إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    اشكرك اخي حجاجي على مداخلتك وردك الجميل ودعائك الطيب
    ذاك مجدا أضعناه لم نحافظ عليه وجلسنا نبكي عليه أطلال ذكراه
    هي ذكريات غالية تعصف ذكراها في الفؤاد ومواقف عظيمة تحفر أيامها في القلوب
    وتاريخ ضخم سطره رجالات هذه الأمّة في أقاصي اوروبا وملئوا سمائها نورا وتكبيرا وعلما
    والكثير الكثير حفظ لهم التاريخ عظمتهم ومأثرهم

    اترك تعليق:


  • حجاجي
    رد
    ليت كل المسلمين يعرفوا تاريخ الاندلس المجيد انها والله ثروة اسلامية

    عظيمة لاتقل في الحديث عنها عن فتح بلاد فارس وبلاد الشام

    مشكور اخي صباحو علي هذه المعلومات القيمة

    وجزاكم الله خيرا ونفع الله بكم الاسلام والمسلمين

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو هود في سرقسطة

    سرقسطة.. الموقع الجغرافي والأهمية العسكرية



    تُعَدُّ مملكة سرقسطة من أهمِّ وأخطر الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس؛ وخاصة في عصر ملوك الطوائف، واكتسبت الأهمية من أمرين:

    الأول: اتساع المساحة الجغرافية لسَرَقُسْطَة؛ إذ هي تشمل في الجغرافيا الأندلسية مدينة سَرَقُسْطَة (Zaragoza) وأعمالها، تُطِيلَة[1] (Tudela)، ووَشْقَة (Huesca)، وبَرْبُشْتَر (Barbastro)، ولارِدَة (Lareda)، وإِفْرَاغة[2] (Braga)، وطَرَّكُونة[3] (Tarragona)، وطُرْطُوشة (Tortosa)، وتشغل المنطقة الواسعة الخصبة التي يخترقها نهر إبره (EbroRiver)، من مصبِّه عند مدينة طُرْطُوشة، حتى مدخله عند مدينة قَلَهُرَّة[4] في ولاية نافار، ويخترقها فرعها الشمالي الكبير نهر سجري والأفرع الصغيرة الممتدة منه نحو بَرْبُشْتَر ووَشْقَة، وفرعه الجنوبي خالون حتى قلعة أيوب (Calatayud) ودَرَوْقَة، ففي هذه المنطقة الشاسعة التي تكثر فيها الوديان اليانعة والمواقع الإستراتيجية، كانت تقوم مملكة سَرَقُسْطَة[5].

    ثانيًا: الموقع العسكري والسياسي الخطير؛ إذ هي حائط الصدِّ الأول والأهم لبلاد الأندلس من هجمات الممالك النصرانية الإسبانية؛ فهي تقع بين مملكة قطلونية من الشرق، ومملكة نافار أو نبرة من الشمال الغربي، ومملكة قشتالة من الجنوب الغربي؛ لذلك فهي في جهاد دائم؛ إذ لم يَكُفُّ النصارى عن هجماتهم على بلاد الإسلام في الأندلس منذ الفتح الإسلامي لها؛ لذلك أَطلق عليها المسلمون (الثغر الأعلى).

    بنو تجيب في سرقسطة

    استولى بنو تُجيب -وهم أسرة عربية- على إقليم سَرَقُسْطَة، وعلا كعبهم فيها خلال حُكم المنصور بن أبي عامر، حينما أقرَّ يحيى بن عبد الرحمن التجيبي على الثغر الأعلى، وذلك سنة (397هـ=989م)، واستمرَّ فيها إلى أن توفي سنة (408هـ=1017م)، وخلفه ابنه المنذر بن يحيى التجيبي، الذي يُعَدُّ أقوى حكام بني تُجيب في الأندلس، وكان من بُعْدِ نظره أنه رأى أن يُهَادن النصارى إلى حين؛ ليأمن غاراتهم وعواقب هجماتهم على بلاد الأندلس، فوطد علاقاته مع رامون أمير بَرْشُلُونَة، وسانشو الكبير (شانجة) ملك نافار، وولده فرناندو الأول ملك قشتالة، وألفونسو الخامس ملك ليون، وقد بالغ المنذر في علاقاته معهم، فعقد حفلاً في قصره لعقد المصاهرة بين سانشو ورامون، حضره أهل الملتين من فقهاء المسلمين وقساوسة النصارى، فسخط الناس عليه واتهموه بالخيانة؛ بيد أن الناس لم يُدركوا بعدُ هذه السياسة الحكيمة من المنذر إلاَّ بعد وفاته؛ إذ عادت هجمات النصارى عليهم بعد أن ركن النصارى للدعة ومسالمة المسلمين[6].

    وهذه السياسة هي التي يلجأ إليها أصحاب الممالك الصغيرة والدويلات الممزقة، وهي سياسة تُنشئها وتُغَذِّيها شهوة حُبِّ السلطة؛ فإنها شهوة تُغَيِّب العقل؛ إذ لو كان أمراء الممالك الصغيرة يُعْمِلُون عقولهم ويتنازلون عن شهوة السلطان، إذًا لسعوا نحو الوحدة والاتحاد وآثروا جمع الكلمة، بدلاً من هذه الفرقة التي تأتي بالضعف فلا يصير أمام أحدهم إلاَّ أن يبذل من ماله أو من مبادئه لأعدائه ما يحفظ به نفسه منهم، ثم ليتحالف معهم وينتصر بهم على إخوانه.

    استطاع المنذر بن يحيى أن يُقيم دولته القوية في الثغر الأعلى بسَرَقُسْطَة وأعمالها، وتلقَّب بألقاب السلاطين! فتلقَّب بالمنصور والحاجب ذي الرئاستين!! واستمرَّ في حكم سَرَقُسْطَة حتى سنة 414هـ، وخلفه من بعده ابنه المظفر يحيى بن المنذر حتى توفي عنها سنة (420هـ=1029م)، ثم خلفه من بعده ابنه المنذر الثاني بن يحيى، الذي تلقَّب بالحاجب معزِّ الدولة، وكانت على يديه نهاية عهد بني تُجيب بسَرَقُسْطَة؛ إذ توفي مقتولاً على يد ابن عمٍّ له يُسَمَّى عبد الله بن حكيم سنة (430هـ=1039م)، ثم دعا لنفسه، ولكن يبدو أن أهل سَرَقُسْطَة ثاروا عليه لسوء خلقه، وهمُّوا بقتله فخرج فارًّا بنفسه، وبقي أهل سَرَقُسْطَة دون أمير يُسَيِّر شئونهم؛ فبعثوا لسليمان بن هود حاكم لارِدَة، فدخل سَرَقُسْطَة واجتمع الناس عليه، فكان ذلك بداية عهد بني هود بسَرَقُسْطَة، في المحرم سنة (431هـ= سبتمبر 1039م) [7].

    بنو هود في سرقسطة

    سليمان المستعين بن هود

    اجتمعت كلمة أهل سَرَقُسْطَة على سليمان بن هود كأمير عليهم وتلقَّب بالمستعين بالله وذلك في المحرم سنة 431هـ، ومنذ هذا التاريخ بسط بنو هود سلطانهم على الثغر الأعلى لبلاد الأندلس، وكان سليمان بن هود يملك سَرَقُسْطَة وأعمالها ما عدا طُرْطُوشة، التي كانت بيد الفتيان العامريين، ولعلَّ أشهر الأعمال السياسية والعسكرية في حياة سليمان بن هود ما كان بينه وبين المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة، واستعانة كل منهما على أخيه بالنصارى (حكام نافار وقشتالة)، وظلَّ النصارى يُذكون نار الفتنة بين المسلمين، وكادت الفتنة تأتي على أراضي المسلمين، إلاَّ أن الله وقى المسلمين شرَّها بموت سليمان المستعين بن هود سنة (438هـ=1046م)[8]، وذلك على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.

    المقتدر بالله أحمد بن هود

    قبيل وفاة سليمان بن هود قسم أعمال دولته على أبنائه الخمسة؛ فولَّى ابنه أحمد بن سليمان سَرَقُسْطَة، وولَّى يوسف لارِدَة، وولَّى محمدًا قلعة أيوب، وولَّى لُبًّا مدينة وَشْقَة، وولَّى المنذر تُطِيلَة[9]، ويبدو أن هذا العمل كان عملاً سلبيًّا؛ إذ زرع العداوة والشقاق والتناحر بين الإخوة، فما أن تُوُفِّيَ والدهم حتى استبدَّ كلٌّ منهم بما تحت يده من أعمال والده، ولكن يبدو أن أحمد بن سليمان كان أسعدهم حظًّا، وأقواهم ذكاء وحيلة؛ إذ ظلَّ يتحايل على إخوته على ملكهم جميعًا، فسجنهم، وبسط سلطانه على سلطانهم، غير لارِدَة؛ إذ وقف أخوه يوسف الملقب بحسام الدولة، أمام أطماعه واستطاع أن يحمي لارِدَة من أخيه.

    وليس ذلك فحسب، بل وقفت العامة مع أخيه يوسف ضدَّه؛ لما رَأَوْا من بشاعة أفعاله ونكاله بإخوته، وتلقَّب يوسف بالمظفر، وكادت البلاد أن تقع تحت نير الحرب الأهلية بين الأخوين: أحمد المقتدر ويوسف المظفر، ولكن أحمد المقتدر استطاع أن يتغلَّب على أخيه يوسف بالغدر والخيانة والاستهتار بدماء المسلمين؛ إذ استعان بالنصارى على أخيه، واستطاع بقوتهم أن يضمَّ لارِدَة وتُطِيلَة (أعمال سَرَقُسْطَة) إلى أملاكه، فعظم مُلْكُه، وقويت شوكته[10]، كما استطاع أن يضمَّ طُرْطُوشة إلى أملاكه بعد تغلُّبه على الفتى نبيل العامري سنة (452هـ=1060م)[11]، كما استطاع أن ينتزع دانية من صهره علي إقبال الدولة بعد أن حاصرها وضيَّق عليها، وذلك سنة (468هـ=1076م) [12]؛ وبذلك أضحت سَرَقُسْطَة أكبر ممالك الطوائف من حيث المساحة.

    مأساة بربشتر



    إن من أعظم المحن -إن لم تكن أعظمها- ما حدث للمسلمين في بَرْبُشْتَر (Barbastro)؛ إذ كان الخطب بها أكبر من أن يوصف؛ حيث هاجم النورمانديون المدينة سنة (456هـ=1064م) وفتكوا بأهلها، وأبادوا المسلمين بأبشع صور الإبادة في التاريخ، ولم يُبادر المقتدر أحمد بن هود لإنجاد المدينة؛ لأنها من أعمال أخيه يوسف المظفر، وقد وصف ابن حيان المحنة بكلمات من الدماء لِمَا حلَّ بالمسلمين هناك، يقول بعد أن ذكر تخاذل المقتدر عنها: «فأقام العدوُّ عليها أربعين يومًا، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلَّتِه، واتصل ذلك بالعدوِّ فشدَّد القتالَ عليها والحصر لها، حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مُدَرَّع، فدهش الناس وتحصَّنوا بالمدينة الداخلة، وجرت بينهم حروب شديدة، قُتِلَ فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتُّفِقَ أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سَرَب موزون انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سَدَّت السَّرَب بأسره؛ فانقطع الماء عن المدينة، ويئس مَنْ بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاهم العدوُّ الأمان، فلمَّا خرجوا نكث بهم وغدر، وقُتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه، وحصل للعدوِّ من الأموال والأمتعة ما لا يُحْصَى، حتى إن الذي خصَّ بعضَ مُقَدَّمي العدوِّ لحصنه -وهو قائد خيل رومة- نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارًا، ومن أوقار([13]) الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل، وقُدِّر مَنْ قُتل وأُسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس. ومن نوادر ما جرى على هذه المدينة لَمَّا فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتُنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها، فيقول لها: أعطيني ما معك. فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره».


    ويُكمل ابن حيان قائلاً: «وكان السبب في قتلهم أنه خاف مَنْ يَصِلُ لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل -لعنه الله تعالى- حتى قتل منهم نيِّفًا وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين مَنْ بَقِيَ، وأمر أن يخرجوا، فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب، ومبادرة إلى شرب الماء، وكان قد تحيَّز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه، وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلمَّا خلت ممَّنْ أُسر وقُتل وأُخرج من الأبواب والأسوار، وهلك في الزحمة، نُودي في تلك البقية بأن يُبادر كلٌّ منهم إلى داره بأهله وله الأمان، وأُرهقوا وأُزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزله، اقتسمهم الإفرنج -لعنهم الله تعالى- بأمر الملك، وأخذ كل واحد دارًا بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.
    وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برءوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمَّنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.
    وكان الفرنج -لعنهم الله تعالى- لما استولوا على أهل المدينة يفتضُّونَ البكر بحضرة أبيها، والثَّيِّب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومَنْ لم يرضَ منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاهن خَوَله وغلمانه يعيثون فيهن عيثه[14]، وبلغ الكَفَرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، ولمَّا عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخيَّر من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفًا عدَّة، حملهم معه ليهديهم إلى مَنْ فوقه، وترك من رابطة خيله ببَرْبُشْتَر ألفًا وخمسمائة، ومن الرجَّالة ألفين[15].

