية - قال في كتابه المذكور:
                      يَميلُ الناس في هذه الأيَّام الحاضرة إلى الكُفر والإلحاد عندما يطلب منهم أن يَعتنِقوا هذه المذاهب، والعقائد التي لا تُفْهم، وهناك بلا شكٍّ رغبةٌ واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقولُ والميول، فمَن سَمِع بمسلم ارتد إلى الكُفْر والإلْحاد؟
                      ربَّما كانت هناك حالاتٌ من هذه، إلاَّ أنني أشك جدًّا فيها.
                      إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرِّجال والنِّساء أيضًا مسلمون قلبًا، ولكنَّ خوفَ الانتقاد، والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير تآمرَا على منعهم من إظهار معتقداتهم.
                      إنني خطوتُ هذه الخُطوة، ولو أنني أعلم عِلمَ اليقين أنَّ كثيرًا من إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كرُوح ضالَّة، ويصلون من أجلي، إلاَّ أني لستُ - في الحقيقة - في اعتقاداتي اليوم إلاَّ كما كنتُ منذ عشرين سَنة تمامًا، ولكن صراحتي في القوْل هي التي أفقدتْني حُسنَ ظنِّهم بي.
                      الآن وقد شرحتُ بعضًا من الأسباب التي جعلتْني أتَّبع الدِّين الإسلامي وقتها، فإنَّني أعتبر نفسي الآن أصبحتُ بإسلامي مسيحيًّا أفضلَ مسيحيةً ممَّا كنت عليه من قبل، فآمل أن يتَّبع الآخرون مثالي، ويعتقدون أحقِّيةَ الإسلام الذي أُقِر بكلِّ شهامة وفخر أنَّه أصحُّ الأديان، وأنَّه أصلُ السعادة لأي امرئ ينظر إلى هذه الخُطوة كخطوة متقدِّمة، لا كخطوة مضادَّة للمسيحية الحقَّة بأيِّ وجه.

                      ويقول أيضًا في هذا الكتاب: إنني لأعتقد اعتقادًا راسخًا بأنَّه لو اتُّبِعت الشريعةُ المحمدية التي أتتْ في القرآن بعناية تامَّة ودِقَّة، لأصبح من السهل جدًّا حُكمُ الشعب، ولا يكون ذلك غريبًا ما دام أكثرُ من نصف رعايا جلالته في مُلْكه الشاسع هم من المسلمين.
                      مرَّ العصر الذي كان يمكن أن يُجْتَهد فيه لإقامة أيِّ دِين بقوَّة الأسلحة، إنني لمتأكِّد من أنَّ المسلمين - أولئك القوم المتشبِّعون بالإخلاص والوفاء - ما حاولوا قطُّ أن يُقيموا الدين الإسلامي بالطرق العنيفة، فالفتنة والتمرُّد يحرمهما القرآن و﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البَقَرَة: 256] إحْدى مبادئ الدِّين الإسلامي.
                      اسْتلفات الأذهان، وإصغاء الآذان هو كلُّ ما يَرغَب فيه المسلمون، وإني لمتأكِّد من أنَّه إذا فَهِم رجال إنكلترا تمامًا المعنى الحقيقي للإسلام - العقل والتمييز، والالْتجاء إلى النُّهَى والشعور - لسعَوا في أن يُخْفُوا سوء فهمهم المخجِل السائد في الوقت الحاضر.

                      ينظر الأوربيون دائمًا إلى الإسلام كأنَّه وحشية وهمجية، فلو عَلِموا كلَّ ما فعله محمدٌ لإزالة التوحُّش والهمجية التي لقيها داخلَ بلاد العرب، لغيَّروا تلك الأفكارَ حالاً، إنَّهم هم المبشِّرون المسيحيُّون الذين لم يدَّخِروا وسعًا في تحريف الدِّيانة الإسلامية، وإنَّ هذا لأعظمُ الكذب الذي يُخزيهم، وإن كانوا ليظنُّون أن ما يفعلونه حسن، فما أعظمَ الفرقَ بين الطمس التعمُّدي للحقيقة، وبين الحالة التي يسيرُ عليها المبشِّر المسلِم في عمله!كثيرًا ما أُزْعجتِ الهيئات الحاكمة في هذه المملكة لقَبول طلبات الهيئات الدِّينيَّة؛ فكَنيسة انجلترا، وكنيسة الرُّومان الكاثوليك، وحِزْب المعارِضين، وكثيرٌ غيرُهم معتبَرون جدًّا؛ لأنهم ذوُو نفوذ عظيم، وما زال الكلُّ يقولون: هل مِن مزيد؟
                      ولكن ليستْ هناك - بأقصى ما يمكن للإنسان أن ينظر - أيُّ فصيلة دينيَّة من الفصائل المحمديَّة تطلب أيَّ سلطة دينية؛ إذ عظمةُ الإسلام أرفعُ من أن تسيطر عليها مثلُ هذه الاعتبارات الدنيئة، وكل متبع اتباعًا حقيقيًّا للنبي العظيم يتطلَّع إلى جزاء أرْقى بكثير من الغِنى والفوائد الدنيوية، كرُقيِّ ضوْء الشمس عن ضوْء الفسفور.
                      ليس هناك (بابوات)، ولا (أساقفة)، ولا (رهبان)، ولا (قسس) يطلبون هِبات، أو أرباحًا؛ لأنَّ الله نفسَه هو رأس هاتيك الفصائل الرُّوحية.أنبأنا التاريخُ أنَّ الكنائس المسيحيَّة تطالِب دائمًا بشدَّة أن يكون لها سُلطة دنيوية، ويمكننا هنا أن نُشير إلى بيْع المغفرة، وتوزيع المعاشات الدَّسِمة بدون جَوْر أو حَيْف، كي نبيِّنَ فظاعةَ الأحوال المريعة التي كان يجب أن تكونَ أفضل ما تطمحُ إليه النفس، وكيف اختلطتْ باعتبارات لمكاسبَ دنيوية محضة سافلة.إنَّنا لا نذهب بعيدًا إذا قُلْنا بأنَّ القسط الأوفر مِن هؤلاء الذين يزعمون بأنَّهم مسيحيُّون يعتبرون أنَّ الديانة هي محضُ نظام أيَّام آحاد محترمة وحَسَنة؛ لأنَّها تقدِّم لهم فُرصًا استثنائيَّة لعرْض أحسنِ ملابسهم وأزيائهم، والتكلُّم عن جيرانهم.
                      وهذا الدِّين العجيب ينوي أخْذَهم إلى بعض من الجَنَّة، ويتوقَّف مركزُهم في هذه الجنَّة على المبلغ المدفوع على نِظام دخول الناس دُورَ التمثيل تمامًا، يجلسون بأُجرة معيَّنة في "الألواج" والطابق الأول، وبأُجرة أخرى في الصالات والكراسي.

