إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    نهاية دولة بني جهور



    أبو الوليد محمد بن جهور



    عند وفاة الوزير جهور سنة 435هـ أجمع أهل قرطبة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكما عليهم، وقد اقتفى أبو الوليد محمد بن جهور خطى والده في سياسته، وأقرَّ لأول ولايته الحُكَّام وأُولي المراتب على ما كانوا عليه أيام أبيه، وأخذ بسياسة الحزم على نحو ما كان عليه أبوه، وأقرَّ الأمن والنظام[1].


    وكان من محاسن دولته أن قرَّب إليه مؤرِّخ الأندلس أبا مروان بن حيان، وجعله من خاصَّته في ديوان السلطان، وفي ذلك يقول ابن حيان: «وكنتُ ممَّن جَادَتْهُ سماءُ الرئيس الفاضل أبي الوليد الثرَّة، وكَرُم فيَّ فعلُه ابتداءً من غير مسألة، فأقْحَمَني في زمرة العصابة المُبَرِّزَة الخَصل، مع كلال الحدِّ وضعف الآلة؛ واهتدى لمكان خِلَّتي، وقد ارتشف الدهرُ بُلالتي[2]، بأن قلَّدني إملاءَ الذِّكْر في ديوان السلطان المطابق لصناعتي، اللاَّئق بتحرُّفي، براتب واسع، لولا ما أخذ عليَّ كَتْم ما أسداه لجهدتُ في وصفه، وإلى الله تعالى أفزع في إجمال المكافأة عني برحمته»[3]. ومن محاسنه كذلك أن قرَّب إليه شاعر الأندلس الكبير أبا الوليد بن زيدون، وجعله وزيره، وقَدَّمه إلى النظر على أهل الذمَّة لبعض الأمور المعترضة، وجعله لسان دولته وسفيرًا له إلى أمراء الممالك الأندلسية، وظلَّ كذلك إلى أن سخط عليه فأودعه السجن، ثم فرَّ ابن زيدون إلى دولة المعتضد بن عباد بإِشْبِيلِيَة وأصبح وزيره الأول[4].

    الفتنة القاضية

    بقيت الأمور على ما هي عليه من الاستقرار والأمان حينًا، ويبدو أن أبا الوليد محمد بن جهور أتعبته السياسة وأثقلت كاهله، وكان له ولدان، عبد الرحمن أكبرهما، وعبد الملك أصغرهما، ولكن عبد الملك تميَّز عن أخيه بشهامته، فلما عزم أبو الوليد على ترك السياسة وأمورها عقد الأمر لابنه عبد الملك الأصغر، وأنشد يقول: [الكامل]
    وَإِذَا الْفَتَى فَقَدَ الشَّبَابَ سَمَا لَهُ

    حُبُّ الْبَنِينِ وَلا كَحُبِّ الأَصْغَرِ

    عبد الملك بن جهور

    مع كثرة نصائح المقربين من أبي الوليد بن جهور بتقديم عبد الرحمن، إلا أنه أصرَّ على تقديم عبد الملك، وقدَّمه للناس، وطلب منهم البيعة له، فظَلَمَ وأساء السيرة، واستبدَّ بالسلطة من دون الجماعة، واستباح أموال المسلمين، وسلَّط عليهم أهل الفساد، وأهمل الأمور الشرعية، وشرع في المعاصي والفسوق، وعمَّ الخوف محلَّ الأمان، وتعاظمت قوَّته بتجبُّره، وتسمَّى بذي السيادتين (المنصور بالله الظافر بفضل الله)، وخُطب له على المنابر، فخالف سيرة أبيه وجدِّه، وفي سنة 440هـ عَهِد عبد الملك بأمور الحُكم إلى وزير أبيه أبي الحسن إبراهيم بن يحيى المعروف بابن السقَّاء، فضبط الأمن وأعاد النظام، وساد العدل بين الناس، وكان المعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب؛ ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على قُرْطُبَة، فلما وجد ما حَلَّتْ به تحت يَدَيْ ذلك الوزير القوي ابن السقاء، ورأى أن ذلك يحُول بينه وبين حلمه في امتلاك قُرْطُبَة؛ عَمِلَ على الوقيعة بين عبد الملك بن جهور وبين وزير أبيه ابن السقاء، فدسَّ إلى عبد الملك مَنْ جَسَّره[5] على الفتك بابن السقاء، وحذره من طمعه واستئثاره بالسلطة دونه، وإلى ابن السقاء مَنْ ألقى في روعه حُبَّ المُلْكِ، وكان عبد الملك ضعيفَ العقل سيِّئ الرأي، فقتل وزيره في كمين دبَّره له سنة (455هـ= 1063م)[6].

    وبعد أن قُتل الوزير ابن السقاء انفرد عبد الملك بالسلطة لنفسه، فتجبَّر وأساء، فلما وجد أخوه الأكبر عبد الرحمن ذلك طمع في السلطة، وزعم أنه أحقُّ بالولاية من أخيه، فطفقا يستميلُ كلٌّ منهما طائفةً من الجند، ويتقرَّب للرعية، وبدأت بوادر الفوضى تعمُّ قُرْطُبَة، فلما وجد أبو الوليد بن جهور ذلك خاف سوء العاقبة عليه وعلى ولديه، فعمد إلى تقسيم السلطة عليهما وذلك سنة (456هـ=1064م)؛ فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في الصكوك السلطانية المتضمِّنة للحلِّ والعقد، وجميع أبواب النفقات، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والإشراف على أعطياتهم، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم وجميع ما يخصهم، ورضيا الأخوان بذلك، إلا أن عبد الملك تغلب على أخيه فسجنه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، واستبدَّ بالأمر دونه، وأطلق العِنان وتسلَّط هو والسوقة من رعيته بين الناس بالأذى، فما كان من أهل قُرْطُبَة إلا أن انصرفوا عن بني جهور[7].

    نهاية دولة بني جهور

    كانت هذه السياسة -التي اتبعها عبد الملك بن جهور في قُرْطُبَة- كفيلة بإسقاط حكمه، خاصَّة وأن حاشيته عاثت في الأرض فسادًا ونهبًا وسرقة؛ مما أثار أهل قُرْطُبَة، وبدأت مظاهر الانحلال السابقة للسقوط الأزلي لدولة بني جهور في قُرْطُبَة، خاصة وأن قُرْطُبَة محلُّ أنظار الممالك المجاورة لها؛ سواء بني عباد في إِشْبِيلِيَة، أو بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، وعقب الاضطرابات التي شهدتها قُرْطُبَة عام 462هـ أغار صاحب طُلَيْطِلَة المأمون يحيى بن ذي النون على قُرْطُبَة، فاستغاث عبد الملك بن جهور بالمعتمد بن عباد[8]، وكانت تلك الاستغاثةَ الأخيرة من بني جهور، والتي أعقبها سقوط حُكمهم إلى الأبد في قُرْطُبَة على نحو ما سنذكره في موضعه، إن شاء الله.


    [1] المصدر السابق، 2/605.
    [2] البُلالة: الإساءة والعيب. الجوهري: الصحاح، باب اللام فصل الباء 4/1640، وابن منظور: لسان العرب، مادة بلل 11/63.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 2/605.
    [4] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 1/63، 64، وابن بسام: الذخيرة، 1/337، 338.
    [5] يُجَسِّره: يُشَجِّعه ويجعله يتطاول ويتجرَّأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الجيم 2/613، 614، وابن منظور: لسان العرب، مادة جسر 4/136، والمعجم الوسيط 1/122.
    [6] ابن بسام: الذخيرة 2/608، 609، 7/241-245، وابن عذاري: البيان المغرب 3/232، 233، 251.
    [7] ابن بسام: الذخيرة 2/606، 607، وابن عذاري: البيان المغرب 3/258، 259، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149.
    [8] ابن بسام: الذخيرة 2/609-611، وابن عذاري: البيان المغرب 3/260، 261، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149-152.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سياسة أبي الحزم جهور في قرطبة


    السياسة الداخلية



    تولَّى أبو الحزم جهور حكومة قرطبة والبلاد تعيش حالة توتر أمني؛ فالبلاد تعيش بلا خليفة يحكمها، أو خليفة يلتفُّ الناس حوله، فكانت البلاد مسرحًا للعابثين من محترفي النهب والسرقة، كما شهدت فسادًا اقتصاديًّا؛ حيث غلت الأسعار، وتدهورت التجارة، وعمَّ الاستغلال، وارتفعت الضرائب والمكوس، ونُهِبَت الأموال العامة من مختلسي أموال الدول، وعاشت كذلك تدهورًا علميًّا وفكريًّا فليست هناك حكومة تعتني بالعلماء والأدباء والشعراء، وتُنفق عليهم من الأموال ما هو كفيل بإبداعهم وتفوقهم، فكان النظام الجديد الذي ابتكره أبو الحزم بن جهور كفيلاً بأن يقف أمام هذه التحديات، التي تعصف بدول وحكومات لو ساءت الإدارة وتعسَّف المتحكمون.


    القضاء على الانفلات الأمني

    سلك الوزير ابن جهور مسلك الحاكم المصلح، باتخاذ إجراءات إصلاحية في البلاد؛ لعل أوَّلها القضاء على الانفلات الأمني وأحداث الشغب، التي قد تعصف بالبلاد، وأن يُوَطِّد دعائم الأمن والنظام، فعامل البربر الثائرين عليه بخفض الجناح والرفق في المعاملة، حتى حصل على سلمهم ومحبَّتهم، كما فَرَّق السلاح على البيوت والمحلات؛ حتى إذا دهم أمرٌ في ليلٍ أو نهارٍ كان سلاح كل واحد معه، كما جعل أهل الأسواق جندًا، وهذه السياسة كفيلة بأن تجعل البلاد بلد أمن وسلام، بل وأصبحت قُرْطُبَة ملجأ أمنٍ للفارِّين والمنفيين من الأمراء المخلوعين عن عروشهم، فقُرْطُبَة في أيامه حريمًا يأمن فيه كل خائف من غيره[1].

    الإصلاح الاقتصادي

    كما عمل أبو الحزم ابن جهور على إصلاح الفساد الاقتصادي؛ فقضى على كل أنواع البذخ والترف، وعمل على حفظ الأموال العامة؛ وخاصة الأموال السلطانية من السرقة، فقد جعل عليها رجالاً يثق بقدرتهم وأمانتهم، وجعل نفسه مشرفًا عليهم[2]، كما عمل على خفض الضرائب والمكوس، وعمل على تشجيع المعاملات التجارية؛ فوزَّع الأموال على التجار؛ لتكون بيدهم دَيْنًا عليهم، يستغلُّونها ويحصلون على ربحها فقط، وتُحْفَظ لديهم، ويُحَاسَبُون عليها من وقت لآخر، وكانت النتيجة أن عمَّ الرخاء قُرْطُبَة، وازدهرت الأسواق، وتحسَّنت الأسعار، وغلت الدور، وعاد النماء بعد الكساد[3].

    إصلاح القضاء والازدهار الفكري

    ونتيجةً لهذه السياسة الحكيمة التي اتبعها الوزير أبو الحزم بن جهور شهدت قُرْطُبَة ازدهارًا سياسيًّا واقتصاديًّا، كان دافعًا إلى إصلاح القضاء من ناحية؛ حيث عمَّ العدل بين الناس، وأَمِنَ الناس على حقوقهم، ومن ناحية أخرى عملت هذه السياسة على الازدهار الثقافي والفكري، وهذا الانقلاب الإيجابي الذي أحدثته حكومة ابن جهور أثارت دهشة مؤرِّخ الأندلس ابن حيان، وهو أحد من عاشوا وشاهدوا ذلك التحوُّل بقوله: «فعَجِبَ ذو التحصيل للَّذي أَوَى إليه في صلاح أحوال الناس من القوَّة ولما تعتدل حال، أو يهلك عدوٌّ، أو تَقْوَ جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون»[4].

    وابن حيان نفسه في موضع آخر يذكر أن ابن جهور لم يكن لينسى نفسه أمام هذا الرخاء، الذي نعمت به قُرْطُبَة في ظلِّ حكومته، فيقول: «ولم يخلُ مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه[5] لمعيشته، حتى تضاعف ثراؤه، وصار لا تقع عينه على أغنى منه، حاطَ ذلك كلَّهُ بالبخل الشديد والمنع الخالص، اللذين لولاهما ما وَجَدَ عائِبُه فيه طعنًا، ولكَمُلَ لو أن بشرًا يكمُل»[6].

    السياسة الخارجية

    موقف الوزير جهور من دعوة ظهور هشام المؤيد في إشبيلية

    كان للوزير ابن جهور موقفًا خاصًّا من دعوة القاضي أبي القاسم بن عباد متملِّك إِشْبِيلِيَة بظهور الخليفة هشام المؤيد في إِشْبِيلِيَة سنة (426هـ=1235م) [7]؛ وذلك ليدحض دعوة يحيى بن علي الحمودي في الخلافة من ناحية، وليُكْسِبَ الشرعية السياسية لحُكم البلاد من ناحية أخرى، فبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام من أهل إِشْبِيلِيَة وأعيانها، بعث بالكُتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحدٌ سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بَلَنْسِيَة، والمُوَفَّق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وصاحب طُرْطُوشة[8].

    أما الوزير أبو الحزم بن جهور فإنه أرسل الرسل ليتبيَّن حقيقة الأمر، ولما ظهر له كذبها رفض هذا الادعاء؛ إلا أن أهل قُرْطُبَة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وكادت تقوم ثورة ضدَّ ابن جهور، فزوَّر الشهادة؛ فَصَحَّت عنده الشهادة به، فبايعه وخطب له؛ بيد أن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة، ومطامعهم في أملاكها على نحو ما أراد ابن عباد، غير أن ابن جهور تراجع عن طاعته، خاصة أن القاضي ابن عباد طلب منه أن يدخل في طاعته باسم الخليفة هشام، فرفض ابن جهور وأعلن تَبَرُّؤَه من دعوته[9].

