إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    بارك الله فيك اخوي الغالي ابو ابراهيم

    ولقد امتعتنا بهذا الموضوع التاريخي في هذه البقعة من الارض

    والتي كانت بها صولات وجولات من الثقافة الاسلامية

    جزاك الله خيرا
    [CENTER] [/CENTER]

    تعليق


    • #32
      المشاركة الأصلية بواسطة ابو فيصل الحربي مشاهدة المشاركة
      بارك الله فيك اخوي الغالي ابو ابراهيم

      ولقد امتعتنا بهذا الموضوع التاريخي في هذه البقعة من الارض

      والتي كانت بها صولات وجولات من الثقافة الاسلامية

      جزاك الله خيرا
      وبكم بارك الرحمن اخي
      اشكر وجودك بين طيات موضوعي

      المتعة الحقيقية لم تنتهي بعد من هذا الموضوع الشيق عن هذا المجد السليب اخي
      وكما قال الكاتب ( لنقرأ كيف تقام الأمجاد وكيف تضيع )
      لنتابع سويا ذلك المجد المفقود الذي سيظل عنوانا للحضارة الإسلامية على مر التاريخ
      فالموضوع لم تنتهي حلقاته بعد

      تحياتي لكم

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #33
        هشام بن عبد الرحمن الداخل ( هشام الرضا )

        ولاية هشام بن عبد الرحمن الداخل



        كان عبد الرحمن الداخل قد استقرَّ أمره على ابنه هشام خليفة له، فولاَّه العهد مع كونه أصغر من أخيه سليمان، فلقد كان أكفأ منه وأفضل، ولقد صدق حَدْسُه فيه؛ حيث كان الناس يُشبِّهونه بعد ذلك بعمر بن عبد العزيز t في علمه وعمله وورعه وتقواه.

        الفتنة بين أولاد عبد الرحمن الداخل


        وكان هشام بن عبد الرحمن - هشام الرضا- بمَارِدَة عند موت أبيه، وقد عاد منها إلى قُرْطُبَة بعد ستة أيام من وفاة أبيه، فبايعه العوامُّ ورجال الدولة، وكان ذلك سنة 172هـ= 788م، وكان أخوه سليمان بطُلَيْطلَة، فلما علم سليمان بالأمر غضب، وأعلن الثورة على أخيه، وجهَّز بالفعل جيشًا توجَّه به لقتال أخيه في قُرْطُبَة، فخرج إليه هشام بن عبد الرحمن الداخل والتقيا في جَيَّان، ودارت بينهما حرب شديدة انتهت بهزيمة سليمان، ففرَّ عائدًا إلى طُلَيْطِلَة
        [1].

        وكان لهشام أخٌ آخر يُسَمَّى عبد الله، وكان هشام يُحسن معاملته، ولكن يبدو أن عبد الله قد طمع فيما هو أكثر من ذلك، ففرَّ إلى أخيه سليمان في طُلَيْطِلَة، فلمَّا علم هشام بالأمر أشفق على عبد الله فأرسل له مَنْ يَرُدُّه ويترضَّاه، إلاَّ أن الرسول لم يلحق به
        [2].

        ولم يبقَ أمام هشام إلاَّ أن يُبادر إلى أخيه سليمان -كما كان يفعل أبوه- قبل أن يبدأه سليمان -كما فعل من قبل- ويحاول هو مهاجمة قُرْطُبَة، وبالفعل خرج إلى طُلَيْطِلَة وحاصرها فترة، فحاول سليمان أن يستغلَّ الفرصة وفرَّ منها إلى
        قُرْطُبَة؛ ليستوليَ عليها في غياب أخيه، ولكن أهلها حاربوه، فحاول الاستيلاء على مَارِدَة؛ لأنها قريبة من قُرْطُبَة، ليستطيع تهديد قُرْطُبَة منها إلاَّ أن واليها استطاع ردَّه عن مَارِدَة، فهرب إلى مُرْسِيَة ثم إلى بَلَنْسِيَة، وأخوه يُطارده، فلمَّا دبَّ اليأس إلى نفسه، طلب الأمان، فأمنَّه وكان قد أمَّن عبد الله قبله، وتركهما يرحلان إلى بلاد الشمال الإفريقي[3].


        عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل


        وقد كان هشام بن عبد الرحمن الداخل –هشام الرضا- عالِمًا محبًّا للعلم، وقد أحاط نفسه –رحمه الله-
        بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها، وقد أخذ ذلك منه مجهودًا وافرًا وعظيمًا، حتى أصبحت اللغة العربية تُدرَّس في معاهد اليهود والنصارى داخل أرض الأندلس[4].

        ومن أبرز التغيرات الجوهرية التي تمَّت بالأندلس في عهد هشام انتشار
        المذهب المالكي فيها، وقد كانت البلاد من قبل ذلك على مذهب الإمام الأوزاعي[5].

        وكانت لهشام صولات وجولات كثيرة في الشمال مع الممالك النصرانية
        [6].

        وكان من علماء عصره صعصعة بن سلامة الشامي، وكان المفتي أيام عبد الرحمن الداخل، وفي بداية عهد هشام بن عبد الرحمن، كما ولي الصلاة بقُرْطُبَة، وروى عنه عبد الملك بن حبيب وعثمان بن أيوب
        [7]، كما كان من المحدثين في أيامه عبد الرحمن بن موسى، وقد روى عنه أصبغ بن خليل وغيره، وقد توفي هو وصعصعة بن سلامة أيام هشام بن عبد الرحمن الداخل[8].

        وفاة هشام بن عبد الرحمن الداخل


        وتوفي هشام بن عبد الرحمن الداخل -هشام الرضا- في صفر 180هـ= إبريل 796م فكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر، وتوفي –رحمه الله- وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودُفِنَ في القصر، وصلَّى عليه ابنه الحكم
        [9].


        [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/61، وتاريخ ابن خلدون، 4/124.
        [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/284، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/62، وتاريخ ابن خلدون، 4/124.
        [3] تاريخ ابن خلدون، 4/124.
        [4] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص310.
        [5] المقري: نفح الطيب، 2/46.
        [6] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/64، والمقري: نفح الطيب، 1/337.
        [7] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص75.
        [8] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/300.
        [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/65، والمقري: نفح الطيب، 1/338.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #34
          الحكم بن هشام ( الحكم الربضي )

          ولاية الحكم بن هشام



          تولَّى بعد هشام بن عبد الرحمن الداخل ابنه الحكم الشهير بالحكم الربضي، وذلك من سنة (180هـ=796م) وحتى سنة (206هـ=821م) [1]، لكن الحكم لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جدِّه، فكان قاسيًا جدًّا، فرض الكثير من الضرائب، واهتمَّ بالشِّعر والصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ حتى وصل الأمر في آخر حياته إلى حرق بيوت الثائرين عليه، ونفيهم خارج البلاد[2].


          ثورة الربض

          من أشهر الثورات التي قمعها الحكم بن هشام – الحكم الربضي- ثورة الربض (202 هـ= 808 م) وهم قومٌ كانوا يعيشون في إحدى ضواحي قُرْطُبَة، وقد ثار أهلها ثورة كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرة الخمر، وتشاغله باللهو والصيد، وقد زاد من نقمة الشعب عليه قتله لجماعة من أعيان قُرْطُبَة؛ فكرهه الناس، وصاروا يتعرَّضون له ولجنده مما حثَّه على تحصين قرطبة، فأقام حولها الأسوار، وحفر الخنادق، وجعل جنوده على مقربة منه؛ فزاد ذلك من حقد أهل قُرْطُبَة عليه، وزاد توجُّسهم منه، ثم حدث أن مملوكًا له اختلف مع أحد العوامِّ فقتله؛ فثار أهل الربض، وزحفوا إلى قصره وأحاطوا به فقاتلهم قتالاً شديدًا هو وجنده حتى تغلَّب عليهم[3].

          ولم يكتفِ الحكم بهزيمتهم، بل أحرق وخرَّب ديارهم، وقتل ثلاثمائة من وجهائهم وصلبهم، وأمر بطردهم خارج البلاد[4]؛ فتفرَّقوا في البلاد ومنهم مَنْ ذهب إلى الإسكندرية في مصر، وأقاموا فيها فترة ثم ارتحلوا عنها إلى جزيرة كريت، فأقاموا فيها دويلة عام (212هـ=728م) استمرَّت مائة عام حتى استولى عليها البيزنطيون من بعد[5].
          الجهاد في عهد الحكم بن هشام

          ورغم أفعاله تلك إلاَّ أن الحكم بن هشام لم يُوقِفْ حركة الجهاد[6]؛ وذلك لأن الجهاد كان عادة في الإمارة الأموية؛ سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، لكن كانت له انتصارات وهزائم في الوقت نفسه، وكنتيجة طبيعية لهذا الظلم الذي اتَّصف به، وهذه العلاقة التي ساءت بين الحاكم والمحكوم سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ فسقطت بَرْشُلُونَة، وأصبحت تُمثِّل إمارة نصرانية صغيرة في الشمال الشرقي عُرِفَت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد[7].

          لكن الحكم بن هشام بفضل من الله ومَنٍّ عليه تاب عن أفعاله في آخر عهده، ورجع عن ظلمه، واستغفر واعتذر للناس عن ذنوبه، ثم اختار من أبنائه أصلحهم، وإن لم يكن الأكبر؛ ليكون وليًّا لعهده، وكان من حُسْنِ خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهذه التوبة وهو في كامل قوَّته وبأسه، وذلك قبل موته بعامين[8].