                      معظمُ دِيانة الغرب ما هي - في الواقع - إلاَّ نتيجة خرافات القرون الوُسْطى، وبقايا العصور المظلِمة، ولا تتفق مع تعاليم موسى أو المسيح، فمجيء محمَّد بعدَ المسيح بستِّمائة سَنة تقريبًا كَشَف عن عدم صحَّة مثل هذه الأفكار، كالتكفير، والتوسُّط الكهنوتي، والتوسُّل إلى القدِّيسين، وكلُّ هذه الطرق الملبكة المحتوى عليها التقرُّب من المولى جل وعلا.
                      مهما كانتْ عظمة الشرائع الموسويَّة، ومهما كانتْ ظرافةُ ورِقَّة تلك المبادئ الصَّفوحة، التي أتى بها نبيُّ الناصرة - عيسى عليه السلام - يجب أن يُعرف أنَّ الشريعة المحمدية التي احتوتْ على الرِّسالة السامية تتغلَّب بتذليلها كلَّ العقبات التي تقف في طريق السالك إلى الله.
                      هناك آياتٌ في القرآن لا تترك شكًّا في معناها، وتنطَبِق على جميع هؤلاء الذين يدخلون في دائرة السِّيادة الكهنوتية، أو يتَّخذون مخلوقاتٍ بشريةً لإرشادهم ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].
                      ديانة المسيح ليستْ تمامًا ديانة (بولس) الذي أضاف إليها وغيَّرها تغييرًا فاحشًا، وقد تَرجمتْ هيئاتٌ مختلفة هاتيك التعاليمَ، وغيَّرت فيها من وقت لآخر، وليس هناك في الحقيقة تناسُق في تلك المسيحيَّة المزعومة.

                      ولكنَّنا نجد في الإسلام ما يَكفي رغباتِ المخلوقات من الاتِّصال بالله مباشرة، الله الموجود أبدًا، القاهر على كلِّ شيء، والحافظ لجميع المخلوقات، ليس هناك في الإسلام إلاَّ إلهٌ واحد نعبدُه ونتبعه، إنه إمام الجميع، وفوق الجميع، وليس هناك قُدُّوس آخر نُشْرِكه معه.
                      مِفتاح السماء موجود دائمًا، ويمكن إدارتُه بأذلِّ وأقل المخلوقات دون أيِّ مساعدة من نبيٍّ أو كاهن أو مَلَك.
                      أمَّا هؤلاء الذين يجعلون الناسَ يفهمون غيرَ ذلك، ما دعاهم إلى هذا العمل إلاَّ حبُّ الفائدة كالرواتب، ومعاشات القسس، أو بعض فوائد دنيويَّة أخرى.
                      ليس غرضي الرئيس أن أهاجِمَ أيَّ فرع معيَّن من فروع الدِّيانة المسيحية، التي هي خالية في نظر الكاتب الضعيف من العوائقِ الظاهرة جليًّا في كثير من الدِّيانات الأخرى.
                      إن الدِّين مسؤول عن كثير من الآلام والفظائع، وسَفْك الدِّماء، وتلك حقًّا لحقيقة مُبكِية، أيمكن إذًا أن يوجد دِين يمكن الإنسان العالِم من أن يجمع أمرَه على عبادة الله الواحد الحقيقي، الذي هو فوق الجميع، وأمامَ الجميع، بطريقة سهلة، خالية من الحشْو والتلبيك؟
                      فكِّرْ لحظة - وذلك تفكير لازمٌ لكمال البشرية في الحقيقة - إنه إذا أصبحَ كلُّ فرْد في الإمبراطورية الإنكليزية محمديًّا حقيقيًّا بقلبه ورُوحه، لأصبحتْ إدارة الأحكام أسهلَ من ذلك؛ لأنَّ الناس سيُقادون بدِين حقيقي، ولن تبقى هناك جمعياتٌ كنائسيَّة، ولا منشقُّون كي يوفَّق بينهم، ولا ضرائبُ ثقيلة تُدفع للمرور في الطريق إلى الفِرْدوس.

                      إنَّ الديانة كما جاء بها موسى والمسيح ومحمد سهلةٌ جدًّا، إلاَّ أنَّ الخلط الذي أتاها من الآخرين الذين سَعَوا في أن يُحسِّنوا الوحي الإلهي جعلها مُعقَّدة، يرتبك وييأس منها مَن يستعمل عقلَه في السعي وراءَ الحقيقة بجِدٍّ ونشاط.
                      رُوح الإسلام تُحلِّق فوق أشياء أرْقى وأرفع مِن تلك الأطماع الدنيئة، والاختلافات الجِنسيَّة في الشرق والغرب، وإذا كانت المسيحيَّة الشرقية التي عُلمت بنبيِّ الناصرة العظيم قد سارتْ سيرًا حثيثًا في إضاءة طريق العالم الإنساني، فلماذا لا يستمرُّ الدِّينُ الإسلامي الأوسعَ والأسهل، كما أتى به النبيُّ العربيُّ الكريم في أعماله الحسنة، ما دام أنه ليس هناك سببٌ جوهري يمنع ذلك؟
                      من عدَّة سنين خلتْ كان أحدُ أفكاري الرئيسة هو: كيف يمكن الإسلام أن يتغرَّب (يصبح غربيًّا)، حتى يُمارسَ بالأمم الأوربية؟
                      أو بعبارة أخرى: كيف يمكننا نحن - معشرَ الغربيِّين - أن نُعِد أنفسنا لنكتبَ ونفقهَ معنى الإسلام الحقيقي؟
                      ثم تَلاَ ذلك فكرٌ آخرُ، وهو: كيف أنَّنا لم نشكَّ من جنسية المسيح الذي نعتقد أنه كان آسيويًّا محضًا؟
                      كانت أمُّه العذراء مريم آسيوية، وكان موسى، وكلُّ الأنبياء الموحَى إليهم شرقيِّين، وكان النبي الكريم محمد شرقيًّا مثل الآخرين، وأنزلت عليه الشريعة من الله؟
                      فالقرآن هو مِن كلام الله - عزَّ وجلَّ - كما كان الإنجيل وباقي الكتب المنزلة الأخرى، وهو – القرآن - يُثبِّت ويُحق الكتبَ المقدَّسة الأخرى، والوحي السابق.
                      القرآن يُضيف تعاليمَ أخرى تؤكِّد أهمية تلك التعاليم الماضية، وفوق ذلك فهو يُحرِّم كل نكهات العبادة الوثنيَّة، ورُوح الوحي هو ألاَّ يقترن اسمُ الله القوي العليم الرحيم بأيِّ اسم آخر.