    دعوة الوزير جهور للسلم وفض المنازعات بين الأمراء



    كانت سياسة الوزير أبي الحزم بن جهور سببًا مباشرًا في إقرار السلام والأمان والازدهار في قُرْطُبَة؛ وهذا ما جعلها موضع ثقة ملوك الطوائف الأخرى في بلاد الأندلس، وكانت الهيبة ورجاحة العقل صفتين تميَّزَ بهما الوزير ابن جهور، وهذا ما جعله موضع الوسيط العدل لفضِّ المنازعات والخصومات بين الأمراء المتنازعين، فحين كاد الصراع أن يحتدم بين المعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة والمظفر بن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس، حيث هاجم المعتضد بن عباد مدينة لَبْلَة الواقعة غربي إِشْبِيلِيَة، فاستغاث صاحبها ابن يحيى بالمظفر بن الأفطس لنجدته، فتحرَّك له، وأرسل جماعة من البربر لمهاجمة إِشْبِيلِيَة، وأرسل الوزير ابن جهور رسله ليُنْذرهم من رَحَى فتنةٍ تعصف ببلاد الأندلس، ويدعوهم إلى السلم وفضِّ النزاع، وهي السياسة نفسها التي اتبعها ابنه أبو الوليد محمد بن جهور بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس كذلك، على نحو ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.


    وكان لهذا النصح المتكرِّر من الوزير جهور وابنه أبي الوليد محمد أَثَرٌ في إنقاذ الأندلس من فتنة هوجاء عاصفة[10].

    وفاة الوزير ابن جهور

    وهكذا عاشت قُرْطُبَة في ظلِّ حكومة الجماعة آمنة من الفتنة، فضلاً عن ذلك الازدهار الاقتصادي والأمن السياسي، وظلَّ الوزير ابن جهور حاكمًا لقُرْطُبَة حتى وافته المنية في صفر، وقيل: المحرم سنة 435هـ. وقد أجمع أهل قُرْطُبَة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكمًا عليهم[11].

    ويجدر بنا هنا أن نذكر قصيدة لابن حيان يرثي بها أبا الحزم بن جهور، ويمدح فيها أبا الوليد بن جهور يقول: [الطويل]
    أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ ضَمَّهَا الْقَبْرُ

    وَأَنْ قَدْ كَفَانَا فَقْدَهَا الْقَمَرُ الْبَدْرُ
    وَأَنَّ الْحَيَا إِنْ كَانَ أَقْلَعَ صَوْبُهُ

    فَقَدْ فَاضَ لِلآمَالِ فِي إِثْرِهِ الْبَحْرُ
    إِسَاءَةُ دَهْرٍ أَحْسَنَ الْفِعْلَ بَعْدَهَا

    وَذَنْبُ زَمَانٍ جَاءَ يَتْبَعُهُ الْعُذْرُ
    فَلا يَتَهَنَّ الْكَاشِحُونَ فَمَا دَجَا

    لَنَا اللَّيْلُ إِلاَّ رَيْثَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ
    وَإِنْ يَكُ وَلَّى جَهْوَرٌ فَمُحَمَّدٌ

    خَلِيفَتُهُ الْعَدْلُ الرِّضَا وَابْنُهُ الْبَرُّ
    لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْعِلْقُ[12] أَتْلَفَهُ الرَّدَى

    فَبَانَ وَنِعْمَ الْعِلْقُ أَخْلَفَهُ الدَّهْرُ[13]



    [1] الحميدي: جذوة المقتبس 1/29، وابن بسام: الذخيرة 2/603، 604، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186، 187.
    [2] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، 29، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32.
    [3] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، 29، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/23.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 2/604، وابن عذاري: البيان المغرب 3/187.
    [5] التَّرْقِيح: إصلاح المعيشة، وترقيح المال إصلاحه والقيام عليه. الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الراء 1/366، وابن منظور: لسان العرب، مادة رقح 2/451.
    [6] ابن بسام: الذخيرة 2/603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/197-200، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153، 154.
    [8] ابن عذاري: البيان المغرب 3/190، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب 3/198، 199، 201.
    [10] ابن بسام: الذخيرة 3/33-36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/209-213.
    [11] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/33، ، وابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، تحقيق الدكتور شوقي ضيف 1/56، وابن عذاري: البيان المغرب 3/187، 232، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص148.
    [12] العِلْق: النفيس من كل شيءٍ، لتَعَلُّقِ القلب به. الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل العين 4/1530، وابن منظور: لسان العرب، مادة علق 10/261، والمعجم الوسيط 2/622.
    [13] ابن بسام: الذخيرة، 1/392.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو جهور في قرطبة

    خلافة هشام المعتد بالله

    لما غادر يحيى بن علي الحمودي قرطبة بعد أن ترك حامية بربرية فيها -وذلك في المحرم من عام 417هـ متجهًا إلى مَالَقَة- ثار أهل قُرْطُبَة على الحامية البربرية، وقتلوا ألفًا منهم، واجتمع أمرهم على ردِّ الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبا الحزم جهور بن محمد، الذي أرسل إلى أهل الثغور والمتغلِّبين هنالك على الأمور، وعرض عليهم الأمر فقبلوه، وأجمعوا على مبايعة هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر لدين الله، وكان مقيمًا في منفاه بالبُونت[1] عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم الفهري المتغلِّب بها، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418هـ، وتلَّقب بالمعتدِّ بالله، وبقي على ذلك خليفة يُخطب له في قُرْطُبَة وهو في منفاه.

    إلغاء الخلافة الأموية

    عزم المعتد بالله على القدوم إلى قُرْطُبَة عصبةِ المُلْكِ والخلافة، وذلك بعد سنتين من مبايعته، فقدمها في ذي الحجة 420هـ، ولبث فيها سنتين حتى أساء السيرة، وتعرَّض وزراؤه لظلم الرعية، فثار أهل قُرْطُبَة عليه، فخلعوه وخرج هو وأهله وخدمه في ذي الحجة 422هـ، واجتمع أهل قُرْطُبَة وأجمعوا أمرهم على إلغاء الخلافة الأموية، والتخلُّصِ نهائيًّا من بني أمية وإجلائهم خارج قُرْطُبَة، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبا الحزم جهور بن محمد، وغدت قُرْطُبَة بلا خلافة ترفعها ولا خليفة يجمعها.. وانتهى عهد الخلافة الأموية في بلاد الأندلس إلى الأبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    وبذلك انفرط عِقد الأندلس منذ تلك اللحظة؛ فالخلافة وإن كانت ضعيفة إلا أنها رمز لجمع الكلمة وتوحيد الصفِّ، إذا وَجَدَتْ مَنْ يحمل رسالتها الخالصة وأَخَذَهَا بِحَقِّها، ولكن تلك سُنَّة الله في بناء الدول وانحدارها، وما أشبه الليلة بالبارحة! فمنذ أن أُلغيت الخلافة العثمانية وحال المسلمين كما نرى: رقاع متناثرة، ودول متناحرة، لا يجمعهم إلا القومية والعصبية الجاهلية.

    بدأت أنظار القرطبيين تتجه صوب الوزير الحازم المعروف برأيه وحسن تدبيره وصلاح سيرته؛ ليتولى أمور قُرْطُبَة بعد طرد الأمويين والحموديين من قُرْطُبَة، وهكذا اختير الوزير أبي الحزم بن جهور رئيس الجماعة وكبير قُرْطُبَة، اختيارًا شرعيًّا شوريًّا؛ للاضطلاع بتلك المهمة الخطيرة، وذلك في منتصف ذي الحجة عام 422هـ، ولبيان حال خلافة هشام المعتدِّ وعزله يقول ابن عذاري: افْتُتِحَتْ بيعته بإجماع وخُتِمَتْ بفُرْقَة، وعُقدت برضًا وحُلَّتْ بكراهية[2].
    ومن هذا التاريخ بدأت دولة بني جهور بقُرْطُبَة.

    بنو جهور



    ينتمي أبو الحزم بن جهور إلى بيت عريق من بيوت الشرف والوزارة في بلاد الأندلس منذ أن دخلها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية -الملقب بصقر قريش-، وظَلَّت في عقبهم إلى أن آلت إليه وفي ولده من بعده، فهو أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي.


    كان جدُّه يوسف بن بخت بن أبي عبدة من الفرس وهو مولى عبد الملك بن مروان، وكان قد دخل الأندلس مع طالعة بلج بن بشر، وكان من كبار موالي بني أمية في قُرْطُبَة قبل دخول عبد الرحمن بن معاوية إليها، ولما دخلها كان من أنصاره، وولي وزارته وحجابته، وكان ذا دين وفضل وخير، كما تولَّى القيادة والحجابة في عهد هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل ، ومن بعده للحكم الربضي[3]، وظلَّت الوزارة في عقب يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي، فوليها حفيده عبد الملك بن جهور للأمير عبد الله بن محمد وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر[4]، وتولَّى ولده جهور بن عبد الملك الوزارة في عهد الناصر أيضًا[5]، كما وَلِيَ أبو الوليد محمد بن جهور بن عبد الملك الخزانة لعبد الرحمن الناصر[6]، وولي الوزارة في عهد المنصور بن أبي عامر، ثم تولَّى أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور الكتابة لعبد الرحمن المنصور المعروف بشنجول، وهو آخر مَنْ تَوَلَّى الدولة العامرية.

    الوزير أبو الحزم بن جهور

    عاش أبو الحزم جهور الفتنة، وراقب الأحداث والتقلُّبَات التي عانتها الخلافة في قُرْطُبَة، حتى آلت لعلي بن حمود الذي استوزره، ثم شهد ما حدث بين يحيى بن علي الحمودي وعمه القاسم بن حمود وتبادُل الخلافة بينهما، ثم خروج علي بن حمود من قُرْطُبَة إلى مَالَقَة على نحو ما ذكرنا، وكان هو زعيم الثورة القرطبية على بني حمود، ثم استقدامه هشام المعتدِّ، ثم ثورة أهل قُرْطُبَة التي تزعَّمَها على هشام المعتد وطرده هو وبني أمية والمروانية كلهم من قُرْطُبَة، وبقيت قُرْطُبَة بلا حاكم أو خليفة، وهنا اتجهت أنظار أهل الرأي والمشورة في قُرْطُبَة إلى صاحب الزعامة الشعبية وحُسن التدابير في الوزارة والحكم، وكان هو أبو الحزم جهور بن محمد؛ فهو كبير الجماعة ورئيس مجلس الشورى وزعيم قُرْطُبَة، فأصبح هو رئيس الحكومة القرطبية بإجماع أهلها ورؤسائها وأهل الرأي فيها.

    وللوزير الكاتب الفتح بن خاقان وصف عجيب، وبيانٌ جليل لقدر هذه العائلة ومنزلة أبي الحزم منهم في مقال فريد نذكره لحسن سجعه وجمال تعبيره، يقول فيه: «وبنو جَهْوَر أهل بيت وزارة، اشتهروا كاشتهار ابن هُبَيْرة في فَزَارة، وأبو الحَزْم أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمَّات، ركب مُتُون الفتون فَرَاضها، ووقع في بحور المِحَن فَخَاضها، مُنْبَسِطٌ غيرُ مُنْكمش، لا طائش اللِّسانِ ولا رَعِش، وقد كان وزر في الدولة العامرية فَشَرُفَتْ بجلاله، واعترفتْ باستقلاله، فلمَّا انقرضت وعاقت الفتنُ واعترضت، تخلَّى عن التدبير مُدَّتها، وخلَّى لخلافه تدبير الخلافة وشدَّتها، وجعل يُقْبِل مع أولئك الوزراء ويُدْبِر، وينهلُ الأمر معهم ويُدَبِّر، غير مُظْهر للانفراد، ولا مقصِّر في ميدان ذلك الطِّرَاد، إلى أن بلغت الفتنة مداها، وسوَّغت ما شاءت رَدَاها، وذهب مَنْ كان يَخِدُ[7] في الرئاسة ويخبُّ[8]، ويسعى في الفتنة ويَدِبُّ، ولمَّا ارتفع ذلك الوبال، وأدبر ذلك الإقبال، راسَلَ أهلَ التقوى مستمدًّا بهم، ومعتمدًا على بعضهم؛ تحيُّلاً منه وتمويهًا، وتَدَاهِيًا على أهل الخلافة وذَويها، وعَرَضَ عليهم تقديم المعتدّ هشام، وأومض منه لأهل قُرْطُبَة برق خُلَّبٍ[9] يُشَام[10]، بعد سرعة التياثها[11]، وتعجيل انتكاثها، فأنابوا إلى الإجابة، وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحِجَابة، وتوجَّهوا مع ذلك الإمام، وألمُّوا بقُرْطُبَة أحسنَ إلمام، فدخلوها بعد فتن كثيرة، واضطرابات مستثيرة، والبلد مُقْفِر، والجلد مُسْفِر، فلم يبقَ غيرُ يسير حتى جبذ واضطرب أمره فخُلِعَ، واخْتُطِفَ من المُلْكِ وانْتُزِعَ، وانقضت الدولة الأموية، وارتفعت الدولة العَلوية، واستولى على قُرْطُبَة عند ذلك أبو الحزم، ودبَّرها بالجِدِّ والعزم، وضبطها ضبطًا أَمَّنَ خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له الجوُّ فطار، واقتضى اللُّبَانَات[12] والأوطار[13]، فعادت له قُرْطُبَة إلى أكمل حالاتها، وانجلى به نوء استجلالاتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الأمل فيها مورقة إلى أن تُوُفِّيَ سنة 435هـ»[14].

