إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    حضارة غرناطة .. عظمة الحضارة الإسلامية

    الصراع بين قشتالة وأراغون


    طيلة ما يقرب من مائتي عام، منذ سنة (709هـ= 1309م) وحتى سنة (897هـ= 1492م) ظلَّ الحال كما هو عليه في بلاد غرناطة، ولم تسقط.

    وكان السر في ذلك والسبب الرئيس، والذي من أجله حُفظت هذه البلاد هو وجود خلاف كبير وصراع طويل كان قد دار بين مملكة قشتالة ومملكة أراجون، (المملكتان النصرانيّتان في الشمال)؛ حيث تصارعتا معًا بعد أن صارت كل مملكة منهم ضخمة قوية، وكانتا قد قامتا على أنقاض الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس.

    الموكب الحضاري لمملكة غرناطة [1]



    كانت غرناطة تتردَّد بين القوة والضعف وبين الهزيمة والثبات وبين الأمن والقلق وبين الهدوء والاضطراب، رغم ذلك في الدَّاخل كانت -خلال عمرها البالغ حوالي قرنين ونصف- تمتلئ بالإنتاج، كما تطفح بالخير والرفاه، توفرت لها أيام مشهودة في الانتصار والغلبة، مع قلة الإمكانيات وقسوة الظروف وكثافة الأعداء.

    في هذه الظروف -وحتى مع الأيام العصيبة والانشغال- استطاعت أن تسير في الموكب الحضاري، على قدر ما أوتيت من إمكانيات، وأن تُقَدِّم ألوانًا عديدة من الإنجاز؛ مما يدل على حيوية هذه الأمة المسلمة واستعدادها للعمل والإنتاج، بقدر ما لديها من معاني الإسلام، وما تمتلك من رسوخ عقيدته، إن الذي أصاب المسلمين بتقصيرهم وتخاذلهم حين الهبوط عن المستوى الكريم الذي أراده الإسلام كان أكثر مما أصابهم من عدوهم[2]. مع اعتبار أهمية هذا الأخير في الإشغال والاستنزاف والإطباق من كل جهة، ينتقص من أطرافها ويأكل وجودها ويطحن حضارتها، ترابًا تذروه رياحها العاصفة.

    المحافظة على ما تبقى للأندلس من أرض

    أول إنجاز هو الاستعداد - في تلك الظروف - المحافظة على ما تبقى للأندلس من أرض، تأوي إليها البقية الباقية، والسير في الوجهة القويمة على قدر؛ بعض هذه الإنجازات كانت موجودة واستمرت، وبعضها الآخر وجد أيام غرناطة؛ وجدت أيامها «مشيخة الغزاة»، التي خلَّفت تلك البطولات بجانب الانتصارات الأخرى[3].

    الحفاظ على التكوين والبناء الاجتماعي

    أمكن الحفاظ على التكوين والبناء الاجتماعي في عدد من الجوانب، ولو بحدود تضيق أو تتسع، وهو الذي ساعد على الوقوف في هذا الخضم الصعب لعدة أجيال، كما أن الآفاق والقيم التي رعاها وحافظ عليها أنتجت بناء حضاريًّا كبيرًا في مختلف الميادين، قد تغور أحيانًا بعد أن كانت تفور.

    التقدم العلمي والثقافي

    وفي العلوم المتعددة الحقول قدمت التآليف الكثيرة والإنتاج الضخم، كما حافظت على ما خطته يد العلماء الذين سبقوا وانتفعت به.

    نجد ثَبْتًا طويلاً من أسماء اللامعين بعضها في الإحاطة لابن الخطيب وفي نفح الطيب للمقري، كما أُنشئت المدارس ومعاهد العلم الأخرى في كل ناحية، وتوفرت الاختراعات؛ من مثل: المدافع التي ترمي نوعًا من المحروقات، وتحويل البارود إلى طاقة قاذفة، وانتقلت عنهم إلى أوربا [4]، وما يزال متحف مدريد الحربي يحفظ حاليًا البنادق التي استعلمها المسلمون في دفاعهم عن غرناطة.

    التقدم الصناعي والزراعي

    وفي الصناعات ازدهرت أنواع كثيرة؛ فقد كانت هناك صناعة السفن، ثم الأنسجة، وصناعة الورق والفخار المذهب العجيب[5]، وأنتجت الكثير في ميدان الأصباغ والدباغة والجلود، وصناعة الحلي، والصناعات الفنية الدقيقة.

    كذلك برزت بالزراعة ووسائل الري والعناية بها وأنواع المزروعات.

    التقدم العمراني



    ثم الجانب العمراني المتمثل في المباني المختلفة؛ كالمساجد، والقصور، والدور، والقناطر، وقصر الحمراء الذي ما زال باقيًا، مزينًا بالنقوش التي تدل على فنية ماهرة رائعة، كذلك المباني الحربية المتعددة.

    وكان للتنظيمات المختلفة في المجتمع والدولة دورها وأهميتها، فقد غدت مدينة غرناطة في وقتها من أجمل مدن العالم بشوارعها وميادينها وحدائقها ومبانيها ومرافقها المتنوعة، وكانت تضم حوالي مليون نفسٍ، وتُصَدِّر كثيرًا من الصناعات إلى عدة بلدان؛ منها الأوربية.

    وظهرت آثارها على هذه البلدان الأوربية في بعض المسائل الأخرى المعنوية، فانتفعت - إلى حدٍّ - بالفروسية التي كانت لها الحفلات الرائعة المتفننة، بما تحتويه من ضروب البراعة والرشاقة والأعراف.


    [1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي، ص559- 562.
    [2] انظر: المقري: نفح الطيب، 4/509، 510، وأزهار الرياض، 1/53- 55.
    [3] انظر في أصل «مشيخة الغزاة» ودورها: تاريخ ابن خلدون، 7/366، 367، والمقري: نفح الطيب، 1/452- 454.
    [4] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/211، وما بعدها.
    [5] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة، 4/218.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين بني الأحمر وبني مرين

    المنصور المريني يدخل مالقة



    في أثناء رجوع يعقوب المريني -رحمه الله- يموت حاكم مالقة –وهو من بني أشقيلولة الذين كانوا يسيطرون عليها- فيتولى عليها ابنه من بعده، إلا أن هذا الابن شرع في النزول عن مالقة لأبي يعقوب المنصور المريني[1]؛ نكاية في خاله ابن الأحمر، بل إلى الحد الذي قال فيه للمنصور: إن لم تحزها أعطيتها للفرنج ولا يتملكها ابن الأحمر، وكان من الطبيعي –والحال هذا- أن يسارع المنصور لأخذها والاستجابة لبني أشقيلولة[2].


    ولا شكَّ أن موقفه كان في غاية الصعوبة؛ إذ هو الحريص دائمًا على طمأنة محمد الفقيه واسترضائه؛ فلقد كان هذا الأخير لديه من البطانة مثل ما كان للمعتمد بن عباد من قبله، وهم ممن يرضى بالنزول للنصارى ولا يرضى أن ينزل إلى الجزيرة، أمثال يوسف بن تاشفين ويعقوب المريني!

    ولا شكَّ -أيضًا- في أن المنصور المريني لم يشأ أن تضيع جهوده في الجهاد سدى، ولا بُدَّ أنه فكر في ضرورة أن يكون لبني مرين قوات في أرض الأندلس يمكنها ردع المحاولات النصرانية، كما يمكنها شلَّ الأفكار التي قد تجول في رأس ابن الأحمر حول التحالف مع النصارى، أو النزول لهم عن مزيد من الأراضي.
    ولقد كان للمنصور المريني قوات في جزيرة طريف على الساحل الجنوبي لبلاد الأندلس، اشترط نزول ابن الأحمر عنها لدى استدعائه له للغوث والإنجاد؛ وذلك حتى تكون هذه القوات مددًا قريبًا لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليهم في حربهم ضد النصارى، وسبيلاً سهلاً للعبور المغربي إلى الأندلس.

    ابن الأحمر والخيانة العظمى

    وهنا كرر ابن الأحمر (محمد بن الأحمر الفقيه) سيرة المعتمد بن عباد، وخشي أن تتكرر قصة يوسف بن تاشفين حينما ساعد ملوك الطوائف ثم حاز الأندلس بعدئذٍ وأدخلها في حكم المرابطين[3]، ففكر عازمًا على أن يقف حائلاً وسدًّا منيعًا حتى لا تُضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين.

    ويا لهول! هذا الفكر الذي كان عليه ذلك الرجل الذي لُقب بالفقيه الذي ما هو بفقيه! فماذا يفعل إذًا لكي يمنع ما تكرر في الماضي، ويمنع ما جال بخاطره؟ بنظرة واقعية وجد أنه ليست له طاقة بيعقوب المنصور المريني، فماذا يفعل؟!

    كرر سيرة الخيانة ذاتها؛ ومثلما أرسل المعتمد بن عباد من قبل إلى ألفونسو السادس، فعل محمد بن الأحمر الفقيه (!!) مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة، واستعان به في طرد يعقوب المريني من جزيرة طريف[4].

    ولم يكتفِ بهذا، بل سارع ابن الأحمر «الفقيه» (!!) في مراسلة الأمير المغربي يغمراسن بن زيان -ملك المغرب الأوسط، والعدو اللدود للسلطان يعقوب المريني[5]- للمحالفة على المنصور المريني.

    ابن الأحمر يدخل مالقة على حراب الصليبيين

    وعلى موعد مع الزمن يأتي ملك قشتالة بجيشه وأساطيله ويحاصر جزيرة طريف، وما أن يسمع بذلك يعقوب المنصور المريني -رحمه الله- حتى يُريد أن يعبر من توه إلى الأندلس، إلا أن حوادث المغرب ومضايقات يغمراسن تمنعه وتعوقه، حتى لقد بلغ الحال بالمسلمين المحاصرين في الأندلس أنهم «قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر»[6]، فأغمه هذا، فأرسل ابنه الأمير أبا يعقوب على رأس أسطول ضخم في أوائل سنة (678هـ=1279م)، وتُحَدِّثنا مصادر التاريخ عن فقيه من سبتة اسمه أبو حاتم العزفي أبلى البلاء الحَسن في حشد الناس، واستنفارهم للجهاد؛ حتى ركب أهل سبتة جميعًا للجهاد من الفتى الذي بلغ الحلم فما فوقه، وتوفرت همم المسلمين على الجهاد وصدقت عزائمهم على الموت[7].

    واستطاع ابن الأحمر في ظل هذه الكوارث التي أثارها للمارينيين بالمغرب والأندلس أن يأخذ مالقة ويستولي عليها ويُدخلها في حكمه، وعندئذٍ تكون الأمور قد عادت إلى ما كان يحب ويرغب من إخراج المرينيين من مالقة.

    يبن الأسطول الإسلامي والأسطول النصراني

    ثم بدا لابن الأحمر -مما وصل إليه حال المسلمين المحاصرين من جيوش النصارى- أن النصارى يستعدون لأخذها، وليس فقط إخراج المرينيين منها، وأنها على وشك أن تقع بأيديهم بالفعل، فندم على ما صنع ونبذ عهده وأعد أساطيله وجعلها مددًا للمسلمين، واجتمعت الأساطيل بميناء سبتة تناهز السبعين، فنشبت بين الأسطول الإسلامي وبين الأسطول النصراني معركة هائلة هُزم فيها النصارى، واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة، ففرَّ منها النصارى في الحال.

    أَمَا كان ابن الأحمر يعتبر بالتاريخ حتى نهايته، فيُبصر فيه نصر يوسف بن تاشفين على المعتمد بن عباد ومعه الفرنج، ولو فعل ذلك لاكتملت له مسيرة القصة فيعتبر بها كلها، بدل أن يخشى من أحد فصولها فيكرر سيرة الخيانة!! إنه نموذج للحاكم الذي تضيع على يديه الممالك والبلاد، وتُمْحَى بسيرته أمجاد سطرها العظماء والفاتحون والمجاهدون الكبار.

    وللنقمة التي ملأت قلب الأمير أبي يعقوب –ابن المنصور المريني، وقائد النصر البحري- على ابن الأحمر، فَكَّر في أن يتحالف مع النصارى ضد ابن الأحمر حتى يُذهب ملكه في غرناطة، وأرسل بهذا إلى أبيه في المغرب، فأنكر عليه المنصور ذلك ورفضه تمامًا.

    وفي هذا الوقت نفسه ينقلب النصارى على ابن الأحمر، ويتحالفون مع بني أشقيلولة ويهاجمون غرناطة، إلا أن ابن الأحمر استطاع ردهم عنها.

    المنصور المريني يعرض الصلح ثانية

    ورغم خطورة الموقف الذي أوقع ابن الأحمر نفسه فيه؛ إذ جعل الكل أعداءه، فتحالف على نصيره الوحيد وهم بنو مرين، فجعلهم عدوًّا جديدًا يضاف إلى النصارى وإلى بني أشقيلولة رغم خطورة هذا الموقف ودقته إذا به يستقبل الرسالة التي تنزل على قلبه بردًا وسلامًا، وهي رسالة من السلطان يعقوب المنصور المريني، يُجَدِّد فيه الرغبة في الصلح والتحالف، ويحذر من خطورة انفصام هذا التحالف على المسلمين في الأندلس ومصيرهم.

    وما كان أمام ابن الأحمر الفقيه إلا أن يقبل ويستجيب أمام هذا الخلق الإسلامي الكريم، فيكسب قومًا طالما جاهدوا معه، ونصروه وأعزوه، وعاداهم هو بحماقته، فلم يلبث إلا أن دارت عليه الدوائر[8].

    المنصور المريني والصلح مع النصارى

    هدأت العلاقات وصَفَت بين المنصور وبين ابن الأحمر لفترة من الزمن، ثم انقلب الحال في قشتالة نفسها؛ إذ ثار سانشو بن ألفونسو العاشر على أبيه، فلجأ ألفونسو العاشر إلى المنصور المريني، الذي جاز إلى الأندلس معاونةً لألفونسو، واستغلالاً لهذه الفرصة في ضرب بعضهم ببعض، ثم جاز مرة ثانية بعد أن مات ألفونسو العاشر، فصالحه النصارى وعقدوا معه عقدًا للهدنة والموادعة[9].

    ثم وَفَد سانشو بعد ذلك على أمير المسلمين، وفيها سأل المنصور سانشو أن يرسل إليه من الكتب التي أخذوها من بلاد المسلمين في الأندلس، فأرسل إليه بعد عودته إلى بلاده 13 حملاً[10].

    تكرار الخيانة من ابن الأحمر

    بعد الموقعة السابقة بعام واحد وفي سنة (685هـ= 1286م) يموت المنصور المريني -رحمه الله- ويخلفه على إمارة بني مرين ابنه يوسف بن المنصور[11]، ومن حينها يذهب ابن الأحمر (الفقيه) إليه ويعرض عليه الولاء والطاعة، وكان قد تم اتفاق بينهما فيما مضى حينما نزل الجيش المغربي إلى الأندلس وهزم الأساطيل النصرانية، وفيه أن ينزل الأمير يوسف بن يعقوب لابن الأحمر عن كل الثغور الأندلسية التابعة لبلاد العدوة المغربية، عدا الجزيرة وطريف، وتفرق الملكان وهما على أكمل حالات المصافاة، ثم كذلك نزل السلطان يوسف المريني لابن الأحمر عن وادي آش بعد ذلك سنة (686هـ) [12].

    في هذه الأثناء وبعدها نقض سانشو المعاهدة التي كان أبرمها مع المرينيين؛ مستغلاً انشغال السلطان المغربي بشئون المغرب واضطراباته، فهاجموا البلاد الإسلامية، فعبر إليه السلطان، وغزا بلاده وهزمه، وهنا أرسل سانشو إلى ابن الأحمر يُخَوِّفه السلطان المريني على ملكه، ويسأله محالفته حتى يتمكنوا من منع بني مرين من العبور إلى الأندلس ثانية، وأن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يستولوا على جزيرة طريف.

    سقوط جزيرة طريف بيد النصارى



    ومن جديد اعتملت الوساوس في قلب ابن الأحمر، ووقع في الفخ النصراني القاتل، وما درى المسكين أنه يخنق نفسه بيده، فوافق على التحالف مع النصارى شريطة أن يأخذ هو طريف إن استُولي عليها، أما ملك قشتالة فإنه يحصل على ستة حصون من ابن الأحمر، وبالفعل حاصر ملك قشتالة طريف، وكان ابن الأحمر يمده بالمؤن والأقوات، واستمرَّ الحصار حتى أنهك أهلها تمامًا، وسلموا لملك قشتالة على شروط.


    وكسابقة وعلى موعد أيضًا مع الزمن يأتي بالفعل جيش النصارى ويحاصر طريف كما فعل في السابق، لكن في هذه المرة يستطيعون أن يسقطوا طريف.

    لكن النصارى بعد أن استولوا عليها لم يُعيدوها إليه، وإنما أخذوها لأنفسهم؛ وبذلك يكونون قد خانوا العهد معه، وتكون قد حدثت الجريمة الكبرى والخيانة العظمى وسقطت طريف[13].

    وكان موقع طريف هذه في غاية الخطورة؛ فهي تطل على مضيق جبل طارق، ومعنى ذلك أن سقوطها يعني انقطاع بلاد المغرب عن بلاد الأندلس، وانقطاع العون والمدد من بلاد المغرب إلى الأندلس تمامًا.

