إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم ؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم ؟

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم ؟
    وأصلها أسئلة ألقيت على الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى ، فأجاب عنها مسجلة ، ثم فرغت وطبعت في أوراق ، وقدمت للشيخ رحمه الله تعالى ، فقرأها وعلق عليها بخط يده . وقد طبعت في كتاب أسمه [ كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم ؟ ]

    سؤال 1 : فضيلةَ الشيخ ، قرأتُ في كتاب صغير حديثًا يقول : (( خذ من القرآن ما شئت لما شئت )) ، فهل هذا الحديث صحيح ؟ أفيدونا ، جزاكم الله خيرًا .

    الجواب : هذا الحديث : (( خذ من القرآن ما شئت لما شئت )) حديث مشتهر على بعض الألسنة ؛ ولكنه – مع الأسف الشديد - من تلك الأحاديث التي لا أصل لها في السُّنَّة ؛ ولذلك فلا يجوز روايتُه ونسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .

    ثم إن هذا المعنى الواسع الشامل لا يَصِحُّ ولا يثبت مطلقًا في شريعة الإسلام (( خذ من القرآن ما شئت لما شئت )) ، فمثلاً إن أنا جلستُ في عقر داري ، ولا أعمل في مهنتي وصنعتي ، وأطلب الرزق من ربي أن ينزله علي من السماء ؛ لأني آخذ من القرآن لهذا ! من يقول هذا ؟!

    هذا كلام باطل ، ولعله من وضع أولئك الصوفية الكسالَى ، الذين طُبعوا على الجلوس والسكن فيما يسمونها بالرباطات ، يَنْزلون فيها وينتظرون رزق الله ممن يأتيهم به من الناس ، علماً أن هذا ليس من طبيعة المسلم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ربَّى المسلمين جميعًا على علوِّ الهمة ، وعلى عزة النفس ، فقال عليه الصلاة والسلام : ((اليدُ العليا خير من اليد السفلى)) ؛ فاليد العليا هي المنفقة ، واليد السفلى هي السائلة .

    ويُعجبُنِي - بهذه المناسبة - مما كنت قرأته ، فيما يتعلَّق ببعض الزهاد من الصوفية ، ولا أطيل في ذلك ؛ فقصصهم كثيرة وعجيبة :-
    زعموا أن أحدَهم خرج سائحًا ضاربًا في الأرض بغير زاد ، فوصل الأمر إلى أنه كاد يموت جوعًا ، فبدت له من بعيد قرية ، فأتى إليها، وكان اليوم يوم الجمعة ، وهو بزعمه خرج متوكلاً على الله ، فلكيلا ينقض بزعمه تَوَكُّلَه المزعوم لم يظهر شخصه للجمهور الذي في
    المسجد ، وإنما انطوى على نفسه تحت المنبر، لكيلا يشعر به أحد ، لكنه كان يُحَدِّث نفسه لعل أحدًا يُحِسُّ به ، وهكذا خطب الخطيب خطبته ، وهو لم يُصل مع الجماعة ! فبعد أن انتهى الإمام من الخطبة والصلاة ، وبدأ الناس يخرجون زَرَافاتٍ ووحدانًا من أبواب المسجد ، حتى شعر الرجل بأن المسجد كاد يخلو من الناس ، وحينئذٍ تُقفل الأبواب ، ويبقى وحيدًا في المسجد من غير طعام ولا شراب ، فلم يَسَعْهُ إلا أن يتنحنح ؛ لِيُثْبِتَ وجوده للحاضرين ، فالتفت بعض الناس ، فوجدوه قد تَحوَّل كأنه عظم من الجوع والعطش ، فأخذوه وأغاثوه ، وسألوه : من أنت يا رجل ؟ قال : أنا زاهد ، متوكل على الله ، قالوا : كيف تقول : متوكل على الله ، وأنت كدتَ أن تموت ؟! ولو كنتَ متوكلاً على الله لما سألتَ ، ولما نبَّهت الناس إلى وجودك بالنحنحة ، حتى تموت بذنبك ! هذا مثال إلى ما يؤدي به مثلُ هذا الحديث : ((خذ من القرآن ما شئت لما شئت )) .

    والخلاصة : أن هذا الحديث لا أصل له ( لا أصل له في كتب السنة ) .


    سؤال 2 : فضيلةَ الشيخ ، يقول القرآنيُّون : قال تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [الإسراء : 12]، وقال تـعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( إن هذا القرآن طرفه بيَد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به ، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا )) ، نرجو من فضيلتكم التعليق على ذلك .

    الجواب : أما قوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءِ } [الأنعام: 38] ، فهذه الآية إنما تعني بالكتابِ هُنا : اللوحَ المحفوظ ، ولا تعني : القرآن الكريم .
    أما قوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [الإسراء: 12]، فإذا ضممتم إلى القرآن الكريم ما تقدم بيانه آنفًا ، فحينئذٍ يتم أن الله - عز وجل - قد فصَّل كل شيء تفصيلاً ، لكن بضميمة أخرى ، فإنكم تعلمون أن التفصيل قد يكون تارة بالإجمال ، بوضع قواعد عامة يدخل تحتها جزئيَّات لا يمكن حصرها لكثرتها ، فبوضع الشارعِ الحكيم لتلك الجزئيات الكثيرة قواعدَ معروفة ظهر معنى الآية الكريمة ، وتارةً التفصيل وهو المتبادر من هذه الآية ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((ما تركتُ شَيْئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركتُ شيئًا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه )) .

    فالتفصيل إذًا تارةً يكون بالقواعد التي لا تدخل تحتها جزئيات كثيرة ، وتارة يكون بالتفصيل لمفردات عبادات وأحكام تفصيلاً ، لا يحتاج إلى الرجوع إلى قاعدة من تلك القواعد .

