إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    عبد الله بن ياسين وتأسيس دولة المرابطين

    عبد الله بن ياسين

    كان عبد الله بن ياسين- الزعيم الأول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم، (ت451هـ=1059م)- من فقهاء المالكية.

    كان من حُذَّاق الطلبة الأذكياء النبهاء النبلاء، من أهل الدين والفضل، والتقى والورع والفقه، والأدب والسياسة، مشاركًا في العلوم[1]، قال الذهبي: «كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير»[2].
    أي ذا شخصية قوية له علم وبصر بالأمور وله قدرة على حسن التصرف. وها هو ذا يَقبل القيام بهذه المهمَّة الكبيرة، التي أحجم عنها أقرانه من تلاميذ الفقيه وجاج، وفضَّل أن يُغَوِّر في الصحراء.

    عبد الله بن ياسين ومهمة الأنبياء



    اتَّجه الشيخ عبد الله بن ياسين صَوْب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرض المجدِبة والحرُّ الشديد، وفي أناةٍ شديدة، وبعدما هالَه أمر الناس في ارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض، ولا يُنْكِر عليهم مُنْكِر، بدأ يُعَلِّم الناسَ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان الناس في جهل مطبق يصفه القاضي عياض -رحمه الله- بقوله: كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما[3].


    ولكن ثار عليه زعماء القوم وأصحاب المصالح، فهم أكبر مستفيد مما يحدث، فبدأ الناس يجادلونه ويصدُّونه عمَّا يفعل، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجُدالي زعيم القبيلة أن يحميه.

    لم يقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرَّة تلو المرَّة، فضربوه وأهانوه، ثم هَدَّدُوه بالطرد من البلاد أو القتل، إلا أن موقف الشيخ لم يَزْدَدْ إلاَّ صلابة، ومرَّت الأيام وهو يدعو ويدعو، حتى طردوه بالفعل، ولسانُ حالهم: دعك عنا، اتركنا وشأننا، ارجع إلى قومك فعَلِّمهم بدلاً منا، دع هذه البلاد تعيش كما تعيش فليس هذا من شأنك. وكأني أراه رأي العين وهو يقف خارج حدود القبيلة وبعد أن طرده الناس، تنحدر دموعه على خدِّه، ويقول مشفقًا على قومه: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26].

    يُريد أن يُغَيِّر ولا يستطيع، أنْفُسٌ تتفلَّتُ منه إلى طريق الغواية والانحراف عن النهج القويم، ولا سبيل إلى تقويمها، حزَّ في نفسه أن يُولَد الناس في هذه البلاد فلا يجدون مَنْ يُعَلَّمهم ويُرْشِدهم، فأراد أن يبقى، ولكن كيف يبقى؟ أيَدخل جُدَالة من جديد؟ إذًا سيقتلونه، فلو كان في مقتله صلاح لهم فأهلاً بالموت، لكن هيهات ثم هيهات!

    عبد الله بن ياسين ونواة دولة المرابطين

    جلس عبد الله بن ياسين يُفكِّر ويمعن النظر، فهداه ربُّه تعالى ، فما كان منه إلاَّ أن تعمَّق في الصحراء ناحية الجنوب بعيدًا في أعماق القارة الإفريقية، حتى وصل إلى جزيرة يُرَجَّح أنها تقع في منحنى نهر (النيجر)، على مقربة من مدينة تنبكتو، فمن هنا بدأ أمر المرابطين[4]، يصف ابن خلدون هذه الجزيرة بقوله: «يحيط بها النيل[5]، ضَحْضَاحًا[6] في الصيف، يخاض بالأقدام، وغمرًا[7] في الشتاء يُعْبَر بالزوارق»[8].

    صنع عبد الله بن ياسين خيمة بسيطة، وكان من الطبيعي أن يكون في جُدَالة بعض الناس- وخاصَّة من الشباب- الذين تحرَّكت قلوبهم وفطرتهم السويَّة لهذا الدين، فحين علموا خبر شيخهم في مقرِّه البعيد هذا، نزلوا إليه من جنوب موريتانيا ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر سبعة نفر من جدالة، على رأسهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي[9]، الذي ترك قومه ومكانته فيهم ونزل مع الفقيه، وتضيف بعض المصادر أن معهم اثنين من كبار قبيلة لمتونة؛ هم: يحيى بن عمر وأخوه أبو بكر[10]!

    وفي خيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يُعَلِّمهم الإسلام كما أنزله الله تعالى على نبيِّه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف أنَّ الإسلام نظام شامل متكامل، يُنَظِّم كل أمور الحياة.

    تربية المرابطين

    مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلى الخمسين، فالمائة، فالمائة وخمسين، فالمائتين، أصبح من الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسَّمهم إلى مجموعات صغيرة، وجعل على كلٍّ منها واحدًا من النابغين، وهو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يُعَلِّمهم الإسلام، وفي بيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلاً من أهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهم نقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرَّة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلمين دولتهم.

    وهكذا -أيضًا- كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة (440هـ=1048م)، بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى الجزيرة إلى ألف نفس مسلمة، {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].

    فبعد أن طُرد الرجل وأُوذي في الله وضُرب وهُدِّد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماق الصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدَّى أربع سنوات يتخرَّج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلام وفقه الواقع.

    يروي ابن أبي زرع فيصف هذه المرحلة من حياة المرابطين بقوله: «فدخلاها (الجزيرة) ودخل معهما سبعة نفر من كدالة، فابتنيا بها رابطة، وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة من ثلاثة أشهر، فتسامع الناس بأخبارهم، وأنهم يطلبون الجنة والنجاة من النار، فكثر الوارد عليهم والتوابون، فأخذ عبد الله بن ياسين يُقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الآخرة، ويُرَغِّبهم في ثواب الله تعالى، ويُحَذِّرهم أليم عذابه، حتى تمكَّن حُبُّه منهم في قلوبهم، فلم تمر عليهم أيام حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته، وأخذ هو يُعَلِّمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة، وما فرض الله عليهم من ذلك، فلما تفقهوا في ذلك وكثروا قام فيهم خطيبًا، فوعظهم وشَوَّقهم إلى الجنة، وخَوَّفهم من النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك من ثواب الله تعالى وعظيم الأجر، ثم دعاهم إلى جهاد مَنْ خالفهم من قبائل صنهاجة، وقال لهم: يا معشر المرابطين؛ إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حقَّ جهاده. فقالوا: أيها الشيخ المبارك؛ مُرْنَا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا. فقال لهم: اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخَوِّفُوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحقِّ وأقلعوا عمَّا هم عليه فخلوا سبيلهم، وإن أَبَوْا من ذلك وتمادوا في غيهم ولجُّوا في طغيانهم، استعنَّا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين. فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته، فوعظهم وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عمَّا هم بسبيله، فلم يكن منهم من يقبل ولا يرجع، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين، فجمع أشياخ القبائل ورؤساءهم وقرأ عليهم حجة الله، ودعاهم إلى التوبة، وخَوَّفهم عقاب الله، فأقام يُحَذِّرهم سبعة أيام وهم في كل ذلك لا يلتفتون إلى قوله، ولا يزدادون إلا فسادًا، فلمَّا يئس منهم قال لأصحابه: قد أبلغنا الحجة وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله تعالى»[11].

    معنى المرابطين

    أصل كلمة الرباط هي ما تُربط به الدابَّة، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمَّنْ خلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد[12]، وروى البخاري بسنده عن سهل بن سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا...» الحديث[13].

    ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يَتَّخِذُون خيامًا على الثغور يحمون فيها ثغور المسلمين، ويُجاهدون في سبيل الله؛ فقد تَسَمَّى الشيخ عبد الله بن ياسين ومَنْ معه ممن كانوا يُرابطون في خيام على نهر السنغال بجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.

    كما تُطْلِق عليهم بعض المصادر الملثَّمِينَ، فيُقال: أمير الملثمين، ودولة الملثمين. ويرجع سببُ هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان) إلى أنهم: «قوم يتلثَّمُون ولا يكشفون وجوههم؛ فلذلك سَمَّوْهُم الملثَّمين، وذلك سُنَّة لهم يتوارثونها خلفًا عن سلفٍ، وسبب ذلك على ما قيل: أن (حِمْيَرَ) كانت تتلثَّم لشدَّة الحرِّ والبرد، يفعله الخواصُّ منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامَّتُهم. وقيل: كان سببه أن قومًا من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم، فيطرقون الحي، فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زيِّ الرجال إلى ناحية، ويقعدوا هم في البيوت ملثَّمين في زيِّ النساء، فإذا أتاهم العدوُّ ظنُّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبرُّكًا بما حصل لهم من الظفر بالعدوِّ»[14].

    وقال ابن الأثير في سبب اللثام: وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا غائرين على عدوٍّ لهم، فخالفهم العدوُّ إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلاَّ المشايخ والصبيان والنساء، فلمَّا تحقَّق المشايخ أنه العدوّ، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال ويتلثَّمن ويُضَيِّقْنَه حتى لا يُعْرَفْنَ، ويلبسن السلاح، ففعلن ذلك، وتقدَّم المشايخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدوُّ؛ رأى جمعًا عظيمًا فظنَّه رجالاً، فقال: هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجًا عن حريمهم. فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي، فبقي العدوُّ بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدوِّ فأكثروا، وكان من قتل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سُنَّة يُلازمونه، فلا يُعرف الشيخ من الشاب، فلا يُزيلونه ليلاً ولا نهارًا، ومما قيل في اللثام: [الكامل]
    قَوْمٌ لَهُمْ دَرْكُ الْعُلا فِي حِمْيَرٍ

    وَإِنِ انْتَمَوْا صِنْهَاجَةً فَهُمُ هُمُ
    لَمَّا حَوَوْا إِحْرَازَ كُلِّ فَضِيلَةٍ

    غَلَبَ الْحَيَاءُ عَلَيْهِمُ فَتَلَثَّمُوا[15]

    إنَّ مَنْ يقرأ عن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة، يظنُّ أنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمران ومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق؛ بل كان هذا الاعتزال جزءًا من خطة كبيرة، يتمُّ تنفيذها خطوة بعد خطوة، بفهم سليم وعمق في التفكير، ودقَّة في التخطيط، وبراعة في التنفيذ.

    عندما وصل عدد المرابطين إلى ألف، بعثهم الشيخ ابن ياسين إلى أقوامهم لينذروهم، ويطلبوا إليهم الكف عن البدع والضلالات، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أُمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يُصْغِ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذَّرهم عقاب الله، ونصحهم باتباع أحكامه، فلم يلقَ منهم سوى الإعراض والتحدي، فعندئذٍ قرر عبد الله وصحبه إعلان الحرب على أولئك المخالفين[16].

    وبالفعل بدءوا يستعدُّون لغزو البلاد والقبائل المحيطة بهم، وأرسلوا يُنذرون ويُعذرون، ثم بدأت غزواتهم بالفعل للقبائل والبلاد، ففتحوا الكثير منها، وأخضعوا القبائل المحيطة بهم، وتسامع بهم فقهاء بعض البلاد الأخرى، فأرسلوا إليهم ليُخَلِّصُوهم من حكامهم الطغاة.

    يحيى بن عمر اللمتوني

    استشهد أمير المرابطين يحيى بن إبراهيم الجدالي في إحدى الغزوات المرابطية، والأمير يحيى هو الرجل الذي بدأ به أمر المرابطين، وهو أحد السبعة الذين انعزلوا مع الشيخ ابن ياسين في الرباط بعد أن أُخرج من أراضي جدالة في أول الأمر، فعرض عبد الله بن ياسين الزعامة على جوهر الجدالي ولكن جوهرًا زهد فيها وأعرض عنها، فما كان من عبد الله بن ياسين إلا أن اتخذ قرارًا حكيمًا وبعيد النظر حقًّا، ألا وهو صرف الزعامة إلى يحيى بن عمر اللمتوني[17]، وقد كان هو وأخوه فقط من قبيلة لمتونة –ثاني القبائل الكبرى في المنطقة- مع السبعة من جدالة، الذين انحازوا إلى الرباط مع الشيخ ابن ياسين في أول الأمر.

    وفي الحقيقة نحن لا نستبعد أن يكون الشيخ ابن ياسين قد اتفق مع جوهر الجدالي –زعيم جدالة بعد يحيى- على التنازل عن الرئاسة ليحيى بن عمر اللمتوني؛ لِمَا في تولِّيه الرئاسة على قوم غالبيتهم من جدالة[18] من معانٍ تربوية تقاوم ترسبات العصبيات القديمة، كذلك لما في هذا من مصلحة الدعوة وجذب اللمتونيين، فلقد كان يحيى وأبو بكر من زعماء لمتونة، لكنهما تركا هذه الزعامة لِما آمنا به من دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين. ولقد كان لا بُدَّ من عرض الأمر أولاً على جدالي فيتركها لئلاَّ يظن الجداليين ظنًّا سيئًا بالطريقة التي جعلت لمتونيًّا زعيمًا عليهم؛ إن آثار التعصب القبلي والعائلي لا تزول في سنوات قليلة، وكان لا بُدَّ من مراعاتها في مثل هذه القرارات الفارقة، ولقد شهد التاريخ أن الشيخ ابن ياسين قد نجح بالفعل في هذا القرار الفارق، وصار يحيى بن عمر اللمتوني زعيمًا للمرابطين.

    كان هذا في سنة (445هـ=1053م)، وبالفعل وبتأثير من هذا القرار وكذلك بازدياد نطاق الجهاد المرابطي، الذي تساقطت أمامه الإمارات والقبائل الصغيرة والمتناثرة، اتسعت دولة المرابطين ودخل في سلطانها الآلاف من الناس.

    وفي مثال لحُسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لَمْتُونة في جماعة المرابطين يستشهد زعيمهم الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني في إحدى غزواتهم سنة (447هـ=1055م)، ثم يتولَّى من بعده أخوه الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.

    أبو بكر بن عمر اللمتوني

    وقد دخل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأ أمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جُدَالة، فأصبحت جُدَالة ولَمْتُونة -وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا- جماعة واحدةً تمثِّل جماعة المرابطين.

    ثم تنتهي قصة المؤسس الكبير والاسم الخالد الشيخ عبد الله بن ياسين باستشهاده في حرب برغواطة التي كانت –كما يقول المؤرخون- على غير ملة الإسلام، في سنة (451هـ=1059م) بعد أن أمضى أحد عشر عامًا من تربية الرجال على الجهاد.


    [1] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص123، والسلاوي: الاستقصا، 2/7.
    [2] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 31/80.
    [3] القاضي عياض: ترتيب المدارك، 2/64.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/302.
    [5] المقصود هنا فرع من نهر النيجر، ولا علاقة له بالنيل الذي في مصر والسودان، وقد كان يُعرف هذا النهر في ذلك الوقت باسم النيل.
    [6] الضحضاح: الماء القليل وقريب القعر يكون في الغدير وغيره. انظر: الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الضاد 1/385، وابن منظور: لسان العرب، مادة ضحح 2/524، والمعجم الوسيط 1/534.
    [7] الغَمْر: الماء الكثير الذي يعلو ويغطي الأماكن. انظر: الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الغين 2/772، وابن منظور: لسان العرب، مادة غمر 5/29، والمعجم الوسيط 2/661.
    [8] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/183
    [9] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص125، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص227، والسلاوي: الاستقصا، 2/8.
    [10] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/183.
    [11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص125، وما بعدها، والسلاوي: الاستقصا 2/8.
    [12] انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ربط 7/302.
    [13] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله 2735، والترمذي 1664، وأحمد 22923، والبيهقي 17665.
    [14] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/129.
    [15] ابن الأثير: الكامل، 8/331، والبيتان نُسِبَا لأبي محمد بن حامد الكاتب، انظر: السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2/4.
    [16] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/302، 303.
    [17] ابن الأثير: الكامل 8/328.
    [18] سبق أن ذكرنا أن لمتونة وجدالة كانتا القبيلتين القويتين والكبريين في هذه المنطقة من المغرب الأقصى، ويمكن تقريب الصورة لدى القارئ باستحضاره ما كان بين الأوس والخزرج قبل الإسلام.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    تاريخ المغرب قبل المرابطين

    قبيلة جدالة وأصل المرابطين



    في أعماق صحراء موريتانيا، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدَّة، والجدب المقفر، والحرُّ الشديد، وحيث أناس لا يُتْقِنُون الزراعة ويعيشون على البداوة.. في هذه المناطق كانت تعيش إحدى القبائل الأمازيغية (البربرية) الكبيرة، والتي تُدْعَى قبيلة صنهاجة، كانت هذه القبائل مجوسية تعيش في الصحراء بعيدًا عن أي عمران؛ حتى إن الرجل منهم ربما يُعَمَّر دهرًا طويلاً ويموت دون أن يرى في حياته خبزًا، فضلاً عن أن يتذوَّقه، وظلُّوا هكذا حتى انتشر فيهم الإسلام في القرن الثالث الهجري.


    ومع ابتعادهم في أعماق الصحراء في أقصى المغرب فقد استمروا على جهالتهم وبداوتهم فكأن لم يعرفوا الإسلام وتعاليمه وكأنه لم يدخل بلادهم، ثم اجتمعوا كلهم حول مَلِك واحد، ثم مات ملكهم وخلفه حفيده، ثم ابن حفيده الذي ثار عليه الصنهاجيون فقتلوه، واختلف أمرهم، وصاروا طوائف عديدة، ثم اجتمعوا بعد فترة أخرى حول ملك آخر كان من لمتونة (وهي قبيلة كبيرة من صنهاجة)، واسمه ابن تيفاون اللمتوني.

    غير أنه لم يُعَمَّر طويلاً، فقد مات في إحدى المعارك، فخلفه صهره يحيى بن إبراهيم الجدالي، الذي كان من قبيلة جدالة (وتنطق الجيم مثل الكاف الفارسية أو الجيم القاهرية)، التي هي -أيضًا- قبيلة كبيرة من صنهاجة مثلها مثل لمتونة، فصار يحيى بن إبراهيم رئيس صنهاجة.

    ومن أَعْجَبُ ما يرويه المؤرخون عن الجهل التام بتعاليم الإسلام ذلك الذي ساد الناس في هذا الزمن، أن يُخرج «أحدهم ابنه وابنته لرعي السوام، فتأتي البنت حاملاً من أخيها، فلا يُنكرون ذلك، وكان من دأبهم الإغارة بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا»[1]، وانتشر بينهم الزنا، ومصادقة الرجل للمرأة المتزوجة بعلم زوجها وحضوره[2]. وكان الرجل منهم يتزوج ما يشاء من النساء بلا عدد؛ حتى إن يحيى هذا -رئيسهم- كان متزوِّجًا من تسع نسوة، فهم لا يعرفون من الإسلام لا صلاة ولا زكاة ولا شرائع، اللهم إلا الشهادتين فحسب[3].

    لقد كانت هذه الأوضاع أشد وطأةً مما نحن عليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبَّر تلك الخطوات المنظَّمة التي سار أصحابها وَفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وإصلاح أحوال الأُمَّة.

    يحيى بن إبراهيم يحمل هَمَّ المسلمين

    أبو عمران الفاسي

    أراد يحيى بن إبراهيم الجدالي أن يحج، وكان الحج في هذا الزمان يعني -أيضًا- رحلة في طلب العلم، فاستخلف ابنه إبراهيم وسار إلى الشرق، وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسى بن عيسى الفاسي، وهو شيخ المالكية في مدينة القيروان، وكان المذهب المالكي هو المنتشر في بلاد شمال إفريقيا وإلى عصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس آنذاك، قابل يحيى بنُ إبراهيم أبا عمران الفاسي، ذلك العالم الكبير الذي يقول عنه الحميدي: فقيه القيروان، إمام في وقته، دخل الأندلس، وله رحلة إلى المشرق وصل فيها إلى العراق، وسمع بالقيروان وبمصر وبمكة وكان مكثرًا عالمًا[4]. كما وصفه الحميري في الروض المعطار بالفقيه الإمام المشهور بالعِلْم والصلاح[5].

    ونقل ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (المالكي) أنه كان من أحفظ الناس وأعلمهم؛ جمع حفظ المذهب المالكي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة معانيه، وكان يقرأ القرآن بالسبع ويُجَوِّده، مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم، أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه مَنْ لم يَلْقَه، وله كتاب التعليق على المدونة، كتابٌ جليل لم يُكْمَل، وغير ذلك[6].

    لا نشكُّ في أن يحيى سمع من الفقيه أبي عمران ما أدهشه وأيقظه، وعرَّفه بأن قومه يعيشون في جاهلية كبرى، ولا نشكُّ كذلك في أن يحيى –وهو الزعيم الحريص على أهله وقومه- حمل الهم الكبير لما اكتشفه من حقيقة الحال، وما هو إلا أن أخبر يحيى شيخه أبا عمران بأنه من قوم لا يعرفون شيئًا عن أمور دينهم، فعامَّة الناس لا يعرفون إلاَّ الشهادتين، وقليل من الخاصة مَنْ يُصَلُّون، وأنَّ لا علم لهم من العلوم ولا مذهب لهم من المذاهب؛ لأنهم منقطعون في الصحراء، لا يذهب إليهم إلاَّ بعض التجار الجهَّال، وأن فيهم أقوامًا يرغبون في تَعَلُّم العلم، والتفقُّه في الدين، لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فاختبره الفقيه حتى تأكد من حقيقة هذه الفاجعة[7].