    أبو عبد الله بن الحكيم وأمور يندى لها الجبين

    في سنة (701هـ= 1302م) يموت ابن الأحمر الفقيه[14] ويتولى من بعده محمد الثالث، والذي كان يلقب بالأعمش[15]، ويُعرف بالمخلوع، وكان رجلاً ضعيفًا جدًّا، وقد تولى الأمور في عهده الوزير أبو عبد الله بن الحكيم -الذي ما هو بحكيم- حيث كانت له السيطرة على الأمور في بلاد غرناطة([16])، و«انصرف عن موالاة سلطان المغرب إلى موالاة ملك قشتالة»[17].

    لم يكتفِ أبو عبد الله بن الحكيم بذلك، لكنه زاد على السابقين له في هذه المحالفات وغيرها بأن فعل أفعالاً يندى لها الجبين، فأوعز أبو عبد الله المخلوع إلى ابن عمه حاكم مالقة بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان يوسف المريني، والدخول في طاعة ابن الأحمر، ثم جهَّز جيشًا وذهب ليقاتل، تُرى من يقاتل؟! أيقاتل النصارى الذين هم على حدود ولايته، أم من يقاتل؟!

    كانت الإجابة المخزية أنه ذهب بجيشه واحتلَّ سبتة في بلاد المغرب، ذهب إلى دولة بني مرين واحتلّ مدينة سبتة حتى يقوي شأنه في مضيق جبل طارق، وتم احتلال سبتة بالفعل وأعلن أبو عبد الله بن الحكيم الأمان لأهل سبتة، وإرساله حكام سبتة المخلوعين إلى غرناطة[18].

    وفي سبيل لزعزعة الحُكم في بني مرين، انطلق رجل مغربي كان من المرينيين الذين يقيمون في الأندلس ويُدعى عثمان بن أبي العلاء، انطلق من سبتة إلى البلاد المغربية المحيطة في محاولة للسيطرة عليها؛ أملاً في أن يتمكن من السيطرة على المغرب، وساعده على ذلك مشاكل المغرب الداخلية، ثم ما كان من مقتل السلطان يوسف المريني، وما أدى إليه من فتنة بين ولديه أبي سالمٍ وأبي ثابت، انتهت بانتصار أبي ثابت واستيلائه على العرش، ثم مات أبو ثابت بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه أبو الربيع سليمان، وهو الذي هزم عثمان بن أبي العلاء بعد ذلك فارتد إلى الأندلس من جديد[19].

    وإنه -بلا شكٍّ- غباء منقطع النظير، أمر لا يقرُّه عقل ولا دين، لكن هذا ما حدث، فكانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة استغل النصارى الثورة التي قامت على أبي عبد الله المخلوع وتولية أخيه أبي الجيوش نصر بدلاً منه، فزحفوا بجيوشهم نحو جبل طارق حتى سقط في أيديهم في سنة (709هـ= 1309م)، فعُزلت –بهذا- بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وتركت غرناطة لمصيرها المحتوم[20].


    [1] ابن الخطيب: اللمحة البدرية ص45، وتاريخ ابن خلدون 7/197.
    [2] ابن الخطيب: الإحاطة،1/564، وأعمال الأعلام، القسم الثالث، ص288، والسلاوي: الاستقصا، 3/48.
    [3] تاريخ ابن خلدون، 7/198.
    [4] انظر: لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام، ص289، وتاريخ ابن خلدون، 7/200.
    [5] بل إن يغمراسن هو الأمير الذي منعت معاركه المرينيين من سرعة الاستجابة لغوث الأندلسيين من قبل؛ حتى إنه رفض رسالة المنصور المريني بعقد هدنة بينهما لأنه سيتوجه إلى الأندلس التي تستغيث من بلاد النصارى، فما أمكن المنصور المريني أن يتوجه للجهاد مع الأندلسيين إلا بعد أن انتصر على يغمراسن هذا في معارك قوية، وبعد وقت ثمين ذهبت فيه من المسلمين الأندلسيين بلاد وأرواح وسبايا.. نسي ابن الأحمر هذا وأرسل ليغمراسن ليحالفه ضد المنصور المريني.
    [6] تاريخ ابن خلدون 7/202.
    [7] المصدر السابق.
    [8] تاريخ ابن خلدون، 7/201-204، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص289، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/102، 103.
    [9] تاريخ ابن خلدون، 7/205، 206.
    [10] المصدر السابق، 7/209.
    [11] ابن الخطيب: رقم الحلل، ص89، 90، وتاريخ ابن خلدون، 7/210.
    [12] تاريخ ابن خلدون 7/211.
    [13] المصدر السابق، 7/216، والسلاوي: الاستقصا، 3/71.
    [14] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/566، واللمحة البدرية، ص45، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
    [15] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/544، 545، واللمحة البدرية، ص48، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
    [16] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/549، واللمحة البدرية، ص51، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
    [17] تاريخ ابن خلدون، 7/228.
    [18] المصدر السابق، 7/228، 229.
    [19] تاريخ ابن خلدون، 7/236-238.
    [20] ابن الخطيب: الإحاطة، 3/339، واللمحة البدرية، ص62، وتاريخ ابن خلدون، 7/240.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    يعقوب المنصور المريني .. جهاد دائم

    يعقوب بن عبد الحق المريني



    في وصف بليغ للسلطان يعقوب بن عبد الحق أو المنصور المريني يقول المؤرخون المعاصرون له: إنه كان صوَّامًا قوَّامًا، دائم الذكر، كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكرًا، وفي أكثر ليله قائمًا يصلي، مكرمًا للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعًا في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفًا في سفك الدماء، كريمًا جوَّادًا، وكان مظفرًا، منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغزُ عدوًّا إلا قهره، ولا لقي جيشًا إلا هزمه ودمَّره، ولا قصد بلدًا إلا فتحه[1].


    وإنها لصفات عظيمة لهؤلاء القادة المجاهدين الفاتحين، يجب أن يقف أمامها المسلمون كثيرًا، ويتمثلونها في قرارة أنفسهم، ويجعلون منها نبراسًا يضيء حياتهم.
    وفي تطبيق عملي لإحدى هذه الصفات وحين استعان محمد بن الأحمر الأول بيعقوب المنصور المريني ممثلاً في دولة بني مرين، ما كان منه إلا أن أعد العدة وأتى بالفعل، وقام بصدِّ هجوم النصارى على غرناطة.

    بلاد الأندلس واستيراد النصر

    لقد تعوَّدت بلاد الأندلس استيراد النصر من خارجها، كانت هذه مقولة ملموسة طيلة العهود السابقة؛ فلقد ظلت لأكثر من مائتي عام تستورد النصر من خارج أراضيها؛ فمرة من المرابطين، وأخرى من الموحدين، وثالثة كانت من بني مرين وهكذا، فلا تكاد تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها.

    ومن الطبيعي ألا يستقيم الأمر لتلك البلاد التي تقوم على أكتاف غيرها أبدًا، وأبدًا لا تستكمل النصر، وأبدًا لا تستحق الحياة، لا يستقيم أبدًا أن تنفق الأموال الضخمة في بناء القصور الضخمة الفارهة في غرناطة؛ مثل قصر الحمراء الذي يُعَدُّ من أعظم قصور الأندلس ليحكم منها ابن الأحمر أو غيره، وهو في هذه المحاصرة من جيوش النصارى، ثم يأتي غيره ومن خارج الأندلس ليدافع عن هذه البلاد وتلك القصور.

    وفاة محمد بن الأحمر وولاية محمد الفقيه

    في سنة (671هـ= 1273م) يموت محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، وقد استخلف على الحُكم ابنه وسميَّه، بل وسميَّ معظم أمراء بني الأحمر كان اسم ابنه هذا محمدًا، فكان هو محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر، وكانوا يلقبونه بالفقيه «لانتحاله طلب العلم أيام أبيه»[2].

    لما تولَّى محمد الفقيه الأمور في غرناطة نظر إلى حال البلاد فوجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لن تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة قوة النصارى، هذا بالإضافة إلى أن ألفونسو العاشر حين مات ابن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت، فما كان منه إلا أن أسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، ما كان -أيضًا- من محمد الفقيه إلا أن استعان بيعقوب المنصور المريني -رحمه الله، وكان أبوه قد وصاه عند موته بالتمسك بعروة أمير المسلمين في المغرب[3].

    وعلى كلٍّ فقد أتى بنو مرين، وكان العبور الأول للمنصور المريني -رحمه الله- في صفر سنة (674هـ)، وكان قد سبق ذلك بعام إرساله خمسة آلاف جندي بقيادة ابنه للجزيرة؛ حتى يفرغ من استعداده للجواز، وكان قبل ذلك بعدة أعوام سنة (663هـ) قد أرسل حوالي ثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة بعض أقاربه إلى الأندلس في حياة الشيخ ابن الأحمر فاستقروا بالأندلس -كما ذكرنا- واستطاعوا أن يردُّوا الهجوم عن غرناطة، وحفظها الله من السقوط المدوّي[4].

    معركة الدونونية

    هناك وفي مكان خارج غرناطة وبالقرب من قرطبة يلتقي المسلمون مع النصارى، وعلى رأسهم واحد من أكبر قواد مملكة قشتالة يدعى دون نونيو دي لارى ( الذي سميت الموقعة باسمه، فعُرفت بموقعة الدونونيّة)[5].

    ففي سنة (674هـ= 1276م) تقع موقعة الدونونية، وكان على رأس جيوش المسلمين المنصور المريني -رحمه الله-، وقد أخذ يحفز الناس بنفسه على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة في تحفيز جنده في هذه الموقعة:
    ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف؛ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمَنْ مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200][6].

    وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارًا باهرًا وعظيمًا، وقُتل من النصارى ستة آلاف مقاتل، وتم أسر سبعة آلاف وثمانمائة آخرين، وقُتل دون نونيو قائد قشتالة في هذه الموقعة[7]، وقد غنم المسلمون غنائم لا تحصى، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ= 1195م) كهذا النصر في الدونونية في سنة (674هـ= 1276م).

    المنصور المريني وحصار إشبيلية



    عاد المنصور -عقب غزوة الدونونية- إلى الجزيرة الخضراء، واستقرَّ بها خمسة وثلاثين يومًا، وزَّع خلالها الغنائم، وأرسل إلى العدوة بخبر الغزوة، وكذلك أرسل إلى ابن الأحمر، ثم عاد بعد ذلك، وقاد جيشه إلى أحواز إشبيلية، وحاصرها حصارًا شديدًا، قتل فيه وسبى، وضيق على إشبيلية تضييقًا شديدًا، ثم رحل بجيشه عنها محملاً بالغنائم إلى شريش، وحاصرها هي الأخرى فترة، ثم فضَّ الحصار وعاد إلى الجزيرة[8].


    وبعد ثلاث سنوات من هذه الموقعة في سنة (677هـ= 1279م) تنتقض إشبيلية، فيذهب إليها من جديد المنصور المريني -رحمه الله، ومن جديد وبعد حصار فترة من الزمن يصالحونه على الجزية، ثم يتجه بعد ذلك إلى قرطبة ويحاصرها، فترضخ له أيضًا على الجزية[9].
    كان النصارى معتصمين بمدنهم، يحتمون بأسوارها وقلاعها، أو قل: هي أسوار وقلاع بناها المسلمون من قبل. إلا أن ألفونسو العاشر لم يكن من المتخاذلين والضعفاء والجبناء الذين ابتلي بهم المسلمون في أيام السقوط فتركوا هذه المدن، أو سلموها، أو حتى عاونوا النصارى في إسقاطها.

    بل حتى في هذه الفترة لم تكن ما بقي من بلاد الأندلس متوحدة تحت سلطان ابن الأحمر، بل خرج عليه بنو أشقيلولة[10]، وسيطروا على مالقة وقمارش ووادي آش، وكثيرًا ما حاربهم هو وحاربهم أبوه من قبله، بل إن ابن الأحمر لم يشترك في موقعة الدونونية لهذا النزاع مع بني أشقيلولة[11].

    حاصر المسلمون إشبيلية، واستنزفوها قدر الإمكان، وكان فيها ألفونسو العاشر، وأرسل المنصور السرايا إلى مختلف النواحي لتؤدي العمل نفسه، واقتحمت سراياه عدة حصون، ثم عاد السلطان بالغنائم والسبي إلى الجزيرة، وأراح في الجزيرة بعض الوقت، ثم خرج إلى شريش فاشتد في التضييق عليها، وأرسل ولده إلى إشبيلية، فاكتسح ما استطاع من حصونها، ثم عاد إلى أبيه وعادا معًا بالجيوش وبالغنائم إلى الجزيرة، ثم دعا ابن الأحمر للغزو، فاستجاب له، وخرجا سويًّا إلى قرطبة، فضيقوا عليها قدر الإمكان، وخربوا ما استطاعوا من حصونها، وأرسلوا السرايا إلى المدن الأخرى للتضييق عليها كأرجونة وبركونة وجيان، وملك قشتالة لا يجرؤ على الخروج لهم، ثم إنه لم يجد أمامه بدًّا من مسالمتهم، وبالفعل أرسل إلى أمير المسلمين يطلب المسالمة والصلح، فترك أمير المسلمين القرار في ذلك لابن الأحمر إعلاءً لشأنه، فوافق ابن الأحمر بعد استئذان أمير المسلمين في ذلك، وعاد أمير المسلمين مع ابن الأحمر إلى غرناطة، وترك له غنائم هذه الغزوة، ثم عاد أمير المسلمين للجزيرة[12].


    [1] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص85، 86.
    [2] انظر: تاريخ ابن خلدون، 7/191.
    [3] تاريخ ابن خلدون، 7/191.
    [4] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص144-146، وتاريخ ابن خلدون، 7/191، 192.
    [5] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص148.
    [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص149.
    [7] تاريخ ابن خلدون، 7/193.
    [8] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص158، وما بعدها، وتاريخ ابن خلدون، 7/193.
    [9] تاريخ ابن خلدون، 7/196، 197.
    [10] بنو أشقيلولة هم ابن أخت السلطان محمد بن الأحمر الفقيه، وكانت وقعت بينهم وبين السلطان خالهم محمد الفقيه حروب تسببت في مقتل فرج أحد الأخوة الأربعة بني أشقيلولة؛ فوقعت العداوة بين أمه أخت السلطان، وأخيها، وهي العداوة التي لم تنته ولم ينفع فيها صلح.
    [11] تاريخ ابن خلدون، 7/197، والسلاوي: الاستقصا، 3/45- 48.
    [12] تاريخ ابن خلدون، 7/196، 197.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو مرين ..الدولة المرينية .. المرينيون

    بداية دولة بني مرين



    بنو مرين فرع من قبيلة زناتة الأمازيغية (البربرية) الشهيرة[1]، والتي ينتمي إليها عدد من القبائل التي لعبت أدوارًا مهمة في تاريخ المغرب العربي، مثل مغيلة ومديونة ومغراوة وعبد الواد وجراوة، وغيرهم، وكان بنو مرين في أول أمرهم من البدو الرحل، وفي سنة (601هـ) نشبت بينهم وبين بني عبد الواد وبني واسين حرب فارتحلوا بعيدًا وتوغلوا في هضاب المغرب، ونزلوا بوادي ملوية الواقع بين المغرب والصحراء، واستقروا هناك إلى سنة (610هـ)، وهي السنة التي مات فيها محمد الناصر الموحدي عقب موقعة العقاب، وتولى من بعده ابنه المستنصر، وكان صبيًّا لا علم له بالسياسة وتدبير الملك، فانشغل باللهو والعبث وترك تدبير الملك لأعمامه ولكبار رجال الموحدين، فأساءوا وتهاونوا في الأمور وخلدوا إلى الراحة والدعة، وكانت غزوة العقاب قد أضعفت قواهم، وقضت على كثير من رجالهم وشبابهم، ثم جاء بعدها وباء عظيم قضى على كثير من أهل هذه المناطق، وكان بنو مرين في ذلك الوقت يعيشون في الصحاري والقفار، وكانوا يرتحلون إلى الأرياف وأطراف المدن المغربية في الصيف والربيع للرعي فيها طوال الصيف والربيع، ولجلب الحبوب والأقوات التي يستعينون بها على الحياة في الصحاري المجدبة، فإذا أقبل الشتاء اجتمعوا كلهم ببلدة تسمى «أكرسيف» ثم شدُّوا الرحال إلى مواطنهم في الصحراء.


    فلما كانت سنة (610هـ) ذهبوا على عادتهم إلى المدن والأرياف، فوجدوا أحوال هذه البلاد قد تغيرت وتبدَّلت، ورأوا ما آلت إليه أحوال الموحدين من التهاون والخلود للراحة، وما آلت إليه أحوال الشعب بعد ضياع رجاله وشبابه في موقعة العقاب، وفي الوباء الذي عم بلاد المغرب والأندلس بعدها، ووجدوا هذه البلاد مع ذلك طيبة المنبت، خصيبة المرعى، غزيرة الماء، واسعة الأكناف، فسيحة المزارع، متوفرة العشب لقلة الرعي فيها، مخضرة التلول والربى، فدفعهم ذلك إلى ترك القفار والاستقرار في هذه البلاد، وأرسلوا إلى قومهم في الصحراء يخبرونهم بذلك كله، وأنهم عزموا على الاستقرار هناك، ويحضونهم على اللحاق بهم، فأسرع باقي بني مرين بالانتقال إلى هذه البلاد الخصبة وانتشروا فيها[2].

