إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    المشهد الصليبي في عهد المنصور ابن أبي عامر



    مملكة قشتالة



    شُغل المسلمون بعد وفاة الحكم المستنصر لبعض الوقت بشئونهم الداخلية، فظنَّ النصارى -كالعادة- أن الوقت قد حان لأن يضربوا بكل عهود السلم التي كانت بينهم وبين الحكم المستنصر عُرض الحائط، وأن يعودوا إلى الإغارة على أراضي المسلمين، فأغار القشتاليون على الأراضي الإسلامية، وتوغَّلوا فيها جنوبًا، وعاثوا فيها فسادًا، فهبَّ ابن أبي عامر لردِّهم ومعاقبتهم، فغزا أراضي قشتالة في أوائل سنة (366هـ = 977م)، ثم غزاها ثانية، واقتحم مدينة شلمنقة في العام التالي، وبدأت بذلك سلسلة الغزوات الشهيرة المتوالية على الممالك النصرانية في الشمال، والتي استغرقت طيلة حياة ابن أبي عامر.


    مملكة ليون

    أمَّا مملكة ليون، فقد أقدم الملك راميرو الثالث، على معاونة القائد غالب الناصري ببعض قواته في خروجه على المنصور، فعزم ابن أبي عامر على عقاب راميرو على هذا التحدِّي، وسار إليه في جيش لمحاربته، فتحالف راميرو الثالث مع أمير قشتالة غرسية فرناندز ومع ملك نافار سانشو غرسية، والتقى الجمعان؛ المنصور بن أبي عامر من جهة والجيوش النصرانية المتحدة من جهة أخرى، وهزمهم المسلمون في موقعة شنت منكش سنة (371هـ= 981م).
    وبعد هزيمة راميرو الثالث في هذه المعركة؛ ادَّعى أشراف ليون أنه لم يعد صالحًا لتولِّي أمر المملكة، فقرَّروا خلعه، وتولية ابن عمه برمودو بدلاً منه، ولكن راميرو لم يُذعن لهذا القرار، فحشد أنصاره وخاض حربًا مع ابن عمه، فهُزِم وفرَّ إلى مدينة أسترقة، ثم حاول أن يلجأ بعد ذلك إلى المنصور بن أبي عامر، وأن يستعين به لاسترداد عرشه، ولكن القَدَرَ لم يُمهله؛ إذ توفي بعد ذلك بقليل، وخلا الجوُّ لبرمودو.

    ولكن برمودو نفسه لم يستطع الاطمئنان على ملكه؛ وبخاصة أن عددًا من الأشراف عارضوا حكمه، فخشي أن يُفعل به مثلما فُعل بابن عمه، فلجأ إلى المنصور بن أبي عامر يستمدُّ منه العون والتأييد في مقابل أن يعترف بطاعته، وأن يُؤَدِّيَ إليه الجزية، فأجابه المنصور إلى طلبه، وأرسل إليه بقوَّة من الجند، نزلت مدينة ليون عاصمة المملكة؛ لتحمي برمودو، وبذلك أصبحت ليون تابعة للمسلمين.

    ولكن هذا الوضع لم يَرُقْ لبرمودو؛ فبمجرَّد أن شعر باستقراره على العرش، وبازدياد نفوذه وقوته، قرَّر أن يغدر بالمسلمين ويتخلَّص من تبعيته لابن أبي عامر، فهاجم الحامية الإسلامية، واستخلص من يدها مدينة ليون، فهبَّ المنصور لحربه، وسار إلى مدينة ليون واقتحمها، ومزَّق قوى النصارى، ثم استمرَّ يغزو أراضي ليون تباعًا، ويُوقع الهزائم المتتالية ببرمودو، حتى اضطر برمودو إلى طلب الصلح، والعودة إلى طاعة ابن أبي عامر عام (995م).

    ولم يُعَمَّر برمودو طويلاً بعد ذلك فمات عام (999م)، وخلفه ابنه ألفونسو الخامس، وكان طفلاً، فعُيِّن أحد أشراف ليون -وهو الكونت مننديث كونثالث- وصيًّا على الملك الصغير.

    مملكة نافار

    تولَّى سانشو غرسية الثاني عرش نافار بعد موت أبيه غرسية سانشيز، وكانت نافار قد اتسعت رقعتها عندئذٍ، فصارت تشمل عدَّة ولايات، غير ولاية نافار الأصلية؛ مثل: ولايات كانتبريا، وسوبرابي، وربا جورسيا، ونمت مواردها وقواها، حتى بدأ سانشو غرسية في مهاجمة الأراضي الإسلامية، فكان ردُّ المنصور بن أبي عامر على ذلك عنيفًا؛ فغزا مملكة نافار وتوغَّل فيها حتى دخل عاصمتها بنبلونة عام (987م).

    وخلف سانشو في الحُكم ولده غرسية سانشيز الثالث، فلم يدم حكمه سوى خمسة أعوام، وقد غزا المنصور بن أبي عامر نافار في عهده مرَّة أخرى عام (999م)، وقد مات غرسية بعد هذه الغزوة بعام، وتولَّى بعده ابنه سانشو الثالث الملقب بالكبير[1].

    لقد كان المشهد الصليبي في أيام المنصور وبأثر من جهاده في غاية الضعف والتمزُّق.


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/598، بتصرف.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المنصور ابن أبي عامر .. المجاهد الذي لا يهزم

    تولَّى محمد بن أبي عامر الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- في سنة (392هـ= 1002م)، وقد قضى هذه المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها[1].

    غزوات المنصور ابن أبي عامر



    غزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة؛ تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبلُ، واستطاع –رحمه الله- أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو ذا قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية[2].


    وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلاَّ أن الحاجب المنصور كانت له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.

    غزوة شانت يعقوب

    كانت أعظم هذه الغزوات قاطبة غزوة «شانت ياقب»، وشانت ياقب هو النطق العربي في ذلك الوقت لـ «سانت يعقوب» أي القديس يعقوب، وكانت هذه المدينة في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي منطقة على بعدها الشديد عن أهل الأندلس في ذلك الوقت كانت شديدة الوعورة؛ ولذلك لم يصل إليها فاتح مسلم قبل المنصور بن أبي عامر، هذا بالإضافة إلى أن هذه المدينة على وجه التحديد كانت مدينة مقدسة عند النصارى، فكانوا يأتونها من مختلف بقاع الأرض ليزوروا قبر هذا القديس؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي قال: إنها «أعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فبها يحلفون، وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها»[3].

    وكان ملوك نصارى الشمال كلما هاجم ابن أبي عامر عواصمهم فروا إلى هذه المنطقة القاصية الوعرة؛ يحتمون فيها من بأس المسلمين؛ ولهذا قرَّر ابن أبي عامر أن يذهب إلى هذه المدينة، وأن يحطم أسوارها وحصونها؛ ولِيُعْلِمَ هؤلاء أن ليس في شبه الجزيرة كلها مكان يمكنهم أن يحتموا فيه من بطش ابن أبي عامر.

    وقصة هذه المدينة هي ما يُقال عن يعقوب صاحب هذا القبر، من أنه كان أحد حواريِّي سيدنا عيسى ابن مريم u الاثني عشر، وأنه كان أقربهم إليه u؛ حتى سموه أخاه u للزومه إيَّاه، فكانوا يُسَمُّونه أخا الرب –تعالى الله عمَّا يصفون علوًّا كبيرًا - ومنهم مَنْ يزعم أنه ابن يوسف النجار، وتقول الأسطورة أن صاحب هذا القبر كان أسقف بيت المقدس، وأنه جاب الأرض داعيًا إلى عقيدته حتى وصل إلى تلك الأرض البعيدة، ثم إنه عاد إلى أرض الشام، وقُتل بها، فلما مات نقل أصحابه رفاته إلى آخر مكان بلغه في رحلته الدعوية.

    وفي صائفة سنة (378هـ) -وهي غزوته الثامنة والأربعون- قاد ابن أبي عامر قواته متجهًا بها نحو الشمال قاصدًا شانت ياقب، وفي الوقت نفسه بدأ الأسطول الأندلسي الذي أعده المنصور لهذه الغزوة تحرُّكَه من الموضع المعروف بقصر أبي دانس غربي الأندلس، وفي الطريق انضم إلى المنصور ابن أبي عامر عدد كبير من أمراء نصارى الإسبان؛ نزولاً على ما بينه وبينهم من معاهدات تُوجب عليهم أن يشتركوا معه في المعارك، ثم اتجه إلى شانت ياقب مخترقًا الطرق الجبلية الوعرة، حتى وصل إلى هذه المدينة، بعد فتح كل الحصون والبلاد التي في طريقه، وغنم منها وسبى، ثم وصل ابن أبي عامر إلى مدينة شانت ياقب ولم يجد فيها إلاَّ راهبًا بجوار قبر القديس يعقوب، فسأله عن سبب بقائه، فقال: أؤانس يعقوب. فأمر بتركه وعدم المساس به، وأمر بتخريب حصون هذه المدينة وأسوارها وقلاعها، وأمر بعدم المساس بقبر القديس يعقوب، ثم تعمق حتى وصل إلى ساحل المحيط دون أن يقف أمامه شيء، وكرَّ راجعًا، بعدما أنعم على مَنْ كان معه من أمراء النصارى بالمال والكساء كلٍّ على حسب قدره، ثم كتب إلى المسلمين يُبَشِّرهم بالفتح[4].

    صور من جهاد المنصور ابن أبي عامر

    يسير جيشا جرارا لإنقاذ نسوة ثلاث

    جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.

    وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث[5].

    يقطع النصارى عليه الطريق، فيملي شروطه عليهم

    ومما ذُكر عن الحاجب المنصور -أيضًا- أنه –رحمه الله- وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود.فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.
    وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.
    لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام. فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً ودوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب[6].

    يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليُدفن معه في قبره

    مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «... وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»[7]. فكان من عادة الحاجب المنصور -رحمه الله- في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى[8].
    ولقد كان من أهم مميزات جهاد الحاجب المنصور أنه كان يبدأ بالهجوم، ويحاول إجهاض المؤامرات في مهدها، ولا ينتظر للدفاع مثلما كان حال مَنْ سبقه[9].

    حضارة الأندلس في عهد الحاجب المنصور



    من الجوانب الوضَّاءة في حياة ابن أبي عامر أو الحاجب المنصور -أيضًا- اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد؛ فقد أسَّس مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون -كما ذكرنا- وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قُرْطُبَة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد، وذلك بالمبلغ الذي يرضونه[10].


    وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلاَّ إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخلة كما أرادت، حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد[11].
    زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو ما يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه -وللأسف- حُوِّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
    وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمَّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يَعُدْ هناك فقراء تمامًا، كما كان الحال أيام الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو أيام عبد الرحمن الناصر نفسه.
    وحتى البلاد التي فتحها المنصور من بلاد النصارى اهتم بتعميرها وعمارتها؛ حتى صارت الجزيرة الأندلسية كلها متصلة العمران، عامرة زاهرة خضرة نضرة[12].

    الاستقرار الداخلي في الأندلس

    كان من اللافت للنظر -أيضًا- في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه -التي امتدَّت من سنة (366هـ= 976م) وحتى سنة (392هـ= 1002م)- لم تقم عليه أي ثورة، أو تمرُّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها، اللهم إلاَّ ما ذكرناه من قبل عن النزاع بينه وبين غالب الناصري.
    فقد كان الحاجب المنصور رجلاً قويًّا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلاً مع الرعية؛ ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجلٌ بسيط من عامَّة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم يُنصفني فيها. وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم يُنصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي، وإنما هي عند الوسيط (بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا)، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب (يقصد ثياب التميز والحُكم)، واخلع سيفك، ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي. ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما. فنظر القاضي في أمرهما، وقال: إن الحقَّ مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط. فما كان من الحاجب المنصور إلاَّ أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحدِّ الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجَّب القاضي، وقال للمنصور: يا سيدي؛ إنني لم آمر بكل هذه العقوبة. فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقُرْبِه مِنَّا؛ ولذلك زدنا عليه الحدَّ؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكِّنه من ظلم الرعيَّة[13].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب 2/301، وتاريخ ابن خلدون، 4/148، والمقري: نفح الطيب 1/398.
    [2] انظر تفصيل ذلك عند ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294، والمقري: نفح الطيب، 1/413.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294، وما بعدها.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/297، والمقري: نفح الطيب، 1/403.
    [6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/369.
    [7] الترمذي: كتاب فضائل الجهاد، باب في فضل الغبار في سبيل الله 1633 عن أبي هريرة t، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي 4316، وابن ماجة 2774، وأحمد 10567، والحاكم 7667، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
    [8]
    [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/540.
    [10] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/287.
    [11] المقري: نفح الطيب، 1/546.
    [12] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/181 م، وابن الكردبوس: نص في وصف الأندلس، من منشورات المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد 13/12.
    [13] ابن عذاري: البيان المغرب 2/289.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الدولة العامرية في الأندلس


    الدولة العامرية (366-399هـ= 976-1009م)



    استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ فلقد أضحى الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس؛ فهو الحاجب القوي، الذي يسوس البلاد والعباد، ويغزو صيفًا وشتاءً فينتصر في كل معاركه مع النصارى، بينما الخليفة الذي كان صغيرًا يكبر على مهل، ولا يدري من حال مملكته شيئًا.


    وقبض الحاجب محمد بن أبي عامر على أَزِمَّة السلطان في الدولة، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.

    والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، وتُعَدُّ الدولة العامرية مندرجة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الخليفة ما زال قائمًا، وإن كان مجرَّد صورة.

    ابن أبي عامر وتوطيد حكمه

    من الأهمية بمكان -ونحن نناقش فترة محمد بن أبي عامر- أن نتذكر أنه بلا عصبة، أي ليست وراءه عائلة يتقوى بها، وتتعصب له على نحو ما كان مهيَّأ للعائلات الكبيرة؛ كبني أمية وبني العباس في المشرق، وغيرهم من العائلات الأقل، ولنتذكر أن عامل «العصبية» هذا هو الذي كان يحكم كل العالم إلى ما قبل أن تنشأ الجمهوريات الحديثة، فكان لا بُدَّ للملك أو الحاكم أن تكون له عصبة ترفعه وتحميه ويتكئ عليها.