    ومن هنا وبعد أن انفرد أبو الحزم بن جهور بالحُكم بلا منازع ينازعه، ولا خليفة ينادي بالحكم دونه، ماذا عن سياسته في إدارة الأمور وتسيير البلاد؟

    حكومة أبي الحزم بن جهور

    تقف حكومة قُرْطُبَة في ذلك الوقت موقف الفريد والنادر بين ممالك الأندلس، التي تشعَّبت بها الطرق بعد إلغاء الخلافة الأموية؛ فالسياسة التي اتَّبعها أبو الحزم بن جهور بعد اختياره حاكمًا لقُرْطُبَة تنمُّ على بُعْدِ سياسته ودهائه؛ فهي حكومة من نوع خاصٍّ، فأبو الحزم بن جهور يحكم دولة على أنقاض الخلافة الأموية، تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس، تمتدُّ شمالاً حتى جبل الشارات (سييرا مورينا)، وشرقًا حتى منابع نهر الوادي الكبير، وغربًا حتى قرب إِسْتِجَة، وجنوبًا حتى حدود ولاية غَرْنَاطَة، وتشمل من المدن عدا قُرْطُبَة جَيَّان وأُبَّذَة وبَيَّاسَة والمدور وأَرْجُونَة وأندوجر[15].

    وهو رجل خبر السياسة والدهاء بحُكم اشتغاله بالوزارة والكتابة وملازمة الخلفاء والمتسلِّطين على الخلافة، فعَرَّفته التجارِب أن التسلُّط والاستبداد طريق الزوال القريب، فابتكر نظامًا سياسيًّا شوريًّا، أقرب إلى النظام الديمقراطي في وقتنا الحاضر، فلم ينفرد بالسياسة ولا بتدبير الأمور، بل شكَّل مجلسًا شوريًّا وزاريًّا من الوزراء وأهل الرأي والمشورة والقيادة بقُرْطُبَة، وجعلهم أهل رأيه، لا يصدر عن رأي إلا بهم، ولا بسياسة إلا بتدبيرهم، وسمَّى نفسه (أمين الجماعة)، وكان إذا سُئِلَ قال: «ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا أمينهم». وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيُسرعون إليه، فإذا علموا مراده فَوَّضُوا إليه بأمرهم؛ وإذا خُوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء، كما أنه اتبع سياسة أخرى كانت أشدَّ ذكاء ودهاء؛ فهو لم يُفارق رسم الوزارة، ولم ينتقل من دور الوزارة إلى قصور الخلفاء والأمراء، بل دَبَّرَها تدبيرًا لم يُسبق إليه، وجعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء مستحقٌّ يُتَّفق عليه، فيُسَلِّم إليه، ورتَّب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الخلافة، ولم يتحوَّل عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رَتَّبهم لذلك، وهو المشرف عليهم[16].

    إضافة إلى هذا الدهاء السياسي الذي اتبعه أبو الحزم بن جهور فقد كان من أشدِّ الناس تواضعًا وعفَّة وصلاحًا، وأنقاهم ثوبًا، وأشبههم ظاهرًا بباطن، وأولاً بآخرَ، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يُعْثَر له قطُّ على حال يدلُّ على ريبة؛ جليسُ كتابٍ منذ درج، ونَجِيُّ نظرٍ منذ فهم، مشاهدًا للجماعة في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلَّفُوا عنه، حافظًا لكتاب الله قائمًا به في سرِّه وجهره، متقنًا للتلاوة، متواضعًا في رفعته، مشاركًا لأهل بلده، يزور مرضاهم ويُشاهد جنائزهم[17].

    حكومة الجماعة

    إن نظام الحُكم الذي اتَّبعه الوزير ابن جهور يدلُّ على بُعد نظره وحُسن سياسته وتدبيره، وقد عُرِفَتْ هذه الحكومة التي كوَّنها ابن جهور بحكومة الجماعة والشورى، والباعث الحقيقي لدى الوزير ابن جهور لتكوين ذلك النظام من الحُكم ربما يكون خفيًّا، فيمكن أن يكون الأمر ضربًا من الذكاء والدهاء السياسي، يجمع به كلمة الشعب حوله وأصحابَ الرأي فيه، يَتَّقي بهم منافسيه، ويكونون له عونًا يستند إليهم عند الحاجة، ويمكن أن نُرجعه إلى حُبِّه للشورى وإقامة العدل وجمع كلمة المسلمين، وخاصَّة بعد أن انفرط عقد الخلافة وبالتالي انفرط عقد الأندلس كلها.

    وعلى كلٍّ فإنها كانت بلا ريب نموذجًا بديعًا من حُكم الشورى، أو حكم الأقلية الأرستقراطية في عصر سادت فيه نزعة الرئاسة الفردية والحُكم المطلق، وكان من أبرز مزاياها أن يستطيع الرئيس أن يتنصَّل من المسئولية، وأن يستظلَّ بلواء الجماعة إذا ما ساءت الأحوال، وأن يُحْرِزَ الثناءَ وجميل الذِّكْر إذا حسنت العواقب[18].


    [1] حصن من حصون بلنسية.
    [2] انظر تفاصيل ذلك في ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، 2/203، والحميدي: جذوة المقتبس، 1/27، وابن بسام: الذخيرة، 2/602، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/30، 31، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/145-152، 185، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص138، 139، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/20، 21.
    [3] انظر: الحميدي: جذوة المقتبس، 5/188، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/30، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/185، 186، والمقري: نفح الطيب، 3/45.
    [4] الحميدي: جذوة المقتبس، 7/282، والمقري: نفح الطيب، 1/356.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/159.
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/197.
    [7] وَخَد يَخِد: أسرع ووسَّع الخَطْو. ابن منظور: لسان العرب، مادة وخد، 3/453، والزبيدي: تاج العروس، 9/277، والمعجم الوسيط، 2/1019.
    [8] الخَبَب: ضرب من العدو، أي الإسراع في المشي. ابن منظور: لسان العرب، مادة خبب، 1/341، والزبيدي: تاج العروس، 2/328.
    [9] البَرْقُ الخُلَّب: السحاب الذي يبرق ويرعد ولا مطر معه، ولا غيث فيه، كأنه خادع يومض حتى تطمع بمطره ثم يُخْلِفُك، ويقال لمن يَعِدُ ولا يُنْجز وعْدَه: إنما أنت كَبَرْق خُلَّب. الجوهري: الصحاح، باب الباء فصل الخاء 1/122، وابن منظور:
    [10] شامَ السحاب والبرق شَيْمًا: نظر إليه أين يقصد وأين يُمْطر، وقيل: هو النظر إليهما من بعيد. الجوهري: الصحاح، باب الميم فصل الشين، 5/1963، وابن منظور: لسان العرب، مادة شيم، 12/329، والمعجم الوسيط، 1/504.
    [11] الالتياث: الاختلاط والالتفاف والالتباس وصعوبة الأمر وشدته. الجوهري: الصحاح، باب الثاء فصل اللام، 1/291، وابن منظور: لسان العرب، مادة لوث، 2/185، والزبيدي: تاج العروس، باب الثاء المثلثة، فصل اللام، 5/345، 346.
    [12] اللُّبانات: الحاجات من غير فاقة، ولكن من هِمَّةٍ، فهو أخصُّ وأعلى من مطلق الحاجة، يقال: قضى فلان لبانته. ابن منظور: لسان العرب، مادة لبن، 13/372، والزبيدي: تاج العروس، باب النون فصل اللام، 36/92، والمعجم الوسيط، 2/814.
    [13] الأوطار جمع الوطر: وهو الحاجة لك فيها هَمٌّ وعِنايةٌ، فإذا بلغتها فقد قضيت وطرك وأربك. الزبيدي: تاج العروس، باب الراء فصل الواو، 14/364.
    [14] الفتح بن خاقان الإشبيلي: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، 1/34-36.
    [15] عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/21، 22.
    [16] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، وابن بسام: الذخيرة 2/602، 603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/30، 31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/22، 23، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص433.
    [17] ابن حزم: رسائل ابن حزم 2/204، والحميدي: جذوة المقتبس 1/29، وابن بسام: الذخيرة 2/603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186.
    [18] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/22.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ملوك الطوائف في الأندلس



    هذه فترة من أصعب فترات التاريخ الأندلسي قاطبة، وأكثرها تعقيدًا وتشابكًا، فعلى الرغم من قِصَر مدتها -التي لا تتجاوز القرن الواحد- إلا أنها تتسم بالأحداث المتعاقبة والأطماع المتزايدة، والفُرْقَة والتنازع الشديدين؛ فغدت الأندلس كحبَّات العِقد المتناثرة، التي لا يجمعها رابط عرق ولا دين، وكانت هذه الأحداث جديرة بأن تجعل القرن الخامس الهجري من القرون المظلمة في تاريخ الأندلس كله، فمنذ إعلان إلغاء الخلافة الأموية في الأندلس بدأت الأندلس بالفعل تُقسَّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة، ليبدأ ما يُسَمَّى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف.


    كيف تكونت ملوك الطوائف؟

    استحالت الأندلس بعد أن كانت كتلة موحدة إلى أشلاء ممزقة ورقاع متناثرة، ودولايات ومدن متباعدة متخاصمة، يُسيطر على كل منها حاكم سابق استطاع أن يحافظ على سلطته المحلية خلال الانهيار، أو متغلِّبٌ من الفتيان الصقالبة أو القادة ذوي السلطان السابق، أو زعيم أسرة محلي من ذوي الجاه والعصبية، وسيطر البربر من جانبهم على أراضي المثلث الإسباني الجنوبي، وما كان منه بيد الدولة الحمودية، وأنشئوا هنالك إمارات عدَّة، ما لبثت أن نزلت إلى ميدان الصراع العام، الذي شمل هذه المنطقة، وهكذا قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى دول عديدة هي دول الطوائف، وذلك منذ أوائل الربع الأول من القرن الخامس حتى الفتح المرابطي، زهاء سبعين عامًا، قضتها جميعًا في سلسلة لا نهاية لها من المنازعات الصغيرة، والخصومات والحروب الأهلية، وكادت بتنابُذها وتفرُّقها ومنافساتها تمهِّد لسقوط الأندلس النهائي[1].

    وقد ذكرنا -سابقًا- أن مساحة الأندلس تقسمت إلى اثنتين وعشرين دولة؛ فتفتَّت المسلمون في الأندلس تفتُّتًا لم يُعهد من قبل في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرًا مهمًّا جدًّا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشدِّ ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    الطوائف .. تقسيم بلاد الأندلس



    في ذلك العصر قُسِّمَتْ فيه بلاد الأندلس إلى سبع مناطق رئيسة؛ هي كما يلي:

    أولاً: بنو عَبَّاد: وهم ينتمون إلى العرب من بني لخم، وقد أخذوا منطقة إِشْبِيلِيَة.
    ثانيًا: بنو زيري:وهم من البربر، وقد أخذوا منطقة غَرْنَاطَة، وكانت إِشْبِيلِيَة وغَرْنَاطَة في جنوب الأندلس.
    ثالثًا: بنو جهور: وهم الذين كان منهم أبو الحزم بن جهور زعيم مجلس الشورى، وقد أخذوا منطقة قُرْطُبَة وسط الأندلس.
    رابعًا: بنو الأفطس:وهم من البربر، استوطنوا غرب الأندلس، وأسسوا هناك إمارة بَطَلْيُوس[2] الواقعة في الثغر الأدنى.
    خامسًا: بنو ذي النون: وهم من البربر، استوطنوا المنطقة الشمالية، التي فيها طُلَيْطِلَة وما فوقها (الثغر الأوسط).
    سادسًا: بنو عامر: وهم أولاد بني عامر، الذين هم عرب معافريون من العرب اليمانية، استوطنوا شرق الأندلس، وكانت عاصمتهم بَلَنْسِيَة.
    سابعًا: بنو هود: وهؤلاء أخذوا منطقة سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)، تلك التي تقع في الشمال الشرقي.

    وهكذا قُسِّمَتْ بلاد الأندلس إلى سبعة أقسام شبه متساوية، كل قسم يضمُّ إما عنصرًا من العناصر، أو قبيلة من البربر، أو قبيلة من العرب، بل إنَّ كل قسم أو منطقة من هذه المناطق كانت مُقَسَّمة إلى تقسيمات أخرى داخلية، حتى وصل عدد الدويلات الإسلامية داخل أراضي الأندلس عامة إلى اثنتين وعشرين دويلة، وذلك رغم وجود ما يقرب من خمس وعشرين بالمائة من مساحة الأندلس في المناطق الشمالية في أيدي النصارى.
    وفيما يلي من المقالات ذكر لحال أشهر تلك الدويلات.


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/676، 677.
    [2] بطليوس: مدينة كبيرة بالأندلس من أعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة. ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/447.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    قرطبة كما وصفها العلماء والأدباء


    قرطبة في عيون العلماء والأدباء

    ابن حوقل



    وقد طَرَقَ قرطبة في حدود سنة (350هـ= 961م) ابن حوقل، التاجر الموصلي، فقال يَصِفُها: «وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة، وليس لها في المغرب شبيهٌ في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها. وهي حصينة بسور من حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة، والرصافة مساكن أعالي البلد مُتَّصِلَة بأسافله من رُبُضِهَا[1]، وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربها وجنوبها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، ومساكن العامَّة برُبُضِها، وأهلها متموِّلون[2] مُتَخَصِّصُون»[3].


    الإدريسي

    يقول الإدريسي عن تميُّز سكان قرطبة بأنهم أشراف الناس وعلماؤهم، وأرفعهم مكانةً!: «ولم تخلُ قرطبة قَطُّ من أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتُجَّارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة، ولهم مراكب سَنِيَّة وهممٌ عَلِيَّة»[4].


    الحميري

    ويقول الحِميري: «قرطبة: قاعدة الأندلس، وأُمُّ مدائنها، ومستقرُّ خلافة الأمويين بها، وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تُذْكَر، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، اشتهروا بصحَّة المَذْهَبِ، وطيب المكسب، وحُسن الزيِّ، وعلوِّ الهمَّة، وجميل الأخلاق، وكان فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء»[5].

