إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • x burn
    رد
    بارك الله فيك

    اترك تعليق:


  • صقر الحمد
    رد
    ما شاء الله تبارك الرحمن
    متألق بعلمك وفهمك وقبلها خلقك الطيب

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    كلمة شكر وتقدير


    في الختام لا يسعني الا ان اتوجه الا بالشكر والامتنان والتقدير
    الى الدكتور راغب السرجاني صاحب الموضوع


    فكل الشكر والامتنان للدكتور راغب على على هذا الموضوع الطيب وما بذله من جهد ووقت في تنقية التاريخ الإسلامي الاندلسي من الشوائب التي علقت به مع مرور الأزمان من جهة وفي تنوير المسلمين فيما يتعلق بتاريخهم المليء بالعبر والعظات من جهة أخرى وتقويمه مسار الامة وردها لسبل الخير ...

    هو كالطبيب ، كما يداوي المرضى فهو ايضا يغرس فيهم الامل فكلما نقرأ نحس بالامان وان الامة ما زالت بخير من خلال توجيهه الامة الى افضل طريق وهو العلم
    لقد انار ابصارنا نحو كثير من الامور
    بتحليلاته للأمور ونظراته الشمولية للاححداث على حقيقتها ... واعادنا لماضي تاريخنا المنسي .

    بارك الله له في علمه وولده وعمله ومد في عمره

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى


    طبيعة الاستعمار الإسباني لبلاد الأندلس



    سؤال من تاريخ الأندلس ربما يكون هو الأخطر من نوعه، وربما يكون قد شغل أذهان البعض كثيرًا، وهو: لماذا انتهى الإسلام بالكلِّيَّة من بلاد الأندلس؟!


    فبلاد الأندلس (إسبانيا والبرتغال) هي اليوم من أقل بلاد العالم في عدد المسلمين، والذين بلغ عددهم فيها مائة ألف مسلم فقط، أي أقل من عدد المسلمين في مدينة من مدن أميركا.

    ففي مدينة دالاس الأميركية وحدها يصل عدد المسلمين إلى مائة ألف مسلم، وهي بعدُ لم تكن قد حُكمت بالإسلام، بينما تعداد المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وبعد أن حُكمت ثمانية قرون بالإسلام لا يزيد عن مائة ألف مسلم، وهو أمر في غاية الغرابة.

    ومن هنا كان هذا السؤال: لماذا انتهى الإسلام من بلاد الأندلس بالكلَّيَّة كأفراد وشعوب ولم ينتهِ من البلاد الأخرى، والتي استُعمرت استعمارًا صليبيًّا، طال أمده في بعض الدول؛ مثل: الجزائر التي احتُلت ثلاثين ومائة سنة، ومصر التي احتُلت سبعين سنة، وفلسطين احتُلت مائتي سنة في زمن الصليبيين، وغيرها من الدول الإسلامية التي غُلبت على أمرها، ورغم ذلك لم يندثر المسلمون، أيًّا كانت طريقة اندثارهم، ولم يتغيروا وظلوا مسلمين وإلى الآن؟!

    وللإجابة على هذا التساؤل لننظر أولاً ما كان يفعله الاستعمار الإسباني في بلاد الأندلس، فقد كان الاستعمار الإسباني استعمارًا استيطانيًّا إحلاليًّا، ما أن يدخلوا بلدًا إلا قتلوا كل مَنْ فيه من المسلمين في حرب إبادة جماعية، أو يطردونهم ويُهَجِّرونهم إلى خارج البلد، ثم يُهجِّرون إليها من النصارى من أماكن مختلفة من الأندلس وفرنسا مَنْ يحل ويعيش في هذه المدن وتلك الأماكن التي خلفها المسلمون، وبذلك لم يَعُدْ يبقى في البلاد مسلمون.

    وحكم البلاد وعاش فيها بعد ذلك نصارى وأبناء نصارى، على عكس ما كان يحدث في احتلال البلاد الإسلامية الأخرى؛ مثل: مصر، والجزائر، وليبيا، وسوريا، وغيرها؛ فإن الاحتلال في هذه البلاد كان بالجيوش لا بالشعوب، واحتلال الجيوش ولا شك مصيره إلى ردة وزوال.

    وإن مثل هذا ليضع أيدينا على شيء هو في غاية الأهمية؛ ذلك أن الاحتلال الاستيطاني هذا الذي حدث في بلاد الأندلس لم يتكرر في أيٍّ من بلاد العالم إلا في مكان واحد فقط، وهو -أيضًا- يخصُّ المسلمين، وهو فلسطين.

    فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى


    إن ما يحدث الآن في فلسطين وعلى أرضها ما هو إلا تكرار لأندلس جديدة، ما يفعله اليهود الآن من تهجير اليهود إلى أرض فلسطين، وإبادة في الشعب الفلسطيني بالقتل والطرد والتشريد، وإصرارهم (اليهود) على عدم عودة اللاجئين إلى ديارهم، ثم الإكثار من بناء المستعمرات، كل ذلك وغيره ما هو إلا خطوة من خطوات إحلال الشعب اليهودي مكان الفلسطيني.


    فقد شُرِّد الشعب الفلسطيني وبات مصيره في طيِّ النسيان، بات العالم أجمع ينسى قضيته يومًا بعد آخر، بل بات محتملاً أن ينسى هو نفسه (الشعب الفلسطيني) قضيته، وأخشى والله! أن ينسى الفلسطينيون المشردون القضية تمامًا كما نسيها أهل الأندلس، الذين هاجروا إلى بلاد المغرب وإلى تونس والجزائر بعد عام أو عامين، أو عشرة أعوام، أو حتى بعد مائة عام، فقد مرَّ الآن على سقوط الأندلس خمسمائة عام، فمن يُفَكِّر في تحريرها؟!

    وهكذا وعلى هذا الوضع يسير اليهود ويجمِّعون شتاتهم إلى بلاد فلسطين لإحلال الشعب اليهودي مكان الشعب الفلسطيني.

    فكانت قضية فلسطين شديدة الشبه بالأندلس، وتُرى لماذا عُقد اتفاق السلام عام 1992م بين اليهود وبين الفلسطينيين، ومن بين كل بلاد العالم هناك يعقد في إحدى مدن الأندلس القديمة في مدريد؟!

    كانت مفاوضات السلام تدور في أوسلو وترعاها أميركا وروسيا وغيرها من البلاد، ومع ذلك أُقيمت في «مدريد» وفي إزالة علامات التعجب نجد أن ذلك كان بسبب أن المفاوضات قامت في سنة 1992م، وهي ذكرى سقوط الأندلس؛ حيث كان قد مر على سقوطها خمسمائة عام.

    ففي تلك الأثناء كانت شوارع «مدريد» مكتظة بالاحتفالات والمهرجانات، حيث هزيمة المسلمين وانتصار الصليبيين في هذه الموقعة القديمة منذ خمسمائة عام، وكأنهم يبعثون برسالة مفادها: ها هو التاريخ يتكرَّر، وها هي أحداث الأندلس تتكرر من جديد في فلسطين، وها هي الانتفاضة التي تحدث في فلسطين تُقتَل كما قُتلت من قبل انتفاضة موسى بن أبي غسان في غرناطة، ها هو التاريخ يتكرر، لا داعي للحرب، ولا داعي للجدال والمحاورات الكثيرة؛ فإن مصيركم هو ما حدث في الأندلس من قبل.

    دراسة التاريخ

    بعد هذه الدراسة، وبعد تلك الحقبة المهمة من تاريخ المسلمين، نستطيع أن نسطر من جديد: ما كان التاريخ -وتاريخ الأندلس خاصة- يومًا ما بُكاءً على اللبن المسكوب، ولا عيشًا في صفحات الماضي، إنما كان لأخذ الدرس والعبرة، وكما ذكرنا في البداية :
    { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف: 176].

    وأيضًا: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [يوسف: 111].

    والذي يجب أن يشغلنا الآن هو أن نقف مع تاريخ الأندلس وقفة نفهم منها أحداث فلسطين والعراق؛ وأحداث أفغانستان، الشيشان، وكوسوفا، والبوسنة والهرسك، وكشمير، وغيرها من البلاد، وما دور الشعوب والأفراد في قضية فلسطين حتى لا تصبح أندلس أخرى.

    والذي يجب أن يشغلنا هو أن يعرف كلٌّ منا دوره في الحياة؛ ومن ثَمَّ يقوم عليه بأحسن ما يكون وأحسن ما يجب أن يكون القيام، وإن معرفة مثل ذلك لتقبع خلف كل صفحة من صفحات تاريخ الأندلس، وخلف كل صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي بصفة عامة.

    وليعلم كل منا أنه إنما هو على ثغرة عظيمة من ثغور الإسلام، فليحذر وليحرص كل الحرص على ألا يُؤْتى الإسلام من قِبله، ولا يُلدغ الثانية، وقد قال تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    أمة الإسلام أمة لن تموت

    انتصارات المسلمين بين التاريخ والواقع



    لا شك أن انتصارات المسلمين في السابق في مثل مواقع الزلاقة ووادي برباط، وأي من المواقع الإسلامية الأخرى في غير تاريخ الأندلس، لا شك أنه أمر يبعث العزة ويدعو إلى الفخر؛ لكن مثل هذه الانتصارات السابقة كانت حيث السيوف والرماح والخيول، ولقاء الجندي بالجندي، أما الآن وقد اختفت مثل هذه الأمور، بل واندثرت تمامًا، وتبدَّل الوضع؛ فأصبحت الحرب غير الحرب، والطاقة غير الطاقة، حيث الحرب الإلكترونية، وحيث الطائرات والقنابل العنقودية، والصواريخ العابرة والموجهة، والأسلحة الكيميائية والنووية، وغير ذلك مما لم يكن على سابق ما مضى تمامًا.


    فهل يستطع المسلمون أن يحققوا نصرًا في مثل هذه الظروف، وتلك المستجدات، ورغم ما هم فيه من تخلفٍ وانحطاطٍ كانتصارات سابقيهم؟!

    والحقيقة أن مبعث مثل هذا الخاطر وذاك السؤال هو عدم الفهم والوعي لعاملَيْن مهمَّيْن جدًّا، كنا قد تحدثنا عنهما فيما مضى؛ وهما:

    أمة الإسلام أمة لا تموت


    اقتضت سُنَّة الله في كونه أن تكون أمة الإسلام أمة لا تموت، وأنها أبدًا في قيام، وأنه لا بُدَّ من القيام بعد السقوط كما كان السقوط بعد القيام، بصرف النظر عن مدى قوة وعظم الكافرين وضعف المسلمين، فالله I يقول: { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196- 197].

    إدراك أن المعركة بين الحق والباطل

    فالحرب بين المسلمين وغيرهم ليست متمثِّلَة في شكل دول أو أشخاص، إنما هي حرب عقائدية، حرب بين الحق والباطل، وهي بأيسر تعبير معركة بين أولياء الله تعالى وأولياء الشيطان.

    فماذا تكون النتيجة إذًا إذا كانت المعركة على هذا النحو؟ وهل ينتصر حزب الشيطان وأولياؤه مهما تعاظمت عناصر القوة لديهم، أم ينتصر حزب الله وأولياؤه، وإن قلَّت وضعفت إمكاناتهم وطاقاتهم؟

    وفي استدعاءٍ للتاريخ والمواقع الإسلامية السابقة خير مثال ودليل على ما ذهبنا إليه، فهل كان من الطبيعي بالقياسات القديمة أن يحقق المسلمون النصر في معاركهم كلها فيما مضى؟! هل كان من الطبيعي في معركة القادسية -على سبيل المثال- أن ينتصر اثنان وثلاثون ألف مسلم على مائتي ألف فارسي؟! بكل قياسات الماضي وقياسات الوضع الطبيعي، هل من الممكن أن يحدث مثل هذا؟ وأين؟ في بلادهم وعقر دارهم.