    وحين دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استفاد من تناحر العصبيات العربية الكائنة فيها، فحاول التحالف مع القيسية، ثم تحالف مع اليمنية وبهم انتصر، ولقد كان الداخل بعيد النظر حين علم أنه إن أراد إقامة دولة للإسلام فلا بُدَّ له من أن يقضي على العصبيات، وأن يتخذ لنفسه رجالاً لا عصبية لهم، فأكثر –رحمه الله- من اتخاذ الموالي، الذين صار لهم الشأن الأكبر في عهد الإمارة الأموية، بينما تراجعت رجالات العرب، وابتعدت عنهم المناصب، وصاروا في الدولة في مكانة تشريفية؛ يحضرون المجالس ويُقَدَّمون في المناسبات، وما إلى ذلك.

    وكذلك -أيضًا- فعل عبد الرحمن الناصر؛ فلقد أكثر من الاعتماد على البربر الذين عبروا إلى الأندلس من عدوة المغرب، ونستطيع أن نقول بأن نجاح الدولة الأندلسية كان من أهم أسبابه اختفاء العرب ذوي العصبيات من مناصب الحكم.

    وكذلك فعل ابن أبي عامر؛ فلقد كان البربر عُدَّته ورجاله، ولقد استكثر منهم، وضمهم إليه واستقوى بهم، وكان ابن أبي عامر قد تولى قضاء عدوة المغرب في أيام الحكم المستنصر، وساهم بذكائه وحسن سياسته في جعل أهم قبائل البربر المغربية -وهم بني برزال، وزعيمهم جعفر بن حمدون- يتخلَّوْن عن تحالفهم مع العبيديين (الفاطميين)، وينحازون بالولاء إلى قُرْطُبَة عاصمة الأمويين، وكان من نتائج هذا أن فقد العبيديين (الدولة الفاطمية) المغرب الذي خلص من بعد للأمويين[1].

    فالآن نحن أمام رجل ذكي موهوب، حسن السياسة، يتولَّى حكم الأندلس فعليًّا باسم الخليفة الغلام هشام المؤيد بالله، وصحيح أن الأندلس قد خلت من الرجال الأقوياء، الذين يبلغون منافسته في الحكم –اللهم إلا فارس الأندلس العظيم غالبًا الناصري، وهو صهره الآن وعلاقتهما طيبة وبينهما تحالف- إلاَّ أن هذه السياسة تجعله في خطر من بني أمية، الذين يرون الملك باسمهم، ولكن فعليًّا ليس بأيديهم، وكذلك المصحفيين الذين نُكبوا وزالت سطوتهم بزوال الحاجب جعفر المصحفي.

    وبعد قليل سيظهر في الأفق خصم شديد الخطر عظيم الذكاء، إنها صبح، أُمُّ الخليفة هشام، والتي سترى أن الخلافة تخرج من بين يدي ولدها، وأن ابن أبي عامر يُسيطر بنفسه على الأمور.

    مدينة الزاهرة



    كما أنشأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قُرْطُبَة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة ملوكية جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، بدأ في بنائها عام (368هـ)، وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في (370هـ)، نقل إليها الوزارات ودواوين الحُكم، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحُكم[2].

    وكان إنشاء هذه المدينة يُحَقِّق هدفين مهمين؛ الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، وحيث قصر الخليفة وأمه، ومن غير المأمون أن تُدَبَّر عليه مؤامرة بيد الأمويين أو مواليهم أو بعض فتيان القصر. والثاني: هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بشئون الدولة وإدارتها.

    قدوم جعفر بن حمدون

    استدعى ابن أبي عامر (في عام 370 هـ) فارس المغرب وزعيم بني برزال جعفر بن حمدون، وقد ذكرنا أنه قد كانت بينهما صلة قديمة منذ كان ابن أبي عامر قاضيًا في المغرب، فنزل جعفر إلى الأندلس وقربه ابن أبي عامر ورفع من قدره، ولا شَكَّ أن في هذه الخطوة تقوية لمركز وقوة ابن أبي عامر، فجعفر فارس كبير وشخصية قوية، ثم هو زعيم البربر الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيم منهم في كنفه، وأن يصير من رجال الدولة وفرسانها.

    إلاَّ أن هذا النزول وهذه النتائج لم تكن بالتي تغيب عن ذهن فارس الأندلس غالب الناصري، والذي رأى في وجود جعفر منافسة له، بل وربما تحديًا، يُثبت أن الدولة تستطيع الاستغناء عنه بغيره، وأنه لم يَعُدِ الوحيد المختص بجهاد العدوِّ، ولم يَعُد الدِّعامة التي يُستند إليها في مهمات الحرب الجليلة.

    ولا شَكَّ أن ابن أبي عامر استفاد من درس الماضي القريب؛ حين كان المصحفي في الحجابة، وثار العدو بثغور الأندلس فلم ينهض إليهم غالب لإحراج المصحفي ولإثبات مكانته من الدولة، فأحب أن يتجنَّب تكرار هذه الأزمة، وتورد بعض الروايات أن غالبًا كان بالفعل «يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويُباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدَّم لابن أبي عامر بها معرفة»[3].

    ومن ثَمَّ ساء الجوُّ بين غالب وابن أبي عامر.. ووقع الحدث الخطير، وهو تمرد غالب الناصري.

    تمرد غالب الناصري

    خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة أقامها بمدينة «أنتيسة» وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»[4]. ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.

    ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة وقد استُعلنت بينهما العداوة.

    جهز ابن أبي عامر جيشًا من قُرْطُبَة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش قُرْطُبَة، فأمده راميرو بجزء من جنده.

    ويستطيع المرء أن يتخيَّل السعادة التي حازها راميرو حينما يجد الفارس الكبير الذي أذله وبلاده كثيرًا في موقف المستنجد به، ولعلَّه أمَّل في أن يكون هذا بداية تحالف طويل بينهما.

    نهاية غالب الناصري

    التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب –الذي صار فارس المغرب والأندلس- جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.

    ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى -وربما الأخيرة- في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.

    رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، ولولا أنه وصل إلينا من رواية صحيحة ثابتة لما صدقه أحد من المؤرخين[5]، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.

    وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[6]، إلاَّ أن هذا الحادث المفاجئ أسفر عن تطور لم يتوقَّعْه أحد؛ إذ انحاز جيش غالب المسلم إلى جيش قُرْطُبَة فوقع جيش ليون في المأزق الكبير!

    بقي أن نذكر -قبل أن نتجاوز قصة تمرُّد غالب الناصري- أن بعض المؤرخين يتوقَّع أن من أسباب تمرُّد غالب الناصري ما قد يكون تحريضًا من صبح أم الخليفة الفتى، التي بدأت ترى أن الملك يذهب من بين يدي ولدها.

    غزو الممالك النصرانية

    استدار جيش ابن أبي عامر -الذي انحاز إليه جيش غالب- ليواجها جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية، التي استمرَّت بعدئذٍ سبعة وعشرين عامًا، وانتهت جميعها بالظفر للمسلمين.

    قصد ابن أبي عامر إلى مدينة سمورة –التابعة لمملكة ليون- ليُعاقب ملكها راميرو الثالث، وحاصرها واستولى على ما حولها، وفرت أمامه الجيوش، حتى طلب راميرو المساعدة من غرسية صاحب قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا، وسارت الجيوش المتحالفة إلى لقاء جيش المسلمين فهُزموا شرَّ هزيمة، ثم زحف الجيش الإسلامي في خطوة بالغة الشجاعة إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، إلاَّ أن نزول الشتاء والثلوج دفعا بالجيش إلى الرجوع دون إكمال فتح المدينة، فعاد الجيش إلى قُرْطُبَة، وكان ابن أبي عامر يحمل معه مفاجأة:

    الحاجب المنصور

    بعد عودة الجيش الإسلامي إلى قُرْطُبَة مكللا بهذا الظفر الكبير؛ القضاء على تمرُّد غالب الناصري، ثم هزيمة جيش ليون، ثم هزيمة جيوش النصارى المتحالفة، ثم الوصول إلى أبواب ليون، قام محمد بن أبي عامر (في سنة 371هـ=982م) باتخاذ لقب ملوكي، فلَقَّب نفسه بالحاجب المنصور، وقد كانت الألقاب من قبلُ عادة الخلفاء، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكُتب والرسائل[7].

    ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور (Al manzor).

    كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، وعلى المستوى الداخلي فاض الأمن والرخاء، وبلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة.

    وكانت الدولة العامرية تحت السلطان الكامل للحاجب المنصور، ويختفي تمامًا ذكر الخليفة هشام، الذي ظلَّ حبيس قصره الفاخر في الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا؛ لذا تختلف الروايات التاريخية إلى حدِّ التضارب في حاله؛ فمن رواياتٍ تذكر أنه كان منصرفًا للعبادة مقبلاً على العلم كثير الإنفاق على المحتاجين[8]، إلى رواياتٍ أخرى تقول بأنه كان منصرفًا إلى اللهو والعبث ومجالسة الجواري والاهتمام بالتفاهات[9]، إلى روايات أخرى تصفه بالذكاء والحكمة والمروءة[10]، إلاَّ أنه كان مغلوبًا على أمره، ليس بيده شيء يمكنه به استرجاع ملكه في ظلِّ السيطرة الكاملة والشاملة للمنصور على مقادير الأمور.

    بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد قام المنصور بن أبي عامر في سنة (381هـ=991م) بأمر لم يُعهد من قَبْلُ في تاريخ الأندلس؛ بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن يكون العهد بالخلافة، وأن يكون من الخليفة نفسه، ثم بعد خمس سنوات أي في سنة (386هـ= 996م) اتخذ لنفسه لقب الملك الكريم[11].


    [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/278، وتاريخ ابن خلدون، 4/147.
    [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/275، وتاريخ ابن خلدون، 4/148، والمقري: نفح الطيب، 1/578.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/278.
    [4] المقري: نفح الطيب، 3/91.
    [5] رواه الإمام الكبير ابن حزم عن أبيه الوزير شاهد العيان. ابن حزم: رسائل ابن حزم 2/94، 95. رسالة نقط العروس.
    [6] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص64.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/279.
    [8] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/253.
    [9] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، 1/194، 195.
    [10] ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/373.
    [11] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/293، 294.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    محمد بن أبي عامر .. الحاجب المنصور


    نشأة ابن أبي عامر



    هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد -رحمه الله، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، واستقرَّ بها، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وقد مات في مدينة طَرَابُلُس الغرب وهو عائد من أداء فريضة الحج، وأمه هي بُرَيْهَة بنت يحيى من قبيلة بني تميم العربية المعروفة.


    نشأ محمد بن أبي عامر في هذا البيت نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظافره، وقد سار على خطى أهله وسَلَك سبيل القضاء؛ فتعلَّم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قُرْطُبَة ليُكمل تعليمه.

    ابن أبي عامر في قصر الخلافة

    كان ابن أبي عامر ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد، وعمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق بن السليم، الذي رأى من نبوغه ما جعله يوصي به عند الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وكان من تصاريف القدر أن وَلدت صبح البشكنسية –جارية الخليفة الحكم المستنصر- ولدها الأول عبد الرحمن فطلب الحكم المستنصر وكيلاً لولده عبد الرحمن، يقوم على ولده ويرعاه، فرشَّح الحاجب المصحفي هذا الفتى النابه محمدَ بن أبي عامر لذلك، وأثنى عليه عند الحكم المستنصر، فولاه الحكم المستنصر وكالة ابنه عبد الرحمن بالفعل سنة (356هـ).

    وقد أُعجب الحكم المستنصر بأخلاق محمد بن أبي عامر، وذكائه ونباهته وحُسن تصرُّفه، كما بهره هذا النبوغ العلمي الذي يحوزه ذلك الشاب، ولقد كان الحكم –كما سبق- عالمًا وخبيرًا بالأنساب ومؤرخًا، فلا شَكَّ أن هذا كان من أهم أسباب تقريبه لابن أبي عامر وحبِّه إيَّاه.

    توفي عبد الرحمن طفلاً صغيرًا، ثم لم يلبث أن ولدت صبح ولدها الثاني هشامًا، فتولَّى وكالته -أيضًا- ابن أبي عامر سنة (359هـ)، ولم يلبث أن تدرَّج في المناصب العليا، فعُيِّنَ أمينًا لدار السكة، وكُلِّفَ بالنظر على الخزانة العامة وخُطة المواريث، ثم أصبح قاضيًا لإِشْبِيلِيَة ولبلة، ثم عَيَّنه مديرًا للشرطة الوسطى، ثم ولاَّه الأمانات بالعدوة، فاستصلحها واستمال أهلها، ثم عينه الحكم قاضي القضاة في بلاد الشمال الإفريقي، وأمر عماله وقوَّاده هناك ألا يقطعوا أمرًا إلاَّ بمشورته، ثم عينه الحكم المستنصر ناظرًا على الحشم وهو في مرض موته.

    ومن المدهش في أمر محمد بن أبي عامر أنه لم يتولَّ عملاً إلاَّ وأداره ببراعة وكفاءة فاقت براعة سالفيه، رغم أنه دونهم في السنِّ والخبرة، وأنه كانت تزيد عليه المناصب والتكاليف فيستطيع أن يجمع بينها مهما اختلفت وتكاثرت ويُبْدي –بعد كل هذا- مهارة فائقة في الإدارة والتصرف، رغم أن الدولة كانت في عصرها الذهبي؛ أي أن الأعمال كانت في الغاية من التفنن والدقة، وتتطلب خبرة وإتقانًا.
    وكان مما ساعد محمد بن أبي عامر على أن يصل إلى هذه المراتب العالية بهذه السرعة –بجانب هذه المواهب النادرة- أنه استطاع استمالة «صبح البشكنسية» أمَّ هشام المؤيد، وجارية الحكم المستنصر، بحُسن خدمته لها ولابنها، وسعة بذله في الهدايا التي كان يُهديها دائمًا إليها، فأتاها بأشياء لم يُعهد مثلها؛ حتى لقد صاغ قصرًا من فضة وقت ولايته السكة، وصرف فيه مالاً جسيمًا، حتى جاء بديعًا، لم تَرَ العيون أعجب منه ولا أحسن، ثم حُمل إليها من دار ابن أبي عامر؛ ليُشاهده الناس جميعًا، في مشهد لم يُعهد ولم يُرَ مثله من قبلُ.