    ومن القواعد التي لا يدخل تحتها فرعيات كثيرة ، وتظهر بها عظمة الإسلام وسعة دائرة الإسلام في التشريع – قولُه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المثال : (( لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ )) ، وقوله - عـليه السلام -: (( كلُّ مُـسْكِر خَمْر، وكل خـمر حرام )) ،
    وقوله - عليه السلام -: (( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )) .

    هذه قواعد وكلِّيَّات لا يفوتها شيء مما يتَعَلَّق بالضَّرَر بالنفس ، أو الضَّرَرِ بالمال في الحدِيث الأوَّل ، وما يَتَعَلَّق بما يُسكِر كما في الحديث الثاني ، سواءٌ كان المسكر مستنبطًا من العنب – كما هو المشهور - أو من الذرة ، أو من أي مادة من المواد الأخرى ، فما دام أنه مُسكر فهو حرام .
    كذلك في الحديث الثالث : لا يمكن حصر البدع لكثرتها ، ولا يمكن تعدادها ، ومع ذلك فهذا الحديث – مع إجازه - يقول بصراحة : ((وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار)) .
    هذا تفصيل لكن بقواعد ، وأما الأحكام التي تعرفونها ، فهي مفصلة بمفردات جاء ذكرها في السنة على الغالِب ، وأحيانًا كأحكام الإرث مثلاً فهي مذكورة في القرآن الكريم .

    أما الحديث الذي جاء ذكره ، فهو حديث صحيح ، فالعمل به هو الذي بإمكاننا أن نتمسك به ، وكما جاء في الحديث ((تركت فيكم أمرين ، لن تَضِلُّوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله ، وسنة رسوله )) .

    فالتمسك بحبل الله - الذي هو بأيدينا - إنما هو العمل بالسنة المُفـصِّلَة للقران الكريم .


    سؤال 3: هناك من يقول : إذا عارض الحديث آية من القرآن ، فهو مردود مهما كانـت درجة صحـَّتِه ، وضرب مثالاً لـذلك بحديث : ((إن الميت ليُعـَذَّبُ ببكاء أهله عليه )) ، واحْتَجَّ بقول عائشة في ردها الحديث بقول الله - عز وجل -: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [فاطر: 18] ، فكيف يُرَدُّ على مَنْ يقول ذلك ؟

    الجواب : رد هذا الحديث هو من مشاكل رد السنة بالقرآن ، وهو يدل على انحراف ذلك الخط .

    أما الجواب عن هذا الحديث ، وأَخُصُّ به مَن تَمَسَّك بحديث عائشة - رضي الله عنها - فهو :
    أولاً : من الناحية الحَدِيثِيَّة
    فإن هذا الحديث لا سبيل لرده ؛ لشيئين :
    أ – أنه جاء بسند صحيح ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما .
    ب – أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يَتَفَرَّد به ، بل تابعه على ذلك عمر بن الخطاب ، وهو وابْنُه لم يَتَفَرَّدا به ، فقد تابعهما المغيرة بن شُعبة ، وهذا مما يحضرني في هذه الساعة بأن هذه الروايات عن هؤلاء الصحابـــة الثلاثة - رضي الله عنهـم - فـي الصحيحين .
    أما لو أن الباحث بحث يحثًا خاصًّا في هذا الحديث ، فسيجد له طرقًا أخرى ، وهذه الأحاديث الثلاثة كلها أحاديث صحيحة الأسانيد ، فلا تُرَدُّ بمجرد دعوى التعارض مع القرآن الكريم .

    ثانيًا: من الناحية التفسيرية :
    فإن هذا الحديث قد فسَّره العلماء بوجهين :
    الوجه الأول : أن هذا الحديث إنما ينطبق على الميت ، الذي كان يعلم في قيد حياته أن أهله بعد موته سيرتكبون مخالفات شرعية ، ثم لم ينصحهم ولم يوصهم أن لا يبكوا عليه ؛ لأن البكاء يكون سببًا لتعذيب الميت .

    وَ(ألْ) التعريف في لفظ (الْميت) هنا ليست للاستغراق والشمول ، أي : ليس الحديث بمعنى أن كل ميت يُعَذَّب ببكاء أهله عليه ، وإنما (أل) هنا للعهد ، أي : الميت الذي لا يَنْصَحُ بألا يَرْتكبوا بعد وفاته ما يخالف الشرع ، فهذا الذي يُعَذَّب ببكاء أهله عليه ، أما من قام بواجب
    النصيحة ، وواجب الوصية الشرعية بألا ينوحوا عليه ، وألا يأتوا بالمنكرات التي تُفعل ، خاصةً في هذا الزمان ، فإنه لا يُعذب ، وإذا لم يُوصِ ولم يَنْصح عُذِّب .

    هذا التفصيل هو الذي يجب أن نفهمه من التفسير الأول لكثير من العلماء المعروفين والمشهورين ، كالنووي وغيره ، وإذا عرفنا هذا التفصيل ، وضح ألا تعارض بين هذا الحديث وبين قوله تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [فاطر: 18]، إنما يظهر التعارض فيما لو فُهم أن (أل) في لفظ (الميت) إنما هي للاستغراق والشمول ، أي : كل ميت يُعَذَّبُ ، حينئذٍ يُشْكَل الحديث ، ويتعارض مع الآية الكريمة ، أما إذا عرفنا المعنى الذي ذكرناه آنفًا ، فلا تعارض ولا إشكال ، لأن الذي يُعذب إنما يُعذب بسبب عدم قيامه بواجب النصح والوصية ، هذا الوجه الأول مما قيل في تفسير هذا الحديث لدفع التعارض.

    أما الوجه الثاني : فهو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في بعض مصنفاته ، أن العذاب هنا ليس عذابًا في القبر، أو عذابًا في الآخرة ، وإنما هو بمعنى التألُّم وبمعنى الحزن ، أي : إن الميت إذا سمع بكاء أهله عليه ، أسف وحزن لحزنهم عليه . هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا لو صح لاستأصل شأفة الشبهة .