    وهل كان من الطبيعي في معركة اليرموك أن ينتصر تسعة وثلاثون ألف مسلم على مائتي ألف رومي؟! وهل كان من الطبيعي أن ينتصر ثلاثون ألف مسلم في تُستر على مائة وخمسين ألف فارسي ثمانين مرة متتالية في خلال سنة ونصف، وفي عقر دارهم أيضًا؟! وهل كان من الطبيعي كما ذكرنا في أحداث الأندلس السابقة أن ينتصر اثنا عشر ألف مسلم على مائة ألف قوطي في معركة وادي برباط؟!

    هذه كلها أمور من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تحدث حتى بقياسات الماضي، وهو لغز لا يمكن أن نجد له حلاًّ إلا بطريقة واحدة، هي أن نعلم ونتيقن أن الله تعالى هو الذي يحارب الكافرين؛ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } [الأنفال: 17]. ويقول أيضًا: { وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [محمد: 14].

    فالله تعالى يختبر المؤمنين بحربهم مع الكافرين، وليس هو I في حاجةٍ إلينا لينتصر على أعدائه أو المشركين به من اليهود والأميركان والروس، أو غيرهم من أمم الأرض الذين جحدوا وحدانيته واجتاحوا بلاد المسلمين، إنما كان من فضله علينا وجُوده وكرمه أن استعملَنَا جنودًا عنده تعالى ، وإنما نحن كمن يستر القدرة ويأخذ الأجرة، فنحن نستر قدرة الله تعالى في هزيمته للكافرين، ونأخذ الأجر على الثبات في هذا الموقف أمام الكفار.

    والذي يقول بأن الموقف في الماضي مخالف عن الموقف في الحاضر، أو أن حروب الماضي مختلفة بالكلية عن حروب الحاضر، وهو يعلم أن الله تعالى هو الذي نصر الصحابة ونصر مَنْ تبعهم بإحسان وإلى يوم الدين، من يرى هذا كأنه يقول -حاشا لله من هذا- بأن الله كان قادرًا على عادٍ وثمود وفارس والروم، ولكنه -نعوذ بالله من ذلك- ليس بقادر على أميركا واليهود وروسيا ومَنْ حالفهم، أو شايعهم من الأمم الحاضرة المقاتلة لأمة الإسلام!

    يقول تعالى في كتابه الكريم حكاية عن الأمم العاتية السابقة: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].

    ويقول أيضًا في وصف حال الكافرين: { اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } [فاطر: 43- 44].

    غروب الإسلام في الأندلس وشروقه في القسطنطينية

    إن ما يمكن أن نستقيه من تاريخ الأندلس؛ أنه لا يغيب الأمل أبدًا في نصر الله، فإن الله دائمًا ما يُقَيِّض لهذه الأمة مَنْ ينصرها، ومَنْ يُجَدِّد لها أمر دينها.

    وقد حدث مثل ذلك كثيرًا في تاريخ الأندلس، كان منه ما حدث في نهاية عهد الولاة، وذلك بقيام عبد الرحمن الداخل، ثم ما حدث -أيضًا- في نهاية الإمارة الأموية على يد عبد الرحمن الناصر، وهكذا في كل عهد تجد مَنْ يجدِّد لهذه الأمة أمر دينها، تجد يوسف بن تاشفين، وتجد يعقوب المنصور الموحدي، وتجد يعقوب المنصور المريني، وغيرهم الكثير.

    وقد يتساءل البعض قائلاً: لقد انتهى الإسلام من بلاد الأندلس بالكلية، فأين ذاك القيام، الذي من المفترض أن يكون بعد هذا الانتهاء، ما دامت كانت قد جرت السنة على ذلك؟!

    وفي معرض الردِّ على مثل هذا السؤال نسوق حدثًا في غاية الغرابة، فقد حدث قبل سقوط الأندلس الأخير بنحو أربعين سنة حادث عجيب، وأعجب منه هذا التزامن الذي فيه، فقد فُتحت القسطنطينية في سنة (857هـ= 1453م) أي قبل سقوط الأندلس بأربعين عامًا، فكان غروب شمس الإسلام على أوربا من ناحية المغرب يزامنه شروق جديد عليها من ناحية المشرق، واستبدل الله هؤلاء الذين باعوا، وأولئك الذين خانوا من ملوك غرناطة في الأندلس بغيرهم من العثمانيين المجاهدين الفاتحين الأبرار، الذين فتحوا القسطنطينية وما بعدها، وقد بدأ الإسلام ينتشر في شرق أوربا انتشارًا أسرع وأوسع مما كان عليه في بلاد الأندلس وفرنسا.

    وإنها- وايم الله- لآية من آيات الله I تبعث الأمل وتبثُّه في نفوس المسلمين في كل وقت وكل حين، مبشرة ولسان حالها: أمة الإسلام أمة لا تموت.

    أمة الإسلام . بك أم بغيرك؟!

    لكن المهم والذي من المفترض أن يشغل بال المسلم الحريص على دينه هو معرفة دوره هو في هذا القيام وهذه الدعوة، ومعرفة دوره في انتصار مثل انتصار الزلاقة، وغيره من مواقع المسلمين الخالدة.

    فإن كان قيام أمة المسلمين بنا فنحن مأجورون على ذلك، حتى ولو لم نَرَ نصرًا، وإن كان القيام بغيرنا فقد ضاع منا الأجر، حتى ولو كنا معاصرين لذلك النصر وذاك التمكين، وهذا هو ما يجب أن يستحوذ على أذهان المسلمين، وأن يعملوا ليكون لهم دور في إعادة بنيان هذه الأمة بعد ذاك السقوط الذي تحدثنا عنه.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    أمة الإسلام بين الصعود والهبوط

    سنة قيام وسقوط الأمم

    بعد وصول المسلمين في الأندلس إلى هذه المرحلة من الضعف والتفتت والهوان هناك تعليق عام وتحليل، واستراحة على طول طريق الأندلس منذ الفتح وحتى هذه المرحلة، نستجلي فيه سُنَّة من سنن الله I في كونه بصفة عامة، وفي الأمة الإسلامية بصفة خاصة، وهي سُنَّة قيام وسقوط الأمم، وسُنَّة الارتفاع والهبوط، تلك التي لوحظت بشكل لافت في الدولة الإسلامية خاصة.

    وحقيقةُ الأمر أنه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سُنَّة الله في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط وتزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله تعالى أن كانت هناك قوانين اجتماعية وإنسانية عامة تتصل مباشرة بضبط مسيرة الحياة الإنسانية ومسيرة الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم والحضارات بهذه القواعد دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا حادت عنها لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له؛ قال تعالى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 140].

    وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم السقوط.



    وأسباب قيام الدولة الإسلامية كثيرة على نحو ما ذكرنا فيما مضى، والتي كان من أهمِّها:

    الإيمان بالله والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته.

    الأُخوة، والوحدة، والتجمُّع ونبذ الفرقة.

    العدل بين الحاكم والمحكوم.

    العلم، ونشر الدين بين الشعوب.

    إعداد العدة، والأخذ بالأسباب

    { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 60].

    فإذا أخذ المسلمون بهذه الأسباب فإنهم سرعان ما يقومون، وغالب الأمر يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تُفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها ويقع الكثيرون في الفتنة.
    « إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ »[1].

    ومن جديد يحدث الضعف فالسقوط، وعلى قدر الفتنة بالمادة والمدنية يكون الارتفاع والانحدار، والسقوط والانهيار.

    فقه عمر بن الخطاب في مقاومة الفتنة

    وأمر الفتنة هذه هو الذي فقهه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة (17هـ=735م) حينما أمر بوقف الفتوحات في بلاد فارس، في عمل لم يتكرَّر في تاريخ المسلمين، إلا لدى قليل ممن هم على شاكلته، وذلك حين فُتحت الدنيا على المسلمين وكثرت الغنائم في أيديهم.

    خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتَنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يُدخل شعبه الجنة، لا أن يُدخله بلاد فارس، إذا كان دخول فارس على حساب دخول الجنة، وقال رضي الله عنه: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا[2]. ولم يعد رضي الله عنه إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين، وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.

    والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام، أما ألا يُتبَع السقوطَ قيامٌ فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين، ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار، ومن أصدق الأمثلة على ذلك حضارة الفراعنة، واليونان، وإمبراطوريتي فارس والروم، وإمبراطورية إنجلترا التي لا تغرب عنها الشمس.. وهذه السُّنة الكونية يمثلها قوله تعالى: { كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة: 21].
    وقوله تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].
    ومما يُثبت سُنَّة الله هذه في الدولة الإسلامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا »[3].


    فمعنى هذا أنه سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلوٌّ، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدِّد أو مجموعة مجدِّدين، وهكذا إلى قيام الساعة.

    والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هذه الفترات، ففيه الكثير من أحداث الارتفاع والهبوط، ثم الارتفاع والهبوط، ولم يكن هذا خاصًّا بتاريخ الأندلس فقط؛ بل إن صحابة رسول الله شاهدوا ذلك بأعينهم، فبعد وفاته مباشرةً حدث سقوط ذريع وانهيار مروِّع، ورِدَّة في كل أطراف جزيرة العرب، التي لم يبق منها على الإسلام سوى مكة والمدينة وقرية صغيرة تسمى هجر (هي الآن في البحرين).

    وبعد هذا السقوط يحدث قيام عظيم وفتوحات وانتصارات، كان قد جدَّد أمرها وغرس بذرتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن أجهز على الردَّة، ثم فُتحت الدنيا على المسلمين في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فحدثت الفتنة والانكسارات في الأمة الإسلامية؛ مما أدَّى إلى مقتله رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد وصاحب رسول الله ، وظلَّت هكذا طيلة خلافة سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

    ومن جديد يستتبُّ الأمر، وتقوم الدولة الأموية وتستكمل الفتوح، ثم فترة من الزمان ويحدث سقوط آخر حين يفسد أمر بني أمية، وعلى أَثَره يقوم بنو العباس فيُعيدون من جديد المجد والعزّ للإسلام، وكالعادة يحدث الضعف ثم السقوط، وعلى هذا الأمر كانت كل الدول الإسلامية الأخرى التي جاءت من بعدها، مرورًا بالدولة الأيوبية وانتهاءً بالخلافة العثمانية الراشدة، التي فتحت كل شرق أوربا، وكانت أكبر قوة في زمنها.

    فهي إذًا سنة من سنن الله تعالى، ولا يجب أن تَفُتَّ في عضد المسلمين، ولا بُدَّ للمسلمين من قيام بعد سقوط، كما كان لهم سقوط بعد قيام، وكما ذكرنا سابقًا فإنه ليس بين الله تعالى وبين أحد من البشر نسب.
    « يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا »[4].

    فإن ضلَّ المسلمون الطريق، وخالفوا نهج نبيهم؛ فستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانهيار المروِّع الذي شاهدناه في الأندلس، والذي نشهده في كل عهود المسلمين.

    واقع العالم الإسلامي المعاصر

    المرحلة التي يعيشها المسلمون الآن وتصنيفها:
    قد يتساءل المرءُ: ما هو تصنيفنا كمسلمين في هذا العصر وفقًا للمراحل السابقة ما بين الارتفاع والهبوط، أو القيام والسقوط؟

    وواقع الأمر- وكما هو واضح للعيان- أن الأمة الإسلامية تمرُّ الآن بمرحلة من مراحل السقوط؛ سقوط كبير وضعف شديد وفرقة للمسلمين، سقوط مباشر لسقوط الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، وهو أمر طبيعي ودورة طبيعية من دورات التاريخ الإسلامي، وسُنَّة من سنن الله تعالى كما رأينا.