    الصراع بين بني مرين والموحدين



    ولأنهم كانوا قومًا من البدو لم يعتادوا الخضوع لغيرهم، فقد عملوا على بسط سيطرتهم على هذه البلاد، وشنوا الغارات على البلاد المحيطة بهم كعادة أهل الصحراء، فلما كثر عيثهم وزادت شكاية الناس منهم، أراد الخليفة المستنصر الموحدي أن يقضي عليهم، فأرسل لهم جيشًا عام (613هـ)، وكان أميرهم في ذلك الوقت أبو محمد عبد الحق بن محيو، فاشتبك الفريقان، ودارت بينهم حرب شديدة استمرت أيامًا، وانتهت بهزيمة الموحدين هزيمة شديدة وبانتصار بني مرين واستحواذهم على أموال الموحدين وسلاحهم، فزاد ذلك من قوة بني مرين، وسرت هيبتهم في بلاد المغرب[3].


    واستمرت المعارك بعد ذلك بين بني مرين وبين دولة الموحدين، حتى كانت سنة (639هـ)، وفيها أرسل الخليفة الرشيد الموحدي جيشًا لقتال بني مرين فهُزم الموحدون هزيمة شديدة، واستولى بنو مرين على أموالهم وسلاحهم[4]، وتوفي الرشيد بعد ذلك بعام، فخلفه أخوه أبو الحسن السعيد، وهو الذي استنجد به أهل إشبيلية[5]، وصمم أبو الحسن السعيد هذا على القضاء على بني مرين فضاعف في ذلك جهوده، وسَيَّر لقتالهم سنة (642هـ) جيشًا ضخمًا، ونشبت بين الفريقين موقعة هائلة هُزم فيها بنو مرين، وقُتل فيها أميرهم في ذلك الوقت أبو معرِّف محمد بن عبد الحق.

    المنصور المريني

    وتولى إمارة المرينيين بعد مقتل أبي معرف أخوه أبو بكر بن عبد الحق الملقب بأبي يحيى، وفي عهده اشتدَّ ساعد بني مرين، وتغلبوا على مكناسة سنة (643هـ)[6]، ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد سنة (648هـ)، ثم استولوا على سجلماسة ودرعة سنة (655هـ)، وبعد ذلك بعام واحد توفي أبو يحيى، وصار الأمر بعده إلى أخيه أبي يوسف يعقوب المريني، وتلقب بالمنصور بالله، وجعل مدينة فاس عاصمة دولته[7]، وفي سنة (657هـ) نشبت الحرب بين بني مرين وبين الأمير يغمراس بن زيان ملك المغرب الأوسط، وزعيم بني عبد الواد، فانتصر يعقوب بن عبد الحق أو المنصور المريني، وارتد يغمراسن إلى تلمسان مهزومًا[8]، وفي سنة (658هـ) هاجم نصارى إسبانيا ثغر سلا من بلاد المغرب، وقتلوا وسبوا كثيرًا من أهله، فأسرع يعقوب المريني بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه[9].

    بنو مرين والقضاء على دولة الموحدين

    ثم جاءت سنة (667هـ)، وفيها كانت الموقعة الحاسمة بين المرينيين والموحدين ففي أواخر هذه السنة سار الخليفة الواثق بالله الموحدي لقتال بني مرين، والتقى الفريقان في وادي غفو بين فاس ومراكش، فانتصر بنو مرين، وقُتل من الموحدين عدد كبير، وكان على رأس القتلى الخليفة الموحدي نفسه، واستولى المرينيون على أموالهم وأسلحتهم[10]، ثم ساروا إلى مراكش، فدخلها يعقوب المنصور المريني بجيشه في التاسع من المحرم سنة (668هـ)، وتسمَّى بأمير المسلمين[11]، وبذلك انتهت دولة الموحدين بعد حوالي قرن ونصف من الزمان، وقامت بعدها دولة بني مرين الفتية التي سيطرت على المغرب الأقصى كله.


    [1] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، ص14، وتاريخ ابن خلدون، 7/166.
    [2] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص24- 27، وتاريخ ابن خلدون، 7/169، والسلاوي: الاستقصا، 3/4.
    [3] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص27، وتاريخ ابن خلدون، 7/169.
    [4] تاريخ ابن خلدون، 7/171.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص380- 384.
    [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص63: 66، وتاريخ ابن خلدون، 7/171، 172.
    [7] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص58، 77، 78، 83.
    [8] تاريخ ابن خلدون، 7/177، 178.
    [9] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص93، 94، والسلاوي: الاستقصا، 3/21، 22.
    [10] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص117، 118، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 7/182.
    [11] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص118.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مملكة غرناطة وقشتالة .. صراع البقاء

    قشتالة تنقض العهد مع غرناطة



    كعادتهم ولطبيعة متأصلة في كينونتهم، ومع كون المعاهدة السابقة بين ابن الأحمر وملك قشتالة تقوم على أساس التعاون والتصالح والنصرة بين الفريقين، إلا أنه بين الحين والآخر كان النصارى القشتاليون بقيادة فرناندو الثالث ومَنْ تبعه من ملوك النصارى يخونون العهد مع ابن الأحمر، فكانوا يتهجمون على بعض المدن ويحتلونها، وقد يحاول ابن الأحمر أن يسترد هذه البلاد فلا يفلح، ولا حول ولا قوة إلا بالله!


    لم تؤسَّس مملكة غرناطة –آنذاك- على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هارٍ، معتمدًا على صليبيٍّ لا عهد له ولا أمان؛ { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 100].

    الصراع بين قشتالة وغرناطة

    فاتح النصارى ابن الأحمر وبدءوه بالعدوان، وغزوا أراضيه في سنة (660هـ=1261م)، واستطاع بمعاونة قوات من المتطوعة والمجاهدين الذين وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه[1]، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوها في ميدان الحرب لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين، ولما عبرت كتائب الدولة المرينية بعد ذلك بقليل (662هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر بن إدريس أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى، ولكن لمدى قصير فقط، وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة.

    دخول النصارى إستجة

    وما كان هذا التطور الخطير الذي يهدد «حرب الاسترداد» النصرانية ويضربها في مقتل، ويُعيد إلى الأندلسيين الأمل في استرجاع البلاد الذاهبة والمجد السليب -ما كان هذا التطور الخطير بالذي يسكت عليه ملك قشتالة ألفونسو العاشر، فشدَّد ضغطه على القواعد الأندلسية، حتى كانت أواخر سنة (662هـ=1263م)، وفيها نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى[2]، ودخلها دون خيل قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبى كثيرًا منهم، وذلك بالرغم من تسليمها بالأمان.

    استغاثة ابن الأحمر بالمرينيين



    وفي العام التالي (663هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة في العمل على افتتاح ما بقي من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحي الأندلس، وعادت الرسائل تترى على أمراء المغرب وزعمائه، بالمبادرة إلى إمداد الأندلس، وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خاصة وقد بدأ عدوان النصارى يُحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر في ذلك الوقت على يد دون نونيو دي لارى (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663هـ=1264م).

    وكتب الفقيه أبو القاسم العزفي صاحب سبتة رسالة طويلة إلى قبائل المغرب، يستنصرهم فيها ويحثهم على الجهاد في سبيل الأندلس، وفيها يقول: «ولا تخلدوا بركون إلى سكون، والدين يدعوكم لنصره، وصارخ الإسلام قد أسمع أهل عصره، والصليب قد أوعب في حشده، فالبدار البدار، بإرهاب الجد وإعمال الجهاد في نيل الجد... ». وتكرر مثل هذا الصريخ إلى سائر أمراء إفريقية، وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر بالله الحفصي صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر هدية ومالاً لمعاونته. ولكن هذه المساعي لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعوامًا أخرى تواجه عدوها القوي بمفردها، وتتوجَّس من سوء المصير.

    سقوط قواعد الأندلس من يد ابن الأحمر

    ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصًا من أن يخطو خطوة جديدة في مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له في أواخر سنة (665هـ=1267م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها في غرب الأندلس؛ وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى.

    وهكذا فقدت الأندلس معظم قواعدها التالدة في نحو ثلاثين عاما فقط (627هـ=655هـ) في وابل مروع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسي الذي كان قبل قرن فقط يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هي مملكة غرناطة.

    وفي تلك الآونة (سنة 668هـ وما بعدها) عاد النصارى إلى التحرك والتحرش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة ألفونسو العاشر إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها فسادًا وتخريبًا.

    استغاثة ابن الأحمر بالمنصور المريني

    وهنا وجد ابن الأحمر نفسه في مأزق، وحينها فقط علم أنه عاهد مَنْ لا عهد له، فماذا يفعل؟ ما كان منه إلا أن يمَّم وجهه شطر بلاد المغرب حيث بنو مرين، وحيث الدولة التي قامت على أنقاض دولة الموحدين، والتي كان عليها رجل يُسمّى يعقوب المنصور المريني، و«المريني» تمييزًا بينه وبين يعقوب المنصور الموحدي في دولة الموحدين، وكلاهما كانا على شاكلة واحدة، وكلاهما من عظماء المسلمين، وكلاهما من كبار القادة في تاريخ المسلمين.

    فبعث ابن الأحمر إلى أمير المسلمين السلطان أبي يوسف يعقوب المريني ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ونصرة إخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويخبره بما بدا من عدوان النصارى ونيتهم في القضاء على ما بقي من ديار الأندلس، ولكن ابن الأحمر لم يعشْ ليرى نتيجة هذه الدعوة؛ إذ توفي بعد ذلك بقليل[3].


    [1] مع أن الصراع بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بني مرين الناشئة، كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بني مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس. وعبر القائد أبو معروف محمد بن إدريس بن عبد الحق المريني وأخوه الفارس عامر- البحر في نحو ثلاثة آلاف مقاتل جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين. وكانت حوادث الأندلس المؤسية تُحدث وقعها العميق في المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم في الدين، وكان علماء المغرب وخطباؤه وشعراؤه يبثون دعوة الغوث والإنجاد. انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/47.
    [2] كانت قد سقطت قبل ذلك بربع قرن، ودخلت في حكم الصليبيين، ولكن ظلت تحكم بالأمير المسلم –تحت سلطان النصارى- حتى ذلك الوقت.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/47-50.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط إشبيلية

    خيانة ابن الأحمر

    أوفى ابن الأحمر بالتزاماته كاملة، تلك الالتزامات التي كانت ملئت بالخزي والعار عليه وعلى الأندلسيين جميعا، وكان الاختبار الأول لابن الأحمر مع فرناندو هو مساعدة ابن الأحمر لفرناندو على سقوط إشبيلية، فقد كان ابن الأحمر أكبر معين لفرناندو الثالث على سقوط إشبيلية في يده، وهي -يومئذٍ- أعظم القواعد الأندلسية قاطبة، وقد كانت العاصمة الثانية للأندلس بعد قرطبة، لا سيما في عصر الطوائف تحت حكم بني عباد.

    فرناندو يحاصر إشبيلية



    استطاع فرناندو الثالث أن يستولي على مدينة قرمونة حصن إشبيلية الأمامي بمعاونة ابن الأحمر، وفقًا للتحالف المعقود بينهما، ثم عمد بعد ذلك إلى افتتاح باقي الحصون القريبة من إشبيلية، واستطاع ابن الأحمر بنصحه وتدخله، أن يقنع معظم أصحابها بتسليمها لملك قشتالة، مقابل تعهده بأن يحقن دماء المسلمين، وأن يمنحهم شروطًا سخية، ولم تأتِ أواسط سنة 645هـ / 1247م حتى كان ملك قشتالة قد استولى على جميع الحصون الأمامية لإشبيلية، وانتسف سائر البسائط والضِياع القريبة منها، وبدأ النصارى حصارهم لإشبيلية في جمادى الأولى سنة 645هـ/ أغسطس 1247م[1].


    التزام صاغر، وانتهاك لتعاليم الإسلام وشرائعه، وضرب لرابطة النصرة والأخوة الإسلامية، وموالاة للنصارى وأعداء الإسلام على المسلمين، ما كان من ابن الأحمر إلاَّ أن سمع وأطاع، وبكامل عدته يتقدم فرسان المسلمين الذين يتقدمون بدورهم جيوش قشتالة نحو إشبيلية، ضاربين حصارًا طويلاً وشديدًا حولها.

    يتحرك الجيش الغرناطي مع الجيش القشتالي ويحاصرون المسلمين في إشبيلية، ليس لشهر أو شهرين، إنما طيلة سبعة عشر شهرًا كاملاً، يستغيث فيها أهل إشبيلية بكل مَنْ حولهم، لكن هل يسمع من به صمم؟!
    لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا

    وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
    وَلَوْ نَارٌ نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ

    وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ([2])
    فالمغرب الآن مشغول بالثورات الداخلية، وبنو مرين يصارعون الموحدين في داخل المغرب، والمملكة الوحيدة المسلمة في الأندلس غرناطة هي التي تحاصر إشبيلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    سقوط إشبيلية



    وفي 27 من شهر رمضان سنة (646 هـ= 1248م) وبعد سبعة عشر شهرًا كاملة من الحصار الشديد، تسقط إشبيلية بأيدي المسلمين ومعاونتهم للنصارى، تسقط إشبيلية ثاني أكبر مدينة في الأندلس، تلك المدينة صاحبة التاريخ المجيد والعمران العظيم، تسقط إشبيلية أعظم ثغور الجنوب ومن أقوى حصون الأندلس، تسقط إشبيلية ويغادر أهلها البلاد، ويهجَّر ويشرَّد منها أربعمائة ألف مسلم، وواحسرتاه على المسلمين، تفتح حصونهم وتدمر قوتهم بأيديهم[3]: [الوافر]

    وَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّـى

    مَضَى بِالْمَجْدِ قَـوْمٌ آخَرُونَا
    وَأَصْبَحَ لا يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي

    وَقَدْ عَاشُـوا أَئِمَّتَهُ سِنِـينَا
    وَآلَمَنِـي وَآلَـمَ كـُلَّ حُـرٍّ

    سُؤَالُ الدَّهْرِ: أَيْنَ الْمُسْلِمُونَا؟[4]

    أين المسلمون؟! إنهم يحاصرون المسلمين! المسلمون يقتلون المسلمين! المسلمون يُشَرِّدون المسلمين!
    وعلى هذا تكون إشبيلية قد اختفت من الخارطة الإسلامية، وما زال إلى الآن مسجدها الكبير الذي أسَّسه يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصار الأرك الخالد، ما زال إلى اليوم كنيسة يُعَلَّق فيها الصليب، ويُعبد فيها المسيح بعد أن كانت من أعظم ثغور الإسلام، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!


    [1] المصدر السابق، 7/43، 44.
    [2] عمرو بن معدي كرب الزبيدي: شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ص113، والبيتان من بحر الوافر.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص384، وابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص73، وتاريخ ابن خلدون، 4/171.
    [4] ديوان هاشم الرفاعي، ص383.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مملكة غرناطة



    مملكة غرناطة



    كان الخلاف بين أبناء الأندلس في تلك الآونة العصيبة يذهب إلى حدِّ التضحية بأقدس المبادئ وأسمى الاعتبارات، وكانت وشائج القومية والدين والخطر المشترك كلها تغيض أمام الأطماع الشخصية الوضيعة، ففي العام نفسه الذي سقطت فيه جيان بعد حروب غير مؤثرة بين المسلمين والنصارى، وفي سنة (643هـ=1245م) وحماية لحقوق وواجبات مملكة قشتالة النصرانية وولاية غرناطة الإسلامية، يأتي فرناندو الثالث ملك قشتالة ويعاهد ابن الأحمر الذي يتزعم ولاية غرناطة، ويعقد معه معاهدة يضمن له فيها بعض الحقوق ويأخذ عليه بعض الشروط والواجبات[1].


    أبو عبد الله محمد بن الأحمر

    وقبل أن نتحدث عن بنود هذه الاتفاقية وتلك المعاهدة، نتعرف أولاً على أحد طرفي هذه المعاهدة وهو ابن الأحمر، فهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، والذي ينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله [2]، لكن شتَّان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر هذا، وبين سعد بن عبادة الخزرجي! وقد سُمِّي بابن الأحمر ولم يكن هذا اسمًا له، بل لقبًا له ولأبنائه من بعده حتى نهاية حكم المسلمين في غرناطة.

    معاهدة العار بين ابن الأحمر وملك قشتالة

    وكانت بنود المعاهدة التي تمت بين ملك قشتالة وبين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر هذا هي:
    دفع الجزية سنويا

    يدفع ابن الأحمر الجزية إلى ملك قشتالة، وكانت مائة وخمسين ألف دينار من الذهب سنويًّا[3]، وكان هذا تجسيدًا لحال الأمة الإسلامية، وتعبيرًا عن مدى التهاوي والسقوط الذريع بعد أفول نجم دولة الموحدين القوية المهيبة، والتي كانت قد فرضت سيطرتها على أطراف كثيرة من بلاد الأندلس وإفريقيا.