    ياقوت الحموي

    ويصفها ياقوت الحموي -أيضًا- فيقول: «مدينة عظيمة بالأندلس وَسَط بلادها، وكانت سريرًا لمَلِكِهَا وقصبتها[6]، وبها كانت ملوك بني أمية، ومَعْدِن الفضلاءِ، ومنبع النبلاءِ من ذلك الصُّقْع[7]»[8].

    ابن بسام

    ويحكي أبو الحسن بن بسَّام عنها قوله: «كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأُمَّ القرى، وقرارة أهل الفضل والتُّقَى، ووطن أُولِي العلم والنُّهى، وقلب الإقليم، وينبوعَ مُتَفَجّر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر دُرَرِ القرائح؛ ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة، وصُنِّفَتِ التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك -وتبريز القوم قديمًا وحديثًا هنالك على مَنْ سواهم- أن أُفُقَهُم القرطبيّ لم يشتمل قطُّ إلاَّ على أهل البحث والطلب لأنواع العلم والأدب. وبالجملة فأكثر أهل بلاد هذا الأفق -يعني قرطبة خاصةً والأندلس عامَّة- أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر»[9].

    ابن الوردي

    ويَصِفُها وأَهْلَهَا ابن الوردي في خريدة العجائب فيقول: «وأهلها أعيان البلاد، وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب وعلو الهمَّة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وأجِلاَّء الغزاة وأمجاد الحروب». ثم قال بعد أن وصف مسجدها وقنطرتها: «ومحاسن هذه المدينَة أعظم من أن يحيط بها وصف»[10].

    كانت هذه هي إحدى مُدُن الحضارة الإسلاميَّة التي ساهمت في تَقَدُّم مسيرة الإنسانية، ودفع عجلتها إلى الأمام. والحقيقة أن قرطبة ليست الوحيدة في ذلك، ولو كان حديثنا عن بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، أو البصرة، أو غيرها وغيرها، لكان على الدرجة نفسها من العجب أو أشدَّ، ولا غَرْوَ! فهذه حضارة المسلمين، أعظم حضارات الدنيا، ودُرَّة الجبين في تاريخ الإنسانية الطويل.


    [1] الرُّبُض: جماعة الشجر الملتفّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ربض، 7/149.
    [2] تَمَوَّلَ الرجل: صار ذا مالٍ. انظر: الرازي: مختار الصحاح، مادة مول، ص642.
    [3] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
    [4] الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، 2/575.
    [5] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، ص456.
    [6] قَصَبةُ البَلد: مَدينَتُه، ووسطه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قصب، 1/674، والزبيدي: تاج العروس، 4/43.
    [7] الصُّقْع: ناحية الأرض. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة صقع، 8/201.
    [8] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
    [9] أبو الحسن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، 1/33.
    [10] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب، ص12.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط الدولة الأموية في الأندلس


    سليمان المستعين وتدمير قرطبة



    كان سليمان بن الحكم (المستعين بالله) لم يُقتل بعدُ وما زال في البلاد يُدَبِّر المكائد؛ يُريد أن يعود إلى الحُكم من جديد، ولم يجد أمامه إلاَّ أن يعود مرَّة أخرى إلى ملك قشتالة (المرَّة الأولى كان قد ساعده على هزيمة المهدي والوصول إلى الحُكم)؛ ليعرض عليه من جديد أن يكون معه ضدَّ الفتى واضح وهشام بن الحكم (هشام المؤيد )حتى يصل إلى الحُكم.


    ويبدو أن مكيدة سليمان المستعين هذه وصلت إلى بلاط قرطبة، ولا نستبعد أن يكون الذي أوصلها هو ملك قشتالة نفسه، فما كان من هشام المؤيد وواضح العامري إلاَّ أن نزلوا لملك قشتالة عن مائتي حصن من الحصون الشمالية، التي كان قد افتتحها الحَكم والمنصور بن أبي عامر والمظفر بن المنصور، فتوسَّعت قشتالة كثيرًا حتى أصبحت حدودها أكبر من حدود مملكة ليون، بالرغم من أنها كانت جزءًا صغيرًا منفصلاً عن مملكة ليون، وعظمت بذلك البلاد النصرانية في الشمال[1].

    وإنها لكارثة كبيرة قد حَلَّت بديار الإسلام؛ فقد حدثت كل هذه الأحداث من القتل والمكائد والصراعات والاستعانة بالنصارى ثم دخولهم بلاد المسلمين، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط.

    وفي سنة (403هـ= 1012م) -عندما كان هشام بن الحكم على الحُكم- قام سليمان بن الحكم ومن معه من البربر بعملٍ لم يحدث في تاريخ المسلمين من قبل وحتى هذه اللحظة؛ فقد هجموا على قُرْطُبَة وعاثوا فيها فسادًا وقتلاً واغتصابًا للنساء، ثم من جديد يتولَّى سليمان بن الحكم (المستعين بالله) الحكم في بلاد الأندلس، وفَرَّ هشام بن الحكم أو قُتل، فلم يُعرف مصيره على وجه اليقين، وكان مقرُّ الحُكم آنذاك هو قُرْطُبَة، لكن البلاد كانت مفكَّكة تمامًا، وقد فرَّ العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها[2].

    خلافة علي بن حمود

    من سنة (403هـ= 1012م) ظلَّ سليمان بن الحكم –المستعين بالله- يتولَّى الحُكم، وكان غالبية جيشه من البربر، وبعد عام واحد من تولِّيه يثور حاكم مدينة سبتة المغربية، ويدَّعى علي بن حمود -وقد كان من البربر- أنه وصلت إليه رسالة على لسان هشام بن الحكم المؤيد بالله (الخليفة المخلوع مرتين) تُوصي إليه بالخلافة من بعده[3]، وبعض الروايات تقول بأن البربر -الذين هم عماد جيش سليمان المستعين بالله- أرادوا الانقلاب عليه وألَّفوا هذه الرسالة على لسان هشام المؤيد، وبعثوا بها إلى علي بن حمود، فثار علي بن حمود في سبتة، واتصل ببعض مَنْ يُناصره في الأندلس، ثم عبر إليها، وفي سنة (407هـ= 1016م) وقعت المعركة بين علي بن حمود، وبين سليمان المستعين بالله، فانتصر علي بن حمود، وتولى الحكم في قُرْطُبَة وقَتَل سليمان وأخاه وأباهما الحكم؛ كي يضمن ألاَّ يثور عليه أحد، ثم تولَّى الحُكم في بلاد وتَسَمَّى بالناصر بالله[4].

    الدولة الحمودية في قرطبة

    استقرَّ الأمر للناصر بالله علي بن حمود، فبدأ بذلك عهد الدولة الحمودية في قُرْطُبَة، وقام بتعيين أخيه القاسم بن حمود على إِشْبِيلِية في سنة (407هـ= 1016م)، وأصبح البربر هم الخلفاء الذين يتملَّكُون الأمور في قُرْطُبَة وما حولها.

    خلافة المرتضي بالله الأموي

    لم يرضَ العامريون الذين فرُّوا إلى شرق الأندلس بهذا الوضع، فما كان منهم إلاَّ أن بحثوا عن أموي آخر وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر، ثم بايعوه على الخلافة، وقد تلقَّب بالمرتضي بالله[5].

    سار العامريون ومعهم المرتضي بالله إلى غَرْنَاطة كمقدمة للتوجُّه إلى قُرْطُبَة، ولكن –وكما هي العادة في زمن الفتنة- وقع أمر عجيب، فقد فوجئ خيران العامري بقوة شخصية المرتضي، وأيقن أنه لن يكون أبدًا صورة خليفة كما كان هشام المؤيد بالله، فكان أن انقلب عليه سرًّا فتحالف مع الحموديين، فلما نشبت المعركة بين المرتضي ومعه خيران العامري وبين زاوي بن زيري –والي غَرْنَاطة البربري- انهزم خيران، فانهزم جيش المرتضي، ثم أدركه بعض فتيان خيران فقتلوه.

    خلافة القاسم بن حمود

    كان من العجيب -أيضًا- ما حدث قبل ذلك بقليل؛ إذ تآمر ثلاثة فتيان من الصقالبة موالي بني أمية بالخليفة الجديد علي بن حمود فقتلوه في الحمام، وعلى الفور راسل البربر المتغلبون على قُرْطُبَة أخا عليٍّ المقتول القاسم بن حمود، الذي كان حاكمًا لإِشْبِيلِيَة من قِبَل أخيه الذي قُتل.

    خليفتان في الأندلس

    لكن ما لبث الحال أن تطور -أيضًا- فلقد ثار على القاسم ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود في سَبْتَة، ورأى أنه الخليفة الطبيعي بعد وفاة أبيه، واجتمع حوله نفر من البربر، وسار في جموعه إلى قُرْطُبَة، فانسحب أمامه عمه القاسم واتجه إلى إشبيلية، ثم كان من أعجب العجب أن تصالح كل منهما مع الآخر، فرضي كل منهما أن يكون الآخر خليفة، وفي ذلك يقول ابن حزم: «وهذا أمرٌ لم يُسمع في الدنيا بأشنع منه، ولا بأدلَّ على إدبار الأمور: يحيى بقُرْطُبَة والقاسم بإشبيلية»[6].

    غير أن الأمور لم تهدأ؛ فكلما نُصِّب حاكم في قُرْطُبَة ثار عليه القرطبيون إن كان من البربر، أو لم يستطع ضبط الأمور إن كان أمويًّا، لقد انتهى عهد الرجال الأقوياء من بني أمية، ولم يبقَ إلاَّ ضعيف الرأي والعزم، وقامت بعد ذلك صراعات كثيرة، واستمرَّ الوضع على هذا الحال حتى سنة (422هـ= 1031م).

    سقوط الخلافة الأموية وتولِّي أبو الحزم بن جهور



    في محاولة لحلِّ هذه الأزمة التي تمرُّ بها البلاد، وفي محاولة لوقف هذه الموجة من الصراعات العارمة، اجتمع العلماء وعلية القوم من أهل قُرْطُبَة، وذلك في سنة (422هـ= 1031م)، ووجدوا أنه لم يَعُدْ هناك من بني أمية مَنْ يَصْلُح لإدارة الأمور؛ وكان زعيم هذا الأمر قاضي قُرْطُبَة البارز وصاحب التاريخ والخصال أبا الحزم بن جهور، فلقد كان أبو الحزم هذا من علماء القوم، كما كان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل، وظلَّ الحال على هذا الوضع ما يقرب من ثلاث سنوات.


    كوَّن ابن جهور مجلسًا للشورى لإدارة البلاد، لكن حقيقة الأمر أن أبا الحزم بن جهور لم يكن يُسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قُرْطُبَة فقط من بلاد الأندلس، أمَّا بقية البلاد والأقاليم الأخرى فقد ضاعت السيطرة عليها تمامًا، وبدأت الأندلس بالفعل تُقَسَّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة؛ ليبدأ ما يُسَمَّى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف[7].

    وقد ذكرنا -سابقًا- أن مساحة الأندلس كانت ستمائة ألف كم، فإذا طرحنا منها ما أخذه النصارى في الشمال؛ فإن النتيجة هي أربعمائة وخمسون ألف كم (أقل من نصف مساحة مصر) مقسمة إلى اثنتين وعشرين دولة؛ كلٌّ منها لها مقومات الدولة المتكاملة من رئيس وجيش ووزارات وعملة وسفراء، فتفتَّتَ المسلمون في الأندلس تفتُّتًا لم يُعهد من قبلٍ في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرًا مهمًّا جدًّا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشدِّ ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!


    ([1]) ابن عذاري: البيان المغرب 4/151، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص117، والمقري: نفح الطيب، 1/428.
    ([2]) انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/112، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص118، وتاريخ ابن خلدون، 4/151، والمقري: نفح الطيب، 1/429.
    ([3]) ابن عذاري: البيان المغرب، 3/116.
    ([4]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص121.
    ([5]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص130.
    ([6]) ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/92.
    ([7]) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/195.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    قرطبة .. العلم والعمران

    قرطبة مدينة العلم



    للحال التي رأينا، وللحياة التي شاهدنا لا غَرْوَ أن تُصْبِحَ قرطبة (منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وكأنها مدينة عصرية، تُضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة! وكيف العجب وقد انتشرت المدارس لتعليم الناس، وانتشرت المكتبات الخاصَّة والعامَّة، حتى صارت هي أكثر بلاد الله كُتبًا‍‍، وحتى غَدَتْ مركزًا ثقافيًّا ومجمعًا علميًّا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وقد كان الفقراء يَتَعَلَّمُون في مدارس بالمجَّان على نفقة الحُكَّام أنفسهم؛ ولذا فليس عجيبًا أن نعلم أن جميع أفراد الشعب كان قد عرف القراءة والكتابة، ولم يُوجَدْ في قرطبة شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة[1]، في حين لم يَكُنْ يعرفها أرفع الناس في أوربا، باستثناء بعض رجال الدين!


    وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، واكبها -أيضًا- نهضة إدارية؛ وذلك من خلال عدد من المؤسسات والنُّظُمِ الرائدة في الحكم؛ منها: الإمارة والوزارة، وقد تطوَّرَتْ أنظمة القضاء والشرطة والحِسْبة، وغيرها، وواكبتها -أيضًا- نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطوَّرت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات مثل: صناعة الجلود، وصناعة السفن، وآلات الحرث، والأدوية.. وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس![2]

    أمَّا إذا نظرنا إلى الحياة المدنية والعصرية فيها، فنراها مُقَسَّمَة إلى خمس مدن، وكأنها خمسة أحياء كبرى، يقول المقري: «وبين المدينَة والمدينَة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلَّة بنفسها، وفي كل منها من الحمامات، والأسواق، والصناعات... ما يكفي أهلها»[3].