    على أن الحكم المستنصر لم يكن غائبًا عن هذا كله، فيُحكى أن الحكم المستنصر ظنَّ أن محمد بن أبي عامر يُتلف مال السكة (وزارة المالية) المؤتَمن عليه، فأمره الحكم بأن يُحضر المال الذي عنده ليراه بنفسه، ويتأكَّد من كماله، ويُقال: إن ابن أبي عامر كان قد استهلك بعضًا من هذه الأموال؛ ولذلك ذهب إلى الوزير ابن حدير ليُسلفه المال الناقص -وكان صديقًا له- فأسلفه ابنُ حدير المال الناقص، فعرف الحكم أنه قد أساء به الظنَّ، وزاد إعجابُ الحكم بأمانة ابن أبي عامر وحُسن تدبيره، ورفع قدره عنده، وبمجرَّد أن تأكَّد الحكم من عدم نقصان المال، أعاد ابن أبي عامر إلى الوزير ابن حدير مالَه، وهو مع هذا كله يُحسن معاملة الحاجب (رئيس الوزراء) جعفر بن عثمان المصحفي ويُداريه[1]، ويطلب منه دائمًا النصح والمشورة[2].

    بعد وفاة الحكم المستنصر، وبعد القضاء على مؤامرة الصقالبة، ثم على قوة الصقالبة ونفوذهم في القصر، صفا الحال لحزب هشام بن الحكم المؤيد بالله، وهذا الحزب -كما سبق وقلنا- متمثِّل في الحاجب المصحفي، وأم الخليفة الصغير صبح البشكنسية، وهي الشخصية القوية في القصر، التي كانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده. ثم ابن أبي عامر الشخصية القوية التي تتولَّى العديد من الأعمال، والتي يتكئ عليها جعفر المصحفي في كل عمل مهم، وهو كذلك متصل بصبح باعتباره كان وكيلاً لولدها هشام –الذي هو الخليفة الآن- ثم تولَّى النظر على شئون الخاصة.

    بين محمد بن أبي عامر وصبح البشكنسية

    تذكر المصادر التاريخية أن حبًّا عظيمًا نشأ بين صبح وبين محمد بن أبي عامر، وأن هذا الحب كان ذا سهم كبير –بجانب كفاءة ابن أبي عامر- في ترقيه في مناصب الدولة، ثم في الأمور التي ستأتي فيما بعد، والحقُّ أن أمرًا كهذا لا يمكن القطع به على سبيل اليقين، وإن لم يكن مستبعدًا، فصبح شابَّة جارية كانت عند الخليفة الذي كان في مرحلة الكبر، بينما ابن أبي عامر شاب يشتعل ذكاء وحسنًا، ومقدرة على تصريف الأمور، ثم هو يتقرَّب إليها بين الحين والحين بالهدايا الفاخرة.

    إلاَّ أن كل هذا لا يدفعنا للتيقُّن من وجود هذا الحب، فضلاً عن أن ندخل فيما حرَّم الله -كما فعل البعض- فنتوقَّع ما وراء هذا مما يُجاوز الحلال إلى الحرام؛ ذلك أن كل ما حدث وما سيأتي يمكن أن يُفَسَّر في إطار المصلحة المشتركة؛ ابن أبي عامر لا عصبة له ولا عائلة يتكئ عليها، فلا بُدَّ له من وجود هشام في منصب الخليفة؛ ليبقى هو في مكانته من الدولة، وصبح جارية بشكنسية فلو لم يكن ولدها في منصب الخليفة لما كان لها شأن يُذْكَر، إلى جانب ما رُكِّب في الأُمِّ من غريزة حب الولد، التي تجعلها تجاهد ما استطاعت ليكون ولدها هو الخليفة سيد البلاد.

    ففي هذه اللحظة من تاريخ الأندلس كان في المشهد ثلاث شخصيات قوية: المصحفي الذي يتكئ على عصبته «المصحفيين»، وابن أبي عامر يتكئ على صبح والخليفة ومواهبه الفائفة، وصبح التي تتكئ على ولدها الخليفة وعلى ولاء محمد بن أبي عامر. ثم نُضيف إلى هؤلاء شخصية قوية رابعة ألا وهي شخصية فارس الأندلس الكبير وصاحب التاريخ الجهادي الزاهر غالب الناصري.

    وكان غالب الناصري لا يحب المصحفي، ولا يراه أهلاً لأن يكون شيخَ الموالي دونه؛ ذلك أن المصحفي ليس له سابقة جهاد ولا تاريخ، كما أنه معروف بالبخل، ولم يَتَرَفَّع في مناصب الدولة إلاَّ لأنه كان -قديمًا- مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا للخليفة الحكم لَمَّا كان ولي العهد، فلمَّا تولى الحكم الخلافة عَهِدَ إليه بمنصب الحجابة.

    هجمات النصارى على الأندلس



    ثم وقع بالأندلس حادث خطير؛ إذ ما أن علم نصارى الشمال بوفاة الحكم المستنصر، وجدوا الفرصة سانحة لنقض كلَّ ما كان بينهم وبينه من عهود ومواثيق، وشرعوا يُهاجمون الثغور الإسلامية هجمات عنيفة، بغرض الثأر من المسلمين وإضعافهم؛ فلا يجدون فرصة لاستجماع قواهم من جديد، ولا يجد حاكمهم الجديد -أيضًا- الفرصة لتوطيد مُلكه؛ فيستطيع من بعدُ أن يُوَجِّه لهم الضربات العنيفة التي اعتادوها في عهد الحكام الأقوياء؛ ومن هنا فقد اشتدَّت هجمات نصارى الشمال على الثغور الإسلامية، بل وتخطّوها حتى كادت حملاتهم تصل إلى قُرْطُبَة عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس.


    وكأنَّ ضعف الخليفة الصغير قد انسحب على رجال الدولة جميعًا، فلم يُقدم أحد على كفاح النصارى وردِّهم، ولا يجدون أحدًا يتقدَّم لهم؛ فغالب الناصري في مدينة سالم -وهي إحدى الثغور- يقول بأنه لا يستطيع ترك المدينة؛ وإلاَّ هوجمت. وبعض التحليلات تقول بأنه لم يشأ الخروج لملاقاة العدوِّ ليُحْرِج المصحفي، ويُثَبِّت قدره ومكانته في الدولة.

    والمصحفي متردد خائر الرأي، ليس له عزيمة، ولا يدري ماذا يفعل، وهو يجبن عن الخروج لملاقاة العدوِّ، بل بلغ به الأمر -بالرغم من قوة الجيش الذي تركه الحكم المستنصر، ووفرة المال والسلاح والعتاد- أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدِّ نهرهم؛ ظنًّا منه أن هذا قد يُنجيهم من ضربات النصارى المتلاحقة.

    وهكذا بدت هذه الدولة القوية وكأنما ستعاني وتسقط جراء خلافات رجالها، وصغر سن خليفتها، وضعف وتردُّد حاجبها ومتولِّي إدارتها.

    وهنا.. نهض للأمر محمد بن أبي عامر، الذي أَنِف من تصرُّف المصحفي، ووجد فيها إعلانًا بالضعف والصغار، وكأن البلاد قد خلت من الرجال، فلا يجدون رجلاً يقود الجيوش القوية الموجودة بالفعل، فيلجئون إلى هذه الخطة الدفاعية الذليلة التي تضرُّ، وقد لا تنفع، فعرض محمد بن أبي عامر على الحاجب جعفر المصحفي أن يقوم بتجهيز الجيش للجهاد في سبيل الله، ولكن لم يجد المصحفي رجلاً يقود الجيش، فلقد جبنوا، فضلاً عن استحالة أن يقوم هو بنفسه بقيادة الجيش؛ فليست له خبرة بالجهاد من قبل، فبادر لهذه القيادة ابن أبي عامر، وقام باختيار مَنْ يخرج معه من الرجال، واحتاج في تجهيزه للجيش لمائة ألف دينار، فاستكثر ذلك بعض الحاضرين، فقال له ابن أبي عامر: «خُذْ ضِعْفَها، وامض! وليحسنْ غَنَاؤُك». فبُهت المعترض وسكت.

    بروز نجم محمد بن أبي عامر

    استعدَّ ابن أبي عامر لهذه الغزوة أفضل استعداد، وقاد الجند، وأخذ معه المال، وسار في رجب سنة (366هـ) إلى الشمال، وهرب من أمامه جيش النصاري، ثم استطاع الاستيلاء على حصن الحامة وربضه، وعاد إلى قُرْطُبَة بعد اثنين وخمسين يومًا من خروجه إلى الغزو محملاً بالسبي والغنائم، ففرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزاد حبُّهم وتقديرهم له؛ إذ استطاع بشجاعته وإقدامه رفع الذلِّ والعار عنهم، وكذلك أحبه الجنود الذين كانوا معه؛ لِمَا رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وشجاعته في الحرب، فأحبوه والتفُّوا حوله، وزاد هو إحسانًا إليهم.
    وهكذا انتهت الغزوة الأولى لصالح المسلمين عامة، ولصالح ابن أبي عامر خاصة، ولم تفتر همة ابن أبي عامر بعد هذه الغزوة؛ بل سارع بهمة عالية إلى استغلال آثارها على كافَّة المستويات، وكانت هجمات النصارى التي تتابعت على الأندلس عقب موت الحكم، وسكوت غالب عن مواجهتها قد أضعفت مركز غالب بن عبد الرحمن وقَلَّلَتْ من شأنه.
    محمد بن أبي عامر وغالب الناصري

    عرف ابن أبي عامر ما في نفس غالب من العداوة للمصحفي، وبأنه يرى نفسه فوقه، ويُغضبه أن يكون المصحفي في الحجابة وفي مراتب الدولة، وهو الذي بلا تاريخ ولا سابقة، فسعى ابن أبي عامر للدفاع عن غالب عند الخليفة الصغير وأُمِّه، فرُفع بذلك قدره، وأُعطيَ لقب ذي الوزارتين، وأصبح هو وابن أبي عامر المسئولَيْنِ عن الإعداد للصوائف؛ فهو المسئول عن جيش الثغر، وابن أبي عامر المسئول عن جيش الحضرة (أي الجيش المكلف بالدفاع عن قُرْطُبَة)، وفي عيد الفطر من العام نفسه (366هـ) اتجه ابن أبي عامر بالجيش إلى الشمال، واجتمع ابن أبي عامر بغالب بن عبد الرحمن في مدينة مجريط (مدريد الآن)، واتجها بالجيش إلى قشتالة، وفتحا حصن مُولَة، وغنموا وسبوا كثيرًا، وكان غالب ورجاله قد أبلوا أحسن البلاء، حتى كانوا سببًا في هذا الفتح.

    وكان غالب قد أحب ابن أبي عامر لما رآه من مواهبه، أو لما رأى من سعيه للدفاع عنه ورَفْع قدره عند الخليفة وأمه، ودوره في أن يُلَقَّب بذي الوزارتين، أو لما كان من العداوة بينه وبين للمصحفي؛ فمن ثَمَّ رأى أن ابن أبي عامر أحق بالحجابة من المصحفي.

    أيًّا ما كان الأمر، لسبب مما سبق أو لكل هذه الأسباب معًا، فلقد توطَّدت العلاقة بين غالب الناصري ومحمد بن أبي عامر، إلى الحدِّ الذي تنازل فيه غالب عمَّا أبلاه وجنوده في الفتح، فنُسب ذلك كله إلى ابن أبي عامر، فأرسل الرسائل إلى قُرْطُبَة تُشيد بما كان منه ومن بطولته وجهاده، وعظم الفتح الذي تمَّ على يديه، ثم اتفقا على عزل المصحفي، ذلك الحاجب الضعيف المتردِّد الرأي، وقال غالب لمحمد بن أبي عامر: «سيظهر لك بهذا الفتح اسم عظيم وذِكْر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تُحدثه من قصة، فإيَّاك أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!»؛ لأن ابن جعفر المصحفي كان متوليًا لقُرْطُبَة العاصمة، وعَزْل هذا الوالي أول طريق عزل المصحفي عن الحجابة.

    عاد ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة ومعه الغنائم والسبي، فاستمال بهذا الفتح الكبيرِ العامةَ والخاصةَ، وعَرفوا فيه حُسن النقيبة، وبُعد الهمة، فما كاد يصل ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة حتى أمر الخليفة في اليوم نفسه بعزل محمد بن جعفر المصحفي عن مدينة قُرْطُبَة، وتولية ابن أبي عامر المدينة، فأظهر ابن أبي عامر في حُكم المدينة كفاءة منقطعة النظير؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي يصف ما قام به بالنسبة إلى فعل ابن المصحفي فيقول: «فضبط محمد المدينة ضبطًا أنسى أهل الحضرة (أي قُرْطُبَة) مَنْ سلف من أفراد الكُفَاة[3] وأُولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويُكابدون من روعات طُرَّاقه ما لا يُكابد أهل الثغور من العدوِّ. فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته، وتنزُّهه عما كان يُنسب لابن جعفر؛ فسدَّ باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والذعارات، حتى ارتفع البأس، وأَمِنَ الناس، وأمنت عادية المتجرِّمين من حاشية السلطان؛ حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة؛ فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدًا مبرحًا كان فيه حمامه[4]؛ فانقمع الشرُّ في أيامه جملة»[5].

    ولما رأى الحاجب جعفر المصحفي ما آل إليه أمر ابن أبي عامر من القوة، وما بدا من تضعضع قوته وانحسار نفوذه، بادر إلى استمالة غالب، فخطب ابنة غالب لابنه، وما أن علم ابن أبي عامر بالأمر، حتى أرسل إلى غالب يُناشده العهد، ويخطب ابنة غالب لنفسه، وسانده في ذلك أهل دار الخلافة، فخرج طلب خطبة أسماء إلى ابن أبي عامر من قصر الخلافة في الزهراء، وبهذا كان الميزان كله في صالح ابن أبي عامر، فوافق غالب على تزويج ابنته أسماء له، وتم عقد القران بالفعل في المحرم سنة (367هـ)، وعندها أيقن المصحفي بالنكبة، وكفَّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء، وانفضَّ الناس عن المصحفي، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قُرْطُبَة ويروح وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها.