    تبعية غرناطة لقشتالة

    أن يحضر اجتماع مجلس قشتالة النيابي (الكورتيس)، باعتباره من الأمراء التابعين للعرش[4]، وفي هذا تكون غرناطة تابعة لقشتالة ضمنيًّا.

    تحكم غرناطة باسم ملك قشتالة

    أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علانية؛ وبهذا يكون ملك قشتالة قد أتم وضمن تبعية غرناطة له تمامًا[5].

    تسليم حصون جيان

    أن يسلمه ما بقي من حصون جيان- المدينة التي سقطت أخيرًا- وأرجونة وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وبذلك يكون ابن الأحمر قد سلم لفرناندو الثالث ملك قشتالة مواقع في غاية الأهمية تحيط بغرناطة نفسها[6].

    تبعية غرناطة لقشتالة عسكريا

    وهو أمر في غاية الخطورة، وهو أن يساعده في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج إلى ذلك؛ أي أن ابن الأحمر يشترك مع ملك قشتالة في حروب ملك قشتالة التي يخوضها أيًّا كانت الدولة التي يحاربها[7].



    غرناطة ولماذا يعاهدها ملك قشتالة؟


    لم تكن غرناطة -في سنة (646هـ= 1248م)- تمثل أكثر من 15٪ وهي تضم ثلاث ولايات متحدة؛ هي: ولاية غرناطة، وولاية مالقة، وولاية ألمرية، ثلاث ولايات تقع تحت حكم ابن الأحمر، وإن كان هناك شيء من الاستقلال داخل كل ولاية.
    ولنا أن نتساءل ونتعجب: لماذا يعقد فرناندو الثالث اتفاقية ومعاهدة مع هذه المملكة التي أصبح القضاء عليها ميسورًا؟! لماذا لم يأكل غرناطة كما أكل غيرها من بلاد المسلمين ودون عهود أو اتفاقيات؟!
    والواقع أن ذلك كان للأمور التالية:
    الكثافة السكانية في غرناطة

    كانت بغرناطة كثافة سكانية عالية؛ وهذا ما جعل من دخول جيوش النصارى إليها من الصعوبة بمكان، وقد كان من أسباب هذه الكثافة العالية أنه لما كانت تسقط مدينة من مدن المسلمين في أيدي النصارى كان النصارى -كما ذكرنا- ينتهجون نهجًا واحدًا، وهو إما القتل أو التشريد والطرد من البلاد.

    فكان كلما طُرد رجل من بلاده عمَّق واتجه ناحية الجنوب، فتجمَّع كل المسلمين الذين سقطت مدنهم في أيدي النصارى في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد[8]، فأصبحت ذات كثافة سكانية ضخمة، وهذا ما يصعب معه دخول قوات النصارى إليها.

    حصون غرناطة المنيعة

    كانت غرناطة ذات حصون كثيرة ومنيعة جدًّا، نشأت هذه الحصون كسبب طبيعي من جراء الحروب المتواصلة قديمًا، والتهديد المرتقب بالفناء على يد النصارى، هذه الحصون والأسوار هي نفسها التي جعلت غرناطة مملكة قوية، بل وقد نقول: إنها قد حددت حدودها، وكانت هذه الحصون تحيط بغرناطة وألمرية ومالقة[9].

    ومن هنا وافق فرناندو الثالث على عقد مثل هذه المعاهدة، وإن كانت كما رأينا معاهدة جائرة ومخزية، يدفع فيها ابن الأحمر الجزية، ويحارب بمقتضاها مع ملك قشتالة، ويتعهد فيها بألا يحاربه في يوم ما.


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/41، 42.
    [2] ابن الخطيب: الإحاطة، 2/92.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/43. مع ملاحظة أن النظام السائد في الممالك النصرانية حتى ذلك الوقت هو النظام الإقطاعي الذي يتمتع فيه الأمراء أصحاب الإقطاعيات بنفوذ واستقلال كبير في حدود إقطاعياتهم على أن يكون من واجباتهم إمداد الدولة بالأموال والضرائب، وأن تكون أموالهم وقواتهم في خدمة العرش حال احتياج المملكة إليهم.
    [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
    [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص68، وتاريخ ابن خلدون، 7/190.
    [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
    [8] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/171.
    [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/443، 444.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    دولة الموحدين .. أسباب السقوط

    دولة الموحدين .. أسباب السقوط



    قد يُفاجأ البعض ويتعجَّب لهول هذا السقوط المريع لهذا الكيان الكبير بهذه الصورة السريعة المفاجئة، فيسعى للبحث عن علله وأسبابه، وحقيقةُ الأمر أن هذا السقوط لم يكن مفاجئًا؛ فدولة الموحدين كانت تحمل في طياتها بذور الضعف وعوامل الانهيار؛ وكانت كثيرة؛ نذكر منها ما يلي:


    الظلم والقتل مع دولة المرابطين

    تعاملها بالظلم مع دولة المرابطين، وقتلها الآلاف ممن لا يستحقُّون القتل؛ وإن طريق الدم لا يمكن أبدًا أن يُثمر عدلاً، يقول ابن تيمية: «إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»[1].

    إن عاقبة الظلم وخيمة، وربما تتأخَّر عقوبة الظلم؛ لكنها -بلا شكٍّ- تقع على الظالم؛ فالله تعالى يُمْهِلُ ولا يُهْمِل، وقد أسرف الموحدون كثيرًا في إراقة دماء مَنْ خالفهم من المسلمين، بل في سفك دماء مَنْ يشكُّون في ولائه لهم ممن كانوا معهم -كما رأينا في أمر التمييز الذي قام به ابن تومرت قبل وقعة البحيرة أو البستان، التي عجَّل الله لهم العقاب فيها وقتل منهم الكثير، فقد جعل ابن تومرت الأهل يقتلون أبناءهم، بعدما أقنعهم أنهم من أهل النار، وذلك بحيلة ماكرة شاركه فيها أحد الخبثاء ممَّنْ هو على شاكلته -وهذا أمر في غاية الخطورة- لقد حذَّر النبي كثيرًا من العداء بين المسلم وأخيه المسلم، ومن التدابر والتحاسد والتناجش والتباغض، روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»[2].

    العقيدة الفاسدة وتكفير المرابطين

    العقائد الفاسدة التي أدخلها ابن تومرت على منهج أهل السنة، وبالرغم من أن المأمون قاومها وأبطلها، إلاَّ أنَّ أشياخ الموحدين ظلُّوا يعتقدون في عصمة محمد بن تومرت وفي صدق أقواله، حتى ذلك العهد؛ وهو ما جعل هذا الإصلاح كأنه ترقيع في ثوب مهلهل عقائديًّا.
    وثمة أمر آخر لا يقل خطورة عن هذا الأمر، ألا وهو تكفير المرابطين، وقد بنى ابن تومرت على هذه الفكرة جواز قتلهم وحرقهم، وسبي نسائهم، وهدم دولتهم، وتقويض بنيانها من القواعد.

    إن تكفير المسلم قضية في منتهى الخطورة، لا ينبغي لعاقلٍ بحال من الأحوال أن يقع فيها، ففي البخاري بسنده عن أبي هريرة t أنَّ رسول الله قال: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا»[3]. وعند مسلم: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ»[4].
    وقال أبو حامد الغزالي: «والذي ينبغي أن يميل المسلم إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً؛ فإن استباحة الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلة، المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة (قارورة ) من دم مسلم»[5].

    وقال ابن تيمية: «مَنْ ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه بالشكِّ، بل لا يزول إلاَّ بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة»[6].

    الثورات الداخلية

    كان من عوامل سقوط دولة الموحدين -أيضًا- الثورات الداخلية الكثيرة التي قامت داخل دولة الموحدين، وكان أشهرها ثورة بني غانية، والتي كانت في جزر البليار، وفي تونس.

    همة النصارى وفتور المسلمين

    الإعداد الجيد من قِبَلِ النصارى في مقابل الإعداد غير المدروس من قِبَل الناصر لدين الله ومَنْ تبعه بعد ذلك.

    انفتاح الدنيا على دولة الموحدين

    وهو أمر مهمٌّ وجدُّ خطير، وهو انفتاح الدنيا على دولة الموحدين، وكثرة الأموال في أيديهم، وهذا ما أدى إلى الترف والبذخ الشديد ثم التصارع على الحُكم.

    بطانة السوء

    بطانة السوء المتمثِّلة في أبي سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله ومَنْ كان على شاكلته بعد ذلك.

    ويُعَلِّق على ذلك الدكتور شوقي أبو خليل بقوله: «لقد كان الناصر ألعوبة في يد وزيره ابن جامع، الذي لم يكن مسئولاً عن هزيمة العقاب فقط، بل عن مصير الموحدين بعد الناصر أيضًا، لقد وضع ابن جامع الأسباب القوية التي أدَّت إلى تصدُّع سلطان الموحدين من أساسه.

    لقد كُتب لأسرة ابن جامع التي تولَّى كثير منها الوزارة، وعلى رأسها أبو سعيد بن جامع أن تُؤَدِّي أخطر دور في تحطيم دولة الموحدين، بمشاركة الأعراب البدو، وأشياخ الموحدين.. لقد تصرف ابن جامع - الذي يمثِّل بطانة السوء - بدولة الموحدين، فكان له أثره الخطير، ليس في ميدان السياسية الداخلية والخارجية للدولة فحسب، بل على وجود دولة الموحدين نفسه[7].

    إهمال الشورى

    إهمال الشورى من قِبَلِ الناصر لدين الله ومَنْ بعده من الأمراء، وإنها لمخالفة صريحة للقرآن الكريم؛ فالله وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال الله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. قال الحافظ ابن كثير[8]. يقول: { -رحمه الله- في تفسيره: لا يُبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه؛ ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب، وما جرى مجراها

    فهذه العوامل وغيرها اجتمعت لتُسْقِط هذا الكيان الكبير، والذي لم يبقَ منه في بلاد الأندلس إلاَّ ولايتان فقط؛ هما غرناطة وإشبيلية، ومع ذلك ظلَّ الإسلام في بلاد الأندلس لأكثر من 250 سنة من هذا السقوط المروِّع لدولة الموحدين!

    وهذه قائمة بأسماء خلفاء دولة الموحدين:
    1 - عبد المؤمن بن علي (524-558هـ=1129-1163م).
    2 - أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي (558-580هـ=1163-1184م).
    3 - أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور (580-595هـ=1184-1199م).
    4 - أبو محمد عبد الله الناصر (595-610هـ=1199-1213م).
    5 - أبو يعقوب يوسف المستنصر (611-620هـ=1213-1224م).
    6 - عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن (620-621هـ=1224م).
    7 - أبو عبد الله بن يعقوب المنصور (العادل) (621-624هـ=1224-1227م).
    8 - يحيى بن الناصر (624-627هـ=1227-1230م).
    9 - المأمون بن المنصور (627-630هـ=1231-1232م).
    10 - الرشيد بن المأمون بن المنصور (630-640هـ=1232-1242م).
    11 - السعيد علي أبو الحسن (640-646هـ=1242-1248م).
    12 - أبو حفص عمر المرتضى (646-665هـ=1248-1266م).
    13 - أبو دبوس الواثق بالله (665-668هـ=1266-1269م).


    [1] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 28/146.
    ([2]) مسلم: كتاب الصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564)، وأحمد (7713)، والبيهقي: السنن الكبرى (11830).
    ([3]) البخاري: كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5752).
    ([4]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر (60).
    ([5]) أبو حامد الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص157.
    ([6]) ابن تيمية: الفتاوى 12/466.
    ([7]) شوقي أبو خليل: العقاب، ص59، 60.
    ([8]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 7/221.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط قرطبة .. نهاية دولة الموحدين

    الأندلس بعد موقعة العقاب



    في موقف مدَّ في عُمر الإسلام في بلاد الأندلس بضع سنوات ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية، وهذا الذي اضطرهم إلى العودة إلى داخل حدودهم[1].


    ظهور دولة بني مرين

    وفي سنة (613هـ=1217م) وبعد موقعة العقاب بأربع سنوات، ونظرًا لتردِّي الأوضاع في بلاد المغرب العربي، وتولِّي المستنصر بالله أمور الحُكم، وهو بعدُ طفل لم يبلغ الرشد، ظهرت حركة جديدة من قبيلة زناتة في بلاد المغرب واستقلَّت عن حكم دولة الموحديندولة بني مرين، والتي سيكون لها شأن كبير فيما بعدُ في بلاد الأندلس[2]. هناك، وأنشأت دولة سنية هي

    سقوط ميورقة وبياسة

    وفي سنة (626هـ) سقطت جزيرة ميورقة، أكبر وأفضل جزر البليار، وبعد قليل تبعها سقوط بياسة، وهي صغرى جزر البليار، وبقيت الجزيرة الوسطى (جزيرة منورقة) دهرًا تحت حكم المسلمين لكن تحت طاعة النصارى وفي حكمهم[3].

    ظهور دولة الحفصييين

    وفي العام التالي (627هـ) استقلَّ بنو حفص بتونس، وانفصلوا بها عن دولة الموحدين[4].

    الصراع داخل الموحدين

    وقد دار صراع شديد على السلطة بعد وفاة المستنصر بالله؛ حيث لم يكن قد استخلف بعدُ، فتولَّى عمُّ أبيه عبد الواحد من بعده، إلاَّ أنه خُلع وقُتل، ثم تولَّى من بعده عبد الله العادل، وعلى هذا الحال ظلَّ الصراع، وأصبح الرجل يتولَّى الحُكم مدَّة أربع أو خمس سنوات فقط ثم يُخلع أو يُقتل، ويأتي غيره وغيره، حتى سارت الدولة نحو هاوية سحيقة.

    استقلال ابن هود

    وفي سنة (625هـ=1228م) استقلَّ رجل يُسَمَّى ابن هود بشرق وجنوب الأندلس، وكان كما يصفه المؤرخون: مفرطًا في الجهل، ضعيف الرأي، لم يُنصر له على النصارى جيش[5].

    وفي سنة (633هـ=1236م) حدث حادث خطير ومروع، إنه حادث سقوط قرطبة حاضرة الإسلام[6].

    سقوط قرطبة

    في موقف لا نملك حياله إلاَّ التأسُّف والندم، في سنة (633هـ=1236م) وبعد حصار طال عدَّة شهور، وبعد استغاثة بابن هود الذي كان قد استقلَّ بدولته جنوب وشرق الأندلس، والذي لم يُعِرِ اهتمامًا لهذه الاستغاثات؛ بسبب كونه منشغلاً بحرب ابن الأحمر، ذلك الأخير الذي كان قد استقلَّ -أيضًا- بجزء آخر من بلاد الأندلس، في كل هذه الظروف سقطت قرطبة، سقطت حاضرة الإسلام في بلاد الأندلس.



    وكان أمرًا غاية في القسوة حين لم يجد أهل قرطبة بُدًّا من الإذعان والتسليم والخروج من قُرْطُبَة، وكان الرهبان مصرِّين على قتلهم جميعهم، لكن فرناندو الثالث ملك قشتالة رفض ذلك؛ خشية أن يُدَمِّرَ أهلُ المدينة كنوزها وآثارها الفاخرة، وبالفعل خرج أهلها متَّجِهين جنوبًا تاركين كل شيء، وتاركين حضارة ومنارة ومجدًا عظيمًا كانوا قد خَلَّفوه[7].


    سقطت قرطبة التي أفاضت على العالم أجمع خيرًا وبركة، وعلمًا ونورًا، سقطت قرطبة صاحبة ثلاثة آلاف مسجد، وصاحبة ثلاثة عشر ألف دار، سقطت قرطبة عاصمة الخلافة لأكثر من خمسمائة عام، سقطت قرطبة صاحبة أكبر مسجد في العالم، سقطت جوهرة العالم قرطبة.

    سقطت قرطبة في 23 من شهر شوال لسنة 633هـ.. سقطت وفي يوم سقوط قرطبة تحوَّل مسجدها الجامع الكبير إلى كنيسة، وما زال كنيسة إلى اليوم، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله!

    سقوط ممالك الأندلس

    موقعة أنيشة وسقوط بلنسية

    بعد سقوط قرطبة وفي سنة (635هـ=1237م) استقلَّ بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود في السنة نفسها، وسيكون لهم شأن كبير في بلاد الأندلس على نحو ما سنُبَيِّنه، وفي سنة (636هـ=1237م) وبعد استقلال ابن الأحمر بغرناطة بسنة واحدة، وبعد حصار دام خمس سنوات متصلة سقطت بلنسية على يد ملك أراجون بمساعدة فرنسا، وكان حصارًا شديدًا كاد الناس أن يهلكوا جوعًا، وكان خلاله عدَّة مواقع؛ أشهرها موقعة أنيشة سنة (634هـ=1237م) التي هلك فيها الكثير من المسلمين من بينهم الكثير من العلماء.

    وكان بنو حفص في تونس قد حاولوا مساعدة بلنسية بالمؤن والسلاح، لكن الحصار كان شديدًا، حتى اضطروا لترك البلد تمامًا في سنة (636هـ=1239م) وهُجِّر خمسون ألفًا من المسلمين إلى تونس، وتحوَّلت للتَّوِّ كلُّ مساجد المسلمين إلى كنائس، وكانت هذه سياسة مُتَّبَعة ومشهورة للنصارى في كل البلاد الإسلامية التي يُسيطرون عليها، إمَّا القتل وإمَّا التهجير[8].