          [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/68، والمقري: نفح الطيب، 1/339.
          [2] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/413، والمقري: نفح الطيب، 1/339.
          [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/413، 414.
          [4] المصدر السابق، 5/414.
          [5] المصدر السابق، 5/480، وتاريخ ابن خلدون، 3/253.
          [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/72.
          [7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/322، 323.
          [8] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، 1/43.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #35
            عبد الرحمن الثاني ( عبد الرحمن الأوسط )

            ولاية عبد الرحمن الأوسط


            بعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].


            قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات... وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي ، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3] الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].

            عهد عبد الرحمن الثاني

            ومن أهم ما تميَّز به عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية:
            أولاً: ازدهار الحضارة العلمية

            ومن أشهر العلماء في عصر عبد الرحمن الأوسط عباس بن فرناس -رحمه الله- (274 هـ=887م)، وكنيته أبو القاسم، وهو من أهل قُرْطُبَة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الأوسط (في القرن التاسع للميلاد)، وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273هـ)، وكان فيلسوفًا شاعرًا، له علم بالفلك[5].

            وهو أول مَنِ استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومَثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وهو أول طيار اخترق الجوَّ؛ أراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدَّ له جناحين طار بهما في الجوِّ مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذَّى في ظهره؛ لأنه لم يعمل له ذنبًا، ولم يَدْرِ أن الطائر إنما يقع على زِمِكِّه[6].

            ولكنه -برغم هذه المحاولة الرائدة التي فشلت- كان عبقرية هائلة؛ حتى إن الصفدي بَعْدَ كثيرٍ من المدح له يصفه بأنه «له شخص إنسي وفطنة جني»[7].

            ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية

            اهتمَّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا[8]، فازدهرت حركة التجارة في عهده؛ ومن ثَمَّ كثُرت الأموال[9]؛ ومن المهم أن نعلم أن بلاد الأندلس لم يكن فيها ما نُسَمِّيه بـ «التسوُّل»، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى؛ لكنها لم تُعرَف في بلاد الأندلس[10].

            كذلك تقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده –رحمه الله[11].

            ثالثًا: وقف غزوات النورمان

            النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضمُّ الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة؛ فقد كانوا يعيشون على ما يُسَمَّى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عُرِفَت باسم «غزوات الفايكنج»، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرِّقة من بلاد العالم، ليس لها من هَمٍّ إلاَّ جمع المال وهَدْم الديار.

            جهاد عبد الرحمن الأوسط

            في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230هـ=845م) هجمت هذه القبائل على إِشْبِيلِيَة من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، ودخلوها فأفسدوا فسادًا كبيرًا، ودمَّروا إِشْبِيلِيَة تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراضها، ثم تركوها إلى شَذُونة وألمَرِيَّة ومُرْسِيَة وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب، وعمَّ الفزع[12]، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامَّة، وشتَّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم!

            فلمَّا علم عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- بهذا الأمر ما كان منه إلاَّ أن جهَّز جيشه وأعدَّ عُدَّته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أُغرِقَت خلالها خمسٌ وثلاثون سفينةً للفايكنج، ومنَّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين[13].

            ولم يجنح عبد الرحمن الأوسط بعدها إلى الدَّعَة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:
            أولاً: رأى أن إِشْبِيلِيَة تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبُّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًّا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إِشْبِيلِيَة، فقام بإنشاء سور ضخم حول إِشْبِيلِيَة، وحصَّنها تحصينًا منيعًا، ظلَّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة[14].

            ثانيًا: لم يكتفِ بذلك بل قام -أيضًا- بإنشاء أسطولين قويين؛ أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك حتى يُدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.

            وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية[15]، وكذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمَّلة بالهدايا تطلب وُدَّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم.
            وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا[16].


            [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/81.
            [2] مجهول: أخبار مجموعة، ص122.
            [3] تملَّى: أي عاش طويلاً واستمتع بالشيء. ابن منظور: لسان العرب، مادة ملا 15/290.
            [4] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/84.
            [5] الصفدي: الوافي بالوفيات، 16/380.
            [6] المقري: نفح الطيب، 3/374، وزِمِكّ الطائر: ذيله وذنبه. ابن منظور: لسان العرب، مادة زمك 10/436، والمعجم الوسيط 1/400.
            [7] الصفدي: الوافي بالوفيات، 16/380.
            [8] المقري: نفح الطيب، 1/347.
            [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/91.
            [10] قال المقري: «وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدروزة التي تكسل عن الكد، وتحوج الوجوه للطلب في الأسواق، فمستقبحة عندهم إلى نهاية، وإذا رأوا شخصًا صحيحًا قادرًا على الخدمة يطلب سَبُّوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه؛ فلا تجد بالأندلس سائلاً إلاَّ أن يكون صاحب عذر». نفح الطيب، 1/220، والفقراء هنا هم الصوفية.
            [11] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/91، والمقري: نفح الطيب، 1/347.
            [12] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/87.
            [13] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/87، 88.
            [14] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/261، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/84، والحميري: صفة جزيرة الأندلس، ص20.
            [15] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/89، وكنا قد ذكرنا أن الذي فتحها للمرة الأولى كان موسى بن نصير ~؛ وذلك قبل فتح الأندلس سنة 91هـ=710م، ثم سقطت في أيدي النصارى في عهد الولاة الثاني حين انحدر حال المسلمين آنذاك، ثم سيطر عليها الفايكنج، وهنا وفي سنة 234هـ=849م تم فتحها ثانية.
            [16] المقري: نفح الطيب، 1/346.

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #36
              الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعف

              فترة الضعف في الإمارة الأموية



              بوفاة عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية، ويبدأ من سنة (238هـ=852م) وحتى سنة (300هـ=913م) أي حوالي اثنتين وستين سنة.


              فلقد تولَّى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، ثم اثنان من أولاده؛ هما: المنذر وعبد الله، وحقيقة الأمر أن الإنسان لَيَتَعجَّب: كيف بعد هذه القوَّة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وذلك الانحدار؟!

              فمن سُنن الله تعالى أن الأمم لا تسقط فجأة، بل يأتي السقوط متدرِّجًا وعلى فترات طويلة، ففي عهد الولاة الثاني ظهرت أسباب الضعف؛ منها:
              أولاً: انفتاح الدنيا وحبُّ الغنائم.
              ثانيًا: القَبَلِيَّة والقومية.

              ثالثًا: ظلم الولاة.

              رابعًا: ترك الجهاد.

              وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوَّة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.

              إذًا لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف، والأمراض التي أدَّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني.

              عوامل وأسباب ضعف الإمارة الأموية

              كان من أهمِّ أسباب ضعف الإمارة الأموية ما يلي:
              أولاً: كثرة الأموال وانفتاح الدنيا على المسلمين

              من جديد كانت الدنيا قد انفتحت على المسلمين، وكثرت الأموال في أيديهم، وقد زاد هذا بشدَّة في أواخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد ازدهرت التجارة كثيرًا، ولم يُوجد هناك في البلاد فقير، وفُتِنَ الناسُ بالمال، وتكرَّر ثانية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[1]. وقال -أيضًا-: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»[2] وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدنيا مِرارًا وتكرارًا وقلَّل من قيمتها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم : «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ[3] فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» [4].

              ثانيًا: زِرْياب

              اسم ليس بغريب لكنه كان كدابَّة الأرض التي أكلت مِنْسأَةَ سليمان u؛ فسقط جسده على الأرض؛ زِرْياب هذا كان من مطربي بغداد، تربَّى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء؛ حيث كان يُغَنِّي لهم ويُطربهم، وكان مُعَلِّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت[5].

              ومع كرِّ الأيام ومرِّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبَّر له مكيدة فطُرِدَ من البلاد، أو أنه هدَّده فهرب زرياب من نفسه دون مكائد كما في روايات أخرى.

              وكانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًّا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد زرياب ضالَّته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، كما تكون -أيضًا- أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم[6].

              وغالب الأمر أن الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلاَّ أن زرياب ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظَّمُوه وأحسنوا وِفَادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامَّة ونواديهم، فأخذ يُغَنِّي للناس ويُعَلِّمهم ما قد تَعَلَّمَه في بغداد، ولم يكتفِ زرياب بتعليمهم الغناء وتأليف ما يُسمَّى بالموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يُعَلِّمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصَّة بكل مناسبة من المناسبات العامَّة والخاصَّة[7].

              ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من زرياب ويَتَعَلَّمُون؛ خاصَّة وأنه قد بدأ يُعَلِّمهم -أيضًا- فنون الطعام كما عَلَّمَهُم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات، وما إلى ذلك حتى تعلَّق الناس به بشدَّة، وتعلَّق الناس بالغناء، وكَثُرَ المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث وهكذا.

              الغريب أن دخول زرياب إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي اهتمَّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه -ويا للأسف- ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور، وينخر في جسد الأُمَّة دون أن يدري أحدٌ.

              ففي الوقت الذي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثُرَ العلماء، كان كلام زرياب المنمَّق وإيقاعه الرَّنَّان يصرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، ويصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل - والله - لقد انصرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلُّق بلهوه ومجونه.