    نهاية جعفر المصحفي

    وبعد أن تمَّ عقد قران ابن أبي عامر على أسماء ابنة غالب، خرج ابن أبي عامر في غزوته الثالثة، فخرج إلى طليطلة في غرَّة صفر 367هـ، واجتمع مع صهره غالب، ونهضا معًا إلى الشمال النصراني، فافتتحا حصن المال، وحصن زنبق، ودخلا مدينة شلمنقة، واستولوا على أرباضها، ثم عاد ابن أبي عامر بالغنائم والسبي، وبعدد كبير من رءوس النصارى، بعد أربعة وثلاثين يومًا من خروجه، فزادت حفاوة الخليفة به، وقلده خُطَّة الوزارتين للتسوية بينه وبين صهره، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارًا في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك الوقت، ثم زُفت أسماء بنت غالب إلى محمد بن أبي عامر في ليلة النيروز من قصر الخليفة في عرس لا مثيل له في الأندلس، ثم قلَّده الخليفة خُطَّة الحجابة إلى جانب جعفر المصحفي، ثم تغيَّر الخليفةُ على جعفر وسخط عليه، وأمر بعزله هو وأولاده وأقاربه عن أعمالهم في الدولة، والقبض عليهم، فسارع محمد بن أبي عامر إلى محاسبتهم حتى استصفى كل أموالهم، ومزَّقهم كل ممزق، وأيقن جعفر المصحفي بأنه هالك لا محالة، فحاول استرضاء ابن أبي عامر إلاَّ أن ذلك لم يُجْدِ شيئًا، حتى توفي سنة (372هـ) في سجنه، وقيل: قُتل. وقيل: دست إليه شربة فيها سُمّ[6].

    ويُعلِّق ابن حيان على ما آل إليه أمر جعفر المصحفي فيقول: «وكانت لله عند جعفر في إيثاره هشامًا بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظِّ دنياه، وتسرُّعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسُلط عليه مَنْ كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه»[7].


    [1] دارى: أي لاينه ورفق به، وأحسن صحبته واحتماله له؛ لئلاَّ ينفر منه. ابن منظور: لسان العرب، مادة درى 14/254.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/،256 وما بعدها بتصرف.
    [3] الكُفاة: الخدم الذين يقومون بالخدمة؛ جمع كافٍ. ابن منظور: لسان العرب، مادة كفى 15/226.
    [4] أي مات من الجلد، وكان قد جلده في حد شرب الخمر.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/266.
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/264، بتصرف.
    [7] انظر: ابن بسام: الذخيرة 7/65.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    خلافة هشام المؤيد


    استخلاف هشام المؤيد



    بالرغم من أن الحكم المستنصر كان من أفضل حكَّام الأندلس إلاَّ أنه في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا؛ فقد أُصيب في آخر أيامه بالفالج (بالشلل)، فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم (هشام المؤيد) وعمره آنذاك عشرة أعوام فقط[1]، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة العبيدية (الدولة الفاطمية) في الجنوب، وكل ممالك أوربا متربِّصة للكيد لهذه القوة العظيمة وهزيمتها.


    وهي بلا شكٍّ زلَّة خطيرة من الحكم بن عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان عليه أن ينتقي مَنْ يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويُوَلِّي رجلاً آخر من بني أمية؛ يستطيع أن يقوم بأعباء حُكم دولة قوية، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
    وقد توفي الحكم المستنصر سنة (366هـ=976م)، مستخلفًا على الحُكم من بعده ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم (هشام المؤيد)، وكان في القصر حزبان قويان؛ هما: الفتيان الصقالبة من جهة، ومن الجهة الأخرى الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومعه قائد الشرطة القوي والناظر على شئون الخليفة ومتولي أمره محمد بن أبي عامر، ومن وراء هذا الحزب أم الخليفة صبح البشكنسية، التي كانت أقوى شخصية في هذا الحزب في تلك اللحظة، وهي بشكنسية الأصل (نافارية)، وكانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده.

    مؤامرة الفتيان الصقالبة



    كان من عادة أمراء بني أمية الاستكثار من الفتيان الصقالبة، والاعتماد عليهم في أعمال القصر وأمورهم الخاصة، وقد سار عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر على هذا النهج، فزاد عدد الفتيان الصقالبة في عهدهم، وبلغ عدد العاملين منهم في القصر فقط في نهاية عهد الحكم المستنصر أكثر من ألف فتى، فاتَّسع نفوذهم، وأصبحوا قوة لا يُستهان بها لكثرتهم، ولقُربهم من الخليفة، ولاعتماد الخليفة عليهم في أعمال مهمة كحراسته شخصيًّا، وما إلى ذلك من أعمال تمرَّسُوا فيها بمرور الوقت دون غيرهم، حتى ظنُّوا أن المُلْكَ بأيديهم، وأن لا غالب لهم.


    وكان كبير الفتيان الصقالبة الفتى فائق، ويليه في المرتبة والمكانة الفتى جؤذر، فلما مات الحكم المستنصر كتم هذان الفتيان خبر موته، وضبطوا أمور القصر وسَيَّرُوها كأنْ لم يحدث شيء، وعقدا العزم على صرف أمر الخلافة عن هشام المؤيد لصغر سِنِّه، ولمعرفتهم أن الحاكم الفعلي سيكون حزب المصحفي وابن أبي عامر وصبح، فعزموا على نَقْلِ الخلافة إلى أخي الحكم المستنصر المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فيكون لهما نتيجةً لذلك فضل على المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، ويَتَّسع نفوذهما ونفوذ أتباعهما.

    جلس الفتيان فائق وجؤذر يضعان الخطة لتنفيذ فكرتهما، فأشار جؤذر بقتل الحاجب المصحفي، فبذلك يتمُّ لهم الأمر، فلم يرض فائق بهذا، وأشار بأن يأتوا بالحاجب فيُخَيِّروه بين الموافقة أو القتل، فأرسلا إلى جعفر الحاجب، ونعوا إليه الحكم المستنصر، وأخبراه بما ينويان به من صرف الأمر إلى المغيرة أخي الحكم لصغر سن هشام، فأدرك الحاجب التهديد الكامن وراء الكلام، فأظهر الموافقة وقال: هذا والله! أَسَدُّ رأي وأوفق عمل؛ والأمر أمركما، وأنا وغيري فيه تبع لكما، فاعزما على ما أردتما، واستعينا بمشورة المشيخة؛ فهي أنفى للخلاف، وأنا أسير إلى الباب (أي القصر)، فأضبطه بنفسي، وأنفذا أمركما إليَّ بما شئتما.

    وبادر بالفعل إلى ضبط أبواب القصر لكي لا ينتشر الخبر، ثم سارع إلى طلب كبار رجال الدولة من العرب والبربر، وكان منهم محمد بن أبي عامر، كما أمر بإحضار أتباعه وشيعته، ونعى إليهم الخليفة، وأخبرهم بخطة الفتيان الصقالبة في تحويل أمر الخلافة إلى المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلاً من هشام بن الحكم، ثم عَرَّفهم أضرار ذلك فقال: «إن حَبَسْنَا الدولة على هشام، أَمِنَّا على أنفسنا، وصارت الدنيا في أيدينا، وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده». فأشاروا عليه بقتل المغيرة بن عبد الرحمن، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على التقدُّم لتنفيذ هذا الأمر.
    فلما رأى ابن أبي عامر ذلك، سارع هو بتنفيذ هذه المهمة؛ حرصًا منه عليهم، واتباعًا لجعفر بن عثمان، فأُعجبوا به، وزاد تقديرهم له، وقال له جعفر: أنت أحقُّ بتولِّي كِبْرَه لخاصَّتك بالخليفة هشام ومحلك من الدولة. ثم أرسل معه فرقة من الجنود فذهبوا من فورهم إلى دار المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فأحاطوا بالدار من جميع جوانبها، ودخل عليه ببعض هؤلاء الجنود، ولم يكن قد علم بخبر وفاة أخيه، فنعاه ابن أبي عامر إليه، وأخبره بأن الوزراء قد خشوا أن يخرج المغيرة على بيعة هشام، فأرسلوه إليه ليمتحنه، وليتأكَّد من صدق ولائه لابن أخيه، وبقائه على بيعته، فذُعِر المغيرة ثم استرجع عليه، واستبشر بملك ابن أخيه، وقال: «أَعْلِمْهم أني سامع مطيع وافٍ ببيعتي؛ فتوثَّقُوا مني كيف شئتم». وأقبل يستلطف ابن أبي عامر، ويناشده الله في دمه، ويسأله المراجعة في أمره، حتى رقَّ له ابن أبي عامر، فأرسل إلى جعفر المصحفي يصف له أمر المغيرة، ويطمئنه بأنه سامع مطيع، وكان جعفر وأصحابه قد عزموا على التخَلُّص من المغيرة أيًّا كان موقفه؛ مبالغة في تأمين الخلافة، فلما رأى جعفر رغبة ابن أبي عامر في ترك المغيرة حيًّا، أرسل إليه بلومه على التأخير، ويقول له: غررتنا من نفسك؛ فانْفُذْ لشأنك أو فانصرف نرسل سواك.

    فعلم ابن أبي عامر أن لا سبيل لنجاة المغيرة، واستفزَّت كلمات جعفرٍ ابنَ أبي عامر، فأمر بالمغيرة فقُتل خنقًا أمام حريمه، ثم عَلَّقُوا جثمانه على هيئة المشنوق، ليقولوا مِنْ بعدُ: إنه قتل نفسه لَمَّا أكرهوه على الركوب لابن أخيه لمبايعته. وكانت سنه يوم قُتل سبعًا وعشرين سنة[2].

    هل كان المغيرة طرفًا في مؤامرة الفتيان الصقالبة؟

    حتى باعتبار أن الحكم المستنصر أخطأ حين عهد بولاية العهد لابنه الصغير، ففي عُرْفِ ذلك الزمان أن الولد قد تمت له بيعة شرعية، وأن الخروج على هذه البيعة هو خروج على الوالي الشرعي، ولقد كان المغيرة فتى بني أمية ومن المؤهلين لتولي الخلافة، ووردت عبارة لابن بسام في الذخيرة تُفيد بأنه كان يتأهَّب للانقلاب على ابن أخيه، قال: «وكان فتى القوم كرمًا ورجلة، وممن أُشير نحوه بالأمر بأسباب باطنة، فأخذ له أهبته»[3].

    كما بدا في كلمة المصحفي: «وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده»، أن له عداوة سابقة مع المصحفيين، وهم رجال دولة الحكم، فهذا دليل آخر على أن الرجل لم يكن بعيدًا عن صراعات القصر وأطرافه.

    ونحن لا نتوقَّع أن يكون الفتيان الصقالبة من السذاجة بحيث إنهم يُدَبِّرون لصرف الأمر إلى المغيرة إلاَّ لو كانوا على سابق اتفاق معه، فليس من طبائع الأمور أنهم سيدبرون لهذا الأمر دون أن يتم تواصل مع الرجل الذي يُريدون تنصيبه خليفة؟
    ولهذا، فنحن نميل إلى القول بأن المغيرة كان ينوي الانقلاب على ابن أخيه، إلاَّ أن المصحفي –وقد كان يملك أمر الدولة- كان أسرع إليه من خبر وفاة أخيه الحكم، فوصل إليه ابن أبي عامر ومجموعته وهو آمن.

    لا شَكَّ أن مصلحة المصحفي كانت في تصفية المغيرة وإغلاق هذا الملف كله؛ فيضمنون انتهاء مؤامرة الصقالبة، وانتهاء الرجل القوي الذي قد ينازع بعدئذٍ في منصب الخلافة، ويقود الخروج على ابن أخيه، ولا شَكَّ أن المغيرة حين رأى ابن أبي عامر ومجموعته أيقن بالهلاك، فحاول بكل ما أطاق استنقاذ نفسه، ولا شَكَّ -أيضًا- أن المصحفي حين بلغه رجاء ابن أبي عامر ألا يقتل المغيرة لأنه أعلن الطاعة قدَّر في رأسه هذا المعنى، وأنه لو تُرِك المغيرة حيًّا فإنه سيكون أشد نقمة على المصحفي وجماعته بعد هذا الموقف؛ فلقد كانوا على وشك قتله، فرأي المصحفي أن يُغلق هذا الباب كله، وأرسل إلى ابن أبي عامر الذي صَدَع بالأمر وما كان له –في هذه اللحظة- أن يفعل إلاَّ هذا، ولو لم يرضَ به.

    وتميل بعض التحليلات الأخرى إلى أن المغيرة لم يكن على علم بمؤامرة الصقالبة، ولا كان ينوي الخروج؛ إذ لم تبدُ من بادرة نحو هذا، وأن مقتله لم يكن إلاَّ نتيجة مؤامرات لم يكن هو طرفًا فيها، ولكن كانت مصلحة المصحفي في قتله ليصفو له الأمر.

    المؤامرات بين الصقالبة وجعفر المصحفي

    عاد ابن أبي عامر إلى جعفر يُبَشِّره بتصفية المغيرة، ففرح بذلك، وقرَّب ابن أبي عامر إليه، فلمَّا بلغ الأمر لفائق وجؤذر سُقِطَ في أيديهم، وأخذا يتلاومان، ثم أرسلا إلى جعفر يعتذران إليه، ويقولان له: إنَّ الجزع أذهلنا عمَّا أرشدك الله إليه، فجزاك الله عن ابن مولانا خيرًا، وعن دولتنا وعن المسلمين. وأظهرا له القبول والاستبشار، فأظهر الحاجب جعفر -أيضًا- لهما قبول عذرهما، وعدم التثريب عليهما، غير أن العداوة قد استعلنت بين الطرفين: الصقالبة من جهة، وحزب هشام من جهة أخرى، فبقي الحاجب جعفر على حذر شديد من الصقالبة كلهم، ونَشَرَ بينهم العيون والجواسيس، وظلَّ في انتظار الفرصة المناسبة لتمزيقهم وتشتيت جمعهم، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك.