    فعرض الفقيه ذلك على طلابه فأَبَوْا، فأرسله إلى أحد فقهاء بلاد المغرب ويُدعى وجاج بن زلو اللمطي، وكان من طلابه، وكان قد تَفَقَّه وجلس للتدريس، فرحل إليه يحيى الجدالي، فأرسل معه الفقيه وجاج واحدًا من ألمع وأذكى تلاميذه وهو عبد الله بن ياسين.


    [1] الذهبي: تاريخ الإسلام، 31/82.
    [2] علي الصلابي: دولة المرابطين، ص15.
    [3] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص124.
    [4] الحميدي: جذوة المقتبس، 1/338، باختصار.
    [5] الحميري: الروض المعطار، ص435.
    [6] ابن فرحون: الديباج المذهب، 2/337، 338.
    [7] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص122 وما بعدها.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط طليطلة

    طليطلة .. الثغر الأوسط لبلاد الأندلس

    كان نتيجة زلزال عصر ملوك الطوائف هو سقوط طليطلة، ففي سنة (478هـ= 1085م) سقطت طليطلة، هذا الثغر الإسلامي الأوسط في بلاد الأندلس، تلك المدينة العظيمة التي كانت عاصمة للقوط قبل دخول المسلمين في عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله.
    طليطلة التي فتحها طارق بن زياد بستة آلاف؛ فتحها بالرعب قبل مسيرة شهر منها.
    طليطلة الثغر الذي كان يستقبل فيه عبد الرحمن الناصر الجزية من بلاد النصارى، ومنه كان ينطلق هو ومَنْ تبعه من الحكَّام الأتقياء لفتح بلادهم في الشمال.

    طليطلة المدينة العظيمة الحصينة، التي تحوطها الجبال من كل النواحي عدا الناحية الجنوبية.

    هجمات النصارى على طليطلة



    أما عن قصة سقوط طليطلة: فقد تعرَّضت مدينة طليطلة لهجمات كثيرة من النصارى في عهد فرناندو الأول وابنه ألفونسو السادس، هذا إضافة إلى غارات ملوك الطوائف المجاورة لها إثر النزاعات المتبادلة بينهم، وكان النصارى على علم بأن طليطلة واسطة العِقد في بلاد الأندلس، فلو سقطت فمِنَ المؤكَّد أن تسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية وهكذا تباعًا.


    سذاجة المأمون بن ذي النون

    تُرى لو يعلم المأمون بن ذي النون أن ألفونسو هو مَنْ سيُسقط طليطلة، هل كان سيُحسن ضيافته؟!

    إنها لسذاجة حقًّا من المأمون، فألفونسو الذي هرب من حرب أهلية مع أخيه سانشو، وأحسن المأمون ضيافته تسعة أشهر كاملة.. وأخذ عليه عهده أن يحفظ طليطلة له ولأبنائه.. وقَبِلَ ألفونسو، وكأنه استخفَّ بعقل ذلك الرجل!

    المأمون بن ذي النون يستضيف ابن فرناندو الذي أثقل كاهله وكاهل المسلمين بالجزية والغارات والإتاوات، الآن يستقبل ابنه الذي عمَّا قليل سيُسقط طليطلة!
    يبدو أن ألفونسو كان أكبر ذكاءً من المأمون؛ إذ كان ألفونسو يتريَّض في جنبات طليطلة ويأكل من خيراتها، ويُخَالِط أهلها، ويعرف كمائنها ونقاط قوَّتها وضعفها، ويتأمل أسوارها، لقد جعل ألفونسو حياته في طليطلة من منفى إلى مهمة استخباراتية سيحتاج إليها بعد حين.

    وما هي إلاَّ أشهر قليلة وأصبح ألفونسو ملكًا على قشتالة سنة 1072م، وأخذ يُعِدُّ عُدَّته لإسقاط طليطلة.

    فساد القادر بن ذي النون

    مات المأمون بقرطبة وخلفه من بعده حفيده يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن ذي النون وذلك سنة (467هـ=1075م)، وتلقَّب بالقادر بالله، وكان القادر بالله سيئ الرأي، فاسد الخُلُق، أحاط نفسه ببطانة سوء، فتحكَّمَت فيه نساء القصر، وسار وراء هوى الغانيات والمغنيات، وما لبثت هذه البطانة السيئة حتى أوغروا صدره على وزيره الرجل القوي ابن الحديدي، الذي قتله في أوائل ذي الحجة (468هـ=1076م)[1].

    وما لبث القادر أن جنى عاقبة فساده واعتماده على بطانة السوء، وانهالت عليه الثورات والهموم من كل جانب؛ فالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة يُرهقه بغاراته من ناحية، وأبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية أعلن الثورة والاستقلال، والنصارى من ناحية ثالثة يُغيرون على أعمال مملكته، وكادت قونقة أن ينتزعها منه سانشو راميرو ملك أراجون، لولا أنه افتداها بمبلغ كبير من المال، وحاول القادر أن يجد عونًا ونصيرًا له أمام تلك المتاعب والهموم، فالتجأ إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، يطلب مساعدته، وبالطبع وافق ألفونسو، ولكن في مقابل ماذا؟!

    وافق ألفونسو في مقابل أن يتنازل له القادر بن ذي النون عن بعض الحصون القريبة من الحدود، وقد تَسَلَّم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك إضافة إلى الأموال الباهظة التي اشترطها عليه، والتي يعجز عنه القادر، إلا أنه وافق لحاجته إليه!

    ثورة أهل طليطلة

    في خضمِّ كل هذه الأحداث كان المتآمرون داخل طليطلة يُمَهِّدُون لثورة انقلابية على القادر وأعوانه، وأمام هذه التنازلات المخزية من القادر، واستشراء الفساد في طليطلة اندلعت ضده الثورة الداخلية ونادت بالإطاحة به، وفعلاً هرب القادر من طليطلة إلى حصن وبذة، وأصبح أهل طليطلة بلا أمير ولا حكومة ولا نظام، فاستقدموا المتوكل بن الأفطس ليحكم البلاد سنة (472هـ=1079م).

    ألفونسو يعيد القادر على حراب الصليبيين

    انتقل القادر بن ذي النون من ملجئه في وبذة إلى مدينة قونقة، وأرسل إلى ألفونسو يطلب مساعدته، ويُذَكِّره بسالف الودِّ بينه وبين جدِّه المأمون وما كان للمأمون من فضل في عونه وإغاثته، فاستجاب له ألفونسو، وسار معه في سرية من جنوده، فهي فرصة سانحة لألفونسو أن يبسط سلطانه على القادر، إلى أن تحين الفرصة ويبسط سلطانه على المدينة كلها، فعاد القادر مرَّة أخرى بمعونة ألفونسو ملك قشتالة، وحاصرت قوَّات النصارى طليطلة، مما اضطر المتوكل بن الأفطس إلى أن يخرج منها بعد أن أخذ من أسلاب القادر ما شاء؛ من أثاث وفراش وآنية، وسلاح وكتب وغيرها، وبعث بها إلى بطليوس، ونجحت قوَّات ألفونسو في الدخول إلى طليطلة وإعادة القادر إليها بعد عشرة أشهر من خروجه منها، ودخل القادر طليطلة في حمى النصارى وجنودهم، ويقال: إن ألفونسو حاصر طليطلة والمتوكل بداخلها، واضطر المتوكل أن يغادرها بالفرار، وكان ذلك في ذي الحجة سنة (473هـ=1080م) [2].

    ألفونسو يحاصر طليطلة

    الواقع أن ألفونسو كان قد أعدَّ عُدَّتَه للقضاء على طليطلة، ووضع خطته العسكرية التي تُمَهِّد لمشروعه الواسع بالسيطرة على ممالك الطوائف كلها، وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية لَمَّا رأى من استفحال أمر ألفونسو وقوَّته فكر كيف يصنع؛ وبدلاً من أن يسلك مسلك الشرفاء الأعزاء فيُساند طليطلة، أو يسارع فيُكَوِّن حلفًا من ملوك المسلمين، إذا به يخشى على نفسه من أن ينساب تيار الغزو القشتالي إلى مملكته، فرأى أن يعقد مهادنة وصلحًا مع ألفونسو يأمن بها على أراضيه، فبعث وزيره ابن عمار ليتفاوض مع ألفونسو، وتمت المعاهدة والاتفاق على ما يلي:
    - يُؤَدِّي المعتمد للملك القشتالي الجزية سنويًّا.
    - يُسمح للمعتمد بغزو أراضي طليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّمَ منها إلى الملك القشتالي الأراضي الواقعة شمالي سيرامورينا (جبال الشارات).
    - لا يعترض المعتمد على مشروع ألفونسو القاضي بالاستيلاء على طليطلة.

    وهكذا ضحَّى المعتمد بمعقل إسلامي مهمٍّ؛ لكي يفوز بإمارات لم تخضع له بعد، وهذا خطأ سياسي جسيم يُضاف إلى أخطائه، ودلالة على استهتاره نحو أُمَّته ودينه[3].
    وفي شوال (474هـ=1082م) ضرب ألفونسو الحصار على طليطلة، وشدَّد غاراته عليها، وظلَّ على ذلك أربع سنوات كاملة؛ يُخَرِّب في الزروع والأراضي والقرى، وعاش الناس في ضيق وكرب، وليس بين المسلمين مجير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!

    وفي الوقت الذي تُحَاصَر فيه طليطلة كان ملوك الطوائف يُقَدِّمُون ميثاق الولاء والمحبَّة له؛ أي: الجزية والإتاوة، ولم يجرؤ أحد منهم على الاعتراض عليه في ذلك إلاَّ المتوكل بن الأفطس الذي أُخْرِج من طليطلة قبل قليل، وفي الوقت نفسه الذي تُحَاصَر فيه طليطلة نجد أن ممالك الطوائف الأخرى تتنازع فيما بينها، أو تَرُدُّ غارات النصارى المتواصلة عليها.

    ألفونسو على أعتاب طليطلة

    هكذا أضحت طليطلة وحيدة بلا مأوى!
    وهكذا أضحت طليطلة تنتظر ساعة الحسرة والسقوط.
    وهكذا تُركت طليطلة المدينة المنكوبة لمصيرها، وفي خريف سنة (477هـ=1084م) اقترب ألفونسو من المدينة، وأحكم الحصار بشدَّة، وضاق الناس ذرعًا، وكان موقف القادر مريبًا، وكأنَّ هناك اتفاقًا بينه وبين النصارى! وحاول أهل المدينة أن يُطيلوا انتظارهم عسى نجدة من المسلمين تنجدهم، ولكن ليس بين مسلمي الأندلس في ذلك الوقت مجير!

    ولما طال الحصار واستحكم على المسلمين وضاق بهم، أرسلوا جماعة من زعمائهم إلى ألفونسو تتحدث عن الصلح والمهادنة، فما كان من ألفونسو إلا أن أهانهم، وسخر منهم واستدعى سفراء ملوك الطوائف، وقد كانوا جميعًا يومئذ لديه يخطبون ودَّه، ويُقَدِّمُون إليه الأموال، وهكذا خرج زعماء طليطلة وقد فقدوا أملهم، عادوا خائبين، وأيقنوا سوء المصير[4].

    شروط ألفونسو على أهل طليطلة

    مضى على الحصار إلى الآن تسعة أشهر، وتحطَّمت كل الآمال المرجوَّة في الصلح والهدنة، وهكذا عرضت المدينة التسليم، بعد أن عجزت عن المقاومة، وبعد أن سَلَّمها ملوك الطوائف ثمنًا لدينهم، وشرفهم وعزَّتهم!
    وكان من ضمن شروط التسليم:
    - أن يُؤَمَّن أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم.
    - أن يُغادرها مَنْ يشاء حاملاً أمواله، وأن يُسمح لمن عاد منهم باسترداد أموله.
    - أن يُؤَدُّوا الجزية إلى ملك قشتالة على ما كانوا يُؤَدُّونَه لملوكهم من المكوس والضرائب.
    - أن يحتفظ المسلمون للأبد بمسجدهم الجامع، وأن يتمتَّعُوا بالحرية التامَّة في إقامة شعائرهم وشريعتهم.
    - تسليم سائر القلاع والحصون.
    وأما بالنسبة للقادر بن ذي النون:
    يمكِّنه ملك قشتالة من الاستيلاء على بلنسية، وبالتالي تخضع له القواعد الشرقية كلها[5].

    خروج القادر بن ذي النون من طليطلة

    وكانت هذه العلاقة المشئومة بين القادر بن ذي النون وألفونسو السادس ملك قشتالة سببًا في سقوط طليطلة، وخروج القادر المنكود منها ذليلاً هو وأهله، وما أبلغ تعبير ابن بسام في وصف حال القادر عند خروجه! إذ يقول: «وخرج ابن ذي النون خائبًا مما تمنَّاه، شرقًا بعقبى ما جناهُ، والأرض تَضِجُّ من مُقامه، وتستأذنُ في انتقامه، والسماء تودُّ لو لم تُطْلِعْ نَجْمًا إلاَّ كدَرَتْهُ عليه حَتْفًا مبيدًا، ولم تُنْشِئ عارضًا إلا مَطَرَتْهُ عذابًا فيه شديدًا، واستقرَّ بمحَلَّة أذفنوش (ألفونسو) مخفورَ الذِّمَّة، مُذَالَ الحرمة، ليس دونه باب، ولا دونَ حُرمِه سِترٌ ولا حجاب، حدَّثَنِي مَنْ رآه يومئذ بتلك الحال وبيده أصطرلابٌ؛ يرصدُ فيه أيّ وقت يَرْحَل، وعلى أي شيء يعوِّل، وأيّ سبيلٍ يتمثَّل، وقد أطافَ به النصارى والمسلمون، أولئكَ يضحكونَ من فِعله، وهؤلاء يتعجَّبونَ من جهله»[6].

    وما أبلغ شماتة ابن الخطيب في القادر وأهله عندما قال: «والطاغيةُ بين يديه يَتَبَحْبَح[7] بيده عنده، واستقرَّ بها شرَّ استقرار، واقتضاه الطاغيةُ الوَعْد، وسلبه الله النصر والسعد، وهلكت الذمم، واستُؤصلت الرِّمَم، ونُفِّذ عقابُ الله في أهلها جاحدي الحقوق، ومُتَعَوِّدي العقوق، ومُقيمي أسواق الشقاق والنفاق، والمَثَل السائر في الآفاق»[8].

    سقوط طليطلة



    وفي صفر (478هـ=1085م) دخل ألفونسو السادس ملك قشتالة طليطلة، وهكذا سقطت طليطلة وخرجت من قبضة الإسلام، وغدت عاصمة للنصرانية، وحاضرة لمملكة قشتالة، التي يتربَّع على عرشها ألفونسو السادس.


    وبسقوط طليطلة اهتزَّ العالم الإسلامي في الشرق والغرب، يُصَوِّره الشاعر ابن عسال بقوله: [البسيط]

    يَا أَهْلَ أَنْدَلُسٍ حُثُّوا مَطِيَّكُمُ

    فَمَـا الْمَقَـامُ بِهَـا إِلاَّ مِـنَ الْغَلَطِ
    الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى

    ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
    مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ

    كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ[9]

    وهي صورة عجيبة ينقلها ذلك الشاعر (إعلام ذلك الوقت) المحبَّط، حتى كأنَّه يدعو أهل الأندلس جميعًا بكل طوائفه ودويلاته إلى الهجرة والرحيل إلى بلاد أخرى غير الأندلس؛ لأن الأصل الآن هو الرحيل، أما الدفاع أو مجرَّد البقاء فهو ضرب من الباطل أو هو (الغلط) بعينه، ولقد سانده وعضَّد موقفه هذا أن من الطبيعي إذا ما انسلَّت حبة من العِقد -مثلاً- فإن الباقي لا محالة مفروط، فما الحال إذا كان الذي انسلَّ من العِقد هو أوسطه (طليطلة) أوسط بلاد الأندلس، فذاك أمر ليس بالهزل، بل وكيف يعيشون بجوار هؤلاء (الحيَّات) إن هم رضوا لهم بالبقاء؟! فما من طريق إلا الفرار وشدِّ الرِّحَال.

    استدعاء المرابطين

    وعلى إثر سقوط طليطلة، بدأ ألفونسو يُعِدُّ عُدَّته، ويتجهَّز للهجوم على الممالك الأخرى، لا سيما إشبيلية وبطليوس وسرقسطة وما حولهما، وبدأ ألفونسو يستخدم سياسة الاستهزاء والاستهتار بزعماء الأندلس، وتسمَّى بذي الملتين، وتطوَّر الأمر أن حاصر إشبيلية على نحو ما ذكرنا، حتى كان ما كان من فكرة الاستنجاد بالمرابطين.

    المعتمد بن عباد واستدعاء المرابطين

    إلاَّ أن ما يدلُّك على فساد الحكام في ذلك الوقت هو أن بعضهم رفض فكرة المعتمد، وراسله في أن يعود عن قرار الاستنجاد بالمرابطين، وخوَّفُوه من أن نزول المرابطين إلى الجزيرة قد يُغريهم بحكمها بأنفسهم، وحقًّا إن شهوة الملك هذه تُذهب الدين والعقل والمروءة وسائر الصفات الكريمة، فما أكثر الحسرات التي يعانيها القارئ في تاريخ الأندلس وهو يقرأ أخبار هذه الفئة التي سكنتها شهوة الحكم الصوري الضعيف الهش، الذي لا يتماسك أمام العدوِّ، ولا يتوسَّع إلاَّ على حساب دماء المسلمين، ويرضى بالذلِّ ودفع الجزية، ويسكت عن إخوانه المحاصرين والمقتولين، ولا يُبصر أن الدور سيأتي عليه، فلا يرضى حتى بالنجدة تعبر إليه لاحتمال أن تحوز الملك دونه! أيُّ فسادٍ في الدين هذا، بل في العقل، بل في الفطرة السوية؟!

    إلاَّ أن الله ألهم المعتمد بهذه العزيمة والإصرار، وقال كلمته الخالدة التي صارت مثلاً: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير». ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعُذَّاله ولوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما، أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة شكٍّ، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشكِّ فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه؟ فحينئذ قصر أصحابه عن لومه»[10].

    والحق أن المعتمد -أيضًا- لم يترك من حسنات في سيرته إلاَّ هذه الخطوة، ثم جهاده وصبره في معركة الزلاقة الذي سيأتي بيانه، أما قبل هذا القرار وبعده فهو ليس إلا واحدًا من ملوك الطوائف، سكنته شهوة السلطان؛ حتى أذهبت عنه كل أثر من عقل أو فضيلة، وسنراه كيف سيقاتل المسلمين المرابطين بما لم يفعل مثله مع النصارى.

    ولكن لا نسبق الأحداث؛ فأمام الحالة الإيمانية والجهادية العالية التي كان عليها المعتمد بن عباد تحرَّكت النخوة في قلوب الأمراء الآخرين، فقام المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فوافقوا المعتمد بن عباد في رأيه، وبذلك اجتمعت الحواضر الكبرى في الأندلس على استدعاء المرابطين، وتقدَّمت الوفود تلو الوفود إلى المغرب العربي؛ يقول الحميري: «وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم»[11].
    فمن هم المرابطون؟ وما صفاتهم؟ ومن يكون يوسف بن تاشفين؟
    هذا حديثنا في المقالات القادمة إن شاء الله.


    [1] ابن بسام: الذخيرة 7/150-155، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص179، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/107.
    [2] ابن بسام: الذخيرة 7/163، 164، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/108.
    [3] طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص443، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/109.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 7/165-167، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/112، 113.
    [5] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/113، 114.
    [6] ابن بسام: الذخيرة 7/156-169.
    [7] التَّبَحْبُح: التمكن في الحلول والمُقامِ والنفقة. ابن منظور: لسان العرب، مادة بحح 2/406، والمعجم الوسيط 1/39.
    [8] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص181.
    [9] الصفدي: وفيات الأعيان 5/28، والمقري: نفح الطيب 4/352. والسَّفَط: وعاء يوضع فيه الطيب. المعجم الوسيط 1/433.
    [10] المقري: نفح الطيب 4/359.
    [11] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار 1/288، 289.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ألفونسو السادس وحصار إشبيلية

    ألفونسو السادس ذو الملتين

    بعد أن استطاع ألفونسو إسقاط طليطلة في صفر سنة (487هـ=1085م)، علا وتجبَّر وتسمى بذي الملتين، وراح يستهين بملوك الطوائف، لا يُفَرِّق بين أحد منهم، وكانت خطوته التالية بعد طليطلة إخضاع إشبيلية لسلطانه، وكان ألفونسو -كما أوضحنا- قد اعتمد في إرهاق إشبيلية على الجزية والغارات المتواصلة، ولكن حدث أمر قلب موازين الأمور في الأندلس..