                      رُوح الشكر هي خلاصة الدِّين الإسلامي، والابتهال أصلٌ في طلب القيادة والإرشاد مِن الله.

                      إنَّه وإن كان شكري لله على كَرمِه وعنايته كان متأصلاً فيَّ منذ صِغري وأيام حداثتي، إلاَّ أنني لا أستطيع أن أشاهدَ ذلك من خلال السنين القليلة الماضية التي قَرَع فيها الدِّين الإسلامي لبِّي حقًّا، وتملَّك رشدي صدقًا، وأقنعني نقاؤه، وأصبح حقيقةً راسخة في عقلي وفؤادي، إذِ الْتقيت بسعادة وطُمأنينة ما رأيتُهما قطُّ من قبل، ونجوتُ من العقائد الغريبة المتعلِّقة بسائر فروع الكنيسة المسيحية المختلفة، واستنشقتُ تلك النجاة، كما أستنشق هواءَ البحر الخالص النقي، وبتحقُّقي من سلاسة وضياء وعظمة الإسلام ومجدِه أصبحتُ كرَجلٍ قفز من سِرْداب مظلِم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمسُ النهار.
                      عندما قررت نهائيًّا أنه لا يمكن الحصول على أيِّ راحة من التعليمات الكهنوتيَّة أتتني فكرةٌ بأنه من المؤكَّد أنَّ الله يلاحظ ويُدبِّر كلَّ إرادة، وكلَّ حركة وعمل، إنه يفعل ذلك حقًّا، إلاَّ أنَّ التعليماتِ الموجودةَ من صحائف القرآن مكَّنتْني من أن أفقه معنى تلك الفِكرة المريحة راحةً عجيبة بطريقة كانت تستحيل عليَّ سابقًا.
                      دمَّر التعصُّبُ الدِّيني الأعمى الكنائسَ المسيحية في تنافسها، إلاَّ أنَّ ذلك لا يمكن أن يُقال عن الإسلام الذي هو كتلة متحدة، فما أحسنَ ذلك إذا كنَّا نحن - معشرَ الغربيِّين - نهجُر في هذا الوقت تلك الأصنافَ الدينية الملبكة، ونتخذ الدِّين الإسلامي!
                      إني لأعتقدُ اعتقادًا راسخًا أنه إذا كُلِّف أحسنُ الأذهان، وأنبهُ العقول الأوربية بالبحث عن دِينٍ مبنيٍّ على الاعتبارات الدنيوية والعقلية، ولا يخرج عن الوحي السماوي الذي أتى به الأنبياءُ، لَمَا وجدوا بإجماع الآراء غير الإسلام دينًا، فسهولته وعظمته مما لا يختلف فيه اثنان.


                      من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                      تعليق


                      • #12
                        أليستْ من أعظمِ النِّعم أن تسنح لك فرصة بأن تعتنق دينًا يتَّفِق والحِجا، ويُرضي الفؤادَ والضمير، ورغباتِ المرء الداخليةَ، كما أنَّه خالٍ في نفس الوقت من القسوسية والكهنوتية، وباقي التلبيكات الأخرى؟!

                        الكنائس المسيحية الكثيرة تُناقِض إحداها الأخرى مناقضةً عظيمة، ومعلِّمو لاهوتها (كهنتها) وضعوا عقدةَ التعاليم المسيحية التي لا تُحلُّ، ووضعوا تلك العقائدَ التي تُدهش العقولَ دهشةً عظيمة، حتى إنَّ العقولَ السليمة الصافية، والقلوبَ المبصرة تتوق إلى دِينٍ مفهوم، مقنع وسهل، غيرِ معقَّد.
                        فكَّرتُ وصليتُ أربعين سَنة كي أصلَ إلى حلٍّ صحيح، والرأي السائد عندي هو:

                        أنَّ كل تراكيب هذا الدِّين المزعوم (المسيحي) هي من عمل الإنسان، لا مِن عمل الله، ويجب عليَّ أن أعترف أيضًا أنَّ زياراتي للشرق ملأتْني احترامًا عظيمًا للدِّين المحمدي السلس، الذي يجعل الإنسانَ يعبد الله حقيقة طولَ مدة الحياة، لا في أيَّام الآحاد فقط.


                        الإسلام دينُ السهولة العظيمة، إنه يُرضِي أشرفَ رغبات النفس، ولا يناقض - بأيِّ حال من الأحوال - تعاليمَ موسى، أو المسيح.