    وقد صوَّر الفقيه ابن العسال فجيعة المسلمين هذه فقال: [الكامل]
    هَتَكُوا بِخَيْلِهِمُ قُصُورَ حَرِيمِهَا

    لَمْ يَبْقَ لا جَبَلٌ وَلا بَطْحَاءُ
    جَاسُوا خِلالَ دِيَارِهِمْ فَلَهُمْ بِهَا

    فِي كُلِّ يَوْمٍ غَارَةٌ شَعْرَاءُ
    كَمْ مَوْضِعٍ غَنِمُوهُ لَمْ يُرْحَمْ بِهِ

    طِفْلٌ وَلا شَيْخٌ وَلا عَذْرَاءُ
    وَلَكَمْ رَضِيعٍ فَرَّقُوا مِنْ أُمِّهِ

    فَلَهُ إِلَيْهَا ضِجَّةُ وَبُغَاءُ
    وَلَرُبَّ مَوْلُودٍ أَبُوهُ مُجَدَّلٌ[16]

    فَوْقَ التُّرَابِ وَفَرْشُهُ الْبَيْدَاءُ
    وَمَصُونَةٍ فِي خِدْرِهَا مَحْجُوبَةٍ

    قَدْ أَبْرَزُوهَا مَا لَهَا اسْتِخْفَاءُ
    وَعَزِيزِ قَوْمٍ صَارَ فِي أَيْدِيهُمُ

    فَعَلَيْهِ بَعْدَ الْعِزَّةِ اسْتِخْذَاءُ
    لَوْلا ذُنُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ

    رَكِبُوا الْكَبَائِرَ مَا لَهُنَّ خَفَاءُ
    مَا كَانَ يُنْصَرُ لِلنَّصَارَى فَارِسٌ

    أَبَدًا عَلَيْهِمْ فَالذُّنُوبُ الدَّاءُ
    فَشِرَارُهُمْ لا يَخْتَفُونَ بِشَرِّهِمْ

    وَصَلاحُ مُنْتَحِلِي الصَّلاحِ رِيَاءُ[17]

    ونحن لَنْ نُعَقِّب على الحادثة بل نترك ابن حيان يُعَقِّب عليها بنفسه؛ لنتبيَّن الأسباب التي أدَّت إلى وقوع تلك الكارثة بالمسلمين، يقول ابن حيان: قد غَرْبَلَ (زماننا هذا) أهليه أشدَّ غربلة، فسَفْسَفَ أخلاقهم، واجتثَّ أعراقهم، وسفَّه أحلامَهُم، وخبَّثَ ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهلُ، واقتطعهم الزَّيْفُ، وأركستهم الذنوب، ووَصَمَتْهُمُ العيوبُ، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معاني الغيِّ بأقوياء، شاءٌ من الناس هامل، يُعَلِّلون نفوسهم بالباطل، من أدلِّ الدلائل على فرط جهلهم بشأنِهِم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعةِ خالقهم، ورفضهم وصيَّةَ رسوله نبيهم ، وذهولهم عن النظر في عاقبة أمرهم، وغفلتهم عن سدِّ ثغرهم، حتى لظلَّ عدوُّهم الساعي لإطفاء نورهم يتبحبحُ عِرَاصَ ديارهم، ويستقرئُ بسائِطَ بقاعهم، يقطعُ كلَّ يومٍ طرَفًا منهم، ويبيدُ أمَّةً، ومَنْ لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صُموتٌ عن ذكرهم، لهاةٌ عن بثِّهم، ما إن يُسْمَعُ عندنا في مسجد من مساجدنا وَمَحفلٍ من محافلنا مذكِّرٌ بهم أو داعٍ لهم، فضلاً عن نافرٍ إليهم أو مواسٍ لهم، حتى كأنْ ليسوا منَّا، أو كأنَّ فتقَهُمْ ليس بمفضٍ إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء، بُخْلنا بالغَنَاء، عجائبُ مُغْرِبَة فاتتِ التقدير، وعرضت للتغيير، فلله عاقبةُ الأمور، وإليه المصير[18].

    طار نبأ الفجيعة في بلاد الأندلس كلها، واهتزت لها القلوب، وتزلزت النفوس، فأسرع المقتدر بن هود- الذي لحقه العار والمذلة لأنه ترك المدينة ولم ينجدها باعتبارها من أملاك أخيه يوسف- فأعلن الجهاد، ونادى بالنفير العامِّ في بلاد الأندلس، فاجتمع له كثير من المتطوِّعة، وبعث له المعتمد بن عباد خمسمائة فارس من إشبيلية، فسار في جمادى الأولى سنة (457هـ=1065م)، وضربوا الحصار على المدينة، ودارت معركة شرسة مع النصارى قُتل فيها منهم ألف فارس وخمسمائة راجل، ودخل بخمسة آلاف سبية من سبايا النصارى سَرَقُسْطَة، وعادت المدينة إلى أملاك المسلمين بعد أن دامت في يد النصارى تسعة أشه[19].


    وفاة المقتدر بن هود

    يبدو أن علاقة المقتدر مع ممالك النصارى كانت صافية؛ بيد أنه كان يستعين بهم في تصرُّفاته العسكرية، وخططه السياسية التوسعية، وكان يستعين بأحدهم على الآخر.

    يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان نقلاً عن دوزي في تاريخه لمسلمي إسبانيا: «وكان المقتدر بن هود من أعظم ملوك الطوائف في زمانه، وكان يُحيط نفسه بشيء من العظمة والأبهة، وكان بلاطه من أعظم قصور الطوائف وأفخمها، وكان يُحيط نفسه بطائفة من أشهر العلماء والكُتَّاب في عصره؛ ومنهم: العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي، ووزيره أبو المطرف بن الدباغ، بل كان المقتدر نفسه من علماء عصره، وكان يشغف بدراسة الفلسفة والرياضيات والفلك، وقد كتب كتبًا في الفلسفة والرياضيات»[20].

    وهكذا استطاع المقتدر أحمد بن هود أن يُكَوِّن مملكة مترامية الأطراف، ويُوَطِّد حكمه فيها، إلى أن تُوُفِّيَ سنة (475هـ=1081م) متأثِّرًا بعضة كلب[21]، بعد أن دام حكمه 35 سنة.


    [1] تُطِيلَة: مدينة بالأندلس في شرقي قرطبة، شريفة البقعة غزيرة المياه كثيرة الأشجار والأنهار، اختطت في أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/33.
    [2] إفراغة: مدينة بالأندلس من أعمال ماردة كثيرة الزيتون. ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/227.
    [3] طَرَّكُونة: بلدة بالأندلس متصلة بأعمال طرطوشة، وهي مدينة قديمة على شاطئ البحر، منها نهر علان يصب مشرقًا إلى نهر إبره، وهو نهر طرطوشة، وهي بين طرطوشة وبرشلونة بينها وبين كل واحدة منهما سبعة عشر فرسخًا، وطركونة -أيضًا- موضع آخر بالأندلس من أعمال لبلة. ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/32.
    [4] قَلَهُرَّة: مدينة من أعمال تطيلة في شرقي الأندلس. ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/393.
    [5] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/265.
    [6] ابن بسام: الذخيرة 1/180-185، وابن عذاري: البيان المغرب 3/175-177.
    [7] انظر تفصيل الأحداث في: ابن بسام: الذخيرة 1/185-188، وابن عذاري: البيان المغرب 3/178-180، 221، 222، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص170، 171، وفيه يذكر ابن الخطيب أن أهل سرقسطة هم من ثار على المنذر بن يحيى وصرفوا طاعته إلى سليمان بن هود، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/163.
    [8] ابن عذاري: البيان المغرب 3/277-282، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص177، 178.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب 3/222، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص171.
    [10] ابن عذاري: البيان المغرب 3/222، 223.
    [11] المصدر السابق 3/250.
    [12] المصدر السابق 3/228.
    [13] أوقار جمع وِقَر: وهو الحِمْل الثقيل، وعَمَّ بعضهم به الثقيل والخفيف. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/848، وابن منظور: لسان العرب، مادة وقر 5/289.
    [14] أي أن الإفرنجي إذا وجد خادمة أو غير ذات جمال تكبر أن يهتكها هو فكان يعطيها لخدمه وغلمانه يهتكونها.
    [15] المقري: نفح الطيب 4/449-451. وانظر مآسي المسلمين في: ابن بسام: الذخيرة 5/181-189، وابن عذاري: البيان المغرب 3/225-227.
    [16] المجدَّل: الصريع، أو الملقى بالأرض. ابن منظور: لسان العرب، مادة جدل 11/103.
    [17] الحميري: صفة جزيرة الأندلس 1/40، 41.
    [18] ابن بسام: الذخيرة 5/188، 189.
    [19] ابن بسام: الذخيرة 5/189، 190، وابن عذاري: البيان المغرب 3/227، 228، والحميري: الروض المعطار ص91، وصفة جزيرة الأندلس 1/41، والمقري: نفح الطيب 4/454.
    [20] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/283.
    [21] ابن عذاري: البيان المغرب 3/229، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص171، 172، وهنا يذكر ابن الخطيب وابن عذاري أن المقتدر قتل رجلاً صالحًا، كان يعظه ويُذَكِّره بالله، فسلط الله عليه كلبًا، فأصابه بكَلَب، وقد كان المقتدر ينبح كما ينبح الكلاب، وظلَّ كذلك حتى مات. نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء الأندلس في طليطلة

    طليطلة .. مدينة العلماء



    الواقع أنه لم يكن ببلاط طُلَيْطِلَة للشعر والأدب دولة زاهرة كما كان الشأن في إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، إلا أنها شهدت دولة زاهرة في علوم الحياة: الرياضيات والطبِّ والنبات والزراعة، ومع هذا حرص المأمون على جمع الشعراء حوله، وكان منهم شاعره ابن أرفع رأسه صاحب الموشحات المشهورة، وكان ذلك سبيلاً إلى علوِّ شأن طُلَيْطِلَة كما كان في إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، ومن مشاهير علماء طُلَيْطِلَة في ذلك الوقت ابن بصال العالم النباتي الشهير، وابن وافد الطبيب، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمى (طبقات الأمم)، والزرقالي، وعلامة طُلَيْطِلَة صاعد الأندلسي الطليطلي.


    صاعد الأندلسي: (420-462هـ=1029-1070م)

    هو القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد، الأندلسي التغلبي القرطبي الطليطلي، المالكي، أصله من قُرْطُبَة، يُعَدُّ علامة التاريخ في عصره، وكان من أهل المعرفة والذكاء، والرواية والدراية من تلاميذ الإمام ابن حزم، وهو أول مفكر عربي حاول تفسير طبائع البشر وفقًا لتغيُّرَات المناخ، وقد ولي قضاء طُلَيْطِلَة للمأمون بن ذي النون، وبقي فيها إلى أن مات.

    أشهر كتبه كتاب (طبقات الأمم) الذي ألفه سنة (460هـ=1067م)، حاول فيه استكمال دراسة أستاذه ابن حزم الظاهري عن دور الأندلس في إنتاج العلوم، والتعريف بأهم الشخصيات الفكرية التي برزت في مختلف العهود الإسلامية، إلا أن دراسته اختلفت عن رسالة ابن حزم في (مراتب العلوم)؛ فهو لم يكتفِ بأخبار الكاتب، بل حاول التعريف بعصره وظروفه وبيئته، وبسبب شمولية الكتاب وَضَع مقدمة تحليلية للتعريف بتاريخ العلوم وتطور الأفكار واتصال الثقافات ببعضها من المشرق إلى المغرب وانتهاء بالأندلس وعصره، فجاءت دراسته تاريخية حاول من خلالها الردَّ على مسألتين: مجرى التطور، وصلة حلقات التطور ببعضها.

    وحتى تكون إجابات صاعد واضحة في معالمها كان لا بد له من تجاوز حدود الأندلس والابتعاد عنها جغرافيًّا، والغوص في عمق الزمن إلى عهود سابقة على ظهور الديانات السماوية، واضطر بسبب المستجدات وتغيير خطة كتابه، أن يُعيد قراءة مراتب العلوم كونيًّا في سياق رؤية عالمية للتطوُّر الفكري وصولاً إلى العرب وظهور الإسلام والفتوحات الكبرى.