    لكني أقول : إن هذا التفسير يتعارض مع حقيقتين اثنتين ؛ لذلك لا يَسَعُنا إلا أن نعتمد على التفسير الأول للحديث :
    الحقيقة الأولى : أن في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - الذي أشرت إليه آنفًا – زيادةً، تُبَيِّن أن العذاب ليس بمعنى التألم ، وإنما هو بمعنى العذاب المتبادر، أي : عذاب النار، إلاَّ أن يعفو الله تبارك وتعالى ، كما هو صريح قوله - عز وجل -: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]، ففي رواية المغيرة قال : ((إن الميت ليُعذب ببكاء أهله يوم القيامة))، فهذا صريح بأن الميت يُعذب بسبب بكاء أهله عليه يوم القيامة ، وليس في القبر، وهو الذي فسَّره ابن تيمية بالألم والحزن .

    الحقيقة الأخرى : هي أن الميت إذا مات لا يُحِسُّ بشيء يجري من حوله ، سواءٌ أكان هذا الشيء خيرًا أم شرًّا ؛ كما تدل عليه أدلة الكتاب والسنة ، اللهم إلا في بعض المناسبات ، التي جاء ذكرها في بعض الأحاديث ، إما كقاعدةٍ لكل ميت ، أو لبعض الأموات ، حيث أسمعهم
    الله - عز وجل - بعض الشيء الذي يتألمون به .

    فمن الأول : الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه ، حتى إنه سمع قرع نعالهم - أتاه ملكان )) ، ففي هذا الحديث
    الصحيح إثبات سمع خاص للميت في وقت دفنه ، وحين ينصرف الناس عنه ، أي : في الوقت الذي يُجلسه الملكان أُعيدت الروح إليه ، فهو في هذه الحالة يسمع قرع النعال ، فلا يعني الحديث – بداهةً - أن هذا الميت وكل الأموات تُعاد إليهم أرواحهم ، وأنهم يظلون يسمعون
    قرع نعال المـارة بين القبور إلى يوم يبعثون !! لا .
    إنما هذا وضعٌ خاص وسماع خاص من الميت ؛ لأنه أُعيدت رُوحُه إليه ، وحينئذٍ لو أخذنا بتفسير ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ووسَّعنا دائرة إحساس الميت بما يجري حوله ، سواءٌ عند نعشه قبل دفنه ، أو بعد وضعه في قبره ، ومعنى ذلك : أنه يسمع بكاء الأحياء عليه ، وهذا يحتاج إلى نص ، وهو مفقود ، هذا أوّلاً ، وثانيًا : بعض نصوص الكتاب والسنة الصحيحة تدل على أن الموتى لا يسمعون ، وهذا بحث طويل ، ولكني سأذكر حديثًا واحدًا ، وأُنْهي الجواب عن السؤال ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( إن لله ملائكةً سياحين في الأرض، يُبْلغوني عن أمتي السلام )) ، وقوله ( سياحين ) أي : طوافين على المجالس ، فكلما صلى مسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهناك مَلَكٌ مُوَكَّل يُوصِلُ السلام من ذاك المُسَلِّم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان الأموات يسمعون ، لكان أحقُّ هؤلاء الأموات أن يسمع هو نَبِيَّنا - صلى الله عليه وسلم - لِمَا فضَّله الله تبارك وتعالى ، وخصَّه بخصائص على كل الأنبياء والرسل والعالمين ، فلو كان أحدٌ يسمع لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع شيئًا بعد موته ، لسمع صلاة أمته عليه .

    ومن هنا ؛ تفهمون خطأ – بل ضلال – الذين يستغيثون ليس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل وبمن دونه ، سواء كانوا رسلاً أو أنبياء أو صالحين ؛ لأنه لو استغاثوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - لَمَا سمعهم ، كما هو صريح القرآن : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأعراف: 194]، و{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } [فاطر: 14] إلى آخر الآية .

    إذًا فالموتى من بعد موتهم لا يسمعون ، إلا ما جاء النص في قضية خاصة – كما ذكرت آنفًا – من سماع الميت قرع النعال ، وبهذا ينتهي الجواب عن هذا السؤال .


    سؤال 4 : إذا كانت المِسْجَلَةُ مفتوحةً على القرآن الكريم ، وبعض الحاضرين لا يستمعون بسبب أنهم مشغولون بالكلام ، فما حكم عدم الاستماع ؟ وهل يأثم أحد من الحاضرين أو الذي فتح المسجلة ؟

    الجواب : الجواب عن هذه القضية يختلف باختلاف المجلس الذي يُتلى فيه القرآن من المسجلة ، فإن كان المجلس مجلس علم وذكر وتلاوة قرآن ، فيجب –والحالة هذه – الإصغاء التام ، ومن لم يفعل فهو آثم ؛ لمخالفته لقول الله - تبارك وتعالى - في القرآن :
    { وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف: 204] .

    أما إذا كان المجلس ليس مجلس علم ولا ذكر ولا تلاوة قرآن ، وإنما مجلس عادي ، كأن يكون إنسان يعمل في البيت ، أو يدرس أو يطالع ، ففي هذه الحالة لا يجوز فتح آلة التسجيل ، ورفع صوت التلاوة بحيث يصل إلى الآخرين ، الذين هم ليسوا مُكَلَّفين بالسـماع ؛ لأنهم لم
    يجـلسـوا له ، والمسؤول هو الذي رفع صوت المسجلة ، وأسمع صوتها للآخرين ؛ لأنه يُحرجُ على الناس ، ويحملهم على أن يسمعوا للقرآن في حالةٍ هم ليسوا مستعدين لها .