    سقوط دانية وجيان



    وفي سنة (641هـ=1243م) سقطت دانية بالقرب من بلنسية[9]، وفي سنة (643هـ=1245م) سقطت جيان[10]، وهكذا لم يبقَ في بلاد الأندلس إلاَّ ولايتان فقط؛ ولاية غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي، تمثلان حوالي ربع بلاد الأندلس[11].


    هذا مع الأخذ في الاعتبار أن كل ولايات إفريقيا قد استقلَّت عن دولة الموحدين، فسقطت بذلك الدولة العظيمة المهيبة المتسعة البلاد المترامية الأطراف.


    [1] الحميري: الروض المعطار، ص6، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/124.
    [2] تاريخ ابن خلدون، 6/251.
    [3] حتى سقطت سنة 686هـ.
    [4] السلاوي: الاستقصا، 2/240.
    [5] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص278، وتاريخ ابن خلدون، 4/168، والمقري: نفح الطيب، 1/215، 4/464.
    [6] تاريخ ابن خلدون، 4/169، والحميري: الروض المعطار، ص459، والمقري: نفح الطيب، 1/448.
    [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 6/424.
    [8] تاريخ ابن خلدون، 4/176، والمقري: نفح الطيب، 4/460.
    [9] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص61.
    [10] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 6/468.
    [11] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/206

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    موقعة العقاب

    البابا والحرب الصليبية

    في الوقت الذي كان فيه الناصر لدين الله مشغولا في القضاء على ثورات بني غانية كانت هناك تعبئة روحية عالية في جيش النصارى، يقودها البابا في روما بنفسه، وقد أعلنوها حربًا صليبية، وراحوا يُضْفُون عليها ألوانًا من القداسة[1].

    وقد زاد الأمر تعقيدًا إرسالُ البابا رسالة إلى مملكة نافار - وكانت قد وَقَّعت معاهدة مع المنصور الموحدي قبل وفاته - يحضُّها فيها على نبذ المعاهدة التي مع الموحدين، وعلى استعادة العلاقة مع القشتاليين، وكان القشتاليون - كما ذكرنا - قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، لكن البابا الآن يُريد منهم التوحد في مواجهة الصفِّ المسلم، فخاطب ملك نافار بنقض عهده مع المسلمين ومحالفة ملك قشتالة، فما كان منه إلاَّ أن أبدى السمع والطاعة[2].

    تكون دول أوربا بذلك قد توحَّدت، وبلغ عدد جيوشها مائتي ألف نصراني، يَتَقَدَّمُهم الملوك والرهبان نحو موقعة فاصلة بينهم وبين المسلمين.

    الناصر يعلن الجهاد

    في مقابل جيوش النصارى تلك كان الناصر لدين الله قد أعلن الجهاد، وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس وقد بلغ الجيش عددًا عظيمًا أوصلته بعض الروايات إلى نصف مليون، وإن كنا نرى في هذا العدد مبالغة كبيرة بالقياس للظروف التاريخية لهذه الفترة[3].

    الطريق نحو العقاب

    انطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق، ثم توجَّه إلى ذهب إلى إشبيلية، ثم إلى سلبطرة، ثم عاد إلى إشبيلية، ثم ذهب إلى العقاب، وفي طريقه إلى العقاب بقي فترة في ظاهر جيان، وعُرفت منطقة العقاب بهذا الاسم لوجود قصر قديم كان يحمل هذا الاسم في تلك المنطقة- وهي تلك المنطقة التي دارت فيها الموقعة، وقد كانت -وسبحان الله- اسمًا على مسمى، فكانت بحقٍّ عقابًا للمسلمين على مخالفات كثيرة، ظهر بعضها سابقًا وسيظهر الباقي تباعًا[4].


    دخل الناصر لدين الله أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وفي أول عمل حربي له حاصر قلعة سلبطرة، وكانت قلعة كبيرة وحصينة جدًّا، وبها عدد قليل من النصارى، وكانت تقع في الجبل جنوب طليطلة، لكنَّ حصانة القلعة أعجزت المسلمين عن فتحها، حتى كاد الناصر أن يتجاوزها؛ إلا أن الوزير ابن جامع أصر على ضرورة فتح القلعة فبقيت الجيوش تحاصر القلعة[5].


    الاستبداد وبداية الهزيمة

    كان من جرَّاء هذا العمل الذي قام به الناصر لدين الله أن حدث ما يلي:
    أولاً: إضاعة الوقت في حصار قلعة سلبطرة، وقد كان من الممكن أن يُهاجَم النصارى بهذا الجيش الكثيف قبل أن يتجمَّعُوا في كامل عُدَّتهم.

    ثانيًا: أكمل النصارى استعداداتهم خلال هذه الفترة الطويلة، واستطاعوا أن يستجلبوا أعدادًا أخرى كثيرة من أوربا.

    ثالثًا: أصاب الضرر الآلاف من المسلمين من صقيع جبال الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث كان الناصر لدين الله قد دخل بلاد الأندلس في شهر مايو، وكان مناسبًا جدًّا للقتال، إلاَّ أنه ظلَّ يُحَاصر سَلْبَطْرَة حتى قَدِم الشتاء القارس، وبدأ المسلمون يهلكون من شدَّة البرد، وشدَّة الإنهاك في هذا الحصار الطويل[6].

    أبو الحجاج يوسف بن قادس

    انسحابه وانحيازه إلى الناصر

    في بدايةٍ لحربٍ فاصلة قُسِّم الجيش النصراني القادم من الشمال إلى ثلاثة جيوش كبيرة، فالجيش الأول: هو الجيش الأوربي، والجيش الثاني: هو جيش إمارة أراجون، والجيش الثالث: هو جيش قشتالة والبرتغال وليون ونافار، وهو أضخم الجيوش جميعها[7].

    قامت هذه الجيوش الثلاث بحصار قلعة رباح، وهي قلعة إسلامية كان قد تملكها المسلمون بعد موقعة الأرك، وكان على رأسها القائد البارع الأندلسي الشهير أبو الحجاج يوسف بن قادس -رحمه الله- وهو من قادة الأندلس المشهورين، حوصرت قلعة رباح حصارًا طويلاً من قِبَل الجيوش النصرانية، وقد طال أمد الحصار حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يفلت منه، كما بدأت بعض الحوائط في هذه القلعة تتهاوى أمام جيش مملكة أراجون.
    أراد أبو الحجاج يوسف بن قادس أن يُحَقِّقَ الأمن والأمان لمَنْ في الحصن من المسلمين، وأراد أن يتحيَّز إلى فئة المؤمنين وينضمَّ إلى جيش المسلمين، فعرض على النصارى معاهدة تقضي بأن يترك لهم القلعة بكامل المؤن وكامل السلاح، على أن يخرج هو ومَنْ معه من المسلمين سالمين؛ ليتجهوا جنوبًا فيلتقوا بجيش الموحدين هناك ودون مؤن أو سلاح، فوافق ألفونسو الثامن على هذا العرض، وبدأ بالفعل انسحاب أبي الحجاج يوسف بن قادس من الحصن ومَنْ معه من المسلمين، وقد اتجهوا إلى جيش الناصر لدين الله.

    ولأن الوليمة ليست قصرًا على ألفونسو الثامن، فقد اعترض على هذا الانسحاب جيش النصارى الأوربي المتحد مع جيش قشتالة.. فقد كانوا يَرَوْنَ أنهم ما أتوا من أبعد بلاد أوربا ومن إنجلترا وفرنسا والقسطنطينية إلاَّ لقتل المسلمين؛ فلا يجب أبدًا أن يُتركوا ليخرجوا سالمين.

    وقد فعل ألفونسو الثامن ذلك حتى إذا حاصر مدينة أخرى من مدن المسلمين يفتحون له كما فعل سابقوهم؛ لأنه لو قاتلهم بعد العهد الذي أبرمه معهم فلن يفتح له المسلمون بعد ذلك مدنهم، فاختلف الأوربيون مع ألفونسو الثامن، وعليه فقد انسحبوا من الموقعة[8].

    وبذلك يكون قد انسحب من موقعة العقاب وقبل خوضها مباشرة خمسون ألفًا من النصارى، وبالطبع فقد كان هذا نصرًا معنويًّا وماديًّا كبيرًا للمسلمين، وهزيمة نفسية وهزَّة كبيرة في جيش النصارى، وقد أصبح جيش المسلمين بعد هذا الانسحاب أضعاف جيش النصارى[9].

    بطانة السوء وقتل أبي الحجاج يوسف بن قادس

    عندما عاد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر لدين الله، وعندما علم منه أنه قد ترك قلعة رباح وسَلَّمَها بالمؤن والسلاح إلى النصارى، أشار عليه وزير السوء أبو سعيد بن جامع بقتله؛ بتهمة التقاعس عن حماية القلعة، ولم يتردَّد الناصر لدين الله، في تنفيذ هذا القتل بحق القائد المجاهد أبي الحجاج يوسف بن قادس[10].

    وإن هذا - وبلا شكٍّ - ليُعَدُّ خطأ كبيرًا من الناصر لدين الله، وعملاً غير مُبَرَّر، ويُضاف إلى جملة أخطائه السابقة؛ وذلك للآتي:
    أولاً: أن أبا الحجاج يوسف بن قادس لم يُخطئ بانسحابه هذا؛ بل كان متحرِّفًا لقتال، ومتحيِّزًا إلى الجيش المتأهِّب للحرب، كما أنه لو مكث لهلك، ولو لم يهلك لكانت قد حُيِّدَت قواته عن الاشتراك في الموقعة؛ بسب الحصار المفروض عليها.

    ثانيًا: وعلى فرض أن أبا الحجاج يوسف بن قادس قد أخطأ، فلم يكن - على الإطلاق - عقاب هذا الخطأ القتل؛ خاصة وأنه لم يتعمَّده، بل كان اجتهادًا منه.

    وإن مثل ذلك قد حدث في حروب الردَّة حينما أخطأ عكرمة بن أبي جهلt في إحدى المعارك، وكان خليفة المسلمين حينئذٍ أبا بكر الصديق t، فما كان من أبي بكر في معالجة خطأ عكرمة إلاَّ أن عَنَّفَه باللسان وأوضح له خطأه، ثُمَّ أعاده مع جيشه من جديد إلى القتال؛ لمساعدة جيش آخر من جيوش المسلمين، بل أرسل إلى قائد هذا الجيش الآخر -يرفع من رُوح عكرمة وجيشه - بأن يستعين برأي عكرمة بن أبي جهل فإنَّ له رأيًّا[11].

    ومن هنا وبهذه الطريقة وبجانب فَقْدِ قوَّة كبيرة جدًّا (بفقد هذا القائد البارع)، فقد فقَدَ الجيش الإسلامي -أيضًا- قوَّة الأندلسيين، الذين شعروا أن هناك فارقًا بينهم وبين المغاربة؛ مما كان له أثر سلبي كبير على واقع المعركة، على نحو ما سيأتي بيانه.

    وفي ذلك يقول المقري في نفح الطيب: وهذه الوقعة - العقاب - هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعًا، وما ذاك إلاَّ لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخفَّ بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيَّات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، ولم تقم بعدها -أي: بعد موقعة العقاب- للمسلمين قائمة تحمد[12].

    خطة الناصر لدين الله ومتابعة الأخطاء

    تكملة للأخطاء السابقة فقد وضع الناصر لدين الله خطة شاذَّة في ترتيب جيشه وتقسيمه، حيث لم يَسِر فيه على نهج السابقين، ولم يقرأ التاريخ كما قرأه المنصور الموحدي ويوسف بن تاشفين.. فقد قَسَّم جيشه إلى فرقة أمامية وفرقه خلفية، لكنه جعل الفرقة الأمامية من المتطوِّعين، وعددهم ستون ألفًا ومائة ألف متطوِّع، وضعهم في مقدمة الجيش ومِنْ خلفهم الجيش النظامي الموحدي[13].
    وإنْ كان هؤلاء المتطوعة الذين في المقدمة متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فليست لهم الخبرة والدراية بالقتال، كما هو الحال بالنسبة لتلك الفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي النصارى، والتي هي في مقدمة جيشهم.

    فكان من المفترض أن يضع الناصر لدين الله في مقدمة الجيش القادرين على صدِّ الهجمة الأولى للنصارى؛ وذلك حتى يتملَّك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع بذلك من معنويات المسلمين ويحطَّ من معنويات النصارى، لكن العكس هو الذي حدث؛ حيث وضع المتطوعة في المقدمة.

    ولقد زاد من ذلك -أيضًا- فجعل الأندلسيين في ميمنة الجيش، وما زال الألم والحرقة تكمن في قلوبهم من جرَّاء قتل قائدهم الأندلسي المجاهد المغوار أبي الحجاج يوسف بن قادس، فكان خطأ كبيرًا -أيضًا- أن جعلهم يتلقَّوْنَ الصدمة الأولى من النصارى[14].

    فنستطيع الآن حصر أخطاء الناصر لدين الله وهو في طريقه نحو العقاب على النحو التالي:

    أولاً: إطالة الحصار لقلعة سلبطرة حتى تمكَّن النصارى من الاستعداد والتجهز.
    ثانيًا: الاستعانة ببطانة السوء، الممثِّلة في وزير السوء أبي سعيد بن جامع.
    ثالثًا: قتل القائد الأندلسي المشهور أبي الحجاج يوسف بن قادس.
    رابعًا: تنظيم الجيش وتقسيمه الخاطئ في أرض الموقعة.
    خامسًا: أمر في غاية الخطورة وهو الاعتقاد في قوَّة العدد والعدَّة، فقد دخل الناصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنه لا محالة منتصر[15]؛ فجيشه أضعاف الجيش المقابل، ومن هنا تتبدَّى في الأفق سحائب حنين جديدة، يخبر عنها بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
    موقعة العقاب.. والعقاب المر



    تمامًا وكما تكرَّرت غزوة حنين في أرض الأندلس قبل ذلك في بلاط الشهداء، وفي موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر وهو في أعظم قوَّته، تتكرَّر حُنين -أيضًا- مع الناصر لدين الله في موقعة العقاب وهو في أعظم قوَّة للموحدين، وفي أكبر جيش للموحدين على الإطلاق، بل وفي أكبر جيوش المسلمين في بلاد الأندلس منذ أن فُتحت في سنة (92هـ=711م)، ولتوالي الأخطاء السابقة كان طبيعيًّا جدًّا أن تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة النصارى، لكنهم ارتطموا ارتطامًا شديدًا بقلب القشتاليين المدرَّب على القتال، فصدُّوهم بكل قوَّة ومزَّقوا مقدِّمة المسلمين، وقتلوا منهم الآلاف في الضربة الأولى لهم.


    واستطاعت مُقَدِّمة النصارى أن تخترق فرقة المتطوِّعة بكاملها، والبالغ عددهم - كما ذكرنا- ستين ألفًا ومائة ألف مقاتل، وقد وصلوا إلى قلب الجيش الموحدي النظامي، الذي استطاع أن يصدَّ تلك الهجمة، لكن كانت قد هبطت وبشدَّة معنويات الجيش الإسلامي؛ نتيجة قتل الآلاف منهم، وارتفعت كثيرًا معنويات الجيش النصارى للنتيجة نفسها.

    وحين رأى ألفونسو الثامن ذلك أطلق قوات المدد المدرَّبة لإنقاذ مقدمة النصارى، وبالفعل كان لها أثر كبير، وعادت من جديد الكرَّة للنصارى.

    وفي هذه الأثناء حدث حادث خطير في جيش المسلمين، فحين رأى الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين، واستشهاد الآلاف منهم، إضافة إلى كونهم يُقاتلون مرغمين مع الموحدين -كما ذكرنا قبل ذلك- وأيضًا كونهم يعتقدون بالعدد وليس في الثقة بالله ، كل هذه الأمور اعتملت في قلوبهم، ففرُّوا من أرض القتال.

    وحين فَرَّت ميمنة المسلمين من أرض الموقعة التفَّ النصارى حول جيش المسلمين، وبدأت الهلكة فيهم، فقُتل الآلاف من المسلمين بسيوف النصارى في ذلك اليوم، والذي سُمِّي بيوم العقاب أو معركة العقاب[16].

    هُزم المسلمون هزيمة قاسية، وفرَّ الناصر لدين الله من أرض الموقعة، ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر، والمصاب في كل أجزاء جسده الكبير.

    وقد قال الناصر لدين الله وهو يفرُّ: صدق الرحمن وكذب الشيطان([17]). حيث دخل الموقعة وهو يعلم أنه منصور بعدده، فعلم أن هذا من إلقاء الشيطان وكذبه، وصدق الرحمن: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فولَّى الناصر لدين الله مدبرًا.

    ومما زاد من مرارة الهزيمة أنه ارتكب خطأً آخر لا يقلُّ بحالٍ من الأحوال عن هزيمته المنكرة السابقة وفراره من أرض المعركة، وهو أنه لم يمكث بعد موقعة العقاب في المدينَة التي تلي مباشرة مدينة العقاب، وهي مدينة بياسة، بل فرَّ وترك بَيَّاسَة، ثم ترك أبذة، ترك كلتيهما بلا حامية وانطلق إلى مدينة إشبيلية[18]، وما زالت قوَّة النصارى في عظمها، وما زالت في بأسها الشديد.