    بلغ المصحفي أن فائقًا وجؤذرًا يتآمران مع بعض أتباعهما من الصقالبة في داخل القصر وخارجه؛ لتنحية هشام عن الملك، فشدَّد الحاجب الرقابة على الصقالبة، وأمر بسدِّ الباب المخصَّص لهم في القصر، وأن يكون دخولهم وخروجهم من بعدُ من باب السدَّة مع باقي الناس، ثم تفاهم مع ابن أبي عامر على أن يُلحق بعضهم بحاشيته، فاستجاب له ابن أبي عامر، فانتقل خمسمائة منهم إلى حاشية ابن أبي عامر، فعمل ابن أبي عامر على استرضائهم، وقويت بهم شوكته من بعدُ.

    فشعر مَنْ بقي من الصقالبة بأن أمرًا ما يُحَاك ضدَّهم، فسَعَوْا للضغط على الحاجب جعفر، فأعلن الفتى جؤذر رغبته في الاستعفاء من عمله، وكان يظنُّ أن له مكانة في القصر، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، إلاَّ أن استقالته قد قُبلت بالفعل في رسالة واضحة لمَنْ بقي منهم، أنهم لا يُمَثِّلون الأهمية الكبيرة التي يظنونها لأنفسهم، فزاد تذمُّرهم وسخطهم على الدولة، وكان أكثرهم جسارة في ذلك فتى اسمه دري، وكان جاهلاً متمردًا، فحرَّك الحاجب جعفرٌ المصحفي رجلَه القوي الذكي ابنَ أبي عامر للتخلص منه، فأوعز ابن أبي عامر لمن تحت قيادة الفتى دري بأن يشتكوا جوره وظلمه لهم؛ لكي يُخَلِّصهم منه، فسارعوا إلى ذلك.

    ورفع الحاجب جعفر أمر ذلك إلى هشام المؤيد، فأمر بجمع دري والمتظلمين منه والتحقيق معهم، فاستدعاهم ابن أبي عامر إلى دار الوزارة للتحقيق معهم، فلما أقبل دري على دار الوزارة، أحسَّ بالشرِّ فَهَمَّ بالرجوع فاعترضه ابن أبي عامر وقبض عليه، فأساء دري إليه وتشاجر معه، وجذبه من لحيته، فقُبِض عليه ثم حُمِلَ إلى داره، وقُتل في تلك الليلة، ثم عمد إلى باقي الفتيان الصقالبة فأمرهم بمغادرة القصر إلى دورهم، وأن يلزموها ولا يخرجوا منها، فلما تمَّ له ذلك، اشتدَّ في مطاردتهم، وأخذ أموالهم؛ حتى لا يُفَكِّروا في العودة إلى التآمر على الدولة، ونفى فائقًا إلى الجزائر الشرقية (جزر البليار حاليًا) فبقي بها حتى مات، وبذلك استأصلوا شوكة الفتيان الصقالبة، وأَمِنُوا مكرهم[4].



    [1] ذكر ابن عذاري في البيان المغرب 2/253 أنه بلغ إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر، في حين ذكر ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص44 أنه تولَّى وهو ابن عشر سنين، وقال المقري في نفح الطيب 1/396 أنه تولى وهو ابن تسع سنين.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/295 وما بعدها، بتصرف.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 7/58.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/295، وما بعدها بتصرف.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الحكم المستنصر .. الخليفة المجاهد

    توسعات الحكم المستنصر



    ظنَّت الممالك الإسبانية النصرانية في الشمال أن وفاة عبد الرحمن الناصر ستؤثِّر كثيرًا على الأندلس، وأن الأندلس لن يكون بعد وفاة عبد الرحمن الناصر كما كان قبل وفاته، وربما ظنُّوا أن هذه الثورات التي استطاع عبد الرحمن الناصر إخمادها في أول عهده، لن تلبث أن تعود من جديد بعد موته؛ لذلك استهانوا بالحكم المستنصر، فهو في بداية عهده، وهو في أمسِّ الحاجة لاستقرار أحوال بلاده في هذه الفترة؛ حتى يقوى مُلكه، أو هكذا ظنُّوا، فسارع سانشو - كما ذكرنا - إلى نقض العهد الذي كان بينه وبين عبد الرحمن الناصر، ثم عاد ونقض عهده مع المستنصر، في حين أبت نافار تسليم فرنان كونثالث زعيم قشتالة، الذي هاجم الثغور الإسلامية أكثر من مرَّة، فرأى الحكم أنه لا بُدَّ من تأديب نصارى الشمال؛ على كل ما فعلوا ويفعلون، وبالفعل أعَدَّ جيشًا قويًّا وغزا به الممالك النصرانية في الشمال سنة (351هـ)، وفتح حصونًا كثيرة، وقتل وغنم وسبى، ثم رجع ظافرًا[1].

    ثم عاد وجَهَّز جيشًا قويًّا في العام التالي سنة (352هـ) أرعب النصارى، وحملهم - رغم ما بينهم من عداوات- على الاتحاد لمواجهة القوات الإسلامية، ثم غزا الحكم بهذا الجيش الممالك الصليبية الثلاث في الشمال، ومزَّق به جيوشهم شَرَّ ممزق، واضطرهم إلى طلب الصلح والإذعان للمسلمين
    [2]، بل وتمسكوا -على عادة الأمم الضعيفة التي لا تملك الدفاع عن نفسها- بعلاقات السلام مع الحكم المستنصر، وظَلَّت وفودهم تأتي من عام إلى آخر تطلب تجديد الصلح مع الحكم المستنصر، أو تطلب منه التحالف معه في مقابل الدخول في طاعته[3].


    غزو الفايكنج لسواحل الأندلس


    استطاع الحكم المستنصر بهذه الهمة العالية أن يطأ أرض نصارى الشمال، وأن يُخضعهم، وأن يحملهم على اليأس من أن ينالوا منه شيئًا، وهذا ما اضطرهم إلى الحفاظ على حالة السلم بينهم وبين الحكم المستنصر، ولكن هذه الحالة من الرخاء والسلام لم تستمرّ طويلاً، بل لعلَّ هذا الرخاء قد أغرى أقوامًا آخرين بالأندلس؛ فهجمت على السواحل الغربية للأندلس سنة (355هـ) عصابات الفايكنج الذين هاجموا الأندلس من قبلُ في عهد عبد الرحمن الأوسط، واستطاع عبد الرحمن الأوسط رَدَّهم عن الأندلس مهزومين، وشرع في تحصين إِشْبِيلِيَة -كما ذكرنا من قبل- ولكن يبدو أن حالة الرخاء التي وصل إليها المجتمع في ذلك الوقت قد أنستهم هذه الهزائم القديمة، وأغرتهم بأن يُعيدوا الكَرَّة من جديد، فهاجموا السواحل الأندلسية الغربية بثمانية وعشرين مركبًا، وبدءوا يعيثون فيها فسادًا؛ فخرج إليهم المسلمون ودارت بينهم معارك شديدة، قُتل فيها عدد من الطرفين، وأَرسلت هذه المناطق رسائل إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة، تُخبره بما حدث وتطلب منه العون والنجدة، فسارع بأمر الأسطول بالتحرُّك إلى نجدة المسلمين، وبالفعل دارت بين الأسطول وبينهم معارك شديدة هزمهم المسلمون فيها، وحطموا عددًا من مراكبهم، واستطاعوا رَدَّهم عن السواحل الأندلسية خائبين خاسرين، بعدما خَلَّصُوا مَنْ معهم من أسرى المسلمين، وظَلَّت سفنهم -التي بقيت لهم بعد هذه المعركة- تجوب المياه الغربية للأندلس فترة، لم يجرءوا فيها على مهاجمة الأندلس، ثم اختفوا بعد ذلك
    [4].

    وبعد ذلك شُغل الحكم المستنصر بأمر الشمال الإفريقي، وإخضاعه لسلطانه، وبين هذا وذاك كان الحكم مهتمًّا بنشر العلم والتعليم، وإقامة هذا الصرح الحضاري العظيم في الأندلس، حتى توفي سنة (660هـ) بعدما أخذ البيعة لابنه هشام، وهو لا يزال طفلاً.



    [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/234.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/236، وتاريخ ابن خلدون، 4/144، 145.
    [3] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/145.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/239، وتاريخ ابن خلدون: 1/246.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المشهد الصليبي في عهد الحكم المستنصر


    مملكة ليون



    كان سانشو ملك ليون قد لجأ مع جدته طوطة ملكة نافار إلى عبد الرحمن الناصر ليُساعده على اعتلاء عرش ليون من جديد، بعدما عزله أشراف ليون عن الحكم، ووَلَّوا بدلاً منه ابن عمه أردونيو الرديء -كما ذكرنا من قبل- وقد أحسن الناصر استقبالهم، ووعدهم بالمساعدة، وأرسل طبيبًا يهوديًّا إلى سانشو ليُعالجه من بدانته المفرطة، وكذلك أمدَّ سانشو بالمال والرجال؛ ليُساعدوه على أن يعود لعرشه، في مقابل تسليم بعض الحصون على حدودهم مع الأراضي الإسلامية، وأن يهدموا حصونًا أخرى، وبالفعل عاد سانشو إلى الحُكم بمساعدة عبد الرحمن الناصر، وهرب أردونيو الرابع (الرديء) إلى برغش في قشتالة.

    ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بوعوده التي قطعها لعبد الرحمن الناصر، فلم يهدم الحصون التي اتفقا على هدمها، كما لم يُسَلِّم المسلمين ما اتفق على تسليمه لهم من حصون أخرى، ولم يكن هذا ذكاء من سانشو؛ إذ إن أردونيو الرابع لم يزل على قيد الحياة، وسيحاول هو الآخر أن يعود إلى العرش كما حاول سانشو، فلم يكن من الصواب أن يُعادي سانشو المسلمين، بأن يتنكَّر لعهوده معهم على هذا النحو.


    وبالفعل استغلَّ أردونيو هذا التطور الجديد في علاقة ليون مع المسلمين، وذهب إلى الحكم المستنصر يستنجد به، ويطلب التحالف معه؛ ليساعده على أن يعود إلى عرشه، فأحسن الحكم استقباله، ووعده بالنصرة والمساعدة، فلمَّا علم سانشو بما عزم عليه الخليفة الحكم المستنصر من مساعدة خصمه وعدوِّه، أرسل إلى الخليفة المستنصر وفدًا من أشراف ليون وأحبارها يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهَّد به لعبد الرحمن الناصر من قبل، فيهدم الحصون التي كان يجب أن يهدمها ويُسَلِّم المسلمين الحصون الأخرى.


    ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، فعاد سانشو ونكث بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، فعزم المستنصر على تأديبه، وبدأ يستعدُّ لمواجهة ليون عسكريًّا، فخاف النصارى من أثر ذلك عليهم، وقرَّرُوا أن يتحدوا لمواجهة المسلمين، وكان الكونت فرنان كونثالث قد أعلن قبل ذلك بقليل استقلاله بقشتالة عن ليون، وكانت العداوة قائمة بينه وبين سانشو ملك ليون، ولكن خوفهم من المسلمين أرغمهم على أن يتَّحدوا معًا لمقاومة الضربة الإسلامية القادمة.


    جهاد الحكم المستنصر ضد النصارى


    تحالف سانشو مع فرنان كونثالث أمير قشتالة، ومع غرسية سانشيز ملك نافار، ومع كونت بَرْشُلُونَة، وتأهَّبوا جميعًا لصدِّ الهجوم الإسلامي الوشيك.


    وخرج الحكم المستنصر على رأس صائفة عام (352هـ= 963م) معلنًا الجهاد، فاجتاحت الجيوش الإسلامية أراضي قشتالة ومَزَّقت جيوشها شَرَّ ممزَّق في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمت فرنان كونثالث، وسانشو على طلب الصلح، ثم اجتاحت الجيوش الإسلامية غربي مملكة نافار؛ عقابًا لملكها على نكثه بعهوده مع المسلمين وإغارته على أراضيهم، ثم توالت غارات المسلمين على أراضي قشتالة ما بين سنتي 963م، و967م.


    مؤامرات داخلية في الممالك النصرانية


    وقد تسببت الصراعات الداخلية على الحُكم في مملكة ليون، والصراعات الخارجية مع المسلمين وغيرهم في ضعف سلطان ليون في الداخل والخارج، فكثرت ثورات الزعماء والأشراف على سانشو، وكان من أشدِّ هؤلاء الثوار من الأشراف الكونت جوندسالفو سانشيز حاكم جِلِّيقِيَّة، وكان قد استطاع أن يُوَطِّد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على ثلاث قواعد مهمة؛ هي: لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته وجد الزعيم الثائر قد أرسل إليه يعرض عليه التسليم والدخول في طاعته، ثم دعاه إلى لقائه، فقبل سانشو وذهب إليه، فغدر به حاكم جِلِّيقِيَّة بأن دعاه إلى مأدبة طعام، وقدَّم إليه فاكهة مسمومة، فأكل منها سانشو، وسرعان ما شعر بآثار السمِّ تسري في جسده، فحُمل في الحال إلى ليون، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودُفن بها سنة (966م).


    وتولَّى من بعد سانشو ابنه راميرو الثالث، وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتولَّت الوصاية عليه عمته الراهبة إلبيرة، ولكن ذلك لم يَرُقْ لمعظم أشراف ليون، فأبوا الاعتراف بسلطانه، ونشبت نتيجة لذلك عددٌ من الثورات المحلية، وأعلن كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وكان مَثَلُ فرنان كونثالث في الانفصال بقشتالة أقوى مشجِّع لهم على ذلك، وكانت أخطر الثورات هي ثورة جوندسالفو سانشيز قاتل سانشو؛ حيث استمرَّ على استقلاله بحكم جِلِّيقِيَّة، وحكم القواعد الثلاثة المهمة لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.


    وفي خلال ذلك توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة عام (970م)، وخلفه على قشتالة ابنه غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار، وخلفه ابنه سانشو غرسية الثاني.


    سفارة نصرانية إلى الحكم المستنصر


    وقد تسبَّبت هذه الأحداث والاضطرابات الداخلية في الممالك النصرانية في أن تلتزم هذه الممالك الهدوء تجاه المسلمين حينًا من الزمن دون أن تحاول الاعتداء عليهم؛ بل اتجه الملوك والأمراء النصارى إلى تحسين علاقاتهم بالمسلمين؛ فتوالت زياراتهم وسفاراتهم على الحكم المستنصر يطلبون منه الصلح والمهادنة.