    وأقرب مثال على هذا : أن أحدنا يمر في الطريق ، فيسمع من السمان ، وبائع الفلافل ، الذي يبيع أيضًا هذه الأشرطة المُسَجَّلة – الكاسيتات - فقد ملأ صوت القرآن ، وأينما ذهبت تسمع هذا الصوت ، فهل هؤلاء الذين يمشون في الطريق – كل في سبيله – هم مكلفون
    أن يُنْصتوا لهذا القرآن الذي يُتلى في غير محله ؟! لا ، وإنما المسؤول هو هذا الذي يُحرجُ على الناس ، ويُسْمعهم صوت القرآن ، إما للتجارة أو لإلفات نظر الناس ، ونحو ذلك من المصالح المادِّيَّة ، فإذًا هم يتخذون القرآن من جهةٍ مزامير – كما جاء في بعض الأحاديث
    - ثم هم يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً ، في أسلوب آخر غير أسلوب اليهود والنصارى ، الذين قال الله - عز وجل - في حقِّهم في هذه الآية : { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [التوبة: 9] .


    سؤال 5 : إن الله - عز وجل - يُخبِر عن نفسه ، فيقول : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران: 54]، فربما يضيق عقل بعض الناس عن فهم هذه الآية على ظاهرها ، وبما أننا لسنا بحاجة للتأويل ، فكيف يكون الله خير الماكرين ؟!

    الجواب: المسألة سهلة بفضل الله ؛ وذلك لأننا نستطيع أن نعرف أن المكر – من حيث هو مكر - لا يوصف دائمًا وأبدًا بأنه شر، كما إنه لا يوصف دائمًا وأبدًا بأنه خير، فرُب كافر يمكر بمسلم ، لكن هذا المسلم كيِّس فطن ، ليس مُغَفَّلاً ولا غبيًّا ، فهو متَنبَّه لمكر خَصمِه الكافر، فيعامله على نقيض مَكْره هو، بحيث تكون النتيجة أن هذا المسلم بمكره الحسن قَضَى على الكافر بمكره السيِّئ ، فهل يقال : إن هذا المسلم حينما مَكَرَ بالكافر - تعاطى أمرًا غير مشروع ؟ لا أحد يقول هذا .

    ومن السهل أن تفهموا هذه الحقيقة من قوله - علــيه الصلاة والسلام -: ((الـحرب خدعة)) ، فالذي يقالُ في الخدعة يُقال في المكر تمامًا، فمُخَادَعة المسلم لأخيه المسلم حرامٌ ، لكن مخادعة المسلم للكافر عدوِّ الله وعدوِّ رسوله - هذا ليس حرامًا ، بل هو واجب ، كذلك مكر المسلم بالكافر، الذي يريد المكر به – بحيث يُبْطِل هذا المسلمُ مكر الكافر - هذا مكر حسن ، وهذا إنسان وذاك إنسان .

    فماذا نقول بالنسبة لرب العالمين ، القادر العليم الحكيم ؟
    ها هو يبطل مكر الماكرين جميعًا ؛ لذلك قال : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }، فحينما وصف ربنا - عز وجل - نفسه بهذه الصفة ؟ قد لفت نظرنا بأن المكر حتى من البشر ليس دائمًا شرًّا ؛ لأنه قال : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }، فهناك ماكر بخير، وماكر بشر، فمن مكر بخير لم يُذَمَّ ، والله - عز وجل - كما قال : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }.

    وباختصار أقول : كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، فإذا تَوَهَّم الإنسان أمرًا لا يليق بالله ، فليعلم رأسًا أنه مخطئ ، فهذه الآية هي مدح لله – عزوجل - وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله - تبارك وتعالى .


    سؤال 6 : كيف نوفق بين هاتين الآيتين : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85]، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة: 69] ؟

    الجواب : لا تَعارُض بين الآيتين كما يوهم السؤال ؛ وذلك لأنَّ آية الإسلام هي بعد أن تَبلُغ دعوةُ الإسلامِ أولئك الأقوام ، الذين وصفهم الله - عز وجل - في الآية الثانية : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }، وذكر منهم الصابئة ، والصابئة حينما يُذْكرون يسبق إلى الذهن أن المقصود بهم : عُبَّاد الكواكب ، لكنهم – في الحقيقة - كل قوم وقعوا في الشرك بعد أن كانوا من أهل التوحيد ، فالصابئة كانوا مُوَحِّدين ، ثم عَرَضَ لهم الشرك وعبادة الكواكب ، فالذين ذُكروا في هذه الآية هم المؤمنون منهم الموحدون ، فهؤلاء قبل مجيء دعوة الإسلام هم كاليهود والنصارى ، وهم ذُكروا أيضًا في نفس السياق الذي ذُكر فيه الصابئة ، فهؤلاء مَنْ كان منهم مُتَمَسِّكًا بدينه في زمانه ، فهو من المؤمنين ، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }.

    ولكن بعد أن بعث الله - عز وجل - محمدًا - عليه الصلاة والسلام - بدين الإسلام ، وبلغت دعوة هذا الإسلام أولئك الناس من يهود ونصارى وصابئة ، فلا يقبل منه إلا الإسلام .

    إذًا قوله تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا }، أي : بعد مجيء الإسلام على لسان الرسول - عليه الصلاة والسـلام - وبلوغ دعوة الإسلام إليه ، فلا يُقبل منه إلا الإسـلام .