    فرضت خطَّة الكتاب على صاعد أن يقوم بمراجعة شاملة وسريعة لتاريخ الأفكار ودور الأمم في صنعها وصلاتها ببعضها، كذلك حاول قدر الإمكان التعريف بالأمَّة والتعريف بأفكارها، ثم التعريف بأعلامها؛ حتى يربط حلقات التطوُّر في مجرى زمني هادف.

    من كتبه: (جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم)، و(صوان الحكم) في طبقات الحكماء، و(مقالات أهل الملل والنحل)، و(إصلاح حركات النجوم)، و(تاريخ الأندلس)، و(تاريخ الإسلام) [1].

    ابن وافد (387-467هـ = 996-1074م)

    هو الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن وافد بن مهند اللخمي الطليطلي، ولد بطُلَيْطِلَة ونشأ بها، وعاش في كنف بني ذي النون هناك، وهو أحد أشراف أهل الأندلس، وذوي السلف الصالح منهم، والسابقة القديمة فيهم، اعتنى –رحمه الله- بالطب والأدوية المفردة، وألَّف كتابه (الأدوية المفردة)، الذي قال عنه القاضي صاعد الأندلسي: وتمهَّر بعلم الأدوية المفردة حتى ضبط منها ما لم يضبطه أحد في عصره، وألَّف فيها كتابًا جليلاً لا نظير له، جمع فيه ما تضمن كتاب ديسقوريدس وكتاب جالينوس المؤلفان في الأدوية المفردة، ورتبه أحسن ترتيب.

    ولابن وافد في الطب نظريته الشهيرة؛ إذ كان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية أو ما كان قريبًا منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية فلا يرى التداوي بمركَّبِها ما أمكن التداوي بمفردها، فإن اضطر إلى المركَّب منها لم يُكثر التركيب، بل اقتصر على الأقل ما يمكنه منه.

    ولابن وافد من الكتب: كتاب (الأدوية المفردة)، و(الوساد في الطب)، و(مجربات في الطب)، و(تدقيق النظر في علل حاسة البصر)، وكتاب (المغيث) [2].


    [1] ابن بشكوال: الصلة ترجمة رقم (545) 1/370، والمقري: نفح الطيب 3/182، والزركلي: الأعلام 3/186.
    [2] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/231، 232.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    القادر يحيى بن ذي النون

    القادر بالله يحيى حفيد المأمون



    مات المأمون بن ذي النون مسمومًا بقرطبة –في حادث سنفصل ظروفه في مقال قادم إن شاء الله- وخلفه من بعده حفيده يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن ذي النون وذلك سنة (467هـ=1075م)، وتلقَّب بالقادر بالله، وكان القادر بالله سيئ الرأي، قليل الخبرة والتجارِب، مع أنه يحكم مملكة عظيمة وطَّدها له جدُّه المأمون.


    مؤامرة قتل الوزير ابن الحديدي

    كان المأمون قبل وفاته قد قَسَّم وظائف دولته وعهد بها إلى وزيراه: ابن الفرج وابن الحديدي، فجعل أمور الجند لابن الفرج، وأمور المشورة والرأي إلى ابن الحديدي، وأخذ عليهما المواثيق والعهود بحُسن الإدارة والنصح، إلا أن القادر بالله وقع تحت تأثير العبيد والخدم ونساء القصر، وطائفة من قرناء السوء وبطانة الشرِّ، ظلُّوا وراءه حتى أوغروا صدره من ابن الحديدي؛ يسعون للفتك به والتخلُّص منه، ولم يكن القادر ليتخلَّص من ابن الحديدي دون تُهَمَة بيِّنة وخيانة ظاهرة؛ حتى يقنع أهل طُلَيْطِلَة بالأمر، فدبَّر مكيدة؛ وهي أن يستظهر جماعة كان جدُّه المأمون قد أودعهم السجن بإيعاز من ابن الحديدي، فأطلق القادر سراحهم ودعاهم إلى مجلسه، ودعا ابن الحديدي إليه أيضًا، فلما حضر ابن الحديدي ورآهم، أيقن بالهلاك، وأسرع إلى القادر يستجيره منهم، إلا أن القادر غادر مجلسه، فتمكَّنُوا منه وقتلوه، وأمر بنهب دور ابن الحديدي، وكان ذلك في أوائل ذي الحجة سنة (468هـ=1076م)[1].


    الثورات ضد القادر بالله

    لم ينعم القادر بالله منذ أن فتك بابن الحديدي بالأمان؛ إذ صار أعوان الأمس أعداء اليوم، وإذا بمن أوغروا صدره على ابن الحديدي ينقلبون عليه ويكيدون له الدسائس، فلم ينسوا أن المأمون جدَّ القادر هو من أودعهم السجن، وكاد يفتك بهم.

    وهكذا بدأت الهموم والمتاعب والثورات تنهال عليه؛ فابن هود صاحب سَرَقُسْطَة يُرهقه بغاراته من ناحية، وأبو بكر بن عبد العزيز صاحب بَلَنْسِيَة استغلَّ الفوضى واستبدَّ بالأمر، وأعلن الثورة والاستقلال، والنصارى يُغيرون على أملاكه، وكادوا أن ينتزعوا قونقة منه، إلاَّ أنه افتداها بمبلغ كبير من المال.

    ومن ناحية أخرى أعلن أعوان الأمس الثورة الداخلية للإطاحة به، وفعلاً هرب القادر من طُلَيْطِلَة إلى حصن وَبْذَة، وهنا وجد أهل طُلَيْطِلَة أنفسهم بلا أمير أو حاكم، فاستقدموا المتوكل بن الأفطس ليحكم البلاد سنة (472هـ=1079م)، وظلَّ المتوكل حاكمًا عليه، إلى أن عاد القادر مرَّة أخرى بمعونة ألفونسو ملك قشتالة، وحاصرت قوَّات النصارى طُلَيْطِلَة، وهذا ما اضطر المتوكل بن الأفطس إلى أن يخرج منها بعد أن أخذ ما استطاع من أموال القادر وخزائنه، ونجحت قوَّات ألفونسو الدخول إلى طُلَيْطِلَة وإعادة القادر، ودخل القادر طُلَيْطِلَة في حمى النصارى وجنودهم، وكانت هذه العلاقة المشئومة سببًا في سقوط طُلَيْطِلَة..

    فيا ليت حُكَّام المسلمين يعون الدرس، ويعتمدون على ربهم، ولا يتَّكلون إلى عدوِّهم؛ فهذا جزاء الخائنين، وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 51- 53].


    [1] ابن بسام: الذخيرة 7/150-155، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص179، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/107.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المأمون بن ذي النون


    توسعات المأمون بن ذي النون



    تُوُفِّيَ الظافر إسماعيل وملك من بعده ابنه يحيى الملقب بالمأمون، وذلك سنة (435هـ=1043م)، وسار المأمون بن ذي النون، على سُنَّة أبيه في تسيير أمور مملكته المترامية الأطراف، فأقام بين الناس بالعدل، وكانت السياسة التي انتهجها المأمون في بداية عهده سبيلاً لاتساع مملكته.


    لم يكن عهد المأمون عهد هدوء واستقرار، وإنما كان عهد تنازع وفراق بينه وبين ملوك الطوائف الأخرى، وكان من شدَّة هذا التنازع والفراق أن ظهرت الخسَّة والنذالة، واستعانوا بالنصارى بعضهم على بعض، وضعفت قوَّة الأطراف المتنازعة، وهذا ما حدا بالنصارى أن يُغِيرُوا على أملاك المسلمين، ولا يجدون رادعًا يردعهم، ولا قوَّةً تطاردهم؛ فنُهِبَت البلاد، وسُرقت الأموال، وسُبيت النساء، وقُتل الأطفال والرجال، وحكام الطوائف يتنازعون على أعراض زائلة، فخسروا دينهم ودنياهم، وما أشبه الليلة بالبارحة!

    فعلى الرغم من اتساع مُلك المأمون بن ذي النون إلا أنه شغل خلال فترة حكمه الثلاث والثلاثين بالتخاصم مع ملوك الطوائف الآخرين، وخاصة عدوَّه اللدود سليمان المستعين بن هود صاحب سَرَقُسْطَة، والمعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة ومن بعده ابنه المعتمد، وابن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس.

    الصراع بين المأمون وسليمان بن هود

    بيد أن حروب المأمون الأشد شراسة كانت مع سليمان بن هود صاحب سرقسطة؛ خاصة أنها حروب على المناطق الحدودية بينهما، ولعلها كذلك الأشدَّ وقعًا على الإسلام والمسلمين؛ إذ استعان كلٌّ منهما على أخيه بالنصارى أصحاب قشتالة، الذين عاثوا في أراضي المسلمين تحت سمعهم وأبصارهم، على نحو ما سنُبَيِّنُه إن شاء الله.

    المأمون والدخول في طاعة هشام المؤيد

    ومن أشهر الأعمال التي قام بها المأمون بن ذي النون دخوله في طاعة هشام المؤيد بالله (أو شبيهه على وجه الدقة) التي دعا إليها المعتضد بن عباد؛ وذلك طمعًا في نصرته ضد عدوِّه سليمان بن هود، وبالفعل قَبِلَ المعتضد الأمر ووعده بالتناصر والتظافر ضد خصمه، وأُخذت البيعة لهشام المؤيد المزعوم في طُلَيْطِلَة، وأُعلن له بالدعاء على المنابر، ولكن يبدو أن المأمون ذهب به الطمع الخائب كل مذهب، وغرَّه الأمل واتَّبع الباطل، واشتغل عنه المعتضد بحروبه ضد ابن الأفطس، ولم ينل من ابن عباد أي شيء، وعاد من بيعته بخفي حنين[1].

    المأمون والاستيلاء على بلنسية



    وكان من أهمِّ أعمال المأمون -كذلك- الاستيلاء على بَلَنْسِيَة وأعمالها سنة (457هـ=1065م)؛ حيث كانت تحت حكم عبد الملك بن عبد العزيز حفيد المنصور بن أبي عامر، وكان صهرًا للمأمون حيث تزوَّج ابنته عقب وفاة أخيه زوجها الأول، فأهانها وأساء عشرتها، وكان سيئ السيرة، منهمكًا في الشراب والخلاعة، مع نقصٍ في المروءة والانحطاط في مهاوي اللذات الوضيعة، وكان ذلك سبيلاً لزوال مُلكه، على ما جنت يداه، وهو ما حدث بالفعل، فلمَّا علم المأمون بحال ابنته مع عبد الملك بن عبد العزيز حقد عليه، وأضمر الشرَّ له.


    وهناك في استيلاء المأمون على بَلَنْسِيَة روايتان؛ الأولى: أن المأمون قدم على عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر من طُلَيْطِلَة على سبيل الزيارة، وهناك استقبله صاحب بَلَنْسِيَة أحسن استقبال هو وغلمانه وعبيد القصر، فأقام المأمون عنده أيامًا، ثم دبَّر لعبد الملك مكيدة ذات ليلة، فقبض عليه وعلى ابنه وأخرجهما ليلاً إلى شَنْتَمبَرِيَّة، وقيل: إلى قلعة أُقْلِيش. وبعدها تملَّك المأمون شرق الأندلس دون كلفة ولا مشقَّة ولا دماء، والرواية الثانية تقول: إن المأمون استعان بملك قشتالة على صهره صاحب بَلَنْسِيَة، فاستولى عليها واعتقل عبد الملك وابنه، وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 457هـ، وقيل: سنة (458هـ=1065م) [2].

    المأمون والاستيلاء على قرطبة

    وأمام توسُّعات المأمون كانت قرطبة محلَّ نظره منذ زمن، وكان يتحيَّن الفرص للانقضاض عليها، وهو ما حدث بالفعل حينما اضطربت الأمور عقب تولِّي عبد الملك بن جهور أمورها وأساء السيرة بين أهلها، فأغار المأمون عليها عام 462هـ، فاستغاث عبد الملك بن جهور بالمعتمد بن عباد، وكانت تلك نهاية بني جهور في قُرْطُبَة[3]، على نحو ما سنذكره في فصل التناحر بين ملوك الطوائف إن شاء الله.