    كما تميزت قرطبة -كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان- بأسواقها الممتلئة بكافَّة السلع، وكان لكل مدينة سوقٌ خاصٌّ بها[4].

    ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة:
    المساجد: انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.
    البيوت الشعبية: 213077 بيتًا.
    بيوت النخبة: 60300 بيت.
    الحوانيت (المتاجر وما شابه): 80455 حانوتًا.
    الحمامات العامة: 900 حمام.
    الأرباض (الضواحي): 28 ضاحية[5].

    وهذه الأرقام كانت تزيد وتنقص باختلاف الأحوال السياسيَّة، وباختلاف روايات المؤرخين، غير أنها اختلافات على «مدى» الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحقُّقِهَا.

    وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زُهاء خمسمائة ألف نسمة![6] والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليًا يبلغ 310,000 نسمة تقريبًا![7].


    [1] محمد ماهر حمادة: المكتبات في الإسلام، ص99.
    [2] القلقشندي: صبح الأعشى، 5/218.
    [3] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 1/558.
    [4] ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
    [5] المقري: نفح الطيب، 1/540 وما بعدها.
    [6] محمد عبد الله عنان: الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال، ص19.
    [7] موقع ويكيبيديا: http://ar.wikipedia.org.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    قرطبة .. الحضارة والرقي

    في السطور التالية نَتَعَرَّفُ على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميَّزَتْ بها الأندلس عامَّة، ومدينة قرطبة خاصَّة؛ لنقف على الإسهامات الإسلامية في مسيرة الإنسانية.

    قنطرة قرطبة



    كان من المعالم المهمَّة في قرطبة (قنطرة قرطبة)، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عُرفت باسم: (الجسر)، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا!


    وقد شهد لها ابن الوردي والإدريسي بأنها «القنطرة التي عَلَتِ القناطرَ فَخْرًا في بنائها وإتقانها»[1].

    كان عدد أقواسها سبع عشرة قوسًا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترًا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترًا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترًا[2].

    إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بُنِيَت في بداية القرن الثاني الهجري (101هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، على يد السمح بن مالك الخولاني الذي كان والي الأندلس من قِبَل عمر بن عبد العزيز، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلاَّ الخيل والبغال والحمير، ولم تكن وسائل وأساليب البناء على المستوى المتطور حينئذٍ؛ مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية.

    جامع قرطبة

    يُعتبر جامع قرطبة (الجامع الكبير) من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهو يُسمى بالإسبانية (Mezquita) (وتنطق: ميتكيتا)، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا! وقد بدأ بناءَه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ= 786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل خليفة جديد يُضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه؛ ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده.



    وفي وصف مسجد قرطبة يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا؛ طوله مائة باع[3] وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[4]، ارتفاع الجائزة[5] منه شبر في عرض شبر إلاَّ ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يُشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسِعَة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.


    ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان([6])، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصَّة[7] رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا!

    وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[8] ذهب وفضة وحسك[9]، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان t الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه.

    وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[10] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[11] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.

    وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[12]؛ منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلاَّ إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[13] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.

    وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[14].

    وبقريبٍ من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب). وقد كانت ساحته تملؤها أشجار البرتقال والرمان؛ ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينَة من شتى البقاع! ومما يحزن له القلب وتَدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تَحَوَّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتَحَوَّلَتْ مئذنته الشاهقة إلى برج تُنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنيَّة نادرة، وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.

    جامعة قرطبة



    لم يقتصر دور جامع قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان -أيضًا- جامعة علميَّة تُعَدُّ من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم، وكان منهم: الزهراوي (325-404هـ= 936-1013م) أشهر جَرَّاح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، وهناك -أيضًا- ابن باجه، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأَبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.



    [1] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص12، والإدريسي: نزهة المشتاق 2/579.
    [2] المقري: نفح الطيب 1/4820.
    [3] القياسات القديمة كانت بوحدات الشبر والذراع والباع، والشبر يساوي 23 سنتيمترًا تقريبًا، والذراع يساوي نصف متر تقريبًا. انظر: محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي: معجم لغة الفقهاء 1/256، 2/48.
    [4] نوع من أنواع الخشب.
    [5] الجائزَةُ من البيت: سهم البيت، أي الخشبة التي تَحْمِل خشب البيت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة جوز 5/326.
    [6] الزُّرْزُورُ: طائر من رتبة العصفوريات وهو أكبر قليلاً من العصفور، له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، أو بريق أرجواني فاتح، أو هو حَجَرٌ أبيضُ رِخْوٌ، ومنه خَمْرِي أو أصْفَرَ، وله بريق معدني. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرر 4/321.
    [7] لعل المقصود كتلة رخام.
    [8] جمع طَسْت وهو من الآنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة طست، 2/58.
    [9] الحَسَكُ: من أدوات الحرب، ربما أُخذ من حديدٍ فأُلقي حول العسكر، وربما أُخذ من خشب فنصب حوله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حسك، 10/411.
    [10] السَّاباطُ: سَقيفةٌ بين حائطين أو بين دارين، ومن تحتها طريق نافذ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سبط، 7/308.
    [11] كواكب جمع كوكب: اللمعان والبريق للمعدن، وقيل: الكوكب المسمار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كوكب، 1/720، والزبيدي: تاج العروس، 4/158.
    [12] الذراع الرشاشي: هو ثلاثة أشبار. انظر: الحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/55.
    [13] الكذَّان: الحجارة الرَّخْوة النَّخِرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة كذذ، 3/505، ومادَّة كذن، 13/357.
    [14] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/456، 457.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    قرطبة .. الموقع والتاريخ


    مدينة قرطبة



    إتمامًا للفائدة رأينا أن نقف بالقارئ على وصف لمدينة قرطبة عاصمة الأندلس الفاخرة الباهرة في أيام روعتها ومجدها.


    «إن قُرْطُبَة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً أثناء القرن العاشر (الميلادي) كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حُكَّام ليون، أو النافار، أو برشلونة إلى جرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجهون بمطالبهم إلا إلى قُرْطُبَة»[1]. هذا هو وصف أحد الغربيين لمدينة قُرْطُبَة الأندلسية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو جون براند ترند.

    فامتدادًا لحضارة إسلامية إنسانية -علمًا، وقِيَمًا، ومجدًا- بزغ نجم مدينة قرطبة، كشاهدٍ حيٍّ على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعزِّ الإسلام في ذلك الوقت من التاريخ، وهو منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، يوم أن كانت أوربا تغطُّ في جهل عميق.

    قرطبة.. ذلك الاسم الذي طالما كان له جرس مُعَيَّنٌ، ووقع خاصٌّ في الأذن الإسلامية، بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية، يقول المقري: قال بعض علماء الأندلس: [البسيط]
    بِأَرْبَعٍ فَاقَتِ الأَمْصَارَ قُرْطُبَةُ
    مِنْهُنَّ قَنْطَرَةُ الْوَادِي وَجَامِعُهَا
    هَاتَانِ ثِنْتَانِ وَالزَّهْرَاءُ ثَالِثَةٌ
    وَالْعلمُ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَهْوَ رَابِعُهَ[2]

    قرطبة .. الموقع الجغرافي والتاريخ



    هي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، وقد أرَّخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: «أسسها القرطاجيون فيما يُعتقد، وخضعت لحكم الرومان والقوط الغربيين»[3].


    وقد قام بفتحها القائد الإسلامي الشهير طارق بن زياد، وذلك سنة (93هـ= 711م). ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخطُّ لنفسها خطًّا جديدًا، وملمحًا مهمًّا في تاريخ الحضارة؛ فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية، لا سيما في عام (138هـ= 756م)، عندما أسس عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي الدولة العباسية.

    وفي عهد عبد الرحمن الناصر (أول خليفة أموي في الأندلس) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها؛ خاصةً أنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية، ومقرًّا له كخليفة للمسلمين في العالم الغربي، وقد جعل منها منبرًا للعلوم والثقافة والمدنية، حتى غدتْ تُنَافس القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في قارتها، وبغدادَ عاصمة العباسيين في المشرق، والقيروانَ والقاهرةَ في إفريقيا، حتى أطلق عليها الأوربيون: «جوهرة العالم».

    وقد شمل اهتمام الأمويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي الحياة المختلفة فيها؛ من زراعة وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة.. وغيرها، وقد شقُّوا الترع، وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تُزْرَع فيها.


    [1] جون براند ترند: إسبانيا والبرتغال، دراسة منشورة بكتاب تراث الإسلام بإشراف أرنولد، ص27.
    [2] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/153.
    [3] موسوعة المورد الحديثة 1995م.


    د. راغب السرجاني
    انتظرونا في تتمة الموضوع الشيق فالبحث لم ينتهي بعد

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    أسباب سقوط الدولة الأموية في الأندلس


    أسباب سقوط الدولة الأموية

    كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية؛ ومن ثَمَّ سقوط الدولة الأموية في الأندلس هو تولِّي عبد الرحمن بن المنصور –عبد الرحمن شنجول- الحُكم، ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أمية وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد.

    وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله أن تهلك الأمم لمجرَّد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلَّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يُؤَدِّيَ إلى مثل هذا الفشل الذريع، والسقوط المدوِّي للبلاد، فلا بدَّ إذًا أن تكون هناك أسباب وجذور أخرى، كانت قد نمت من قبل وتزايدت مع مرور الزمن، حتى وصلت أوجها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمَّ كان هذا التفتُّت وذلك الانهيار.

    وكما رأينا -سابقًا- في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية، وكيف كانت لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدُّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسة لسقوط الدولة الأموية؛ ومن ثَمَّ الدولة العامرية.

    السبب الأول: انتشار الترف والإسراف



    ويرجع هذا إلى زمن عبد الرحمن الناصر ذاته، ذلك الرجل الفذُّ الذي اتَّسم عصره بالبذخ والترف الشديدين، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا؛ ومن ثَمَّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء، الذي أنشأه عبد الرحمن الناصر، وكان آية في الروعة والجمال، وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطَّنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه -أيضًا- مبطَّنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول[1]، ومع أن عبد الرحمن الناصر لم يكن مُقَصِّرًا في الإنفاق على أي شأن من شئون الدولة؛ مثل: الإنفاق على التعليم، أو الجيش.. أو غيره، إلا أنَّ فِعْلَه هذا يُعَدُّ نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه؛ أَدَّى في النهاية إلى أن تتعلَّق القلوب بالدنيا وزخرفها.


    ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد -رحمه الله- دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره وكان على هذا الوصف السابق، فقال له عبد الرحمن الناصر: ما تقول في هذا يا منذر (يُريد الافتخار)؟! فأجابه المنذر ودموعه تقطر على لحيته قائلاً: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة، وفَضَّلَكَ على كثير من عباده تفضيلاً حتى يُنْزِلَك منازل الكافرين.

    فقال عبد الرحمن الناصر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! فردَّ عليه المنذر: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].

    فقد ذكر الله السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز؛ يعني: لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا، وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله ، لكنَّا لم نجعله، إلاَّ أن عبد الرحمن الناصر فعله، وجعل لقصره سقفًا من فضة.

    وهنا وجم عبد الرحمن الناصر بعدما سَقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه –رحمه الله- تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف، وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تُبْنَى السُّقُف في ذلك الزمن، إلاَّ أن مظهر الترف -لكثرة الأموال ومع مرور الوقت- يعود ويبرز من جديد، حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16][2].

    السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله:



    إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أَدَّت إلى سقوط الدولة العامرية والخلافة الأموية، ولقد تَجَسَّد هذا العامل واضحًا جليًّا حين ولَّى الحكم بن عبد الرحمن الناصر –الحكم المستنصر- ابنه أمور الحُكم في البلاد، وهو ما زال طفلاً لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعدُ، فأذن بهذا زوال الدولة الأموية في الأندلس؛ إذ تولَّى الحُكم رجال لم يملكوا عصبة الأمويين، فلئن كان منهم مقتدورن موهوبون كما كان المنصور وابنه، فلم يكن هذا متوفرًا فيمن بعدهم.


    وقد حذَّرنا رسول الله صلى الله عيه وسلم من توسيد الأمر لغير أهله حين أجاب السائلَ عن أمارات ووقت الساعة بقوله: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»[3].

    وهكذا إذا تولَّى مَنْ لا يستحقُّ منصبًا من المناصب، فلا بُدَّ وأن تحدث الهزَّة في البلاد ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟! فقد ضُيِّعَت الأمانة، ووُسِّد الأمر لغير أهله، فكان لا بدَّ أن تقع الأندلس وتسقط الخلافة الأموية والدولة العامرية.


    [1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/566.
    [2] أبو الحسن النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص72.
    [3] البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل 59 عن أبي هريرة t، وأحمد 8714، واليهقي 20150.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    فتنة قرطبة .. بين محمد المهدي وسليمان المستعين


    خلافة محمد المهدي

    بعد خلع هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر (هشام المؤيد) وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، الذي تلقَّب بالمهدي، انفرط العقد تمامًا في الأندلس، فلم يكن يملك المهدي من لقبه إلاَّ رسمه، إذ كان فتى لا يُحسن قيادة الأمور، وليس له من فن الإدارة شيء، فكان من أول أعماله في الحُكم ما يلي:

    أولاً: التنكيل بالعامريين

    فقد ألقى القبض على كثير من العامريين ونفاهم إلى أطراف البلاد، وانتهك العامريين حتى بلغ في انتهاكهم وانتهاب أموالهم أن ترحَّم الناس على أيام العامريين، وهدم الزاهرة وأباح انتهابها، فنهض السفهاء يتسابقون حتى هُدمت الزاهرة وتُركت خرابًا كأن لم تغن بالأمس[1].

    ثانيًا: فصل الجند

    فقد فصل سبعة آلاف من الجند، وهو عدد كبير، فتغيرت عليه قلوب هؤلاء[2].