    موقف تاريخي للمعتمد بن عباد

    أرسل ألفونسو سفارة على رأسها وزير يهودي لأخذ الجزية من المعتمد بن عباد، وكان المعتمد قد تأخَّر عن موعد دفع الجزية لانشغاله بغزو ابن صمادح صاحب ألمرية، فغضب ألفونسو وطلب فوق الجزية أن يتسلم بعض الحصون، ثم بالغ في طلباته فطلب أن تلد امرأته جنينها في مسجد قرطبة، وأن تسكن في الزهراء؛ بحجة أن الأطباء أشاروا عليه بنقاء الهواء في الزهراء، كما أن القساوسة أشاروا عليه بهذا الموضع من الجامع، فرفض المعتمد هذه الطلبات، وإذ باليهودي -وهو مجرد رسول- يردُّ على المعتمد بكلام مهين أمام مجلسه ووزرائه[1].

    وكعادة النفوس التي قد بقي بها شيء من عوالق الفطرة السوية، أخذت الغيرة المعتمد بن عباد، وبنخوة كانت مفقودة قام المعتمد على الله فضرب اليهودي وقطع رأسه وصلبه بقرطبة، واعتقل بقيَّة الوفد.

    جُنَّ جنون ألفونسو السادس، وعلى الفور جمع جيشه وأتى بحدِّه وحديده، يُخَرِّب في أراضي إشبيلية، وبعث سراياه فعاثت في أراضي باجة ولبلة، وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير، ثم عاث في أراض شَذُونة وانحدر غربًا يُخَرِّب ويحرق، ثم فرض الحصار على إشبيلية[2].

    حصار إشبيلية



    فرض ألفونسو حصاره على إشبيلية (478هـ=1085م) بعد أن خرب أعمالها حرقًا ونهبًا، ثم بعث برسالة للمعتمد بن عباد مع رجل يُسَمَّى البرهانس، وهي رسالة مِلْؤُها الوعيد والانتقام، يقول له فيها:

    «من الإمبراطور ذي الملتين الملك أذفونش بن شانجة إلى المعتمد بالله سدَّد الله آراءه، وبصَّره مقاصد الرشاد، قد أبصرتَ تَزَلْزُلَ أقطار طليطلة، وحصارها في سالف هذه السِّنين، فأسلمتم إخوانكم، وعطَّلتم بالدِّعة زمانكم، والحَذِر مَنْ أيقظ بالَهَ قبل الوقوع في الحِبَالة[3]، ولولا عهدٍ سَلَفَ بيننا نحفظ ذِمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الإنذار يقطع الأعذار، ولا يعجل إلاَّ مَنْ يخاف الفَوْت فيما يرومه، وقد حمَّلنا الرسالة إليك السيد البرهانس، وعنده من التسديد الذي يلقى به أمثالك، والعقل الذي يُدَبّر به بلادك ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدقُّ ويجلُّ، وفيما يصلح لا فيما يخلُّ، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك»[4].

    رد المعتمد على ألفونسو



    فلمَّا قدم الرسول أحضر المعتمد بن عباد أكابر القوم ووزراءه وفقهاءه، فلمَّا قرأ الكتاب بكى فقيه الأندلس أبو عبد الله بن عبد البر وقال: قد أُبْصِرنا ببصائرنا أنَّ مآل هذه الأموال إلى هذا، وأن مسالمة اللَّعين قوَّة بلاده، فلو تضافرنا لم نصبح في التِّلاف تحت ذلِّ الخلاف، وما بقي إلاَّ الرجوع إلى الله والجهاد.


    ثمَّ أخذ المعتمد رسالة ألفونسو وكتب عليها: [الكامل]
    الذُّلُّ تَأْبَاهُ الْكِرَامُ وَدِينُنَا

    لَكَ مَا نَدِينُ بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ
    سُمْنَاكَ سِلْمًا مَا أَرَدْتَ وَبَعْدَ ذَا

    نَغْزُوكَ فِي الإِصْبَاحِ وَالإِمْسَاءِ
    اللهُ أَعْلَى مِنْ صَلِيبِكَ فَادَّرِعْ

    لِكَتِيبَةٍ خَطَبَتْكَ فِي الْهَيْجَاءِ
    سَوْدَاءَ غَابَتْ شَمْسُهَا فِي غَيْمِهَا

    فَجَرَتْ مَدَامِعُهَا بِفَيْضِ دِمَاءِ
    مَا بَيْنَنَا إِلاَّ النِّزَالُ وَفِتْنَةٌ

    قَدَحَتْ زِنَادَ الصَّبْرِ فِي الْغَمَّاءِ[5]
    فَلَتَقْدُمَنَّ إِذَا لَقِيتَ أَسِنَّةً

    زُرْقًا تُرَى بِالْوَجْنَةِ الْوَجْنَاءِ[6]
    ثم قال:
    «من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله، إلى الطَّاغية الباغية أدفونش الذي لَقَّب نفسه ملك الملوك، وتسمَّى بذي الملَّتَيْنِ، سلام على مَنِ اتَّبع الهُدى، فأول ما نبدأ به من دعواه أنه ذو الملَّتَيْنِ والمسلمون أحقُّ بهذا الاسم؛ لأنَّ الذي نملكه من نصارى البلاد، وعظيم الاستعداد، ولا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملَّتكم، وإنَّما كانت سِنَةُ سعدٍ اتَّعظ منها مُناديك، وأغفل عن النَّظر السَّديد جميل مُناديك، فركِبنا مركب عجز يشحذ الكيْس، وعاطيناك كئوس دَعَةٍ، قلت في أثنائها: لَيْس. ولم تستحي أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنَّا لنعجب من استعجالك وإعجابك بِصُنْعٍ وافَقَكَ فيه القَدَر، ومتى كان لأسلافك الأخدمين مع أسلافنا الأكرمين يدٌ صاعدة، أو وقفة مساعدة، فاستعدَّ بحربٍ، وكذا وكذا... إلى أن قال: فالحمد لله الذي جعل عقوبة توبيخك وتقريعك بما الموت دونه، والله ينصر دينه ولو كره الكافرون، وبه نستعين عليك»[7].

    طاول المعتمد على الله في التحصُّن، وفي محاولة لبثِّ الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين والفتِّ في عضدهم أرسل ألفونسو السادس رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول فيها: «كثُر بطول مقامي في مجلسي الذِّبَّان[8]، واشتدَّ علي الحرَّ فأتحِفْنِي من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها عن نفسي، وأطرد بها الذباب عني».

    يُريد وبكل كبرياء وغرور أن يُخبره أن أكثر ما يُضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أمَّا أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.

    وبنخوة أخرى أخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالةَ وقلبها، وكتب على ظهرها ردًّا وأرسله إلى ألفونسو السادس، ولم يكن هذا الردُّ طويلاً، إنه لا يكاد يتعدَّى السطر الواحد فقط، وما أن قرأه ألفونسو السادس حتى تَمَلَّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى..

    لم تكن رسالة المعتمد بن عباد إلاَّ قوله: قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللَّمْطِيَّة[9] في أيدي الجيوش المرابطية، تُريح منك لا تروح عليك إن شاء الله[10].

    رفع الحصار عن إشبيلية

    لم يكن أمام المعتمد على الله غير أسلوب التهديد هذا؛ فقط لوَّح بالاستعانة بالمرابطين، وقد كان ألفونسو السادس يعلم جيدًا مَنْ هم المرابطون، فهو مطَّلِع على أحوال العالم الخارجي، فما كان منه إلاَّ أن أخذ جيشه وانصرف وفضَّ حصار إشبيلية.

    وهنا أيقن المعتمد فداحة جرمه وخطأه في دفع الجزية للنصارى، وإغارته على ممالك المسلمين، وقد أيقن أنه لا قِبَلَ له بألفونسو إلاَّ بالمرابطين، وقد استنكر عليه بعضهم، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ[11]، والسيفان لا يجتمعان في غمد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير[12].


    [1] الحميري: الروض المعطار، ص288.
    [2] الحميري: الروض المعطار ص288، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/73، 74.
    [3] حِبالة: هي ما يصاد بها من أَيّ شيء. ابن منظور: لسان العرب، مادة حبل 11/134.
    [4] الذهبي: تاريخ الإسلام 32/25، والحلل الموشية، ص38، 39.
    [5] الغمَّاء: الشديدة من شدائد الدهر. ابن منظور: لسان العرب، مادة غمم 12/441، والمعجم الوسيط 2/663.
    [6] الوَجْنَة: ما ارتفع من الخَدَّين للشِّدْق والمَحْجِر. والوجناء: تامة الخَلْق غليظة لحم الوَجْنةِ صُلْبة شديدة. ابن منظور: لسان العرب، مادة وجن 13/443.
    [7] الذهبي: تاريخ الإسلام 32/24-26، وانظر: الحميري: الروض المعطار ص288، والحلل الموشية ص38-42.
    [8] الذِّبَّان جمع: ذُباب. ابن منظور: لسان العرب، مادة ذبب 1/380.
    [9] اللمطية: نسبة إلى لمطة وهي قبيلة بأرض المغرب الأقصى. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/23.
    [10] انظر: الحميري: الروض المعطار، ص 288، وصفة جزيرة الأندلس، ص85، والمقري: نفح الطيب، 4/358، السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 2/38.
    [11] الملك عقيم: مَثَلٌ يراد به أن الْمَلِكَ لو نازعه وَلَدُه مُلْكَه لم يلبث أن يُهلكه، فيصير كأنه عقيم لم يُولد له. العسكري: جمهرة الأمثال 2/247، والميداني: مجمع الأمثال 2/311 .
    [12] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام 32/25، والحميري: الروض المعطار ص288، والسلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2/38.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ألفونسو والحرب الصليبية على ملوك الطوائف

    الحرب والحملات الصليبية



    كان ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة أقوى ملك نصراني صليبي في ذلك الوقت، ولم ينسَ ألفونسو يومًا عداوة آبائه وأجداده للمسلمين في الأندلس؛ لذلك ليس غريبًا أن يستأنف ألفونسو حرب الاسترداد الصليبية في إسبانيا الإسلامية، بل وتكون أشُدَّها ضراوة وقوَّة وحمية.


    وقد اتَّسمت فترة الصراع الإسلامي الصليبي في عهد ألفونسو بالدينية، وكان ذلك بتأييد من البابوية الكنسية؛ لذلك اتَّسم الصراع بالحماسة الشديدة من أجل تحقيق أهداف الكنيسة في القضاء على الإسلام والمسلمين في الأندلس.

    الحرب الصليبية على ملوك الطوائف

    ألفونسو وسرقسطة

    عندما اعتلى ألفونسو عرش قشتالة وليون سنة (466هـ=1072م) كان الصراع على أشدِّه بين إشبيلية وغرناطة، وقد سبق وفصلنا كيف استعانت كلتا المملكتين بألفونسو السادس على بعضهما، حتى أرهقهما بالجزية وبما أثاره من تقتيل وتخريب وإفساد باسم تحالفه مع المملكتين.

    كانت العَلاقة بين ألفونسو ومملكة سرقسطة تسير من سيئ إلى أسوأ، وحدث أن تُوُفِّيَ يوسف المؤتمن بن هود في السنة نفسها التي سقطت فيها طليطلة بيد ألفونسو (478هـ=1085م)، فتوجه إلى سرقسطة، وضرب الحصار عليها، إلا أن حملته باءت بالفشل؛ إذ جاءت الأنباء إليه بقدوم المرابطين لنجدة إخوانهم بالأندلس، فعاد إلى قشتالة ليُعِدَّ عُدَّته.

    ألفونسو وبلنسية



    أما عن بلنسية فقد كانت تمرُّ بفوضى سياسية تحت حُكم القادر يحيى بن ذي النون، الذي دخلها تحت الحماية القشتالية في شوال (478هـ=1086م)، فقد تعرَّضت بلنسية لضغط المنذر بن هود صاحب طرطوشة ودانية والجزء الشرقي من مملكة سرقسطة، وكانت المدينة تشطر أملاكه، فالتمس المساعدة من كلٍّ مِنْ ألفونسو السادس وأحمد المستعين، الذي هرع إلى القمبيطور، غير أن المصالح تضاربت بين الحليفين، فاضطر المستعين أن يستعين برامون أمير برشلونة، كما استعان القمبيطور بألفونسو السادس، وحدث أن انتصر القمبيطور على رامون، واستولى بذلك على شرقي الأندلس وبلنسية منها، وفرض الجزية عليها، وتعهَّد يحيى بدفع مائة ألف دينار سنويًّا مقابل حمايته له، بيد أن العلاقة ساءت بين القمبيطور وألفونسو السادس، فقبض ألفونسو السادس على زوجة القمبيطور وأولاده، وهاجم بلنسية في الوقت الذي كان فيه القمبيطور في سرقسطة؛ لتنظيم الدفاع عنها تجاه خطر المرابطين![1]


    وهكذا أضحت ملوك الطوائف كلها تحت نير[2] هجمات النصارى وممالكهم المختلفة في كل مكان، والتي أنهكت قوى ملوك الطوائف وأضعفت قواهم، ونتج عنها أن سقطت طليطلة على نحو ما سنُفَصِّله إن شاء الله.

    ألفونسو وأخذ الجزية من المسلمين

    إنَّ أشدَّ وأنكى ما كان من أمر ملوك الطوائف في هذه الفترة أنهم كانوا يدفعون الجزية للنصارى، فكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس، وهم في ذِلَّة ومهانة؛ كانوا يدفعون الجزية حتى يحفظ لهم ألفونسو السادس أماكنهم وبقاءهم على الحُكم في بلادهم.

    كانت سياسة ألفونسو السادس التي استعان بها في إنجاح خطته وسيطرته على ممالك الطوائف تعتمد على شقَّيْنِ، الأول: إرهاقهم بالغارات المتواصلة، والثاني: إرهاقهم بالجزية والإتاوات؛ وبذلك تضعف قوى ملوك الطوائف العسكرية والاقتصادية، فلا يقدرون على المدافعة.
    وكأنَّ قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 51- 52]. قد نزل في أهل الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث يَتَعَلَّلون ويتأَوَّلُون في مودَّة وموالاة النصارى بالخوف من دائرة تدور عليهم من قِبَلِ إخوانهم، وهنا يُعَلِّق بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 52]، وهو بعينه الذي سيحدث في نهاية هذا العهد كما سنرى، حين يكون النصر فيُسِرُّ هؤلاء في أنفسهم ما كان منهم من موالاة النصارى في الظاهر والباطن، ويندمون حين يفضحهم الله ويُظهر أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، وذلك بعد أن كانوا مستورين لا يدري أحدٌ كيف حالهم.

    وإنها لعبرة وعظة يُصَوِّرُها القرآنُ الكريمُ منهجُ ودستورُ الأُمَّة في كل زمان ومكان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].

    موقف المتوكل بن الأفطس مع ألفونسو

    غير أن الصورة لاح فيها نور من العزَّة والإباء قادم من بطليوس، التي أرهقتها غارات ألفونسو، فمع أن كل الممالك وأمراء الطوائف كانوا يدفعون الجزية إلى ألفونسو السادس إلا المتوكل بن الأفطس أمير مملكة بَطَلْيُوس.

    وبعد أن أسقط ألفونسو طليطلة سنة (487هـ=1085م)، وجد نفسه قادرًا على تحدِّي ملوك الطوائف جميعًا، وهنا أرسل ألفونسو السادس للمتوكل بن الأفطس رسالة شديدة اللهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية، كما كان يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فرد عليه المتوكل برسالة قوية تثبت ما كان عليه من علم وعزة وإرادة، قال:
    «وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مُدَّعٍ في المقادير، وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يُفَرِّق، ويُهَدِّد بجنوده الوافرة، وأحواله المتضافرة، ولو علم أن لله جنودًا أعزَّ بهم ملَّة الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد u، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ} [المائدة: 54]، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرَّعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، و{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11].

    وأمَّا تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، وظهر من اختلالهم؛ فبالذنوب المركوبة... ولو اتَّفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك؛ لعلمتَ أيَّ مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا تتجرَّعه... وبالأمس كانت قطيعة[3] المنصور[4] على سلفك، إهداء ابنته إليه[5]، مع الذخائر التي كانت تَفِدُ في كل عام عليه... وأما نحن؛ وإن قلَّت أعدادنا، وعُدِم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلاَّ سيوفًا تشهد بحدِّتها رقاب قومك، وجلادًا تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسوَّمين، نتقوَّى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما {تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومِنَّة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هَدِّدْتَ، وفرج يبتر ما مددت، ويقطع بك فيما أعددت»[6].

    فما كان من ألفونسو السادس إلاَّ أن وجم ولم يُفَكِّر، ولم يستطع أن يُرسل له جيشًا؛ فقد غزا كل بلاد المسلمين في الأندلس خلا بطليوس، لم يتجرَّأ على أن يغزوها، فكان يعلم أن هؤلاء الرجال لا يقدر أهلُ الأرض جميعُهم على مقاومتهم، فأعزَّ الإسلامُ ورفع من شأن المتوكل بن الأفطس ومَنْ معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرَّد أن لوَّحوا بجهاد لا يرضون فيه إلاَّ بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة.

    إلاَّ أن المتوكل صاحب هذه الرسالة، وصاحب العلم والفضل، ختم حياته على أسوأ وأخزى ما يكون الختام؛ إذ هو لما أتى فرجُ الله وتوحَّدت الأندلس استولت عليه شهوة الملك؛ حتى تحالف مع ألفونسو عدوِّه القديم ضد المسلمين، وما أغنى عنه ذلك شيئًا! إذ لقي جزاء خيانته قتلاً في خاتمةٍ ما كان أحسن به أن يتجنبها!


    [1] انظر تفاصيل الأحداث في بلنسية عند: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/237-252، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص476، 477.
    [2] النير: الخشبة المعترضة فوق عنق الثور لجرِّ المحراث أو غيره. ابن منظور: لسان العرب، مادة نير 5/246، والمعجم الوسيط 2/966.
    [3] القطيعة: المال المفروض على العدو كل عام، وهي نوع من أنواع الجزية، يضمن بها المهادنة من المسلمين.
    [4] المنصور: هو المنصور بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية.
    [5] لما أجبر أجداده على دفع الجزية، فكان ملك نافار جدُّ ألفونسو السادس قد أرسل ابنته هدية إلى المنصور حتى يأمن جانبه، وهي أمُّ عبد الرحمن بن المنصور الذي انتهت بحُكمه الدولة العامرية.
    [6] الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، لمؤلف أندلسي من أهل القرن الثامن الهجري، ص36، 37.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ألفونسو ملكا على عرش قشتالة وليون

    فرناندو وتقسيم مملكته على أبنائه



    عمد فرناندو قُبَيْلَ وفاته إلى تقسيم مملكته المتحدة على أبنائه الثلاثة وبنتيه، ويبدو أن فرناندو لم يتعلَّم من درس والده سانشو الكبير عندما قسَّم مملكته المتحدة بين أبنائه، وقد ذاق فرناندو لظى الفُرقة التي كانت بينه وبين إخوته! على كل حالٍ اتَّخذ فرناندو قراره بالتقسيم، وجمع الأساقفة والأشراف في سنة 1064م، وانتهى إلى تقسيم الدولة على أبنائه الثلاثة: سانشو الابن الأكبر، وألفونسو، وغرسية، وبنتيه: أوراكا، وإلبيرة.


    فخصَّ سانشو بقشتالة وحقوق الجزية من مملكة سرقسطة.
    وخصَّ ألفونسو بليون وحقوق الجزية من مملكة طليطلة.
    وخصَّ غرسية بجليقية والبرتغال، وحقوق الجزية من مملكة إشبيلية وبطليوس.
    وخصَّ أوراكا بمدينة سمورة الحصينة.
    وخصَّ إلبيرة بمدينة تورو وأماكن أخرى على نهر دويرة.

    الصراع بين أبناء فرناندو


    كان هذا التقسيم سبيلاً إلى اندلاع الشقاق بين الإخوة الأشقاء، وسبيلاً إلى الفُرقة والتنازع بينهم، وهو ما حدث بالفعل.

    كانت مملكة نافار في ذلك الوقت تحت يد سانشو بن غرسية، كما كانت مملكة أراغون تحت حكم سانشو بن راميرو، وقد طمع سانشو بن فرناندو في ضمِّ المملكتين إلى أملاكه، وقد شعر مَلِكَا أراغون ونافار بنية ملك قشتالة، فكَوَّنَا حلفًا ضده، واستطاعَا أن يصداه عن مملكتيهما في معركة فيانا عام 1067م، وبعد عام هاجم سانشو بن فرناندو ملك قشتالة أراضي ليون، وحاول أخوه ألفونسو ردَّه، ولكنه هُزم وتنازل لسانشو عن بعض ممتلكاته عام 1068م.