                        * وقال الأستاذ أتيين دينيه أو ناصر الدين دينيه - وهو رسَّام عالمي مشهور، له لوحات بمتاحف أوربا الشهيرة، وقد أَعْلن إسلامَه، وكرَّس حياته لخِدمة الدين الإسلامي، وألَّف الكتب الكثيرة عن الإسلام؛ منها:
                        "محمد رسول الله"، وكتاب "الحج إلى بيت الله الحرام"، ورسالة ممتعة وازَنَ فيها بين الإسلام والمسيحية، ودافَع فيها عن الإسلام دفاعًا مجيدًا، أسماها "أشعة خاصة بنور الإسلام" - قال في هذه الرسالة تحت عنوان (مسايرة الطبيعة):
                        لا يتمرَّد الإسلام على الطبيعة التي لا تُغلَب، وإنما هو يساير قوانينَها، ويزامل أزمانَها، بخلاف ما تفعله الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومضادتها في كثير من شؤون الحياة، مثل ذلك الفرْض الذي تَفرِضه على أبنائها الذين يتَّخذون الرهبنة، فهم لا يتزوَّجون، وإنَّما يعيشون عُزَّابًا، على أنَّ الإسلام لا يكفيه أن يسايرَ الطبيعة، وألاَّ يتمرَّد عليها، وإنما هو يُدخِل على قوانينها ما يجعلها أكثرَ قبولاً، وأسهل تطبيقًا في إصلاحٍ ونِظام، حتى لقد سُمِّي القرآن كذلك بالهدى؛ لأنه المرشد إلى أقوم مسالكِ الحياة، ولأنَّه الدالُّ على أحسن مقاصدِ الخير.
                        والأمثلةُ العديدة لا تعوزنا، ولكن للقَصْد نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في سبيل تعدُّد الزوجات، وهو الموضوع الذي صادَف النقدَ الواسع، والذي جلب للإسلام في نظر أهلِ الغرْب مثالبَ جمَّة، ومطاعِنَ كثيرة، ومما لا شكَّ فيه:
                        أنَّ التوحيد في الزوجة هو المثل الأعلى، ولكن ما العمل وهذا الأمر يُعارِض الطبيعة، ويصادم الحقائق، بل هو الحال الذي يستحيلُ تنفيذُه؟
                        لم يكن للإسلام أمامَ الأمر الواقع - وهو دين اليُسر - إلاَّ أن يستبينَ أقربَ أنواع العِلاج، فلا يحكم فيه حُكمًا قاطعًا، ولا يأمر به أمرًا باتًّا، والذي فعل الإسلام أوَّلَ كل شيء: أنَّه أنقص عددَ الزوجات الشرعيات، وقد كان عندَ العرب الأقدمين مباحًا دون قيْد.
                        وانظر كيف وصفَه الإسلام وصفًا هو غاية في الرِّقة والدقة، واللُّطف مع الحِكمة، ثم انظر هل حقيقة أنَّ الديانة المسيحية بتقريرها الجبري لفرعية الزوْجة والتوحيد فيها، وتشديدها في تطبيق ذلك قد منعتْ تعدُّد الزوجات؟
                        هل يستطيع شخصٌ أن يقول ذلك دون أن يأخذَ منه الضَّحِكُ مأْخَذه؟!
                        وإلا فهؤلاء - مثلاً - ملوك فرنسا - دعْ عنك الأفراد - الذين كانت لهم الزوجاتُ المتعدِّدات، والنساء الكثيرات، وفي الوقت نفسه لهم من الكنيسة كلُّ تعظيم وإكرام.
                        إنَّ تعدد الزوجات قانونٌ طبيعي، وسيبقى ما بقي العالَم؛ ولذلك كان ما فعلتْه المسيحية لم يأتِ بالغرض الذي أرادته، فانعكست الآية معها، وصحونا نشهد الإغراءَ بجميع أنواعه، وكان مَثَلُها في ذلك مثل الشجرة الملعونة التي حُرِّمت ثمراتها، فكان التحريمُ إغراءً.
                        على أنَّ التوحيد في الزوجة - وهي النظرية الآخِذة بها المسيحية - تنطوي تحتها سيئاتٌ متعدِّدة ظهرت على الأخصِّ في ثلاث نتائجَ واقعية، شديدة الخطر، جسيمة البلاء، تلك هي:
                        الدعارة، والعوانس من النساء، والأبناء غير الشرعيِّين، وأنَّ هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تُعرَف في البلاد التي طُبِّقت فيها الشريعة الإسلامية تمامَ التطبيق، وإنَّما دخلتْها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنيَّة الغربية.

                        ومِن الأمثلة القائمة على ذلك: ما كان مِن أمر وادي ميزاب، حيث تسكن القبيلةُ التي بهذا الاسم في البلاد الجزائرية، إذ لم تدخلْها الدعارة إلاَّ بعد ضمِّها إلى فرنسا عام 1883م، وقد وصل بها الحالُ اليوم أنَّ أربعة بلدان من مجموع كلِّ سبعة بلدان قد ابتُليت بهذا.
                        على أنه من جهة أخرى نرى أنَّ الطلاق قد يخفِّف بعض الشيء من أضرار هذا التعنُّت في القصْر على زوجة واحدة، ولكن من جهة ثانية نرى أنَّ الطلاق سيِّئة من السيئات، إذًا ماذا؟ إذًا أي الأدواء قد خلاَ تمامًا من السيئات؟!
                        هذه هي العقبة الحقيقية الواقعة في سبيل انتشارِ الإسلام، فلا بدَّ من تذليلها، وليس بعدَ ذلك ما يحول بين الإسلام، وبين أن يكون دِينَ الإنسانية.



                        على أنَّ الكنيسة قد أساءتْ كذلك في مسألة الطلاق بمثل ما أساءتْ في أمر التوحيد في الزوجة، وذلك بمخالفتها أيضًا لقوانين الطبيعة.
                        انظر هل أشدُّ من الحُكم على زوجين شابَّين لم يستطيعَا عن بعضهما صبرًا، وقد خاب ظنُّهما في الزواج، ولم يدركَا السعادة التي طلباها من وراء ذلك، هل أشدُّ من الحُكم عليهما بأن يظلاَّ يقضيان بقيةَ أيامهما في عذاب، ونكد وشقاء؟
                        كذلك إذا كان أحدُهما عاقرًا، وكان غيرَ كُفءٍ لزميله، هل يُحرَم الآخر من أن يبنيَ لنفسه بآخر، وأن يُقيم له عائلةً من جديد؟!

                        إننا - ونحن في صدد الطلاق - لا تفوتنا حِكمة التشريع الإسلامي وهو يرى في فوضَى الطلاق، فيسمع النبي الكريم يقول: ((أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق)).