    وأما الذين كانوا قبل بعثة الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالإسلام ، أو الذين قد يُوجَدُون اليوم على وجه الأرض ، ولم تبلغهم دعوة الإسلام ، أو بَلَغَتْهُمْ دعوةُ الإسلام ولكنْ بلغتهم مُحَرَّفةً عن أساسها وحقيقتها ، كما ذكرتُ في بعض المناسبات عن القاديانيين مثلاً ، الذين انتشروا في أوربا وأمريكا ، يدعون إلى الإسلام ، لكن هذا الإسلام الذين يدعون إليه ليس من الإسلام في شيء ؛ لأنهم يقولون بمجيء أنبياء بعد خاتم الأنبياء محمد - عليه الصلاة والسلام - فهؤلاء الأقوام من الأوربيين والأمريكيين ، الذين دُعُوا إلى الإسلام القادياني ، ولم تبلغهم دعوة الإسلام الحق – على قسمين :
    * قسم منهم على دين سابق ، وهم متمسكون به ، فعلى ذلك تُحْمَلُ آية : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }.
    * وقسم انحرف عن هذا الدين – كما هو شأن كثير من المسلمين اليوم – فالحُجَّة قائمة عليهم .

    أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام مطلقًا – سواءٌ بعد الإسلام أم قبله - فهؤلاء لهم معاملة خاصة في الآخرة ، وهي أن الله - عز وجل - يبعث إليهم رسولاً يمتحنهم ، كما امتحَن الناس في الحياة الدنيا ، فمن استجاب لذلك الرسول في عرصات يوم القيامة وأطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار .


    سؤال7: قال تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [الأنعام: 25]، يَشُم البعض من هذه الآية رائحة الجَبْر، فما رأيكم في ذلك ؟

    الجواب : هذا الجعل هو جعلٌ كوني ، ولفَهْم هذا لا بد من شرح مـعنى الإرادة الإلهية ، فالإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين : إرادة شرعية ، وإرادة كونية .

    والإرادة الشرعية : هي كل ما شرعه الله - عز وجل - لعباده ، وحضهم على القيام به من طاعات وعبادات على اختلاف أحكامها ، من فرائض إلى مندوبات ، فهذه الطاعات والعبادات يريدها - تبارك وتعالى - ويُحبها .

    وأما الإرادة الكونية : فهي قد تكون – تارةً - مما لم يشرعها الله ، ولكنه قَدَّرها ، وهذه الإرادة إنما سُميت بالإرادة الكونية اشتقاقًا من قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]، فـ{ شَيْئًا } : اسم نكرة يشمل كل شيء ، سواءٌ أكان طاعة أم
    معصية ، وإنما يكون ذلك بقوله تعالى { كُنْ }، أي : بمشيئته وقضائه وقدره ، فإذا عرفنا هذه الإرادة الكونية ، وهي أنها تشمل كل شيء ، سواء أكان طاعة أم كان معصية ، فلا بد من الرجوع بنا إلى موضوع القضاء والقدر، لأن قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا }، معناه أن هذا الذي قال له : كُنْ، جعله أمرًا مُقدرًا ، كائنًا لابد منه ، فكل شيء عند الله - عز وجل - بقدر، وهذا أيضًا يشمل الخير والشر، ولكن ما يتعلق منه بنا نحن – الثَّقَلَيْن ، الإنسَ والجن ، المكلفِين المأمورين من الله عز وجل - أن ننظر فيما نقوم نحن به ، إما أن يكون بمحض إرادتنا واختيارنا ، وإما أن يكون رغمًا عنا ، وهذا القسم الثاني لا يتعلق به طاعة ولا معصية ، ولا يكون عاقبَة ذلك جنة ولا نارًا ، وإنما القسم الأول هو الذي عليه تدور الأحكام الشرعية ، وعلى ذلك يكون جزاء الإنسان الجنة أو النار، أي : ما
    يفعله الإنسان بإرادته ، ويسعى إليه بكسبه واختياره هو الذي يُحَاسَبُ عليه ، إنْ كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فشر .
    وكون الإنسان مختارًا في قسم كبير من أعماله ، فهذه حقيقة لا يمكن المجادلة فيها شرعًا ولا عقلاً .

    أما شرعًا : فنصوص الكتاب والسنة متواترة في أمر الإنسان بأن يفعل ما أمر به ، وفي أن يترك ما نُهي عنه ، وهذه النصوص أكثر من أن تذكر .
    أما عقلاً : فواضح لكل إنسان متجرد عن الهوى والغرض بأنه حينما يتكلم ، حينما يمشي ، حينما يأكل ، حينما يشرب ، حينما يفعل أي شيء ، مما يدخل في اختياره ، فهو مختار في ذلك غير مضطر إطلاقًا ، وأنا إذا شئتُ أنْ أتكلم الآن ، فليس هناك أحد يجبرني على ذلك
    بطبيعة الحال ، ولكنه مقدر، ومعنى كلامي هذا مع كونه مقدرًا ، أي : أنه مقدر مع اختياري لهذا الذي أقوله وأتكلم به ، ولكن باستطاعتي أن أصمت لأُبَيِّن لمن كان في شك مما أقول أني مختار في هذا الكلام .

    إذًا ، فاختيار الإنسان – من حيث الواقع - أمرٌ لا يقبل المناقشة والمجادلة ، وإلا فالذي يُجَادل في مثل هذا ؛ إنما هو يُسَفْسط ويشكك في البدهيات ، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة انقطع معه الكلام .

    إذًا فأعمال الإنسان قسمان : اختيارية ، و اضطرارية .
    والاضطرارية : ليس فيها كلام ، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الواقعية ، والشرع يتعلق بالأمور الاختيارية ، فهذه هي الحقيقة ، وإذا ركزناها في أذهاننا ، استطعنا أن نفهم الآية السابقة { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }، وهذا الجعل كوني ، ويجب أن نتذكر الآية
    السابقة : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }، أن الإرادة ها هنا إرادة كونية ، ولكن ليس رغمًا عن هذا الذي جعل الله على قلبه أَكِنَّة .