    ثم أعاد سانشو كَرَّته على ليون، وهُزم في بادئ الأمر، ولكنه استطاع بحيلة ردريجو ياث (الذي يُعرف بالقمبيطور) أن ينتصر على ألفونسو؛ إذ أغار على جيش ليون ليلاً، ودخل سانشو ليون ظافرًا، واعتقل أخاه ألفونسو وسجنه في يوليو عام 1071م، ولكنه خرج من معتقله بوساطة أخته أوراكا، وحُدِّدت إقامته في دير ساهاجون، وقد دَبَّرت أخته أوراكا له مكيدة، استطاع بها أن يهرب، والتجأ إلى مملكة طليطلة؛ ليكون في رعاية المأمون بن ذي النون، وقد استقبله المأمون أحسن استقبال، وأكرمه وعاش في كنفه أحسن معيشة.

    ألفونسو في طليطلة


    ويبدو أن ألفونسو لم يكن يقضي منفاه في لهو ولعب وعبث، وإنما كان يتنقل بين جنبات طليطلة، تلك المدينة التي يحلم أن يمتلكها يومًا ما؛ ومما يؤيد ذلك قول الأستاذ بيدال: «كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين ويتريض في جنبات المدينة الحصينة، ويُفَكِّر من أيِّ الأماكن وبأيِّ نوع من أدوات الحرب يمكن اقتحامها»[1]. وقضى ألفونسو تسعة أشهر في منفاه معزَّزًا مكرَّمًا، إلى أن شاءت الأقدار وتطوَّرت الأحداث في قشتالة!

    سانشو يغزو أملاك أخوته


    لم يقنع سانشو بما تمَّ له من السيطرة على ليون، بل أراد أن ينتزع المُلْكَ من أخيه غرسية ملك جليقية والبرتغال، وقد تمَّ له ذلك، وفرَّ غرسية هاربًا ليكون في حمى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وذلك سنة 1071م.

    لم يَبْقَ لسانشو من مُلْكِ أبيه سوى مُلْكِ أختيه في مدينتي سمورة وتورو، وعقد عزمه على أن ينزع منهما ملكهما، واستطاع فعلاً أن يستوليَ على تورو، ولم تصمد أخته إلبيرة أمامه، ثم توجَّه بجيشه إلى سمورة، فصمدت أمامه كثيرًا، ففرض عليها الحصار، وفي ذات يوم وفد إلى معسكره فارس، وطلب مقابلته؛ ليُنْبِئه عن بعض أحوال المدينة المحصورة، وما كاد الفارس يراه حتى طعنه بحربته فأرداه قتيلاً، وانفضَّ الحصار عن المدينة، بيد أن أخته أوراكا كانت وراء هذه الجريمة، وكان ذلك في أكتوبر سنة 1072م.

    وهكذا بقيت المملكة بلا ملك يتولَّى شئونها، ولم يبقى من إخوة القتيل سوى ألفونسو اللاجئ في بلاط طليطلة، وغرسية اللاجئ في بلاط إشبيلية، فإلى مَنْ تئول المملكة الواسعة؟!

    ألفونسو ملكا على عرش قشتالة وليون




    وهكذا قُتل سانشو جزاء طمعه واعتدائه على حقِّ إخوته، فاجتمع الأشراف على استدعاء ألفونسو من طليطلة؛ ليتولَّى الحُكم مكان أخيه، بشرط أن يُقْسِمَ أنه لم يشترك بأي حال في تدبير مقتل أخيه سانشو، فأرسلت أخته أوراكا إليه تستدعيه وتُعْلِمُه بالأمر، وعلى الفور أعلم ألفونسو المأمونَ بن ذي النون بالنبأ، فما كان من المأمون إلا أن أعرب عن سروره وغبطتُه، ووعده بمساعدته بالمال والخيل، ولم يطلب سوى صداقته، وأن يعده أن يساعده ضد إخوانه من المسلمين، فقطع له ألفونسو عهده، وودَّعه المأمون في موكب عظيم إلى حدود مملكته.


    ويا لخيبة المأمون! إذ ماذا كان سيفعل لو علم أن ألفونسو هو مَنْ سيُسْقِط مملكته، ويُهِينُ حفيده القادر!

    على كل حالٍ غَدَا ألفونسو ملكًا على عرش ليون وقشتالة، وهكذا عادت المملكة الصليبية وحدة واحدة، كما كانت على عهد سانشو الكبير وفرناندو الأول.

    بيد أن غرسية الأخ الآخر لألفونسو طمع في أملاك أخيه وتَمَلَّكَهُ الحسد، فدبَّر له ألفونسو مكيدة بإيعاز من أختهما أوراكا؛ إذ دعا ألفونسو أخاه غرسية للتفاهم، وما كاد يصل غرسية حتى قُبِضَ عليه، وزُجَّ في السجن إلى أن تُوُفِّيَ سنة 1090م، وخَلُص عرش المملكة لألفونسو بلا منازع[2].


    [1] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/391.
    [2] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/389-395.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    فرناندو وتوحيد ممالك إسبانيا النصرانية

    الحرب الأهلية بين ممالك إسبانيا

    ما إن مات سانشو الكبير اندلعت الحرب الأهلية في إسبانيا النصرانية بين الإخوة الأشقاء، وكانت حربًا دموية وشرسة، استعان أطرافها بالغيلة والخيانة والخديعة.



    لم يقتنع راميرو ملك أراغون بنصيبه من مملكة أبيه، وطمع في نصيب أخيه غرسية؛ أي: مملكة نافار نفسها، ولم تكن قوَّاته كفيلة بتحقيق أحلامه، فعقد حلفًا مع جاره المسلم ابن هود صاحب سرقسطة على أن يُمِدَّه بجنود من عنده، ثم زحف راميرو في قوَّاته المتحدة، إلى نافار ومعه حلفاؤه من المسلمين، وضرب حصاره على قلعة تافالا، وعلى عَجَلٍ جمع غرسية جيوشه، وفي جُنح الظلام انقضَّ بقواته على جيش راميرو، وكانت مقتلة عظيمة ومفاجأة، وقُتل كذلك معظم جيش المسلمين المشارك في المعركة، وكان ذلك سنة 1042م.


    وعلى الجانب الآخر كان غرسية ملك نافار يرى أنه أحقُّ بقشتالة من أخيه فرناندو؛ فهو أكبر إخوته سنًّا، وتملكت الغيرة قلبه من أخيه الأصغر فرناندو، فدبَّر له حيلة ومكيدة يكون فيها مقتل فرناندو؛ إذ دعا غرسية أخاه فرناندو لزيارته في نافار؛ فهو على فراش الموت، ويحبُّ أن يرى أخاه قبل انقطاع حياته، وفعلاً لبَّى فرناندو دعوة أخيه الأكبر، ولكنه فطن إلى حيلته بفعل عيونه، فعاد مسرعًا، وقلبه يمتلئ حقدًا على أخيه، ولم يكن غرسية على علم بأن فرناندو اكتشف حقيقة أمره ومكيدته، وبعث فرناندو برسالة لأخيه غرسية يدعوه لزيارته بقشتالة، فسار إليه وهو مطمئن النفس من أخيه، وما لبث حتى قبض عليه فرناندو واعتقله، ولكنه استطاع الفرار وهو يُضمر لأخيه الانتقام، فكان لا بد من الحرب!

    جمع غرسية حشوده مستعينًا في ذلك بحليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة، كما جمع فرناندو حشوده من قشتالة وليون، واشتبك الفريقان عند سهل أتابوركا شرقي برغش، وكانت معركة دامية، انقلبت فيها الموازين على غرسية وحلفائه من المسلمين، وقُتل غرسية بضربة قاضية، فانهار جيشه ولاذ بالفرار، وقصر فرناندو مطاردته على جيش المسلمين، فمُزِّقُوا شرَّ ممزَّق، وكانوا بين أسير وقتيل، ووقع اختيار فرناندو على سانشو بن غرسية ملكًا جديدًا على نافار؛ ليكون وريثًا لأبيه[1].

    وهكذا توحَّدت ممالك إسبانيا النصرانية مرَّة أخرى؛ إذ أضحت قشتالة وليون ونافار وجليقية وأراجون (أراغون) تحت قبضة ملك واحد هو فرناندو بن سانشو الكبير.

    فرناندو وحرب الاسترداد الأولى

    حقًّا إن التاريخ يُعيد نفسه، وما أشبه أحداث الواقع بالتاريخ.. ففي الوقت الذي كانت إسبانيا النصرانية تنزع نحو الوَحْدَة والقوَّة على يد فرناندو، الذي استطاع بالفعل أن يُكَوِّن جبهة نصرانية صليبية مُوَحَّدة، كانت إسبانيا المسلمة أو الأندلس الإسلامية تصطلي بنيران الفُرقة والتنازُع والتشرذم بين أبناء الدين الواحد، فما أن أُلغيت الخلافة الأموية (عِقد الأمَّة ورمز وَحدتها) وذلك في قرطبة سنة (422هـ=1031م)، حتى أضحت الأندلس فرقًا ممزَّقة وقطعًا متناثرة، وطوائف متنازعة متقاتلة.

    وكان هذا التنازع سبيلاً إلى أن يتقوَّى بعضهم على بعض بتكوين التحالفات والتكتلات والاستعانة بغيرهم؛ ليتقوى بهم على جاره المسلم، وربما كان جاره أباه أو أخاه، وكان لا بدَّ لهذا الحليف أن يكون في موضع قوَّة واتحاد؛ لذلك اتجهت أنظار ملوك الطوائف إلى النصارى الصليبيين، الذين يحملون رُوح الحقد والكراهية للمسلمين.

    فكان هذا الاتحاد الذي أحدثه فرناندو بين ممالك إسبانيا الصليبية، وحالة التنازع والفرقة بين ملوك الطوائف سبيلاً إلى تغيير ميزان القوى السياسية والعسكرية في شبه الجزيرة الأيبيرية بشِقَّيْهَا الإسلامي والنصراني، وكانت هذه القوة النصرانية بداية لما يُسَمَّى بحرب الاسترداد الصليبية ضدَّ الممالك الأندلسية المسلمة.

    تمركزت سياسة حرب الاسترداد التي تزعَّمها فرناندو الأول[2] ملك قشتالة على أكثر من جهة، وكان يهدف من هذا الأمر إلى إضعاف قوَّة ملوك الطوائف، وإخضاعهم لسلطانه وسيطرته؛ إمَّا من خلال السيطرة على أراضيهم، أو إضعافهم وإرهاق كاهلهم بدفع الجزية والإتاوات، ولم يُوَلِّ فرناندو نظره وقوَّته إلاَّ للممالك الأقوى بين ملوك الطوائف، وكانت هذه الممالك هي طليطلة وإشبيلية وسرقسطة وبطليوس وغيرها من الممالك الضعيفة.

    غزو فرناندو لمملكة بني الأفطس في بطليوس



    فما أن انتهى فرناندو من توحيد جبهته الصليبية بعد تغلُّبه على إخوته، حتى وجَّه أمره وقوته إلى بني الأفطس أصحاب بطليوس؛ لإخضاع وضمِّ ممتلكاتهم إلى دولته، ومعلوم أن بطليوس تُمَثِّل الحدود الشمالية والغربية لدولة الأندلس؛ أي: تشمل دولة البرتغال الحالية بكاملها؛ فهي تضمُّ لشبونة (lispon)، وشنترين (Santarém)، وقلمرية (Coimbra) وغيرها، وفي سنة (449هـ=1057م) تأهَّب فرناندو الأول وجمع جيوشه وغزا بلاد بطليوس، وعبر بقوَّاته نهري دويرة وتورمس، وهاجم الحدود الشمالية لمملكة بطليوس، واستطاع أن يُخضع مدينتي بازو ولاميجو الواقعتين في شمال البرتغال، وعاث فيهما فسادًا وتخريبًا، ثم قام بعملية تصفية وتطهير عرقي ضد مسلمي المدينتين الإسلاميتين؛ إذ طرد المسلمين منها واستوطنها بالنصارى[3].


    وبعد أن تمَّت السيطرة لفرناندو طلب من المظفر بن الأفطس دفع الجزية والإتاوة، بيد أن المظفر رفض دفع الجزية له، وهذا ما دفع فرناندو أن يُغِيرَ مرَّة أخرى، فبعث بحملة من عشرة آلاف جندي عاثت تخريبًا وقتلاً، ولم تلقَ مقاومة تُذْكَر من جند ابن الأفطس، وظَلَّت قوَّات النصارى تعيث في أراضي المسلمين فسادًا حتى وصلت مدينة شَنْتَرِين، وكان ابن الأفطس على علمٍ بتحرُّكات النصارى، فسبق النصارى إلى شَنْتَرِين، وعَلِمَ أنه لا قِبَلَ له بجيش النصارى، فعرض عليهم الصلح والهدنة، وانتهت المفاوضات على أن يدفع ابن الأفطس الجزية السنوية ومقدارها خمسة آلاف دينار[4].

    غزو فرناندو لمملكة بني ذي النون في طليطلة

    يبدو أن فرناندو قنع بخضوع بطليوس وأصحابها من بني الأفطس، فوجَّه وجهته الثانية ناحية طليطلة، وقد بيَّنَّا -سابقًا- أن فرناندو كان يبعث سراياه لتعيث فسادًا في أراضي طليطلة، أثناء حلفه مع ابن هود في فترة الصراع المحتدم بين سليمان المستعين بن هود وبين المأمون بن ذي النون، كما أن المأمون كان يستعين بغرسية ملك نافار، وكانت جيوش النصارى تعيث في أراضي المسلمين بتحريض من الأميرين المشئومين.

    وأدرك فرناندو بعد توحيد جبهته أن لا قِبَل لملوك الطوائف بردِّه؛ إذ هم منهمكون في حرب بعضهم البعض، ففي سنة (454هـ=1062م) هاجم فرناندو حدود مملكة طليطلة الشمالية الشرقية؛ فأغار على مدينة سالم ووادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس)، وعاث فيها فسادًا وتخريبًا، ولم يكن أمام المأمون إلاَّ أن هرع مسرعًا إلى فرناندو، وجمع معه أطنانًا من الذهب والفضة، وقدم له الهدايا اعترافًا بطاعته، وتعهد بدفع الجزية له[5].

    غزو فرناندو لمملكة بني عباد في إشبيلية

    وبعد أن اطمأن فرناندو إلى ولاء المأمون بن ذي النون، خرج بقوَّات كثيفة سنة (455هـ=1063م) وأغار على مملكة إشبيلية، وأحرق قراها وخرَّب أراضيها، فلم يجد المعتضد بن عباد بُدًّا من أن يحتذي حذو المأمون صاحب طليطلة، وهرع المعتضد مسرعًا إلى فرناندو وقدَّم له الهدايا؛ معلنًا الولاء والطاعة، كما عرض عليه الصلح والمهادنة والسلم فقَبِلَ منه! وطلب منه أن ينقل رفات القديسة خوستا، التي استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودُفِنَتْ بإشبيلية، فوافق المعتضد بن عباد، وحُمِلَتْ رفات القديسة في احتفال فخم، ونقلت إلى ليون[6].

    سقوط قلمرية في يد فرناندو

    وهكذا استطاع فرناندو أن يُخضع طليطلة وبطليوس وإشبيلية تحت قبضته، بإرهاقهم بالجزية والغارات، وكان في كلُّ ذلك يعدُّ عُدَّته وخطته الكبرى للسيطرة على قلمرية من أعمال بطليوس، التي فتحها المنصور بن أبي عامر في 375هـ، قصد فرناندو قلمرية بجيوشه وفرض عليها الحصار سنة (456هـ=1064م)، وكان قائدها في ذلك الوقت رجلاً يُسَمَّى راندة، وقد غادر المدينة بعد أن راسل فرناندو سرًّا، وخرج هو وأهله سالمين، ثم توجَّه إلى المظفر بن الأفطس الذي قتله جزاء خيانته وتعاونه مع الصليبيين، ويبدو أن المسلمين حاولوا المقاومة، ولكن نفدت أقواتهم، ولم تلبث المدينة حتى سقطت بعد ستة أشهر من الحصار، بعد حُكم إسلامي دام أكثر من بضع سبعين سنة[7].

    فرناندو وغزو مملكة بني هود في سرقسطة

    لم يَعُدْ أمام فرناندو إلا أنْ يُخْضِعَ مملكة بني هود، التي تُسَمَّى بالثغر الأعلى سرقسطة؛ فهي المملكة الوحيدة التي يماطل أصحابها فرناندو في دفع الجزية والإتاوات المفروضة عليهم، كما أنه أراد أن يُخْضِعَ بلنسية لسلطانه، فتوجَّه بقوَّاته سنة (457هـ=1065م) صوب بلنسية مخترقًا في ذلك حدود سرقسطة الجنوبية، وأعمل فيها القتل والتخريب، ونهب الزروع والقرى، كما أنه اجتاح سائر البقاع والحصون؛ وبذلك أرغم المقتدر بن هود على دفع الجزية.

    فرناندو وإخضاع بلنسية

    ثم اتجه من فوره ناحية بلنسية وفرض عليها الحصار، ولَمَّا طال الحصار ورأى فرناندو أن حصون المدينة منيعة، ووسائل الدفاع لديها قوية، عزم على الحيلة والمكيدة؛ فتظاهر بالانسحاب والمغادرة، فخرج أهل المدينة فرحين بالنصر متتبِّعين فلول المنهزمين، متزينين بزينة النصر والأُبَّهة، وهنا وفي غفلة من أهل بلنسية وأميرها عبد الملك بن عبد العزيز المنصور، ارتدت القوات الصليبية، وأعملت في أهل بلنسية القتل والأَسْرَ، واستسلمت المدينة لفرناندو، ولكنه أحسَّ بالمرض فآثر العودة إلى ليون، ولم تمضِ أيام حتى تُوُفِّيَ سنة (457هـ= ديسمبر 1065م) [8].

    وهكذا استطاع فرناندو أن يبسط قوَّته على إسبانيا الصليبية وإسبانيا الإسلامية بسلطانه المادي بقوته وجيوشه، والمعنوي بالجزية والإتاوات، التي يُرهق بها ملوك الطوائف.


    [1] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/378-381.
    [2] فرناندو الأول ملك قشتالةة الإسلام في الأندلس 3/85، 86، 383.
    [3] عنان: دولالإسلام في الأندلس 3/101، 383، 384.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب 3/237، 238.
    [5] عنان: دولة : يُطلق عليه في المصادر العربية (فرذلند ملك الجلالقة).
    [6] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/384.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/238، 239، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
    [8] انظر: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/224، 225، 386، 387.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ممالك إسبانيا النصرانية في عهد ملوك الطوائف

    ممالك إسبانيا النصرانية



    مَرَّت الممالك النصرانية الإسبانية في الشمال خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي بنفس الأطوار التي مرَّت بها الأندلس الإسلامية في الجنوب، فمرَّة في طور القوَّة والنشاط، ومرَّة في طور التفرُّق والنزاع، وطور القوة يأتي من وَحْدة تلك الممالك المتنازِعة فيما بينها، وطور الضعف يأتي من التنازع بينها، فكما رأينا الحال في الأندلس عندما تنازعها ملوك الطوائف، وتقاتلوا فيما بينهم؛ حتى إن الأخ يقتل أباه وأخاه وأهله ليستأثر بالحُكم دونهم، كان هذا هو الوضع -كذلك- في الممالك النصرانية.


    ولا نعرف أيًّا من الطرفين أخذ بسُنَّة الآخر!

    وفيما يلي في هذه السطور نحاول أن نُلقي بعض الضوء على حال تلك الممالك وعَلاقتها بملوك الطوائف، وكيف تَوَحَّدت تلك الممالك وعادت حركة الاسترداد النصرانية على الأندلس المسلمة؟

    الممالك النصرانية في الشمال

    انقسمت المملكة النصرانية في الشمال في أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي إلى ثلاث ممالك؛ هي على النحو التالي:
    مملكة نافار أو نبرَّة: وهي أكبر الممالك النصرانية، وكان يحكمها سانشو الكبير.

    مملكة ليون: فكان يحكمها برمودو الثاني (982-999م)، وخلفه في الحكم ابنه ألفونسو الخامس، وظلَّ بها حتى تُوُفِّيَ سنة 1027م، وذلك خلال إحدى غاراته على أراضي المسلمين في شمال البرتغال، وحاصر مدينة بازو، فأصابه سهم مسموم فقتله، فخلفه ابنه برمودو الثالث.
    مملكة قشتالة: وكان يحكمها سانشو غرسية حتى سنة 1021م، ثم خلفه ابنه غرسية بن سانشو.



    وكان بين هذه الممالك تنازع وفرقة، وكان كلٌّ منها -تمامًا كما كان يحدث بين ملوك الطوائف- يترقَّب الفرصة المناسبة للانقضاض على مُلْك الآخرين، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ قصد غرسية بن سانشو ملك قشتالة مملكة ليون؛ ليتمَّ عقد زواجه من أخت ملكها برمودو الثالث، فقُتل غِيلة هناك في الكنيسة أثناء مراسم الحفل، وبذلك أصبحت مملكة قشتالة بلا ملك ولا أمير، وكان ذلك سنة 1028م، وكان لهذا الحدث أثره الكبير في تغيير الخريطة السياسية في الممالك النصرانية.