                        وقال رينيه حينو - وهو كان فرنسيًّا كاثوليكيًّا، وعضوًا بالبرلمان الفرنسي، فاعتنق الإسلام، وقام بالدعوة إلى الإسلام - قال جوابًا لِمَن سأله عن سبب إسلامه:
                        إنَّني تتبعتُ كلَّ الآيات القرآنية التي لها ارتباطٌ بالعلوم الطِّبية والصحية والطبيعية، والتي درستُها من صغري، وأعلمها جيِّدًا، فوجدتُ هذه الآياتِ منطبقةً كلَّ الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأنِّي تيقنتُ أنَّ محمدًا قد أتى بالحقِّ الصراح مِن قَبْل ألف سَنة، من قبل أن يكون معلِّم أو مدرِّس من البشر.
                        ولو أنَّ كلَّ صاحب فنٍّ من الفنون، أو عِلم من العلوم، قارَنَ كلَّ الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلَّم جيدًا، كما قارنت أنا، لأسلمَ بلا شك، إن كان عاقلاً خاليًا من الأغراض.
                        وقال محمد مارما ديوك بكثول - وكان إنكليزيًّا فأسلم -:
                        في رأيي أنَّ الزمن الذي نحن فيه أنسبُ الأزمان وأصلحها لنشْرِ الدعوة الإسلامية في الأرض، وما يظنُّه الظانُّون مثبطًا من نقص القوَّة هو بالعكس أدْعى إلى نشْر الإسلام، وأكثرُ ملائمةً للنجاح فيه.
                        إنَّ لنا في هدنة الحُدَيبية لعِبرةً، نقضي لها العجب كلَّما فكَّرْنا فيها، فالصحابة - رضوان الله عليهم - وقعتْ منهم شروط تلك الهُدنة موقعَ الأسى، وكانت لهم منها صدمةٌ عنيفة لم يَسْلَمْ من تأثيرها بعدَ صاحب الهِداية العُظمى - صلَّى الله عليه وسلَّم - غيرُ عدد قليل منهم، في مقدمتهم الصِّدِّيق - رضوان الله عليه.ولكن هذه الهدنة كانتِ الفتحَ الأكبر للإسلام، حتى إنَّ عدد الذين دخلوا الإسلام في سَنة واحدة بعد صُلْح الحديبية كان أكثرَ من عدد الذين دخلوا فيه مدةَ تِسْعَ عشرةَ سَنةً قبل ذلك، والسبب في هذا الإقبال على الإسلام أنَّ قريشًا وسائرَ العرب لَمَّا ظنُّوا الفوز في جانبهم بما حَصَلوا عليه من قيود وعهود، تساهلوا في أمْر الاتصال بالمسلمين، وزال سببٌ كبير من أسباب صدودهم عن الإصغاء إلى الهِداية الإسلامية، فكانوا يَرَوْن بأعينهم من سيرة أهل هذه الهداية ما يُبْهر النظرَ نورًا، وكانوا يسمعون بآذانهم ما يملأ القلبَ حقًّا وإيمانًا؛ لذلك صاروا يدخلون في دِين الله أفواجًا، وكان للإسلام بذلك القُوَّة العظمى التي مهَّدتْ لفتح مكة، وإعلاء كلمة الله، فلا يعلو عليها شيءٌ فتبيَّن للذين تلقَّوا صدمة تلك الشروط القاسية في الحديبية أنَّ هذه المواقفَ وأمثالَها ليس من شأنها أن تحولَ بين الحق وبين ما يستحقُّه من فوز.
                        ثم قال: إنَّ صوتًا عُلويًّا نسمعه الآن من الحُديبية يُنادينا بأنَّ في الإمكان - بالرغم مما صرنا إليه من التجرُّد من القوَّة - أن نلم شعثنا، ونعود إلى نشْر هداية ديننا، وأن نُبلِّغَ هذه الهدايةَ إلى البشر أجمعَ، فالشعوب اليوم أشدُّ إصغاءً إلينا منها في العصور السابقة؛ لأنَّ المشادة بين القوَّة والقسوة قد تكون سببًا للصدود عن الإصغاء إلى الحقِّ، فلَمْ يبقَ على المسلمين إلاَّ أن يعملوا، والعمل يومئذٍ ممكن جدًّا، ولكنَّ له شرطًا واحدًا، ولا مناص من تحقيق هذا الشرط، وهو أن نكون الآن متحلِّين بالصفات التي كان متحليًا بها مسلمو الحُديبية.
                        فالمسلِم المعاصر إذا تحلَّى بالأخلاق الإسلامية الأُولى مِن صِدْق واستقامة، وحَزْم وعِزَّة نفس، وسَعَى للخير جهد الطاقة، كان من وراء هذه الأخلاق قُوَّة تستمد الدعوة منها، فينتشر الإسلام حتى يعمَّ الأرض، والشُّعوبُ إنما تنظر إلى أهل الدِّين قبلَ أن تنظر إلى الدِّين نفسه.
                        وأضرب لكم المثل بالإسلام في الهِند، فإنَّ إلى جانب مسلِمي الهند ملايينَ كثيرةً من مواطنيهم الوثنيِّين، وإنَّ منهم مَن إذا أصغى إلى مبادئ الإسلام، وتأمَّل فيها بهرتْه، وقال:
                        إنَّ هذا هو الحق، وإنَّ هذا هو الذي يجب أن يَدين به كلُّ إنسان، لكنَّه لا يملك نفسه بعد ذلك:أن يسأل، ولماذا المسلمون أنفسُهم لا يعملون بهذه المبادئ؟! ولماذا لا يهتدون بهذه الهداية؟!

                        هذه هي العقبة الحقيقية الواقعة في سبيل انتشارِ الإسلام، فلا بدَّ من تذليلها، وليس بعدَ ذلك ما يحول بين الإسلام، وبين أن يكون دِينَ الإنسانية.
                        من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                        تعليق


                        • #13

                          وقال الأستاذ عبدالله كوليام - وهو إنكليزي اعتنق الإسلام، وصار داعية مخلصًا - قال في محاضرة له عن الإسلام والرسول:


                          إنَّ هذا المصلِح الكبير جاء البشرَ بالرسالة، ودعا الناس إلى الخير، ومع ذلك فقد نالَه من الأذى والاضطهاد ما يَجدُه كلُّ مصلح عظيم يعمل على خير الإنسانية، فلما تبيَّن البشرُ فضلَه بعد قليل دخلوا في دِينه أفواجًا، وما زالوا كذلك حتى بلغوا الآن مئات الملايين في جميع أطراف المعمورة.
                          وقالت اللادي أيفلين كوبولد في كتابها الذي ألفتْه عن مشاهداتها في الحجِّ إلى مكَّة المكرمة بعدَ أن اعتنقت الإسلام، وأدَّت فريضة الحج:
                          والإسلام كلمة تعني التسليم لله، وهي تعني السلامَ أيضًا، ويُعرف المسلِم بأنَّه الرجل الذي يسير في حياته وَفقًا لمشيئة خالقِه، وأوامر ربِّه، والذي يعيش بسلام مع الله وعباده، ولعلَّ أجمل ما في الإسلام ما يضطرب فيه مِن وحدانية إلهية، وأُخوَّة إنسانية، وخلوه من التقاليد والبِدع، والْتصاقه اللصوقَ كلَّه بما في الحياة من أمور عملية.
                          والإيمانُ في القرآن إنَّما يقوم على العمل الصالِح، وليس هناك في الإسلام إيمانٌ دون ما عمل صالح أبدًا، وهذا ما يجده المرء مردَّدًا في القرآن غيرَ مرَّة في مختلف سُوره، وشتَّى آياته.
                          ولقد فَرَض الإسلامُ الحجَّ على المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالمريض معذور، والفقير كذلك، والمستعبَد أيضًا، ويُشترط في الحج أن تكون الطريقُ إليه خلوًا من الخطر، لا ينتظم فيها مرضٌ ولا ظُلامة، أمَّا الحج نفسُه فليس مَن يُنكِرُ كبيرَ شأنه، وعظيمَ خطره، وما يغمر النفس فيه من انطلاق إلى المُثل الرُّوحيَّة العُليا، وانفلات من أعراض الدنيا، والتوجُّه إلى الله بقلْب سليم مع هذه الألوف المؤلَّفة من البشَر على اختلاف أمصارهم، وتباعُد لُغاتهم، وتَعدُّد مشاربهم وأذواقهم، يأتون مِن أقصى الأرْض، ويتحمَّلون في طريقهم من المشقَّات، واضطراب السُّبُل، وبُعْد المسافات ما ليس بالإمكان تقديرُه ولا تصوُّرُه، وكل ذلك ليقفوا في صعيد واحد أمامَ الله - جلَّ شأنُه - يتقدَّمون إليه بقلوب صافية، وأفئدِة ملتهبة، ودموع جارية.
                          ليس له مثيلٌ في العالَم كله، ولعمري إنَّ في زيارة هذه الأرض التي نشأ فيها محمَّد، ودعا إلى عبادة الله وحدَه على أديمها وعُذِّب وأوذي، وحورب في سبيل دعوته، هذه لَمِمَّا يُعيد ذِكْر التضحيات الهائلة التي لاقاها، والأهوال التي عاناها.
                          ودعوةُ البشرية إلى هذه الأرض مرَّةً في كلِّ عام يُعيد هذه الذكرياتِ ويُغذيها، ويُقرِّب الناسَ إلى الله - جل جلاله - ويزيد في نور هذه الشعلة الإلهية التي أنارتِ العالَم كله.
                          ومن فوائد الحجِّ أنَّه يُوطِّد الوَحْدةَ الإسلامية، ويُغذي الأُخوَّة التي أنشأها محمَّد، ودعا إليها وهو يدعو المسلِمين في كلِّ عام مرَّة واحدة إلى التعارُف والتقارُب، والتحدُّث إلى بعضهم بعضًا؛ ليتعرَّفَ المسلِم بواسطته على أحوال إخوانه في الإسلام، وشأنهم وأمورهم وأحوالهم، ويذكِّرهم بأنهم إخوان، وأنَّه لا فرق في الإسلام بين أبيضَ وأسود، وكبيرٍ وصغير، فإذا انتهَوْا من واجباتهم الدِّينية أخذوا بأطراف الحديث في ما يتَّصل بتِجارتهم ومعاشِهم، وقصصهم وأخبارهم، وأدبهم وعلومهم.
                          فالحجُّ - والحالةُ هذه - ليس فرضًا دينيًّا فحسبُ، وإنما إلى ذلك كله جمعية أُمم عُظمَى، ومجامع مختلفة في الفنِّ والأدب، والتجارة والسياسة، وغير ذلك من ألوان الحياة.
                          ولقد أشار إلى هذه الظاهرة الخطيرة الأستاذ (سنوك) فقال:
                          لقد سَبَق الإسلامُ الحكوماتِ الأوربية في التوحيد بين الأمم، والتقارُبِ بين الشعوب بما أقرَّه من وجوب الحجِّ على كلِّ مسلم يستطيع إلى الحج سبيلاً، ولعمري إنَّ هذه الديمقراطية والأُخوَّة التي أقرَّها الإسلام، وجعلها عامَّة بين أتباعه لَمِمَّا يُخْجِل الجماعاتِ الأخرى التي لم تَفْطن لها، ولا دعتْ إليها.
                          وتقول في هذا الكتاب: وإنَّ مِن طرافة الإسلام هذا السلامَ الذي أمر به القرآن أمرًا فقال: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، ألاَ ترى إلى هذا الإغراق في السلام، يودُّ الواحد من المؤمنين أن يفوزَ على رفيقه في القيام بهذا الواجب، فهذا الكبيرُ وهذا الصغير، وهذا الحرُّ وهذا العبد، كلٌّ يُسلِّم على الآخر بمثل الحرارة التي يسلِّم بها الرفيعُ على مثيله، والشريف على نِدِّه.
                          ولعمري، إذا لم يكن في الإسلام إلاَّ هذه الأُخوَّة التي قتلتِ التفرقة، وجعلت من الإنسانية شخصًا واحدًا، لا يعلو واحدُها على رفيقه إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح، لكَفَى، ولكان الإسلامُ من خير الأديان، وأقربها إلى الله، وأرفعها درجات.

                          ولقد أشار المستر بيكشول - الكاتبُ الإنكليزي - إلى هذه الظاهرة الغريبة الفذَّة في تاريخ الإنسانية، وراح يضرب الأمثالَ بهذا الاختلاف العظيم، يعمُّ الغربَ من أقصاه إلى أقصاه، ويتصل بين المرء وولده، وشقيقه ونسيبه وجاره.
                          وكيف أنَّ الإسلام يقف وحيدًا في هذه الظاهرة، حيث تقوم الأُخوَّة الإسلامية فيه مقامَ العصبية والجوار، وغيرها من الصِّلات والعُرَى.

                          وتتحدَّث كثيرًا في هذا الكتاب عن مزايا الإسلام وفضائله العظيمة، وتقول بعد ذلك:
                          ولقد كان العَربُ قبل محمَّد لا شأنَ لها، ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلمَّا جاء محمدٌ خَلَق هذه الأمَّة خلقًا جديدًا، يصحُّ أن يكون أقربَ إلى المعجزات، فغلبتِ العالَم، وحَكمتْ فيه أجيالاً وأجيالاً، حتى دبَّ فيها الفساد، وتطرَّق إليها الترف، فانهارتْ حضارتُها، وانطفأت معالمها، وأُصيب العالَم والحضارة من سقوط العَرَب وانهيار سلطانهم بخسارة لا تُعوَّض.