    مثال من الناحية المادية : أن الإنسان حينما يُخلَق إنَّما يُخلَق ولحمه غض طريٌّ ، ثم إذا كبر وكبر يقسو لحمه ويشتد عظمه ، ولكن الناس ليسوا كلهم سواءً ، فهذا مثلاً إنسان مُنْكَبٌّ على نوع من الدراسَة والعلم ، فهذا ماذا يقوى فيه ؟ يقوى عقله ، ويقوى دماغه من الناحية التي هو ينشغل بها ، ويَنكب بكل جهده عليها ، ولكن من الناحية البدنية : جسده لا يقوى ، وعضلاته لا تنمو .

    والعكس بالعكس تمامًا : فهذا شخص مُنْكَبٌّ على الناحية المادية ، فهو في كل يوم يتعاطى تمارين رياضية - كما يقولون اليوم - فهذا تشتد عضلاته ، ويقوى جسده ، ويصبح له صورة كما نرى ذلك أحيانًا في الواقع ، وأحيانًا في الصور، فهؤلاء الرياضيون مثلا تصبح أجسادهم
    كلها عضلات ، فهل هو خُلق هكذا أو هو اكتسب هذه البنية القوية ذات العضلات الكثيرة ؟ هذا شيء وصل إليه هو بكسبه واختياره .

    ذلك هو مَثَلُ الإنسان الذي يضل في ضلاله وفي عناده ، وفي كفره وجحوده ، فيصل الرَّانُ إلى هذه الأكنة التي يجعلها الله - عز وجل - على قلوبهم ، لا بفرض من الله ، واضطرار من الله لهم ، وإنما بسبب كسبهم واختيارهم ، فهذا هو الجعل الكوني ، الذي يكسبه هؤلاء
    الكفار ، فيصلون إلى هذه النقطة ، التي يتوهم الجُهال أنها فُرضت عليهم ، والحقيقة أن ذلك لم يُفرض عليهم ، وإنما ذلك بما كسبت أيديهم ، وأن الله ليس بظلامٍ للعبيد .


    سؤال 8 : ما حكم تقبيل المصحف ؟

    الجواب : هذا مما يدخل - في اعتقادنا - في عموم الأحاديث التي منها : (( إياكم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ، وفي حديث آخر: (( كل ضلالة في النار )) ، فكثير من الناس لهم موقف خاص من مثل هذه الجزئية ، يقولون :
    وماذا في ذلك ؟! ما هو إلا إظهار تبجيل وتعظيم القرآن ، ونحن نقول : صدقتم ليس فيه إلا تبجيل وتعظيم القرآن الكريم ، ولكن تُرى : هل هذا التبجيل والتعظيم كان خافيًا على الجيل الأول - وهم صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أتباعهم ، وكذلك أتباع التابعين من بعدهم ؟ لا شك أن الجواب سيكون كمال قال علماء السلف : لو كان خيرًا لسبقونا إليه .

    هذا شيء ، والشيء الآخر : هل الأصل في تقبيل شيء الجواز أم الأصل المنع ؟
    هنا لا بد من إيراد الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما ؛ ليتذكر من شاء أن يتذكر، ويعرف بُعد المسلمين اليوم عن سلفهم الصالح ، وعن فقههم ، وعن معالجتهم للأمور التي قد تحدث لهم .

    ذاك الحديث هو : عن عباس بن ربيعة قال : رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يُقَبِّل الحجر - يعني : الأسود - ويقول : (( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، فلولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلك ما قَبَّلْتُك )) ، وما معنى هذا الكلام من هذا
    الفاروق : " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُك ما قبَّلتك " ؟

    إذًا ، لماذا قَبَّل عمرُ الحجر الأسود ، وهو كما جاء في الحديث الصحيح : (( الحجر الأسود من الجنة )) ؟ فهل قَبَّله بفلسفة صادرة منه ؛ ليقول كما قال القائل بالنسبة لمسألة السائل : إن هذا كلام الله ونحن نُقَبِّله ؟ هل يقول عمر: هذا الحجر أثر من آثار الجنة التي وُعد
    المتقون فأنا أُقَبِّلُه ؟ ولست بحاجة إلى نص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِيُبَيِّن لي مشروعية تقبيله ، أم يعاملُ هذه المسألة الجزئية كما يريد أن يقول بعض الناس اليوم بالمنطق الذي نحن ندعو إليه ، ونُسَمِّيه بالمنطق السلفي ، وهو الإخلاص في اتِّباع
    الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومن اسْتَنَّ بسنته إلى يوم القيامة ؟ هكذا كان موقف عمر، فيقول : لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُك لمَا قَبَّلتك .

    إذًا ، الأصل في هذا التقبيل أن نجري فيه على سنة ماضية ، لا أن نحكم على الأمور - كما أشرنا آنفًا - فنقول : هذا حَسَنٌ ، وماذا في ذلك ؟! اذكروا معي موقف زيد بن ثابت تجاه عرض أبي بكر وعمر عليه في جمع القرآن ؛ لحفظ القرآن من الضياع ، لقـد قال : كيف تفعلون شيئًا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فليس عند المسلمين اليوم هذا الفقه في الدين إطلاقًا .

    إذا قيل للمُقَبِّل للمصحف : كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟! واجهك بأجوبة غريبة ، عجيبة جدًّا ، منها : يا أخي ، وماذا في ذلك ؟! هذا فيه تعظيم القرآن ! فــقل له : يا أخي ، هذا الكلامُ يُعاد عليك : وهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُعَظِّم القرآن ؟ لا شك أنه كان يعظم القرآن ، ومع ذلك لم يُقَبِّله ، أو يقولون : أنت تنكر علينا تقبيل المصحف ، وها أنت تركب السيارة ، وتسافر بالطيارة وهذه أشياء من البدعة !! يأتي الرد على ما سمعتم أن البدعة التي هي ضلالة ، إنما ما كان منها في الدين ، أما في الدنيا ، فكما المحنا آنفًا أنه قد تكون جائزة ، وقد تكون محرمة إلى آخره ، وهذا الشيء معروف ، ولا يحتاج إلى مثال .