    سانشو الكبير وتوحيد ممالك إسبانيا

    كان سانشو الكبير ملك ناڤار (نبرة)، يرقب الأحداث عن كثب، وكانت تلك فرصته الذهبية؛ إذ كان سانشو زوجًا لأخت غرسية القتيل، وبالتالي فهو الوريث الشرعي لميراث زوجته، فجمع قوته واحتلَّ قشتالة، وضمَّها إلى مملكته، ووضع عليها ابنه فرناندو؛ وبذلك أضحت قشتالة ونافار مملكة واحدة.

    أضحت إسبانيا مفترقة بين مملكتين، الأولى يحكمها سانشو وولده فرناندو؛ وهي مملكة قشتالة ونافار، والثانية يحكمها برمودو الثالث؛ وهي مملكة ليون.

    كانت عين سانشو الكبير على ليون؛ إذ بها تتوحَّد إسبانيا على يديه ويُصبح هو الملك الأوحد للنصارى الإسبان، وكانت وسيلته في ذلك أن توجَّه فرناندو ملك قشتالة وعقد زواجه على أخت برمودو الثالث ملك ليون، وبالطبع كان ذلك الزواج زواج مصلحة إلى حين، فكما استطاع سانشو أن يتغلَّب على قشتالة بزواجه من أخت غرسية القتيل، أراد فرناندو أن يُخضع ليون بالطريقة ذاتها، ولكن يبدو أن فرناندو استعجل ثمرته فهاجم مملكة ليون وافتتحها لنفسه، ففرَّ برمودو الثالث ليرقب الفرصة لاسترداد عرشه، وقد حاول ذلك مرارًا ولكنه لقي مصرعه على يد صهره، وبذلك توحَّدت ممالك إسبانيا الثلاثة على يد سانشو الكبير، وكان ذلك سنة 1037م.

    وفاة سانشو الكبير

    وكان سانشو قُبيل وفاته قد قسَّم مملكته بين أولاده الأربعة؛ فجعل قشتالة وليون وجِلِّيقِيَّة من نصيب ابنه فرناندو، وخصَّ ابنه الأكبر غرسية بنافار، وجعل لابنه راميرو ما تسّمى بمملكة أراغون، واقتطع لابنه كونزالو منطقة صغيرة هي ولايتي سوبرابي وربا جورسيا، هذا فضلاً عن إمارة ببرشلونة في شمال شرقي إسبانيا، والتي يحكمها رامون برنجيز الأول.

    وكان هذا التقسيم إيذانًا بعودة الفُرقة والتناحر بين الإخوة الأشقاء، وهو ما حدث بالفعل، بعد وفاة سانشو الكبير[1].

    [1] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/376-378.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين طليطلة وسرقسطة

    الصراع بين المأمون بن ذي النون وسليمان المستعين بن هود



    كانت الخصومة بين طليطلة Toledo وسرقسطة Zaragoza شرسة، كما تلطخت بالخيانة وموالاة النصارى على بعضهم، وتمكينهم من أراضي المسلمين، ويمكننا أن نقول: إن هذه الخصومة تُعَدُّ الأسوأ في تاريخ الأندلس وخاصة في عهد ملوك الطوائف، مأساةٌ حقًّا أن يسحق النصارى المسلمين، ويعيثوا في بلادهم تحت إشراف حُكَّام مسلمين، وفي أراضي المسلمين!


    إنها أحداثٌ تزرف منها العيون، ويقشعر القلب من ذكرها، ويسيل القلم حسرة من كتابتها!
    كان النزاع على أشُدِّه بين المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة وبين سليمان المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وكانت تلك فتنة هوجاء عصفت بالمسلمين، وزالت هيبتهم عند النصارى؛ فمعلوم أن سرقسطة تمثِّل من الناحية الجغرافية الجانب الشمالي الشرقي لطليطلة، وكانت سلسلة المدن والقلاع والحصون التي تمتدُّ بين الثغر الأعلى (سرقسطة)، وبين الثغر الأوسط (طليطلة)، من قلعة أيوب وحتى وادي الحجارة هي موضع الاحتكاك والتنازع بين الخصمين[1].

    معركة وادي الحجارة بين المأمون وابن هود


    وعلى الرغم من أن وادي الحجارة من أعمال طليطلة، إلاَّ أن هناك بعضًا من أهلها مالوا إلى سليمان بن هود في سرقسطة، وكانت هذه فرصة لابن هود أن ينفث في رُوح الفرقة بين أهلها؛ ليتسنَّى له السيطرة عليها بسهولة، وهو ما حدث بالفعل، فما زالت رُوح الفُرقة تتزايد بين أهلها المشتَّتين، بين طليطلة وسرقسطة، حتى بعث سليمان بن هود جيشًا عليه ابنه أحمد وليَّ عهده، ودخل وادي الحجارة بتدبيرٍ من شيعته، وكان ذلك سنة (436هـ=1044م)، وما أن علم المأمون بذلك حتى هرع إلى وادي الحجارة، ودارت بينه وبين أحمد بن هود معارك طاحنة، سالت فيها كثير من الدماء، وكانت الغلبة فيها لابن هود، وفرَّ المأمون وتتبَّعه أحمد بن هود بجيشه، وحاصره في مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجة غرب طليطلة، وبعث أحمد لأبيه سليمان بن هود يُعْلِمه بالخبر، فأمره بترك المأمون والرجوع إلى سرقسطة، ورفع الحصار عن طلبيرة، وبذلك نجا المأمون من موت مُؤَكَّد[2]!


    المأمون والاستعانة بالنصارى


    كانت هزيمة منكرة بلا شكٍّ للمأمون بن ذي النون، إلاَّ أنه لم ييأس وغلبه الجنوح إلى الغلبة والأنفة، ويا ليت أنفته كانت على نصارى الإسبان! وإنما كانت أنفته على مسلمي سرقسطة، الذين استهان بدمائهم، وجعلهم عرضة لجنوده وللنصارى، كما سنرى!

    لم يَهُنْ المأمون ولم يَلِنْ له عزم، ولم تأخذه الراحة حتى يأخذ بثأره من سليمان بن هود، فماذا يفعل المأمون؟ وقد أنهكته الهزيمة وأخذت منه جُلَّ جيشه وعسكره، فَكَّر المأمون بن ذي النون ووجد ضالته في الاستعانة بالنصارى على أخيه المسلم، والتجأ إلى فرناندو الأول ملك قشتالة يستعين به، مقابل أن يدفع له الجزية، فاستجاب فرناندو للطلب، ونِعْمَ ما يطلبه المأمون!

    وعلى الفور ولم تمضِ أيام حتى كانت خيل النصارى تعيث فسادًا في بلاد سليمان بن هود؛ قتلاً ونهبًا وسرقة، وليس لهم رادع يردعهم! فأين جيوش سليمان بن هود؟! وأين عنجهيَّته وجبروته؟ أم أن قوَّته على المسلمين! أم أنه: [الكامل]
    أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ

    فَرْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصافر الصَّافِرِ([3])
    لقد فرَّ سليمان بن هود وتبعه جنوده، وتحصَّنوا بحصونهم، وتركوا رعيتهم لسيوف النصارى!

    كان مصابًا عظيمًا للمسلمين في سرقسطة؛ إذ كان ذلك الهجوم في وقت الحصاد، فقام النصارى بحصده وحمله، ولم يكتفوا بذلك بل خربوا الزروع والأراضي، وحملوا ما شاء لهم أن يحملوه إلى بلادهم، وكانت فرصة للمأمون أن يثأر لهزيمته، فأغار على بلاد ابن هود ونهب منها ما شاء.

    تحالف المأمون مع المعتضد بن عباد ضد ابن هود


    ولم يكتفِ المأمون بذلك فقط، بل عزم على عقد تحالفات أخرى مع ملوك الطوائف؛ يستعين بهم على ابن هود، وعرض المأمون على المعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة صداقته وتحالفه، واستمرَّت المفاوضات بينهما، وقَبِلَ المعتضد بالله ذلك الحلف وتلك النصرة، على أن يعترف المأمون بالدعوة الهاشمية، ويُبايع للمدعو هشام المؤيد، وتكون له الدعوة في مساجد طليطلة، ووافق المأمون بن ذي النون، مع أن أباه إسماعيل بن ذي النون قد رفضها من قبلُ، ولكنها المصالح!

    ويبدو أن المأمون خرج من ذلك الحلف خاسرًا خائبًا؛ إذ انشغل المعتضد عنه بقتال ابن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس، فلم ينلْ منه ما يُريد، وعاد بتحالفه بخُفَّيْ حنين![4].

    سليمان المستعين والاستعانة بالنصارى


    أما ابن هود فإنه وقع في تلك السقطة التي وقع فيها المأمون، وذهب إلى النصارى يستعين بهم -أيضًا- على المأمون، وبعث إلى فرناندو ملك قشتالة بالهدايا والتحف، وأغراه في طليطلة، فاستجاب فرناندو ولبَّى دعوته، وبعث بسراياه فعاثت في أراضي طليطلة فسادًا وتخريبًا، حتى وصلت إلى وادي الحجارة، وقلعة النهر (قلعة هنارس).

    لم ييأس المأمون من المعركة والتمس مساعدة غرسية ملك نافار، وهو أخو فرناندو ملك قشتالة وكانت بينهما عداوة، وبعث المأمون إلى غرسية بالأموال والتحف يستنصره على ابن هود، فأغارت قوات غرسية على أراض سرقسطة المتاخمة له فيما بين تُطِيلَة ووَشْقَة، وافتتح قلعة قلبرة أو قَلَهُرَّة من ثغر تُطِيلَة سنة (437هـ=1045م)، والتي فتحها المنصور بن أبي عامر، وعاثت فيها قوات النصارى تخريبًا.

    وهكذا استباح النصارى في قشتالة ونافار بلادَ المسلمين في طليطلة وسرقسطة، بمساعي ابن هود وابن ذي النون المشئومة الذميمة، وانهارت خطوط الدفاع، وساءت أحوال المسلمين، فاضطر أهل طليطلة إلى أن يبعثوا كبراءهم إلى سليمان بن هود؛ طلبًا للصلح، وحفظًا لأراضي المسلمين من ظفر النصارى بها، واستحواذهم عليها، وتظاهر كلٌّ من سليمان بن هود والمأمون بالقبول والمصالحة، ثم غدر سليمان بن هود بما كان عاهد عليه أهل طليطلة والمأمون، ويبدو أن كلاًّ منهما لم يكن مستعدًا لقبول الصلح؛ فالعداوة بينهما ملأت القلوب!

    استعلاء النصارى على المسلمين


    لم يمضِ كثير من الوقت حتى خرج سليمان بن هود بجنوده، ومعه طالعة من حلفائه النصارى متجهًا إلى مدينة سالم من أعمال طليطلة، ولم تصمد حاميتها أمامه، وقتل منهم الكثير، وبسط نفوذه على الحصون التي انتزعها منه المأمون، وكان معه في ذلك كله عبد الرحمن بن إسماعيل بن ذي النون، وهو أخو المأمون، وجعل يدُلُّه على عورات المأمون وثغراته، ولما علم المأمون بالحادثة أسرع ليستردَّ المدينة ويُدافع عنها، وانتهز فرناندو حليف ابن هود غياب المأمون، فبعث سراياه فعاثت في أراضي طليطلة خرابًا وتقتيلاً؛ حتى يئس أهلها، وبعثوا إلى فرناندو يطلبون الصلح والمهادنة، فطلب منهم أموالاً كثيرة، واشترط عليهم شروطًا لم يقدروا عليها، وقالوا له: لو كنا نقدر على هذه الأشياء وهذه الأموال لأنفقناها على البرابرة واستدعيناهم لكشف ما نحن فيه من المعضلة.

    فردَّ عليهم فرناندو (ويا ليته لم يَرُدّ) قائلاً: «أمَّا استدعاؤكم البرابرة، فأمر تَكثرون به علينا، وتهدِّدوننا به، ولا تقدرون عليه، مع عداوتهم لكم، ونحن قد صمدنا لكم ما نبالي من أتانا منكم، فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديمًا في أوَّل أمركم؛ فقد سكنتموها ما قُضِيَ لكم، وقد نصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عُدوتكم (يقصد عُدوة المغرب)، واتركوا لنا بلادنا؛ فلا خير لكم في سكناكم معنا بعد اليوم، ولن نرجع عنكم، أو يحكم الله بيننا وبينكم»[5].

    وهكذا لم يجد أهل طليطلة قبولاً لِمَا عرض عليهم من الصلح، وعلى الجانب الآخر كان غرسية وجنوده حلفاء المأمون يعيثون في أراضي ابن هود فسادًا وتخريبًا، ودامت هذه الفتنة الهوجاء بين هذين الأميرين المشئومين على المسلمين لمدة ثلاث سنوات (435-438هـ=1043-1046م)، ولم تنتهِ إلاَّ بموت سليمان المستعين بن هود صاحب سرقسطة؛ إذ تنفَّس المأمون بن ذي النون الصعداء[6].

    طليطلة وسرقسطة.. سليمان بن هود والمأمون بن ذي النون.. إنهما نموذج صارخ لتلك الحروب والخصومات التي عاشتها أمَّة الإسلام، وعانت ويلاتها في تلك الفترة المشئومة على المسلمين فترة ملوك الطوائف.

    المفتدر بن هود


    هدأت الأمور نوعًا ما بين المملكتين؛ إذ انشغل أولاد سليمان الخمسة في النزاع على أملاك أبيهم، وقد استطاع المقتدر بالله أحمد بن هود أن يتغلَّب على إخوته، وأن يُكَوِّنَ مملكة من أعظم ممالك الطوائف، بعد أن ضمَّ طُرْطُوشة إلى أملاكه سنة (452هـ=1060م) [7]، كما انتزع دانية من صهره علي إقبال الدولة بعد أن حاصرها وذلك سنة (468هـ=1076م)[8]؛ وبذلك أضحت سرقسطة أكبر ممالك الطوائف مساحة وأعظمها قوَّة.

    يحيى القادر بن ذي النون


    كما بدأ المأمون يتوسَّع على حساب الممالك الصغيرة الأخرى، واستطاع أن يُكَوِّنَ مملكة قوية مترامية حتى وصلت إلى بَلَنْسِيَة شرقًا، وما لبث المأمون إذ وافته المنية بعد ثلاث وثلاثين عامًا، وذلك بقرطبة سنة (467هـ=1075م)، وخلفه حفيده يحيى القادر على أملاك طليطلة وأعمالها.

    لم يكن يحيى القادر على مقدار الكفاءة السياسية والعسكرية التي كانت عند جدِّه المأمون؛ إذ كان سيئ الرأي، قليل الخبرة والتجارِب، فوقع تحت تأثير العبيد والخدم ونساء القصر، وطائفة من قرناء السوء وبطانة الشرِّ، ظلُّوا وراءه حتى أوغروا صدره من مدبِّر دولته ابن الحديدي، فقتله في أوائل ذي الحجة (468هـ=1076م) -على نحو ما فصَّلْنَا- وسرعان ما انقلب عليه أعوان الأمس، وصاروا يُؤَلِّبُون العامَّة عليها، وانهالت عليه الضغوط من كل جانب، وكانت هذه فرصة للمقتدر بن هود أن يُغير على طليطلة وأعمالها، وفعلاً كثَّف المقتدر غاراته واستعان بالنصارى في ذلك، ولم يستطع يحيى القادر بن ذي النون أن يَرُدَّ عليه، وظلَّ الأمر هكذا حتى استطاع المقتدر بن هود أن ينتزع منه مدينة شَنْتَبَرِيَّة[9].

    سقوط طليطلة




    تطوَّرت الأحداث كثيرًا في كلٍّ من طليطلة وسرقسطة؛ إذ تصاعد الخطر النصراني على بلاد المسلمين، وبدأ ألفونسو السادس يُسَدِّد ضرباته القوية على ممالك الطوائف المختلفة، حتى أضعفها وأنهكها؛ مرَّة بالجزية، ومرَّة بالغارات المتتالية، والواقع أن أحوال يحيى القادر في طليطلة كانت تُنذر بالخطر ووقوع النكبة؛ إذ اندلعت الثورة ضدَّه في طليطلة وهرب منها إلى حصن وَبْذَة سنة 472هـ، إلا أنه استطاع أن يعود على حراب ألفونسو مرَّة أخرى، والتي أعقبتها زواله وخروجه ذليلاً من طليطلة؛ إذ وقعت النكبة وسقطت في يد ألفونسو في صفر (478هـ=1085م)، وخرج القادر يحيى إلى بلنسية تحت الحماية القشتالية في شوال (478هـ=1086م).


    وعاث النصارى قتلاً وتخريبًا في المسلمين وديارهم تحت سمعه وبصره، ولم يُحَرِّك ساكنًا، وأمام هذه التطوُّرات الخطيرة يصل الخبر إلى بَلَنْسِيَة بالعبور المرابطي، فيهرع النصارى في بلنسية إلى ألفونسو لنجدتهم من الاتحاد الأندلسي المرابطي، وتكون معركة الزلاقة وينتصر المسلمون في (رجب 479هـ=أكتوبر 1086م)، ويتنفَّس أهل بلنسية الصعداء، بخروج النصارى وانتصار المسلمين، وهكذا انتقلت دولة القادر بن ذي النون من طليطلة إلى بلنسية.

    الصراع على بلنسية


    وعلى الجانب الآخر تُوُفِّيَ المقتدر أحمد بن هود سنة (475هـ=1081م)، بعد 35 سنة حاكمًا على سرقسطة، بيد أن أبناء المقتدر يوسف والمنذر اقتتلا فيما بينهما على عرش أبيهما، واستعان كلٌّ منهما بالنصارى على أخيه، فارتمى يوسف المؤتمن في أحضان السيد القمبيطور، وجيشه من المرتزقة القشتاليين، وارتمى المنذر في أحضان سانشو ملك أراجون ورامون أمير بَرْشُلُونَة، وانتهت الفتنة بتغلُّب يوسف المؤتمن بن هود على مملكة سرقسطة، وانحصر سلطان المنذر في لارِدَة وطُرْطُوشة، وبدأت أطماع يوسف تَتَّجه صوب بلنسية، إلا أنه فشل في انتزاعها من يد حاكمها أبي بكر بن عبد العزيز، إلاَّ أنَّ ابن عبد العزيز أحسَّ بالخطر، ودارت بينهما مفاوضات انتهت بالتقارب بينهما بالمصاهرة؛ إذ زوَّج أبو بكر ابنته لأحمد المستعين بن يوسف المؤتمن وذلك سنة 477هـ، ومات المؤتمن سنة (478هـ=1085م)، ولم يُحَقِّق حلمه، وخلفه من بعده ابنه أحمد المستعين.

    تطوَّرت الأحداث على هذا النحو في المملكتين، وأسفرت معركة الزلاقة عن انجلاء الحصار القشتالي عن بلنسية 479هـ، وتجدَّدت أطماع المستعين بن هود في بقية أملاك طليطلة، وأخذ يتحيَّن الفرص ليقتنصها ويُحَقِّق حلم آبائه، وجاءته الفرصة إذ إن عمه المنذر كان يرقب هو الآخر الفرصة للاستيلاء على بَلَنْسِيَة، وحشد جنوده وفرض عليها الحصار سنة (481هـ=1080م)، وهنا هرع القادر بن ذي النون إلى حليفه أحمد المستعين بن هود، الذي لبَّى دعوته مسرعًا وهو ينوي نية الاستيلاء، مستعينًا في ذلك على القمبيطور وجنوده المرتزقة، وما أن اقترب المستعين ومَنْ معه من مرتزقة القمبيطور، حتى أنهى المنذر الحصار وعرض على يحيى صداقته، وهنا ظهرت ألاعيب كلٍّ من القمبيطور والمستعين، وظلَّ كلٌّ منهما يلعب على الآخر، وتفكَّك الحلف بينهما؛ إذ ظهرت النوايا الخفيَّة في سيطرة كلٍّ منهما على بَلَنْسِيَة، وانتهى الأمر أن غدت بَلَنْسِيَة في يد القمبيطور، وكانت مصابًا عظيمًا، ومحنة جليلة للمسلمين هناك وذلك سنة (488هـ=1096م)، وبقيت بَلَنْسِيَة في أيدي النصارى حتى استردَّها المرابطون سنة 495هـ[10].

    انتهاء الصراع بسقوط الدولتين


    عاد المستعين حاملاً أذيال الخيبة من فشل محاولاته في انتزاع بلنسية، إلى أن قُتل في معركة بلتيرة أو فالتيرا أمام ألفونسو المحارب ملك أراجون في (رجب 503هـ=يناير 1110م)، وخلفه ابنه عبد الملك الملقَّب بعماد الدولة، والذي كانت نهاية دولة بني هود على يديه؛ فقد دخل المرابطون سرقسطة سنة (503هـ=1110م)، وكانت آخر ممالك الطوائف سقوطًا في يد المرابطين، وظلَّت في أيديهم إلى أن سقطت في يد ألفونسو الأول ملك أراجون في رمضان (512هـ =1118م) [11].
    وهكذا انتهت الأحداث بين مملكتي طليطلة وسرقسطة، والتي كان الاعتماد فيها واضحًا على جند النصارى والمرتزقة، والذي كان له بعيد الأثر في تدهور الأوضاع حتى سقوط المملكتين.