    بلاط المأمون بن ذي النون

    مع كل هذه الحروب والنزاعات التي شهدتها فترة حُكم المأمون، إلا أنه يُعَدُّ أطول ملوك الطوائف عهدًا؛ فقد دام مُلكه ثلاث وثلاثين سنة، واتَّسعت رقعة مُلكه حتى ملك بَلَنْسِيَة وأعمالها في شرق الأندلس، وعظمت خزائن المأمون حتى قصده الشعراء والعلماء، وأكثر المأمون من تشييد القصور الفخمة، والمجالس الباهرة، ومن أشهرها مجلسه المسمى «المكرم»، ونحن ننقل هنا وصفه؛ ليرى القارئ الكريم مدى الرغد الذي ورثه ملوك الطوائف من عصر الأمجاد، فأضافوا إليه وتفننوا وأبدعوا، ثم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فصارت هذه الذخائر مطمعًا للنصارى يحوزونها بافتراق المسلمين وتناحرهم، بل استطاعت ممالك الأندلس أن تظلَّ قرنًا تموِّل الممالك النصرانية بما تدفعه من جزية[4].

    وصف مجلس المكرم

    هذا وصف مجلس المكرم كما يورده ابن حيان ناقلاً له على لسان ابن جابر شاهد العيان: «وكنتُ ممن أذهَلَتْه فتنةُ ذلك المجلس، وأغربُ ما قيَّدَ لَحْظِي من بهيِّ زُخْرفه -الذي كاد يَحبس عيني عن الترقي عنه إلى ما فوقَه- إزارُه الرائع الدائر بأسِّه حيثُ دار، وهو مُتَّخَذٌ من رفيعِ المَرْمَرِ الأبيض المسنون، الزَّاريةِ صفحاتُه بالعاجِ في صِدْقِ الملاسةِ ونَصاعةِ التلوين، قد خُرِّمَتْ في جُثمانه صُوَرٌ لبهائمَ وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلَّق كثيرٌ من تلك التماثيل المصوَّرة بما يليها من أفنان أشجار وأشكالِ الثمر ما بين جانٍ([5]) وعابث[6]، وعَلق بعضُها بعضًا بين مُلاعبٍ ومُثاقف، تَرنو إلى مَنْ تأمَّلها بألحاظ عاطف، كأنها مُقْبِلَةٌ عليه، أو مُشيرة إليه، وكلُّ صورة منها مُنفردةٌ عن صاحبتها، مُتميِّزةٌ من شكلها، تَكادُ تُقَيِّد البصرَ عن التعلِّي إلى ما فوقها. قد فَصَل هذا الإزارَ عمَّا فوقه كِتَابُ نَقْشٍ عريضُ التقدير، مُخَرَّمٌ مَحفور، دائرٌ بالمجلسِ الجليلِ من داخله، قد خَطَّه المِنْقَارُ أبين من خطِّ التزوير، قائمُ الحروفِ بديعُ الشكل، مُسْتبينٌ على البُعْدِ، مرقومٌ كلُّه بأشعارٍ حِسان، قد تُخيِّرتْ في أماديحِ مُخْتَرِعِهِ المأمون. وفوقَ هذا الكتابِ الفاصلِ في هذا المجلس بُحورٌ منتظمة من الزجاج الملوَّن، المُلَبَّسِ بالذهب الإبريز[7]، وقد أُجريت فيه أشكالُ حيوانٍ وأطيار، وصورُ أنعامٍ وأشجار، يُذهل الألبابَ ويُقَيِّد الأبصار. وأرضُ هذه البحار مَدحوَّة من أوراق الذهب الإبريز، مُصَوَّرَةٌ بأمثال تلك التصاوير من الحيوانِ والأشجارِ بأتقنِ تصويرٍ وأبدع تقدير.

    ثم قال: ولهذه الدار بُحَيْرَتَان، قد نُصَّتْ[8] على أركانهما صُوَرُ أسودٍ مَصوغَةٌ من الذهب الإبريز أحكمَ صياغة، تتخيَّل لمتأمِّلها كالحةَ الوجُوه[9] فاغرةَ[10] الشُّدوق[11]، ينساب من أفواهها نحو البُحيرتين الماءُ هَوْنًا كرَشِيش القَطْر أو سُحَالَة اللُّجَين[12]. وقد وُضع في قعر كلِّ بحيرة منهما حوضُ رخام يُسمَّى المَذْبَح، محفورٌ من رفيع المرمر، كبيرُ الجِرْم[13]، غريبُ الشكل، بديعُ النقش؛ قد أُبرزتْ في جَنَبَاتِه صُوَرُ حيوانٍ وأطيارٍ وأشجار، وينحصرُ ماؤهما في شَجَرَتَيْ فضَّة عاليتي الأصلين، غَريبتي الشكل، مُحكمتي الصَّنْعة، قد غُرِزَتْ كل شجرة منها وَسَطَ كل مَذبحٍ بأدقِّ صناعة، يترقَّى فيهما الماءُ من المذبحين، فيَنْصَبُّ من أعالي أفنانهما انصباب رذاذ المطر أو رَشَاش التندية، فتحدُثُ لمَخْرَجِه نَغماتٌ تُصبي النفوس، ويرتفعُ بذرْوَتها عمودُ ماء ضخم مُنضغط الاندفاع، ينساب من أفواهها ويُبَلِّل أشخاصَ أطيارها وثمارها، بألسنةٍ كالمبارد الصقيلة، يُقَيِّد حُسْنها الألحاظَ الثاقبةَ، ويدع الأذهانَ الحادَّةَ كليلة»[14].

    والواقع أنه لم يكن ببلاط المأمون بن ذي النون للشعر والأدب دولة زاهرة، كما كان الشأن في إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، بيد أننا نجد أكابر شعراء العصر وعلمائه يعيشون في ظلِّ المأمون، وكان من هؤلاء شاعره ابن أرفع رأسه[15]، صاحب الموشحات المشهورة، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمَّى «طبقات الأمم»، وكان يُلقي دروسه في المسجد الجامع، والعلامة النباتي ابن بصال الطليطلي[16].

    ويجدر بنا ونحن على مشارف الانتهاء من حياة المأمون بن ذي النون أن نذكر أن ابن حيان المؤرخ الأندلسي الكبير لم يجد مَنْ يُهدي كتابه (التاريخ الكبير) سوى للمأمون؛ إذ قال في مفتتحه: «وكنتُ اعتقدتُ الاستئثار به لنفسي، وخَبْأهُ لولدي، والضنَّ بفوائده الجمَّة... إلى أن رأيتُ زفافه إلى ذي خطبة سَنِيَّة أتتني على بُعْدِ الدار، أكرم خاطبٍ وأسنى ذي همَّة، الأمير المؤثَّل[17] الإمارة المأمون ذي المجدين، الكريم الطرفين، يحيى بن ذي النون [18]»[19].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب 3/278، 279.
    [2] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/129، وابن عذاري: البيان المغرب 3/266، 267، 303، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/101، 102.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 2/609-611، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/260، 261، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149-152.
    [4] بدرو شلميطا: صورة تقريبية للاقتصاد الأندلسي، منشور في: سلمى الخضراء الجيوسي: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، 2/1060.
    [5] الثمر الجاني: الثَّمر الذي تستطيع أخذه وجنيه ما دام طَرِيًّا رطبًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة جني 14/153، والمعجم الوسيط 1/141.
    [6] الثمر العابث: الجاف، أو هو المختلط الجاف والرطب. ابن منظور: لسان العرب، مادة عبث 2/166.
    [7] ذَهَب إِبْرِيز: الخالص. ابن منظور: لسان العرب، مادة برز 5/309، والمعجم الوسيط 1/2.
    [8] نصَّ: رفع ووضع على المِنَصَّة؛ أَي: على غاية الشهرة والظهور. ابن منظور: لسان العرب، مادة نصص 7/97، والمعجم الوسيط 2/926.
    [9] كالحة الوجوه: مكشرة عابسة. الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الكاف 1/399، وابن منظور: لسان العرب، مادة كلح 2/574، والمعجم الوسيط 2/795.
    [10] فغر: فتح في انتفاخ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الفاء 2/782، وابن منظور: لسان العرب، مادة فغر 5/59، والمعجم الوسيط 2/696.
    [11] الشدوق جمع الشِّدْق: وهو جانب الفم. انظر: الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل الشين 4/1500، وابن منظور: لسان العرب، مادة شدق 10/172، والمعجم الوسيط 1/476.
    [12] سحالة اللجين: ما سقط من الفضة كالبرادة. الجوهري: الصحاح، باب اللام فصل السين 5/1727، وابن منظور: لسان العرب، مادة سحل 11/327، والمعجم الوسيط 1/420.
    [13] الجِرْم: الجسد. الجوهري: الصحاح، باب الميم فصل الجيم 5/1885، وابن منظور: لسان العرب، مادة جرم 12/90، والمعجم الوسيط 1/118.
    [14] ابن بسام: الذخيرة 7/132، 134.
    [15] ابن أرفع رأسه: هو أبو بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي، شاعر المأمون بن ذي النون، وله موشحات مشهورة يغنى بها في بلاد المغرب. ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 2/18.
    [16] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/106.
    [17] المؤثَّل؛ أَي: المجموع ذو الأصل، والدائم. ابن منظور: لسان العرب، مادة أثل 11/9.
    [18] يقول د. محمود مكي وهو من المتخصصين في دراسة تاريخ الأندلس: «والحق أننا لا نعرف كيف فعل ابن حيان لكي يُقَدِّم إلى المأمون هذه «الهدية» من تاريخه، وهو الذي وصف مساوئ أسلاف ابن ذي النون ومفاسد حكمهم ما لا نعتقد أنه يعجب هذا الأمير أو ينال منه أدنى قبول. والأعجب من ذلك في هذا التناقض هو ما نراه في فقرات أخرى ينقلها ابن بسام كتب بها ابن حيان إلى المعتمد بن عياد يهنئه بفتح قرطبة وظهوره على المأمون بن ذي النون... والغريب هنا هو أن ابن حيان يرمي المأمون بن ذي النون بأسوأ التهم، مع أنه هو الذي أهدى إليه من قبل تاريخه وطرزه باسمه». مقدمة تحقيق د. مكي لقطعة من المقتبس ص39.
    [19] ابن بسام: الذخيرة 2/578.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو ذي النون في طليطلة

    مملكة طليطلة

    أهمية طليطلة (الثغر الأوسط)



    منذ أن دخل الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس وطُلَيْطِلَة (Toledo) تُمَثِّل عين الاهتمام من الولاة والأمراء، وكانت تُعْرَف بالثغر الأوسط، ويبدو الطابع الجهادي في التسمية واضحًا ذا معنى مهمٍّ وخطير؛ إذ إنها تُمَثِّلُ الحاجز الشمالي الأوسط للدولة الإسلامية في الأندلس ضدَّ غارات الممالك النصرانية المتاخمة؛ ومن هنا فأهميتها تكمن في أمرين:

    الأول: الموقع الجغرافي المهم؛ إذ هو موقع إستراتيجي خطير عسكريًّا وسياسيًّا؛ وهذا ما جعلها موضع الاهتمام من كلا الطرفين الإسلامي والإسباني النصراني.
    الثاني: المساحة الواسعة والشاسعة لطُلَيْطِلَة وأعمالها (من الكور والمقاطعات) في قلب الأندلس؛ فهي تمتدُّ شرقي مملكة بَطَلْيُوس (الثغر الأدنى)، من قُورِيَة وترجالة (TRUJILLO) نحو الشمال الشرقي، حتى قلعة أيوب وشَنْتَمَرِيَّة الشرق، وتُمَثِّل الجنوب الغربي لمملكة بني هود في سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)، وتمتدُّ جنوبًا إلى الغرب حتى حدود مملكة قُرْطُبَة، وتمتدُّ شمالاً إلى الشرق فيما وراء نهر تاجة متاخمة لحدود مملكة قشتالة[1].

    وهذا الموقع الخطير يجعلها من ناحية في وضع الصدام العسكري المسلح مع ممالك الطوائف الأندلسية القوية ذات المطامع التوسعية، خاصة بني الأفطس في بَطَلْيُوس (الثغر الأدنى)؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الشرقي نحو الشمال، وبني هود في سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الجنوب الغربي، وبني جهور في قُرْطُبَة؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الشمالي نحو الغرب، ومن ناحية أخرى فهي موضع عدوان مستمرٍّ وغارات متواصلة من الممالك النصرانية؛ إذ تُعَدُّ طُلَيْطِلَة الخطوة الأولى والأهم للسيطرة على ملوك الطوائف الأندلسية في القبضة النصرانية، وهو ما تمَّ بالفعل على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.

    بنو ذي النون الأصل والتاريخ



    ذَكَر أصحابُ التاريخ أن بني ذي النون أسرة بربرية من قبائل هوارة، واسم جدهم الأكبر هو زنون، فتصحف الرسم بطول المدَّة ومُضيِّ الزمن، فصار (ذو النون)، وهو اسم شائع في قبائل البربر، وهم من أسرة - على حدِّ تعبير ابن عذاري المراكشي وابن الخطيب- لم يكن لها نباهة ولا رئاسة إلا في زمن الدولة العامرية؛ في فترة المنصور بن أبي عامر وولده من بعده حتى حدوث الفتنة ونكبة الخلافة[2].