    فالرجل يركب الطيارة ليسافر إلى بيت الله الحرام للحج ، لا شك أنه جائز، والرجل الذي يركب الطيارة ليسافر إلى بلاد الغرب ويحُج إليه ، لا شك أن هذه معصية ، وهكذا .

    أما الأمور التعبدية التي سئل عنها السائل : لماذا تفعل هذا ؟ قال : التَّقَرُّبَ إلى الله !

    فأقول : لا سبيل إلى التقرب إلى الله - تبارك وتعالى - إلا بما شرع الله ، ولكني أريد أن أُذَكِّر بشيء وهو – في اعتقادي – مهمٌّ جدًّا ؛ لتأسيس ودعم هذه القاعدة : (( كل بِدعْة ضلالة ))، لا مجال لاستحسان عقلي بتاتًا ، يقول بعض السلف : " ما أُحدثت بدعة إلا و أُميتَت
    سنةٌ "، وأنا ألمس هذه الحقيقة لَمْسَ الْيَدِ ؛ بسبب تتبعي للمحدثات من الأمور، وكيف أنها تخالف ما جاء عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في كثير من الأحيان .

    وأهل العلم والفضل حقًّا ، إذا أخذ أحدهم المصحف ليقرأ فيه ، لا تراهم يُقَبِّلونه ، وإنما يعملون بما فيه ، وأما الناس – الذين ليس بعواطفهم ضوابط – فيقولون : وماذا في ذلك ؟! ولا يعلمون بما فيه ! فنقول : ما أحدثت بدعة إلا و أميتت سنة .

    ومثل هذه البدعة بدعة أخرى : نرى الناس ، حتى الفُسَّاقَ منهم ، الذين لا زال في قلوبهم بقية إيمان - إذا سمعوا المؤذن قاموا قيامًا ، وإذا سألتهم : ما هذا القيام ؟! يقولون : تعظيمًا لله - عز وجل - ولا يذهبون إلى المسجد ، يظلون يلعبون بالنرد والشطرنج ونحو ذلك ، ولكنهم
    يعتقدون أنهم يعظمون ربنا بهذا القيام ، من أين جاء هذا القيام ؟! جاء طبعًا من حديث موضوع لا أصل له وهو: إذا سمعتم الأذان فقوموا .
    هذا الحديث له أصل ، لكنه حُرِّف من بعض الضعفاء أو الكذابين ، فقال : (( قوموا )) بدل ( قولوا ) ، واختصر الحديث الصحيح : (( إذا سمعتم الأذان ، فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي )) إلخ الحديث ، فانظروا : كيف أن الشيطان يُزَيِّن للإنسان بدعة ؟ بدعته ، ويقنعه في نفسه بأنه مؤمن يُعظم شعائر الله ؟ والدليل أنه إذا أخذ المصحف يُقَبِّله ، وإذا سمع الأذان يقوم له !
    لكن هل هو يعمل بالقرآن ؟ لا يعمل بالقرآن ، مثلاً قد يُصلي ، لكن هل لا يأكل الحرام ؟ هل لا يأكل الربا ؟ هل لا يُطعم الربا ؟ هل لا يُشيع بين الناس الوسائل التي يزدادون بها معصية لله ؟ هل ؟ هل ؟ أسئلة لا نهاية لها ؛ لذلك نحن نقف فيما شرع الله لنا من طاعات وعبادات ، ولا نزيد عليها حرفًا واحدًا ؛ لأنه كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (( ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به )) ، وهذا الشيء الذي أنت تعمله ، هل تتقرب به إلى الله ؟ وإذا كان الجواب : نعم ، فهاتِ النَّصَّ عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - الجواب : ليس هناك نص ، إذًا هذه بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

    ولا يُشْكَلَنَّ على أحد فيقول : إن هذه المسألة بهذه الدرجة من البساطة ، مع ذلك فهي ضلالة ، وصاحبها في النار ؟!

    أجاب عن هذه القضية الإمام الشاطبي بقوله : " كل بدعة مهما كانت صغيرة فهي ضلالة " .

    ولا يُنظر في هذا الحكم - على أنها ضلالة - إلى ذات البدعة ، وإنما يُنظر في هذا الحكم إلى المكان الذي وضعت فيه هذه البدعة ، ما هو هذا المكان ؟ إن هذا المكان هو شريعةُ الإسلام التي تَمَّتْ وكملتْ ، فلا مجال لأحد للاستدراك ببدعة صغيرة أو كبيرة ، من هنا تأتي
    ضلالةُ البدعة ، لا لمجرد إحداثه إياها ؛ وإنما لأنه يعطي معنى للاستدراك على ربنا - تبارك وتعالى - وعلى نبينا - صلى الله عليه وسلم .


    سؤال 9: كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم؟

    الجواب : أنزل الله - تبارك وتعالى - القرآن الكريم على قلب رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ليُخْرج الناس من ظلمات الكفر والجـهل إلى نور الإسـلام ؛ قال تعالى : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم : 1] ، وجعل رسولَه - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنًا لما في القرآن ، ومُفسِّرًا ومُوضحًا له ؛ قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل: 44]، فجاءتِ السنّةُ مفسرةً ومبينةً لما في القرآن الكريم ، وهي وحيٌ من عند الله ؛ قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 3 - 4] .
    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( إلا إني أُوتيتُ القرآن ومِثلهُ معه ، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانُ على أَريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأَحِلُّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموهُ ، وإن ما حرمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرمَ اللهُ )) .