    إلا أن مرحلة السقوط الأخيرة هذه قد شابها أمران لم تعهدهما الدولة الإسلامية، ولم يحدثا من قبل في مراحل سقوطها المختلفة:

    غياب الخلافة

    إذ حدث ولأول مرة في التاريخ أن يُصبح المسلمون بلا دولة واحدة تجمعهم، فرغم ما كان وما يكون من السقوط والانهيار على مدى فترات الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية، إلا أنه لم تكن لتغيب صورة الخلافة عن الأذهان بحالٍ من الأحوال، منذ الدولة الأموية في القرن الأول الهجري، وحتى سقوط الخلافة العثمانية في القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث كان الإسلام سياسيًّا (دين ودولة) طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان.

    غياب الشرع الإسلامي

    فلم يكن -أيضًا- في أيٍّ من عصور السقوط السابقة للدول الإسلامية، مع ما يصل المسلمون إليه من تدنٍّ وانحدار لم يكن قطُّ يُلغى الشرع أو يغيب، نعم قد يُتجاوز أحيانًا في تطبيق بعض أجزائه، لكن لم يظهر على الإطلاق دعوة تنادي بتنحية الشرع جانبًا، وتطبيق غيره من قوانين البشر مما هو أنسب وأكثر مرونة على حسب رؤيتهم.

    وإن مثل هذين العاملين ليجعلان من مهمة الإصلاح والتغيير أمرًا من الصعوبة بمكان، ورغم ذلك فإنه وكما أوضحنا ليس بمستحيل؛ لأن المستحيل هنا هو التعارض مع سنن الله I التي تقول بأن دولة الإسلام في قيام حتى قيام الساعة.

    مبشرات قيام الأمة الإسلامية



    وهناك من المبشِّرات نحو قيام الدولة الإسلامية الآن الكثير والكثير، فمنذ سقوط الخلافة العثمانية سنة (1342هـ= 1924م) كان قد حدث انحدار كبير -ولا شك- في معظم أقطار العالم الإسلامي، إن لم يكن كله (بعد سقوط الخلافة العثمانية أُقيمت الدول العربية عدا السعودية على أساس علماني شبيه بالدول الغربية)، وظلَّ هذا الوضع حتى أوائل السبعينيات، ثم كانت الصحوة في كل أطراف الأمَّة الإسلامية في منتصف السبعينيات وإلى يومنا هذا.


    ونظرة واحدة إلى أعداد المصلين في المساجد خاصة الشباب، وإلى أعداد المحجبات في الشوارع في كل أطراف العالم الإسلامي، وانتشار المراكز الإسلامية في كل بلاد أوربا وفي أميركا، والصحوة الجهادية في البلاد المحتلة مثل فلسطين والعراق والشيشان وغيرها، وحال الإسلام في جمهوريات روسيا السابقة بعد احتلال نصراني وشيوعي دام لأكثر من ثلاثمائة عام، نظرة واحدة إلى مثل هذه الأمور وغيرها يُبَشِّر بالقيام من جديد.


    [1] الترمذي: 2336 وقال: هذا حديث صحيح غريب. وأحمد 17506، وابن حبان 3223، والحاكم:
    [2] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/498، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 2/382.
    [3] أبو داود: كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة 4291، وقال: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل. والحاكم 8592، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة 599.
    [4] البخاري: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب 2602، ومسلم: كتاب الأيمان، باب في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 204.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء المسلمين في غرناطة

    الشريف الإدريسي (493-560 هـ= 1100-1165م)



    هو محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الإدريسي الحسني الطالبي، مؤرخ، من أكابر العلماء بالجغرافية، ولد في سبتة ونشأ وتعلم بقرطبة، ويعتبر الشريف الإدريسي- بحق- عمدة الجغرافيين المسلمين، فقد ترك لنا موسوعة جغرافية عظيمة هي كتابه الرائع: «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق».


    قام برحلات عديدة وتجوَّل في شبه الجزيرة الإسبانية، كما وصل إلى شواطئ فرنسا وإنجلترا الجنوبية، بعدها عبر البحر إلى المغرب وتجول في شماله وجنوبه، وعاش حينًا في مراكش، وحينًا آخر في قسنطينة[1]، ثم رحل إلى المشرق وتجوَّل في آسيا الصغرى، وكان لهذه الرحلات أكبر الأثر في تكوين معلوماته الجغرافية، التي مهدت لوضع مؤلفه الجغرافي الكبير «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق».

    انتهى المطاف بالإدريسي في جزيرة صقلية، وهناك استقبله ملكها «روجر الثاني» في بلاطه وأغدق عليه وكفله بالرعاية، حيث كان يسبق وصول الإدريسي إلى صقلِّية صيته كرحالة وكعالم جغرافي فذٍّ، وفي صقلية صمم الإدريسي خريطة للعالم هي الأدق والأفضل حتى وقت قريب.

    ثم وضع مؤلفًا جغرافيًّا عامًّا يستعرض فيه العالم المعروف في ذلك الوقت، وتوصف فيه أحوال البلاد والأرضين وأماكنها، وصورها، وبحارها وجبالها، ومزروعاتها وعللها، وما يذكر عنها من العجائب، مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم ومذاهبهم، وأزيائهم ولغاتهم، وقد استغرق فيه خمسة عشر عامًا، وانتهى من وضعه سنة (549هـ= 1154م).

    نزهة المشتاق في اختراق الآفاق

    وعن كتابه: «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» قال عنه الزركلي: وهو أصح كتاب ألفه العرب في وصف بلاد أوربا وإيطاليا، وكل من كتب عن الغرب من علماء العرب أخذ عنه[2]. وقالت عنه دائرة المعارف الفرنسية: إن كتاب الإدريسي هو أوفى كتاب جغرافي تركه لنا العرب، وإن ما يحتويه من تحديد للمسافات ووصف دقيق يجعله أعظم وثيقة علمية جغرافية في القرون الوسطى.

    وله أيضًا: الجامع لصفات أشتات النبات (في علم النبات[3])، وروض الأنس ونزهة النفس، وأنس المهج وروض الفرج، وهذا بخلاف الكرة الفضية المرسوم عليها خريطة العالم.
    توفي الإدريسي سنة (560هـ= 1165م).

    لسان الدين بن الخطيب (713-776هـ=1313-1374م)

    هو محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني، وزير مؤرخ أديب نبيل، كان أسلافه يُعرفون ببني الوزير، وُلِدَ ونشأ بغرناطة، استوزره سلطان غرناطة أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل (سنة 733هـ) ثم ابنه (الغني بالله) محمد من بعده، وعظمت مكانته، ولكنه شعر بسعي حاسديه في الوشاية به، فكاتب السلطان عبد العزيز بن علي المريني برغبته في الرحلة إليه.

    وترك الأندلس خلسة إلى تلمسان، وكان السلطان عبد العزيز بها، فبالغ في إكرامه، وأرسل سفيرًا من لدنه إلى غرناطة بطلب أهله وولده، فجاءوه مكرمين، واستقر بفاس القديمة، قال عنه المقري: الوزير، الشهير الكبير، لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري، عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير، المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها، ومصنفاته تخبر عن ذلك، ولا ينبئك مثل خبير، علم الرؤساء الأعلام، الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام، وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام، واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام.

    محنة ابن الخطيب

    لما مات عبد العزيز، وخلفه ابنه السعيد بالله، ثم خلع وتولى المغرب السلطان (المستنصر) أحمد بن إبراهيم، وقد ساعده (الغني بالله) صاحب غرناطة مشترطًا عليه شروطًا؛ منها: تسليمه (ابن الخطيب)، فقبض عليه المستنصر، وكتب بذلك إلى الغني بالله، فأرسل وزيره ابن زمرك إلى فاس، فعقد بها مجلس الشورى، وأحضر ابن الخطيب، فوُجهت إليه تهمتا الزندقة، وسلوك مذهب الفلاسفة، وأفتى بعض الفقهاء بقتله، فأعيد إلى السجن، ثم دَسَّ له رئيس الشورى سليمان بن داود بعض الأوغاد -كما يقول المؤرخ السلاوي- من حاشيته، فدخلوا عليه السجن ليلاً، وخنقوه، وذلك في سنة (776هـ= 1374م)، ثم دفن ابن الخطيب في مقبرة (باب المحروق) بفاس.

    ألَّف ابن الخطيب الكثير من الكتب القيمة التي تُعَدُّ مرجعًا خالدًا؛ منها: الإحاطة في أخبار غرناطة، الإعلام في منْ بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، واللمحة البدرية في الدولة النصرية، ورقم الحلل في نظم الدول، وأعمال الأعلام، ومقنعة السائل عن المرض الهائل، روضة التعريف بالحب الشريف، وعمل من طب لمن أحب، والتاج المحلى في مساجلة القدح المعلى، والوصول لحفظ الصحة في الفصول، ومعيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، والكتيبة الكامنة، وخطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف، ودرة التنزيل.. وغيرها من المؤلفات الجيدة[4].

    ابن بطوطة (703-779هـ= 1304-1377م)

    هو الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة، وُلِدَ في طنجة، عام (703هـ= 1304م)، ينتمي إلى قبيلة «لواتة»، وهي قبيلة بربرية كبيرة، كانت بطونها تنتشر على طول الساحل الإفريقي الشمالي من المحيط إلى ليبيا.

    رحلات ابن بطوطة

    يُعدُّ ابن بطوطة أشهر رحالة عربي، بل سيد رحالة القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي دون منازع؛ حيث إنه قضى 28 عامًا متنقلاً أو مرتحلاً في أجزاء العالم المعروف في أيامه، وقد بدأ رحلته التي استغرقت كل هذه السنين من موطنه في طنجة مجتازًا ساحل شمال إفريقيا، حتى وصل إلى مصر، ومنها إلى جزيرة العرب، ثم الشام، ثم بلاد فارس، ثم البحرين، وعُمان، ثم شرق إفريقيا، بعدها تجوَّل في آسيا الصغرى والقرم وحوض الفولجا الأدنى - الجنوبي - ودخل القسطنطينية ثم توجَّه شرقًا إلى خوارزم وبخارى وكردستان وأفغانستان والهند - حيث مكث ثماني سنوات، ثم زار جزر المالديف وبعض جزر الهند الشرقية والصين، وكان قد بدأ تلك الرحلة سنة (1325م) ليعود إلى طنجة سنة (1347م)، واتصل ابن بطوطة خلال رحلاته تلك بالكثير من الملوك والأمراء، فمدحهم - وكان ينظم الشعر - واستعان بِهِبَاتِهم على أسفاره.

    بعد ذلك قام برحلتين قصيرتين: الأولى في ربوع الأندلس سنة (1350م)، والثانية في السودان ووسط إفريقيا سنة (1352م)؛ ليعود ويستقرّ في فاس سنة 1354م؛ ليملي فيها وصف رحلته التي سماها: «تحفة النظار وغرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والمشهور لدينا باسم «رحلة ابن بطوطة»، وقد أملاها على ابن جُزي الكاتب ببلاط السلطان المغربي أبي عفان المريني، وذلك سنة (1356م).

    وقد قُدِّرت المسافة التي قطعها ابن بطوطة في رحلته بنحو 120 ألف كيلو متر... ولنا أن نتخيل أي رحلة تلك وأي رحَّالة كان ابن بطوطة؛ إذا تصورنا وسائل النقل التي كانت متوفرة في تلك الحقبة من الزمن!

    ويمكننا تقسيم رحلات ابن بطوطة كما جاءت في كتابه «تحفة النظار» إلى ثلاث رحلات:
    - الرحلة الأولى: تقع في الفترة الزمنية من سنة 1334م إلى سنة 1349م، زار فيها ابن بطوطة شمال إفريقيا، ومصر، والشرق الأوسط، وشرق إفريقيا، وجزيرة العرب، واليمن، ثم قصد القسطنطينية، وبعد أن أقام بها فترة من الزمن عاد إلى الهند، ثم سافر مع أعضاء البعثة الدبلوماسية التي أرسلها سلطان الهند محمد شاة، فزار جزائر الهند ومالديف وسيلان والصين.