    ثالثًا: الإساءة إلى البربر

    فقد أساء إلى البربر حتى بدأ العامة يتطاولون عليهم، وقد كانوا في ذلك الوقت أولو قوة وعصبية، كما كانوا حديثي عهد بالسلطان، ثم إنهم كانوا قد انفضُّوا عن شنجول حينما رأوا سوء سياسته، وساعدوا خصومه، ولكن ورغم ذلك كله، لم تكن نفوس بني أمية قد صفت من ناحيتهم؛ إذ كانوا عماد الدولة العامرية التي أخذت منهم سلطانهم، فأساءوا إليهم، وكان المهدي يُظهر سخطه لهم ولا يُخفيه، حتى وصل به الحال إلى أن أعلن أن مَنْ قتل بربريًّا فسينال جائزة، فسارع أهل قرطبة إلى قتل البربر وهتك أعراضهم! وكان البربر قبل حدوث هذا يستعدُّون للثورة عليه؛ لما كان منه من عداوة، فلمَّا حدث ما حدث زاد حنقهم وغيظهم وحماستهم على الثورة عليه[3].

    خلافة سليمان المستعين

    أثار هذا الفعل غير الحصيف من قِبَل المهدي غضبًا عارمًا لدى البربر والعامريين، بل وعند الأمويين أنفسهم، الذين لم يعجبهم هذا القتل وذاك التشريد، وهذه الرعونة في التصرُّف، فبدأ يحدث سخط كبير من جميع الطوائف على المهدي، ولم يكن ليقف الأمر عند هذا الحدِّ؛ فقد تجمَّع البربر وانطلقوا إلى الشمال، وهناك أتوا بسليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فنصَّبُوه عليهم ولقَّبُوه بالمستعين أمير المؤمنين، وبدأ يحدث الصراع بين سليمان بن الحكم هذا ومِنْ ورائه البربر وبين المهدي في قُرْطُبَة، وكان البربر من قبل قد فكروا في مناصرة هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فقبض المهدي عليه وعلى أخيه وقتلهما، ففر ابن أخيهما سليمان بن الحكم إلى البربر بظاهر قُرْطُبَة، فبايعوه ولقبوه المستعين بالله[4].


    الفتنة بين محمد المهدي وسليمان المستعين



    وجد سليمان بن الحكم ومَنْ معه من البربر أن قوتهم ضعيفة، ولن تقوى على مجابهة قوات المهدي، فقاموا بعمل لم يُعهد على الأمويين من قبلُ في بلاد الأندلس.. استعانوا بملك قشتالة.


    وكانت مملكة قشتالة هذه هي أحد جزأي مملكة ليون في الشمال الغربي، بعد أن كان قد نشبت فيها (مملكة ليون) حرب داخلية، وانقسمت على نفسها في سنة (359هـ= 970م) إلى قسمين، فكان منها قسم غربي؛ وهو مملكة ليون نفسها، وقسم شرقي وهو مملكة قشتالة، وكلمة قشتالة تحريف لكلمة كاستولَّة، وتعني -أيضًا- قلعة باللغة الإسبانية، فحُرِّفَتْ في العربية إلى قشتالة، وكانت قد بدأت تكبر نسبيًّا في أول عهد ملوك الطوائف؛ فاستعان بها سليمان بن الحكم المستعين والبربر على حرب المهدي.

    وبين المهدي من ناحية وسليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى دارت موقعة كبيرة، هُزم فيها المهدي أو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وتولَّى سليمان المستعين أو سليمان بن الحكم مقاليد الحكم في بلاد الأندلس، وبالطبع كانت فرصة من السماء لملك قشتالة لضرب الأندلسيين بعضهم ببعض، ووضع قاعدة لجيشه وجنده في أرض الأندلس، تلك البلاد التي طالما دفعت الجزية كثيرًا للمسلمين من قبلُ[5].

    وفي فترة مدتها اثنتان وعشرون سنة يتولَّى حكم المسلمين في الأندلس ثلاثة عشر خليفة متتاليين، بدأت هذه الفترة بهشام بن الحكم سنة (359هـ= 970م)، ثم المهدي، ثم سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الذي تولَّى الحُكم، (وكان قد استعان بملك قشتالة) وذلك في سنة (400هـ= 1010م).

    الاستعانة بالنصارى

    وتدور الأحداث بعد ذلك، حيث يفرُّ المهدي -الذي انهزم أمام سليمان بن الحكم أو المستعين بالله- إلى الشمال حيث طُرْطُوشة، وفي طُرْطُوشة -وحتى يرجع إلى الحُكم الذي انتزعه منه سليمان بن الحكم، والذي لم يبقَ فيه غير شهور قليلة- فكَّر المهدي في أن يتعاون مع أحد أولاد بني عامر الذين كانوا أعداءه منذ قليل.

    كان المهدي قد قابل في طُرْطُوشة رجلاً من موالي بني عامر يُدْعَى الفتى واضح، وكان واضح قد بايع للمهدي بمجرَّد أن اعتلى كرسي الخلافة، ففر إليه المهدي في طليطلة، لمَّا خاف القتل في قُرْطُبَة.

    وقد أقنع المهدي بأنه سيتعاون معه ليُعيده إلى المُلْكِ من جديد، ويبقى هو على الوزارة كما كان في عهد الدولة العامرية من قبل، وهذا ما وافق قبولاً لدى المهدي، فقَبِلَ عرض الفتى واضح، وبدءا يتعاونان معًا لتنفيذ مخطَّطِهما ذلك.

    في بداية الأمر وجد الفتى واضح والمهدي أنهما لن يستطيعا أن يصمدا أمام قوة كبيرة مثل التي يملكها سليمان بن الحكم والبربر ومعهما ملك قشتالة، فهداهما تفكيرهما في الاستعانة بأمير بَرْشُلُونَة، وبَرْشُلُونَة هذه كانت ضمن مملكة أراجون، التي تقع في الشمال الشرقي للأندلس، والتي كان يدفع حاكمها الجزية لعبد الرحمن الناصر ولابنه وأيضًا للحاجب المنصور، فلما حدثت هذه الهزَّة في بلاد المسلمين انخلعت من هذه العباءة، وقامت من جديد، فكان أن استعان بجيشها المهدي والفتى واضح في حرب سليمان وملك قشتالة.

    وقد وافق أمير بَرْشُلُونَة على أن يساعدهم؛ لكن على شروط؛ هي:
    أولاً: مائة دينار ذهبية له عن كل يوم في القتال.
    ثانيًا: دينار ذهبي لكل جندي عن كل يوم في القتال، وقد تطوَّع الكثير لحرب المسلمين، فكان عدد الجيش كبيرًا.
    ثالثًا: أَخْذ كل الغنائم من السلاح إن انتصر جيش بَرْشُلُونَة مع المهدي والفتى واضح.
    رابعًا: أَخْذ مدينة سالم، التي تمثِّل الثغر الشمالي الذي طالما انطلق منه الجهاد ضد الممالك النصرانية.

    وهي بلا شكٍّ شروط قبيحة ومخزية، ولا ندري كيف يُوافق مسلم على مثلها؟! حتى إن وصف ابن عذاري لما حدث يدلُّ على مدى قبحه، قال: ووافق الرومَ على إدخالهم مدينة سالم وتسليمها لهم، فأخلاها ممَّنْ كان فيها من المسلمين، وأنزلها الكافرين؛ ليُقاتلوا معه البربر حماية للفاجر ابن عبد الجبار، فدخل الإفرنج مدينة سالم قاعدة الثغر الأوسط وملكوها، فأول ما دخلوا من المدينة الجامع... وضربوا فيه الناقوس وحوَّلوا قبلته... ثم شرطوا على واضح أن يلتزم لكل رجل منهم دينارين في كل يوم، وما يقوم به من الشراب واللحم.. وغير ذلك، ويجري على القومس (الكونت) في كل يوم مائة دينار، وما يقوم به من الطعام والشراب.. وغير ذلك، وعلى أنَّ لهم كل ما حازوه من عسكر البربر من سلاح وكُراع[6] ومال، وأن نساء البربر ودماءهم وأموالهم حلال لهم، لا يحول أحد بينهم وبينهم، وشرطوا عليه شروطًا كثيرة غير هذه فالتزم ذلك كله لهم»[7].

    وبدأت بالفعل موقعة كبيرة جدًّا في شمال قُرْطُبَة بين المهدي (محمد بن هشام بن عبد الجبار) ومعه الفتى واضح العامري ومعهم أمير بَرْشُلُونَة من جهة، وسليمان بن الحكم الخليفة الملقَّب بالمستعين بالله ومعه البربر من جهة أخرى، انتصر فيها المهدي ومَنْ معه، وانهزم سليمان بن الحكم، وفرَّ ومَنْ بقي معه من البربر، وسُلِّمَت مدينة سالم لأمير بَرْشُلُونَة، ومِثْلُها الغنائم، وتولَّى المهدي الحُكم من جديد في قُرْطُبَة[8].

    خلافة هشام المؤيد مرة ثانية

    لم يتراجع المهدي عن سياسته التي أشعلت الفتنة، وظلَّ على تتبُّعه للبربر وقتلهم وانتهاكهم بمساعدة الصليبيين، كذلك البربر لم يكن أمامهم إلاَّ أن يُقاوموا ويشنوا الغارات على قُرْطُبَة، حتى ضجَّ أهل قُرْطُبَة، وأغروا الفتى واضح العامري، وهو حاجب المهدي، بأن يقتله فإنه هو سبب ما نزل من الفتن، وأعان على ذلك أن المهدي كان -وسط هذه الأجواء- منشغلاً بملذاته.

    ولا نستبعد أن واضحًا -أيضًا- لم تصفُ نفسه تجاه المهدي؛ فهو الذي شتَّت العامريين وأذهب دولتهم؛ ومن ثَمَّ فما هو إلا قليل حتى انقلب واضح على المهدي فقتله، وبدأ هو في تولِّي الأمور، كان الفتى واضح أذكى من عبد الرحمن بن المنصور، هذا الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك، فقد رفض أن يكون هو الخليفة؛ حيث اعتاد الناس أن يكون الخليفة أمويًّا وليس عامريًّا؛ ومن ثَمَّ فإذا فعل ذلك فسيضمن ألاَّ تحدث انقلابات عليه، وأيضًا يكون محلَّ قبول لدى جميع الطوائف.

    ومن هنا فقد رأى الفتى واضح أن يُنَصِّب خليفة أمويًّا ويحكم هو من ورائه، وبالفعل وجد أن أفضل مَنْ يقوم بهذا الدور ويكون أفضل صورة لخليفة أموي هو هشام بن الحكم الخليفة المخلوع من قبل، هذا الذي ظلَّ مجرَّد اسم طيلة ثلاث وثلاثين سنة أيام المنصور بن أبي عامر، ثم عبد الملك بن المنصور، ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور على التوالي.
    وعاد هشام بن الحكم -الذي كان ملقَّبًا بالمؤيد بالله- من جديد إلى الحُكم، لكن زمام الأمور كانت في يد الفتى واضح[9].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/63، وما بعدها.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/78.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/75،80، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص113، وتاريخ ابن خلدون، 4/150.
    [4] تاريخ ابن خلدون، 4/150.
    [5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/91، وتاريخ ابن خلدون، 4/150، والمقري: نفح الطيب، 1/428.
    [6] الكُرَاعُ: السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كرع 8/306.
    [7] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/94.
    [8] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/95، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص115.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب 3/97، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص114، وتاريخ ابن خلدون 4/151، والمقري: نفح الطيب 1/428.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    شنجول وسقوط الدولة العامرية




    من خَلْف ستار الخلافة الأموية ظلَّ الحاجب المنصور بن أبي عامر يحكم الأندلس ابتداءً من سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- سنة (392هـ= 1002م)، وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولَّى الحجابة منذ قُتل والده وحتى وفاته سنة (399هـ= 1009م) أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولِّي حُكم البلاد، فكان يُجاهد في بلاد النصارى كل عام مرَّة أو مرَّتين، كل هذا وهو -أيضًا- تحت غطاء الخلافة الأموية.


    في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم (هشام المؤيد) قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، ومع ذلك فلم يطلب الحُكم، ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان قد تعوَّد على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.

    عبد الرحمن شنجول

    في سنة (399هـ= 1009م) توفي الحاجب المظفر، فتولَّى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور المشهور بعبد الرحمن شنجول[1]؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملَّكُون زمام الأمور في البلاد، وأخذ -أيضًا- يُدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فإضافة إلى أن أُمَّه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًّا ماجنًا فاسقًا، شَرَّابًا للخمر، فعَّالاً للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس في الأندلس [2].

    وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قَبْلُ عند العامريين، وهو أنه أجبر الخليفة هشام المؤيد في أن يجعله وليًّا للعهد من بعده، وبذلك لن يُصبح الأمر من خَلْفِ ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولِّي والده محمد بن أبي عامر، أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجَّ بنو أمية لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي ردِّ فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر، الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور[3].

    سقوط الدولة العامرية

    ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلاَّ أن الشعب كان قد تعوَّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فلمَّا خرج شنجول على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، انتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يُغَيِّرُوا من الأمر، فذهبوا إلى هشام المؤيد في قصره وخلعوه بالقوَّة، وعَيَّنُوا مكانه رجلاً من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر (من أحفاد عبد الرحمن الناصر)، وما أن طار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول حتى بدأت الجموع التي معه تنفضُّ من حوله شيئًا فشيئًا، فلمَّا دخل إلى قُرْطُبَة كان الناس قد انفضوا عنه وانحازوا إلى محمد بن هشام الذي تلقَّب بـ«المهدي»، ثم ما لبث أن أرسل إليه المهدي جماعة قبضوا عليه وقتلوه وأرسلوا إليه برأسه[4].