                          وفي موضع آخر من الكتاب تُشير إلى تعدُّد الزوجات في الإسلام، وتورد ما كتَبَه المستر بيكتول في قوله:
                          يقول بعضُهم: إنَّ تعدُّد الزوجات من الواجبات في الإسلام، والواقع أنَّ الأمر غير ذلك، فتعدُّد الزوجات ليس في الإسلام واجبًا، وهو في الحقيقة مثله في المسيحية، وقد كان تعدُّد الزوجات من سنوات أمرًا واقعًا في المسيحية، ولكنَّه ألاَ يصح أن يُنظرَ إليه نظرة حقٍّ وعدل؟ خصوصًا وأنه يرفع بعضَ الحيف عن المرأة، ويقرِّر لها مركزًا تحاول المدنية الغربية إغفالَه، ذلك أنَّ الزواج الواحد لم يكن في وقتٍ من الأوقات أمرًا واقعًا في أوربا، وبسببه نرى نساءً كثيرات تُرمَى في الأزقَّة، ويرفض الاعتراف بهنَّ بسبب هذه العقيدة التي ليس هناك مَن يحافظ عليها، فالإسلامُ - والحالة هذه - يضع حدًّا لهذه الظاهرة البغيضة، ويسمح للمرأة التي تتعلَّق بشخص متزوِّج أن تعيش عيشةً شريفة، حرة محترمة.
                          وليس مَن ينكر ما نراه في أوربا اليوم من ظاهرة تغرير المرأة، وكيف أنَّ هناك نساءً كثيراتٍ يسقطن إلى أقصى دركات الانحطاط والسفالة، فالسماح بتعدُّد الزوجات في الإسلام يضع حدًّا - والحالة هذه - لتعدُّد الزوجات الموجود في الغرب، والذي لا تقرُّه القوانين، ولكنَّه أمرٌ واقع، والذي تكوَّن من نتيجته إقْفال الباب في وجوه النساء اللاتي يرميهنَّ سوءُ حظهنَّ في مهالك الرذيلة، فيسقطن وأولادُهن في الشوارع ناعسات بغيضات".


                          من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                          تعليق


                          • #14

                            أما الأستاذ محمد أسد النمساوي - الذي أسلم، وغيَّر اسمه السابق ليوبولد فايس، وألَّف كتاب "الإسلام على مفترق الطرق"، و"منهاج الحكم في الإسلام"، و"في الطريق إلى مكة" -
                            فقال في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" - بعد أن ذَكَر ما صادفه بعدَ إسلامه -:

                            ومنذ ذلك الحِين وهذا السؤال يُلقَى عليَّ مرَّةً بعدَ مرَّة:
                            لماذا اعتنقت الإسلام؟ وما الذي جذبك منه خاصَّة؟
                            وهنا يجب أن أعترف بأني لا أعرف جوابًا شافيًا، لم يكن الذي جذبني تعليمًا خاصًّا من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب، والمتراص بما لا نستطيع له تفسيرًا من تلك التعاليم الأخلاقيَّة، بالإضافة إلى مِنهاج الحياة العملية، ولا أستطيع اليوم أن أقول:
                            أيُّ النواحي قد استهوتني أكثرَ من غيرها، فإنَّ الإسلام - على ما يبدو لي - بناءٌ تامُّ الصنعة، وكل أجزائه قد صِيغتْ ليتممَ بعضُها بعضًا، ويشدَّ بعضُها بعضًا، فليس هناك شيء لا حاجةَ إليه، وليس هنالك نقصٌ في شيء، فنتج من ذلك كله ائتلافٌ متَّزن مرصوص، ولعلَّ هذا الشعور من أنَّ جميع ما في الإسلام من تعاليمَ وفرائض قد وُضِعتْ مواضعها هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي، وربما كانتْ مع هذا كلِّه أيضًا مؤثِّرات أخرى يصعب عليَّ الآن أن أحللها.
                            ثم يذكر اختلاطَه بالمسلمين، وتعرُّفَه على وجهات نظرهم المختلفة، ويقول:
                            هذه الدراسات والمقارنات خلقتْ في العقيدة الراسخة بأنَّ الإسلام مِن الوجهتين - الرُّوحيَّة والاجتماعية - لا يزال بالرغْم من جميع العقبات التي خَلَقها تأخُّر الإسلام أعظمَ قوَّة نهاضة بالهِمم عَرَفها البشر، وهكذا تجمَّعت رغباتي كلُّها منذ ذلك الحين حولَ مسألة بَعثِه من جديد.

                            ويقول:
                            نحن نعدُّ الإسلام أسمى من سائر النُّظُم المدنية؛ لأنه يشمل الحياةَ بأسرها، إنَّه يهتم اهتمامًا واحدًا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد وبالمجتمع، إنَّه لا يهتمُّ فقط لِمَا في الطبيعة الإنسانية من وجود الإمكان إلى السمو؛ بل يهتمُّ أيضًا لِمَا فيها من قيود طبيعية.
                            إنَّه لا يحملنا على طلب المحُال، ولكنَّه يَهدينا إلى أن نستفيد أحسنَ الاستفادة ممَّا فينا من استعداد، وإلى أن نصلَ إلى مستوى أسمى من الحقيقة، حيث لا شِقاقَ ولا عداءَ بين الرأي وبين العمل، إنه ليس سبيلاً بين السُّبُل، ولكنَّه السبيل.
                            وإنَّ الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهُداة، ولكنَّه الهادي، فاتِّباعه في كلِّ ما فعل وما أمر، اتِّباعٌ للإسلام عينِه، وأما اطراح سُنَّته، فهو اطراح لحقيقةِ الإسلام.
                            ويقول أيضًا:
                            ومِن بين سائر الأديان نجدُ الإسلامَ وحدَه يُتيح للإنسان أن يتمتَّع بحياته الدنيا إلى أقْصى حدٍّ، من غير أن يضيع اتجاهه الرُّوحي دقيقةً واحدة، وهذا يختلف كثيرًا عن وجهة النظر النصرانية.
                            إنَّ الإنسان - حسبَ العقيدة النصرانية - يتعثَّر في الخطيئة الموروثة التي ارتكبَها آدم وحواء، وعلى هذا تُعتبر الحياةُ كلُّها في نظر العقيدة على الأقلِّ - واديًا مظلمًا للأحزان.
                            إنَّها الميدان الذي تعترك فيه قوَّتان: الشرُّ المتمثل في الشيطان، والخيرُ المتمثل في المسيح، إنَّ الشيطان يحاول بواسطة التجارب الجسدية أن يسدَّ طريقَ النفس الإنسانية نحوَ النور الأزلي، إن النفس مِلْك المسيح، ولكن الجسد ملعبٌ للمؤثِّرات الشيطانية، وقد يمكن التعبير عن ذلك بوجه آخر:
                            إنَّ عالم المادة شيطاني في أساسه، بينما عالَم الرُّوح إلهي خير، وإنَّ كل ما في الطبيعة الإنسانية من المادة؛ أي: الجسد - كما يُؤثِر اللاهوت النصراني أن يدعوه - فإنَّما هو نتيجة مباشِرة لزلَّة آدم، حينما سَمِع نصيحةَ الأمير الجهنمي للظُّلمة والمادة؛ يعني:إبليس.
                            من أجل ذلك كان حتمًا على الإنسانِ عندَهم إذا شاء أن يلفتَ قلبُه عن عالم اللَّحْم إلى هذا العالَم الرُّوحي المقبِل، حيث تَحُلُّ الخطيئة بالبشرية بتضحية المسيح؛ أي: بفداء المسيح.
                            أمَّا في الإسلام، فإنَّنا لا نعلم عن خطيئة أصلية موروثة، من أجْلِ ذلك ليس ثَمَّة أيضًا غفرانٌ شامل للإنسانية فيه.إنَّ المغفرة والغضب أمران شخصيان، إنَّ كلَّ مسلِم رهينٌ بما كسب، فهو يحمل في نفسه جميعَ وجوه الإمكان للنجاة الرُّوحية، أو للخيبة الرُّوحية، ولقد قال القرآن الكريم في النفس الإنسانية ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]، وقال في موضع آخر: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾ [النّجْم: 39].
                            ولكن كما أنَّ الإسلام لا يشارك النصرانية في ما تنصُّ عليه من الناحية المظلِمة في الحياة، فإنَّه يعلِّمنا - على كل حال - ألاَّ نعلقَ على الحياة أهميةً مُغَالى فيها، كالتي تقول بها المدنيَّة الغربية الحاضرة.