    - الرحلة الثانية: في الفترة 1351م إلى 1652م، وتجوَّل فيها في بلاد الأندلس.

    - الرحلة الثالثة: في الفترة من 1352م إلى 1354م وتجوَّل فيها في السودان وغرب إفريقيا.

    وتستمد رحلات ابن بطوطة قيمتها من تميُّز صاحبها عن سواه من الرحالة السابقين في التفوق في الدرس؛ إذ لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ألَمَّ بها وبسطها بتفصيل، وإذا كان ابن بطوطة سابع سبعة من أعلام الرحالة العرب (المقدسي والإدريسي وابن جبير والسمعاني وياقوت والبيروني)، إلا أنه أكثرهم تميّزًا، وأشدهم عناية بالحديث عن الحالة الاجتماعية للمجتمع أو البلد الذي يراه.

    قال ابن جزي –تلميذ ابن بطوطة وكاتب كتابه-: لا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر، ومَنْ قال: رحال هذه الملة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس مقرًّا ومستوطنًا بعد طول جولانه.

    مات ابن بطوطة في مراكش سنة (779هـ= 1377م)، وتُلَقِّبه جامعة كامبريدج في كتبها وأطالسها بأمير الرحالة المسلمين.

    ابن البناء المراكشي (654-721هـ= 1256-1321م)

    هو الشيخ المحقق أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان بن البناء الأزدي المراكشي، سُمِّيَ بـ«ابن البناء»؛ لأن أباه كان يعمل بنَّاءً؛ وُلِدَ في مراكش سنة (654هـ=1256م)، من مؤلفاته: حاشية على الكشاف، ومنتهى السلوك (في علم الأصول)، وكليات في المنطق وشرحها، وكليات (في العربية)، والمقالات (في الحساب)، واللوازم العقلية في مدارك العلوم، والروض المريع في صناعة البديع، وعنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل، ورسالة في المكاييل، وجزء في المساحات، ومقالة في علم الإسطرلاب، وقانون (في معرفة الأوقات بالحساب).

    ومن كتبه -أيضًا- «تلخيص أعمال الحساب»، وقد نظمه ابن غازي، وشرح نظمه، وطُبع النظم وشرحه بفاس، ويُعدُّ هذا الكتاب المرجع الأساسي في علم الحساب في أوربا، حتى مطلع القرن العاشر الهجري (السادس عشر ميلادي) واهتم علماء الغرب بتحقيقه وترجمته إلى لغات مختلفة, حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر ميلادي)، ويؤكد جورج سارتون في كتابه «المدخل إلى تاريخ العلوم» أن كتاب تلخيص أعمال الحساب لابن البناء المراكشي يحتوي على نظريات حسابيه وجبريه مفيده؛ إذ أوضح العويص منها إيضاحًا لم يسبقه إليه أحد؛ لذا يرى سارتون أنه يُعتبر من أحسن الكتب التي ظهرت في علم الحساب. أمَّا ديفيد يوجين سمث فقد ذكر في كتابه تاريخ الرياضيات أن كتاب تلخيص أعمال الحساب لابن البناء يشتمل على بحوث كثيرة في الكسور ونظريات لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها, وقانون الخطأين لحلِّ المعادلة من الدرجة الأولى.

    ويذكر فرانسيس كاجوري في كتابه «المقدمة في الرياضيات» أن ابن البناء المراكشي قدَّم خدمة عظيمة بإيجاده الطرق الرياضية البحتة لإيجاد القيم التقريبية لجذور الأعداد الصم. أما العلامة ابن خلدون فيقول عن كتاب تلخيص أعمال الحساب لابن البناء: «وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني, وهو كتاب جدير بذلك، وإنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم؛ لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها, وإذا قصد شرحها, إنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال, وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل.

    وأضاف عمر رضا كحالة في كتابه «العلوم البحتة في العصور الإسلامية» قائلاً: «كتاب تلخيص أعمال الحساب لابن البناء يحتوي على بحوث مختلفة، تمكن ابن البناء من جعلها -على الرغم من صعوبة بعضها- قريبة المتناول والمأخذ, وقد أوضح النظريات العويصة والقواعد المستعصية إيضاحًا لم يُسبق إليه فلا تجد فيها التواء أو تعقيدًا.

    عاش ابن البنَّاء 67 سنة، وتوفي في مراكش سنة (721هـ=1321م).


    [1] قسنطينة: مدينة شرق الجزائر.
    [2] الزركلي: الأعلام 7/24.
    [3] يبحث هذا الكتاب في 560 نوعًا من النباتات، واعتمد عليه ابن البيطار، ولولا إنجاز الإدريسي العظيم في الجغرافي لعُدَّ من أهم علماء النبات.
    [4] انظر في تفاصيل حياته، مقدمة التحقيق الذي كتبه الأستاذ محمد عبد الله عنان لكتاب «الإحاطة في أخبار غرناطة».

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    محاكم التفتيش .. شهادة الكولونيل الفرنسي ليموتسكي

    شهادة الكولونيل ليموتسكي

    كتب الكولونيل ليموتسكي أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا قال: «كنت سنة 1809م ملحقًا بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في إسبانيا، وكانت فرقتي بين فرق الجيش الذي احتل (مدريد) العاصمة، وكان الإمبراطور نابليون أصدر مرسومًا سنة 1808م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية، غير أن هذا الأمر أهمل العمل به للحالة والاضطرابات السياسية التي سادت وقتئذٍ.

    وصمم الرهبان الجزويت أصحاب الديوان الملغى على قتل وتعذيب كل فرنسي يقع في أيديهم انتقامًا من القرار الصادر، وإلقاءً للرعب في قلوب الفرنسيين؛ حتى يضطروا إلى إخلاء البلاد فيخلوا لهم الجو.

    وبينما أسير في إحدى الليالي أجتاز شارعًا يقل المرور فيه من شوارع مدريد؛ إذ باثنين مسلحين قد هجما عليَّ؛ يبغيان قتلي فدافعت عن حياتي دفاعًا شديدًا، ولم ينجني من القتل إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفة بالتطواف في المدينة، وهي كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح، وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام، فما أن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب، وتبين من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش، فأسرعتُ إلى (المارشال سولت) الحاكم العسكري لمدريد، وقصصت عليه النبأ وقال: لا شك بأن مَنْ يُقتل من جنودنا كل ليلة إنما هو من صنع أولئك الأشرار، لا بد من معاقبتهم وتنفيذ قرار الإمبراطور بحل ديوانهم، والآن خذ معك ألف جندي وأربع مدافع، وهاجم دير الديوان، واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة..».

    حدث إطلاق نار من اليسوعيين حتى دخلوا عَنْوة، ثم يتابع قائلاً: «أصدرتُ الأمر لجنودي بالقبض على أولئك القساوسة جميعًا وعلى جنودهم الحراس توطئة لتقديمهم إلى مجلس عسكري، ثم أخذنا نبحث بين قاعات وكراسٍ هزازة، وسجاجيد فارسية، وصور ومكاتب كبيرة، وقد صنعت أرض هذه الغرفة من الخشب المصقول المدهون بالشمع، وكان شذى العطر يعبق أرجاء الغرف، فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة، التي لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الترف واللهو، وعلمنا بعد أنَّ تلك الروائح المعطرة تنبعث من شمع، يوقد أمام صور الرهبان، ويظهر أن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد.

    وكادت جهودنا تذهب سدى، ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها، فلم نجد شيئًا يدل على وجود ديوان للتفتيش، فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهمًا باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت، وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت «دي ليل» استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنتهِ حتى الآن؟! قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئًا مريبًا؛ فماذا تريد يا لفتنانت؟! قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف؛ فإن قلبي يحدثني بأن السرَّ تحتها.

    عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة -وكنا نرقب الماء- فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط «دي ليل» من شدة فرحه، وقال: ها هو الباب، انظروا. فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة، بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير.

    أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة.

    محاكم التفتيش .. أهوال تشيب لها الولدان




    وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعتُ إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضيء أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعي يده على كتفي متلطفًا، وقال لي: يابني؛ لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة.


    قلت له: يا هذا؛ إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك؟!

    وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود، شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها.

    وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء، ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية، التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض.

    رأيتُ فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتـقزز طوال حياتي.

    رأينا غرفًا صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفًا على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممدًّا بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي.

    وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.

    كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم ، وهم في الرمق الأخير من الحياة.

    كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبُّوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعًا عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء.

    أخرجنا السجناء إلى النور تدريجيًّا حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحًا، وهم يُقَبِّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهدًا يُبكي الصخور.

    ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدءون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيًّا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين، ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تمامًا، يُوضع فيه رأس الذي يُريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال؛ حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام في كل دقيقة نقطة، وقد جُنَّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذَّب على حاله تلك حتى يموت.

    وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تُثَبَّت فيه سكاكين حادة.

    كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مُزِّق جسم المعذب المسكين، وقطعه إربًا إربًا.



    كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشدُّ ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ؛ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.


    وعثرنا على سياط من الحديد الشائك، يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم.

    وصل الخبر إلى مدريد فهب الألوف ليروا وسائل التعذيب، فأمسكوا برئيس اليسوعيين ووضعوه في آلة تكسير العظام فدقت عظامه دقًّا، وسحقها سحقًا، وأمسكوا كاتم سرِّه وزفوه إلى السيدة الجميلة[1] وأطبقوا عليه الأبواب فمزقته السكاكين شرَّ ممزق، ثم أخرجوا الجثتين وفعلوا بسائر العصابة وبقية الرهبان كذلك، ولم تمض نصف ساعة حتى قضى الشعب على حياة ثلاثة عشر راهبًا ثم أخذ ينهب ما بالدير[2].


    [1] السيدة الجميلة هي آلة التعذيب التي بها السكاكين.
    [2] علي مظهر: محاكم التفتيش، ص132- 139.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    محاكم التفتيش

    محاكم التفتيش


    هدف الإسبان إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأشد وسائل العنف، ولم تكن العهود التي قُطعت للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية، التي أسبغت على السياسة الإسبانية الغادرة ثوب الدين والورع، ولما رفض المسلمون عقائد النصارى ودينهم المنحرف، وامتنعوا عنه وكافحوه، اعتبرهم نصارى الإسبان ثوارًا وعملاء لجهات خارجية في المغرب والقاهرة والقسطنطينية، وبدأ القتل فيهم، وجاهد المسلمون ببسالة في غرناطة والبيازين والبشرات، فمُزِّقُوا بلا رأفة ولا شفقة ولا رحمة[1].

    لم يقف الأمر عند حدِّ التهجير والتنصير، وإنما أعقب ذلك أن قام الكردينال الإسباني كمينس -وكان صليبيًّا حاقدًا- بحرق ثمانين ألف كتاب جُمعت من غرناطة وأرباضها في يوم واحد[2].
    ثم أنشأ الإسبان بعد ذلك ما سُمِّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادَّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام.

    إبادة ا لمسلمين في الأندلس



    كان الصليبيون الحاقدون إذا وجدوا رجلاً يدَّعي النصرانية ويُخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفًا، أو يجدوه يُصَلِّي، أو كان لا يشرب خمرًا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابًا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخًا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل، ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيًا، وأيضًا أحواض يُقَيَّد فيها الرجل، ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت، وكانوا -أيضًا- يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.


    كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا إسبانيا بعد ذلك، وقد صوَّروها في كتاباتهم، وعبَّروا عن شناعتها بأنهم كانوا يُصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذَّب بها بشر، وقد كان يُعذَّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله! [3].