    وتقول بعض الروايات أنه التجأ إلى دَيْر فأعطاه أحد رهبانه طعامًا وشرابًا، ثم عثر عليه رجال بني أمية سكران، فأظهر الخوف والجزع، وادعى دخوله في طاعة المهدي، فلم يشفع له ذلك فقتلوه[5].

    واشتعلت الثورات في الأندلس، فكأنَّ مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قُتِلَ عبد الرحمن بن المنصور انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقَسَّم.


    [1] شنجول: هو لقب كانت أمه تدعوه به منذ صغره، باسم سنجول Sanchuelo، تذكراً منها لأبيها سانشو غرسيه ملك نافار الذي أهدى ابنته للمنصور بن أبي عامر فتزوجها واعتنقت الإسلام وحسن إسلامها.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/38، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص66.
    [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص94، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.
    [4] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص96، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/72.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الزهراوي .. أشهر علماء الأندلس

    أبو القاسم الزهراوي.. أعظم جراح



    لنا مع هذا الرجل وقفة أطول قليلاً؛ إذ يُعَدُّ خلف بن عباس المشهور بأبي القاسم الزهراوي (ت 427هـ= 1036م) من العلماء الأعلام في الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي كله، كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوربية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبَحَثَ في التهاب المفاصل، وفي السلِّ.. وغيرها[1].

    والزهراوي -المعروف في أوربا باسم (Abulcasis = أبو القاسم)- هو أول مَنْ تمكَّن من اختراعِ أُولى أدوات الجراحة؛ كالمشرط والمقصِّ الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، التي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة؛ فكان أَحَد العلماء الأعلام الذين سعدت بهم الإنسانية.

    وقد وُلِدَ أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء، ونُسب إليها، كان طبيبًا فاضلاً خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تامٌّ في معناه([2]).

    أبو القاسم الزهراوي.. إنجازات وإبداعات

    كان الزهراوي يمارس بنفسه فنَّ الجراحة بدلاً من أنْ يُوكل ذلك -كما كانت العادة- للحجَّامين أو الحلاقين، فمارس الجراحة وحذق فيها وأبدع، حتى صار عَلَمًا من أعلام طبِّ الجراحة، لدرجة أنه لا يكاد يُذكر اسمه إلاَّ مقترنًا مع الطب الجراحي[3]، وقد حلَّ مبحث الزهراوي في الجراحة خاصة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدة في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر، وباتت أفكاره حدثًا تحوُّليًّا في طرق العلاجات الطبية؛ حيث هيَّأ للجراحة قُدرة جديدة في شفاء المرضى أذهلت الناس في عصره وبعد عصره، وقد ساعدت آلاته الجراحية التي اخترعها على وضع حجر الأساس للجراحة في أوربا[4].

    وقد وصف الزهراوي هذه الآلات والأدوات الجراحية التي اخترعها بنفسه للعمل بها في عملياته، ووصف كيفية استعمالها وطرق تصنيعها؛ منها: جِفت الولادة، والمنظار المهبلي المستخدم حاليًا في الفحص النسائي، والمحقن أو الحقنة العادية، والحقنة الشرجية، وملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم، ومقصلة اللوزتين، وجفت وكلاليب خلع الأسنان، ومناشير العظام، والمكاوي والمشارط على اختلاف أنواعها، وغيرها الكثير من الآلات والأدوات التي أصبحت النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتُصبح الأدوات الجراحية الحديثة([5]).

    يقول كامبل في كتابه (الطب العربي): «كانت الجراحة في الأندلس تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس أو لندن أو أدنبره؛ ذلك أن ممارسي مهنة الجراحة في سَرَقُسْطَة كانوا يُمنحون لقب طبيب جراح, أمَّا في أوربا فكان لقبهم حلاق جراح، وظلَّ هذا التقليد ساريًا حتى القرن العاشر الهجري»([6]).

    كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف



    وكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) هو في الحقيقة موسوعة كثيرة الفائدة، تامَّة في معناها، لم يُؤَلَّف في الطب أجمع منها، ولا أحسن للقول والعمل، وتُعتبر من أعظم مؤلفات المسلمين الطبية، وقد وصفها البعض بأنها دائرة معارف، ووصفها آخرون بأنها ملحمة كاملة، وليس من الغريب أن تُصبح هذه الموسوعة المصدر الأساسي لجراحي الغرب حتى القرن السابع عشر، وتظلَّ المرجع الكبير لدارسي الطب في جامعات أوربا؛ مثل جامعة سالرنو ومونبلييه في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والحقيقة التي ينبغي ألاَّ تُغْفل -أيضًا- أن الجراحين الذين عُرفوا في إيطاليا في عصر النهضة وما تلاه من قرون قد اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي[7]. ويقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالّر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع مَنْ ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر»[8].


    والزهراوي هو أوَّل مَنْ جعل الجراحة علمًا قائمًا على التشريح، وأوَّل من جعله علمًا مستقلاً، وقد استطاع أن يبتكر فنونًا جديدة في علم الجراحة، وأن يُقَنِّنَها[9]، وهو أوَّل مَنْ وصف عملية القسطرة، وصاحب فكرتها والمبتكر لأدواتها، وهو الذي أجرى عمليات صعبة في شقِّ القصبة الهوائية، وكان الأطباء قبله -مثل: ابن سينا والرازي- قد أحجموا عن إجرائها لخطورتها، وابتكر الزهراوي -كذلك- آلة دقيقة جدًّا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة؛ لتسهيل مرور البول، كما نجح في إزالة الدم من تجويف الصدر، ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام. والزهراوي -كذلك- هو أول مَنْ نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء العمليات الجراحية؛ وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وسبق بهذا الربط سواه من الأطباء الغربيين بستمائة عام! والعجيب أن يأتي مِنْ بعده مَنْ يَدَّعي هذا الابتكار لنفسه، وهو الجراح إمبراطور باري عام (1552م).
    وهو –أيضًا- أول من صنع خيطانًا لخياطة الجِرَاح، واستخدمها في جراحة الأمعاء خاصة، وصنعها من أمعاء القطط، وأول من مارس التخييط الداخلي بإبرتين وبخيط واحد مُثَبَّتٍ فيهما؛ كي لا تترك أثرًا مرئيًّا للجِرَاح، وقد أطلق على هذا العمل اسم (إلمام الجروح تحت الأدمة)، وهو أوَّل من طبَّق في كل العمليات التي كان يُجريها في النصف السفلي للمريض رفع حوضه ورجليه قبل كل شيء؛ ممَّا جعله سبَّاقًا على الجرَّاح الألماني (فريدريك تردلينوبورغ) بنحو ثمانمائة سنة، الذي نُسب الفضل إليه في هذا الوضع من الجراحة؛ ممَّا يُعَدُّ اغتصابًا لحقٍّ حضاري من حقوق الزهراوي المبتكر الأول لها[10].

    كما يُعَدُّ الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدَّة قرون، وقد سَجَّل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفَّذَها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذِّ (التصريف)؛ ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرَّة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تُصَبُّ فيه هذه الأقراص أو تُحَضَّر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويُحْفَر في كل وجه قدر غِلَظِ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغشِّ في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية.

    وفي ذلك يقول شوقي أبو خليل: «ولا ريب أن ذلك يُعطي الزهراوي حقًّا حضاريًّا لكي يكون المؤسس والرائد الأول لصناعة الطباعة، وصناعة أقراص الدواء؛ حيث اسم الدواء على كل قرص منها، هاتان الصناعتان اللتان لا غنى عنهما في كل المؤسسات الدوائية العالمية، ومع هذا فقد اغْتُصِبَ هذا الحقُّ وغفل عنه كثيرون»[11].

    وكذلك يُعَدُّ الزهراوي أوَّل مَنْ وصف عملية سَلِّ العروق من الساق لعلاج دوالي الساق والعرق المدني، واستخدمها بنجاح، وهي شبيهة جدًّا بالعملية التي نمارسها في الوقت الحاضر، والتي لم تُستخدم إلاَّ منذ حوالي ثلاثين عامًا فقط، بعد إدخال بعض التعديل عليها[12]، وللزهراوي إضافات مهمَّة جدًّا في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّيْنِ، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصًّا به[13].

    وكان مرض السرطان وعلاجه من الأمراض التي شغلت الزهراوي، فأعطى لهذا المرض الخبيث وصفًا وعلاجًا بقي يُستعمل خلال العصور حتى الساعة، ولم يزد أطباء القرن العشرين كثيرًا على ما قدَّمه علامة الجراحة الزهراوي[14].

    وإن ما كتبه الزهراوي في التوليد والجراحة النسائية ليُعتبر كنزًا ثمينًا في علم الطب؛ ولقد ابتكر آلة خاصة لاستخراج الجنين الميت فسبق الدكتور فالشر بنحو تسعمائة سنة في وصف ومعالجة الولادة الحوضية، وهو أول مَن استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، وأول مَنِ ابتكر آلة خاصة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا([15]).
    ويحكي جوستاف لوبون عن الزهراوي فيصفه بقوله: «أشهر جراحي العرب، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص؛ فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غيرِ حقٍّ...» [16]. وجاء في دائرة المعارف البريطانية أنه أشهر مَنْ ألَّف في الجراحة عند العرب (المسلمين)، وأول من استعمل ربط الشريان لمنع النزيف[17].


    [1] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 1/333، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية، ص513.
    [2] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 3/246، والزركلي: الأعلام، 2/310.
    [3] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس.. إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص31، وجلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص331، 332، وعلي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص362.
    [4] جلال مظهر: حضارة الإسلام، ص332.
    [5] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص176.
    [6] نقلاً عن جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص336.
    [7] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص221.
    [8] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490.
    [9] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص265، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، ص106.
    [10] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص35، وعامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص162.
    [11] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص32، 33.
    [12] محمد كامل حسين: الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب، ص142، 143.
    [13] المصدر السابق، ص201.
    [14] انظر: الدفاع: رواد علم الطب، ص264.
    [15] انظر: كمال السامرائي: الأمراض النسائية في الطب العربي القديم، مجلة المهن الطبية، العدد1- 1964م، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين، ص163 وما بعدها.
    [16] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490، 492.
    [17] الزركلي: الأعلام، 2/310.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    أشهر العلماء في الدولة العامرية


    ابن ذكوان (342-413هـ= 953-1022م)

    ابو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبيدوس بن ذكوان، الشهير بابن ذكوان قاضي الجماعة بقُرْطُبَة وخطيبها، وُلِدَ سنة (342هـ= 953م)، ولاَّه المنصور بن أبي عامر القضاء، وكان من خاصته يُلازمه في رحلاته وغزواته، ومحلُّه منه فوق محلِّ الوزراء، يُفاوضه المنصور في تدبير المُلْكِ وفي سائر شئونه. كذلك كان معه المظفر وشنجول ولدي المنصور بعد وفاة أبيهما، وتوفي المظفر فزاد أخوه عبد الرحمن في رفع منزلته وولاَّه الوزارة بالإضافة إلى قضاء القضاة، وكان عظيم أهل الأندلس ورئيسهم، وأقربهم من الدولة وأعلاهم محلاًّ، توفي سنة (413هـ)[1].

    ابن جلجل (332- بعد 377هـ= 943- بعد 987م)

    أبو داود سليمان بن حسان، الشهير بابن جلجل، كان طبيبًا ماهرًا، وكان إمامًا في معرفة الأدوية المفردة، لا سيما بكتاب ديسقوريدس، الذي عُرِّب في بغداد في خلافة المتوكل العباسي، وبقيت منه ألفاظ كثيرة يونانية لم تُعَرَّب ولا عُرفت، ويحكي ابن جلجل قصة هذا الكتاب فيقول: «انتفع الناس بما عُرِّب منه، فلما كان في دولة الناصر عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس، كاتبه أرمانوس صاحب القسطنطينية قبل الأربعين وثلاثمائة وهاداه بنفائس، فكان منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير العجيب، والكتاب باليوناني، ومنها كتاب هروشيش، وهو تاريخ عجيب في الأمم والملوك باللسان اللطيني (اللاتيني). وكان بالأندلس مَنْ يتكلَّم به، ثم كاتبه الناصر وسأله أن يبعث إليه برجل يتكلم باليوناني واللطيني، ليُعَلِّم له عبيدًا؛ حتى يُترجموا له، فبعث إليه براهب يُسَمَّى نقولا، فوصل قُرْطُبَة في سنة أربعين، ونشر من كتاب ديسقوريدس ما كان مجهولاً، وكان هناك جماعة من حُذَّاق الأطباء، فأُحْكم الكتاب، وقد أدركتُهم، وأدركتُ نقولا الراهب وصحبتُهم، وفي صدر دولته (أي: المستنصر) مات نقولا الراهب».

    ومن كُتب ابن جلجل «تاريخ الأطباء والفلاسفة»، وله تذييل وزيادات على كتاب ديسقوريدس مما لم يعرفه ديسقوريدس[2].

    المجريطي (338-398هـ= 950-1007م):

    هو الفيلسوف الرياضي الفلكي أبو القاسم مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي، وهو مشهور بالمجريطي، وُلِدَ في مدينة مجريط (مدريد) سنة (338هـ= 950م)، كان إمام الرياضيين بالأندلس، وأوسعهم إحاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم[3].

    برع في علوم كثيرة، وله كتابان رجع إليهما ابن خلدون هما: (رتبة الحكيم): وهو أهم مصدر لدراسة الكيمياء في الأندلس، و(غاية الحكيم): وهو كتاب موسوعي تُرجم إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي... وفي هذا الكتاب بحوث تهتم بدراسة تاريخ الحضارة في أقدم عصورها، وتاريخ مستنبطات الأمم الشرقية العريقة في القدم من أنباط وأقباط وسريان وهنود.. وغيرهم، ومكتشفاتهم وجهودهم في تَقَدُّم العمران، وفي هذا الكتاب -أيضًا- بحوث في الرياضيات والكيمياء، وعلم السحر، وعلم الحيل، والتاريخ الطبيعي، وتاريخ المنشأ، والبيئة[4]، وله زيج قيل فيه: لم يُؤَلَّف في الأزياج مثل زيج مسلمة -أي: المجريطي- وزيج ابن السمح[5].