              وليس هذا بعجيب أو جديد؛ ففي بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وحين رآه النضر بن الحارث -وكان من رءوس الكفر- يخاطب الناس بالقرآن فيتأثَّرُون ويؤمنون بهذا الدين، ما كان منه إلاَّ أن قطع أميالاً طويلة وذهب إلى بلاد فارس، وقضى هناك فترة طويلة يتعلَّم حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلَّم الأساطير الفارسية، ثم اشترى قينتين (مغنيتين) وعاد إلى مكة، وفي مكة كان النضر بن الحارث يقوم بحرب مضادة للدعوة الإسلامية، فكان إذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له القينتين تُغَنِّيانِه ما كان في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار؛ حتى يُلهياه عن هذا الدين، وظلَّ على هذا النحو، وأنزل الله I فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
              وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها ما نزلت إلاَّ في الغناء[8].

              وهكذا؛ فالشيطان لا يهدأ ولا ينام حتى في وجود هذه النهضة العلمية؛ {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17].
              وكلما زاد الاهتمام بالدين، وارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وتعلَّقت قلوبهم بالمساجد، نشط الشيطان، وزادت حركته عن طريق زرياب ومَن سار على نهجه.

              وإنه بالرغم من مرور أكثر من ألفٍ ومائتي عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد شمال إفريقيا، فلم يسمع الكثير من الناس عن السَّمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم -رحمهما الله- ولم يسمعوا عن عُقبَة بن الحجاج، أو سيرة عبد الرحمن الداخل، أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قادة المسلمين في فارس والروم وفي بلاد إفريقيا والأندلس؛ لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تُغنَّى في تونس والمغرب والجزائر، وما زالت تُدرَّس سيرته الذاتية هناك على أنه رجل من قوَّاد التنوير والنهضة، ويُمَجَّد في حربه ضدَّ الجمود وكفاحه من أجل الفنِّ، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومَنْ سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

              ثالثًا: عمر بن حفصون

              عمر بن حفصون (240-306هـ=855-919م) كان مسلمًا من المولَّدين؛ أي: من أهل الأندلس الأصليين، كان عمر بن حفصون قاطعًا للطريق، وكان يتزعَّم عصابة من أربعين رجلاً، وحين بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله زاد حجمه، واشتدَّ خطره، وبدأ يثور في منطقة الجنوب؛ حتى أرهب الناس في هذه المنطقة، وأخذ يجمع حوله الأنصار فتوسَّع سلطانه كثيرًا، فسيطر على كل الجنوب الأندلسي.

              وفي سنة (286هـ=899م) قام عمر بن حفصون بعملٍ لم يتكرَّر كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفة عامَّة وتاريخ الأندلس بصفة خاصَّة؛ فلكي يُعَضِّد من قوَّته في آخر عهده، وبعد اثنين وعشرين عامًا من ثورته انقلب على عقبيه وتحوَّل من الإسلام إلى النصرانية، وسمَّى نفسه صمويل؛ وذلك بهدف كسب تأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال، وهو وإن كان قد تركه بعض المسلمين الذين كانوا معه إلاَّ أنه نال بالفعل تأييد مملكة ليون، في الوقت الذي تزامن مع توقُّف الجهاد في ممالك النصارى[9].

              بدأت (مملكة ليون) تتجرَّأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال وعمر بن حفصون أو صمويل يُهاجمها من جهة الجنوب.


              [1] البخاري: كتاب الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961 عن عمرو بن عوف واللفظ له.
              [2] الترمذي: كتاب الزهد، باب أن فتنة هذه الأمة في المال 2336، وقال: صحيح غريب. وأحمد 17506، وابن حبان 3223، والحاكم 7896، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
              [3] أشار أحد رواة الحديث بِالسَّبَّابَةِ.
              [4] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 2858 عن المستورد بن شداد، وأحمد 18037، وابن حبان 6265.
              [5] المقري: نفح الطيب، 3/123.
              [6] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/123.
              [7] انظر مزيدًا من التفاصيل في المقري: نفح الطيب، 1/133.
              [8] انظر: الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، 20/127، والبغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، 6/284، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 14/53، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 6/332.
              [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/139.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #37
                الأندلس قبل ولاية عبد الرحمن الناصر

                الأندلس أواخر عهد الضعف

                بعد اثنين وستين عامًا من الضعف الشديد، وبعدما تفاعلت عوامل السقوط مع بعضها البعض، نُلقي الآن نظرة عامَّة على طبيعة الوضع في بلاد الأندلس أواخر عهد الضعف في الإمارة الأموية؛ أي سنة (300هـ=913م)، ونُوَضِّح أهمَّ الملامح التي سادت هذا العصر، والتي كانت من فعلِ ونتاجِ عوامل الضعف.

                أولاً: كثرة الثورات داخل الأندلس

                كانت هناك ثورات لا حصر لها داخل الأندلس، بل واستقلالات في كثير من المناطق، والتي كان من أشهرها استقلال صمويل أو عمر بن حفصون؛ حيث استقلَّ بالجنوب وكوَّن ما يشبه الدُّوَيْلة، فضَمَّ إليه الكثير من الحصون، حتى ضمَّ كل حصون إِسْتِجَة وجَيَّان، التي كانت عند فتح الأندلس من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وكذلك كانت غَرْنَاطَة إحدى المدن التي في حوزته، والتي اتخذ لها عاصمة سمَّاها (بابشتر) وتقع في الجنوب بجوار ألمَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط[1].

                وكان من هذه الثورات الكبيرة -أيضًا- ثورة ابن حجاج في أشبيلية، وكانت هذه الثورة تمدُّ وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قُرْطُبَة[2].

                ومثلها كانت ثورة ثالثة في شرق الأندلس في منطقة بَلَنْسِيَة، ورابعة في منطقة سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي، حيث استقلَّت إمارة سَرَقُسْطَة -أيضًا- عن الإمارة الأموية في قُرْطُبَة، وخامسة في غرب الأندلس يقودها عبد الرحمن الجلِّيقي، وسادسة في طُلَيْطلَة، وهكذا ثورات وثورات أَدَّت في نهاية الأمر إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية في قُرْطُبَة لم تَعُدْ تُسيطر على كل بلاد الأندلس إلاَّ على مدينة قُرْطُبَة وحدها، إضافة إلى بعض القرى التي حوله[3].

                ومن ثَمَّ فقد انفرط العِقد تمامًا حتى سنة (300هـ= 913م)، وتوزَّعت الأندلس بين كثير من القوَّاد، كُلٌّ يحارب الآخر، وكُلٌّ يبغي مُلكًا ومالاً.

                ثانيًا: تكوُّن مملكة نافار



                ذكرنا -سابقًا- أنه كانت هناك مملكتان نصرانيتان؛ هما مملكة ليون في الشمال الغربي ومملكة أراجون في الشمال الشرقي وعاصمتها بَرْشُلُونَة، اللتان تكوَّنتا زمن ضعف المسلمين في عهد الولاة الثاني، وهنا وفي الفترة الثانية من فترتي الإمارة الأموية تكوَّنت في الشمال -أيضًا- مملكة نصرانية ثالثة كانت قد انفصلت عن مملكة ليون، وهي مملكة أو إمارة نافار، وتُكتَب في بعض الكتب العربية (نباره)، وتُعرَفُ الآن في إسبانيا بإقليم الباسك، ذلك الإقليم الذي يحاول الانشقاق عن إسبانيا.


                هذه الممالك النصرانية الثلاث بعد أن كانت تخاف المسلمين في العهد الأول للإمارة الأموية، تجرَّأت كثيرًا على البلاد الإسلامية؛ فهاجمت شمال الأندلس، وبدأت تقتل المسلمين المدنيين في مدن الأندلس الشمالية.

                ثالثًا: قتلُ ولي العهد محمد بن عبد الله

                أمر خطير آخر قد ظهر، وهو يُعَبِّرُ عن مدى المأساة والفتنة في ذلك الوقت، وهو أنَّ وَلِيَّ العهد للأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قتله أخوه المطرف بن عبد الله، وكان ولي العهد هذا يُسمَّى محمد بن عبد الله، فأصبح الوضع من الخطورة بمكان[4].

                وهكذا يكون الحال حين يختلف المسلمون ويتفرَّقون، وحين ينشغلون بدنياهم وبزريابهم وبأنفسهم؛ حكومات نصرانية في الشمال تهاجم المسلمين، ثورات واستقلالات في الداخل، قتلٌ لولي العهد القادم، بلاد إسلامية واسعة بغير ولي عهد في هذه المرحلة الحرجة.

                رابعًا: ظهور نجم الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية

                زادت الأمور تعقيدًا في بلاد الأندلس بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب، كانت من أشدِّ الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة المسمَّاة بالفاطمية، واسمها الصحيح الدولة العبيدِية.

                ظهرت الدولة العبيدية في بلاد المغرب العربي سنة (296هـ= 909م)؛ أي: قبل سنة (300هـ=913م) [5] (نهاية الفترة الثانية من الإمارة الأموية) بأربع سنوات فقط، وكانت دولةً شيعيةً خبيثةً؛ همُّها الأول قَتْل علماء السُّنَّة في بلاد المغرب العربي، ومحاولة نشر نفوذها في هذه المنطقة، فانتشرت بصورة سريعة من بلاد المغرب إلى الجزائر وتونس، ثم إلى مصر والشام والحجاز وغيرها.
                وأعلن ابن حفصون الطاعة لعبيد الله المهدي[6]، ولا شَكَّ أن ذلك لم يكن حبًّا في العبيدين؛ ولكن احتياجًا لمددهم وأموالهم.