    وهناك بعضُ الروايات التاريخية تُوَضِّح أن لهذه الأسرة دورًا منذ أيام الإمارة الأموية ثم الخلافة، وقد استحكم أمرهم زمن الدولة العامرية والفتنة، فابن حيان يذكر جدهم ذي النون في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238-273هـ=852-886م)، فقد خَلَّفَ عنده خَصِيًّا بحصن أُقْلِيش (Ucles) فعالجه حتى برئ. وكان ذلك سبيلاً لتوثيق العلاقة بينهما، فولاَّه الأمير حكم أُقْلِيش وشَنْتَمَرِيَّة (Santa Maria) [3]، ومن هنا برز نجم بني ذي النون على مسرح الأحداث، وخاصة في زمن الحكم المستنصر، وقد طمع بنو ذي النون في الاستقلال ولهم في ذلك محاولات؛ منها: محاولة الفتح بن موسى بن ذي النون بقلعة رباح سنة 300هـ زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر، فأرسل له حملة عسكرية بقيادة عباس بن عبد العزيز فأخضعته[4].
    ثم علا كعب بني ذي النون خاصة في دولة المنصور بن أبي عامر وولده من بعده؛ ففيها قادوا الجيوش وتَوَلَّوُا الأعمال والبلاد، وظهر منهم عبد الرحمن بن إسماعيل بن ذي النون، وكان قد مَلَك شَنْتَمَرِيَّة كلها، وملكها من بعده ابنه إسماعيل، فلما كانت نكبة الخلافة الأموية وانتهاء عهد الدولة العامرية وقعت الفتنة، فلحق إسماعيل بالثغر وجمع إليه بني عمه، وخطب لسليمان المستعين الملقب بالظافر، فأعطاه سليمانُ ولاية إقليم أُقْلِيش، ثم أخذ يتوسَّع على الممالك المجاورة له، حتى عظمت قوَّته، وانقاد له قوَّاد الثغور؛ فاستقامت له الأمور، فمنحه سليمان الظافر الوزارة ولقَّبه بناصر الدولة، فلما اضطرمت الفتنة أَعلن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذي النون استقلاله، فكان أَوَّلَ الثوار والمفارقين للجماعة، وأخذ يتوسَّع على حساب غيره ويجبي الأموال، وقد وصفه ابن حيان بالبخل قائلاً: «وكان من البخل بالمال، والكَلَفِ بالإمساك، والتقتير في الإنفاق، بمنزلةٍ لم يكن عليها أحدٌ من ملوك عصره، لم يرغب في صنيعة، ولا سارع إلى حسنة، ولا جاد بمعروف، فما أُعْمِلَتْ إليه مَطِيَّة، ولا حَمَلَتْ أحدًا نحوه ناقة، ولا عَرَّج عليه أديبٌ ولا شاعر، ولا امتدحه ناظمٌ ولا ناثر، ولا استُخْرِجَ من يده درهم في حقٍّ ولا باطل، ولا حَظِيَ أحدٌ منه بطائل، وكان مع ذلك سعيد الجدِّ، تنقاد إليه دُنياه، وتَصْحَبُه سعادتُه، فينالُ صعابَ الأمور بأهون سعيه، وهو كان فَرَطَ الملوك في إيثار الفُرقة؛ فاقتدى به مَنْ بعده... فصار جرثومة النفاق، وأوَّلَ مَنِ استنَّ سُنَّة العصيان والشقاق، ومنه تفجَّر ينبوعُ الفتن والمحن، فتباركَ مَنْ أَمْلَى له، ولم يرضَ له عقوبةَ الدنيا مثوبة»[5].

    بنو ذي النون في طليطلة

    الظافر إسماعيل بن ذي النون (427-435هـ =1036-1043م)

    عندما وقعت الفتنة وانهارت السلطة المركزية بالأندلس أضحت طُلَيْطِلَة بلا حاكم أو والٍ يتولَّى أمورها، ويضبط أمنها، ومن ثَمَّ آلت إدارة البلاد إلى قاضيها أبي بكر يعيش بن محمد بن يعيش الأسدي، وبقي في حُكم طُلَيْطِلَة إلى أن عُزِلَ وسار إلى قلعة أيوب، وظلَّ بها إلى أن تُوُفِّيَ سنة 418هـ[6]، ثم تولَّى من بعده عبد الرحمن بن متيوه، فضبط أمور طُلَيْطِلَة، وظلَّ كذلك إلى أن وافته المنية، فتولَّى من بعده ابنه عبد الملك بن عبد الرحمن بن متيوه، فأساء السيرة في أهلها، واضطربت الأمور وعَمَّت الفوضى، فاجتمع زعماء طُلَيْطِلَة على أن يرسلوا إلى حاكم شَنْتَمبَرِيَّة عبد الرحمن بن ذي النون، الذي وَطَّد ابنه إسماعيل أمور البلاد، وكانت هذه فرصة ذهبية لابن ذي النون، وعلى الفور أرسل لهم ابنه إسماعيل بن ذي النون، فاستولى على طُلَيْطِلَة ودخلها سنة (427هـ=1036م)، وتلقَّب بالظافر، وبدأ يتوسَّع في مُلكه الجديد، واستعان في تدبير أمور البلاد بكبير الجماعة وشيخ البلدة أبي بكر ابن الحديدي؛ فهو شيخها والمنظور إليه بها من أهل العلم والعقل، والدهاء وحسن النظر، فضلاً عن كونه محبوبًا من أهل طُلَيْطِلَة، فكان الظافر إسماعيل لا يقطع أمرًا دونه، ويُشاوره في مهمات أموره وشئون دولته، ولم تَطُلْ مدَّة ولاية الظافر إسماعيل؛ إذ وافته المنية سنة (435هـ=1043م)، وخلف من بعده ابنه يحيى بن إسماعيل الملقب بالمأمون[7].


    [1] انظر: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/95، بتصرف.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/276، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص176، 177، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/161، 6/141.
    [3] ابن بسام: الذخيرة 7/142، وابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 2/11، 12.
    [4] ابن عذاري: البيان المغرب 2/159.
    [5] ابن بسام: الذخيرة 7/142، 143.
    [6] ابن بشكوال: الصلة، تحقيق: أ/ إبراهيم الأبياري 3/987، ترجمة رقم 1532، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/161، وذكر أن القاضي يعيش توفي سنة 427هـ.
    [7] انظر تفصيل الأحداث في: ابن بسام: الذخيرة 2/945، وابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 2/11، 12، وابن عذاري: البيان المغرب 3/276، 277، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص177، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/161، وفيه توفي الظافر إسماعيل سنة 429هـ.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء الأندلس في بطليوس

    بطليوس حاضرة العلم والأدب



    كانت بَطَلْيُوس في ظلِّ بني الأفطس حاضرة من حواضر العلم والأدب والفقه في فترة ملوك الطوائف، وكان يتسابق إليها العلماء والشعراء؛ ينهلون من عطايا ملوكها، وخاصة المظفر والمتوكل، وقد اعتنى بنو الأفطس عناية فائقة بالأدب والشعر خاصة، ولعلَّ أشهر شعرائهم الوزير الشاعر الأديب ابن عبدون، الذي يُعَدُّ من أشهر وزراء الطوائف وشعرائهم، وهو عظيم مُلْكِ بني الأفطس ونظيم سلكهم، وقد رثا دولتهم بكلمات اشتملت على كل مَلِك قُتل، وأشارت إلى مَنْ غُدر منهم وخُتِلَ، تُكبرها المسامع ويعتبر بها السامع[1]،كما أنه قد نبغ في بلاط بَطَلْيُوس العديد من الفقهاء والعلماء الأجلاَّء، الذين قالوا الحقَّ وجهروا به، وسَعَوْا في درأ الصدع والفتنة والصلح بين ملوك الطوائف، ويأتي على رأسهم أبو الوليد الباجي، والعالم الفقيه ابن عبد البر المالكي القرطبي الأصل، وغيرهم كثير، هذا فضلاً عن أن المظفر بن الأفطس كان من كبار أدباء عصره، ويكفي أنه صاحب كتاب المظفر الذي عدَّه ابن حزم مفخرة من مفاخر الأندلس، كما كان ابنه المتوكل بن الأفطس أديبًا شاعرًا عالمًا، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ وعلمٍ[2].


    أبو الوليد الباجي (403-474 هـ=1012-1081م)

    هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث، الأندلسي الباجِيُّ، أصله من بَطَلْيُوس ومولده في بَاجَة، ارتحل في طلب العلم والفقه بين الحجاز وبغداد ودمشق والموصل وأصبهان، فأخذ علم الحديث والفقه والكلام، ثم عاد إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير، حَصَّله مع الفقر والتقنُّع باليسير، ثم ولي القضاء، حدَّث عنه ابن عبد البر وابن حزم والحميدي والطرطوشي وابنه أبو القاسم بن سليمان، وقد أجمع العلماء على أنه أحد أئمة المسلمين في المشرق والمغرب، وكان أبو الوليد الباجي من المقرَّبين إلى المتوكل بن الأفطس ينصحه ويُذَكِّره، كما أنه كان من العلماء العاملين، الذين يحملون هموم دعوتهم ودينهم، وكانت تشغله دائمًا أحوال الأندلس والتفرُّق والتنازع بين ملوك الطوائف واستقوائهم بالنصارى، وكان ألفونسو السادس قد شدَّد غاراته على أراضي المسلمين، وأثقل أمراءهم بالجزية، بل إنه لم يقنع بها، فلما رأى الباجي ذلك أعدَّ عُدَّته من الإيمان، وشحذ همَّته لقول الحقِّ لهؤلاء الأمراء، وأجهد –رحمه الله- نفسه في دعوة ملوك الطوائف إلى الاتحاد ونبذ الفُرقة والتشاحن، ولكن لم يُصْغْ أحد إلى دعوته، وحَسْبُه أنه قد أعذر إلى ربه، ومات –رحمه الله- ولم يَرَ حُلْمَه في اجتماع كلمة المسلمين.

    صنَّف أبو الوليد الباجي كتبًا كثيرة؛ منها: كتاب (المنتقى)، و(إحكام الفصول في أحكام الأصول)، و(التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح).. وغير ذلك[3].

    ابن عبد البر (368-463 هـ=978-1071م)

    أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، الإمام العلامة، حافظ المغرب، ولد بقُرْطُبَة وبها تعلَّم على يد كبار رجالها وفقهائها، قال عنه الإمام أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث. وقال عنه أيضًا: أبو عمر أحفظ أهل المغرب.

    فارق ابن عبد البر قرطبة وجال في غرب الأندلس مدةً، ثم تحوَّل إلى شرق الأندلس، وله رحلات كثيرة فيها، وقد استقرَّ به الأمر في بَطَلْيُوس غرب الأندلس؛ فتولَّى قضاء لَشْبُونَة وشَنْتَرِين للمظفر بن الأفطس، ثم رحل إلى شاطبة وبها تُوُفِّيَ.

    من تصانيفه: (الدرر في اختصار المغازي والسير)، و(العقل والعقلاء)، و(الاستيعاب)، و(بهجة المجالس وأنس المجالس)، و(التمهيد) [4].


    [1] الفتح بن خاقان: قلائد العقيان 37-40، وابن دحية الكلبي: المطرب من أشعار أهل المغرب ص27-33، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب 129-140، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص186، 189، والإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 4/47-51.
    [2] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/96، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص185.
    [3] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/98، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/408، 409، والصفدي: الوافي بالوفيات 15/229، 230.
    [4] الذهبي: سير أعلام النبلاء 18/153-156.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المتوكل على الله بن الأفطس

    المنصور يحيى بن الأفطس

    تُوُفِّيَ المظفر بن الأفطس سنة 460هـ، وخلفه ابناه يحيى وعمر، أما يحيى فخلف أباه ومَلَك بَطَلْيُوس وأعمالها سنة 460هـ، وتلقَّب بالمنصور، وكان أخوه عمر بيَابرَة (Evora) (بلدة في جنوب البرتغال حاليًا) حاكمًا عليه وما إليها من كور وبلدات، وما كاد المنصور يحيى لينعم بمُلْكِ أبيه ومملكته الواسعة، حتى ثار عليه أخوه عمر حاكم يَابرَة، واشتدَّ النزاع بينهما.