    [1] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/98.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/277، 278، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص 177، 178.
    [3] البيت لعمران بن حطان السدوسي.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب 3/278، 279، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص178.
    [5] ابن عذاري : البيان المغرب 3/282.
    [6] انظر تفاصيل ذلك في، ابن عذاري: البيان المغرب 3/277-283، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص178، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/98-101.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/250.
    [8] المصدر السابق 3/228.
    [9] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/107.
    [10] ابن عذاري: البيان المغرب 3/303-306، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/229، 287.
    [11] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/248، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص175، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163
    .

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين إشبيلية وقرطبة

    أطماع بني عباد في قرطبة



    بدأ الصراع بين إشبيلية وقرطبة مبكِّرًا منذ أن بدأت أحداث الفتنة في بلاد الأندلس، وسنلاحظ دائمًا أن إشبيلية في ظلِّ بني عباد هي الطامع الذي لا يقنع إلاَّ بامتلاك ما في يد الآخرين، وكانت قرطبة محلَّ نظر بني عباد منذ أن استقلَّ القاضي أبو القاسم بن عباد بإشبيلية سنة (414هـ=1023م)، وظَلَّت عينه على قرطبة؛ إذ تُمَثِّل قرطبة مدينة الأندلس الأولى، ومحلَّ الخلافة المنصرمة، وإليها تهفو نفوس الأندلسيين من كل حدب وصوب، وكان أهل قرطبة وعلى رأسهم حاكمها الوزير جهور على علم بكل ذلك، وما يُخفيه ابن عباد وغيره من طمع فيها.


    الوزير جهور وموقفه من دعوة ابن عباد لهشام المؤيد

    كان من أشهر أعمال القاضي أبي القاسم بن عباد أثناء ولايته -على نحو ما ذكرنا في المقالات السابقة- دعوته بظهور الخليفة هشام المؤيد وذلك سنة (426هـ=1035م)، ولم تكن نية ابن عباد من وراء ذلك إلا دحضًا لدعوى الحموديين بالخلافة؛ فالخليفة الشرعي قد بان وظهر، ومن ناحية أخرى إضفاء للشرعية السياسية في تدبيره وحكمه لإشبيلية؛ فهو يتوسَّع بأمر الخليفة الشرعي للأندلس كلها، الذي لا يملك من أمره شيئًا، وإنما الأمر والتدبير لابن عباد، الذي يُمْلِي عليه ما يُريد، والحقيقة أن هذا لم يكن خافيًا على ملوك الطوائف وخاصة الوزير ابن جهور حاكم قرطبة.

    وبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة للمدعوِّ هشام المؤيد بإشبيلية، أرسل رسله إلى أمراء الأندلس يطلب منهم أخذ البيعة والنزول على حكم الخليفة الشرعي، بيد أنه لم يعترف به أحدٌ، سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، والموفق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية وصاحب طرطوشة[1]، وما يعنينا هنا هو موقف الوزير ابن جهور؛ إذ إن موقفه يهم ابن عباد والوزير نفسه؛ فابن عباد يعلم ثقل قرطبة في الأندلس، ويعلم ثقل الوزير ابن جهور ومكانته بين ملوك الطوائف، وسيطرته على قرطبة فاتحة له في السيطرة على الأندلس كلها، وأما الوزير ابن جهور فمع علمه بكذب الدعوة وافترائها، فهو يُريد أن يتخذها ذريعة لدفع دعوى الحموديين، الذين أرهقوه بغاراتهم على قرطبة محلِّ خلافتهم المزعومة، وامتلاكه لقوَّة ابن عباد سبيل لهذا الدفع.

    بيد أن أهل قرطبة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وأعلنوه إمامًا للجماعة في الأندلس، ورفض ابن جهور في بادئ الأمر، وكادت أن تقوم ثورة ضدَّه في قرطبة، فأرسل رسله للوقوف على صحَّة ما يدَّعيه ابن عباد، ويبدو أنه باع دينه بعرض من الدنيا، وزوَّر شهادته، وأثبت صحَّة دعوى ابن عباد؛ ليدفع الحموديين عن قرطبة، وليُرْضِيَ أهل قرطبة ويدفعهم عنه، وأخذ ابن جهور البيعة لهشام المؤيد المزعوم، وخطب له في مساجد قرطبة وجامعها.

    يبدو أن الوزير ابن جهور تراجع عن بيعته وأعلن كذب هذه الدعوة، وكان ذلك إيذانًا بالحرب بينه وبين ابن عباد، الذي جمع جيشه واتجه صوب قرطبة لإسقاطها بالقوَّة، وفرض الحصار على قرطبة أوائل (427هـ=1036م)، وأمر ابن جهور بسدِّ أبواب المدينة أمامه، ولم يجد القاضي ابن عباد جدوى من الحصار، فجمع جيشه وجرَّ أذيال خيبته أمامه ووراءه إلى إشبيلية[2].

    المعتضد بن عباد وإثارة الفوضى داخل قرطبة

    هدأت الأمور نوعًا ما بين إشبيلية وقرطبة، وانشغل كلٌّ من القاضي ابن عباد والوزير ابن جهور في توطيد مملكتيهما وحروبهما الأخرى، ومرَّت السنوات وتُوُفِّيَ القاضي ابن عباد، وملك من بعده المعتضد سنة (433هـ=1042م)، كما تُوُفِّي الوزير ابن جهور، وملك من بعده ابنه الوزير أبو الوليد محمد بن جهور سنة (435هـ=1044م)، وسارت الأمور هادئة، ولكن يبدو أن أبا الوليد آثر الراحة، فقدَّم ولده الأصغر عبد الملك على ولده الأكبر عبد الرحمن، وسيطر عبد الملك بن جهور على مقاليد قرطبة، وكانت بين عبد الملك والمعتضد صداقة ووُدٌّ، ولا يخفى علينا أنها صداقة مصالح، كما لا يخفى علينا أن المعتضد فاغر فاه على قرطبة يُريد أن ينتزعها، فكانت الصداقة تمهيدًا لما يُريد.

    على كل حال سيطر عبد الملك بن جهور على قرطبة، إلاَّ أنه أساء السيرة، وسار بين الناس بالمعاصي، وعَمَّت الفوضى البلاد، فلما رأى ذلك أوكل أمور قرطبة سنة 440هـ إلى وزيره ابن السقاء؛ فضبط الأمور، وسار بين الناس بالعدل والحقِّ، وعاد الأمن والأمان مرَّة أخرى، وساد الاستقرار، وتقوَّت قرطبة بعد أن أصابها الضعف، والمعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب، وقرطبة كانت بين قاب قوسين أو أدنى منه؛ فعمد إلى الوقيعة بينه وبين وزيره وأوغر صدره عليه، حتى فتك به بكمين كمنه له، وكانت محنة الوزير ابن السقاء سنة (455هـ=1063م) [3].

    وهكذا تدخَّل المعتضد بقوَّة في شئون قرطبة، واستطاع أن يفتك بالوزير القوي ابن السقاء، وبذلك انفرد عبد الملك بالسلطة؛ فتجبَّر وأساء السيرة بين الرعية، وعَمَّت الفوضى ثانية، وهنا تدخَّل الوزير أبو الوليد بن جهور وعمد إلى تقسيم السلطة بين الولدين، وذلك عام (456هـ=1064م)، فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في الصكوك السلطانية المتضمِّنة للحَلِّ والعقد، وجميع أبواب النفقات، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والتولِّي لعرضهم، والإشراف على أعطياتهم، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم، وجميع ما يخصُّهم، ورَضِيَ الأخوان بذلك، إلا أن عبد الملك تَغَلَّب على أخيه؛ فسجنه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، واستبدَّ بالأمر دونه، وانصرف الناس عنه[4].

    الصراع بين بني عباد وبني ذي النون على قرطبة

    لم تَخْفَ هذه الأحداث على المعتضد لحظة واحدة؛ فهو يُراقبها عن كثب، كما أنها لم تَخْفَ على ملوك الطوائف الآخرين، وخاصَّة المأمون بن ذي النون صاحب طلطية، ويمكن أن نقول: إن قرطبة كانت موضع صراع عنيف وسريع في الوقت نفسه بين إشبيلية وطلطية؛ إذ إن قرطبة في المنتصف بينهما وعلى الحدود الجانبية لكلٍّ منهما، فلِمَنْ يا ترى تنتهي به الأحداث فيُحكم قبضته على قرطبة؟!
    هذا ما ستوضحه السطور القادمة..

    عَمَّتِ الفوضى أرجاء قرطبة وانفلتت الأمور من يد عبد الملك بن جهور، وكانت هذه فرصة ذهبية لمن يُريد الانقضاض على قرطبة، ويبدو أن المأمون بن ذي النون قد أعدَّ لقرطبة عُدَّتها، وكان هو كذلك يُراقب الأحداث عن كثب، فجهَّز جيشه وأسرع ناحية قرطبة وأغار عليها سنة (462هـ=1070م)، ولم يجد عبد الملك بن جهور مَنْ يستغيث به سوى صاحب إشبيلية، وهو حليفه وصديقه المعتمد بن عباد؛ إذ تُوُفِّيَ المعتضد بالله سنة (461هـ=1069م)، وعلى الفور أرسل له المعتمد سرية مُكَوَّنة من أربعة آلاف، عليها قائداه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، ووصل الجيش الإشبيلي إلى قرطبة، ونزلوا في ربضها الشرقي، واستطاعوا أن يَرُدُّوا جيش ابن ذي النون عنها.

    المعتمد بن عباد والسيطرة على قرطبة

    يبدو أن المعتمد بن عباد دبَّر مكيدته مسبقًا، وعزم على الاستيلاء على قرطبة، وأعطى أوامره لقائديه بذلك، كما يبدو أن الظروف في قرطبة قد هيَّأت له أمر السيطرة عليها؛ إذ عَمَّت الفوضى وانتشر الفساد، وكره أهل قرطبة عبد الملك بن جهور، فأرسلوا إلى القائدين ابن مرتين وخلف بن نجاح أن يقبضوا على عبد الملك بن جهور، وأن تكون المدينة في طاعة المعتمد بن عباد، فاجتمعت الخطتين معًا، خطة المعتمد المسبقة وخطة أهل قرطبة، ودُبِّرَت المكيدة على أحسن وجه؛ إذ تظاهر قائدَا الجيش الإشبيلي بالانصراف والعودة، وذهب القائدان ومن معهما إلى وداع عبد الملك بن جهور بباب المدينة، وهنا اقتحم الجيش الإشبيلي الأبواب وملك المدينة، وسار الجنود في قرطبة سلبًا ونهبًا وسرقة وفسادًا، ودخلت قرطبة في طاعة المعتمد بن عباد، وكان ذلك في شعبان (462هـ=1070م)، وقد اعْتُقِلَ عبد الملك بن جهور وأهله وأخوه عبد الرحمن وأُرسلوا إلى إشبيلية مراعاة للحزم.

    وأما الشيخ القعيد أبو الوليد بن جهور فقد نُفِيَ إلى جزيرة شَلْطِيش، وكان مما حُفِظَ عنه قوله: اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجبه لنا. فمات بعد أربعين يومًا من نكبته وسقوط دولته[5].

    ومنذ ذلك التاريخ ارتبط اسم قرطبة بإشبيلية، وجعل المعتمد بن عباد عليها ابنه المعتمد الحاجب سراج الدولة الملقب بالظافر، ووزيره محمد بن مرتين، وأقام الظافر ملكًا على قرطبة باسم أبيه، وظلَّ المأمون صاحب طلطية يتحين الفرص للسيطرة على قرطبة، وتمَّ له ذلك سنة (467هـ=1074م) إثر مكيدة دبَّرها المأمون مع رجل يُسَمَّى بحَكم بن عُكَّاشة ضد الظافر بن المعتمد؛ حيث دخل ابن عكاشة على الظافر بن المعتمد وقتله وحزَّ رأسه، واستولى على أبواب المدينة برجاله، كما قَتَل ابنَ مرتين وهو غارق في شرابه ولهوه.

    ودخل المأمون قرطبة في موكب عظيم في جمادى الآخرة سنة 467هـ، وما لبث المأمون أن اعتلَّ بقرطبة ومات بها، وحُمِلَ تابوته إلى طلطية في ذي القعدة (467هـ=1075م)، وما لبثت قرطبة أن عادت إلى حوزة المعتمد بن عباد مرَّة أخرى؛ إذ دخلها بجنده بعد أن راسله أهل قرطبة، وتغلَّب على ابن عكاشة، وحزَّ رأسه ثأرًا لابنه الظافر، واستخلف المعتمد عليها ابنه الفتح الملقب بالمأمون، وكان ذلك في ذي الحجة (467هـ=1075م)[6].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب 3/190، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
    [2] انظر التفاصيل في: ابن عذاري: البيان المغرب 3/190، 198، 199، 201، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 2/608، 609، 7/241، 245، وابن عذاري: البيان المغرب 3/232، 233، 251.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 2/606، 607، وابن عذاري: البيان المغرب 3/258، 259، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149.
    [5] ابن بسام: الذخيرة 2/609-611، وابن عذاري: البيان المغرب: 3/260، 261، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149-152.
    [6] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص151، 152، 158، 159، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/159، ابن بسام: الذخيرة 3/268-272.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين إشبيلية وغرناطة

    الصراع بين بني عباد وبني زيري



    وقفت مملكة غرناطة حجر عثرة أمام أطماع إشبيلية زمنًا طويلاً، فمع ما كان يتمتَّع به البلاط الإشبيلي من قوَّة عسكرية وأدبية على يد بني عباد، كان البلاط الغرناطي يتمتَّع كذلك بقدر كبير من القوة العسكرية على يد بني زيري، الذين وقفوا أمام كل محاولة لاستئصال البربر في الأندلس، واستطاعوا أن يبسطوا نفوذهم بقوَّة على الإمارات الجنوبية الأندلسية، وكان هذا بلا شكٍّ نذيرًا باشتعال الحروب بين بني عباد وبني زيري؛ إذ يقف كلٌّ منهما في سبيل توسُّعات الآخر.


    الصراع على أشذونة وإستجة

    والغريب أن أوَّل اشتباك بين إشبيلية وغرناطة لم يكن في أيٍّ من البلدين، وإنما كان في إستجة، إذ سَيَّر القاضي أبو القاسم بن عباد جيشًا بقيادة ابنه إسماعيل؛ لانتزاع قَرْمُونة من محمد بن عبد الله البرزالي حليفه بالأمس، فحاصر ابن عباد قَرْمُونة ثم نهض إلى حصار حصن أشذونة وإِسْتِجَة، فلم يجد البرزالي إلا أن يستنجد بإخوانه البربر، فأرسل إلى إدريس المتأيد الحمودي وقبائل صنهاجة، فأمدَّه إدريس بعسكر يقوده ابن يقنة أحمد بن موسى مُدَبِّر دولته، وخرج باديس بن حبوس صاحب غرناطة، ودار بينهم قتالٌ شرسٌ، انتهى بمقتل إسماعيل بن عباد، وحُمل رأسه إلى إدريس الحمودي في سنة (431هـ=1039م) [1].

    الصراع على مالقة والجزيرة الخضراء

    وقد اتَّسمت عَلاقة بني عباد بإشبيلية بالعدائية مع باديس بن حبوس في غرناطة، وكانا كلٌّ من الطرفين يتسابق إلى أطماع الآخر يحول بينه وبينها، ويقف أمامه حجر عثرة في سبيل تحقيقها، واتَّسمت توسُّعاتهما بأنها ذات اتجاه واحد ومصلحة واحدة؛ ولذلك فهم في صراع دائم؛ وكان الصراع على أشُدِّه بين المعتضد بن عباد وباديس بن حبوس يتمثَّل في انتزاع مَالَقَة والجزيرة الخضراء، أو أملاك الحموديين السالفة دولتهم.

    فقد استطاع المعتضد أن يُسيطر على الجزيرة الخضراء سنة (446هـ= 1054م)[2]، وأنهى بذلك دولة بني حمود في الجزيرة، وبقي له مالقة التي استطاع باديس أن يستولِيَ عليها سنة (449هـ=1057م) [3]، وكان أهل مالقة قد سئموا من حُكم البربر، فتاقت نفوسهم إلى التخلُّص منه، فبعثوا إلى المعتضد بن عباد سرًّا يستحثُّونه على افتتاح مالقة، فاستجاب لهم المعتضد، وسَيَّرَ لهم حملة بقيادة ابنيه جابر ومحمد المعتمد، وضربوا الحصار على مالقة، وكادت أن تسقط، إلاَّ أن باديس صاحب غرناطة أسرع إلى نجدتهم، حتى فوجئ به جيش إشبيلية الذي كان على وشك النصر، فكانت معركة قاسية على جند إشبيلية، وفرَّ ابنا عباد جابر والمعتمد يجرَّان أذيال الهزيمة إلى رُنْدة، وكان ذلك سنة (458هـ=1066م) [4].

    المعتضد بن عباد وانتزاع أركش وشذونة

    لم ييأس المعتضد بن عباد من هزيمته أمام باديس بن حبوس في انتزاع مالقة، فوجَّه قوَّاته إلى الإمارات البربرية الصغيرة الواقعة في الشمال والشرق من إشبيلية؛ وهي إمارات: رُنْدة، وقَرْمُونة، وأركش، وشَذُونة، ومورور، وقد استطاع المعتضد أن يُسيطر على إمارات ثلاثة؛ هي: قَرْمُونة، ورُنْدة، ومورور كما أوضحنا.

    وما يعنينا هنا هو إمارتي أركش وشَذُونة التي يُسيطر عليها بني يرنيان؛ إذ اتجه أمير أركش محمد بن خزرون إلى باديس بن حبوس وعرض عليه أن يُعطيه حصن أركش مقابل أن يُقطعهم أرضًا بغرناطة ينزلون بها، ويكونون تحت كنفه وفي دولته، فوافق باديس بن حبوس، وأرسل إليهم أن يأتوا بأموالهم وأهليهم وذويهم ومتاعهم، فخرجوا بذلك كله فكانوا نحوًا من خمسمائة دابة، وكان معهم جماعة من بني برزال أعداء المعتضد، وكان المعتضد يرقب عن كثب كل هذه التحرُّكات، فكَمَن لهم كمينًا، ودارت حرب شرسة بين الطرفين مُزِّقَ فيها البربر كل ممزَّق، وقُتل محمد بن خزرون، وبذلك ردَّ المعتضدُ على هزيمته في مَالَقَة، وانتزع أركش وبلاد شَذُونة من باديس بن حبوس[5].

    العنصرية بين العرب في إشبيلية والبربر في غرناطة

    تُوُفِّي المعتضد بن عباد سنة (461هـ=1069م)، وخلفه في الحُكم ابنه المعتمد على الله محمد، وكان المعتمد ذا طموح، ولم يكن ينسى ما كان بين أبيه وبين باديس، وظلَّ يتحيَّن الفرصة تلو الأخرى ليقتنص من غرناطة ما يقدر، وكان يُراقب الأحداث في غرناطة عن كثب، وكان المعتمد بن عباد مثل آبائه وأجداده يتوجَّس خوفًا من تنامي قوَّة البربر في الأندلس؛ وخاصَّة قاعدتهم الأقوى غرناطة؛ إذ هي مهبطهم الأول إلى الأندلس عندما يأتون من وراء البحار من عُدوة المغرب، إضافة إلى هذا فإن النزعة العنصرية بين العرب والبربر كانت على أشدِّها في إشبيلية وغرناطة.

    وكانت سياسة باديس بن حبوس في مجملها ذات نزعة عنصرية واضحة للبربر؛ فمن ناحية يتقوَّى بهم ضدَّ ممالك الأندلس، ومن ناحية يتقوَّوْن به ضدَّ عدوان الآخرين عليهم، وهو ما رأيناه في أحداث قَرْمُونة ومَالَقَة وأركش وجَيَّان وغيرها من ممالك البربر الجنوبية والشرقية في الأندلس، وكانت هذه النزعة العنصرية متملِّكة في دم باديس بن حبوس، حتى أعمته عن الصواب في كثير من قراراته؛ ففي سنة (475هـ=1065م) قام أحد الفرسان ويُسَمَّى ابن يعقوب باغتيال أبي نصر بن أبي نور أمير رُنْدة البربرية بتدبيرٍ من المعتضد بن عباد، فلما سمع باديس بن حبوس بالخبر قام للحادثة وقعد، وهاج من داء عصبيته ما قد سكن، وشقَّ أثوابه... وهجر شرابه الذي لا صبر له عنه[6]، وفكر في قتل رعاياه الأندلسيين من العرب في غرناطة، وأخذ قراره بقتلهم جميعًا في المسجد الجامع بغرناطة يوم الجمعة، وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغرانة، مدبِّر دولته الذي لا يقطع أمرًا دونه، فحذَّره الوزير من العواقب الوخيمة لذلك الأمر، إلا أنه لم يستمع لنُصح وزيره، وحشد جنده، ولكنَّ اللهَ خَيَّب تدبيره، فقد سبقه ابن نغرانة الذي أرسل بعض النساء خفية إلى دور الأندلسيين العرب وحذَّرهم من الحضور إلى المسجد يوم الجمعة، وهكذا فشل تدبيره، ثم عدل عن قراره بعد أن اقتنع بنصح وزرائه من صنهاجة[7].