                خامسًا: تَردِّي الأوضاع في بقية أقطار العالم الإسلامي

                إذا تخطَّيْنَا بلاد الأندلس وألقينا نظرة على مجمل أقطار العالم الإسلامي في الشرق والغرب وجدنا ما يلي:
                مصر والشام يحكمها الإخشيديون، الموصل يحكمها ابن حمدان، البحرين واليمامة يحكمها القرامطة، أصبهان يحكمها بنو بويه، خراسان يحكمها نصر الساماني، طبرستان يحكمها الدَّيْلَم، الأهواز يحكمها البُريديون، كرمان يحكمها محمد بن إلياس، الدولة العباسية أو الخلافة العباسية لا تحكم إلاَّ بغداد فقط، ولا تبسط سيطرتها حتى على أطراف العراق.

                هكذا كان الوضع في أقطار العالم الإسلامي؛ لم يكن هناك أيُّ أمل في أيِّ مدد إلى بلاد الأندلس؛ حيث كانت كلها أقطار مشتتة ومفرقة، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

                المنحة في ظل المحنة

                وإن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت ليرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأن ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويُحكِموا قبضتَهم عليها، ولن تُنقَذَ إلاَّ بمعجزة جديدة مثل معجزة عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-.

                وبالفعل فإن الله I بمنِّه وجُودِه أنعم على المسلمين بتلك المعجزة للمرَّة الثانية، فمَنَّ عليهم بأمير جديد، وحَّد الصفوف وقوَّى الأركان، وأعلى من شأن بلاد الأندلس حتى أصبحت في عهده أقوى ممالك العالم على الإطلاق، وأصبح هو أعظم ملوك أوربا في زمانه بلا منازع، إنه عبد الرحمن الناصر.


                [1] لمزيد من التفاصيل، انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 24/38، وما بعدها.
                [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/125.
                [3] انظر بعض تفصيل ذلك عند ابن عذاري: البيان المغرب، 2/133.
                [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/150.
                [5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 6/446.
                [6] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/135.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #38
                  عبد الرحمن الناصر

                  رأينا كيف كان الوضع أواخر عهد الضعف من الإمارة الأموية، وكيف أن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت يرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأنها ما هي إلاَّ بضعة أشهر أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى الأندلسَ ويُحكِمُوا قبضتهم عليها.

                  عبد الرحمن الناصر (277-350هـ= 891-961م)



                  هو أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وأُمُّه أمُّ ولدٍ تُسمَّى (ماريا) أو (مرته أو مزنة)، وجِدُّه السادس هو عبد الرحمن بن معاوية الأموي - صقر قريش - وقد وُلِدَ في قُرْطُبَة وعاش بها.


                  نشأ عبد الرحمن بن محمد يتيمًا؛ فعندما كان عُمرُه عشرين يومًا قَتَلَ عمُّه أباه؛ لأنه كان مؤهلاً للإمارة بعد أبيهما عبد الله الأمير السابع من أمراء الأمويين بالأندلس، وفتح الصبي عينيه على الدنيا ليجد الحياة قاتمة أمامه، ولم يكن البلاط الأموي المشغول بكثير من الأحداث -من ثورات داخلية ومطامع خارجية- لِيشغلَ نفسه بطفل صغير كهذا، غير أن جدَّه الأمير عبد الله -الذي اتصف بالورع والتقوى والتقشف وحب الناس، وكان على درجة عالية من التدين- هذا الجد هو الذي تولَّى تربيته، فنال الصبي الصغير نصيبًا كبيرًا من رعايته، وكان جزاءُ عَمِّه القتل، فقد قتله أبوه عبد الله، بعد أن تأكد من براءة أخيه مما اتُّهم به، ثم اهتم الأمير عبد الله بحفيده اهتمامًا كبيرًا وأولاه عناية خاصة[1]؛ ولعلَّ ذلك عطفٌ وشفقةٌ عليه بعد مقتل أبيه، ونشأ عبد الرحمن في هذا الجو المليء بالأحداث المتتابعة.

                  وكان عبد الرحمن من ناحيته فتى شديد النجابة والنبوغ، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقًا في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسُّنَّة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، حتى كان جده يُرَشِّحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه، وهكذا تعلَّقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمرًا واضحًا مقضيًّا، بل يقال: إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده، وذلك بأن برئ بخاتمه إليه حينما اشتدَّ عليه المرض كإشارة باستخلافه[2].

                  ولاية العهد لعبد الرحمن الناصر

                  لا شَكَّ أن سيرة عبد الرحمن الداخل -الجد الأكبر لعبد الرحمن- كانت تلهمه، كما أن قصة تأسيسه للدولة الأموية بعد عناء وجهاد وإرادة فولاذية كانت نصب عين عبد الرحمن، وهو يخوض ما يمكن أن نُسَمِّيَه رحلة التأسيس الثاني.

                  ومن الطرائف التي تندر في التاريخ أن أحدًا من أعمام عبد الرحمن، ولا من أعمام أبيه، حاول أن يعترضه في المنصب أو ينازعه فيه[3]، بل كانوا أول مَنْ بايعوه حتى تكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله قائلاً: «والله! لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنتُ أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد»[4].

                  وقفات مع عبد الرحمن الناصر

                  إن دراسة كافَّة جوانب حياة عبد الرحمن الناصر لَتحتاج إلى دراسة جادَّة متأنِّية، وعناية خاصَّة تَفُوق هذه السطور، إلا أن هناك بعض الإشارات العامَّة رأينا أن نقف أمامها بعض الشيء، فحينما تولى الحُكم كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنةً هجريةً[5]؛ أي: إحدى وعشرين سنةً ميلادية، وبِلُغَةٍ أخرى فهو طَالِبٌ بالفرقة الثالثة أو الرابعة بالجامعة في أيامنا هذه، هذه واحدة.

                  أمَّا الثانية فإنه يُخطئ مَنْ يَظُنُّ أن تاريخ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يبدأ منذ هذه السن أو منذ ولايته هذه على البلاد، فقد رُبِّي عبد الرحمن الناصر منذ نعومة أظافره تربية قلَّما تتكرَّر في التاريخ.

                  لم يكد يرى عبد الرحمن الناصر نورَ الدنيا حتى قُتِلَ أبوه، وهو بعدُ لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة أسابيع فقط؛ ومن ثَمَّ قام على تربيته جدُّه الأمير عبد الله بن محمد، فربَّاه –رحمه الله- ليقوم بما لم يستطع هو القيام به، ربَّاه على سعة العلم وقوة القيادة، وحب الجهاد، وحُسن الإدارة؛ ربَّاه على التقوى والورع، ربَّاه على الصبر والحلم وعلى العزة والكرامة، ربَّاه على العدل مع القريب والبعيد، ربَّاه على الانتصار للمظلوم، ربَّاه ليكون عبدَ الرحمن الناصر.

                  وهي رسالة إلى كل آباء المسلمين وأُولي الأمر منهم: إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، وإذا كان كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه؛ فما بال تربية أبنائنا اليوم؟! هل نأمرهم بالصلاة عند سبع ونضربهم عليها عند عشر؟! هل نُحَفِّظ أبناءَنا القرآن، أم ندعهم يتعلمون اللغات فقط، ويحفظون الأغاني، وينشغلون بالكرتون؟! وتُرَى ما قدوة أولادنا الآن؟ وبمَنْ يتمثَّلون ويُريدون أن يكونوا مثلهم؟! أعباء ضخمة، ولكن: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[6].

                  والثالثة أنَّ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- حين تولَّى الحُكم كان على ثقةٍ شديدةٍ بالله U، وفي الوقت ذاته على ثقةٍ شديدةٍ بنفسه، وأنه قادر على أن يُغَيِّر، فهو يعي قول الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. فلم يدخل قلبَه يومًا شكٌّ أو يأسٌ أو إحباطٌ من صعوبة التغيير أو استحالته، أو أنَّه لا أمل في الإصلاح.. فقام وهو ابن اثنين وعشرين عامًا، وحمل على عاتقه مهمَّة ناءت بها السموات والأرض والجبال؛ مهمَّة هي من أثقل المهام في تاريخ الإسلام.


                  [1] ابن الأثير: الكامل، 6/467، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/156، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/265، 15/562، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/136.
                  [2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/373.
                  [3] رسائل ابن حزم 2/194.
                  [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/374.
                  [5] انظر: ابن الأثير: الكامل، 6/467، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/156، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/265، 15/562، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/136.
                  [6] البخاري: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق 2416 عن عبد الله بن عمر، ومسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر 1829.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #39
                    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

                    عبد الرحمن الناصر وتغيير التاريخ

                    يتولَّى عبد الرحمن الناصر الحُكم ويقوم بأمر الإمارة, فإذا به -وسبحان الله- يُحيل الضعف إلى قوَّة, والذلَّ إلى عزَّة, والفُرقَة إلى وَحْدَة, ويُبَدِّد الظلام بنور ساطع يُشرق في كل سماء الأندلس تحت مجدٍ وسيادةٍ وسلطان.

                    بعد تَوَلِّي عبد الرحمن الناصر الحُكم -وبهذه المؤهلات السابقة, وبهذه التربية الشاملة لكل مقوِّمَات الشخصية الإسلامية السوِيَّة, وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه- أقدم على تغيير التاريخ, فقام بما يلي:
                    أولاً: إعادة توزيع المهام والمناصب وإسناد الأمر إلى أهله



                    حين تولَّى الحُكمَ لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قُرْطُبَة وما حولها من القرى[1], ورغم أنها تُعَدُّ أكبر بلاد الأندلس, وتُمثِّل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة, إلا أنها لم تكن تمثِّل أكثر من عُشْرِ مساحة الأندلس, وبدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يُغَيِّر من التاريخ.


                    فقام بتغيير البطانة التي حوله -أو فريق العمل بمصطلحاتنا الآن- فعزل مَنْ رآه غير صالح للمنصب الذي هو فيه, وولَّى مَنْ رأى فيهم الكفاءة والمقدرة وحُسن تدبير الأمور[2].