    المتوكل على الله بن الأفطس



    بلغ الصراع بين الأخوين عمر ويحيى أشدَّه سنة (461هـ=1068م)، وكانت تلك الفتنة فرصة لألفونسو بن فرناندو ملك قشتالة ليشنَّ هجومه على بلاد المسلمين، وينتزع أموالهم وديارهم، واشتعلت الحرب الأهلية بمملكة بَطَلْيُوس وأصبحت على أشدِّها، وتفاقم الأمر فالتجأ عمر إلى المعتمد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة، ومال أخوه يحيى المنصور إلى المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة، وما زال الأمر سجالاً، وكادت نار الفتنة تأكل كل شيء، إلا أن الله وقى المسلمين شرها بموت يحيى المنصور فجأة سنة (461هـ=1068م)، وانفرد عمر بالأمر كله دون منازع. ودخل بَطَلْيُوس وجعل ابنه العباس على يَابرَة، وتلقَّب بالمتوكل على الله[1].


    كان المتوكِّل عالي القدر، مشهورًا بالفضل، مثلاً في الجلالة والسرور، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ وعلمٍ[2].

    المتوكل بن الأفطس .. الشاعر الأديب

    ولم تكن شهرة المتوكل بن الأفطس شهرةَ سياسةٍ أو دهاء، أو حروب وشجاعة وإغارة، وإنما كانت شهرته شهرة أديب وشاعر وبليغ؛ فقد جمع –رحمه الله- فوق شجاعته علمًا وأدبًا وبلاغة؛ فكان المتوكل بن الأفطس في حضرة بَطَلْيُوس كالمعتمد بن عباد في حضرة إِشْبِيلِيَة، فكم أُحْيِيَت الآمال بحضرتهما، وشُدَّت الرحالُ إلى ساحتهما[3].

    كما وصفه المراكشي بعد مدحه لأبيه المظفر بقوله: وكان لابنه المتوكل قدم راسخة في صناعة النظم والنثر مع شجاعة مفرطة وفروسية تامَّة، وكان لا يُغِبُّ[4] الغزو، ولا يشغله عنه شيء[5].

    وقد نَقَلَتْ لنا كُتب التاريخ والتراجم جملة من أشعاره وأخباره، تنمُّ على سعة علم المتوكل بن الأفطس وثقافته وقوَّة بلاغته شعرًا ونثرًا؛ وتتجلى فيها الرُّوح الدينية التي كانت ملازمة له وظاهرة في أقواله وأفعاله، وأَمَّا عن نثره –رحمه الله- فهو أشفُّ من شعره، وإنَّه لطَبَقة تتقاصر عنها أفذاذ الكُتَّاب، ونهاية من نهاية الآداب[6].

    المتوكل بن الأفطس في طليطلة

    ودولة المتوكل بن الأفطس لم يَعْلُ ذِكْرُها بين ملوك الطوائف بالعلم والثقافة فقط، بل كذلك بانتشار العدل والمساواة بين الناس، وإيثاره الشريعة وتقديمه للعلماء، أمَّا عن الجانب السياسي من حياة المتوكل بن الأفطس فلعلَّ أشهر الأحداث السياسية في عهده دخوله طُلَيْطِلَة سنة (472هـ=1079م)، وذلك بعد هروب حاكمها القادر بالله يحيى بن ذي النون إثر ثورة عليه، وظلَّ المتوكل حاكمًا على طُلَيْطِلَة يُدَبِّرُ أمرها وشئونها، ثم خرج منها بعودة القادر بالله مرَّة أخرى مستعينًا بالنصارى، وقد عاد المتوكل إلى بَطَلْيُوس بعد أن حصل على أموال وذخائر ابن ذي النون، بيد أن طُلَيْطِلَة لم تنعم كثيرًا في يد القادر بالله؛ إذ سقطت طُلَيْطِلَة في يد النصارى سنة (487هـ=1085م)، على نحو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.

    وبعد سقوط طُلَيْطِلَة بدأ ألفونسو ملك قشتالة يُعِدُّ عُدَّته للقضاء على ملوك الطوائف واحدًا إثر آخر، وهنا لاح في الأُفق الخطر، وعلى الفور تحرَّكت النخوة والغَيْرة على الدين؛ فانتدب المتوكل قاضيه أبا الوليد الباجي ليطوف بملوك الطوائف؛ يدعوهم إلى الوحدة ولَمِّ الشعث ومدافعة العدوِّ، ولما لم يستنصره أحدٌ انتهى به الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحوُّل في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين[7]، على نحو ما سنُفَصِّلُه في المشهد الصليبي وعلاقته بملوك الطوائف، إن شاء الله.

    محنة بني الأفطس

    وقد دامت أيامُ المتوكل بن الأفطس إلى أن تغلَّب المرابطون على الأندلس، فبعد أن حاصر سير بن أبي بكر إِشْبِيلِيَة وأسقطها (484هـ=1091م)، قام المتوكل بن الأفطس بما لم يكن متخيلاً من مثله؛ لقد راسل ألفونسو السادس، ومكَّنه من لَشْبُونَة وشَنْتَرِين وشَنْتَرَة؛ وذلك ليستعين به على المرابطين، فلما رأى الناسُ منه ذلك انحرفوا عنه، فلما كانت أوائل سنة (488هـ=1059م) راسلوا سير بن أبي بكر قائد المرابطين، فدخل بَطَلْيُوس وحاصرها، واعتصم المتوكل ومَنْ معه بقَلعة بَطَلْيُوس لمناعتها، ولم يتمكَّن ألفونسو من معاونة حليفه المسلم المتوكل، وقد استطاع المرابطون دخول بَطَلْيُوس بسهولة، وأعملوا فيها السيف والقوَّة، وقبض سير بن أبي بكر على المتوكل وعلى ابنيه العباس والفضل، وأُخِذَ بهم إلى إِشْبِيلِيَة، وعلى مقربة منها قيل له: تأهَّب للموت. فسأل أن يُقَدَّم ابناه، فقدَّمُوهما قبله رغبة منه أن يحتسبهما عند الله ولينال أجرهما، فقُدِّمَا عليه فقتلا، وقام بعدهما كي يُصَلِّيَ ركعتين فطعنوه بالرماح؛ وقد اختلط كلامه في صلاته، حتى فاضت نفسه وغربت شمسه[8].

    وكان للمتوكل ابن اسمه المنصور بعث به إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة؛ ليمتنع فيه، فلمَّا علم بما جرى القدر به في أبيه وإخوته، سار بأهله إلى ملك قشتالة ليحتمي به، وأقام بأرضه، وقيل بأنه اعتنق النصرانية[9].

    وهكذا التاريخ يُعَلِّمُنَا.. وهكذا انتهت محنة بني الأفطس.. وهكذا انتهت مأساة المتوكل على الله.. وهكذا تمَّت للمرابطين السيطرة على غرب الأندلس.. وهكذا دفع المتوكل بن الأفطس ثمن موالاته للنصارى من دون المؤمنين، وتلك زلَّة لم يغفرها له التاريخ، مع حُسن سيرته وشيوع عدله وعلمه.. ولكنها الدنيا وشهوة السلطان، وصدق الله إذ يقول:
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].


    [1] ابن بسام: الذخيرة 4/650، 651، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، 98، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
    ([2]) ابن الأبار: الحلة السيراء 2/96، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص185.
    ([3]) ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 1/364.
    ([4]) أَغَبَّ القومَ: جاءَ يومًا وترك يومًا، وأَغَبَّ عَطاؤُه: إِذا لم يأْتنا كلَّ يوم. والمقصود: لا يترك الغزو. الجوهري: الصحاح، باب الباء فصل الغين 1/190، 191، وابن منظور: لسان العرب، مادة غبب 1/634، والمعجم الوسيط 2/642.
    ([5]) عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص128.
    ([6]) الفتح بن خاقان: قلائد العقيان ص45، 46، وابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 4/45، 46.
    ([7]) عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/91.
    ([8]) ابن دحية الكلبي: المطرب من أشعار أهل المغرب ص26، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص128، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/102، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص185، 186، والإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 4/46، 47.
    ([9]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص186، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/369.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المظفر بن الأفطس

    المظفر بن الأفطس .. الملك الشجاع



    المظفر سيف الدولة أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، خلف والده بعد وفاته سنة 437هـ، وكان المظفَّر مثل أبيه بعيد النظر والسياسة، فعمل على توطيد مُلْكه في بَطَلْيُوس وما حولها، وإقرار النظام في أنحاء المملكة؛ ليتسنَّى له مراقبة الأحداث الخارجية؛ سواء ما يُخَبِّؤُه القدر له من ملوك الطوائف، أو ما يُدَبِّرُه النصارى له في الشمال، واستطاع بحنكته وشجاعته أن يُقيم ملكًا ضاهى فيه مُلْك بني عباد في إِشْبِيلِيَة، ومُلْك بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، ولم يكن ذلك إلا بدماء جُنده التي أُهدرت في ساحات الحرب بينه وبين ابن عباد، وخاصة في المعارك العنيفة بينهما حول لَبْلَة ويَابرَة الواقعتين بين مملكة إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، وكانت المعارك بينهما شنيعة، كما كانت سجالاً بين الطرفين، وكاد كل منهما يُفني الآخر، لولا تدخُّل الوزير أبي الحزم جهور وابنه أبي الو ليد بن جهور صاحب قُرْطُبَة على نحو ما سنفصِّله إن شاء الله[1].


    وما كان المظفر لينتهي - ولو إلى حين - من خصمه العنيد المعتضد بن عباد حتى وقع عرضة لهجمات المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة ودارت بينهما معارك طاحنة[2].

    لم يكن النصارى في الشمال لِتغيب عنهم تلك الأحداث المؤسفة في بلاد المسلمين؛ لأنهم يتحيَّنون الفرصة بين الحين والآخر للقضاء على الإسلام في الأندلس، فما أن استتبَّ الأمر لفرناندو الأول بن سانشو ملك قشتالة وليون، حتى هاجمت قوَّاته المنطقة الشمالية والغربية لمملكة بَطَلْيُوس -أي: شمال البرتغال حاليًا- ودارت بينهما حروب كانت الغلبة فيها للنصارى، وضاعت الثغور الغربية في أيدي فرناندو، ولعلَّ أعظمها وأفدحها سقوط قُلُمْرِيَة (Coimbra) سنة (456هـ = 1064م)، وإجبار ابن الأفطس على دفع الجزية للنصارى[3] على نحو ما سنفصِّله ضمن حلقات تطوُّر المشهد الصليبي في عهد ملوك الطوائف.

    وفاة المظفر بن الأفطس

    وهكذا ظلَّ المظفر بن الأفطس يتقلَّب من حال إلى حال، لا يكاد يُغمض جفنيه عن حرب في الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب، وظلَّ كذلك حتى وافته المنية سنة (460هـ=1067م)، وخَلَفه ابنه يحيى على بَطَلْيُوس وتلقَّب بالمنصور[4].

    المظفر بن الأفطس .. أديب الملوك

    وقبل أن يتطرَّق بنا الحديث عن فترة المنصور يحيى وأخيه المتوكل عمر، يجدر بنا أن نذكر جانبًا من الجوانب المضيئة في حياة المظفر -رحمه الله، وهو الجانب الفكري والنشاط العلمي الذي خلفه في بَطَلْيُوس.

    فمع شدَّة المظفر وبأسه واستحكام قوته في الحروب والنزاعات، إلا أنه كان أديب ملوك عصره، شغوفًا بالعلم والثقافة ومجالسة العلماء، وشراء الكتب وجمعها، حتى أصبح –رحمه الله-حكاية زمانه في العلم، كما كان –رحمه الله- يُحضر العلماء للمذاكرة فيُفيد ويستفيد[5]، وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق، المترجم بـ(التذكرة) والمشتهر اسمه بـ(كتاب المظفر أو المظفري)، وهو في مائة مجلد، وقيل: في خمسين مجلد. وقيل: في عشرة أجزاء. يشتمل على علوم وفنون من مغازٍ وسِيَرٍ، ومَثَلٍ وخَبَرٍ، وجميع ما يختصُّ به علم الأدب، فكان موسوعة علمية وتاريخية وأدبية عظيمة؛ جمعت بين الآداب المتخيَّرة، والطرائف المستملحة، والنكت البديعة، والغرائب الملوكية واللغات الغربية، وقد ألف المظفر هذه الموسوعة بنفسه، ولم يستعن فيه بأحد من العلماء إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيرة[6].

    فأيُّ علم وثقافة! وأيُّ همَّة وعزيمة امتلكها المظفر بن الأفطس! وأين وقت الفراغ الذي كفله لنفسه ليكتب هذا السفر العظيم، وهذا ما حدا بابن حزم الأندلسي أن يفتخر به على ملوك الأندلس جميعًا، ويجعله فضيلة من فضائل الأندلس على مرِّ التاريخ، بقوله: وهل لكم ملك أَلَّف في فنون الأدب كتابًا في نحو مائة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بَطَلْيُوس، ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همَّة الأدب[7].