    فأولُ ما يُفسرُ به القرآن الكريمُ هو القرآن مع السنة ، وهي أقوال وأفعال وتقريرات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ثم بعد ذلك بتفسير أهل العلم ، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مقدمتهم : عبدالله ابن مسعود - رضي الله عنه - وذلك
    لصُحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة ، ولعنايته بسؤاله عن القرآن وفهمه وتفسيره من جهة أخرى ، ثم عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - فقد قال ابن مسعود فيه : " إنه ترجمان القرآن "، ثم أي صحابي من بعدهم ثبت عنه تفسير آية ، ولم يكن هناك خلاف بين الصَّحابَة ، نتلقى حين ذلك التفسير بالرِّضا والتسليم والقبول ، وإن لم يوجد ، وجَب علينا أن نأخذ من التابعِين الذين عُنُوا بتلقي التفسير من أصحاب رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كسَعيد بن جبير، وطاوس ونحوهم ممن اشتهروا بتلقي تفسير القرآن عن بعض أصحاب
    الرسول - عليه الصلاة والسلام - وبخاصة ابن عباس كما ذكرنا .

    وهناك - للأسف - بعض الآيات تُفسَّر بالرأي والمذهب ، ولم يأت في ذلك بيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ، فيَسْتَقِلُّ بعض المتأخرين في تفسيرها تطبيقًا للآية على المذهب ، وهذه مسألة خطيرة جدًّا ، حيث تُسفر الآيات تأييدًا للمذهب ، وعلماء التفسير فسروها
    على غير ما فسرها أهل ذلك المذهب .

    ويمكن أن نذكر مثالاً لذلك : قوله - تبارك وتعالى -: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [المزمل: 20]، فسَّرته بعض المذاهب بالتلاوة نفسها، أي : الواجب من القرآن في الصلوات إنما هو آية طويلة ، أو ثلاث آيات قصيرة ، قالوا : هذا مع ورود الحديث الصـحيح عن الـنبي -
    صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفـاتحة الكتاب )) ، وفي الحديث الآخر : (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، فهي خِداج ، هي خِداج ، هي خِداج غيرُ تَمام )) .
    فقد رُدت دلالة هذين الحديثين - بالتفسير المذكور للآية السابقة - بدعوى أنها أطلقت القراءة ، ولا يجوز عندهم تفسير القرآن إلا بالسنّة المتواترة ، أي : لا يجوز تفسير المتواتر إلا بالمتواتر، فردوا الحديثين السابقين اعتمادًا منهم على تفسيرهم للآية بالرأي أو المذهب .

    وأما العلماء - كل علماء التفسير - فلا فرق بين من تقدم منهم أو تأخر، بَيَّنوا أن المقصود بالآية الكريمة : { فَاقْرَءُوا }، أي: فَصَلُّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، لأن الله - عز وجل - ذكر هذه الآية بمناسبة قوله - تبارك وتعالى -: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } إلى أن قال : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [المزمل: 20] ؛ أي : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل بخاصة ، وإنما يسَّر الله - عز وجل - للمسلمين أن يصلوا ما تيسر لهم من صلاة الليل ، فلا يجب عليهم أن يُصلوا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي – كما تعلمون – إحدى عشرة ركعة .

    هذا هو معنى الآية ، وهذا في الأسلوب العربي من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، فقوله : { فَاقْرَءُوا }، أي فصلوا ، فالصلاة هي الكل ، والقراءة هي الجزء ، وذلك لبيان أهمية هذا الجزء في ذلك الكل ، وذلـك لقوله - تبارك وتعالى - في الاية الأخـرى : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء: 78]، ومعنى : { قُرْآنَ الْفَجْرِ }، أي : صلاة الفجر، فأطلق أيضًا هنا الجزء وأراد الكل ، هذا أسلوب في اللغة العربية معروف .
    ولذلك ، فهذه الآية بعد أن ظهر تفسيرها من علماء التفسير دون خلاف بين سلفهم وخلفهم ، لم يجُزْ رد الحديث الأول والثاني بدعوى أنه حديث آحاد ، ولا يجوز تفسير القرآن بحديث الآحاد ؛ لأن الآية المذكورة فُسِّرت بأقوال العلماء العارفين بلغة القرآن ، هذا أوّلاً ، ولأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف القرآن ، بل يُفسره ويوضحه ، كما ذكرنا في مطلع هذه الكلمة ، وهذا ثانيًا ، فكيف والآية ليس لها علاقة بموضوع ما يجب أن يقرأه المسلم في الصلاة ، سواءٌ كانت فريضة أم نافلة ؟!

    أما الحديثان المذكوران آنفًا ، فموضوعهما صريح بأن صلاة المصلِّي لا تصحُ إلا بقراءة الفاتحة ، قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفـاتحة الكتاب ))، وفي الحديث الآخر: (( من صلى صلاة لم يَقْرَأْ فيها بفاتحة الكتاب ، فهي خِداج ، هي خِداج ، هي خِداج غيرُ تَمام ))
    أي : هي ناقصة ، ومن انصرف من صلاته وهي ناقصة فما صلَّى ، وتكون صلاته حينئذٍ باطلة ، كما هو ظاهر الحديث الأول .

    إذا تبيَّنَت لنا هذه الحقيقة ، فحينئذٍ نطمئن إلى الأحاديث التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرويَّة في كتب السنة أولاً ، ثم بالأسانيد الصحيحة ثانيًا ، ولا نشك ولا نرتاب فيها بفلسفة الأحاديث التي نسمعها في هذا العصر الحاضر، وهي التي تقول : لا نعبأ
    بأحاديث الآحاد مادامت لم ترِدْ في الأحكام ، وإنما هي في العقائد ، والعقائد لا تقوم على أحاديث الآحاد .
    هكذا زعموا ، وقد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل معاذًا يدعو أهل الكتاب إلى عقيدة التوحيد ، وهو شخص واحد .

    وفي هذا القدر كفاية بهذه الكلمة التي أردتُ بيانها ، وهي تتعلق بـ : كيف يجب علينا أن نفسر القرآن الكريم ؟

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .
يعمل...
X