    ومما يُذكر.. أن هناك عذابًا اختص به النساء العنيدات اللائي كن يشتمن رجال المحكمة؛ وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويُجلسونها على قبر من القبور، يضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها، وهي على هذه الحالة السيئة، ولا يمكنها الحراك، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية، ويرخون شعرها فيجللها، وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنِّـيَّة، لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتُترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجنَّ، أو تموت جوعًا ورعبًا[4].

    لقد قام النصارى بإجبار المسلمين على الدخول في دينهم، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ فيها من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. إلا مَنْ يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعذورين! لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل نارًا، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرًا، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ومَنْ فعل ذلك عوقب بأشدِّ العقاب، فيا لها من فجيعة ما أمرَّها! ومصيبة ما أعظمها! وطامة ما أكبرها![5].



    لقد كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب، كانت تلك المحاكم والدواوين تلاحق المسلمين؛ حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان، فإذا عُلم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكم بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابسًا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام، لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين؛ حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم فإذا وجدوه مختونًا، أو كان أحد عائلته كذلك؛ فيعلم أنه الموت ونهايته هو وأسرته[6].


    وكان دستور ديوان التحقيق (الاسم الرسمي لمحاكم التفتيش) يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو نبش قبورهم وتستخرج رفاتهم؛ لتحرق في موكب «الأوتودافي»، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولي الوظائف العامة وامتهان بعض المهن الخاصة[7].

    وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى إسبانيا وأصدر مرسومًا سنة (1808م) بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية.


    [1] على الصلابي: دولة الموحدين، ص209.
    [2] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص98، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/316.
    [3] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص109-113.
    [4] علي مظهر: محاكم التفتيش، ص98.
    [5] مجهول: نبذة العصر، ص130، 131.
    [6] الصلابي: دولة الموحدين، ص211.
    [7] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/338.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة

    مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة

    كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها -بعد أن ترك أبو عبد الله محمد الثاني عشر البلاد- لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكَّروا لكلامهم والتزامهم بالحفاظ على الحريات الدينية في غرناطة، وحماية الأماكن المقدسة للمسلمين، وما إلى ذلك مما ورد في شروط تسليم المدينة، فقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم؛ وكان ذلك مصداق قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 8].

    وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة (1501م) أصدر الملكان فرناندو الخامس وإيزابيلا أمرًا كان خلاصته أنه لَمَّا كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة (المسلمين)، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم؛ خوفًا من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين تنصروا لئلاَّ يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو بمصادرة الأموال[1].

    ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور؛ كان منها:
    التنصير



    ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الإسبان، تَنَصَّر من المسلمين بعضهم[2]، وهؤلاء لم يرتضِ لهم النصارى الإسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمَّوْهم بالمورسكيين؛ احتقارًا لهم، وتصغيرًا من شأنهم، فلم يكن المورسكي نصرانيًّا من الدرجة الأولى؛ لكنه كان تصغيرًا لهذا النصراني الأصيل[3].


    وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرِّخ ديوان التحقيق الإسباني وثيقة من أغرب الوثائق القضائية؛ تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين في تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد في تلك الوثيقة الغريبة:

    « يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام: إذا امتدح دين محمد، أو قال: إن يسوع المسيح ليس إلهًا، وليس إلا رسولاً. أو أنَّ صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يُبَلِّغَ عن ذلك، ويجب عليه -أيضًا- أن يُبَلِّغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحدًا من الموريسكيين يُباشر بعض العادات الإسلامية؛ ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثيابًا أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يُعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان، ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر -السحور- أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة؛ بأن يُوَجِّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد، ويتلو سورًا من القرآن، أو أن يتزوج طبقًا لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يُقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب - الحناء - في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيده على رءوس أولاده أو غيرهم؛ تنفيذًا لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكرٍ، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة واصفًا إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصَّر إيمانًا بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله؛ لأنهم ماتوا مسلمين... إلخ[4].

    التهجير



    لم تخل البلاد الإسلامية من ثورات شعبية ومواجهات محدودة الإمكانيات بمنطق «حرب العصابات»، وكان المجاهدون يختبئون في الجبال والأودية والمناطق البعيدة، ثم يشنُّون غاراتهم على القوات الإسبانية، وقد نجحوا كثيرًا في إنزال خسائر مؤثرة بالإسبان، وقد اشتدت هذه الحركات لا سيما بعد قرار التنصير الذي اعتمدته إسبانيا، فزاد عدد الثائرين والمنحازين للمجاهدين، وقد عزم الإسبان في البداية على القضاء على الثوار، إلا أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، فلما يئسوا من القضاء عليهم، أصدروا عفوا عامًّا عنهم، وسمحوا لهم بالهجرة إلى بلاد المغرب، دون أن يأخذوا معهم غير الثياب التي كانت عليهم، أما الباقون فقد كان ثمة أمر ملكي بمنع الهجرة، ثم صدر الأمر بعد ذلك عام (1609م) -أي بعد مائة سنة تقريبًا- بنفي الموريسكيين[5].



    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/324.
    [2] انظر: نبذة العصر، ص130، والمقري: نفح الطيب، 4/527.
    [3] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/322، 326، 345.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/346.
    [5] مجهول: نبذة العصر، ص132، والمقري: نفح الطيب، 4/527، 528، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/345.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط غرناطة

    سقوط غرناطة


    كان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم أبو عبد الله محمد الثاني عشر غرناطة إيذانًا بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في غرناطة.


    أعطى أبو عبد الله محمد الثاني عشر أو محمد الصغير الموافقة بالتسليم للملكين فرناندو الخامس وإيزابيلا، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضًا من الهدايا الخاصة[1]، وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين[2]، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس.[3]


    خروج آخر ملوك المسلمين من الأندلس

    وفي نكسة كبيرة وفي ظلِّ الذل والصغار يخرج أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير آخر ملوك المسلمين في غرناطة من القصر الملكي، ويسير بعيدًا في اتجاه بلدة أندرش[4]، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدَّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه «عائشة الحرة»: أجل؛ فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال[5].

    وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل -الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير- موجودًا في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكًا أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه[6].

    وقد تم ذلك في الثاني من شهر ربيع الأول، سنة 897هـ= 2 من يناير سنة 1492م[7].

    وقد هاجر بعدها أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، ويذكر المقري أنه استقر بفاس، وبنى بها قصورًا على طراز الأندلس، وأن المقري نفسه قد تجوَّل في هذه القصور، ورأى ذريته في فاس سنة (1027م) يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين[8].

    فلعنة الله على هذا الذُلِّ! ولعنة الله على هذا التَرْك للجهاد! اللذَيْن يوصلان إلى هذا المثوى وتلك المنزلة.

    وما كان من أمر، فقد اندثرت حضارة ما عرفت أوربا مثلها من قبل؛ إنها حضارة الدنيا والدين، وقد انطوت صفحة عريضة خسر العالم أجمع بسببها الكثير والكثير، وقد ارتفع علم النصرانية فوق صرح الإسلام المغلوب، وأفل وإلى الآن نجم دولة الإسلام في بلاد الأندلس.

    وليت شعري، أين موسى بن نصير؟!
    أين طارق بن زياد؟!
    أين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر؟!
    أين المنصور بن أبي عامر؟!
    أين يوسف بن تاشفين؟!
    أين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟!
    أين يعقوب المنصور الموحدي؟!
    أين يعقوب المنصور المريني؟!
    أين كل هؤلاء؟!
    غابوا وانقطعت آثارهم وإمداداتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!

    أسباب سقوط غرناطة

    كانت عوامل انحدار وسقوط وضياع الأمم قد تشابهت إلى حدٍّ كبير في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، وهذه العوامل نفسها قد زادت وبشدَّة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسمًا؛ وكان من هذه العوامل ما يلي:
    حب الدنيا والإغراق في الترف

    كان الإغراق في الترف، والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها، والخنوع والدعة والميوعة، هي أولى العوامل التي أدَّت إلى تلك النهاية المؤلمة، وقد ارتبطت كثيرًا فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف؛ قال تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 11- 13].

    وهكذا يا أهل غرناطة، أين ستذهبون؟ وإلى أين ستركضون؟ ارجعوا إلى قصر الحمراء، وارجعوا إلى مساكنكم وما أترفتم فيه، وسلموا هذه البلاد إلى النصارى، وتذوقوا الذُلَّ كما لم تعملوا للعزة وللكرامة!

    ترك الجهاد في سبيل الله

    وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف؛ فالجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة، وقد شرعه الله ليعيش المسلمون في عزَّة ويموتون في عزَّة، ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويُخلَّدون فيها.

    وإن الناظر إلى عهد الأندلس ليتساءل: أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل عام، وبصفة مستمرة ودائمة؟! أين يوسف بن تاشفين، وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ وأين الحاجب المنصور؟ وأين عبد الرحمن الناصر وغيرهم؟

    وإنها لعبرة وعظة حين ننظر إلى ملوك غرناطة، ومَنْ كان على شاكلتهم حين ذُلُّوا وأُهينو لَمَّا تركوا الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التوبة: 38- 39].

    وقد يظن البعض أنه يجب على الملتزمين بالمنهج الإسلامي أن يضحوا بأرواحهم، ويظلوا يعيشون حياة الضنك والتعب والألم في الدنيا؛ وذلك حتى يصلوا إلى الآخرة، وإن حقيقة الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ لو عاش المسلمون الملتزمون بمنهج الإسلام على الجهاد لعاشوا في عزة ومجد، وفي سلطان ومُلك من الدنيا عريض، ثم لهم في الآخرة الجنة خالدين فيها بإذن الله.

    الإسراف في المعاصي

    يتبع العاملَيْن السابقين عامل الإسراف في المعاصي؛ فجيش المسلمين لا يُنصَر بالقوة ولا بالعدد والسلاح، لكنه يُنصر بالتقوى.

    فإذا بعُد المسلمون عن دين ربهم، وإذا هجروا نهج رسولهم صلى الله عليه وسلم كُتب عليهم الهلكة والذلّة والصغار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ »[9].

    وإذا كان هذا حال محقّرات الذنوب، تلك التي يستحقرها العبد من فرط هوانها، فلا تزال تجتمع عليه حتى تهلكه، فما البال وما الخطب بكبائر الذنوب من ترك الصلاة، والزنا، والتعامل بالربا، وشرب الخمور، والسب واللعن، وأكل المال الحرام، فأي نصر يُرجى ويُتَوقّع بعد هذا؟!

    كانت هذه هي أهم عوامل السقوط في دولة الأندلس، وهناك غيرها الكثير مثل:
    الفرقة والتشرذم


    موالاة النصارى واليهود والمشركين

    وقد قال تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120].

    وقال تعالى: { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [التوبة: 10].

    وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 51]. وآيات غيرها كثير.

    توسيد الأمر لغير أهله

    وكان ذلك واضحًا جدًّا خاصة في ولاية هشام بن الحكم، وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضًا ولاية جميع أبناء الأحمر في ولاية غرناطة.

    الجهل بالدين

    وقد وضح جيدًا قيمة العلم والعلماء في زمن عبد الله بن ياسين، وزمن الحَكم بن عبد الرحمن الناصر، وما حدث في عهدهما من قوَّة بعد هذا العلم، ووضح -أيضًا- أثر الجهل في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، حيث انتشر الجهل بين الناس، وسادت بينهم آراء ومعتقدات غريبة وعجيبة، كان من ذلك -أيضًا- ما حدث من الجهل بأمر الشورى، وهو أصل من الأصول التي يجب أن يحكم بها المسلمون، وكيف اعتدُّوا بآرائهم، وكيف قبل الناس ذلك منهم؟!