    ومن شعره: [الوافر]
    أَنِفْتُ مِنَ الْمُدَامِ[8] لأَنَّ عَقْلِي

    أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ أُنْسِ الْمُدَامِ
    وَلَمْ أَرْتَحْ إِلَى رَوْضٍ وَزَهْرٍ

    وَلَكِنْ لِلْحَمَائِلِ وَالحُسَامِ
    إِذَا لَمْ أَمْلِكِ الشَّهَوَاتِ قَهْرًا

    فَلَمْ أَبْغِي الشُّفُوفَ عَلَى الأَنَامِ
    وكان يقول: مَنْ لم يكن شعره مثل شعر المتنبي والمعري فليسكت[9].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب 3/210-212.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/283.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب 3/238، 239، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
    [4] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/160، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، وذكر الدكتور حسين مؤنس في تحقيقه للحلة السيراء أن المظفر بن الأفطس توفي سنة 456هـ=1063م، وأيَّد ذلك في حاشية 2/97، في ذِكْر تسلسله لحكام بني
    [5] المقري: نفح الطيب 3/380، 381.
    [6] ابن حزم وابن سعيد والشقندي: فضائل الأندلس وأهلها ص35، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص128، وابن بسام: الذخيرة 2/60، 4/640، 641، وابن عذاري: البيان المغرب 3/236، 237، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص183، 184.
    [7] ابن حزم وابن سعيد والشقندي: فضائل الأندلس وأهلها ص35.
    [8] المدام: أي الخمر.
    [9] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو الأفطس في بطليوس


    بطليوس



    في الثغر الأدنى من بلاد الأندلس تَكَوَّنت مملكة بَطَلْيُوس؛ وهي مملكة تُمَثِّل بُعْدًا مهمًّا في الصراع بين ممالك الطوائف؛ نظرًا لأهميتها الجغرافية الخاصة؛ فهي من ناحية تقع في الشمال من مملكة إِشْبِيلِيَة، ولا يفصل بينهما إلا سلسلة جبال الشارات أو سييرا مورينا، ومن ناحية أخرى فهي تشمل رقعة واسعة تمتدُّ من غرب مملكة طُلَيْطِلَة عند مثلث وادي يانة، وغربًا حتى المحيط الأطلسي، كما تشمل بَطَلْيُوس (Badajoz) المدينة المهمة من مدن المملكة فهي العاصمة، وتُعَدُّ المنطقة الوسطى للمملكة، إضافة إلى أنها تشمل المنطقة الغربية لبلاد الأندلس؛ أي: تشمل كل دولة البرتغال الحالية تقريبًا، حتى مدينة بَاجَة (beja) في الجنوب، وبالتالي فهي تشمل مدن مهمة؛ مثل: مَارِدَة (Mérida) ولَشْبُونَة (lispon) وشَنْتَرِين (Santarém) وقُلُمْرِيَة (Coimbra)، وغيرها.


    مملكة بني الأفطس

    ظهرت مملكة بَطَلْيُوس وأحدثت تغييرًا فعليًّا في عصر الطوائف على يد بني مسلمة، أو بني الأفطس على ما هو مشهور في كُتب التاريخ الأندلسي، فقد كانوا سادتها نيفًا وسبعين سنة.



    وقصة الدولة تبدأ عند احتدام الفتنة في أواخر عهد الحكم المستنصر بالله، حيث كان يحكم المنطقة الغربية لبلاد الأندلس (البرتغال) فتى يُسَمَّى سابور العامري أو الفارسي؛ أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وظلَّ حاكمًا على البلاد ثلاث عشرة سنة، فلمَّا اشتدَّت أحداث الفتنة وطمع كل طامع بما تحت يده من البلاد، استبدَّ سابور وأعلن انفصاله واستقلاله، وكان فارسًا شجاعًا، إلا أنه افتقد الخبرة في شئون الحُكم والإدارة وأنواع المعارف، فاستوزر عبد الله بن محمد بن مسلمة الأفطس، ورمى إليه بأمور البلاد، فدبَّر أعماله، فما لبث أن صار الأفطس هو الحاكم الفعلي في البلاد، فلما مات سابور سنة (413هـ=1022م)، ترك ولدين صغيرين لم يبلغا الحلم؛ هما: عبد الملك وعبد العزيز، فأعلن الأفطس استقلاله، واستبدَّ بالأمور من دون الولدين الصغيرين، وضبط أمور مملكته وتلقَّب بالمنصور، وصارت المملكة له ولأعقابه من بعده.


    عبد الله بن مسلمة بن الأفطس

    عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، أصله من مِكْنَاسة المغربية، من قوم متواضعين غير أنه كان من أهل المعرفة التامَّة، والعقل والدهاء والسياسة؛ لذلك لم يكن غريبًا عليه - وقد دانت له المملكة - أن يعمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتقوية جيشه، وبناء الأسوار بما يضمن له حماية المملكة من أي عدوان خارجي؛ خاصة وأن القدر وضعه بين خصمين لدودين، يتحيَّنان الفرص بين الحين والآخر للانقضاض على خصميهما؛ وهما: بنو عباد في إِشْبِيلِيَة، وبنو ذي النون في طُلَيْطِلَة.

    وكان ابن الأفطس يرقب تحرُّكات القاضي أبي القاسم بن عباد بكل حذر وحيطة، خاصة وأن دولة القاضي ابن عباد أضحت في قوة؛ لذلك تزايدت مخاوفه حتى أصبحت حقيقة بمهاجمة ابن عباد مدينة بَاجَة إثر اندلاع الثورة فيها سنة 421هـ، وأُسر فيها محمد بن عبد الله بن الأفطس ثم أُطلق سراحه، ثم عاد الصدام بينهما مرة أخرى سنة (425هـ=1034م)، وكانت الغلبة هذه المرَّة لقوات ابن الأفطس، وكانت محنة شنيعة لبني عباد، ثم توقَّف السجال بين الطرفين بسبب انشغال بني عباد بحروبهم ضد البربر، التي أسفرت عن محنة أشد من سابقتها سنة 431هـ؛ إذ تجمَّع البربر في غَرْنَاطَة وقَرْمُونة ومَالَقَة ضد قوات ابن عباد وهزمته هزيمة منكرة، وقُتل إسماعيل ابن القاضي أبي القاسم بن عباد، على نحو ما سنفصِّله في موضعه إن شاء الله[1].

    وعلى النحو الآخر كان عبد الله بن الأفطس مشغولاً بالقضاء على ثورة ابني سابور (عبد العزيز وعبد الملك) في لَشْبُونَة؛ إذ طمع عبد العزيز في استرداد مُلْكِ أبيه، فأعلن الثورة في لَشْبُونَة، ولم تَطُلْ ثورته لوفاته، فخلفه من بعده أخوه عبد الملك، ويبدو أنه لم يكن على قدر الكفاءة والسياسة والإدارة، فلم يقنع به أهل لَشْبُونَة؛ فكاتبوا سرًّا ابن الأفطس أن يبعث لهم واليًا من عنده، فسيَّر لهم جيشًا عليه ولده محمد، ودخل المدينة دون مقاومة تُذكر؛ إذ تواطأ أهل البلد ضده مع ابن الأفطس، فلم يفق عبد الملك حتى وجد نفسه محاطًا بالعساكر والجند، فأذعن بالتسليم، وطلب السلامة له ولأهله ولماله، فأُعطي ما طلب، وتركوه يسير حيث يشاء، فترك لَشْبُونَة وقصد قُرْطُبَة، فلما قرب منها استأذن الوزير ابن جهور في الدخول فأذن له، فدخل قُرْطُبَة ونزل بدار أبيه سابور، وظلَّ بها إلى أن مات[2].

    وهكذا ظلَّ عبد الله بن الأفطس يعمل على تقوية دولته وتوسعتها وإحكام السيطرة عليها، إلى أن مات في جمادى الأولى سنة (437هـ=1045م)، وخلفه من بعده ابنه محمد الملقب بالمظفر[3].


    [1] ابن بسام: الذخيرة، 3/20-22، وابن عذاري: البيان المغرب 3/201-203.

    [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/237.
    [3] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، وابن عذاري: البيان المغرب 3/236، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص183.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المعتمد بن عباد

    المعتمد بن عباد ملك إشبيلية



    تُوُفِّيَ المعتضد سنة (461هـ=1069م) وآل حُكم مملكة إِشْبِيلِيَة إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد، وتلقَّب بالظافر بحول الله والمؤيد بالله والمعتمد على الله، وكان المعتمد يوم أن جلس على كرسي والده فتًى في ريعان شبابه في الثلاثين من عمره، كان مولده سنة 431هـ أو 432هـ[1].


    كان المعتمد بالله فارسًا شجاعًا، وشاعرًا ماضيًا، مشكور السيرة في رعيته، تَلَقَّب بالمعتمد؛ لشدة حبه لجاريته اعتماد[2]، وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل، مخالفًا لأبيه في القهر والسفك والأخذ بالظنِّ، ردَّ جماعة ممَّنْ نفاهم أبوه، وأحسن السيرة، إلا أنه كان مولعًا بالخمر، منغمسًا في اللذات، عاكفًا على البطالة، مخلدًا إلى الراحة؛ فكان ذلك سبب عطبه وأصل هلاكه[3]، وكان شاعرًا رائع الشعر، وشغوفًا بالأدب وعلومه[4].

    المعتمد وتوسع مملكة إشبيلية

    امتلاك قرطبة

    ويُعَدُّ عصر المعتمد في الأندلس من أشهر عصور الطوائف على الإطلاق، وكان أول عمل تضلَّع له المعتمد بن عباد أن تدخَّل وبصورة مباشرة في شئون قرطبة؛ ليحسم الخلاف ويُحَقِّق حلم آبائه في تملُّكها، وهذا ما حدث له بالفعل سنة (462هـ=1070م)، وكانت بينه وبين المأمون بن ذي النون (ملك طليطلة) مساجلات، وألعاب سياسية تحت الستار على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.

    التوسع على حساب غرناطة وطليطلة

    كان المعتمد بن عباد على عِلْم بما تُضمره له القبائل البربرية في الأندلس وخاصة في غَرْنَاطَة، صاحبة المساجلات العسكرية الشرسة مع إِشْبِيلِيَة، وبالتالي سَيَّر المعتمد قوَّاته ناحية غَرْنَاطَة للسيطرة على ممتلكاتها وضَمِّها لنفسه، واستطاع ضمَّ جَيَّان أهمَّ قواعد غَرْنَاطَة الشمالية سنة (466هـ=1074م)، كما استطاع أن يستولي على معظم أراضي طُلَيْطِلَة الجنوبية الشرقية من المعدن شرقًا حتى قونقة، واستولى على مُرْسِيَة وبَلَنْسِيَة من يحيى القادر بن ذي النون[5].

    صدامات المعتمد بن عباد

    صدامات المعتمد ومملكة غرناطة

    ولم يقنع المعتمد بن عباد بما تحت يديه؛ إذ طمع في ضمِّ غَرْنَاطَة، وهنا اصطدم بعبد الله بن بُلُقِّين حاكمها، ودارت بينهما حروب ونزاعات، استنصر فيها المعتمد بن عباد بالنصارى على أخيه المسلم، مقابل ما يدفعه من جزية باهظة أثقلت كاهله وكاهل غيره من ملوك الطوائف، على نحو ما سنُبَيِّنُه في الصراع بين إِشْبِيلِيَة وغَرْنَاطَة، إن شاء الله.

    صدامات المعتمد ومملكة طليطلة

    كما أن المعتمد بن عباد وقع في خصومات مع بني ذي النون أصحاب طُلَيْطِلَة، انتهت بسقوط طُلَيْطِلَة في يد ملك النصارى ألفونسو السادس، ليدفع المعتمد بن عباد ثمن خيانته واستهتاره بدينه وبدماء المسلمين، وتعاونه مع النصارى ضدَّ ملوك الطوائف، والتي جاءت بالوبال عليه وعلى الأندلس؛ إذ هاجم النصارى ممالك الأندلس وأولها إِشْبِيلِيَة وفرضوا عليها الحصار، وانتهى الأمر باستدعاء المرابطين من المغرب العربي.

    مملكة المعتمد بن عباد

    ولقد استطاع المعتمد بن عباد أن يُؤَسِّس أعظم مملكة للطوائف، تمتدُّ في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الأندلسية، من غرب ولاية تُدْمِير شرقًا حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوبًا حتى أراضي الفرنتيرة[6].