    فوفد أمير جِلِّيقِيَّة، وأمير أشتوريش، ثم وفدت رُسل غرسية ملك نافار، وهم جماعة من القوامس (الكونتات) والأساقفة يسألون الصلح، فأجابهم الحكم إلى ما طلبوا، وأرسل أمير بَرْشُلُونَة كذلك بسفارة إلى الحكم في شعبان سنة 360هـ=يونيو 971م؛ لتجديد المودَّة والصداقة، وكان مع السفارة ثلاثون أسيرًا مسلمًا كانوا محتجزين في بَرْشُلُونَة، كما وفدت الراهبة إلبيرة الوصية على ملك ليون تطلب السلم، فاستقبلها الحكم استقبالاً حافلاً، وأجابها إلى ما تطلب من السلم، كما وفدت سفارات أخرى من غرسية فرناندز أمير قشتالة، وفرنان لينيز أمير شلمنقة.. وغيرهم.


    وكانت هذه السفارات في معظمها لطلب السلم والمودَّة مع الحكم المستنصر، وأحيانًا كانت لتقديم الطاعة وطلب العون.




    استقلال قشتالة


    كان عبد الرحمن الناصر قد تدخَّل لإعادة سانشو إلى العرش -كما ذكرنا- فاستغلَّ فرنان كونثالث هذا الصراع على الحُكم داخل مملكة ليون، وأعلن استقلاله بقشتالة عن مملكة ليون، وسعيًا منه إلى توسيع أملاكه وتوطيد حكمه أخذ يُغِيرُ على أراضي المسلمين من وقت لآخر؛ حيث كان نزوله إلى ميدان مقاومة المسلمين ومحاولة إضعافهم سبيلاً -في ذلك الوقت- إلى تدعيم هيبته في نفوس النصارى، واجتذاب عطفهم ومحبتهم، كما أنه بذلك يُوَطِّد سلطانه في مواجهة ملك ليون، الذي لم يَعُدْ إلى هذا المكان إلاَّ بدعمٍ من عبد الرحمن الناصر العدوِّ اللدود للنصارى الإسبان.


    ومنذ ذلك الوقت بدأت قشتالة تحتلُّ مكانها في تاريخ الكفاح بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة، وتغدو -بالرغم من نشأتها المتواضعة- شيئًا فشيئًا أعظم الممالك النصرانية رقعة، وأوفرها قوة ومنعة، وأشدها مراسًا في محاربة المسلمين، وإنهاك قواهم.


    مملكة نافار




    كانت العلاقات قد اضطربت بين قشتالة وبين نافار في آخر حياة عبد الرحمن الناصر، ودارت رحى حرب شديدة بين الطرفين انتهت بهزيمة قشتالة، وأَسْرِ قائدها الكونت فرنان كونثالث، فلما توفي عبد الرحمن الناصر، وتولَّى من بعده ابنه الحكم المستنصر، طالب ملك نافار بتسليمه فرنان كونثالث، إلاَّ أن ملك نافار رفض أمر الحكم، بل زاد فأطلق فرنان كونثالث من أسره.

    ثم اتحدَّ النصارى لمواجهة المسلمين عسكريًّا، بعدما رفض سانشو تنفيذ ما تعهَّد به للمسلمين، ودخلت الجيوش الإسلامية غرب نافار وعاثت فيها -كما تقدَّم- وظلَّ غرسية سانشيز في الحُكم حتى سنة (970م)، واستمرَّت أُمُّه الملكة طوطة محتفظة بإشرافها عليه، ومشاركتها الفعلية في الحكم حتى وفاتها سنة (690م)
    [1].


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/594، بتصرف.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الحكم المستنصر وشمال أفريقيا

    علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي



    مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.


    غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.

    وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.

    سياسة الحكم المستنصر

    كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.

    وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].

    فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].

    وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.



    وكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.


    ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].

    وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].

    وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.

    أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.

    وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.

    واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/242.
    [2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
    [3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
    [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
    [6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
    [7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الحكم المستنصر .. الخليفة الأموي

    خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)



    استخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.


    المكتبة الأموية في قرطبة

    يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].

    أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.

    وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!

    وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].

    ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].

    كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].

    علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر

    أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م):

    نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.

    وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
    أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ

    وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
    وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً

    إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
    وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا

    أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]

    ابن القوطية

    وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.

    لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].

    كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.

    وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
    مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ

    وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
    قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
    مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ

    وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
    قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].


    [1] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/194.
    [2] الخطيب: أعمال الأعلام، ص41.
    [3] المصدر السابق، ص42.
    [4] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/146، والمقري: نفح الطيب، 1/386.
    [5] تاريخ ابن خلدون، 4/146
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/240.
    [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/507. وهذا وصف المستشرق الإسباني رينهارت دوزي.
    [8] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/372، 373.
    [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/61.
    [10] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/368-372.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    حضارة الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر

    حضارة الأندلس

    ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.


    الجانب المعماري


    مدينة الزهراء




    كان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].

    وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة، وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ -وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].


    مدينة قرطبة




    وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3]، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].

    يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].

    وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].

    وهذا -أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].

    لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].

    الجانب الاقتصادي


    كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].


    ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].


    كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور[11].


    الجانب الأمني


    وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].


    الجانب العلمي


    ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة
    النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].

    وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:

    حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):


    من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلاً في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].


    محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):


    من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا، وقد ولاه عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].


    السياسة الخارجية


    ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].


    وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده - وبلا جدال - أقوى دولة في العالم.


    عبد الرحمن الناصر.. الإنسان


    مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.


    حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].


    وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]

    هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا

    مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ

    إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ

    أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ
    [19]

    قالوا عن عبد الرحمن الناصر..


    قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].


    وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].


    وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «
    في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38، وتاريخ ابن خلدون، 4/144.
    [2] المقري: نفح الطيب، 1/566.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/436.
    [4] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص198.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232.
    [6] المقري: نفح الطيب، 1/540.
    [7] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص378.
    [8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص314.
    [9] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38.
    [10] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص200.
    [11] السابق نفسه.
    [12] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/685.
    [13] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص201.
    [14] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص116.
    [15] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص58، 59.
    [16] المقري: نفح الطيب، 1/366.
    [17] المصدر السابق، 1/541.
    [18] انظر: ابن خاقان: مطمح الأنفس، ص103، والذهبي: تاريخ الإسلام، 25/444، والمقري: نفح الطيب، 1/573.
    [19] المقري: نفح الطيب، 1/575.
    [20] الذهبي: تاريخ الإسلام، 25/237.
    [21] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/137.
    [22] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232، والمقري: نفح الطيب، 1/379.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المشهد الصليبي في عهد عبد الرحمن الناصر

    د. راغب السرجاني
    أولًا: مملكة ليون



    بلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).


    أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.

    لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.

    وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).

    السعي لإنشاء مملكة قشتالة

    ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.

    استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.

    وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.

    تطور الأحداث في مملكة ليون

    توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.



    وكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.


    ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.

    كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.

    وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
    ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.

    ثانيًا: مملكة نافار

    نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.

    ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص580، وما بعدها بتصرف.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الناصر وفن الحروب

    عبد الرحمن الناصر وفكره العسكري



    وَرِثَ عبد الرحمن الناصر عن جدِّه مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- مبادئ أساسية للحرب؛ منها:

    مبدأ المباغتة

    وقد ظهرت المباغتة في الأعمال القتالية للخليفة عبد الرحمن الناصر بشكل معقد جدًّا؛ مما يُشير إلى درجة التعقيد التي وصلتها الأعمال القتالية في أيامه، فهو يعتمد أحيانًا على المباغتة الزمنية؛ حيث يعمل على حشد القوات في ظاهر قُرْطُبَة خلال مرحلة مبكرة عمَّا هو معهود في توجيه الصوائف للغزو، وأحيانًا أخرى يلجأ إلى المباغتة المكانية؛ حيث يُضلِّل أعداءه ليظهر في مكان غير متوقَّع من مسرح العمليات؛ بحيث لا يعرف أعداءُ الشمال نوايا الناصر، وإلى أين سيُوَجِّه ثِقَلَ قوات الهجوم، وفي أحيان -أيضًا- تأخذ المباغتة عند الناصر شكل مباغتة على مستوى العمليات، وأحيانًا على المستوى الاستراتيجي، إذ لم يكن التوجُّه إلى عواصم دول الشمال (ليون ونافار) إلا نوعًا من المباغتة الاستراتيجية، كما أن طريقة زجِّ القوات وحجمها كان نوعًا من المباغتة على مستوى العمليات، وكانت مباغتة العمليات والمباغتة الاستراتيجية مميزة بشدَّة تعقيدها لما تُبرِزه متابعة مسيرة الأعمال القتالية؛ حيث تمتزج فيها المباغتة الزمنية بالمكانية بطرق زجِّ القوات لتأخذ شكلاً متقدِّمًا ومتطورًا لمفهوم المباغتة.

    الموازنة بين إدارة الحرب وقيادة الأعمال القتالية

    أراد الخليفة عبد الرحمن الناصر في بداية حكمه إعطاء نموذج للجهاد بنفسه، فكان يقود المعارك بنفسه مدفوعًا بإيمان الشباب وحماسته للحرب، وممارستها بصورة فعلية، إلى جانب توفُّر الرغبة لحشد قوى المسلمين وتوجيهها وإثارة حميتها، وقد حقق نجاحًا رائعًا في هذا المضمار، حتى إذا استقامت له الأمور، لم تَعُدْ هناك حاجة للإقدام على مُجازفةٍ غير محسوبة تضرُّ بالإسلام والمسلمين بأكثر مما تفيدهم، كما تبدَّى هذا في موقعة الخندق، فكان إمساك الخليفة الناصر بالإدارة العليا للحرب أكثر أهمية من قيادته للأعمال القتالية بنفسه؛ إذ سمح له ذلك بالإشراف على تنظيم الجيوش بصورة مستمرَّة، وإعادة تنظيمها -كُلَّما تطلَّبت الحاجة- وتوجيهها إلى ميادين القتال، وتحديد واجباتها بدقَّة، وتأمين متطلباتها من الإمداد والتموين.

    لقد بقيت الأندلس طوال عهد الناصر لدين الله في حرب مستمرَّة ومتواصلة وعلى كافَّة الميادين والجبهات، وكان ذلك يتطلَّب تأمين موارد غير محدودة، وقد أظهرت مسيرة الأعمال القتالية أن قوات المسلمين كانت في تعاظم مستمرٍّ، وأن متطلباتها كانت متوفِّرة، ولم تظهر ولو مجرَّد ظاهرة واحدة تُشير إلى عيب أو خلل في التنظيم الإداري أو في تأمين الإمداد للمقاتلين، وليس ذلك إلا برهان ساطع على تلك الكفاءة العالية، التي ضمنت حشد الموارد الضرورية للقوات، وهو ما يُعْتَبَر في الجيوش القديمة والحديثة مقياسًا لكفاءة الإدارة المشرفة على الحرب، وهكذا فإن تخلِّي الخليفة الناصر عن إدارة القتال قد ساعده على تحقيق واجب أكبر؛ وهو الإدارة الشاملة للحرب، وتأمين متطلَّباتها، وضمان الظروف الموضوعية لتحقيق النصر.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الناصر وشمال أفريقيا

    علاقة عبد الرحمن الناصر بشمال أفريقيا

    لم تقتصر الأخطار التي كانت تُهَدِّد الدولة الإسلامية في الأندلس على ما كان في الأندلس نفسها من ثورات أتت على قواها ومواردها، ولا على ما كان يتربَّص بها من القوى الإسبانية النصرانية المتوثِّبة الطامحة للقضاء على المسلمين في الأندلس؛ بل وفي كل بقاع الأرض إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لم تقتصر الأخطار المحدقة على هذا، وإنما تحالف مع هذه الأخطار وشاركها خطرٌ آخرُ يتربَّص بها في بلاد شمال أفريقيا، خطرٌ لا يقلُّ طموحًا عن طموح النصارى في الشمال، فهو -أيضًا- يتمنى السيطرة على هذه الجزيرة، وعلى ما فيها من خيرات، ويعلم أنها لن تَدِين له بشكل كامل إلا إذا اعتنقت معتقده، وتخلَّت راغبة أو راهبة عما تعتقد؛ إنه الخطر الشيعي الإسماعيلي، الذي تمثَّل في هذا الوقت في الدولة العبيدية (المعروفة زورًا بالفاطمية).

    الدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

    أ

    أعلن قيام هذه الدولة الخبيثة بالمغرب سنة (297هـ)، بعد نجاح أبي عبد الله الشيعي في دعوته، وجذب الأعوان والأنصار لها، وقيامه بمبايعة «عبيد الله المهدي» بالخلافة، وكان ذلك في ظلِّ انشغال الإمارة الأموية في ذلك الوقت بمواجهة الثورات، التي كانت تعصف بالأندلس من الداخل، كما كانت مشغولة بردِّ اعتداءات نصارى الشمال على أرضها، وكانت أضعف -في ذلك الوقت- من أن تُسيطر على هاتين الجبهتين معًا، فكيف إذا فُتحت عليها جبهة ثالثة؟! ثم إن بلاد شمال أفريقيا لطالما اعتُبِرَت خطَّ الدفاع الأول عن الأندلس؛ لأنها كانت دائمًا قاعدة غزو هذه البلاد.



    خطر الدولة الفاطمية العبيدية

    كان عبد الرحمن الناصر يعلم بكل هذه الأخطار؛ لقربه من جدِّه الأمير عبد الله، وكان مطلعًا على ما آلت إليه حال الأندلس من ضعف في الداخل والخارج، وما آل إليه حال الأعداء من قوَّة وتمكُّن، ولكنه -ومع علمه بهذا كله- لم يفعل مثل أعمامه وأعمام أبيه، ولم يترك الأمر بالكلية لغيره يتحمَّل أعباءه، وإنما تصدَّر لهذا الأمر، وقام به حقَّ القيام.