    لذلك فالعداوة متبادلة بين العرب في إشبيلية وعلى رأسهم المعتضد وابنه المعتمد (إذ من المعلوم أن بني عباد من لَخْم العربية)، وبين البربر في غرناطة وما حولها وعلى رأسهم باديس بن حبوس ووزرائه من صنهاجة، وهذه العداوة الشديدة تُنْذِر بحروب دموية وأكثر شراسة من غيرها؛ إذ هي قومية في المقام الأول، وهكذا استُحِلَّتْ دماء المسلمين بين عرب وبربر، ولم يَعُدْ للإسلام بينهم نصيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!

    المعتمد بن عباد وانتزاع جيان

    وحدث في سنة (465هـ=1073م) أن تُوُفِّي باديس بن حبوس، وملك من بعد حفيده عبد الله بن بلقين، وكان صبيًّا صغيرًا لا يملك من أمره شيئًا، وتولَّى أمور دولته الوزير سماجة الصنهاجي، واستبدَّ بالأمر، وكان رجلاً قويًّا حاسمًا، مرهوب العقاب، شديد السطو، كما جعل عبد الله بن بلقين أخاه تميمًا على مَالَقَة[8]، وقد أدرك المعتمد أن هذه فرصته ليتوسَّع على حساب غرناطة، فحشد جنده واتجه إلى مدينة جَيَّان، وانتزعها من يد ابن بلقين سنة (466هـ=1074م)، وكانت هذه ضربة قاضية لعبد الله بن بلقين؛ إذ تُعَدُّ جَيَّان أخطر قاعدة عسكرية لمملكة غرناطة الشمالية، ثم توجَّه المعتمد بن عباد بقوَّاته إلى غرناطة وفرض عليها الحصار، وابتنى الحصون ليُرهق المدينة بغاراته عليها، ولكنه فشل ورفع الحصار لحصانة المدينة وشدة بأس وزيرها سماجة الصنهاجي[9].

    الاستعانة بالنصارى على المسلمين

    رأى الأمير عبد الله بن بلقين أنه لا قِبَل له بمقاومة جُند المعتمد بن عباد إذا عاود الكرة عليه وأغار على غرناطة، وفكَّر ابن بلقين وقدَّر، ثم {فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 18]، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20]! إذْ قاده تفكيره إلى أن بعث وزيره سماجة الصنهاجي إلى مَنْ؟! إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس؛ يستعين به على المعتمد بن عباد، وتعهَّد له بدفع جزية مقدارها عشرون ألف دينار، وبالطبع وافق ألفونسو، وخرج عبد الله بن بلقين بجند غرناطة وجند النصارى القشتاليين، وأغار على أراضي إشبيلية، وعاث فيها فسادًا، واستطاع أن يستردَّ حصن قَبْرَة الواقع في جنوب غربي جَيَّان[10].

    وحدث في عام (467هـ=1075م) أن سار ألفونسو السادس ملك قشتالة إلى إشبيلية وغرناطة ومعه وزيره ومستشاره المستعرب الكونت سنندو (ششنند)؛ ليُطالب بدفع الجزية المفروضة عليهما، ويبدو أن الأمير عبد الله بن بلقين، رفض دفع الجزية؛ معبرًا عن عزَّته، وأنه لا يخش ضرًّا من ألفونسو، إلا أن المعتمد بن عباد لم ينسَ هزيمته عند حصن قَبْرَة، فانتهز الفرصة، وأخذ يُؤَلِّبُ ألفونسو على ابن بلقين، وبعث إليه بوزيره ابن عمار، فوقَّع معه حلفًا واتفاقًا؛ خلاصته أن يتعاون الفريقان مسلمو إشبيلية مع نصارى قشتالة ضد مسلمي غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها لابن عباد، وأن يكون سائر ما فيها من الأموال لملك قشتالة، وأن يُؤَدِّي ابن عباد فوق ذلك جزية قدرها خمسون ألف دينار، وظهر أثر ذلك الحلف على الفور؛ إذ عمد النصارى إلى تخريب بسائط غرناطة، وبدأ ابن عمار بتنفيذ الخطة أيضًا، فقام بإنشاء حصن على مقربة من غرناطة، وحاول من خلاله أن يؤثِّر على أهل المدينة بغاراته، ولكنه لم ينل منها مأربًا، وحدث أن انتزع المأمون بن ذي النون قرطبة منه سنة (467هـ=1075م)، فاضطر أن يُخْلِيَ الحصن الذي احتلَّتْه جنود غرناطة فيما بعد.

    ثم حرَّض ابن عمار ألفونسو مرَّة أخرى على غزو غرناطة، ومنَّاه بسهولة افتتاحها وضعف جندها، عندئذ رأى الأمير عبد الله بن بلقين أنه يذهب بنفسه إلى ألفونسو، وأن يتفاهم معه، وأسفرت المفاوضات بينهما عن تعهُّد ابن بلقين بأداء الجزية السنوية وقدرها عشرة آلاف مثقال من الذهب، وأن يُسَلِّم الحصون الواقعة جنوب غربي جَيَّان، وما أن انتهى الاتفاق حتى باع ألفونسو الحصون لابن عباد جزاء صداقته له![11]

    المصالحة بين إشبيلية وغرناطة

    هدأت الأمور نوعًا ما بين إشبيلية وغرناطة، ومضت عشرة أعوام وفي سنة (477هـ=1084م) حدث أن تطوَّرت الأمور في مَالَقَة، وثار تميم بن بلقين أخو الأمير عبد الله بن بلقين، وأعلن استقلاله عن غرناطة وتلقَّب بالمنتصر بالله، فتوجَّه إليه الأمير عبد الله وأخضعه لسلطانه، ولكن خشي الأمير عبد الله أن يحالف أخوه تميمٌ المعتمد بن عباد؛ فهادنه وأعطاه حُكم مالقة ونواحيها الغربية، وحدث في الوقت نفسه أن ثار كباب بن تميت حاكم أرشذونة وأنتقيرة، فسار إليه الأمير عبد الله وأخضعه لسلطانه، ثم تمَّ الصلح وعَقْد المهادنة بين المعتمد بن عباد والأمير عبد الله بن بلقين، وسُوِّيت بين الفريقين سائر وجوه النزاع من حدود وغيرها، وكان ذلك أواخر سنة (477هـ=1084م)[12].

    وما هي إلاَّ أيام حتى سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس في (صفر 478هـ= مايو 1085م)، فما كان من الأمير عبد الله وابن عباد إلا أن أرسلا رسلهما إلى يوسف بن تاشفين يستنقذونه مما داهمهم من النصارى، وما حلَّ بأراضي المسلمين بالأندلس! فأين كان هؤلاء عندما استحلُّوا دماءهم بأيديهم، واستعانوا بالنصارى على بعضهم!


    [1] الحميدي: جذوة المقتبس 1/30، 31، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص113، 114، وابن عذاري: البيان المغرب 3/199.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/243.
    [3] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/155، 6/180.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 3/49، 50، وابن عذاري: البيان المغرب 3/273-275، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/132.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب 3/271- 273.
    [6] المَلاذُّ جمع مَلَذٍّ: وهو موضع اللذة وكل ما يُشتهى من الأشياء. ابن منظور: لسان العرب، مادة لذذ 3/506، المعجم الوسيط 2/822.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/313، 314، وابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 1/436-438، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/140.
    [8] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص233، 234.
    [9] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص234، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/142.
    [10] نقلاً عن عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/63، 142، 143.
    [11] انظر هذه الحوادث في مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين المسماة بالتبيان ص69، 70، نقلاً عن عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/142، 143.
    [12] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/144، 145 بتصرف.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين إشبيلية وبطليوس

    الفتنة بين ملوك الطوائف



    رأينا كيف تَكَوَّنت ممالك الطوائف في الأندلس، وكيف أضحى صرح الخلافة الشامخ إلى بنيان متصدِّع الأركان، متناثر الأشلاء، ولو أن هؤلاء المتغلبين سكنوا إلى ما تغلَّبُوا عليه، ورضوا به من غير طمع ولا جشع، وتحلَّوْا بالنخوة الإسلامية لهان الأمر علينا، ولسكن الناس إلى ما آلت إليه الأندلس المسلمة، ولكن يبدو أن هؤلاء الثائرين ومن هم على شاكلتهم قد آثروا الفتنة والشقاق والفراق، واستحلُّوا دماء المسلمين بأرخص الأثمان، فباعوا دينهم وخسروا دنياهم، مقابل أن يتغلَّب على أخيه في الدين، وربما أخيه من أمه وأبيه، بل ربما استعان على أبيه وأخيه وعمه وأهله جميعًا.


    وتَكَوَّنت في سبيل النوازع الشخصية أحزابُ المصالح وتكتلات المصالح، وسرعان ما تتصدَّع تلك الأحزاب وتتفكَّك، وينقلب صديق الأمس إلى عدوِّ اليوم والغد والمستقبل، وقد سلك هؤلاء المتغلِّبُون المتحكِّمُون في أراضي المسلمين في الأندلس كل السبل غير الشرعية، التي تُعَبِّر عن النذالة والخسَّة التي تمتَّع بها معظمهم، فاستعانوا بالخيانة والغدر، كما استعانوا بالنصارى على بعضهم البعض، ورضوا بالذلَّة والمهانة في دفع الجزية والإتاوات مقابل النيل برضا الممالك النصرانية الإسبانية، وهكذا أضحت الأندلس مسرحًا للصراعات بين المتخاصمين والمتنابذين؛ تلك الصراعات التي شَكَّلَتْ قصَّةَ مأساةٍ عاشتها أمَّة الإسلام ما يقارب القرن من الزمان.

    الصراع بين إشبيلية وبطليوس

    اتسمت الحروب والنزاعات بين مملكتي إشبيلية وبطليوس بالشراسة والقوَّة؛ ربما عاد ذلك إلى التقارب الحدودي الشديد بينهما، إضافة إلى الأطماع التوسُّعية التي اتَّسم بها أصحابهما، وهذا يجعلنا نستقرئ الأحداث قبل وقوعها، فكلٌّ من القاضي أبي القاسم بن عباد وعبد الله بن مسلمة الأفطس يسعى لتوسعة ممتلكاته وتحصين دولته، وانتهاز الفرص بأسرع وسيلة ممكنة، وكان ذلك إيذانًا باشتعال الحرب بين المملكتين في أي وقت، وهو ما حدث بالفعل.

    الصدام بين ابن عباد والأفطس على باجة

    كان أول صدام عسكري قام به القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية هو قتاله مع عبد الله بن مسلمة الأفطس صاحب بطليوس حول باجة، المدينة التي أصابتها الفتنة والاضطراب إثر إلغاء الخلافة واستئثار كل ثائر بإمارته، ومعلوم أن بطليوس تمثِّل الحدَّ الشمال الغربي لإشبيلية، وكان كلٌّ من ابن عباد والأفطس يستعين بالبربر في حروبه وتوسُّعاته، وكان القاضي ابن عباد على علاقة وطيدة بمحمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، وقد وصف ابن حيان البرزالي بقوله: «وكان ابن عبد الله بقَرْمُونة قطب رحى الفتنة، كثيرًا ما يُحَرِّض القاضي ابن عباد على الخروج إلى بلد ابن الأفطس وإلى قرطبة، فيعمَّا الجهات كلها تدويخًا؛ كلما آبا من جهة صارَا إلى سواها، حتى أثَّرَا آثارًا قبيحة»[1].

    ولا يخفى عليك أن علاقة ابن عباد بالبرزالي هي علاقة مصالح متبادلة لا أكثر! وهذا النوع من المصالح لا يدوم، فدعائمه ليست على كتاب الله ولا على سُنَّة رسوله، وسرعان ما يتحوَّل الصديق إلى عدوٍّ، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ حاول ابن عباد أن ينتزع قَرْمُونة من حليفه البرزالي، وكاد له ذلك لولا تدخُّل البربر واختراقهم أراضي إشبيلية، وكانت مقتلة عظيمة قُتِلَ فيها إسماعيل ابن القاضي ابن عباد، وذلك سنة (431هـ=1039م) [2].

    تمثِّل قَرْمُونة الحصن الشمالي الشرقي لإشبيلية، فمن المصلحة العامة لابن عباد أن يكون على علاقة حسنة مع جاره، ومن ناحية البرزالي فمن مصلحته أن يُوَطِّدَ علاقته بابن عباد ليستعين به على قتال ابن حمود الطامع في إمارته؛ ومن ثَمَّ بعث القاضي ابن عباد لحليفه البرزالي يستعين به في السيطرة على بَاجَة، وأرسل عبد الله الأفطس ابنه محمد المظفر إلى بَاجَة، ويبدو أن ابن الأفطس أسرع إلى بَاجَة قبل الحليفين، وتملَّك المدينة، فأرسل القاضي ابن عباد ابنه إسماعيل على رأس جيش إلى بَاجَة، ومعه قوَّة من صاحب قَرْمُونة محمد بن عبد الله البرزالي، وفرض ابن عباد الحصار على بَاجَة وبداخلها ابن الأفطس، وجاء ابن طيفور صاحب مِيرْتُلَة بمددٍ لابن الأفطس، فاضطرم القتال بين الفريقين، وكانت مذبحة مهيبة، قُتل فيها من جيش ابن الأفطس الكثير، وأُسر منهم الكثير كذلك، وكان من بين الأسرى محمد بن الأفطس، وأخ لابن طيفور صُلِبَ بإشبيلية سنة 421هـ، وأُرسل ابن الأفطس إلى قَرْمُونة ليكون بجوار البرزالي، ثم أطلق سراحه، وكان محمد بن عبد الله البرزالي عرض على ابن الأفطس يوم أطلقه أن يجتاز على القاضي ابن عباد ليشركه في المنِّ عليه بفكِّه، فأبى ابن الأفطس ذلك وقال: مُقامي في أسرك أشرف عندي من تحمُّل منَّته، فإما انفردت باليد عندي وإلا أبقيتني على حالي. فأُعجب ابن عبد الله البرزالي بمقاله، ونافس في إسداء اليد عنده لكمال خصاله، وأكرم تشييعه، وبعث به إلى بطليوس[3].

    هدأت الأمور بين المملكتين قليلاً، ولم ينسَ ابن مسلمة الأفطس تلك الهزيمة الثقيلة، التي أُسِرَ فيها ابنه محمد، وكاد أن يُقتل، وظلَّ ينتظر ذلك اليوم الذي يثأر فيه لنفسه ولابنه، ومرَّت أربعة أعوام، وبعث القاضي ابن عباد ابنه إسماعيل بجيش توغَّل شمالاً في أراضي ابن الأفطس، وهنا كَمَنَ ابن الأفطس لابن عباد، وأغلق عليه طريق رجوعه، وكانت مقتلة عظيمة في جيش إشبيلية، لم ينجُ منها إلا قليل، وفرَّ إسماعيل بن عباد إلى لَشْبُونَة وتحصن بها، وكانت حادثة شنيعة لبني عباد سنة (425هـ=1034م) [4].

    الصدام بين المعتضد والمظفر

    مرَّت السنون ومات القاضي ابن عباد سنة (433هـ=1042م)، وخلفه ابنه عبَّاد المعتضد بالله، كما مات أيضًا عبد الله بن مسلمة الأفطس سنة (437هـ=1045م)، وخلفه ابنه محمد المظفر، وهكذا مات الآباء وهم يحملون خصومات شنيعة جاءت بالويلات على المسلمين.
    ولكن السؤال: هل نسي الأبناء أحقاد آبائهم، أم ساروا على نهجهم؟
    والحقيقة المرَّة التي حفظها التاريخ أن الأبناء ساروا أشدَّ مما كان في عهد آبائهم، فلم ينسَ المعتضد بن عباد مأساة والده في سنة 425هـ، كما لم ينسَ المظفر عداوة إشبيلية، وكان شعار كليهما {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].

    الصراع على لبلة

    عادت الحرب أشدَّ ما كانت عليه، واضطرمت المعارك بين المعتضد والمظفر؛ إذ حاول المعتضد أن ينتزع لبلة من صاحبها ابن يحيى، الذي عجز عن صدِّ جيوش إشبيلية، فاستغاث بالمظفر صاحب بطليوس، الذي كان في غنًى عن هذه الفتنة، وخرج المظفر لإغاثة ابن يحيى، واستغلَّ فرصة غياب المعتضد عن إشبيلية فبعث بجماعة من البرابرة فعاثوا فيها، وعاث المعتضد في بطليوس وأعمالها، وكادت أن تكون فتنة يذهب فيها الإسلام والمسلمون من كلا الإمارتين، فتدخَّل الوزير أبو الوليد بن جهور مسرعًا؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}[الحجرات: 9]، وجهد ابن جهور جهده في صرفهم، وأرسل ثقات رسله إلى عامَّتهم، وراح يضرب لهم الأمثال، ويُخَوِّفهم من سوء العاقبة والمآل، حتى صار فيهم كمؤمن آل فرعون وعظًا وتذكرة، يجد منهم الأطواد الراسية، ويرقي الحيات المتصامة، واستنَّ القومُ في ميدان الغِيَّ، وكانت مقتلة عظيمة وفتنة بربرية، اتسمت بالقوة والعنفوانية، وعاث كلٌّ منهما في أراضي الآخر، وكانت الهزيمة على ابن الأفطس أولاً، لكنه استأنف الكرَّة، واستطاع هزيمة المعتضد هزيمة قاسية، قُتِلَ فيها كثير من جنده، وكان ذلك سنة (439هـ=1047م) [5].

    ثم كانت سنة (442هـ=1050م) حيث تطوَّرت الحوادث، وتفاقم الأمر، وساء التفاهم بين المظفر بن الأفطس وابن يحيى حليف الأمس، فقد خان المظفر حليفه ابن يحيى، ورفض أن يَرُدَّ لابن يحيى ودائعه التي ائتمنه عليها من مال وذخائر، كان ابن يحيى جعلها عند المظفر أيام هجوم المعتضد بن عباد على لبلة، ولما ساء الأمر بينهما هاجم المظفر بن الأفطس لَبْلَة، فهرع ابن يحيى للمعتضد بن عباد يطلب نجدته، فأرسل له جيشًا قويًّا، فتك بابن الأفطس ومزَّق جيشه شرَّ ممزَّق، واحتزَّ من رءوسهم نحو مائة وخمسين، وأفنى حماة رجاله.

    الصراع في يابرة



    ثم جهز المعتضد جيشًا آخر من إشبيلية بقيادة ابنه إسماعيل ووزيره ابن سلام، فتوجَّه ناحية بطليوس وأعمالها، فعاث شمالاً في أراضي ابن الأفطس حتى مدينة يَابرَة، وعلى الناحية الأخرى جمع المظفر بن الأفطس رجاله واستدعى حليفه إسحاق بن عبد الله البرزالي، فبعث له بجيش عليه ابنه العزُّ، واجتمع الفريقان من غير أهبة ولا استعدد، ودارت حرب طاحنة، دارت دائرتها على ابن الأفطس، وحزَّ رأس العزِّ بن إسحاق وبعث به إلى إشبيلية، مع رأسٍ لعمِّ ابن الأفطس، ولم يجد ابن الأفطس إلاَّ الفِرَار والنجاة بنفسه، فلجأ إلى يَابرَة تحت كنف صاحبها عبد الله بن الخرَّاز، وقد قُدِّرَ عدد مَنْ قُتِلَ في هذه الموقعة بثلاثة آلاف على أقلِّ تقدير[6].


    الوزير الوليد ابن جهور والصلح بين المعتضد والمظفر

    وفي أواخر سنة 442هـ (حيث لم تجف دماء المسلمين في يَابرَة، ولم يتنفَّس ابن الأفطس الصعداء من هول هزيمته وصدمته في يَابرَة، جهَّز المعتضد بن عباد جيشه وعاث في أراضي ابن الأفطس قتلاً وتشريدًا ونهبًا، وحرقًا في الأراضي والمزارع، فعمَّت المجاعة في البلاد، وفتح المعتضد حصونًا وبلدانًا، والمظفر لا يستطيع أن يَرُدَّ، ولم يملك إلا أن اعتصم بحصنه بطليوس، ولم يُخْرِج من خيله فارسًا، وجعل يشكو إلى حلفائه، فلا يجد ظهيرًا ولا نصيرًا، واشتدَّ البأس على المظفر بن الأفطس، وكادت أن تكون نهايته، إلاَّ أن الوزير أبا الوليد بن جهور تَدَخَّل درءًا للفتنة، وسعيًا في الصلح بين هذين المتخاصمين، حتى تمَّ له ذلك في ربيع الأول (443هـ=1051م)[7].