                    ثم أعلى من شأن العلماء, ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه, ورضخ لأوامرهم ونواهيهم, فطبَّق ذلك على نفسه أولاً قبل أن يُطَبِّقه على شعبه, واجتهد قدر طاقته في تطبيق بنود الشريعة.

                    ولقد وَرَدَ أن عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- كان يحضر خطبة الجمعة, وكان يخطبها المنذر بن سعيد, وكان من أكبر علماء قُرْطُبَة في ذلك الوقت, وكان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى على عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- الخليفة والأمير, وكان عبد الرحمن الناصر قد بنى لنفسه قصرًا كبيرًا, فأسرف المنذر في الكلام, وأسرع في التقريع لعبد الرحمن الناصر لبنائه ذلك القصر.

                    وحين عاد عبد الرحمن الناصر إلى بيته قال: «والله! لقد تعمَّدني منذر بخطبته, وما عَنى بها غيري, فأَسرَفَ عليَّ, وأَفرَط في تقريعي, ولم يُحْسِن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي, وكاد بعصاه يقرعني».

                    وهنا أشار عليه رجل ممن كانوا حوله بعزله عن خطبة الجمعة, فردَّ عليه عبد الرحمن الناصر قائلاً: «أَمِثْلُ منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل؟! يُعزَل لإرضاء نفسٍ ناكبةٍ عن الرشد, سالكةٍ غيرَ قصد؟! هذا والله لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقِه». وما عزله حتى مات[3].

                    وعلى مثل هذه المبادئ وهذه المعاني بدأ عبد الرحمن الناصر يُربِّي أهل قُرْطُبَة, وكان في انصياعه هو قدوة للناس جميعًا.

                    ثانيًا: القضاء على الثورات

                    بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قُرْطُبَة وتهيئته تمامًا بدأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يتجه إلى المحيط الخارجي؛ حيث الثورات المتعدِّدة في كل أرض الأندلس, فأرسل حملة يقودها عباس بن عبد العزيز القرشي إلى قلعة رباح, التي كان قد ثار فيها واحد من زعماء البربر يُدعى الفتح بن موسى بن ذي النون, ومعه حليف قوي آخر يُدعى «أرذبلش», وبعد معارك شديدة هُزم الفتح بن موسى وقُتل أرذبلش, وبعث برأسه إلى قُرْطُبَة حيث علَّقها الناصر على باب السدة لإرهاب الثائرين, وطهرت قلعة رباح وما حولها من الثورة.. كان ذلك في ربيع الآخر من عام (300 هـ), أي بعد شهر واحد من جلوسه على كرسي الملك.

                    ثم أرسل سرية أخرى في جمادى الأولى إلى الغرب فاستردت مدينة إِسْتِجَة, التي كان يُسيطر عليها أتباع ابن حفصون, فحققت النصر على العصاة, وهدمت أسوار المدينة وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل؛ لتعود معزولة لا يمكنها أن تثور مرَّة أخرى.

                    ثم خرج عبد الرحمن الناصر بنفسه قائدًا على حملة عسكرية, فكان في توليه القيادة ما أثار نفوس الجنود بالحماسة والعزم, وتوجَّه بها إلى عُمَر أو صمويل بن حفصون (240-306هـ=855-919م)[4] وكان لتبكيره إليه ونهوضه إليه بنفسه ثلاثة أسباب:
                    الأول: أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحقُّ القتل؛ وذلك لأنه ارتدَّ عن دين الله , وفارق جماعة المسلمين بخروجه عليهم؛ ومن ثَمَّ فقد أصبح قتاله فرضًا على المسلمين.
                    والثاني: أن ابن حفصون كان الثائر الأقوى والتهديد الأكبر من بين الثائرين في الجزيرة, وتركه على حاله ومواجهة صغار الثائرين, يُقَوِّي مركزه, كما يُقَوِّي نفوس الثائرين الآخرين, ويضع صورة الحكم في قُرْطُبَة في حرج شديد, إذا ظهر أنها تتأخَّر عن مواجهته.
                    والثالث: أنه يستطيع بذلك أن يحفِّزَ أهل قُرْطُبَة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح؛ فهي بين المسلمين والمرتدين.

                    في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون

                    استمرَّ مدى هذه الحملة طيلة ثلاثة أشهر كاملة؛ هي شعبان ورمضان وشوال من سنة (300هـ= 913م) في العام نفسه الذي تولَّى فيه –رحمه الله, واستردَّ فيها مدينة جَيَّان, وهي من المدن الحصينة في الأندلس, كما استردَّ فيها زهاء سبعين حصنًا من أمهات المعاقل الثائرة, وهزم فيها جيوش ابن حفصون هزائم منكرة[5].

                    ولكن ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدًّا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى, ويأتيه -أيضًا- من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية), هذا فضلاً عن إمدادات مدينة إِشْبِيلِيَة, التي كان عليها حاكم مسلم من بني حجاج, لكنه كان متمرِّدًا على سلطة قُرْطُبَة, وكان يملك جيشًا مسلمًا كبيرًا.
                    وفكَّر عبد الرحمن الناصر كثيرًا في كيفية قطع هذه الإمدادات عن صمويل بن حفصون, واهتدى أخيرًا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قُرْطُبَة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه؛ حيث أَمَّل إن هو ذهب إلى إِشْبِيلِيَة واستطاع أن يُرغِم حَاكِمَها على الانضمام له, أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش إِشْبِيلِيَة المسلم الكبير, وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية, وتقوى شوكته.

                    وبالفعل -وبعونٍ من الله- كان له ما أمَّل؛ حيث ذهب إلى إِشْبِيلِيَة بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة (301هـ= 914م), واستطاع أن يضمَّها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه, فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من إِشْبِيلِيَة, واستردَّ منه جبال رُنْدة ثم شَذُونَة ثم قَرْمُونَة[6], وهي جميعًا من مدن الجنوب.

                    تعمَّق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه, ويكون بذلك -أيضًا- قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية) عن طريق مضيق جبل طارق, وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا؛ حيث قطع -أيضًا- طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي, ثم مضيق جبل طارق, ثم البحر الأبيض المتوسط, ثم إنه وجد في البحر مراكب لابن حفصون كانت تأتيه بالمدد من بلاد المغرب العربي فأحرقها؛ وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمدُّه وتُقَوِّيه[7].

                    ولم يجد صمويل بن حفصون بُدًّا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يُعطيه اثنين وستين ومائة حصن من حصونه, ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يُريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرَّغ لها, فضلاً عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصن, وسيأمن جانب عدوِّه؛ فقد قَبِلَ المعاهدة ووافق على الصلح مع صمويل بن حفصون[8].

                    عبد الرحمن الناصر يُفاجئ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي

                    أصبحت قوَّة عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- تضمُّ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وجَيَّان وإِسْتِجَة, وهي جميعًا من مدن الجنوب, إضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تُمَثِّل تقريبًا سُدُسَ مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت, هذه أولاً.
                    وثانيًا: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونًا كثيرة, ويُسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد, لكن قُطِعت عنه الإمدادات الخارجية؛ سواء من النصارى أو الدولة العبيدية (الفاطمية) أو إِشْبِيلِيَة, فصار خطره محدودًا بالمقارنة بالحال من قبل.
                    وثالثًا: كان هناك تمرُّد في طُلَيْطِلَة (تقع في شمال قُرْطُبَة), ورابعًا: تمرُّد في سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي, وخامسًا: تمرُّد في شرق الأندلس في بَلَنْسِيَة, وسادسًا: تمرُّد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجِلِّيقي.
                    أي أن الأندلس في عام (302هـ= 915م) كانت مقسمة إلى ستة أقسام؛ قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر, ويضمُ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وما حولهما, بما يُقارب سدس مساحة الأندلس -كما ذكرنا- والخمسة الأخرى مُوَزَّعة على خمسة متمردين, والمتوقَّع - إذًا - أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة أحد مراكز التمرُّد هذه, وبخاصة الأقرب منه.


                    وإن المرء ليقف متعجِّبًا حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمرُّدات, واتَّجه بصره صوب الشمال الغربي؛ صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة, فأرسل أحد قادته, فانتصر وغنم وسبى, ثم عاد في العام نفسه, غير أن النصارى أرادوا الانتقام لهزيمتهم, فعادوا لمهاجمة ديار المسلمين, فأُرْسِلَتْ إليهم صائفة في العام التالي, غير أن المسلمين هُزموا فيها, فتجرَّأ النصارى من بعدُ على مهاجمة الثغور, فأرسل عبد الرحمن الناصر إليهم في العام التالي جيشًا قويًّا أوقع بهم هزيمة مريرة[9].

                    فكأنه أراد أن يُعَلِّم الناس أمرًا ويُرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خَفِيَتْ عليهم؛ مفادها: أن الأعداء الحقيقيين ليسوا المسلمين في الداخل, إنما هم النصارى في الشمال؛ مملكة ليون, ومملكة نافار, وبهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إحراج المتمردين إحراجًا كبيرًا أمام شعوبهم, كما استطاع أن يُحَرِّك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه, وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو مَنْ يُدافع عن قضاياها الخارجية, ونحو مَنْ يحارب أعداءها الحقيقيين.