    فإلى جوار المهامِّ العظيمة التي اضطلع عبد الرحمن الناصر بها منذ تَوَلِّيه الحكم، إلا إنه ومع ذلك كان منذ اللحظة الأولى يرقب كل ما يحدث في بلاد الشمال الإفريقي بعين الحرص والحذر، وأنقذه وخفَّف عنه في ذلك الوقت أن الدولة العبيدية كانت هي الأخرى مشغولة بتوطيد أركانها في المغرب؛ لأنها ما كانت تستطيع الانطلاق إلى الأندلس أو إلى مصر إلاَّ بعد أن تستقرَّ في المغرب أولاً.
    ولكن استقرار هذه الدولة في المغرب سيكون على حساب الأندلس بعد ذلك.

    المواجهة بين عبد الرحمن الناصر والدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)

    لم يستطع عبد الرحمن الناصر أن يصبر حتى يقضي على كل الثورات في الأندلس قضاء مبرمًا، ولا أن يقضي على شوكة نصارى الشمال أولاً، وكذلك لم ينتظر حتى يفرغ العبيديون من أمر المغرب، ثم يأتي دور الأندلس، وإنما سارع هو إلى نقل المعركة إلى أرض المغرب؛ ليشغلهم بالمغرب عن العبور إلى الأندلس، وليستطيع تقوية مركزه في المغرب، فيتمكن من تهديد سلطان العبيديين هناك بعد ذلك، وفي ذلك براعة حربية؛ فهو بذلك يُشَتِّت جهود العبيديين العسكرية والسياسية، ويشغلهم عن الأندلس بالمغرب، ويعاقبهم على مساندتهم ومساعدتهم للثائرين عليه، بأن يُساعد هو -أيضًا- كلَّ مَنْ يسعى للخروج عليهم، ويضمُّه عبد الرحمن الناصر إليه، في حين لا يستطيع العبيديون أنفسهم أن يفعلوا ذلك.

    ففي سنة (319هـ) أرسل الناصر أسطولاً قويًّا حشد له ما استطاع من رجال وعتاد، وأرسله إلى سَبْتَة فاستولى عليها من يد ولاتها بني عصام حلفاء العبيديين (الفاطميين)، ثم سارع بتحصينها، وإمدادها بالجند والسلاح، والقادة الأكفاء؛ لأنه يعلم جيدًا أن العبيديين لن يركنوا إلى الراحة والدعة، ولن يتخلَّوْا عن سَبْتَة بسهولة؛ ليس لأنها مفتاح الأندلس فحسب، ولكن لأنها إن بقيت في يد الناصر، فإنها ستُهَدِّد دولتهم الناشئة التي لم تستقرّ بعدُ، وقد عرفنا من قبلُ أهمية ميناء سَبْتَة بالنسبة للأندلس، ورأينا كيف أن موسى بن نصير لم يستطع العبور إلى الأندلس إلاَّ بعد أن أمِن خطر سَبْتَة، وها نحن الآن نعرف أهمية سَبْتَة بالنسبة للمغرب -أيضًا- لذلك لا نعجب إذا عرفنا إصرار إسبانيا على أن تبقى سَبْتَة ومليلة تحت يدها حتى الآن.

    لقد كانت هذه خطوة جريئة حازمة من عبد الرحمن الناصر، أشعرت العبيديين -بلا شكٍّ- وحلفاءهم بالخوف والجزع من هذه القوة الجديدة، التي بدأ نجمها يبزغ في الأندلس، فإلى جوار الثورات التي يعمل هذا الرجل على إخمادها في بلاده، وبالرغم من وجود نصارى الشمال المتربِّصين به وبدولته، إذا به يفتح على نفسه جبهة جديدة في المغرب، وقد كان المنتظر منه أن يُسارع إلى الاستنجاد بهذه الدولة الفتية التي بدأت تظهر في المغرب؛ لتُعينه على أعدائه الكثيرين؛ لذلك فإننا نعتبر أن هذه الخطوة كانت من أكثر خطوات عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- جُرْأة وشجاعة وحزمًا، كما كانت أكثرها دلالة على حُسن سياسته وفهمه الرائع لكيفية سير الأمور.

    كان يمكن لعبد الرحمن الناصر أن يركن لهذا التقدم وهذا النصر المهم؛ فلقد شغلهم بسَبْتَة عن الأندلس، إلا أن الرجل كان قد عزم على أن يمضي في طريقه إلى النهاية، وألا تضعف همته أو تفتر، فراسل الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي حاكم طَنْجَة لينزل له عن طَنْجَة؛ لتكتمل بذلك سيطرته على رأس العدوة، فرفض ابن أبي العيش ذلك، فحاصره أسطول الأندلس، وضيَّق عليه حتى اضطره إلى التسليم[1].

    وفي سنة (319هـ) -أيضًا- أرسل إليه موسى بنُ أبي العافية أمير مِكْنَاسَة يحالفه ويدخل في طاعته، ويَعِدُه بالدعوة له في المغرب، وبتقريب أهل المغرب وزعمائهم منه، فتَقَبَّله عبد الرحمن أحسن قبول، وأمدَّه بالمال، وساعده في حروبه في المغرب؛ ليُقَوِّيَ مركزه[2]، وبادر على إثر ذلك زعماء الأمازيغ (البربر) من الأدارسة وزناتة إلى طاعة عبد الرحمن الناصر والدعاء له على المنابر، وامتدَّ نفوذه إلى تاهرت، وفاس.

    وفي سنة (323هـ) أرسل القائم العبيدي جيشًا بقيادة ميسور الصقلبي إلى موسى بن أبي العافية، ودارت بينهما عدة معارك انهزم فيها موسى بن أبي العافية، وهرب إلى الصحراء، ثم استنجد بالناصر فأنجده، وهُزم العبيديون، وعاد لموسى بن أبي العافية ملكه في المغرب وقوي أمره[3]، كما قوي نفوذ الناصر لدين الله هناك؛ حتى إن مَنْ ثاروا على الدولة العبيدية في المغرب كانوا يُراسلونه ويعترفون له بأنه الأحق بالولاية، وكان عبد الرحمن الناصر يصلهم ويُحْسِنُ إليهم[4].

    كل هذا والمعركة دائرة في المغرب، فلمَّا قويت شوكة العبيديين في المغرب، وتغلَّبُوا على ما قام عليهم من ثورات، أقدم المعز لدين الله العبيدي على ما يُشبه جسَّ نبض عبد الرحمن الناصر، فأمر أسطوله بضرب سواحل الأندلس، وبالفعل هاجمت سفن العبيديين ثغر ألمَرِيَّة سنة (344هـ)، وأحرقت ما فيه من سفن، وخَرَّبت كل ما استطاعت تخريبه، فكان ردُّ عبد الرحمن الناصر عليهم عنيفًا؛ إذ أمر فخرج أسطوله إلى سواحل الدولة العبيدية، وردَّ لهم الصاع صاعين، وعادوا سنة (345هـ) [5]، فعلم العبيديون أنه لا طاقة لهم بالأندلس، فلم يُعيدوا الكَرَّة.

    وفي سنة (347هـ) اجتاحت قوات العبيديين بقيادة جوهر الصقلي المغرب الأقصى، ودخلت فاس وقتلت عامل عبد الرحمن الناصر عليها، فأسرع عبد الرحمن الناصر بتجريد حملة أندلسية عبرت إلى المغرب، واستطاعت ردَّ العبيديين على أعقابهم[6].
    ثم لم يلبث عبد الرحمن الناصر أن مرض سنة (349هـ)، ثم توفي –رحمه الله- سنة (350هـ).


    [1] أبو العباس أحمد الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/253.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/204.
    [3] انظر: تاريخ ابن خلدون، 1/136.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/213.
    [5] انظر ابن عذاري: البيان المغرب، 2/221، وتاريخ ابن خلدون 4/46.
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/222.
    لنا تتمة مع هذا الموضوع الشيق فتابعونا

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الناصر وإعلان الخلافة الأموية

    إعلان الخلافة الأموية



    نظر عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضَعُفت، وكان المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت قد قُتِل على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولَّى الأتراك حكم البلاد فِعْليًّا، وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحُكم.

    ثم نظر الناصر لدين الله إلى الجنوب فوجد العبيديين (الدولة العبيدية الفاطمية) قد أعلنوا الخلافة، وسمَّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه - وقد وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة - أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم؛ فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية
    بالخلافة الأموية[1].
    ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية، وذلك ابتداء من عام (316هـ= 928م) وحتى عام (400هـ= 1010م)؛ أي: نحو أربع وثمانين سنة متصلة، وهو يُعَدُّ (عهد الخلافة الأموية) استكمالاً لعهد الإمارة الأموية، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير.

    حملات عبد الرحمن الناصر التوسعية


    بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية سنة (319هـ= 931م) اتجه عبد الرحمن الناصر جنوبًا نحو مضيق جبل طارق، وقام بغزو بلاد المغرب وحارب العبيديين (الفاطميين) هناك، فضم سَبْتَة وطَنْجَة إلى بلاد الأندلس، وتمَّت له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق، فبدأ بإمداد أهل السُّنَّة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدَّهم بالجنود؛ تحسُّبًا لهجمات ممالك النصارى في الشمال.


    خيانة حاكم سرقسطة


    وفي سنة (323هـ= 935م) تَحْدُث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي؛ حيث تحالف مع مملكة (ليون) النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشًا كبيرًا يتصدَّى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة (سَرَقُسْطَة)، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش (سَرَقُسْطَة)، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة، ويمسك بقوَّاد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم على الفور أمام أعين الجميع في عمل لا يُوصف إلاَّ بالكياسة والحزم.


    وهنا أعلن حاكم (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر، وكعادة الأبطال الدُّهاة والساسة الحكماء قَبِلَ منه –رحمه الله- اعتذاره، ثم أعاده حاكمًا على (سَرَقُسْطَة)؛ رابحًا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تمكن منهم، متشبهًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأهل مكة بعدما دخلها فاتحًا، وكانوا قد طردوه منها وآذوه هو وأصحابه: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[2].


    وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عَمِلَ عبد الرحمن الناصر؛ فأطلق حُكَّام (سَرَقُسْطَة) بعد أن أعلنوا توبتهم، وأعاد التجيبيين إلى حكمهم؛ وفي سنة (326هـ=937م) بعث عبد الرحمن الناصر من سَرَقُسْطَة بحملة إلى أرض العدوِّ في الشمال، بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي وأمر محمد بن هشام التجيبي بالخروج معه؛ اختبارًا لوفائه بالعهد، فخرج معه محمد، وقامت الحملة بواجبها؛ فاستولت على مدن وحصون، وهزمت النصارى هزيمة كبيرة، وعادت محملة بالغنائم إلى سَرَقُسْطَة[3].


    موقعة الخندق أو سمورة


    أن تسير الأمور هكذا على الدوام أمر في غاية الصعوبة، فليس هناك بشر لا يُخطئ، ولكل جواد كبوة. هذه ليست مبررات لما سيأتي بقدر ما هي بحث في العلَّة والسبب في محاولةٍ لتجنُّبه وتفاديه ما دام سَلَّمنا أنه من شِيَم البشر؛ ففي سنة (327هـ= 939م) وبعد سبع وعشرين سنة من بداية عهد عبد الرحمن الناصر كانت قوَّة الجيش الإسلامي قد بلغت شأوًا عظيمًا؛ حيث ناهزت المائة ألف مقاتل، والأندلس آنذاك تحت راية واحدة، أخذ عبد الرحمن الناصر هذا الجيش العظيم متجهًا إلى مملكة (ليون) النصرانية ليحاربهم هناك[4].


    وفيما أشبه غزوة حُنَين تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، سُمِّيَت بموقعة الخندق، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش (خمسون ألفًا) بين القتل والأسر، وفرَّ عبد الرحمن الناصر مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة.


    وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم[5].


    إلا أننا نعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة الظاهرة، ونرى أن الدولة التي بلغت هذا القدر من القوة، وخرج منها هذا الجيش المجهز، وتوالي انتصاراتها السابقة قد يكون أوقع في نفس عبد الرحمن الناصر ما كان قد وقع من قبل في نفس مَنْ هو خير منه؛ حين قالوا: «لن نغلب اليوم من قلة». فأخذ -كما أخذوا- درسًا ربانيًّا قاسيًا.


    العودة إلى الجهاد


    بعد موقعة سمورة أو موقعة الخندق أو خندق سمورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وهو الذي رُبِّيَ على الجهاد والطاعة لربِّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعَلِمَ مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره، وقام ومعه العلماء والمربُّون يُحَفِّزون الناس.


    ومن جديد أعدُّوا العُدَّة وقاموا بحرب عظيمة على النصارى سنة (329هـ=941م) تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، ظلَّت من سنة (329هـ=941م) إلى سنة (335هـ=947م) حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك (ليون) الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يدٍ وهو صاغر[6]، وكذلك فعل ملك نافار فدفعوا جميعًا الجزية ابتداءً من سنة (335هـ=947م)، وإن لم يمنع هذا من نقض ونشوب بعض الحروب خلال هذه الفترة وحتى آخر عهده / سنة (350هـ=961م).



    [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/198، والمقري: نفح الطيب، 1/353.
    [2] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، والسهيلي: الروض الأنف 4/170، وابن القيم: زاد المعاد 3/356، وابن كثير: السيرة النبوية 3/570، وابن حجر: فتح الباري 8/ 18.
    [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/405 وما بعدها.
    [4] المقري: نفح الطيب، 1/355.
    [5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص37، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/415 وما بعدها.
    [6] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص37.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

    عبد الرحمن الناصر وتغيير التاريخ

    يتولَّى عبد الرحمن الناصر الحُكم ويقوم بأمر الإمارة, فإذا به -وسبحان الله- يُحيل الضعف إلى قوَّة, والذلَّ إلى عزَّة, والفُرقَة إلى وَحْدَة, ويُبَدِّد الظلام بنور ساطع يُشرق في كل سماء الأندلس تحت مجدٍ وسيادةٍ وسلطان.