    ومثل ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لإشبيلية، وقد تبعه الناس في ذلك؛ ظنًا منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة، وأيُّ جهل بالدين أكثر من هذا؟!


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/257.
    [2] المصدر السابق، 7/260.
    [3]
    [4] وهي البلدة التي كان قد قرر الإقامة فيها، أو أراد له فرناندو ذلك، انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/264.
    [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/267.
    [6] المصدر السابق، 7/267.
    [7] نبذة العصر، ص 125، والمقري: نفح الطيب، 4/525، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/258- 267.
    [8] المقري: نفح الطيب، 4/529.
    [9] أحمد 3818، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والطبراني: المعجم الكبير 5/449، والبيهقي: شعب الإيمان 7017، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع 2687.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    موسى بن أبي غسان .. آخر مجاهدي الأندلس

    غرناطة .. حصار حتى الموت



    برز في هذا الحصار الأخير داخل غرناطة حركة جهادية بارزة على رأسها رجل يُسمى موسى بن أبي غسان، فكان أن حرَّك الجهاد في قلوب الناس، وبدأ يُحَمِّسهم على الموت في سبيل الله، وعلى الدفاع عن بلدهم وهويتهم، فاستجاب له الشعب وتحرك للدفاع عن غرناطة[1].


    وطيلة سبعة أشهر كاملة ظل أصحاب الانتفاضة في دفاعهم عن حصون غرناطة ضد الهجمات النصرانية الشرسة، وإليك طرفًا من هذا الصمود يحكيه الفارس المعاصر صاحب كتاب نبذة العصر:
    «رجع ملك قشتالة إلى فحص غرناطة، ونزل بمحلته بقرية عتقة، ثم شرع في البناء، فبنى هنالك سورًا كبيرًا في أيام قلائل، وصار يهدم القرى، ويأخذ ما فيها من آلة البناء، ويجعله على العجل، ويحمله إلى ذلك البلد الذي بناه، ويبني به، وهو مع ذلك يقاتل المسلمين ويقاتلونه قتالاً شديدًا، وحارب ملك الروم -أيضًا- أبراج القرى الدائرة بغرناطة وأخذها، ولم يبق إلا قرية الفخار، فلم يزل يُلِحُّ عليها ويجلب عليها بخيله ورجله، ويطمع أن يجد فرصة فلم يقدر على شيء، حتى قتل له عليها خلق كثير من الروم، ووقعت عليها ملاحم كثيرة بين المسلمين والنصارى؛ لأن المسلمين كانوا يُلِحُّون على حمايتها خوفًا من أن يملكها الروم؛ فتكون سببًا في إخلاء قرى الجبل وحصار البلد، فلم يزالوا يدافعون عنها ويقاتلون مَنْ قصدها؛ حتى قصر عنها العدو؛ لكثرة ما قُتل له عليها من خيل ورجال.

    ولم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى كل يوم؛ تارة في أرض الفخار، وتارة في أرض بليانة، وتارة في أرض رسانة، وتارة في أرض طفير، وتارة في أرض يعمور، وتارة في أرض الجدوى، وتارة في أرض رملة أفلوم، وتارة في أرض الربيط، وتارة وادي منتثيل، وغير ذلك من المواضع التي على غرناطة، وفي كل ملحمة من هذه الملاحم يثخن كثير من أنجاد الفرسان بالجراحات من المسلمين، ويستشهد آخرون، ومن النصارى أضعاف ذلك، والمسلمون فوق ذلك صابرون محتسبون، واثقون بنصر الله تعالى، يقاتلون عدوهم بنية صادقة وقلوب صافية، ومع ذلك يمشي منهم الرجال في ظلام الليل لمحلة النصارى، ويتعرضون لهم في الطرقات، فيغنمون ما وجدوا من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم ورجال، وغير ذلك حتى صار اللحم بالبلد من كثرته: رطل بدرهم.

    ومع ذلك لم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى، والقتل والجراحات فاشيان في الفريقين سبعة أشهر، إلى أن فنيت خيل المسلمين بالقتل، ولم يبقَ منها إلا القليل، وفني -أيضًا- كثير من نجدة الرجال بالقتل والجراحات»[2].

    إلاَّ أن البسالة وحدها لا تكفي في ظلِّ وضع كهذا؛ إذ المسلمون محاصرون داخل المدينة ولا يمكنهم الحصول على الإمدادات، فيما النصاري يحاصرونهم من الخارج، وخطوط الإمدادات مفتوحة من بلادهم، ولا سيما أن الحرب دفعت بكثير من الغرناطيين إلى الخروج من البلدة، بما انتهبها من الخوف والفزع، وتبعات الحرب المتواصلة، فظلت غرناطة تضعف شيئًا فشيئًا، ثم لما دخل فصل الشتاء ونزلت الثلوج أصابت طريق البشرة -الذي كانت الأطعمة تأتي عبره إلى غرناطة- فقل الطعام عند ذلك في أسواق المسلمين في غرناطة، واشتد الغلاء وأدرك الجوع كثيرًا من الناس وكثر السؤال.

    تسليم غرناطة

    وهنا لم يكن أمام الغرناطيين إلا التسليم بالأمان، فذهب جمع منهم إلى ملكهم محمد؛ طالبين منه أن يفاوض ملك قشتالة على التسليم بالأمان، وقد أورد صاحب نبذة العصر ما يُفيد بأن التسليم كان رغبة قائمة في نفس محمد الصغير من قبل، إلاَّ أنه خاف من العامة، فكان يُراسل ملك قشتالة سرًّا، ولهذا قطع ملك قشتالة الحرب فترة، وبقي على ما هو فيه من الحصار والتشديد، منتظرًا جهود محمد الصغير في إقناع العامة بالتسليم بالأمان، فلما أثمرت جهوده مع العامة، وذهب وفدهم إليه، سارع مستجيبًا لهم، ثم سارع مرسلاً وزراءه إلى ملك قشتالة، الذي سارع بدوره بالقبول[3].

    ونحن نذهب إلى قبول هذه الرواية وترجيحها، لا سيما وأن سيرة ملك غرناطة وطبيعة وزرائه تدفعنا لإسائة الظن بهم، ثم وجدنا الأستاذ محمد عبد الله عنان يوافق هذه الرواية –بعدما كان يرتاب فيها- لما ظهر من وثائق فيما بعدُ؛ أفادت بأن مساعي كانت تُبْذَل في الخفاء لتحقيق ما يمكن من الضمانات والمغانم الخاصة لأبي عبد الله وأسرته ووزرائه، فعُقدت معاهدة سرية مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها، هذا بخلاف الأملاك التي كانوا يملكونها وتصرفوا فيها بالبيع، منذ بدأت الحوادث تتجهم في غرناطة[4].



    واستقرَّ الأمر على تسليم غرناطة بالأمان، يروي المقري فيقول: «ثم عددوا مطالب وشروطًا، أرادوها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش؛ منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود... وكانت الشروط سبعة وستين؛ منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها: إقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم، ولا يغصبوا أحدًا، وأن لا يولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم... وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصًا أعيانًا نصَّ عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان، لا يلزمهم إلا الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن مَنْ تَنَصَّر من المسلمين يوقف أيامًا حتى يظهر حاله، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على مَنْ قَتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى، ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره»[5].


    موسى بن أبي غسان

    في رد فعل طبيعي وصريح له حيال ما حدث وقف موسى بن أبي غسان -رحمه الله- في قصر الحمراء وقال: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى (يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت)؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراه[6].

    يُريد موسى بن أبي غسان أنه لن يرى كل هذا الذُّل، الذي سيحل بالبلاد جراء هذا التخاذل والتقاعس، وأنه اختار الموت الشريف، ثم غادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وامتطى جواده.

    وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وبمفرده يقابل موسى بن أبي غسان خمس عشرة رجلاً من النصارى، فيقتل معظمهم، ثم يُقتل هو في سبيل الله .[7]


    [1] يقول الأستاذ عنان: «لم نعثر في المصادر العربية التي بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا في ذلك هو المؤرخ الإسباني كوندي، الذي يقول: إنه نقل روايته عن مصادر عربية. ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر، وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني -في رحلته- إلى من يُدعى موسى أخا السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة رحلة الوزير المنشورة بعناية معهد فرانكو ص13... وقصة موسى تشغل حيزًا كبيرًا في الروايات الإسبانية... ونحن ننقل هنا أقوال الرواية القشتالية عن موسى وفروسيته لا على أنها محققة من الناحية التاريخية، ولكن لأنها تقدم لنا صورًا رائعة لدفاع المسلمين عن دينهم ووطنهم وآخر قواعدهم». انتهى كلام الأستاذ عنان دولة الإسلام في الأندلس هامش 7/237، 238. والحقيقة أننا لا نتوقع أن تؤلف المصادر الإسبانية شخصية إسلامية تقود دفاعًا رائعًا عن غرناطة، بل الأقرب إلى التوقع أن توجد حركة صحوة ودفاع وجهاد قبيل فترة السقوط، وهي الحركة التي تُعَدُّ من طبائع الناس جميعًا، ولا شك أن ندرة المصادر العربية عن هذه الفترة تمثل عنصرًا سلبيًّا في مثل هذه اللحظات التاريخية، فلا نجد –لملء الفراغ- إلا أن نستنطق الرويات الأخرى ونستخدم التوقع والترجيح.
    [2] مجهول: نبذة العصر ص117 وما بعدها.
    [3] مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242.
    [5] المقري: نفح الطيب، 4/524- 527، وانظر: مجهول نبذة العصر ص119 وما بعدها، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/245 وما بعدها.
    [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/254، 255.
    [7] المصدر السابق، 7/255، 256، وتنهي المصادر القشتالية حياة موسى بأنه انتحر، ونحن نستبعد هذا الاحتمال في سيرة مجاهد كهذه السيرة.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    حصار غرناطة

    فرناندو الخامس واستغلال النزاع والفرقة



    حيال هذا الوضع الذي آل إليه حال المسلمين في الأندلس استغل فرناندو الخامس هذا الموقف جيدًا لصالحه، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ حيث كان يعلم أن هناك خلافًا وشقاقًا كبيرًا داخل البلد، فدارت المعارك بين المسلمين والقشتاليين على أكثر من جبهة، استطاع المسلمون الانتصار في بعضها، وانهزموا في البعض الآخر، وهذه الهزائم لم تكن لقوة عدوهم بقدر ما كانت للضعف الذي كان قد وصلت إليه مملكتهم، نتيجة لاستمراء أميرهم لحياة الدعة والراحة، أما الشعب فإنه كان متحفزًا للدفاع عن نفسه تحفزًا كبيرًا، ثم تتابعت الأحداث، إذ قامت ثورة وضعت أبا عبد الله محمدًا في السلطة، وفرَّ أبوه إلى الزغل في مالقة، وهناك ومن مالقة كان الزغل يدفع النصارى عنها أشد دفاع، واستطاع –بعون الله- رد النصارى بعد هزائم شديدة مريرة، فقدوا فيها الكثير ومنهم بعض زعمائهم، كما فقدوا فيها الكثير من العُدد والآلات، فنشط أبو عبد الله هو الآخر لغزو النصارى، وغزاهم بالفعل واستطاع أن ينتصر عليهم... وأن يتوغل في بلادهم، وأثناء عودته من هناك محملاً بالغنائم، قطع عليه النصارى طريق عودته، ودارت بين الفريقين معركة قرب إلياسنة هُزم فيها المسلمون، وأُسر ملكهم أبو عبد الله محمد الصغير[1].


    وبعد أَسْر الصغير عاد أبوه الزغل لحكم غرناطة، فأصبحت من جديد إمارة واحدة تحت حكم الزغل، غير أن المرض كان قد هدَّه وذهب ببصره؛ إذ أُصيب بمرض شبه الصرع، وأصيب في بصره، وأصابه خدر في جسده، وعاقبه الله تعالى بأنواع من البلاء؛ فتنازل عن الملك لأخيه محمد بن سعد، وحُمل إلى مدينة المنكب فأقام بها حتى مات[2].

    وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يُطلق عددًا من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو، وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهودًا آخر لإنقاذ ولدها، بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة؛ ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه إيزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يُفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك كل عام سبعين أسيرًا لمدة خمسة أعوام، وأن يُقَدِّم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضمانًا بحسن وفائه. وتعهَّد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فورًا، وألا يكلف في حكمه بأي أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه في مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير»[3].

    فرناندو واحتلال مالقة ووادي آش

    كان على الساحة الآن «الصغير» ومعه ولاية غرناطة، والزغل ومعه وادي آش، ثم ملك إسبانيا وتحت قبضته مالقة، واستكمالاً لآمال كان قد عقدها قديمًا، وفي سنة (895هـ= 1490م) انطلق ملك إسبانيا من مالقة إلى ألمرية على ساحل البحر المتوسط، واستولى على كل ما في طريقه إليها من مدن وحصون، ثم تمَّ تسليم ألمرية له بعد ذلك، وقد دافع المسلمون عن مدنهم أشد دفاع وأسناه، ولكن فارق الإمكانيات لم يساعدهم، ولم يحل شيء دون وقوع المصير المحتوم[4].

    ثم منها توجه إلى وادي آش (التي هي في يد الزغل) فاستولى عليها، بعد أن رأى الزغل أنه قد أحيط به، وأنه ما عاد يستطيع الدفع عن بلاده، وبعد أن استنجد بمن استطاع الاستنجاد به من ملوك المسلمين[5].

    حصار غرناطة

    كان الوضع الآن أن حوصرت مدينة غرناطة وكل قراها ومزارعها من كل مكان بجيوش النصارى، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن. قال: « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »[6].

    فقد تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جدًّا في ذلك الوقت، واستولى ملك إسبانيا (قشتالة وأرجون متحدتين) على برجين: برج ملاحة غرناطة، وبرج قرية همدان، وكانا برجين كبيرين حصينين، فزادهما تحصينًا وشحنهما بالرجال، وما يحتاج إليه من آلة الحرب؛ ليضيق على أهل غرناطة؛ لأنهم كانوا قريبين منهما، فضيَّق بذلك عليهم أشدَّ الضيق.

    معاهدة تسليم غرناطة

    وفي أول عام (985هـ= ديسمبر 1489م) وحسبما تُشير بعض الوثائق، تم صلح جديد، «حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه يُنَوِّه أبو عبد الله بهذا (الصلح السعيد) المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه... وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصَّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يُسَلِّم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تمَّ تسليم بسطة وألمرية ووادي آش. وعلى أي حال ففي فاتحة سنة 1490م ( أوائل صفر 895هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة لتخاطبه في موضوع التسليم... ولم يطلب (ملك قشتالة) تسليم غرناطة ذاتها، ولكن طلب تسليم مدينة الحمراء مقر الملك والحكم.

    فماذا كان جواب أبي عبد الله؟

    لقد كان في سابق مواقفه ما يحمل الملكين الكاثوليكيين على توقُّع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان؛ إذ أرسل إليهما القائد أبا القاسم المليح برسالة (بتاريخ 29 صفر سنة 895هـ= 22 يناير سنة 1490م)؛ وبالرغم من اللهجة المهذبة المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان فحواها هو الرفض. لكن الملكان الكاثوليكيان أصرَّا على طلبهما، فاعتزم أبو عبد الله أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. فأرسل وزيره يوسف بن كُماشة ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية؛ لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى.

    وهنا نقف قليلاً لنتأمل هذا الموقف الجديد من جانب أبي عبد الله؛ أجل كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعًا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلَّص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائيًّا من أملاك مملكة قشتالة، وعيّن لها حكام من النصارى، وتدجن مَن بقي من أهلها، أو غدوا مدجَّنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصًا على أوطانهم ومصالحهم، أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيرًا منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم جازوا البحر إلى المغرب.

    وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي؛ حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضمُّ بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس، وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنبًا أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته تلقى استنكارًا عامًّا، ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك -وربما لأول مرة- فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعونته على بني وطنه ودينه، ولما أصرَّ فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يَعُدْ له القول والفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويُصَمِّم على المقاومة والدفاع. هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف -بعزم شعبه- من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة»[7].

    وما أن علم ملك قشتالة بامتناع أبي عبد الله عن التسليم ذهب إلى غرناطة، وحاصرها، فحاربه المسلمون وبرز إليه الأمير أبو عبد الله محمد، وصمد المسلمون في وجه الطاغية صمودًا بطوليًّا رده –بفضل الله- خائبًا خاسرًا إلى بلاده، وما أن ذهب حتى بدأ المسلمون بقيادة أبي عبد الله يغزون البلاد النصرانية المحيطة، ويساعدون الثوار المسلمين في البلاد التي استولى عليها النصارى قريبًا، وقد استطاعوا بالفعل الاستيلاء على عدد من الحصون والمدن القريبة والمهمة، ثم عاد الطاغية لمحاصرة غرناطة، ورده الله دون أن ينال منها شيئًا، ورجع المسلمون لغزواتهم، وهكذا حتى جاءهم الطاغية محاصرًا للمرة الثالثة، وكله تصميم على ألا يرحل هذه المرة عن غرناطة إلا بعد فتحها، ولعل أحد أسباب تصميمه هذا هو خوفه من هذا النشاط الذي ظهرت به غرناطة في فترتها الأخيرة، على أن غرناطة لم تستسلم لهذا الحصار، وعملت على كسره ضاربة بذلك أروع أمثلة البطولة والفروسية، بل كانت سرايا المسلمين تخرج للعيث في البلاد النصرانية القريبة[8].


    [1] مجهول: نبذة العصر، ص50-67، والمقري: نفح الطيب، 4/512-515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/201- 203، ومحمود علي مكي: التاريخ السياسي للأندلس ص134، منشور في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي.
    [2] مجهول: نبذة العصر ص67، 68، والمقري: نفح الطيب، 4/515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/204.
    [3] محمد عبد الله عنان في دولة الإسلام في الأندلس، 7/204، 205.
    [4] مجهول: نبذة العصر، ص98، والمقري: نفح الطيب، 4/522، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/226، 227.
    [5] مجهول: نبذة العصر، ص99- 101، والمقري: نفح الطيب، 4/522، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/227، 228.
    [6] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام 4297، وقال الألباني: صحيح.
    [7] مجهول: نبذة العصر، ص102، 103، والمقري: نفح الطيب، 4/523. ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/229- 232، ونقلنا عن هذا المصدر الأخير باختصار.
    [8] مجهول: نبذة العصر، ص103- 117، والمقري: نفح الطيب، 4/ 523، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/232-236.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع في غرناطة

    غرناطة قبل النهاية



    قبل السقوط بست وعشرين سنة تقريبًا، وفي سنة (871هـ= 1467م) كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل يُدعى علي بن سعد بن محمد بن الأحمر، والذي كان يُلَقّب بالغالب بالله على عادة ملوك الغرناطيين[1]، وكان له أحد الإخوة يُعرف بأبي عبد الله محمد الملقب بالزغل (الزغل يعني الشجاع) ، فكان الأول غالب بالله، وكان الثاني زغلاً أو شجاعًا[2].


    وكما حدث في عهد ملوك الطوائف اختلف هذان الأخَوان على الحُكم، وبدآ يتصارعان على مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة، والمحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون النصرانيتين.

    وكالعادة -أيضًا- استعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة في حرب أخيه الغالب بالله، وقامت على إثر ذلك حرب بينهما، إلا أنها قد انتهت بالصلح، لكنهما -ويا للأسف- قد اصطلحا على تقسيم غرناطة إلى جزء شمالي على رأسه الغالب بالله وهي الولاية الرئيسة، وجزء جنوبي وهي مالقة ومعها بعض الولايات الأخرى، وعلى رأسها أبو عبد الله محمد الزغل[3].

    وبعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام، وفي سنة (874هـ= 1469م) يحدث أمر غاية في الخطورة في بلاد الأندلس، فقد تزوَّج فرناندو الخامس ملك أراغون من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة؛ وبذلك تكون الدولتان قد اصطلحتا معًا، وأنهتا صراعًا كان قد طال أمده، ولم يأتِ عام (1479م) إلاَّ وكانت المملكتان قد توحدتا معًا في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة.

    صراع داخل بلاط غرناطة



    كانت غرناطة سنة (879هـ= 1474م) منقسمة إلى شطرين؛ شطر مع الزغل، والآخر مع الغالب بالله، وفي هذه الأثناء حدث سيل عظيم في غرناطة، «ومن وقت هذا السيل العظيم بدأ ملك الأمير أبي الحسن في التقهقر والانتكاس والانتقاض؛ وذلك أنه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان، وثقّل المغارم وكثّر الضرائب في البلدان، ومكّس الأسواق ونهب الأموال، وشحّ بالعطاء إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها الملك، وكان للأمير أبي الحسن وزير يُوافقه على ذلك، ويظهر للناس الصلاح والعفاف، وهو بعكس ذلك...


    فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه... فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم ويثقلها، ويجمع الأموال ويأتيه بها، ويعطيها لمن لا يستحقها، ويمنعها عمن يستحقها، ويهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان، ويقطع عنهم المعروف والإحسان، حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم، وأكلوا أثمانها وقتل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص، والملك في ضعف، إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى، فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحمة...» [4].

    كان السلطان الغرناطي قد ركن إلى الخلافات التي نشبت بين رؤساء النصاري، وما وقع بينهم من حروب؛ «فبعضهم استقل بملك قرطبة وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن الى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد، والنظر في الملك ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان -أيضًا- قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعدُ البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد، واتُّفق أن صاحب قشتالة تَغَلَّب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد»[5].

    عائشة الحرة

    كان الغالب بالله الذي يحكم غرناطة متزوجًا من امرأة تُدعى عائشة، وقد عرفت في التاريخ بعائشة الحرة، وكانت له جارية نصرانية تُسمى ثريا قد فُتن بها وغرق في عشقها[6]، «فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير، وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما، وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة؛ فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة، والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات... وفي هذا اليوم (27 جمادى الأولى 887هـ) بلغ الخبر لمن كان في لوشة أن ابني الأمير أبي الحسن محمدًا ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما، ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثريا من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما، فاحتالت عليهما بالليل، وأخرجتهما إليهم، وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش بدعوتهما، ثم قامت غرناطة -أيضًا- بدعوتهما، واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب وكوائن أعرضنا عن ذكرها لقبحها؛ لأن الآمر آل بينهم إلى أن قتل الوالد ولده، ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس والعدو -دمره الله- مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس، إلى أن ساعده الزمان ووافقته الأقدار»[7].

    ويعرض لنا الأستاذ محمد عبد الله عنان هذا الأمر في أسلوب قصصي شائق مستعينًا فيه بالروايات العربية والقشتالية، فيقول: «تحتل شخصية عائشة الحرة في حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة، وليس ثمة -في تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية- شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التي تذكرنا خلالها البديعة ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة بما نقرأه في أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف...كانت عائشة الحرة ملكة غرناطة في ظلِّ مُلك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض.... وكانت عائشة ترى من الطبيعي أن يئول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع؛ ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحُسن، تعرفها الرواية الإسلامية باسم «ثريا» الرومية، وتقول الرواية الإسبانية: إن ثريا هذه واسمها النصراني إيسابيلا... فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التي عُرفت عندئذ بـ«الحرة»؛ تمييزًا لها عن الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها...

    وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذٍ، وأثقلثه السنون، وغدا أداة سهلة في يد زوجه الفتية الحسناء، وكانت ثريا فضلاً عن حسنها الرائع فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية في قصر غرناطة، واستئثارها بالسلطان والنفوذ في هذه الظروف العصيبة، التي تجوزها المملكة الإسلامية عاملاً جديدًا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا في الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ؛ ذلك أنها أنجبت من الأمير أبي الحسن كخصيمتها عائشة ولدين؛ هما: سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما، وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك على عقب الجارية النصرانية، ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبي الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش أمنع أبراج الحمراء، وشدد في الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة.

    فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء، الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف في المجتمع الغرناطي، وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين؛ فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته، واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتدَّ السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا في طغيانها إلى أبعد حدٍّ، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبي عبد الله عثرة آمالها.

    وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم... بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تُدَبِّر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط. ويقال: إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبي الحسن، قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة، وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة (887هـ=1482م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف...

    وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجريء تثير أيما عطف وإعجاب، وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمد في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيدًا عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة»[8].


    [1] كان محمد بن يوسف بن نصر مؤسس هذه الدولة بغرناطة يلقب أيضًا بـ «الغالب بالله»، وهكذا كان أبو عبد الله محمد بن علي آخر ملوك غرناطة، والذي عُرف في التاريخ الإسباني من بعد بـ« الملك الصغير»، وكان يُلقب بـ « الغالب بالله»، ويُعلق الأستاذ محمد عبد الله عنان على ذلك بقوله، 7/288: «وهي شعار سائر ملوك غرناطة».
    [2] ينبغي أن نسجل هنا شكرًا بالغًا للمجهود الرائع الذي بذله الأستاذ محمد عبد الله عنان في التأريخ لهذه الفترة، وهو يُعَدُّ مصدرًا رئيسًا لها، فهذه الفترة تعاني ندرة في المصادر العربية، وقد بذل الأستاذ عنان جهدًا مبكرًا في جمع وتحليل الروايات القشتالية والإفرنجية المتاحة، كما قد عثر على وثائق كثيرة في شكل مخطوطات عربية وإفرنجية في رحلاته لإسبانيا والمغرب، وغيرها من المدن الأندلسية القديمة والمغاربية أيضًا، ولا يكاد يخلو كتاب -أرَّخ لهذه الفترة بعدَه- من الاعتماد على ما أتى به.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/194.
    [4] مجهول: نبذة العصر، ص45- 50.
    [5] المقري: نفح الطيب، 4/511، 512.
    [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/200.
    [7] مجهول: نبذة العصر، ص46-62، وانظر أيضًا: المقري: نفح الطيب، 4/512- 514.
    [8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/196- 201.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    إسبانيا .. الاتحاد بين قشتالة وأراغون

    الاتحاد للقضاء على المسلمين




    قبل الحديث عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ مملكة غرناطة الإسلامية، لا بُدَّ أن نقف سريعًا أمام هذا العامل المهم الذي كان سببًا في الاحتضار السريع لآخر دول المسلمين في الأندلس، وهذا العامل هو اتحاد المملكتين النصرانيتين قشتالة وأراغون، بعد أن كانتا مملكتين مختلفتين متخاصمتين؛ تحارب كل منهما الأخرى وتعمل على القضاء عليها، بالرغم مما كان يربطهما من وحدة الدين والجنس، واشتراكهما -أيضًا- في عدد من الأهداف، والتي كان أهمها على الإطلاق هو القضاء على الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ خوفًا من أن يستحوذ على شبه الجزيرة ثانية كما حدث من قبل، فيقضي بذلك على سلطانهما، الذي يعملان على توطيده، ولو على حساب بعضهما البعض.


    انشقاق في مملكة قشتالة

    وقد ظهرت بوادر هذا الاتحاد سنة (879هـ= 1474م) عندما توفي هنري الرابع ملك قشتالة، فثارت بذلك حول تولي العرش مشكلة دقيقة، وهي أن هذا الملك لم يترك سوى ابنة صغيرة هي خوانا (ﭼنة)، ولكنَّ نَسَبَها إليه مع ذلك كان موضع شكٍّ، وكانت تُنسب إلى صديقه وصفيه الدوق بلتران دي لاكوﻳﭬا؛ ولذلك كان اسمها الشائع خوانا بلترانيخا، وكان يناصرها فريق صغير من النبلاء، في حين كانت الأميرة إيزابيلا أخت الملك هنري على العكس من ذلك، فكانت تتمتع بعطف الشعب القشتالي، ويناصر وراثتها للعرش فريق كبير من النبلاء؛ حتى إن أخاها الملك هنري قد اعترف بحقها في العرش، وأيد الكورتيس (مجلس النواب القشتالي) أحقيتها بالعرش عقب وفاة أخيها ألفونسو سنة (1468م)؛ ولذلك لم يكن ثمة لبس في أحقية هذه الأميرة في تولي عرش قشتالة خلفًا لأخيها.

    زواج إيزابيلا وفرناندو

    وكانت إيزابيلا قد تزوجت قبل وفاة أخيها ببضعة أعوام بابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني ابن الملك خوان الثاني ملك أراغون، وقصة هذا الزواج أن الأنظار كانت تتطمح إلى إيزابيلا مذ كبرت؛ للاحتمالات القوية التي كانت تؤهلها لعرش قشتالة، وكان خوان الثاني ملك أراجون يتوق إلى خطبتها لابنه فرناندو؛ لما كان بين العائلتين المالكتين من أواصر القربى الوثيقة، ولأن ذلك سيقرب بالطبع سبل الاتحاد بين المملكتين؛ ولذلك كان فرناندو أول المتقدمين لخطبة إيزابيلا، ولكن أخاها الملك لم يرضَ عن اقتران فرناندو بأخته، وكان ينافس فرناندو في خطبة إيزابيلا عدد من الأمراء والنبلاء الطامعين في عرش قشتالة، مثل الأمير فرناندو الأرجوني؛ وكان من هؤلاء ألفونسو ملك البرتغال وكبير فرسان قلعة رباح، وقد وافق الملك هنري على أن ترتبط أخته بكبير فرسان قلعة رباح، إلا أن الأميرة كان لها رأي آخر؛ إذ إنها آثرت بعد إمعان النظر أن تقبل خطبة ابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني؛ للبواعث نفسها التي جعلت أباه يحرص على هذه الزيجة، ولأنه يجمع بينهما من الجد بيت ملكي واحد، ووضعت شروط هذا الزواج بين الفريقين سرًّا؛ نظرًا لمعارضة الملك هنري لهذه الزيجة، فكان من هذه الشروط أن يتعهد فرناندو باحترام قوانين قشتالة وتقاليدها، وأن يجعل مقرَّ إقامته في قشتالة، وألا يغادرها دون إذن إيزابيلا، وألا يتخذ أية قرارات أو تعيينات في المملكة دون إذنها. وتعهد بالأخص بمتابعة الحرب ضد المسلمين.

    وفي أكتوبر سنة (1469م) الموافقة سنة (874 هـ) عُقد الزواج في مدينة بلد الوليد -حيث كانت تقيم إيزابيلا في ذلك الوقت- في حفل خاص لم يشهده سوى قليل من الأصدقاء، ثم أخطرت الأميرة أخاها بعقد الزواج برسالة تشرح فيها بواعث إقدامها على ذلك.

    إيزابيلا ملكة قشتالة

    أُعلنت إيزابيلا في ديسمبر (1474م) عقب وفاة أخيها هنري ملكة لقشتالة وليون في بلدة شقوبية؛ حيث كانت تُقيم آنذاك، ودخلت مدن أخرى في طاعتها، ولكن الأمر لم يكن سهلاً؛ لأن ثمة فريق من النبلاء كان يناصر الأميرة خوانا ابنة الملك المتوفي، كما كان زوج إيزابيلا الأمير فرناندو الأرجوني يطمع هو الآخر في انتزاع العرش لنفسه؛ باعتباره آخر الأبناء من الذكور لعائلة قشتالة المالكة، ولكن إيزابيلا تمسكت بحقها، واتفقت مع زوجها على مزاولة الملك المشترك؛ فتكون إيزابيلا ملكة أصلية لقشتالة لها الرأي الأول في الأمور الجليلة، في حين يجري القضاء وتُسك العملة باسميهما.

    وكان خصوم إيزابيلا في ذلك الحين وعلى رأسهم مطران طليطلة قد تفاهموا مع ملك البرتغال ألفونسو الخامس على تأييد سعيهم في تنصيب خوانا ملكة لقشتالة، وهي ابنة أخت ألفونسو الخامس، فغزا ملك البرتغال في مايو سنة (1475م) أراضي قشتالة، واخترق هضابها الشمالية حتى مدينة سمورة، وبادر فرناندو وإيزابيلا بالسير في قواتهما إلى لقائه، واشتبك الفريقان على مقربة من تورو بجوار سمورة، فهُزم القشتاليون في البداية، ولكن ألفونسو لم يبادر إلى الاستفادة من تفوقه، وطال الصراع بين الفريقين بضعة أشهر، وانتهى بانتصار القشتاليين.

    الاتحاد بين قشتالة وأراغون

    هكذا استقر الملكان على العرش بلا منازع، وفي سنة (1479م) توفي خوان الثاني ملك أراغون، فتولى ابنه العرش من بعده، وبذلك اتحدت المملكتان الإسبانيتان في ظلِّ عرش واحد بعد أن فرَّقت بينهما المنافسات والصراعات أحقابًا.

    وكان فرناندو الخامس أو فرناندو الكاثوليكي -إلى جوار تمتعه بالقدرة الفائقة في الإدارة والسياسة والحرب- أميرًا لا وازع له، يجنح في سياسته إلى الغدر ومجانبة الوفاء، وكان رجل الفرصة السانحة، يلتمس إلى تحقيق أطماعه الكبيرة أيَّ الوسائل؛ مهما ابتعدت عن المبادئ الأخلاقية المقررة ومقتضيات الفروسية والوفاء، كما ظهر ذلك من قبل في سيرته، وكما سيظهر من بعد في تصرفاته ومعاملته للأمة الأندلسية المغلوبة.

    وكانت زوجه الملكة إيزابيلا تتمتع بكثير من الذكاء والعزم، وكانت تُثير برقتها وتواضعها واحتشامها حب الشعب القشتالي وإعجابه؛ بيد أنها كانت تجيش بنزعة صليبية عميقة تذهب كثيرًا مذهب التعصب الأعمى، وكانت تقع تحت تأثير الأحبار المتعصبين وتنزل عند تحريضهم وتوجيههم، وكان مشروع القضاء على الإسلام في الأندلس يُذكي في نفس هذه الملكة الصليبية (التي تُنعت -أيضًا- بالكاثوليكية) أشنع ضروب التعصب، ويحملها على مؤازرة ديوان التحقيق الإسباني، أو ما عُرف خطأ بمحاكم التفتيش، فكانت تقرُّ كل ما جنح إلى ارتكابه هذا الديوان من الجرائم باسم النصرانية.

    وفي الوقت الذي استقر الملك فيه للملكين الكاثوليكيين تحت راية إسبانيا الموحدة القوية، كانت مملكة غرناطة تدخل بعد سلسلة من الحروب الأهلية، وإهمال أميرها أبو الحسن علي بن سعد بن الأحمر لشئون دولته، وركونه إلى الراحة والدعة، وسعيه خلف ملاذِّه -إلى مرحلة خطيرة من الضعف والتمزق؛ لذلك فما أن استقر الأمر للملكين الكاثوليكيين حتى أشهرا الحرب على المملكة الإسلامية؛ ليبدأ هذا الفصل المؤسِّي من حياة المسلمين في الأندلس [1].


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/180- 185، بتصرف.

    اترك تعليق:

يعمل...
X