    مآسي المسلمين بعد العقاب

    مأساة بياسة

    انطلقت قوَّة النصارى بعد عقاب المسلمين وهزيمتهم تلك في موقعة العقاب فاقتحمت بياسة، وكان أهلها قد هجروها خوفًا على أنفسهم، ولم يبقَ فيها إلاَّ الضعفاء والمرضى، وكانوا قد اجتمعوا بالمسجد الجامع الكبير في المدينة للاحتماء به، فقام النصارى بقتلهم جميعًا بالسيف.. قال المراكشي في المعجب: «فأما بياسة فوجدها - أي ألفونسو - أو أكثرها خالية فحرق أدؤرها وخرب مسجدها الأعظم»[19].

    مأساة أبذة

    قال صاحب الروض المعطار: أبذة مدينة بالأندلس بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جدًّا، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب، وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها، كما فعل جيرانها أهل بَيَّاسَة، ولم ترفع تلك الجموع يدًا عن قتالها حتى ملكتها بالسيف، وقُتل فيها كثير، وأسروا كثيرًا[20].

    وقال المراكشي في المعجب: ونزل -أي ألفونسو- على أُبَّذة، وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كبير من المنهزمة وأهل بَيَّاسَة وأهل البلد نفسه، فأقام عليها ثلاثة عشر يومًا، ثم دخلها عَنْوة، فقتل وسبى وغنم، وفصل هو وأصحابه من السبي من النساء والصبيان بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشدَّ على المسلمين من الهزيمة![21]

    وقد تدهور حال المسلمين كثيرًا في كل بلاد المغرب والأندلس على السواء، حتى قطع المؤرخون بأنه بعد موقعة العقاب ما كنتَ تجد شابًّا صالحًا للقتال لا في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس، فكانت موقعة واحدة قد بَدَّدت وأضاعت دولة في حجم وعِظَم دولة الموحدين[22].

    ثم إنَّ الناصر لدين الله قد انسحب أكثر مما كان عليه، فانسحب من إشبيلية إلى بلاد المغرب العربي، ثم اعتكف في قصره، واستخلف ابنه وليًّا للعهد من بعده، وهو بعدُ لم يتجاوز خمس عشرة من السنين.

    وفاة الناصر لدين الله

    ثم تُوُفِّيَ الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد في سنة (610هـ=1214م) عن عمرٍلم يتجاوز الرابعة والثلاثين، وتروي بعض المصادر أنه مات وهو عازم على الجهاد في الأندلس «عزمًا لم يُعرف عن ملك قبله»[23]. وتولَّى حكم البلاد من بعده وليُّ عهده وابنه المستنصر بالله، وعمره آنذاك ست عشرة سنة فقط[24].

    ومن جديد وكما حدث في عهد ملوك الطوائف تضيع الأمانة، ويُوَسَّد الأمر لغير أهله، وتتوالى الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة من العلو والسيادة والتمكين لدولة الموحدين.


    [1] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص263، 264، والحميري: الروض المعطار، ص416، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/109، وما بعدها.
    [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص264.
    [3] المقري: نفح الطيب، 1/446 والسلاوي: الاستقصا، 2/220، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عصر المرابطين والموحدين 2/108.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260 – 265، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/249.
    [5] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص236، والسلاوي: الاستقصا، 2/221، وثمة رواية أخرى ولها دلائل كثيرة تقول بأن فتح هذه القلعة كان في غزوة مستقلة، انظر: الحميري: الروض المعطار ص344، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399.
    [6] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/108.
    [7] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/112.
    [8] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص401، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، والسلاوي: الاستقصا، 2/222، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
    [9] شوقي أبو خليل: العقاب، ص34، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
    [10] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249.
    [11] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/275.
    [12] المقري: نفح الطيب، 4/383.
    [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص239، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
    [14] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
    [15] انظر: المقري: نفح الطيب، 4/383، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
    [16] انظر: شوقي أبو خليل: العقاب، ص45، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/119.
    [17] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص239، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
    [18] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص240، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
    [19] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
    [20] الحميري: الروض المعطار، ص6.
    [21] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
    [22] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/446.
    [23] مجهول: الحلل الموشية، ص161،وابن الخطيب: رقم الحلل، ص60،والسلاوي: الاستقصا، 2/225.
    [24] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص404، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 22/340، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/250، والسلاوي: الاستقصا، 2/226.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الناصر لدين الله الموحدي


    الناصر لدين الله

    لقي المنصور الموحدي ربه في سنة (595هـ= 1199م) عن عُمر لم يتعدَّى الأربعين سنة، تمَّ له فيه حُكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة؛ من سنة (580هـ=1185م) وحتى وفاته في سنة (595هـ=1199م)، ثم تولَّى من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله، وعمره آنذاك سبعة عشرة سنة وأشهر[1]، ورغم أن صِغَر السنِّ ليس به ما يشوبه في ولاية الحُكم خاصة وقد رأينا من ذلك الكثير، إلاَّ أنَّ الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في أمور القيادة.

    وكان المنصور الموحدي قد استخلف ابنه الناصر لدين الله قبل وفاته على أمل أن يُمِدَّ الله في عمره؛ فيستطيع الناصر لدين الله أن يكتسب من الخبرات ما يُؤَهِّله لأن يُصبح بعد ذلك قائدًا فذًّا على شاكلة أبيه، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي عن عُمر لم يتجاوز الأربعين عامًا وضع الناصر لدين الله على رئاسة البلاد وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره[2].

    عقبات في طريق الناصر

    بنو غانية



    كان الناصر لدين الله شابًّا طموحًا قويًّا مجاهدًا[3]، لكنه لم يكن في كفاءة أبيه، وفضلاً عن هذا فقد كانت البلاد محاطة بالأعداء من كل جانب، والنصارى بعدُ لم ينسوا هزيمتهم في معركة الأرك، التي كانت قبل سنوات قلائل، ويُريدون أن يُعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين.


    لكن المشكلة التي ما فتئت تؤرق الموحدين، وتمثل شوكة في ظهر المسلمين، هم بنو غانية، والحقيقة أن بني غانية قاموا بأسوأ دور يمكن أن يقوموا به، ولقد كان المنصور قد عزم على أن يواصل الجهاد حتى يقضي على التهديد النصراني الإسباني نهائيًّا؛ لولا أن استغل هؤلاء انشغاله بالجهاد في الأندلس فنشطوا حركتهم في إفريقية مرة أخرى؛ حتى كان تمردهم هذا من أسباب قبوله بمهادنة النصارى، فلما مات المنصور زاد نشاطهم وتكثف، فبدأت الخلخلة والاضطرابات تتزايد داخل الدولة الإسلامية الكبيرة، وفي سبيل استعادة الوضع إلى ما كان عليه وجَّه الناصر لدين الله جُلَّ طاقته للقضاء على ثورات بني غانية داخل دولة الموحدين، فخاض معهم معارك وحروب كثيرة، حتى استطاع في نهاية الأمر إخمادها تمامًا، وكان على محمد الناصر أن يبدأ عهده بالعمل على استئصال شوكتهم، فوجَّه الحملات، وتوجَّه هو بنفسه إلى إفريقية لحرب بني غانية فيها، وعاد سنة (604هـ) بعدما تمكَّن من الاستيلاء على المدن التي استولوا عليها من قبل في إفريقية[4].

    هجمات ألفونسو الثامن على الموحدين

    في هذه الأثناء التي كان يسعى فيها الناصر لدين الله للقضاء على ثورات بني غانية، كان قد تجدَّد الأمل عند ألفونسو الثامن، فعمل على تجهيز العُدَّة لرَدِّ الاعتبار، وقبل انتهاء الهدنة ومخالفةً للمعاهدة التي كان قد عقدها مع المنصور الموحدي قبل موته، هجم ألفونسو الثامن على بلاد المسلمين، فنهب القرى وأحرق الزروع، وقتل العُزَّل من المسلمين، وكانت هذه بداية حرب جديدة ضد المسلمين[5].

    اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى

    إضافة إلى ضعف كفاءة القيادة في دولة الموحدين المتمثِّلة في الناصر لدين الله، والتي لم تكن بكفاءة السابقين، فقد كان ثمة عيب خطير آخر في القيادة، كان متأصلاً في أجداده من قبله، وهو اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى[6]، ذلك العيب الذي تفاداه أبوه من قبله، فأفلح وساد وتمكَّن، ونصره الله ، وفوق هذا وذاك فكان المسلمون قد أُنْهِكُوا في رَدِّ الثورات المتتالية لبني غانية داخل دولة الموحدين.

    وزاد من ذلك أمر آخر كان في غاية الخطورة، وهو أن الناصر لدين الله كان قد استعان ببطانة سوء، ووزير ذميم الخلُق وسيئ التدبير والسياسة يُدْعَى أبا سعيد بن جامع، والذي شكَّ كثير من المؤرخين في نياته، وشكَّ كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته[7].

    وقد كان لتلك العيوب أثرها الكبير في هزيمة الموحدين في موقعة العقاب، والتي سوف نفصَّل أحداثها في المقال القادم إن شاء الله.

    أشهر علماء الأندلس في عهد الناصر

    ابن جبير (540-614هـ=1145-1217م)

    هو العلامة أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أديب رحَّالة، وُلِدَ سنة (540هـ) ببَلَنْسِيَة، تعلم القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدَّم في صناعة الشعر والكتابة[8]، من أشهر مؤلفاته (رحلة ابن جبير)، و(نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان)، وهو ديوان شعره، و(نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح) وهو مجموع ما رثى به زوجته (أم المجد)[9].
    ومن شعره: [المنسرح]
    تَأَنَّ فِي الأَمْرِ لا تَكُنْ عَجِلاً

    فَمَنْ تَأَنَّى أَصَابَ أَوْ كَادَا
    وَكُنْ بِحَبْـلِ الإِلَـهِ مُعْتَصِمًا

    تَأْمَنُ مَنْ بَغْيِ كَيْدِ مَنْ كَادَا
    فَكَمْ رَجَاهُ فَنَالَ بُغْيَتَهُ

    عَبْدٌ مُسِيءٌ لِنَفْسِهِ كَـادَا
    وَمَنْ تَطُلْ صُحْبَةُ الزَّمَانِ لَهُ

    يَلْقَ خُطُوبًا بِهِ وَأَنْكَادَا[10]

    ومن شعره -أيضًا- قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنًا نضيرًا من أحد بساتينها فذوى[11] في يده: [مجزوء الرجز]
    لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ

    وَاذْكُرْ تَصَارِيفَ النَّوَى
    أَمَا تَرَى الْغُصْنَ إِذَا

    مَا فَارَقَ الأَصْلَ ذَوَى[12]

    ومن إبداعابن جبير في النثر ما أورده صاحب نفح الطيب أن ابن جبير قال في رحلته في حقِّ دمشق: جنَّة المشرق، ومطلع حسنه المُونِق المشرق، هي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تَحَلَّت بأزاهير الرياحين، وتجلَّت في حلل سندسية من البساتين، وحلَّت من موضع الحُسن بمكان مكين، وتزيَّنت في منصَّتها أجمل تزيين، وتشرَّفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى رَبْوَةٍ ذات قَرَار ومَعِين، وظلٍّ ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مَذانبه انسيابَ الأراقم بكل سبيل، ورياض يُحيي النفوسَ نَسِيمُها العليل، تتبرَّج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلمُّوا إلى مُعَرَّس للحُسن ومَقيل، قد سئمتْ أرضها كثرة الما، حتى اشتاقت إلى الظَّما، فتكاد تناديك بها الصُّمُّ الصلاب، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، قد أحدقَتْ بها البساتينُ إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهَر، وامتدَّتْ بشرقيها غُوطَتُها الخضراء امتداد البصر، فكلُّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قَيْدُ النظر، وللهِ صِدْقُ القائلين فيها: إن كانت الجنَّة في الأرض فدمشق لا شكَّ فيها، وإن كانت في السماء؛ فهي بحيث تُسامتها وتحاذيها! [13].

    ومن ثناء العلماء عليه قول لسان الدين بن الخطيب في حقِّه: إنَّه من علماء الأندلس بالفقه والحديث، والمشاركة في الآداب. وقول المقري في نفح الطيب: وكان أبو الحسين بن جبير المترجم قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها[14].

    تُوُفِّيَ ابن جبير بالإسكندرية في 29 من شعبان سنة (614هـ) [15].

    ابن القرطبي (556-611هـ=1161-1214م)

    هو عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري مالقي، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويُعرف بالقرطبي، ولد بمالقة لثمانٍ بقين من ذي القعدة سنة (565هـ)، الموافق لشهر نوفمبر 1161م[16].

    كان -كما يوصف- كاملَ المعارف، صدرًا في المقرئين والمجوِّدين، رئيس المحدِّثين وإمامهم، واسع المعرفة، مُكْثِرًا، ثقةً، عدلاً، أمينًا، مَكِينَ الرواية، رائق الخطِّ، نبيل التقييد والضبط، ناقدًا، ذاكرًا أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حُلُّوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النظر، متيقِّظًا، متوقِّد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دَمِثًا، متواضعًا، حسن الخلق، مُحَبَّبًا إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقورًا، مُعَظَّمًا عند الخاصَّة والعامَّة، دَيِّنًا، زاهدًا، ورعًا، فاضلاً، نحويًّا ماهرًا، ريَّان من الأدب[17].
    قال تلميذه الأثير جعفر بن زعرور: بِتُّ معه ليلة في دُوَيْرَتِه التي كانت له بجبل فَارَه[18] للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنتُ فيها يقظانًا، وهو ضاحك مسرور، يَشِدُّ يده كأنَّه ظفر بشيء نفيس، فسألتُه، فقال: رأيت كأن الناس قد حُشروا في العَرْضِ على الله، وأُتِيَ بالمحدِّثين، وكنتُ أرى أبا عبد الله النميري يُؤْتى به، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيُعطى براءته من النار، ثم يُؤْتَى بي، فأُوقِفت بين يدي ربِّي، فأعطاني براءَتي من النار، فاستيقظتُ، وأنا أشدُّ عليها يدي اغتباطًا بها وفرحًا، والحمد لله[19].

    وقد ألف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع، ولخَّص أسانيد الموطأ، وله كتاب (المُبْدِي لخطأ الرُّندي)، وألف في القراءات أيضًا.

    وقد تُوُفِّيَ ابن القرطبي في السابع من ربيع الآخر سنة (611هـ)[20].


    [1] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص386.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص230.
    [3] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص386.
    [4] عبد الواحد المراكشي المعجب، ص398، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249.
    [5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص398، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص233، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
    [6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
    [7] انظر: السلاوي: الاستقصا، 2/221.
    [8] المقري: نفح الطيب، 2/382.
    [9] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/234.
    [10] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 22/46، 47.
    [11] ذوى: ذبل ويبس. ابن منظور: لسان العرب، مادة ذوي 14/290، والمعجم الوسيط 1/318.
    [12] المقري: نفح الطيب، 2/382.
    [13] المقري: نفح الطيب، 2/386، 387.
    [14] المصدر السابق، 2/487.
    [15] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/239.
    [16] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/408.
    [17] المصدر السابق، 3/405.
    [18] جبل فاره: جبل يشرف على مدينة مالقة من ناحية الجنوب الشرقي. انظر: لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 1/506، حاشية رقم 4.
    [19]ابن خلدون:، 3/406، 407.
    [20] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/408.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الشاطبي .. عالم القراءات


    الإمام الشاطبي



    هو كما يصفه الذهبي في السير: الشيخ الإمام، العالم العامل، القدوة، سيد القرَّاء، أبو محمد، وأبو القاسم القاسم بن فِيرُّه بن خلف بن أحمد الرعيني، الأندلسي الشاطبي، الضرير، وُلِدَ في شاطبة من بلاد الأندلس[1].
    سنة (538هـ=1144م)

    قرأ ببلده القراءات (أي علم قراءات القرآن الكريم) وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده وسمع الحديث، ثم رحل للحج فأخذ العلم -أيضًا- بالإسكندرية[2].

    مؤلفات الشاطبي

    ومن أشهر مؤلفات الإمام الشاطبي قصيدته الرائعة العظيمة الفائدة، الجمَّة النفع، المسماة: (حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع)، والتي عُرفت بـ «متن الشاطبية»، وقد أبدع الشاطبي فيها غاية الإبداع، ورزقه الله من التوفيق في هذا المتن ما لا يُوصف إلاَّ بأنه نور من الله وَّر به عقله وقلبه، فأطلق لسانه بهذا المتن العظيم (متن الشاطبية)؛ ويقع هذا المتن في أبيات تزيد على الألف، وقد قال الشاطبي في خاتمته: [الطويل]
    وَأَبْيَاتُهَا أَلْفٌ تَزِيدُ ثَلاَثَةً


    وَمَعْ مِائَةٍ سَبْعِينَ زُهْرًا وَكُمَّلاَ


    قال الشارح: زُهْرًا وَكُمَّلاً: حالان من الضمير في تزيد الراجع إلى الأبيات؛ أي: هي زاهرة كاملة، يعني: مضيئة كاملة الأوصاف. ثم قال الشاطبي:
    وَقَدْ كُسِيَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي عِنَايَةً


    كَمَا عَرِيَتْ عَنْ كُلِّ عَوْرَاءَ مِفْصَلا


    قال الشارح: أثنى في هذا البيت على معانيها وألفاظها؛ فنصب (عناية) على أنه مفعولي كُسيت؛ أي أنه اعتنى بها فجاءت شريفة المعاني، حسنة المباني، وقابل بين الكسوة والعري، فقال: كُسيت معانيها عناية، وعَرِيت في التعبير عنها عن كل جملة عورًا؛ أي لا تُنْبِئُ عن المعنى المقصود فهي ناقصة[3].