    بعد تَوَلِّي عبد الرحمن الناصر الحُكم -وبهذه المؤهلات السابقة, وبهذه التربية الشاملة لكل مقوِّمَات الشخصية الإسلامية السوِيَّة, وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه- أقدم على تغيير التاريخ, فقام بما يلي:
    أولاً: إعادة توزيع المهام والمناصب وإسناد الأمر إلى أهله



    حين تولَّى الحُكمَ لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قُرْطُبَة وما حولها من القرى[1], ورغم أنها تُعَدُّ أكبر بلاد الأندلس, وتُمثِّل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة, إلا أنها لم تكن تمثِّل أكثر من عُشْرِ مساحة الأندلس, وبدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يُغَيِّر من التاريخ.


    فقام بتغيير البطانة التي حوله -أو فريق العمل بمصطلحاتنا الآن- فعزل مَنْ رآه غير صالح للمنصب الذي هو فيه, وولَّى مَنْ رأى فيهم الكفاءة والمقدرة وحُسن تدبير الأمور[2].

    ثم أعلى من شأن العلماء, ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه, ورضخ لأوامرهم ونواهيهم, فطبَّق ذلك على نفسه أولاً قبل أن يُطَبِّقه على شعبه, واجتهد قدر طاقته في تطبيق بنود الشريعة.

    ولقد وَرَدَ أن عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- كان يحضر خطبة الجمعة, وكان يخطبها المنذر بن سعيد, وكان من أكبر علماء قُرْطُبَة في ذلك الوقت, وكان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى على عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- الخليفة والأمير, وكان عبد الرحمن الناصر قد بنى لنفسه قصرًا كبيرًا, فأسرف المنذر في الكلام, وأسرع في التقريع لعبد الرحمن الناصر لبنائه ذلك القصر.

    وحين عاد عبد الرحمن الناصر إلى بيته قال: «والله! لقد تعمَّدني منذر بخطبته, وما عَنى بها غيري, فأَسرَفَ عليَّ, وأَفرَط في تقريعي, ولم يُحْسِن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي, وكاد بعصاه يقرعني».

    وهنا أشار عليه رجل ممن كانوا حوله بعزله عن خطبة الجمعة, فردَّ عليه عبد الرحمن الناصر قائلاً: «أَمِثْلُ منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل؟! يُعزَل لإرضاء نفسٍ ناكبةٍ عن الرشد, سالكةٍ غيرَ قصد؟! هذا والله لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقِه». وما عزله حتى مات[3].

    وعلى مثل هذه المبادئ وهذه المعاني بدأ عبد الرحمن الناصر يُربِّي أهل قُرْطُبَة, وكان في انصياعه هو قدوة للناس جميعًا.

    ثانيًا: القضاء على الثورات

    بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قُرْطُبَة وتهيئته تمامًا بدأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يتجه إلى المحيط الخارجي؛ حيث الثورات المتعدِّدة في كل أرض الأندلس, فأرسل حملة يقودها عباس بن عبد العزيز القرشي إلى قلعة رباح, التي كان قد ثار فيها واحد من زعماء البربر يُدعى الفتح بن موسى بن ذي النون, ومعه حليف قوي آخر يُدعى «أرذبلش», وبعد معارك شديدة هُزم الفتح بن موسى وقُتل أرذبلش, وبعث برأسه إلى قُرْطُبَة حيث علَّقها الناصر على باب السدة لإرهاب الثائرين, وطهرت قلعة رباح وما حولها من الثورة.. كان ذلك في ربيع الآخر من عام (300 هـ), أي بعد شهر واحد من جلوسه على كرسي الملك.

    ثم أرسل سرية أخرى في جمادى الأولى إلى الغرب فاستردت مدينة إِسْتِجَة, التي كان يُسيطر عليها أتباع ابن حفصون, فحققت النصر على العصاة, وهدمت أسوار المدينة وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل؛ لتعود معزولة لا يمكنها أن تثور مرَّة أخرى.

    ثم خرج عبد الرحمن الناصر بنفسه قائدًا على حملة عسكرية, فكان في توليه القيادة ما أثار نفوس الجنود بالحماسة والعزم, وتوجَّه بها إلى عُمَر أو صمويل بن حفصون (240-306هـ=855-919م)[4] وكان لتبكيره إليه ونهوضه إليه بنفسه ثلاثة أسباب:
    الأول: أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحقُّ القتل؛ وذلك لأنه ارتدَّ عن دين الله , وفارق جماعة المسلمين بخروجه عليهم؛ ومن ثَمَّ فقد أصبح قتاله فرضًا على المسلمين.
    والثاني: أن ابن حفصون كان الثائر الأقوى والتهديد الأكبر من بين الثائرين في الجزيرة, وتركه على حاله ومواجهة صغار الثائرين, يُقَوِّي مركزه, كما يُقَوِّي نفوس الثائرين الآخرين, ويضع صورة الحكم في قُرْطُبَة في حرج شديد, إذا ظهر أنها تتأخَّر عن مواجهته.
    والثالث: أنه يستطيع بذلك أن يحفِّزَ أهل قُرْطُبَة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح؛ فهي بين المسلمين والمرتدين.

    في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون

    استمرَّ مدى هذه الحملة طيلة ثلاثة أشهر كاملة؛ هي شعبان ورمضان وشوال من سنة (300هـ= 913م) في العام نفسه الذي تولَّى فيه –رحمه الله, واستردَّ فيها مدينة جَيَّان, وهي من المدن الحصينة في الأندلس, كما استردَّ فيها زهاء سبعين حصنًا من أمهات المعاقل الثائرة, وهزم فيها جيوش ابن حفصون هزائم منكرة[5].

    ولكن ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدًّا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى, ويأتيه -أيضًا- من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية), هذا فضلاً عن إمدادات مدينة إِشْبِيلِيَة, التي كان عليها حاكم مسلم من بني حجاج, لكنه كان متمرِّدًا على سلطة قُرْطُبَة, وكان يملك جيشًا مسلمًا كبيرًا.
    وفكَّر عبد الرحمن الناصر كثيرًا في كيفية قطع هذه الإمدادات عن صمويل بن حفصون, واهتدى أخيرًا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قُرْطُبَة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه؛ حيث أَمَّل إن هو ذهب إلى إِشْبِيلِيَة واستطاع أن يُرغِم حَاكِمَها على الانضمام له, أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش إِشْبِيلِيَة المسلم الكبير, وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية, وتقوى شوكته.

    وبالفعل -وبعونٍ من الله- كان له ما أمَّل؛ حيث ذهب إلى إِشْبِيلِيَة بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة (301هـ= 914م), واستطاع أن يضمَّها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه, فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من إِشْبِيلِيَة, واستردَّ منه جبال رُنْدة ثم شَذُونَة ثم قَرْمُونَة[6], وهي جميعًا من مدن الجنوب.

    تعمَّق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه, ويكون بذلك -أيضًا- قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية) عن طريق مضيق جبل طارق, وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا؛ حيث قطع -أيضًا- طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي, ثم مضيق جبل طارق, ثم البحر الأبيض المتوسط, ثم إنه وجد في البحر مراكب لابن حفصون كانت تأتيه بالمدد من بلاد المغرب العربي فأحرقها؛ وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمدُّه وتُقَوِّيه[7].

    ولم يجد صمويل بن حفصون بُدًّا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يُعطيه اثنين وستين ومائة حصن من حصونه, ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يُريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرَّغ لها, فضلاً عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصن, وسيأمن جانب عدوِّه؛ فقد قَبِلَ المعاهدة ووافق على الصلح مع صمويل بن حفصون[8].

    عبد الرحمن الناصر يُفاجئ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي

    أصبحت قوَّة عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- تضمُّ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وجَيَّان وإِسْتِجَة, وهي جميعًا من مدن الجنوب, إضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تُمَثِّل تقريبًا سُدُسَ مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت, هذه أولاً.
    وثانيًا: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونًا كثيرة, ويُسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد, لكن قُطِعت عنه الإمدادات الخارجية؛ سواء من النصارى أو الدولة العبيدية (الفاطمية) أو إِشْبِيلِيَة, فصار خطره محدودًا بالمقارنة بالحال من قبل.
    وثالثًا: كان هناك تمرُّد في طُلَيْطِلَة (تقع في شمال قُرْطُبَة), ورابعًا: تمرُّد في سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي, وخامسًا: تمرُّد في شرق الأندلس في بَلَنْسِيَة, وسادسًا: تمرُّد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجِلِّيقي.
    أي أن الأندلس في عام (302هـ= 915م) كانت مقسمة إلى ستة أقسام؛ قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر, ويضمُ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وما حولهما, بما يُقارب سدس مساحة الأندلس -كما ذكرنا- والخمسة الأخرى مُوَزَّعة على خمسة متمردين, والمتوقَّع - إذًا - أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة أحد مراكز التمرُّد هذه, وبخاصة الأقرب منه.


    وإن المرء ليقف متعجِّبًا حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمرُّدات, واتَّجه بصره صوب الشمال الغربي؛ صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة, فأرسل أحد قادته, فانتصر وغنم وسبى, ثم عاد في العام نفسه, غير أن النصارى أرادوا الانتقام لهزيمتهم, فعادوا لمهاجمة ديار المسلمين, فأُرْسِلَتْ إليهم صائفة في العام التالي, غير أن المسلمين هُزموا فيها, فتجرَّأ النصارى من بعدُ على مهاجمة الثغور, فأرسل عبد الرحمن الناصر إليهم في العام التالي جيشًا قويًّا أوقع بهم هزيمة مريرة[9].

    فكأنه أراد أن يُعَلِّم الناس أمرًا ويُرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خَفِيَتْ عليهم؛ مفادها: أن الأعداء الحقيقيين ليسوا المسلمين في الداخل, إنما هم النصارى في الشمال؛ مملكة ليون, ومملكة نافار, وبهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إحراج المتمردين إحراجًا كبيرًا أمام شعوبهم, كما استطاع أن يُحَرِّك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه, وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو مَنْ يُدافع عن قضاياها الخارجية, ونحو مَنْ يحارب أعداءها الحقيقيين.

    وهذه نصيحة إلى أولياء أمور المسلمين بألا يتهاونوا بعواطف الشعوب, وأن يُقَدِّروها حقَّ قدرها, وأن يستميلوها بالتوجُّه نحو الأعداء الحقيقيين, بدلاً من الصراع مع الجار أو القُطر المسلم, فإذا كانت القضية هي فلسطين, أو الشيشان, أو كشمير, أو غيرها من قضايا المسلمين كانت الوَحْدة والتجمُّع, وكان الانسجام وعدم الفُرقة.

    لم يمضِ عامان آخران حتى جاءته هدية من رب العالمين, ألا وهي موت صمويل بن حفصون مرتدًا وعلى نصرانيته في سنة (306هـ=919م), ذلك الثائر الأخطر في تاريخ الأندلس منذ الفتح, والذي ظلَّت ثورته تؤرِّق بلاط العاصمة الأندلسية ثلاثين عامًا, وكانت هذه بداية النهاية لمعاقل ابن حفصون التي تنازعها أولاده فافترقوا, ومنهم مَنِ انحاز إلى الناصر, فسهل على الناصر بعد مجموعة من المعارك الاستيلاء على كل معاقل ابن حفصون وتطهيرها في عام (316 هـ) [10].

    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

    لم يلتقط عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- أنفاسه, وقام في سنة (308هـ= 921م) بالتحرُّك نحو نصارى الشمال بجيش كثيف, وفي طريقه نحو الشمال خاف صاحب طُلَيْطِلَة المستقل بها أن يغزوه عبد الرحمن فخرج بجيشه مع الناصر مُظهرا الطاعة, واتجه الجيشان نحو غزو الشمال[11], بعدها أصبح الطريق آمنًا نحو الشمال مباشرة؛ حيث سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي وطُلَيْطِلَة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده.

    وفي العام نفسه (308هـ= 921م) وعمره – آنذاك - ثلاثون سنة فقط, قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدًّا باتجاه نصارى الشمال, فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة, وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى, واستمرَّت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة, حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة, وضمَّ إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى[12].

    وبعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة (312هـ= 924م) قام عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- بنفسه بحملة ضخمة أخرى على مملكة نافار, واستطاع في أيام معدوداتٍ أن يكتسحها اكتساحًا, ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بنبلونة عاصمة نافار, ثم بدأ بعدها يُحَرِّر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأُموية.

    وفي سنة (316هـ=928م) أرسل عبد الرحمن الناصر حملة أخرى إلى شرق الأندلس؛ لقمع التمرد الذي كان هناك, وضَمَّها بالفعل إلى أملاكه, ثم في العام نفسه أرسل حملة أخرى إلى غرب الأندلس فاستطاعت هزيمة عبد الرحمن الجِلِّيقي؛ ومن ثَمَّ ضمَّ غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد[13].

    وبذلك وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني يكون –رحمه الله- قد وحَّد الأندلس كلها تحت راية واحدة؛ وحَّدها جميعًا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا بعدُ.


    [1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/256.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/158.
    [3] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص70، وابن خاقان: مطمح الأنفس، ص100، والمقري: نفح الطيب، 1/571.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب 2/159.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/160- 163، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/376.
    [6] قرمونة أو قرمونية: كورة بالأندلس يتصل عملها بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية. ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/330.
    [7] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/164، 165، وتاريخ ابن خلدون: 4/139.
    [8] تاريخ ابن خلدون: 4/139.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/169.
    [10] انظر التفاصيل عند محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/383 وما بعدها.
    [11] ابن عذاري: البيان المغرب 2/177.ونَبَّه ابن عذاري إلى أن طاعة صاحب طليطلة تحتها معصية؛ وبالفعل فقد خرجت طُلَيْطِلَة عن طاعة الناصر، فعاد وأرسل إليها سنة 318هـ يُنذر ويتوعَّد، ويحضهم على الدخول في الطاعة، ولكنهم أَبَوْا، فضرب عليهم الحصار عامين، استغاثوا خلالهما بملك ليون، ولكنه لم يستطع أن يفعل لهم شيئًا، وفي النهاية سلَّموا لعبد الرحمن الناصر سنة 320هـ.
    [12] لمزيد من التفاصيل: انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/175.
    [13] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/197، 198.

    اترك تعليق:

يعمل...
X