                            إنَّ الغرب الحديث - بصرْف النظر عن نصرانيته - يَعْبُد الحياة بالطريقة نفسِها التي ينظر بها النهم إلى الطعام، إنَّه يلتهمه، ولكن لا يحترمه!أمَّا الإسلام فإنَّه ينظر إلى الحياة الدنيا بهدوء واحترام، إنَّه لا يعبُد الحياة، ولكنَّه ينظر إليها على أنَّها دارُ ممرٍّ في طريقنا إلى وجود أسمى، ولكن بما أنها دارُ ممرٍّ ضروريَّة، فليس من حقِّ الإنسان أن يحتقرَ حياته الدنيا، ولا أن يبخسها شيئًا من حقِّها.
                            إنَّ سفرنا في هذا العالم أمرٌ ضروري، وجزءٌ إيجابيٌّ من سُنة الله، من أجْل ذلك كان لحياة الإنسان قيمةٌ عُظْمى، ولكن يجب ألاَّ ننسى أنها قيمةُ الواسطة إلى غاية فقط، ثم ليس هنالك مجالٌ في الإسلام للتفاؤل المادِّي، كما هو في الغَرْب الحديث، الذي يقول:
                            مملكتي في هذا العالَم وحدَه، ولا لاحتقار الحياة الذي يَجري على لسان النصرانية:إن مملكتي ليستْ من هذا العالَم.
                            إنَّ الإسلام يتخيَّر في ذلك طريقًا وسطًا، ولذلك يُعلِّمنا القرآن أن ندعو فنقول ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201]، وهكذا نرى أنَّ قَدْر هذا العالم، وما فيه من متاع حقَّ قدْرِه لا يقف حَجَرَ عثرة في سبيل جهودنا الرُّوحية.
                            إنَّ النجاح المادي مرغوبٌ فيه، ولكنَّه ليس غايةً في نفسه، إذ إنَّ الغاية من جميع نشاطنا العملي يجب أن تكون خُلقًا، ثم احتفاظًا بأحوال فرديَّة واجتماعيَّة، كتلك التي يمكن أن تعملَ على ترقية الفضائل الخُلقية في البشر، وعلى هذا المبدأ ترى الإسلامَ يقود الإنسانَ نحو الشعور بالتَّبِعة الأدبية في كلِّ ما يعمل، سواء أكان ذلك جليلاً، أم ضئيلاً.
                            إنَّ الإسلام لا يسمح بالتفريق بين المطالِب الأدبية، والمطالب العَملية في وجودنا هذا، ففي الأشياء كلِّها لنا خيارٌ واحد بين الحق والباطل، وليس ثَمَّة من منزلة بين المنزلتين، وهكذا كان الإصرارُ في الإسلام على أنَّ العمل عنصرٌ لا غِنى عنه في الفضائل الخُلقية - شديدًا.
                            فعلى كلِّ مسلم أن ينظر إلى نفسِه على أنَّه مسؤول شخصيًّا عن نشْر كلِّ أنواع السعادة حولَه، وأن يسعى إلى إقرار الحقّ، وإزهاق الباطل في كلِّ زمان، وفي كل ناحية، ونحن نجد مصداقَ ذلك في آية من القرآن الكريم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عِمرَان: 110].
                            هذا هو التبرير الأدبي للنشاط الظالِم في الإسلام - تبريرُ الفتوح الإسلامية الأولى، أو ما يُسمُّونه بالتوسع الاستعماري.
                            إنَّ الإسلام استعماري إذا لم يكن بدٌّ من استعمال هذا التعبير، ولكن هذا النوع من الاستعمار لم يحثَّ عليه حبُّ السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية الاقتصادية أو القومية، ولا شيء آخر من الطمع في أن تَزيد أسبابُ رفاهيتنا الخاصَّة على حساب شعب آخر.
                            ولم يُقصَد منه في يوم من الأيام إكراهُ غير المؤمنين على الدُّخول في الإسلام
                            ، لقد قُصِد به دائمًا ما يُقصَد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحْسَن ما يمكن من التطوُّر الرُّوحي للإنسان، إنَّ المعرفة بالفضائل - حسبَ تعاليم الإسلام - تفرِض على الإنسان مِن تلقاء نفسِه تبعة العمل بالفضائل، وأمَّا الفصل الأفلاطوني بين الخير والشر من غيْر حثٍّ على زيادة الخير، ومحو الشرِّ، فإنه فِسْق عظيم في نفسه.
                            إنَّ الأخلاق في الإسلام تحيا وتموت مع المسعاة الإنسانية، للعمل على نُصْرتِها في الأرض. اهـ.
                            ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة، وهي كثيرة جدًّا، فمَن أراد التوسُّع في ذلك، فعليه بمطالعة الكتب المؤلَّفة في هذا الشأن.
                            واللهَ نسأل أن يوفِّق الجميعَ للخير والهُدى، وأن يَهديَهم للأخْذ بأسباب النجاة والفلاح، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.

                            تم.

                            الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض


                            من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.

                            تعليق

                            يعمل...
                            X