    ونَظَم -أيضًا- قصيدته الرائية المسمَّاة: (عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد)، وهي في علم الرسم[4]، و(ناظمة الزهر) وهي في علم عدد الآي، وله -أيضًا- قصيدة دالية تقع في خمسمائة بيت لخَّص فيها التمهيد لابن عبد البر[5].

    وتتلمذ عليه كثيرون، فقد كان شيخَ القراء بلا منازع، وقد بارك الله له في تصنيفه وأصحابه، فلا نعلم أحدًا أخذ عنه إلا قد نجب[6].

    ثناء العلماء عليه

    قال عنه الإمام ابن الجزري: وكان إمامًا كبيرًا أُعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، إمامًا في اللغة، رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظبًا على السُّنَّة، بلغنا أنه وُلِدَ أعمى، ولقد حكى عنه أصحابه ومَنْ كان يجتمع به عجائب، وعَظَّمُوه تعظيمًا بالغًا؛ حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي-رحمه الله- من نظمه في ذلك: [الوافر]
    رَأَيْتُ جَمَاعَةً فُضَلاءَ فَازُوا


    بِرُؤْيَةِ شَيْخِ مِصْرَ الشَّاطِبِيِّ
    وَكُلُّهُمُ يُعَظِّمُهُ وَيُثْنِي


    كَتَعْظِيـمِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ[7]


    وقال عنه المقري في نفح الطيب: وكان إمامًا علاَّمة ذكيًّا، كثير الفنون، منقطع القرين، رأسًا في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، واسع العلم، وقد سارت الركبان بقصيدتيه: (حرز الأماني) و(عقيلة أتراب الفضائل) اللتين في القراءات والرسم، وحَفِظَهما خلقٌ لا يُحْصَوْنَ، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحُذَّاق القرَّاء، ولقد أوجز وسهَّل الصعب[8].

    وقال السبكي في حقِّ الإمام الشاطبي: إنَّه كان قويَّ الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون، فقيهًا، مقرئًا، محدِّثًا، نحويًّا، زاهدًا، عابدًا، ناسكًا، يتوقَّد ذكاءً. وقال السخاوي: أقطع أنَّه كان مكاشفًا، وأنَّه سأل الله كتمان حاله، ما كان أحدٌ يعلم أي شيء هو[9].



    وقال ابن خلّكان: ولقد أبدع كل الإبداع في حرز الأماني، وهي عمدة قرَّاء هذا الزمان في نقلهم، فقلَّ مَنْ يشتغل بالقراءات إلاَّ ويُقَدِّم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها، وقد رُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلاَّ وينفعه الله؛ لأنني نظمتها لله[10].


    وقال عنه الذهبي: كان يتوقَّد ذكاء، له الباع الأطول في فنِّ القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث، وله النظم الرائق مع الورع والتقوى، والتألُّه والوقار... وكان إذا قُرِئَ عليه (الموطأ) و(الصحيحان)، يُصَحِّحُ النسخ من حفظه، حتى كان يقال: إنه يحفظ وِقْر بعير من العلوم[11].

    من كراماته

    ومن عجيب ما يُروى له من الكرامات، ما أورده الإمام ابن الجزري، قال: أخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم أن الشاطبي كان يُصَلِّي الصبح بغلس بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السُّرَى([12]) إليه ليلاً، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق، فاتُّفِقَ في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولاً، فلما استوى الشيخ قاعدًا، قال: مَنْ جاء ثانيًا فليقرأ. فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله، وأخذ يتفكَّر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له، ففطن أنه أَجْنَبَ تلك الليلة، ولشدَّة حرصه على النوبَة نسي ذلك لَمَّا انتبه، فبادر إلى الشيخ، فأُطْلِع الشيخ على ذلك، فأشار للثاني بالقراءة، ثم إنَّ ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ قاعد أعمى على حاله، فلما فرغ الثاني قال الشيخ: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. فقرأ، وهذا من أحسن ما نعلمه وقع لشيوخ هذه الطائفة، بل لا أعلم مثله وقع في الدنيا[13].

    وفاته

    توفي الشاطبي –رحمه الله- بعد حياة حافلة بالعلم الواسع الغزير والجهاد في نشره- بالقاهرة في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة (590هـ= 19/6/1194م) ودُفِنَ بالقرافة بين مصر والقاهرة بمقبرة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، وقبره مشهور معروف[14].


    [1] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/261، 262.
    [2] انظر: ابن الجزري: غاية النهاية، 2/20-22.
    [3] أبو شامة: إبراز المعاني من حرز الأماني، ص756.
    [4] أي رسم المصحف وهو كتابة القرآن الكريم.
    [5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/263، 264.
    [6] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/22.
    [7] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/20، 21.
    [8] المقري: نفح الطيب، 2/24.
    [9] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 7/273، والمقري: نفح الطيب، 2/24.
    [10] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/71.
    [11] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/262، 264.
    [12] السُّرَى: سَيرُ عامة الليل. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل السين 6/2376، وابن منظور: لسان العرب، مادة سرا 14/377، والمعجم الوسيط 1/428.
    [13] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/221.
    [14] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/22.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ابن زرقون .. شيخ المالكية

    نشأته

    أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد الأنصاري الإشبيلي المالكي، المعروف بابن زرقون... وزرقون هو لقب جدهم سعيد.



    وُلِدَ سنة (502هـ/1109م) في شريش بالأندلس وتُسمى الآن هريز في جنوب إسبانيا، تلقَّى العلم على شيوخها، ثم انتقل مع أبيه إلى مَرَّاكُش، وبعد ذلك إلى الأندلس وتجوَّل فيها.


    القاضي

    لازم ابن زرقون القاضي عياضا (ت 544هـ)، وتلقَّى العلم بمراكش وبسبتة، وتولَّى ابن زرقون القضاء في إشبيلية وشلب.

    المسند

    وكان مسند الأندلس في وقته، وقد وصفه الذهبي في السير- المسند الفقيه، وله مؤلَّف جَمَعَ بين الجامع الكبير للترمذي وسنن أبي داود في الحديث.

    وفاته

    وقد تُوُفِّيَ بإشبيلية في نصف رجب (586هـ=1190م) عن أربع وثمانين سنة[1].

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ابن رشد .. أشهر علماء الموحدين

    نستطرد في المقالات التالية لنلقي الضوء على علماء الأندلس في ظل دولة الموحدين وخاصة في عهد المنصور الموحدي، والذين كان لهم دور ليس بالقليل في نماء الدولة فكريا وفلسفيا وعلميا، ومن هؤلاء ابن رشد الحفيد وابن زرقون والإمام الشاطبي صاحب متن الشاطبية.

    وفي هذا المقال نلقي الضوء على حياة ابن رشد.

    نشأة ابن رشد

    هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، كان مولده سنة (520هـ=1126م)، وقد نشأ في بيتٍ من بيوت العلم؛ فقد كان جدُّه ابن رشد -كما قال عنه ابن بشكوال في الصلة - فقيهًا عالمًا، حافظًا للفقه، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرئاسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن والهدي الصالح[1].

    نشأ ابن رشد الحفيد في هذا البيت، ومع أنه لم يُدرك جدَّه العظيم هذا -حيث تُوُفِّيَ جدُّه وعُمر الحفيد شهر واحد- إلاَّ أنه ورث العلم الغزير، خاصَّة في الفقه عن أبيه الذي تربَّى وتَعَلَّم على يد جدِّه وعن غيره من فقهاء عصره، وقيل: إنه تلقَّى علوم الفلسفة على ابن باجة[2].

    مؤلفات ابن رشد



    ذكر الذهبي أن ابن رشد ما ترك الاشتغال مذ عَقَل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وأنه سوَّد فيما ألَّف وقيَّد نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة، وله من التصانيف: بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، والكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وشرح أرجوزة ابن سينا في الطب، والمقدمات في الفقه، وكتاب الحيوان، وكتاب جوامع كتب أرسطوطاليس، وشرح كتاب النفس، وكتاب في المنطق، وكتاب تلخيص الإلاهيات لنيقولاوس، وكتاب تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، وكتاب تلخيص الاستقصات لجالينوس، ولخصَّ له كتاب المزاج، وكتاب القوى، وكتاب العلل، وكتاب التعريف، وكتاب الحميات، وكتاب حيلة البرء، ولخص كتاب السماع الطبيعي، وكتاب تهافت التهافت، وكتاب منهاج الأدلة، وكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، وكتاب شرح القياس لأرسطو، ومقالة في العقل، ومقالة في القياس، وكتاب الفحص في أمر العقل، والفحص عن مسائل في الشفاء، ومسألة في الزمان، ومقالة فيما يعتقده المشَّاءون وما يعتقده المتكلمون في كيفية وجود العالم، ومقالة في نظر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو، ومقالة في اتصال العقل المفارق للإنسان، ومقالة في وجود المادَّة الأولى، ومقالة في الردِّ على ابن سينا، ومقالة في المزاج، ومسائل حكمية، ومقالة في حركة الفلك، وكتاب ما خالف فيه الفارابي أرسطو[3].


    أثر فلسفة ابن رشد على الغرب

    كان لابن رشد فضل كبير على روجر بيكون الفيلسوف الشهير؛ فقد استفاد هذا الأخير من مؤلفاته وحيًا، واستنزل من حكمته إلهامًا، وذكره في كتابه اللاتيني (أبوس ماجوس)، وأثنى عليه وعلى مواهبه وسعة علمه، فقال: «إنه فيلسوف متين متعمق، صحَّح كثيرًا من أغلاط الفكر الإنساني، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة لا يُستغنى عنها بسواها، وأدرك كثيرًا مما لم يكن قبله معلومًا لأحد، وأزال الغموض عن كثير من الكتب التي تناولها ببحثه».

    وأمَّا توماس الأكويني الذي أصبح قديسًا؛ لأنه كان أعظم لاهوتي في كنائس الغرب، وأكبر فلاسفة القرون الوسطى، فقد سطع نجمه وعلا بكتابه إجمال اللاهوت (سوماتيولوجيا)، وقد ذكر توماس أسباب اتصاله بالأفكار الدنيوية، ودلَّ على أن الفضل في وضع كتابه شكلاً ومادة يعود إلى طريقة ابن رشد وفلسفته.



    على أن فيلسوف قرطبة - ابن رشد - لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله[4].


    ومن ثناء العلماء عليه ما نقله الذهبي عن ابن أبي أصيبعة من قوله: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب[5]، وقول الذهبي نفسه: «وكان يُفزع إلى فتياه في الطب، كما يُفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي[6].

    محنة ابن رشد

    كان الخليفة أبو يعقوب يستعين بابن رشد إذا احتاج الأمر للقيام بمهام رسمية عديدة، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب؛ فتنقَّل بين مراكش وإشبيلية وقرطبة، ثم دعاه أبو يعقوب في سنة (578هـ) إلى مراكش فجعله طبيبه الخاص، ثم ولاَّه منصب القضاء في قرطبة، فلما مات أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي زادت مكانة ابن رشد في عهده مكنة ورفعة، وقرَّبه الأمير إليه، ولكن كاد له بعض المقرَّبين من الأمير، فأمر الأمير بنفيه إلى قرية كانت لليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة[7].

    وقد مات ابن رشد محبوسًا في داره بمراكش، وذلك سنة (595هـ=1198م)[8].


    [1] ابن بشكوال: الصلة، 3/839 1278.
    [2] رحاب عكاوي: ابن رشد، ص9.
    [3] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، 309.
    [4] محمد لطفي جمعة: تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، ص223.
    [5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، وانظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/319.
    [6] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308.
    [7] رحاب عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام، 2/249.
    [8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/309.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الأرك .. المعركة الخالدة

    المنصور الموحدي وملك قشتالة



    بعد القضاء على ثورات بني غانية أخذ المنصور الموحدي يُفَكِّر في كيفية إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وإيقاف أطماع النصارى في بلاد الأندلس، علم أوَّلاً أن أشدَّ قوَّتين عليه هما قوَّة قشتالة وقوة البرتغال، لكنه استقبل رسالة من ملك قشتالة يسعى فيها إلى الصلح والمهادنة، بل ويعرض عليه أن يُحالفه ضدَّ مَنْ يشاء من أعداء أبي يوسف وأبناء ملَّة ملك قشتالة، وذكر أبو يوسف في رسالته أنه بعد أن روَّى في الأمر واستخار عزم على إجابة مطلب ملك قشتالة فقَبِلَ مسالمته، بما لا يتعارض مع عزَّة الإسلام والمسلمين[1].


    المنصور الموحدي وملك البرتغال

    وفي سنة (585هـ)، جاء عدوانُ ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز؛ يروي عبد الواحد المراكشي فيقول: «قَصَدَ بطرو بن الريق[2] -لعنه الله- مدينة شلب من جزيرة الأندلس فنزل عليها بعساكره، وأعانه من البحر الإفرنج بالبطس[3] والشواني[4]، وكان قد وَجَّه إليهم يستدعيهم إلى أن يُعِينُوه على أن يجعل لهم سبي البلد، وله هو المدينة خاصة، ففعلوا ذلك ونزلوا عليها من البر والبحر فملكوها، وسبوا أهلها، وملك ابن الريق -لعنه الله- البلد، وتجهَّز أمير المؤمنين في جيوش عظيمة، وسار حتى عبر البحر، ولم يكن له هَمٌّ إلا مدينة شلب المذكورة، فنزل عليها، فلم تطق الروم دفاعه، وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها، ولم يكفِهِ ذلك حتى أخذ حصنًا من حصونهم عظيمًا يقال له: طرش»[5].



    ثم عاد يعقوب المنصور إلى عاصمته مراكش في المغرب العربي بعد هذا النصر المؤزر على البرتغال، والهدنة مع قشتالة، وبقيت طائفة أخرى لم تصالح المنصور، وهي التي ستكون السبب في الحرب القادمة.


    هجمات الممالك النصرانية

    بعد أقل من خمس سنوات «جمعت تلك الطائفة (التي لم تصالح) جمعًا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا، وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا»[6]، ثم ما لبث أن اجتمع معهم ألفونسو الثامن بعد انقضاء مدة الهدنة التي كانت بينه وبين المنصور الموحدي، فبعث إلى جميع الثغور الإسلامية يُنذر بانتهاء الهدنة -وكان المنصور منشغلاً بمعاركه في المغرب ضد الخارجين عليه من بني غانية وغيرها- ثم بعث بقادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يُغيرون عليها ويُثخنون فيها، وقد مال المنصور إلى الانتهاء من أمر المتمردين أولاً، لولا أن توالت كتب أهل الأندلس عليه تُشير باشتداد وطأة العدو إلى ما لا يطاق، فعدل عن عزمه وبدأ في التفكير صوب العبور إلى الأندلس[7].

    إعلان الجهاد في الأندلس

    وقبل هذا الوقت بسنوات قلائل كان المسلمون في كل مكانٍ يعيشون نشوة النصر الكبير الذي حقَّقه صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (583هـ= 1187م)؛ أي: قبل هذه الأحداث بسبع سنوات فقط، وما زال المسلمون في المغرب يعيشون هذا الحدث الإسلامي الكبير، ويتمنَّوْنَ ويُريدون أن يُكَرِّرُوا ما حدث في المشرق؛ خاصَّة بعد أن قام المنصور الموحدي بتحفيزهم في الخروج إلى الجهاد، فتنافسوا في ذلك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المططفين: 26].

    كان ثمة جيش جاهز لمواجهة المتمردين على المنصور، ولكن لما تغيرت الوجهة أقبل المجاهدون المتطوعة، وقد بدأ هذا الاستنفار في سنة (590هـ=1194م)، وبعدها بعام واحد وفي سنة (591هـ=1195م) انطلقت الجيوش الإسلامية من المغرب العربي والصحراء وعبرت مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ لتلتقي مع قوَّات الصليبيين الرابضة هناك في موقعة ما برح التاريخ يذكرها ويُجِلُّها[8].

    معركة الأرك

    الأرك: حصن على بُعْدِ عشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من قلعة رباح، على أحد فروع نهر وادي آنة، ومحلُّها اليوم: (Sta Maria de Alarcos) غرب المدينة الإسبانية الحديثة (giadad real) «المدينة الملكية»، والأرك نقطة الحدود بين قشتالة والأندلس في حينه[9].




    وفي التاسع من شهر شعبان سنة (591هـ=1195م) وعند هذا الحصن الكبير الذي يقع في جنوب طليطلة على الحدود بين قشتالة ودولة الأندلس، في ذلك الوقت التقت الجيوش الإسلامية مع جيوش النصارى هناك[10]، وكان ألفونسو الثامن قد أعدَّ جيشه بعد أن استعان بمملكتي ليون ونافار، في قوَّة يبلغ قوامها خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف نصراني، وقد أحضروا معهم بعض جماعات من اليهود لشراء أسرى المسلمين بعد انتهاء المعركة لصالحهم؛ ليتمَّ بيعهم بعد ذلك في أوربا [11].