    ومن مؤلفاته أيضًا:
    - روضة الحدائق ورياض الخلائق.
    - ثمار العدد: وهو في الحساب ويُعرف بالمعاملات.
    - اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني.
    - كتاب الأحجار.

    ولقد قال إدوارد فنديك صاحب كتاب (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع): توجد مجموعة أخرى تسمى بالرسائل الجامعة ذات الفوائد النافعة، وتُعْرَف -أيضًا- باسم (رسائل إخوان الصفا) للحكيم المجريطي القرطبي... وهي على نمط رسائل إخوان الصفا، ولكنها لم تُطبع ولم تشتهر كالأولى[6]، ولعلَّ هذا هو ما جعل خير الدين الزركلي صاحب الأعلام يقول: ذهب بعض المؤرخين إلى أنه مؤلف (رسائل إخوان الصفا)، ولم يَثْبُت ذلك[7]، وقد توفي في مدينة مجريط (مدريد) سنة (398هـ= 1007م).

    ابن الفرضي (351-403هـ= 962-1013م):

    الإمام الحافظ، البارع الثقة، أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي، المعروف بابن الفرضي، مؤرخ حافظ أديب، وُلِدَ بقُرْطُبَة سنة (351هـ= 962م)، ألَّف في (أخبار شعراء الأندلس)، وكتاب في (المؤتلف والمختلف)، وفي (مشتبه النسبة).

    وكان من تلاميذه الإمام المعروف أبو عمر بن عبد البر، وهو من أئمة المذهب المالكي الكبار، ووصفه بقوله: كان فقيهًا حافظًا، عالمًا في جميع فنون العلم في الحديث والرجال، أخذتُ معه عن أكثر شيوخي، وكان حسن الصحبة والمعاشرة.

    وقال عنه شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان: لم يُرَ مثله بقُرْطُبَة في سعة الرواية، وحفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والافتنان في العلوم والأدب البارع، وجمع من الكتب أكثر ما يجمعه أحد في علماء البلد، وكان حسن البلاغة والخطِّ.

    ومما يُذكر عنه قول الحميدي: حدثنا علي بن أحمد الحافظ، أخبرني أبو الوليد بن الفرضي قال: تعلَّقتُ بأستار الكعبة، وسألت الله تعالى الشهادة، ثم فَكَّرت في هول القتل، فندمت، وهممت أن أرجع، فأستقيل الله ذلك، فاستحييت. يقول الحافظ علي: فأخبرني مَنْ رآه بين القتلى، ودنا منه، أنه سمعه يقول بصوت ضعيف: «لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ»[8]. كأنه يُعيد على نفسه الحديث، ثم قضى على إثر ذلك .

    وله شعر جيد منه: [الطويل]

    أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ
    عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
    يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا
    وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ وَخَائِفُ
    وَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْجُو سِوَاكَ وَيَتَّقِي
    وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ
    فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي
    إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ[9]



    [1] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص85، والذهبي: تاريخ الإسلام، 28/312.
    [2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 27/213.
    [3] الزركلي: الأعلام، 7/224.
    [4] انظر: محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام، 5/111.
    [5] المقري: نفح الطيب، 2/176.
    [6] إدوارد فنديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص184.
    [7] الزركلي: الأعلام، 7/231.
    [8] الحديث رواه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله U 2649، ومسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 1876 عن أبي هريرة t، واللفظ له.
    [9] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 17/177.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الملك بن محمد العامري .. الحاجب المظفر


    وفاة المنصور ابن أبي عامر

    توفي المنصور بن أبي عامر وهو في أوج قوته، و الأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تَصِلْ إليه من قبلُ في أي عصر من العصور، إلى جوار ما كان فيه أعداؤها من الضعف الشديد، وكذلك كان الحال داخل الأندلس نفسها؛ فالخليفة الأموي هشام المؤيد كان رجلاً ضعيفًا، في حين كانت قوة العامريين قد بلغت شأوًا بعيدًا، ومع ذلك فبمجرد أن مات المنصور بن أبي عامر سارع ابنه عبد الملك إلى قُرْطُبَة، قبل أن يطرأ أي أمر لم يكن قد استعدَّ له من قبل، ليستصدرَ مرسومًا من الخليفة بتوليته الحجابة بعد أبيه، وكان أبوه قد عَهِدَ له بالحجابة من بعده -كما ذكرنا- وتمت توليته الحجابة كما أراد يوم الاثنين لثلاث بقين من رمضان (392هـ)، وبقي في الحكم سبع سنين إلى أن مات سنة (399هـ) [1].

    عبد الملك المظفر



    سار عبد الملك المظفر على نهج أبيه في سياساته الداخلية والخارجية، وفي غزوه الدائم للأراضي النصرانية في الشمال، حتى قال عنه المقري التلمساني في نفح الطيب: «جرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيامه أعيادًا دامت مدَّة سبع سنين، وكانت تسمى بالسابع تشبيهًا بسابع العروس، ولم يزل مِثْلَ اسمه مظفَّرًا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم، وقيل: سنة ثمان وتسعين»[2].


    المظفر وسيرة العظماء

    وقد أُعجب به المسلمون وأحبوه حبًّا عظيمًا، فأثنوا عليه أجمل الثناء، فكان من ذلك ما نقله ابن الخطيب: «قالوا: كان عبد الملك أسعد مولود وُلِدَ بالأندلس على نفسه وأبيه وغيرهما؛ فجدَّد الألقاب، واقتفى الرسوم، فقد ذُكر أن المنصور توفِّي عن ألقاب عديدة من ألقاب الطبقات من بابه من الفقهاء والعلماء والكتاب والشعراء والأطباء والمنجمين؛ فلم يكونوا أوفر عددًا ولا أسنى أرزاقًا منهم في أيامه، مع عدم التلبُّس بشيء من أمرهم؛ إذ كان مُقْتَصِرًا على شأنه في التجنُّد والعمل بالسلاح؛ حفظًا للرسوم، والتماسًا لجميل الذِّكْر، وحرصًا على التزيُّد والشفوف على غيره، وكان مثلاً في الحياء والشجاعة؛ إذ كان عند الحياء والحشمة بكرًا عزيزة، وفي مواقِفِ الكريهة أسدًا وَرْدًا، لا يقوم له شيء إلاَّ حطمه»[3].
    وقد زاد من حُبِّ المسلمين له وإعجابهم به أنه ابتدأ عهده بأن أسقط عن المسلمين سدس الجباية التي كانت عليهم[4]، فتعلَّقت به قلوب الرعية وآمالها، ووجدت فيه العزاء عن فقدان أبيه، وبخاصة أنَّ أباه كان يعتمد عليه دائمًا في حياته، ويُكَلِّفه بالمهام الجسام؛ كقيادة الجيوش وما إلى ذلك.

    جهاد الحاجب المظفر ضد النصارى

    كان من عادة نصارى الشمال -كما رأينا- أنه متى مات حاكم الأندلس -وبخاصة إذا كان قويًّا- ضربوا بالمعاهدات والمواثيق عُرض الحائط، وأخذوا يُهاجمون الثغور والأراضي الإسلامية بهدف الثأر من المسلمين وإضعافهم، وسلب ما يمكن سلبه، وهم بهذا -أيضًا- يُضعفون موقف الحاكم الجديد، الذي يسعى لتوطيد ملكه، رأينا هذا عند تولِّي عبد الرحمن الناصر، كما رأيناه عند تولِّي الحكم المستنصر وابنه هشام المؤيد، ولكنهم هذه المرَّة لم يفعلوا ذلك، وربما كان ذلك بسبب الضربات القوية المؤثِّرة التي وجهها لهم المنصور بن أبي عامر في حياته.

    ولم يكتفِ الحاجب المظفر بهذه الموادعة؛ إذ إنهم لو وادعوا اليوم، فلن يوادعوا غدًا إذا اجتمعت لهم قوتهم، ثم ربما يظنون به الضعف والجبن عن لقائهم، ومن هنا بدأ الحاجب المظفر يُجَهِّز لغزو نصارى الشمال، واجتهد في الإعداد؛ حتى إن أهل العدوة قد سمعوا بهذه الغزوة، فتوافدوا إلى الأندلس للمشاركة فيها، وفيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وزعمائهم وفقهائهم، وقد أحسن الحاجب المظفر استقبالهم، وأغدق لهم العطاء، فقبل بعضهم وتحرَّج البعض الآخر.

    غزو إمارة برشلونة

    وخرج الحاجب المظفر من الزاهرة بجنده ليلة 11 شعبان سنة 393هـ في مشهد مهيب، وسار حتى وصل مدينة سالم، فانضمت له قوة من قشتالة، نزولاً على ما كان بين قشتالة والمنصور بن أبي عامر من معاهدات، ثم سار إلى إمارة بَرْشُلُونَة، ودارت بينه وبين نصارى بَرْشُلُونَة حرب شديدة، هُزموا فيها هزيمة نكراء، واستولى المسلمون على عدد من حصون بَرْشُلُونَة، وهدموا حصونًا أخرى، وغنموا وسبوا، وعمل الحاجب المظفر على إسكان المناطق المفتوحة بالمسلمين، فنهى الجنود عن تدمير البيوت وهدمها، وأمر بنقل المسلمين لعمارة هذه الأرض، وجعل لمن يسكنها منهم راتبًا شهريًّا يتقاضاه من بيت المال، وقضى الحاجب المظفر عيد الفطر بأرض بَرْشُلُونَة، واحتفل به مع جنوده ورجاله في بسائطها، ثم أمر بإرسال رسالتين للتبشير بالفتح؛ إحداهما إلى الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتُقْرَأ على المسلمين كافة في قُرْطُبَة، ثم في باقي الولايات.

    وجاء في الرسالتين أن عدد السبي بلغ 5570، وأن عدد الحصون التي اقتحمت عَنْوة ستة حصون، وعدد الحصون التي أخلاها العدوُّ فخُرِّبت ودُمِّرت 85 حصنًا، وذكر أسماء هذه الحصون كلها في الرسالتين، ثم أَذِنَ للمتطوعين معه للجهاد بالعودة إلى ديارهم وبلدانهم؛ إذ إن الهدف الذي خرجوا من أجله قد انتهى؛ فعاد المتطوعون إلى بلادهم مسرورين فرحين بنصر الله[5].

    وفي السنة التالية لهذه الغزوة (394هـ) -وفي دلالة واضحة على ما وصلت إليه قوة الدولة وهيبتها في عهده- احتكم إليه قادة الممالك النصرانية[6]، وفي ذلك ينقل ابن عذاري المراكشي عن المؤرخ الفقيه أبي مطرف محمد بن عون الله (وهو من معاصري هذه الحوادث) قوله: «وانتهى المظفر عند ملوك الأعاجم في دولته إلى منزلة عظيمة، مثل منزلة والده المنصور، وأحلُّوه محلَّه في الإصغاء له والتعظيم؛ لجلاله والهيبة من سخطه والطلب لمرضاته، حتى صار أعاظمهم يحتكمون إليه فيما شجر بينهم؛ فيفصل الحُكم فيهم، ويرضون بما قضاه ويقفون عنده»[7].

    غزو مملكة قشتالة

    وتوالت غزوات الحاجب المظفر -رحمه الله- على أراضي النصرانية في الشمال، وكانت غزوته الخامسة سنة (397هـ)، وفيها اتجه بجيشه إلى مملكة قشتالة، فاتحدت جميع الممالك والقوى النصرانية ضده، ودارت بين الفريقين معركة شديدة، نصر الله فيها المسلمون نصرًا عظيمًا، وكان قد بلغ الناسَ في الأندلس خبرُ اتحاد الممالك النصرانية ضد جيش المسلمين، فأشفقوا على الجيش الإسلامي، وخافوا عاقبة ذلك، وكان أهل العساكر المشاركين في الغزوة هم أكثر الناس خوفًا، فلما وردهم خبرُ انتصار المسلمين، كان فرحهم بذلك فرحًا عظيمًا، وعلى أثر هذه الغزوة تلقّب عبد الملك بالحاجب المظفر بالله[8].

    ثم خرج بعد ذلك في شاتية سنة (398هـ) -وكانت هذه هي شاتيته الوحيدة- وقد خرج فيها إلى قشتالة، ودارت بينه وبين نصارى قشتالة معارك عنيفة استمرَّت عدَّة أيام، انتهت بنصر عظيم للمسلمين[9]، وكانت هذه هي غزوته قبل الأخيرة؛ لأنه خرج إلى غزو قشتالة في صائفة العام نفسه (398هـ)، ولكنه مرض مرضًا شديدًا في مدينة سالم في شمال الأندلس، فتفرَّق عنه كثير من الجنود المتطوعين معه، ففشل مشروع الغزو، وعاد إلى قُرْطُبَة[10]، ثم عاد وشعر ببعض التحسن فتحامل على نفسه وبدأ يتأهَّب إلى غزو قشتالة من جديد، وخرج بالفعل متحاملاً على نفسه في شاتية عام (399هـ) يقصد قشتالة، إلاَّ أن الحركة قد آذته وزادت مرضه، فلم يَعُدْ يستطيع الغزو، فعادوا به محمولاً على محفَّة، وتوفي –رحمه الله- في الطريق إلى قُرْطُبَة في صفر عام (399هـ) [11].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3.
    [2] المقري: نفح الطيب،1/423.
    [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/4.
    [6] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10، وتاريخ ابن خلدون، 4/181.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10.
    [8] المصدر السابق، 3/14.
    [9] المصدر السابق، 3/21.
    [10] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/23.
    [11] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/27، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص89.

    اترك تعليق:

يعمل...
X