                    وهذه نصيحة إلى أولياء أمور المسلمين بألا يتهاونوا بعواطف الشعوب, وأن يُقَدِّروها حقَّ قدرها, وأن يستميلوها بالتوجُّه نحو الأعداء الحقيقيين, بدلاً من الصراع مع الجار أو القُطر المسلم, فإذا كانت القضية هي فلسطين, أو الشيشان, أو كشمير, أو غيرها من قضايا المسلمين كانت الوَحْدة والتجمُّع, وكان الانسجام وعدم الفُرقة.

                    لم يمضِ عامان آخران حتى جاءته هدية من رب العالمين, ألا وهي موت صمويل بن حفصون مرتدًا وعلى نصرانيته في سنة (306هـ=919م), ذلك الثائر الأخطر في تاريخ الأندلس منذ الفتح, والذي ظلَّت ثورته تؤرِّق بلاط العاصمة الأندلسية ثلاثين عامًا, وكانت هذه بداية النهاية لمعاقل ابن حفصون التي تنازعها أولاده فافترقوا, ومنهم مَنِ انحاز إلى الناصر, فسهل على الناصر بعد مجموعة من المعارك الاستيلاء على كل معاقل ابن حفصون وتطهيرها في عام (316 هـ) [10].

                    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

                    لم يلتقط عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- أنفاسه, وقام في سنة (308هـ= 921م) بالتحرُّك نحو نصارى الشمال بجيش كثيف, وفي طريقه نحو الشمال خاف صاحب طُلَيْطِلَة المستقل بها أن يغزوه عبد الرحمن فخرج بجيشه مع الناصر مُظهرا الطاعة, واتجه الجيشان نحو غزو الشمال[11], بعدها أصبح الطريق آمنًا نحو الشمال مباشرة؛ حيث سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي وطُلَيْطِلَة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده.

                    وفي العام نفسه (308هـ= 921م) وعمره – آنذاك - ثلاثون سنة فقط, قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدًّا باتجاه نصارى الشمال, فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة, وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى, واستمرَّت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة, حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة, وضمَّ إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى[12].

                    وبعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة (312هـ= 924م) قام عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- بنفسه بحملة ضخمة أخرى على مملكة نافار, واستطاع في أيام معدوداتٍ أن يكتسحها اكتساحًا, ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بنبلونة عاصمة نافار, ثم بدأ بعدها يُحَرِّر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأُموية.

                    وفي سنة (316هـ=928م) أرسل عبد الرحمن الناصر حملة أخرى إلى شرق الأندلس؛ لقمع التمرد الذي كان هناك, وضَمَّها بالفعل إلى أملاكه, ثم في العام نفسه أرسل حملة أخرى إلى غرب الأندلس فاستطاعت هزيمة عبد الرحمن الجِلِّيقي؛ ومن ثَمَّ ضمَّ غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد[13].

                    وبذلك وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني يكون –رحمه الله- قد وحَّد الأندلس كلها تحت راية واحدة؛ وحَّدها جميعًا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا بعدُ.


                    [1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/256.
                    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/158.
                    [3] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص70، وابن خاقان: مطمح الأنفس، ص100، والمقري: نفح الطيب، 1/571.
                    [4] ابن عذاري: البيان المغرب 2/159.
                    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/160- 163، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/376.
                    [6] قرمونة أو قرمونية: كورة بالأندلس يتصل عملها بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية. ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/330.
                    [7] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/164، 165، وتاريخ ابن خلدون: 4/139.
                    [8] تاريخ ابن خلدون: 4/139.
                    [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/169.
                    [10] انظر التفاصيل عند محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/383 وما بعدها.
                    [11] ابن عذاري: البيان المغرب 2/177.ونَبَّه ابن عذاري إلى أن طاعة صاحب طليطلة تحتها معصية؛ وبالفعل فقد خرجت طُلَيْطِلَة عن طاعة الناصر، فعاد وأرسل إليها سنة 318هـ يُنذر ويتوعَّد، ويحضهم على الدخول في الطاعة، ولكنهم أَبَوْا، فضرب عليهم الحصار عامين، استغاثوا خلالهما بملك ليون، ولكنه لم يستطع أن يفعل لهم شيئًا، وفي النهاية سلَّموا لعبد الرحمن الناصر سنة 320هـ.
                    [12] لمزيد من التفاصيل: انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/175.
                    [13] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/197، 198.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #40
                      عبد الرحمن الناصر وإعلان الخلافة الأموية

                      إعلان الخلافة الأموية



                      نظر عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضَعُفت، وكان المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت قد قُتِل على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولَّى الأتراك حكم البلاد فِعْليًّا، وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحُكم.

                      ثم نظر الناصر لدين الله إلى الجنوب فوجد العبيديين (الدولة العبيدية الفاطمية) قد أعلنوا الخلافة، وسمَّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه - وقد وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة - أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم؛ فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية
                      بالخلافة الأموية[1].
                      ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية، وذلك ابتداء من عام (316هـ= 928م) وحتى عام (400هـ= 1010م)؛ أي: نحو أربع وثمانين سنة متصلة، وهو يُعَدُّ (عهد الخلافة الأموية) استكمالاً لعهد الإمارة الأموية، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير.

                      حملات عبد الرحمن الناصر التوسعية


                      بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية سنة (319هـ= 931م) اتجه عبد الرحمن الناصر جنوبًا نحو مضيق جبل طارق، وقام بغزو بلاد المغرب وحارب العبيديين (الفاطميين) هناك، فضم سَبْتَة وطَنْجَة إلى بلاد الأندلس، وتمَّت له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق، فبدأ بإمداد أهل السُّنَّة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدَّهم بالجنود؛ تحسُّبًا لهجمات ممالك النصارى في الشمال.


                      خيانة حاكم سرقسطة


                      وفي سنة (323هـ= 935م) تَحْدُث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي؛ حيث تحالف مع مملكة (ليون) النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشًا كبيرًا يتصدَّى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة (سَرَقُسْطَة)، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش (سَرَقُسْطَة)، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة، ويمسك بقوَّاد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم على الفور أمام أعين الجميع في عمل لا يُوصف إلاَّ بالكياسة والحزم.


                      وهنا أعلن حاكم (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر، وكعادة الأبطال الدُّهاة والساسة الحكماء قَبِلَ منه –رحمه الله- اعتذاره، ثم أعاده حاكمًا على (سَرَقُسْطَة)؛ رابحًا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تمكن منهم، متشبهًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأهل مكة بعدما دخلها فاتحًا، وكانوا قد طردوه منها وآذوه هو وأصحابه: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[2].


                      وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عَمِلَ عبد الرحمن الناصر؛ فأطلق حُكَّام (سَرَقُسْطَة) بعد أن أعلنوا توبتهم، وأعاد التجيبيين إلى حكمهم؛ وفي سنة (326هـ=937م) بعث عبد الرحمن الناصر من سَرَقُسْطَة بحملة إلى أرض العدوِّ في الشمال، بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي وأمر محمد بن هشام التجيبي بالخروج معه؛ اختبارًا لوفائه بالعهد، فخرج معه محمد، وقامت الحملة بواجبها؛ فاستولت على مدن وحصون، وهزمت النصارى هزيمة كبيرة، وعادت محملة بالغنائم إلى سَرَقُسْطَة[3].


                      موقعة الخندق أو سمورة


                      أن تسير الأمور هكذا على الدوام أمر في غاية الصعوبة، فليس هناك بشر لا يُخطئ، ولكل جواد كبوة. هذه ليست مبررات لما سيأتي بقدر ما هي بحث في العلَّة والسبب في محاولةٍ لتجنُّبه وتفاديه ما دام سَلَّمنا أنه من شِيَم البشر؛ ففي سنة (327هـ= 939م) وبعد سبع وعشرين سنة من بداية عهد عبد الرحمن الناصر كانت قوَّة الجيش الإسلامي قد بلغت شأوًا عظيمًا؛ حيث ناهزت المائة ألف مقاتل، والأندلس آنذاك تحت راية واحدة، أخذ عبد الرحمن الناصر هذا الجيش العظيم متجهًا إلى مملكة (ليون) النصرانية ليحاربهم هناك[4].


                      وفيما أشبه غزوة حُنَين تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، سُمِّيَت بموقعة الخندق، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش (خمسون ألفًا) بين القتل والأسر، وفرَّ عبد الرحمن الناصر مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة.


                      وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم[5].


                      إلا أننا نعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة الظاهرة، ونرى أن الدولة التي بلغت هذا القدر من القوة، وخرج منها هذا الجيش المجهز، وتوالي انتصاراتها السابقة قد يكون أوقع في نفس عبد الرحمن الناصر ما كان قد وقع من قبل في نفس مَنْ هو خير منه؛ حين قالوا: «لن نغلب اليوم من قلة». فأخذ -كما أخذوا- درسًا ربانيًّا قاسيًا.


                      العودة إلى الجهاد


                      بعد موقعة سمورة أو موقعة الخندق أو خندق سمورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وهو الذي رُبِّيَ على الجهاد والطاعة لربِّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعَلِمَ مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره، وقام ومعه العلماء والمربُّون يُحَفِّزون الناس.


                      ومن جديد أعدُّوا العُدَّة وقاموا بحرب عظيمة على النصارى سنة (329هـ=941م) تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، ظلَّت من سنة (329هـ=941م) إلى سنة (335هـ=947م) حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك (ليون) الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يدٍ وهو صاغر[6]، وكذلك فعل ملك نافار فدفعوا جميعًا الجزية ابتداءً من سنة (335هـ=947م)، وإن لم يمنع هذا من نقض ونشوب بعض الحروب خلال هذه الفترة وحتى آخر عهده / سنة (350هـ=961م).