    وعلى الجانب الآخر فقد أعدَّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي جيشًا كبيرًا، بلغ قِوَامه مائتي ألف مسلم([12]) من جرَّاء تلك الحمية، التي كانت في قلوب أهل المغرب العربي وأهل الأندلس على السواء؛ خاصة بعد انتصارات المسلمين في حطين (583هـ= 1187م) في الشرق.

    المجلس الاستشاري

    في منطقة الأرك وفي أول عمل له عقد المنصور الموحدي مجلسًا استشاريًّا يستوضح فيه الآراء والخطط المقترحة في هذا الشأن، ولقد كان هذا على غير نسق كل القادة الموحدين السابقين له، والذين غلب عليهم التفرُّد في الرأي، فسار على منهج رسول الله في ذلك الأمر، وفي هذا المجلس الاستشاري استرشد أبو يوسف يعقوب المنصور بكل الآراء؛ حتى إنه استعان برأي أبي عبد الله بن صناديد في وضع خطَّة الحرب، وهو من الزعماء الأندلسيين وليس من قبائل المغرب البربرية، وكان هذا -أيضًا- أمرًا جديدًا على دولة الموحدين، التي كانت تعتمد على جيوش المغرب العربي فقط، فضمَّ أبو يوسف يعقوب المنصور قوَّة الأندلسيين إلى قوَّة المغاربة والبربر القادمين من الصحراء[13].

    الاستعداد ووضع الخطط

    في خُطَّة شبيهة جدًّا بخطَّة معركة الزلاقة قَسَّم المنصور الموحدي الجيش إلى نصفين، فجعل جزءًا في المقدمة، وأخفى الآخر خلف التلال، وكان هو على رأسه، ثم اختار أميرًا عامًّا للجيش، هو كبير وزرائه أبو يحيى بن أبي حفص، وقد ولَّى قيادة الأندلسيين لأبي عبد الله بن صناديد؛ وذلك حتى لا يُوغر صدور الأندلسيين وتضعف حماستهم حين يتولَّى عليهم مغربي أو بربري[14].

    وإتمامًا لهذه الخطة فقد جعل الجزء الأول من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، «فجعل (أميرُ الجيش أبو يحيى) عسكر الأندلس في الميمنة، وجعل زناتة والمصامدة والعرب وسائر قبائل المغرب في الميسرة، وجعل المتطوعة والأغزاز (المماليك المصريون) والرماة في المقدمة، وبقي هو في القلب في قبيلة هنتاتة»[15].

    وعند اكتمال الحشد وانتهاء الاستعداد للقتال أرسل الأميرُ الموحدي رسالة إلى كل المسلمين، يقول فيها: إن الأمير يقول لكم: اغفروا له؛ فإنَّ هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطَيِّبُوا نفوسكم، وأخلصوا لله نيَّاتكم. فبكى الناس جميعهم، وأعظموا ما سمعوه من أميرهم المؤمن المخلص، وعلموا أنه موقفُ وداعٍ، ثم قام الخطباء يخطبون عن الجهاد ويُذَكِّرون بفضله وشرفه ومكانته ويُحَمِّسون الجند له[16]، «فنشط الناس، وطابت النفوس، ومن الغد صدع بالنداء، وبأخذ السلاح والبروز إلى اللقاء»[17].

    اللقاء المرتقب

    في تلك الموقعة كان موقع النصارى في أعلى تلٍّ كبير، وكان على المسلمين أن يُقَاتِلوا من أسفل ذلك التلِّ، لكن ذلك لم يَرُدّ المسلمين عن القتال، وقد بدأ اللقاء ونزل القشتاليون كالسيل الجارف..

    ولنترك ابن أبي زرع يروي قصة المعركة، يقول:
    «تحرَّك من جيش العدوِّ - دمَّره الله تعالى- عقدة كبيرة من سبعة آلاف فارس إلى ثمانية آلاف فارس، كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزَّرَد[18] النظيف النضيد، فدُفعت نحو عسكر المسلمين... فوصلت تلك العقدة التي دفعت بأجمعها حتى لطمت أطرافُ رماح المسلمين في صدور خيلهم أو كادت، ثم تقهقروا قليلاً، ثم عادوا بالحملة. فعلوا ذلك مرتين، ثم تهيئوا للدفعة الثالثة، والقائد ابن صناديد والزعيم العربي يناديان برفع أصواتهما: اثبتوا معشر المسلمين؛ ثَبَّت الله أقدامكم بالعزمة الصادقة.

    فدفع النصارى على القلب الذي فيه أبو يحيى؛ قاصدين إليه يظنون أنه أمير المؤمنين، فقاتل –رحمه الله- قتالاً شديدًا وصبر صبرًا جميلاً، حتى استشهد واستشهد معه جماعة من المسلمين من هنتاتة والمطوعة، وغيرهم ممن ختم الله تعالى له بالشهادة، وسبقت له من الله تعالى السعادة.

    وصبر المسلمون صبرًا جميلاً، ورجع النهار بالغبار ليلاً، وأقبلت قبائل المطوعة والعرب والأغزاز والرماة، وأحاطوا بالنصارى الذين دفعوا من كل جانب، ودفع القائد ابن صناديد بجيوش الأندلس وحشودها، وزحفت معه قبائل زناتة والمصامدة وغمارة وسائر البربر إلى الربوة التي فيها ألفونسو الثامن -لعنه الله- يُقاتلون مَنْ فيها من جيش الروم.

    وكان ألفونسو -لعنه الله- فيها مع جيوش الروم وجميع عساكره وأجناده فيما يزيد على ثلاثمائة ألف، ما بين فارس وراجل، فتعلَّق المسلمون بالربوة وأخذوا في قتال مَنْ بها فاشتدَّ القتال، وعظمت الأهوال، وكثر القتل في النصارى الذين دفعوا في الحملة الأولى، وكانوا نحو العشرة آلاف زعيم، انتخبهم اللعين ألفونسو الذميم، وصَلَّتْ عليه الأقسة([19]) صلاة النصر، ورَشُّوا عليهم ماء المعمودية في الطهر، وتحالفوا بالصلبان ألاَّ يفروا حتى لا يتركوا من المسلمين إنسانًا، فصدق الله U وعده، ونصر جنده.

    فلمَّا اشتد القتال على الكفار، وأيقنوا بالفناء والبوار، وَلَّوُا الأدبار، وأخذوا في الفرار، إلى الربوة التي فيها ألفونسو ليعتصموا بها، فوجدوا عساكر المسلمين قد حالوا بينهم وبينها، فرجعوا على أعقابهم ناكصين في الوطا، فرجعت عليهم العرب والمطوعة وهنتاتة والأغزاز والرماة فطحنوهم طحنًا، وأَفْنَوْهم عن آخرهم، وانكسرت شوكة ألفونسو بفنائهم؛ إذ كان اعتماده عليهم، وأسرعت خيل من العرب إلى أمير المؤمنين، وأطلقوا أَعِنَّتهم نحوه، وقالوا له: قد هزم الله تعالى العدو.

    فضربت الطبول، ونشرت الرايات، وارتفعت الأصوات بالشهادة، وخفقت البنود، وتسابقت لقتال أعداء الله الأبطالُ والجنودُ، وزحف أمير المؤمنين بجيوش الموحدين، قاصدًا لقتال أعداء الله الكافرين، فتسابقت الخيل وأسرعت الرجال، وقصدوا نحو الكفرة، للطعان والنزال، فبينما ألفونسو الثامن -لعنه الله- قد همَّ وعزم أن يحمل على المسلمين بجميع جيوشه، ويصدهم بجنوده وحشوده؛ إذ سمع الطبول عن يمينه قد ملأت الأرض، والأبواق قد طبقت الرُّبَا والبطاح، فرفع رأسه لينظر فيها، فرأى رايات الموحدين قد أقبلت، واللواء الأبيض المنصور في أولها عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالبَ إلى الله. وأبطال المسلمين قد تسابقت وجيوشهم قد تناسقت وتتابعت، وأصواتهم بالشهادة ارتفعت، فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين قد أقبل، وما قاتلك اليوم كله إلاَّ طلائع جيوشه، ومُقَدِّمات عساكره، فقذف الله الرعب في قلوب الكافرين، ووَلَّوُا الأدبار منهزمين، وعلى أعقابهم ناكصين.

    وتلاحقت به فرسان المجاهدين، يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقتفون آثارهم، ويُحكمون فيهم رماحهم وشفارهم، ويروون من دمائهم السيوف، ويُذيقونهم مرارة الحتوف، وأحاط المسلمون بحصن الأراك، وهم يظنون أن ألفونسو -لعنه الله- قد تحصَّن فيه، وكان عدو الله قد دخل فيه من باب، وخرج من الناحية الأخرى، فدخل المسلمون الحصن بالسيف عَنوة، وأضرموا النيران في أبوابه، واحتووا على جميع ما كان فيه وفي محلة النصارى من الأموال والذخائر والأرزاق، والأسلحة والعدد، والأمتعة والدواب، والنساء والذرية، وقُتل في هذه الغزاة من الكفرة ألوف لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ولا يَعلم لها أحدٌ عددًا إلاَّ الله تعالى.

    وأخذ في حصن الأراك من زعماء الروم أربعة وعشرون ألف فارس أسارى، فامتنَّ عليهم أمير المؤمنين، وأطلقهم بعدما ملكهم؛ ليكون له بذلك يد الامتنان ويدٌ عُلْيَا عليهم، فعزَّ فعله ذلك على الموحدين وعلى كافَّة المسلمين، وحُسِبَتْ له تلك الفعلة سقطة من سقطات الملوك»[20].



    طارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة؛ بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإسلامي، وكانت سعادةً لا تُوصف؛ خاصَّة وأنها بعد ثمانية أعوام فقط من انتصار حطين العظيم.


    قال المقري: وكان عدة مَنْ قُتِل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستَّة وأربعين ألفًا، وعدة الأسارى ثلاثين ألفًا، وعدة الخيام مائة ألف وستَّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثمانين ألفًا، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفَّار لحمل أثقالهم؛ لأنَّهم لا إبل لهم، وأمَّا الجواهر والأموال فلا تُحصى، وبِيع الأسير بدرهم[21]، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقَسَّم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا ألفونسو ملكُ النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرسًا ولا دابَّة؛ حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدُّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه، وسار خلفه إلى طُلَيْطِلَة وحاصره، ورمى عليها بالمجانيق، وضيَّق عليها، ولم يبقَ إلا فتحُها، فخرجت إليه والدة ألفونسو وبناته ونساؤه وبَكَيْنَ بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقَّ لهن ومَنَّ عليهن بها، ووهب لهنَّ من الأموال والجواهر ما جَلَّ، وردَّهُنَّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قُرْطُبَة، فأقام شهرًا يُقَسِّم الغنائم[22].

    نتائج انتصار الأرك

    تمخَّض عن انتصار الأرك الكبير آثار ونتائج عظيمة؛ أهمُّها ما يلي:

    الهزيمة الساحقة لقوات النصارى

    كان من أهمِّ آثار انتصار الأرك تَبَدُّدُ جيش النصارى بين القتل والأسر؛ فقد قُتِلَ منهم في اليوم الأول فقط -على أقل تقدير- ثلاثون ألفًا، وقد جاء في نفح الطيب للمقري أن عدد قتلى النصارى وصل إلى ستة وأربعين ألفًا ومائة ألف قتيل، من أصل خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف مقاتل، وكان عدد الأسرى بين عشرين وثلاثين ألف أسير[23]، وقد مَنَّ عليهم المنصور الموحدي بغير فداء؛ إظهارًا لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوَّة النصارى[24].

    النصر المادي

    رغم الكسب المادي الكبير جدًّا، إلاَّ أنه كان أقلَّ النتائج المترتبة على انتصار المسلمين في موقعة الأرك؛ فقد حصد المسلمون من الغنائم ما لا يُحصى، وقد بلغت -كما جاء في نفح الطيب- ثمانين ألفًا من الخيول، ومائة ألفٍ من البغال، وما لا يُحصى من الخيام[25].

    وقد وزَّع المنصور الموحدي –رحمه الله- هذه الأموال الضخمة وهذه الغنائم كما كان يفعل رسول الله ؛ فوزَّع على الجيش أربعة أخماسها، واستغلَّ الخمس الباقي في بناء مسجد جامع كبير في إشبيلية؛ تخليدًا لذكرى الأرك، وقد أنشأ له مئذنة سامقة يبلغ طولها مائتي متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، إلاَّ أنها - وسبحان الله! - حين سقطت إشبيلية بعد ذلك في أيدي النصارى تحوَّلت هذه المئذنة -والتي كانت رمزًا للسيادة الإسلامية- إلى برج نواقيس للكنيسة، التي حَلَّت مكان المسجد الجامع[26]، وهي موجودة إلى الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    النصر المعنوي

    كان من نتائج موقعة الأرك -أيضًا- ذلك النصر المعنوي الكبير الذي ملأ قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فقد ارتفع نجم دولة الموحدين كثيرًا، وارتفعت معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوَّة النصارى، وارتفعت -أيضًا- معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي؛ حتى راحوا يعتقون الرقاب، ويُخْرِجُون الصدقات فرحًا بهذا الانتصار.

    وكان من جرَّاء ذلك -أيضًا- أن استمرَّت حركة الفتوح الإسلامية، واستطاع المسلمون فتح بعض الحصون الأخرى، وحاصروا طليطلة إلاَّ أنها -كما ذكرنا من قبل- كانت من أحصن المدن الأندلسية؛ فلم يستطيعوا فتحها[27].

    صراعات شتى بين ممالك النصارى

    نتيجةً لموقعة الأرك -أيضًا- حدثت صراعات شتَّى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى.. فقد ألقى عليهم ألفونسو الثامن (ملك قشتالة) مسئولية الهزيمة[28]، وكان من نتائج ذلك -أيضًا- أن وقعت لهم الهزيمة النفسية، وترتَّب على هذا -أيضًا- أن أتت السفارات تطلب العهد والمصالحة مع المنصور الموحدي.

    معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين

    أيضًا كان من نتائج موقعة الأرك أن تمت معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين على الهدنة ووقف القتال مدَّة عشر سنوات، أراد المنصور أن يُرَتِّبَ فيها الأمور من جديد في بلاد الموحدين[29].


    [1] ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية: الرسالة الرابعة والثلاثون، ص222.
    [2] أمير البرتغال ألفونسو هنريكيز كما كان يسميه العرب وقتها.
    [3] البطس: مفردها بطسة، وهي من أنواع المراكب البحرية الكبيرة، عرفها العرب المسلمون منذ بداية العصر الإسلامي، واستعملوها في الحروب البحرية والأعمال التجارية، عدد أشرعتها أربعون شراعًا، تحمل على متنها ما يزيد عن ألفين وخمسمائة شخص. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص81.
    [4] الشواني: جمع شونة، وهي طراز من السفن المستخدمة للأغراض الحربية عرفها اليونان والرومان واستعملها العرب في العصر الإسلامي، تسير بالشراع، يصل عدد مجاديفها إلى 100، وهي مزودة بأبراج خاصة، وتحمل على متنها حوالي 150 من المقاتلين المزودين بأسلحتهم. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص287.
    [5] عبد الواحد المراكشي: المعجب ص356، وابن عذاري: البيان المغرب، ص204-212، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/244.
    [6] ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/8.
    [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/197.
    [8] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص358، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص217، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245.
    [9] شوقي أبو خليل: الأرك، ص54.
    [10] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/237، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226.
    [11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/237، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/245، 4/182، 183، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 5/213، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 2/84.
    [12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/319.
    [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص223، والسلاوي: الاستقصا، 2/187.
    [14] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص224.
    [15] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226، والسلاوي: الاستقصا، 2/189.
    [16] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص219
    [17] ابن الخطيب: رقم الحلل، ص59.
    [18] الزرد: حلق المغفر والدرع. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرد 3/194، والمعجم الوسيط 1/391.
    [19] الأقسة: جمع قسيس.
    [20] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص225 وما بعدها. وانظر حوادث المعركة مختصرة في: ابن عذاري في البيان المغرب – قسم الموحدين- ص214-220، وابن الخطيب: رقم الحلل ص59.
    [21] أَمْرُ بيع الأسير بدرهم –كما عند المقري- مما يتنافى مع روايات المعاصرين للمعركة من امتنان المنصور عليهم بإطلاقهم بغير فداء.
    [22] المقري: نفح الطيب، 1/443.
    [23] المصدر السابق، 1/443.
    [24] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص228.
    [25] المقري: نفح الطيب، 1/443.
    [26] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص229.
    [27] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245، والمقري: نفح الطيب، 2/192، وانظر تفاصيل غزو المنصور لأراضي قشتالة في مجموع رسائل موحدية، الرسالة الخامسة والثلاثون، ص231.
    [28] انظر: يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/95، وليفي بروفنسال: مجموعة رسائل موحدية ص238.
    [29] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، وقالت بعض المصادر: إن مدة الهدنة كانت خمس سنين. انظر: ابن الأثير: الكامل، 10/238، والسلاوي: الاستقصا، 2/193.

    اترك تعليق:

يعمل...
X