    وهكذا انتهت القطيعة بين إشبيلية وبطليوس، بعد أن كادت تُفْنِي كل شيء، ويبدو أن المعتضد والمظفر لم يرجعَا إلى نحو ما كانا عليه من الحروب والنزاعات، وإنما بحث كل منهما عن عدوٍّ هو أضعف منه ينال من لحمه، وينهش من مُلْكِه.


    [1] ابن بسام: الذخيرة 3/20.
    [2] الحميدي: جذوة المقتبس 3/31.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 3/19-22.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 3/22.
    [5]) ابن بسام: الذخيرة 3/33، 34، وابن عذاري: البيان المغرب 3/209، 210، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/84.
    [6] ابن بسام: الذخيرة 3/34، 35، وابن عذاري: البيان المغرب 3/234، 235.
    [7] ابن بسام: الذخيرة 3/35، 36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/211-213.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الطوائف في بلاد الأندلس

    الطوائف في بلاد الأندلس



    تُعَدُّ الطوائف التي ذكرناها آنفًا هي الأقوى في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، وإن اختلفت من حيث الامتداد الزمني والمكاني، ولكن ليست هذه الطوائف هي كل الطوائف التي شَكَّلت حلقة التاريخ الأندلسي في تلك الحقبة الزمنية القصيرة، التي لا تتجاوز القرن الواحد، وإنما هناك الكثير من الإمارات الأخرى، التي لا تعدو أن تكون أُسَرًا متغلِّبَة على بعض المدن، ليست لها أطماع توسُّعية، ولم يكن لها شأن كبير في سير الأحداث؛ بيد أنها كانت محلَّ نزاع بين الطوائف الأخرى الأقوى، ومن هذه الطوائف:


    أسرة بني زيري في غَرْنَاطَة، في الفترة من (403-483هـ=1013-1090م).
    أسرة بني طاهر في مُرْسِيَة، في الفترة من (429-471هـ=1038-1078م).
    أسرة بني برزال في قَرْمُونة، في الفترة من (404-459هـ=1013-1067م).
    أسرة بني يفرن في رُنْدة، في الفترة من (406-457هـ=1015-1065م).
    أسرة بني دمَّر في مورور، في الفترة من (403-458هـ=1013-1066م).
    أسرة بني خزرون في أركش، في الفترة من (402-461هـ=1011-1068م).
    مملكة ألمَرِيَّة في عهد الفتيان العامريين، في الفترة من (405-433هـ= 1014-1041م).
    مملكة ألمَرِيَّة في عهد بني صمادح، في الفترة من (433-484هـ=1041-1091م).
    مملكة دانية والجزائر في عهد الفتيان العامريين، في الفترة من (400-468هـ=1009-1076م).
    مملكة دانية والجزائر في عهد بني هود، في الفترة من (468-483هـ=1076-1091م).
    مملكة بَلَنْسِيَة في عهد الفتيان العامريين، في الفترة من (400-478هـ=1009-1085م).
    إمارة شَنْتَمَرِيَّة الشرق في عهد بني رزين، في الفترة من (403-497هـ=1012-1104م).
    إمارة شَنْتَمَرِيَّة الغرب في عهد بني هارون، في الفترة من (417-443هـ=1026-1051م).
    إمارة بالبُونت في عهد عبد الله بن قاسم، في الفترة من (400-495هـ=1009-1102م).
    دولة لَبْلَة في عهد بني يحيى، في الفترة من (414-445هـ=1023-1053م).
    إمارة بَاجَة وشِلْب[1] في عهد بني مزين، في الفترة من (432-455هـ=1041-1063م).
    إمارة ولبة وجزيرة شَلْطِيش في عهد بني البكري، في الفترة من (403-443هـ=1012-1051م).

    حضارة الأندلس في فترة طوائف الأندلس

    ويجدر بنا -وقد ذكرنا بقية طوائف الأندلس- أن نذكر الدور العلمي والحضاري التي ساهمت به هذه الممالك، فقد نبغ في ظلِّها العديدُ من علماء الأندلس وفقهائها، ففي دانية والجزائر -مثلاً- نبغ العالم اللغوي الكبير أبو الحسن ابن سيده، وكان إمامًا في اللغة وآدابها، وُلِدَ بمُرْسِيَة وانتقل إلى دانية، وانقطع لمجاهد العامري، وله كتابه الشهير (المخصص)، وكتاب (المحكم والمحيط الأعظم)، وكان مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر من علماء عصره، عارفًا بالأدب وعلوم القرآن، قالوا عنه: «فتى أمراء دهره وأديب ملوك عصره»، وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر صاحب مُرْسِيَة، من علماء عصره، وفي مَيُورْقَة نبغ الحافظ الحميدي صاحب ابن حزم، وهو مؤرخ الأندلس وعالمها في عصره، وله كتاب (جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس).

    حال الأندلس في فترة الطوائف

    تلك هي ممالك الطوائف أُسَرٌ متغلِّبَة وأخرى مغلوبة، ليس لهم من الأمر إلا دفع الجزية للنصارى الكافرين، والتسلُّط على أراضي إخوانهم المسلمين، وليس لديَّ أبلغ تعبير أقوله في وصف حال تلك الممالك وأصحابها، بقدر ذكري لما قاله الوزير العالم الأديب لسان الدين بن الخطيب؛ إذ يقول: «وذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق إلى حيث لم يذهب كثيرٌ من أهل الأقطار، مع امتيازهم بالمحلِّ القريب، والحطَّة المجاورة لعُبَّاد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرثٌ، ولا في الإمارة سَبَب، ولا في الفروسية نَسَب، ولا في شروط الإمامة مُكْتَسَب، اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجَبَوُا العَمالات والأمصار، وجنَّدُوا الجنود، وقدَّموا القضاة، وانتحلوا الألقاب، وكَتَبَتْ عنهم الكُتَّاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودُوِّنَتْ بأسمائهم الدواوين، وشَهِدَتْ بوجوب حقِّهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسَّلت إليهم الفضلاء، وهم ما بين مجبوب، وبربري مجلوب، ومجنَّد غير مَحْبُوب، وغُفْلٍ ليس في السُّراة بمَحْسُوب، ما منهم مَنْ يرضى أن يُسَمَّى ثائرًا، ولا لحزب الحقِّ مُغَايرًا، وقُصارى أحدهم أن يقول: «أُقيمُ على ما بيدي، حتى يتعيَّن مَنْ يستحقُّ الخروجَ به إليه».

    ولو جاءه عمر بن عبد العزيز لم يُقْبِلْ عليه، ولا لقي خيرًا لديه؛ ولكنَّهم استوفوا في ذلك آجالاً وأعمارًا، وخلفوا آثارًا، وإن كانوا لم يُبالوا اغترارًا، من معتمدٍ ومعتضد ومرتضى وموفَّق ومُسْتَكْف ومستظهر ومستعين ومنصور وناصر ومتوكل، كما قال الشاعر: [البسيط]
    مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ

    أَسْمَاءُ مُعْتَضِدٍ فِيهَا وَمُعْتَمِدِ
    أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا

    كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صُورَةَ الأَسَدِ[2]

    إلى هنا ننتهي من ذِكْر ممالك الطوائف ونشأتها وأشهر الأسر الحاكمة في تلك الفترة، وننتقل في الفصل القادم إلى الحديث عن الفرقة والتناحر بين تلك الممالك الأندلسية.


    [1] شِلب: مدينة بغربي الأندلس، بينها وبين باجة ثلاثة أيام، وهي غربي قرطبة. ياقوت الحموي: معجم البلدان 3 /357.
    [2] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص144.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء الأندلس في سرقسطة

    سرقسطة .. المدينة التجارية

    يجب ألاَّ ننسى في نهاية حديثنا عن بني هود في سرقسطة أن نذكر دور سرقسطة المسلمة في ترويج رُوح التبادل التجاري والمهني بين المشرق والمغرب؛ فقد كانت مملكة سرقسطة بسيطرتها على جزء كبير من البحر المتوسط، وثغريها الكبيرين طَرَّكُونة وطُرْطُوشة، تستقبل شطرًا كبيرًا من تجارة المشرق وتجارة الأندلس والمغرب، وتعمل على تصريفها إلى الأمم الأوربية، عن طريق ثغور فرنسا وإيطاليا، وكان بنو هود يجنون من وراء ذلك كله أرباحًا طائلة، كان لها بعيد الأثر في دفع غارات النصارى، من خلال دفع الإتاوات الوفيرة لملوك النصارى، مقابل اتقاء عدوانهم أطول وقت ممكن[1].

    علماء سرقسطة



    كانت سرقسطة في عهد بني هود كغيرها من حواضر العلم في الأندلس آنذاك؛ إذ تُساوي في مكانتها العلمية إشبيلية حاضرة بني عباد، وبطليوس حاضرة بني الأفطس، وطليطلة حاضرة بني ذي النون؛ فقد نبغ فيها علماء أجلاء؛ أمثال: ابن باجة الفيلسوف، والطرطوشي الفقيه، وإسماعيل بن خلف القارئ، فضلاً عن المكانة العلمية التي تمتَّع بها كلٌّ من المقتدر أحمد بن هود وابنه المؤتمن يوسف؛ فقد نبغَا في الفلسفة والرياضيات والفلك.


    الطُّرْطُوشيُّ (451-520هـ=1059-1126م)

    هو أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطُّرْطُوشيُّ[2] الأندلسي الفقيه المالكي، وكان أبو بكرٍ يُعْرَف في وقته بابن أبي رَنْدَقَة[3].

    وقد وُلِدَ سنة (451هـ=1059م) في مدينة طُرْطُوشة الأندلسية، وقد لازم القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف، ثم حجَّ، فسمع بالحجاز ثم رحل للعراق وسمع بالبصرة وببغداد ثم رحل إلى بيت المقدس ثم استقر بالإسكندرية[4].

    قال عنه تلميذه إبراهيم بن مهديِّ بن قليُنَا: كان شيخنا أبو بكرٍ زهده وعبادته أكثر من علمه[5]، وقال ابن بشكوال: كان إمامًا عالمًا عاملاً، زاهدًا ورعًا، دَيِّنًا متواضعًا، متقشفًا متقللاً من الدنيا، راضيًا منها باليسير، أخبرنا عنه القاضي الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري ووصفه بالعلم والفضل والزهد في الدنيا، والإقبال على ما يعنيه. قال القاضي أبو بكر: وكان كثيرًا ما ينشدنا: [الرمل]
    إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطُنَا

    طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا
    فَكَّرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا

    أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
    جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا

    صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا[6]

    وأشهر مؤلَّفات الطُّرطُوشيُّ هو كتاب (سراج الملوك)، الذي يتناول سياسة المُلك وتدبير أمور الرعية. وللطرطوشي عدد آخر من الكتب؛ منها: مختصر تفسير الثعالبي، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب الفتن، وكتاب الحوادث والبدع أو بدع الأمور ومحدثاتها، وكتاب برُّ الوالدين، ورسالة العدة عند الكروب والشدة، وسراج الهدى، وكتاب في تحريم جبن الروم، والمختصر في فروع المالكية.

    عاش الطُّرطُوشيُّ 69 سنة، وتوفي في الإسكندرية سنة (520 هـ= 1126 م) –رحمه الله[7].


    [1] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/296.
    [2] الطرطوشي بضم الطائين، هكذا ضبطه المقرّي، وكذا الزبيدي، انظر: المقري: نفح الطيب، 2/87، والزبيدي: تاج العروس، 17/243.
    [3] انظر: ابن بشكوال: الصلة، 2/838 1277، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/490.
    [4] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/490، وما بعدها، بتصرف.
    [5] المصدر السابق، 19/492.
    [6] انظر: ابن بشكوال: الصلة، 2/838، وما بعدها، والمقري: نفح الطيب، 2/87.
    [7] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/264.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    نهاية دولة بني هود في سرقسطة

    يوسف المؤتمن بن هود

    يبدو أن المقتدر ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه والده من قبل؛ بتقسيم ممكلته بين ولديه، فخصَّ ابنه الأكبر يوسف المؤتمن بسَرَقُسْطَة وأعمالها، وخصَّ ابنه الأصغر المنذر بلارِدَة وطُرْطُوشة ودانية ومنتشون، وكما حدث بين أولاد سليمان بن هود من قبل حدث بين أولاد المقتدر من بعد؛ فقد طمع كلٌّ من الأخوين بما في يد أخيه، فاستعان كل منهما بحليفٍ من النصارى على أخيه، فارتمى يوسف المؤتمن في أحضان السيد القمبيطور، وجيشه من المرتزقة القشتاليين، وارتمى المنذر في أحضان سانشو ملك أراجون ورامون أمير بَرْشُلُونَة، وتعرَّض المنذر وحلفاؤه لهزيمتين قاسيتين عند قلعة المنار القريبة من لارِدَة سنة (475هـ=1082م)، وأُسر فيها أمير بَرْشُلُونَة رامون، والثانية عند أحواز موريلا على مقربة من طُرْطُوشة، برز فيهما السيد القمبيطور كحليف مخلص ليوسف المؤتمن[1].

    وقد حاول المؤتمن أن ينتزع بَلَنْسِيَة لما تتمتع به من موقع جغرافي، إلا أن حاكمها أبا بكر بن عبد العزيز لاحظ ما ينويه المؤتمن، فأسرع وسدَّ باب طمع المؤتمن بن هود، بأن زوَّج ابنته لأحمد المستعين بن يوسف المؤتمن، وحملها لزوجها أحمد إلى سرقسطة، وكان بناؤها في ليلة 27 من رمضان سنة (477هـ=1084م)[2].

    لم تكن شهرة يوسف المؤتمن في قدرته العسكرية وطموحاته التوسعية فقط، بل كذلك في كفاءته العلمية والفكرية، وكان مثل أبيه المقتدر عالمًا بالرياضيات والفلك، وله فيها تآليف؛ مثل: رسالة الاستكمال والمناظر، وقد تُرجمت رسالتهالاستكمال في القرن الثاني عشر الميلادي إلى اللاتينية، وقد وُصفت رسالته هذه أنها ترتفع من حيث قيمتها العلمية إلى مستوى إقليدس والمجيسطي[3]، كما كان المؤتمن محبًّا لمجالسة العلماء والشعراء[4].

    لم تَدُم مدَّة حُكم المؤتمن أكثر من أربعة أعوام؛ إذ وافته المنية سنة (478هـ=1085م)، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على طُلَيْطِلَة من يد القادر بن ذي النون، كانت وفاة المؤتمن بن هود نهاية لتوسعاته، وخلفه في الحُكم ابنه أحمد المستعين[5].

    أحمد المستعين بن هود



    تُوُفِّيَ يوسف المؤتمن وخلفه ابنه أحمد المستعين، الذي يُعْرَفُ بالمستعين الأصغر[6]، وأول ما واجهه هو صدُّ غارات النصارى، والوقوف أمام أطماع ألفونسو في انتزاع سَرَقُسْطَة، فما أن أسقط ألفونسو طُلَيْطِلَة سنة (478هـ =1085م)، حتى وجَّه قوَّاته ناحية سَرَقُسْطَة حاضرة المستعين، وضرب الحصار عليها، واستمات المستعين بكل ما يملك من أجل الدفاع عن مدينته وأملاكه أمام الهجوم القشتالي العنيف، وطرق المستعين كل الأبواب من أجل دفع ألفونسو، وعرض عليه المال الكثير، ولكن النصارى رفضوا؛ فالمدينة هي هدفهم ولا هدف غيرها، وأصرَّ ألفونسو على أخذ المدينة، وأذاع عُمَّالُه في أنحاء سَرَقُسْطَة أنه ما جاء إلا للمصلحة العامة، وما جاء إلا ليُطَبِّق القرآن وتعاليمه السمحة، ولن يجبي منهم من الضرائب إلا ما يُجيزه الشرع الحكيم، وأنهم سوف يكونوا موضع عنايتهم ورعايتهم، كما كان الوضع مع إخوانهم في طُلَيْطِلَة، واستمرَّ الحصار القشتالي على سَرَقُسْطَة دون فائدة، ثم جاء النبأ العظيم بقدوم المرابطين لإنقاذ الأندلس سنة (479هـ=1086م)، فما أن علم ألفونسو بذلك النبأ،حتى بعث مسرعًا إلى المستعين أنه يقبل الجزية التي عرضها، فأجابه المستعين، وكان ألفونسو على علم بأن المستعين لن يدفع إليه درهمًا واحدًا[7].


    بعد انتصار القوات الأندلسية المرابطية المتحدة على النصارى في الزَّلاَّقَة في (رجب 479هـ= أكتوبر 1086م) ضعفت قوَّة قشتالة، ولم تَعُدْ تُشَكِّل خطرًا على سَرَقُسْطَة، فاستغلَّ المستعين هذه الفرصة وأخذ يتحيَّن الفرص للانقضاض على بَلَنْسِيَة حلم آبائه من قبله، وطرق في ذلك الوسائل النبيلة والنذيلة، وقد كُلِّلَتْ كلُّ محاولاته بالفشل؛ خاصة أنه اعتمد على النصارى المرتزقة بزعامة القمبيطور، الذي شاءت الأقدار أن تئول بَلَنْسِيَة إلى أملاك القمبيطور، بعد أن حاصرها بجنوده ونصب عليها المجانيق، حتى أكل المسلمون الكلاب والجيف والفئران، بل وأكل الناس من مات من إخوانهم المسلمين، ولما طال الحصار ولم يجد أهل بَلَنْسِيَة من يُنجدهم سقطت المدينة في يد القمبيطور سنة 488هـ، ولم تزل بَلَنْسِيَة في أيدي النصارى حتى استردَّها المرابطون سنة 495هـ[8].



    وهكذا فشلت كل المحاولات التي اتخذها المستعين، وفجأة توالت المخاطر على المستعين من كل جانب؛ إذ وقع بين خطرين قد يقضيان على أحلامه، بل وملكه وحياته إذا أساء التصرُّف معهما؛ الخطر الأول: قادم من الشمال متمثلاً في جيرانه النصارى، والخطر الثاني: زاحف من الجنوب متمثلاً في قوة المرابطين الجديدة، التي تهدف إلى وحدة واحدة تجمع الأندلس كلها، وظلَّ المستعين يتحاين التحالف بين هذا وذاك، حتى قُتِلَ في معركة بلتيرة أو فالتيرا أمام ألفونسو المحارب ملك أراغون في (رجب 503هـ= يناير 1110م) [9]، كما أنه خسر مدينة وقشة إثر هزيمته الكبيرة أمام بيدور الأول بن شانجة راميرو بعد أن حاصرها، واحتدم القتال بين المستعين وبيدور من طلوع الشمس حتى غروبها، وخسر المسلمون أكثر من 12 ألفًا من الجنود، وقُتِلَ المستعين، وذلك في ذي القعدة (489هـ=1096م) [10].


    نهاية بني هود

    مات المستعين بن هود وخلف من بعده ابنه عبد الملك الملقب بعماد الدولة، وبايعه أهل سَرَقُسْطَة شريطة ألاَّ يُحَالِف النصارى وألاَّ يستعين بهم، ولكن يبدو أن الأمور سارت على عكس ما أراد الشعب؛ إذ استعان عبد الملك بالنصارى، فغضب الناس وتحرَّكت الحمية في قلوبهم، وبعثوا إلى المرابطين الذين استجابوا لندائهم بعد أن أفتى الفقهاء بذلك، فدخلها المرابطون سنة 503هـ، وانتهى بذلك حكم بني هود في سَرَقُسْطَة، وآلت إلى المرابطين، ولكن تداعت الأمور وسقطت المدينة في يدي النصارى في رمضان (512هـ=1112م)[11].


    [1] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/285، 286، والقمبيطور: اسمه رودريغو دي فيغار، من مواليد قرية فيغار قرب برغش، أما تلقبه بالسيد، فهي تحريف لكلمة السيد العربية، وقد أطلقها المسلمون الذين خدم بينهم وحارب معهم، وأما وصفه القمبيطور، فمعناها المحارب الشجاع، فنظرًا لبسالته وشغفه بالقتال، اتخذت الأساطير القشتالية من أعماله عناصر لبطولته، ورفعته إلى مرتبة بطل إسبانيا القومي، وقد خرج هذا الفارس عن كل مبادئ الدين والإنسانية، فتارة يؤجر نفسه لأمراء المسلمين وتارة لأمراء النصارى، ويتدخَّل بشكل مباشر في الثورات والحروب في الممالك النصرانية والإسلامية. انظر: طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص454.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/304، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/286.
    [3] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/286.
    [4]) ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 2/437.
    [5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص178، ابن الأبار: الحلة السيراء 248، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163.
    [6] ابن سعيد المراكشي: المغرب في حلى المغرب 2/437.
    [7] نقلاً عن عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/287.
    [8] ابن عذاري: البيان المغرب 3/303-306.
    [9] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/248، وابن عذاري: البيان المغرب 4/55، وانظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص174، ويذكر ابن الخطيب أن المستعين استشهد في جهاده ضد النصارى سنة 501هـ، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/291.
    [10] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص172.
    [11] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/248، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص175، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163.

    اترك تعليق:

يعمل...
X