                      [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/198، والمقري: نفح الطيب، 1/353.
                      [2] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، والسهيلي: الروض الأنف 4/170، وابن القيم: زاد المعاد 3/356، وابن كثير: السيرة النبوية 3/570، وابن حجر: فتح الباري 8/ 18.
                      [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/405 وما بعدها.
                      [4] المقري: نفح الطيب، 1/355.
                      [5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص37، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/415 وما بعدها.
                      [6] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص37.


                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #41
                        عبد الرحمن الناصر وشمال أفريقيا

                        علاقة عبد الرحمن الناصر بشمال أفريقيا

                        لم تقتصر الأخطار التي كانت تُهَدِّد الدولة الإسلامية في الأندلس على ما كان في الأندلس نفسها من ثورات أتت على قواها ومواردها، ولا على ما كان يتربَّص بها من القوى الإسبانية النصرانية المتوثِّبة الطامحة للقضاء على المسلمين في الأندلس؛ بل وفي كل بقاع الأرض إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لم تقتصر الأخطار المحدقة على هذا، وإنما تحالف مع هذه الأخطار وشاركها خطرٌ آخرُ يتربَّص بها في بلاد شمال أفريقيا، خطرٌ لا يقلُّ طموحًا عن طموح النصارى في الشمال، فهو -أيضًا- يتمنى السيطرة على هذه الجزيرة، وعلى ما فيها من خيرات، ويعلم أنها لن تَدِين له بشكل كامل إلا إذا اعتنقت معتقده، وتخلَّت راغبة أو راهبة عما تعتقد؛ إنه الخطر الشيعي الإسماعيلي، الذي تمثَّل في هذا الوقت في الدولة العبيدية (المعروفة زورًا بالفاطمية).

                        الدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

                        أ

                        أعلن قيام هذه الدولة الخبيثة بالمغرب سنة (297هـ)، بعد نجاح أبي عبد الله الشيعي في دعوته، وجذب الأعوان والأنصار لها، وقيامه بمبايعة «عبيد الله المهدي» بالخلافة، وكان ذلك في ظلِّ انشغال الإمارة الأموية في ذلك الوقت بمواجهة الثورات، التي كانت تعصف بالأندلس من الداخل، كما كانت مشغولة بردِّ اعتداءات نصارى الشمال على أرضها، وكانت أضعف -في ذلك الوقت- من أن تُسيطر على هاتين الجبهتين معًا، فكيف إذا فُتحت عليها جبهة ثالثة؟! ثم إن بلاد شمال أفريقيا لطالما اعتُبِرَت خطَّ الدفاع الأول عن الأندلس؛ لأنها كانت دائمًا قاعدة غزو هذه البلاد.



                        خطر الدولة الفاطمية العبيدية

                        كان عبد الرحمن الناصر يعلم بكل هذه الأخطار؛ لقربه من جدِّه الأمير عبد الله، وكان مطلعًا على ما آلت إليه حال الأندلس من ضعف في الداخل والخارج، وما آل إليه حال الأعداء من قوَّة وتمكُّن، ولكنه -ومع علمه بهذا كله- لم يفعل مثل أعمامه وأعمام أبيه، ولم يترك الأمر بالكلية لغيره يتحمَّل أعباءه، وإنما تصدَّر لهذا الأمر، وقام به حقَّ القيام.

                        فإلى جوار المهامِّ العظيمة التي اضطلع عبد الرحمن الناصر بها منذ تَوَلِّيه الحكم، إلا إنه ومع ذلك كان منذ اللحظة الأولى يرقب كل ما يحدث في بلاد الشمال الإفريقي بعين الحرص والحذر، وأنقذه وخفَّف عنه في ذلك الوقت أن الدولة العبيدية كانت هي الأخرى مشغولة بتوطيد أركانها في المغرب؛ لأنها ما كانت تستطيع الانطلاق إلى الأندلس أو إلى مصر إلاَّ بعد أن تستقرَّ في المغرب أولاً.
                        ولكن استقرار هذه الدولة في المغرب سيكون على حساب الأندلس بعد ذلك.

                        المواجهة بين عبد الرحمن الناصر والدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

                        لم يستطع عبد الرحمن الناصر أن يصبر حتى يقضي على كل الثورات في الأندلس قضاء مبرمًا، ولا أن يقضي على شوكة نصارى الشمال أولاً، وكذلك لم ينتظر حتى يفرغ العبيديون من أمر المغرب، ثم يأتي دور الأندلس، وإنما سارع هو إلى نقل المعركة إلى أرض المغرب؛ ليشغلهم بالمغرب عن العبور إلى الأندلس، وليستطيع تقوية مركزه في المغرب، فيتمكن من تهديد سلطان العبيديين هناك بعد ذلك، وفي ذلك براعة حربية؛ فهو بذلك يُشَتِّت جهود العبيديين العسكرية والسياسية، ويشغلهم عن الأندلس بالمغرب، ويعاقبهم على مساندتهم ومساعدتهم للثائرين عليه، بأن يُساعد هو -أيضًا- كلَّ مَنْ يسعى للخروج عليهم، ويضمُّه عبد الرحمن الناصر إليه، في حين لا يستطيع العبيديون أنفسهم أن يفعلوا ذلك.

                        ففي سنة (319هـ) أرسل الناصر أسطولاً قويًّا حشد له ما استطاع من رجال وعتاد، وأرسله إلى سَبْتَة فاستولى عليها من يد ولاتها بني عصام حلفاء العبيديين (الفاطميين)، ثم سارع بتحصينها، وإمدادها بالجند والسلاح، والقادة الأكفاء؛ لأنه يعلم جيدًا أن العبيديين لن يركنوا إلى الراحة والدعة، ولن يتخلَّوْا عن سَبْتَة بسهولة؛ ليس لأنها مفتاح الأندلس فحسب، ولكن لأنها إن بقيت في يد الناصر، فإنها ستُهَدِّد دولتهم الناشئة التي لم تستقرّ بعدُ، وقد عرفنا من قبلُ أهمية ميناء سَبْتَة بالنسبة للأندلس، ورأينا كيف أن موسى بن نصير لم يستطع العبور إلى الأندلس إلاَّ بعد أن أمِن خطر سَبْتَة، وها نحن الآن نعرف أهمية سَبْتَة بالنسبة للمغرب -أيضًا- لذلك لا نعجب إذا عرفنا إصرار إسبانيا على أن تبقى سَبْتَة ومليلة تحت يدها حتى الآن.

                        لقد كانت هذه خطوة جريئة حازمة من عبد الرحمن الناصر، أشعرت العبيديين -بلا شكٍّ- وحلفاءهم بالخوف والجزع من هذه القوة الجديدة، التي بدأ نجمها يبزغ في الأندلس، فإلى جوار الثورات التي يعمل هذا الرجل على إخمادها في بلاده، وبالرغم من وجود نصارى الشمال المتربِّصين به وبدولته، إذا به يفتح على نفسه جبهة جديدة في المغرب، وقد كان المنتظر منه أن يُسارع إلى الاستنجاد بهذه الدولة الفتية التي بدأت تظهر في المغرب؛ لتُعينه على أعدائه الكثيرين؛ لذلك فإننا نعتبر أن هذه الخطوة كانت من أكثر خطوات عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- جُرْأة وشجاعة وحزمًا، كما كانت أكثرها دلالة على حُسن سياسته وفهمه الرائع لكيفية سير الأمور.

                        كان يمكن لعبد الرحمن الناصر أن يركن لهذا التقدم وهذا النصر المهم؛ فلقد شغلهم بسَبْتَة عن الأندلس، إلا أن الرجل كان قد عزم على أن يمضي في طريقه إلى النهاية، وألا تضعف همته أو تفتر، فراسل الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي حاكم طَنْجَة لينزل له عن طَنْجَة؛ لتكتمل بذلك سيطرته على رأس العدوة، فرفض ابن أبي العيش ذلك، فحاصره أسطول الأندلس، وضيَّق عليه حتى اضطره إلى التسليم[1].

                        وفي سنة (319هـ) -أيضًا- أرسل إليه موسى بنُ أبي العافية أمير مِكْنَاسَة يحالفه ويدخل في طاعته، ويَعِدُه بالدعوة له في المغرب، وبتقريب أهل المغرب وزعمائهم منه، فتَقَبَّله عبد الرحمن أحسن قبول، وأمدَّه بالمال، وساعده في حروبه في المغرب؛ ليُقَوِّيَ مركزه[2]، وبادر على إثر ذلك زعماء الأمازيغ (البربر) من الأدارسة وزناتة إلى طاعة عبد الرحمن الناصر والدعاء له على المنابر، وامتدَّ نفوذه إلى تاهرت، وفاس.

                        وفي سنة (323هـ) أرسل القائم العبيدي جيشًا بقيادة ميسور الصقلبي إلى موسى بن أبي العافية، ودارت بينهما عدة معارك انهزم فيها موسى بن أبي العافية، وهرب إلى الصحراء، ثم استنجد بالناصر فأنجده، وهُزم العبيديون، وعاد لموسى بن أبي العافية ملكه في المغرب وقوي أمره[3]، كما قوي نفوذ الناصر لدين الله هناك؛ حتى إن مَنْ ثاروا على الدولة العبيدية في المغرب كانوا يُراسلونه ويعترفون له بأنه الأحق بالولاية، وكان عبد الرحمن الناصر يصلهم ويُحْسِنُ إليهم[4].

                        كل هذا والمعركة دائرة في المغرب، فلمَّا قويت شوكة العبيديين في المغرب، وتغلَّبُوا على ما قام عليهم من ثورات، أقدم المعز لدين الله العبيدي على ما يُشبه جسَّ نبض عبد الرحمن الناصر، فأمر أسطوله بضرب سواحل الأندلس، وبالفعل هاجمت سفن العبيديين ثغر ألمَرِيَّة سنة (344هـ)، وأحرقت ما فيه من سفن، وخَرَّبت كل ما استطاعت تخريبه، فكان ردُّ عبد الرحمن الناصر عليهم عنيفًا؛ إذ أمر فخرج أسطوله إلى سواحل الدولة العبيدية، وردَّ لهم الصاع صاعين، وعادوا سنة (345هـ) [5]، فعلم العبيديون أنه لا طاقة لهم بالأندلس، فلم يُعيدوا الكَرَّة.

                        وفي سنة (347هـ) اجتاحت قوات العبيديين بقيادة جوهر الصقلي المغرب الأقصى، ودخلت فاس وقتلت عامل عبد الرحمن الناصر عليها، فأسرع عبد الرحمن الناصر بتجريد حملة أندلسية عبرت إلى المغرب، واستطاعت ردَّ العبيديين على أعقابهم[6].
                        ثم لم يلبث عبد الرحمن الناصر أن مرض سنة (349هـ)، ثم توفي –رحمه الله- سنة (350هـ).


                        [1] أبو العباس أحمد الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/253.
                        [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/204.
                        [3] انظر: تاريخ ابن خلدون، 1/136.
                        [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/213.
                        [5] انظر ابن عذاري: البيان المغرب، 2/221، وتاريخ ابن خلدون 4/46.
                        [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/222.
                        لنا تتمة مع هذا الموضوع الشيق فتابعونا


                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #42
                          عبد الرحمن الناصر وفن الحروب

                          عبد الرحمن الناصر وفكره العسكري



                          وَرِثَ عبد الرحمن الناصر عن جدِّه مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- مبادئ أساسية للحرب؛ منها:

                          مبدأ المباغتة

                          وقد ظهرت المباغتة في الأعمال القتالية للخليفة عبد الرحمن الناصر بشكل معقد جدًّا؛ مما يُشير إلى درجة التعقيد التي وصلتها الأعمال القتالية في أيامه، فهو يعتمد أحيانًا على المباغتة الزمنية؛ حيث يعمل على حشد القوات في ظاهر قُرْطُبَة خلال مرحلة مبكرة عمَّا هو معهود في توجيه الصوائف للغزو، وأحيانًا أخرى يلجأ إلى المباغتة المكانية؛ حيث يُضلِّل أعداءه ليظهر في مكان غير متوقَّع من مسرح العمليات؛ بحيث لا يعرف أعداءُ الشمال نوايا الناصر، وإلى أين سيُوَجِّه ثِقَلَ قوات الهجوم، وفي أحيان -أيضًا- تأخذ المباغتة عند الناصر شكل مباغتة على مستوى العمليات، وأحيانًا على المستوى الاستراتيجي، إذ لم يكن التوجُّه إلى عواصم دول الشمال (ليون ونافار) إلا نوعًا من المباغتة الاستراتيجية، كما أن طريقة زجِّ القوات وحجمها كان نوعًا من المباغتة على مستوى العمليات، وكانت مباغتة العمليات والمباغتة الاستراتيجية مميزة بشدَّة تعقيدها لما تُبرِزه متابعة مسيرة الأعمال القتالية؛ حيث تمتزج فيها المباغتة الزمنية بالمكانية بطرق زجِّ القوات لتأخذ شكلاً متقدِّمًا ومتطورًا لمفهوم المباغتة.

                          الموازنة بين إدارة الحرب وقيادة الأعمال القتالية

                          أراد الخليفة عبد الرحمن الناصر في بداية حكمه إعطاء نموذج للجهاد بنفسه، فكان يقود المعارك بنفسه مدفوعًا بإيمان الشباب وحماسته للحرب، وممارستها بصورة فعلية، إلى جانب توفُّر الرغبة لحشد قوى المسلمين وتوجيهها وإثارة حميتها، وقد حقق نجاحًا رائعًا في هذا المضمار، حتى إذا استقامت له الأمور، لم تَعُدْ هناك حاجة للإقدام على مُجازفةٍ غير محسوبة تضرُّ بالإسلام والمسلمين بأكثر مما تفيدهم، كما تبدَّى هذا في موقعة الخندق، فكان إمساك الخليفة الناصر بالإدارة العليا للحرب أكثر أهمية من قيادته للأعمال القتالية بنفسه؛ إذ سمح له ذلك بالإشراف على تنظيم الجيوش بصورة مستمرَّة، وإعادة تنظيمها -كُلَّما تطلَّبت الحاجة- وتوجيهها إلى ميادين القتال، وتحديد واجباتها بدقَّة، وتأمين متطلباتها من الإمداد والتموين.

                          لقد بقيت الأندلس طوال عهد الناصر لدين الله في حرب مستمرَّة ومتواصلة وعلى كافَّة الميادين والجبهات، وكان ذلك يتطلَّب تأمين موارد غير محدودة، وقد أظهرت مسيرة الأعمال القتالية أن قوات المسلمين كانت في تعاظم مستمرٍّ، وأن متطلباتها كانت متوفِّرة، ولم تظهر ولو مجرَّد ظاهرة واحدة تُشير إلى عيب أو خلل في التنظيم الإداري أو في تأمين الإمداد للمقاتلين، وليس ذلك إلا برهان ساطع على تلك الكفاءة العالية، التي ضمنت حشد الموارد الضرورية للقوات، وهو ما يُعْتَبَر في الجيوش القديمة والحديثة مقياسًا لكفاءة الإدارة المشرفة على الحرب، وهكذا فإن تخلِّي الخليفة الناصر عن إدارة القتال قد ساعده على تحقيق واجب أكبر؛ وهو الإدارة الشاملة للحرب، وتأمين متطلَّباتها، وضمان الظروف الموضوعية لتحقيق النصر.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #43
                            المشهد الصليبي في عهد عبد الرحمن الناصر

                            د. راغب السرجاني
                            أولًا: مملكة ليون



                            بلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).


                            أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.

                            لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.

                            وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).

                            السعي لإنشاء مملكة قشتالة

                            ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.

                            استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.

                            وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.

                            تطور الأحداث في مملكة ليون

                            توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.



                            وكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.


                            ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.

                            كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.

                            وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
                            ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.

                            ثانيًا: مملكة نافار

                            نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.

                            ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].


                            [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص580، وما بعدها بتصرف.



                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #44
                              حضارة الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر

                              حضارة الأندلس

                              ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.


                              الجانب المعماري


                              مدينة الزهراء




                              كان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].

                              وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة، وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ -وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].


                              مدينة قرطبة




                              وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3]، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].

                              يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].

                              وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].

                              وهذا -أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].

                              لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].

                              الجانب الاقتصادي


                              كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].


                              ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].


                              كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور[11].


                              الجانب الأمني


                              وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].


                              الجانب العلمي


                              ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة
                              النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].

                              وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:

                              حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):


                              من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلاً في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].


                              محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):


                              من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا، وقد ولاه عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].


                              السياسة الخارجية


                              ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].


                              وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده - وبلا جدال - أقوى دولة في العالم.


                              عبد الرحمن الناصر.. الإنسان


                              مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.


                              حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].


                              وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]

                              هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا

                              مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ

                              إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ

                              أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ
                              [19]

                              قالوا عن عبد الرحمن الناصر..


                              قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].


                              وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].


                              وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «
                              في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].


                              [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38، وتاريخ ابن خلدون، 4/144.
                              [2] المقري: نفح الطيب، 1/566.
                              [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/436.
                              [4] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص198.
                              [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232.
                              [6] المقري: نفح الطيب، 1/540.
                              [7] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص378.
                              [8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص314.
                              [9] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38.
                              [10] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص200.
                              [11] السابق نفسه.
                              [12] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/685.
                              [13] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص201.
                              [14] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص116.
                              [15] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص58، 59.
                              [16] المقري: نفح الطيب، 1/366.
                              [17] المصدر السابق، 1/541.
                              [18] انظر: ابن خاقان: مطمح الأنفس، ص103، والذهبي: تاريخ الإسلام، 25/444، والمقري: نفح الطيب، 1/573.
                              [19] المقري: نفح الطيب، 1/575.
                              [20] الذهبي: تاريخ الإسلام، 25/237.
                              [21] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/137.
                              [22] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232، والمقري: نفح الطيب، 1/379.


                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • #45
                                الحكم المستنصر .. الخليفة الأموي

                                خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)



                                استخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.


                                المكتبة الأموية في قرطبة

                                يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].

                                أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.

                                وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!

                                وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].

                                ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].

                                كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].

                                علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر

                                أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م):

                                نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.

                                وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
                                أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ

                                وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
                                وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً

                                إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
                                وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا

                                أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]

                                ابن القوطية

                                وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.

                                لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].

                                كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.

                                وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
                                مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ

                                وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
                                قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
                                مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ

                                وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
                                قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].


                                [1] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/194.
                                [2] الخطيب: أعمال الأعلام، ص41.
                                [3] المصدر السابق، ص42.
                                [4] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/146، والمقري: نفح الطيب، 1/386.
                                [5] تاريخ ابن خلدون، 4/146
                                [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/240.
                                [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/507. وهذا وصف المستشرق الإسباني رينهارت دوزي.
                                [8] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/372، 373.
                                [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/61.
                                [10] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/368-372.

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X