    المعتمد بن عباد .. الشاعر الأديب

    وفاقت شهرة المعتمد الأدبية والشعرية شهرته في السياسة والمُلْكِ؛ فقد كان له في الأدب باعٌ، ينظم وينثر، وفي أيامه نفقت سوق الأدباء[7]، فتسابقوا إليه وتهافتوا عليه، وشعره مدوَّن موجود بأيدي الناس، ولم يكُ في ملوك الأندلس قبله أشعر منه ولا أوسع مادة[8]، ومحاسن المعتمد في أشعاره كثيرة، وخصوصًا مراثيه لأبنائه وتفجُّعه لزوال سلطانه ومنها: [مجزوء الكامل]
    قَالُوا الْخُضُوعُ سِيَاسَةٌ

    فَلْيَبْدُ مِنْكَ لَهُمْ خُضُوعُ
    وَأَلَذُّ مِنْ طَعْمِ الْخُضُو

    عِ عَلَى فَمِي السُّمُّ النَّقِيعُ
    إِنْ تَسْتَلِبْ عَنِّي الدُّنَا

    مُلْكِي وَتُسْلِمُنِي الْجُمُوعُ
    فَالْقَلْبُ بَيْنَ ضُلُوعِهِ

    لَمْ تُسْلِمِ الْقَلْبَ الضُّلُوعُ
    لَمْ أُسْتَلَبْ شَرَفَ الطِّبَا

    عِ، أَيُسْلَبُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ؟
    قَدْ رُمْتُ يَوْمَ نِزَالِهِمْ

    أَلاَّ تُحَصِّنَنِي الدُّرُوعُ
    وَبَرُزْتُ[9] لَيْسَ سِوَى الْقَمِيـ

    ـصِ عَلَى الْحَشَا شَيْءٌ دَفُوعُ
    وَبَذَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَسِيـ

    ـلَ إِذَا يَسِيلُ بِهَا النَّجِيعُ
    أَجَلِي تَأَخَّرَ لَمْ يَكُنْ

    بِهَوَايَ ذُلِّي وَالْخُشُوعُ
    مَا سِرْتُ قَطُّ إِلَى الْكُمَا

    ةِ وَكَانَ مِنْ أَمَلِي الرُّجُوعُ
    شِيَمُ الأُلَى أَنَا مِنْهُمُ

    وَالأَصْلُ تَتْبَعُهُ الْفُرُوعُ[10]

    وفاة المعتمد بن عباد

    كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في المغرب إِثْر نكبته مع المرابطين؛ جزاء تعاونه مع النصارى ضد ابن تاشفين، وذلك في ذي الحجة سنة (488هـ=1095م)، وقد رثى نفسه بهذه الأبيات، وأمر أن تُكتب على قبره: [البسيط]
    قَبْرَ الْغَرِيبِ سَقَاكَ الرَّائِحُ الْغَادِي

    حَقًّا ظَفِرْتَ بِأَشْلاءِ ابْنِ عَبَّادِ
    بِالْحِلْمِ بِالْعِلْمِ بِالنُّعْمَى إِذَا اتَّصَلَتْ

    بِالْخِصْبِ إِنْ أَجْدَبُوا بِالرِّيِّ لِلصَّادِي
    بِالطَّاعِنِ الضَّارِبِ الرَّامِي إِذَا اقْتَتَلُوا

    بِالْمَوْتِ أَحْمَرَ بِالضِّرْغَامَةِ الْعَادِي
    بِالدَّهْرِ فِي نِقَمٍ بِالْبَحْرِ فِي نِعَمٍ

    بِالْبَدْرِ فِي ظُلُمٍ بِالصَّدْرِ فِي النَّادِي
    نَعَمْ هُوَ الْحَقُّ فَاجَانِي عَلَى قَدَرٍ

    مِنَ السَّمَاءِ وَوَافَانِي لِمِيعَادِ
    وَلَمْ أَكُنْ قَبْلَ ذَاكَ النَّعْشِ أَعْلَمُهُ

    أَنَّ الْجِبَالَ تُهَادِي فَوْقَ أَعْوَادِ
    فَلا تَزَلْ صَلَوَاتُ اللهِ نَازِلَةً

    عَلَى دَفِينِكَ لا تُحْصَى بِتَعْدَادِ([11])
    وهكذا انتهت حياة ملك ملوك الطوائف، وهكذا انتهت مملكة إِشْبِيلِيَة إلى الأبد.

    علماء الأندلس في إشبيلية

    تمتعت إِشْبِيلِيَة بمكانة علمية واسعة النطاق؛ بقدر ما كانت تتمتَّع به من مكانة سياسية وعسكرية، وقد كان بنو عباد في إِشْبِيلِيَة أعظم ملوك الطوائف اعتناءً بالأدب قدر اعتنائهم بالسياسة، وكان بلاط إِشْبِيلِيَة مسرحًا رائعًا للشعراء والأدباء والفقهاء؛ إذ كان المعتضد شاعرًا أديبًا، فضلاً عن أن شهرة المعتمد الشعرية ربما فاقت شهرته السياسية، وقد اجتمع في بلاد بني عباد فحول شعراء الطوائف، وقد اعتنَوْا بهم وقَدَّمُوهم، واتخذوهم ندماء ووزراء، ولعلَّ أشهرهم ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار الوزير الفارس، وكان من أشهر كُتَّاب الدولة البزلياني كاتب المعتضد، الذي قال فيه ابن بسام: «أحد شيوخ الكُتَّاب، وجهابذة أهل الآداب»[12].

    [1] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/53.
    [2] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 2/109.
    [3] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/54.
    [4] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص158.
    [5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص160، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/71.
    [6] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/71.
    [7] نَفَقت سوقهم ونَفَق مالُه: نقص وقلَّ، وقيل: فني وذهب. الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل النون 4/1560، وابن منظور: لسان العرب، مادة نفق 10/357.
    [8] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/55.
    [9] بَرُزَ بَرازَةً: سَبَق بعد تمام. الجوهري: الصحاح، باب الزاي فصل الباء 3/864، وابن منظور: لسان العرب، مادة برز 5/309، والمعجم الوسيط 1/49.
    [10] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 2/53، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/65، 66، والذهبي: تاريخ الإسلام 33/271، 272.
    [11] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 2/57، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص222، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص164، والإحاطة في أخبار غرناطة 2/119، 120.
    [12] ابن بسام: الذخيرة 2/624.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المعتضد بالله بن عباد

    المعتضد بالله .. الملك



    عندما تُوُفِّيَ القاضي أبو القاسم ولي من بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد، وتلقَّب أوَّلاً بفخر الدولة، ثم تلقَّب بالمعتضد بالله، وقد تميَّز المعتضد هذا بذكائه السياسي وتفوُّقه العسكري، ولمَّا مَلَكَ إِشْبِيلِيَة وأعمالها جرى على سنن أبيه في إيثار الإصلاح وحُسْنِ التدبير وبسط العدل، وظلَّ على ذلك مدَّة يسيرة، ثم بدَا له أن يستبدَّ بالأمور وحده، وكان شخصية قوية، كان صارمًا قاسي القلب، ذكيًّا داهية سريع البديهة[1].


    قالوا عن المعتضد بالله ابن عباد

    ابن بسام

    قال عنه المؤرخ ابن بسام: «رجل لم يثبتْ له قائمٌ ولا حصيدٌ، ولا سَلِمَ عليه قريبٌ ولا بعيدٌ، جبَّارٌ أَبْرَمَ الأمور وهو متناقض، وأسدٌ فَرَسَ الطُّلَى[2] وهو رابض، متهوِّر تتحاماه[3] الدهاة، وجبَّارٌ لا تَأمَنُه الكماة[4]، متعسِّف[5] اهتدى، ومُنْبَتٌّ قطع فما أبقى، ثار والناسُ حربٌ، وكلُّ شيءٍ عليه إِلْب[6]، فكفى أقرانَهُ وهم غيرُ واحد، وضبَط شانَه بين قائم وقاعد، حتى طالت يدُه، واتَّسع بلدُه، وكثر عديدُه وعُدَدُه... جبَّارًا من جبابرة الأنام، شَرَّدَ به مَنْ خلْفَه... حَرْبُهُ سمٌّ لا يُبطئ، وسهم لا يُخطئ، وسلْمُهُ شرٌّ غيرُ مأمون، ومتاعٌ إلى أدنى حين»[7].

    ابن حيان القرطبي

    وقال عنه مؤرخ الأندلس ابن حيان: «ذو الأنباء البديعة، والحوادثِ الشنيعة، والوقائعِ المُبيرة[8]، والهمَم العليَّة، والسطوة الأبيَّة... حُمِلَ عليه على مرِّ الأيام، في باب فَرْطِ القسوة وتجاوُز الحدود، والإبلاغ في المُثْلَةِ، والأخذ بالظِّنَّةِ، والإخْفَار[9] للذمَّة، حكاياتٌ شنيعة لم يبدُ في أكثرها للعالم بصدقها دليلٌ يقومُ عليها، فالقول ينساغ في ذكرها؛ ومهما بَرِئ من مغبَّتها فلم يَبْرَأْ من فظاعة السطوة وشدَّة القسوة، وسوء الاتِّهام على الطاعة»[10].

    المعتضد وتوسع مملكة إشبيلية

    التوسع على حساب إمارات غربي الأندلس

    بدأ المعتضد بن عباد عهده بالقوَّة والصرامة، فبطش بوزراء أبيه، ثم انتقل للامتلاك على إمارات غربي الأندلس الصغيرة، واستطاع بقوَّته وتفوُّقه العسكري أن يُسيطر عليها ويضمَّها إلى أملاكه، فانتزع لَبْلَة من ابن يحيى اليحصبي، وقضى على دولته سنة (445هـ=1053م)[11]، كما أنه انتزع جزيرة شَلْطِيش وولبة من بني البكري، وقضى على دولتهم سنة (443هـ=1051م) [12]، وفي السنة نفسها انتزع شَنْتَمَرِيَّة الغرب من بني هارون وقضى على دولتهم[13]، وأخرج القاسم بن حمود من الجزيرة الخضراء[14]، وهكذا توسَّعت مملكة إِشْبِيلِيَة كثيرًا على حساب الطوائف المغلوبة على أمرها!

    التوسع على حساب الإمارات البربرية في الجنوب



    ولما فرغ المعتضد من إمارات الغرب اتجه إلى الإمارات البربرية في الجنوب؛ وهي: إمارة بني يفرن في رُنْدة، وبني دمّر في مورور، وبني خزرون في شَذُونة وأركش، وبني برزال في قَرْمُونة؛ وذلك ليتفرَّغ بعدها للشمال والشرق، واستطاع بذكائه وخديعته أن يُسيطر على تلك الإمارات ويضمَّها لأملاكه؛ إذ دبَّر لهم حيلة قتلهم فيها جميعًا؛ ففي سنة (445هـ=1053م) دبَّر المعتضد كمينًا لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته بإِشْبِيلِيَة، فلبَّى الدعوة ثلاثة؛ صاحب رُنْدة، وصاحب مورور، وصاحب أركش، فاستقبلهم أحسن استقبال ثم أمر بالقبض عليهم، وتكليبهم، واستولى على أمتعتهم وسلاحهم، ثم أمر بإدخالهم الحمام، وأشعل النار فيه، فهلكوا جميعًا، ويُقال: إنه أبقى على ابن أبي قرة صاحب رُنْدة، وهلك الآخران؛ وبذلك امتلكت مملكة إِشْبِيلِيَة في عهد المعتضد مساحة شاسعة تشمل المثلَّث الجنوبي من الأندلس[15].


    وأما قَرْمُونة وأصحابها بني برزال فبينهم وبين المعتضد شأن كبير، فما زال المعتضد يُرهقها بغاراته منذ أيام محمد بن عبد الله البرزالي حليفه بالأمس، ولكن البرزالي صمد أمامه حتى وفاته سنة 434هـ، ثم بُويع لابنه المستظهر عزيز بن محمد، وقد انتظمت أحوالها معه ورخت أسعارها، وعمَّ الأمن والرخاء، حتى جدَّد المعتضد غاراته عليها، فما زالت الحروب على أُوَارها[16] بينهما، حتى استسلم المستظهر أمام جبروت المعتضد، وخرج من قَرْمُونة وحلَّ بإِشْبِيلِيَة، ومَلَكَها المعتضد سنة (459هـ=1067م) [17].

    الفتنة بين المعتضد و بني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس

    وقعت في عهد المعتضد أشرس الفتن الأندلسية وأقواها وقعًا في النفوس، تلك الفتنة التي اشتعل أوارها بينه وبين بني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس لولا حماية الله للمسلمين ثم تدخُّل القاضي جهور وابنه أبي الوليد لفضِّها والتحذير من عواقبها، وهو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.

    مؤامرة لقتل المعتضد

    تعرَّض المعتضد بن عباد لمآسٍ كثيرة خلال فترة حكمه، التي لا تهدأ عواصفها معه، ففي سنة (450هـ=1058م) تعرَّض المعتضد لمؤامرة كادت أن تفتك به وبمُلْكِه كله، وكانت هذه المؤامرة شديدة الوقع على نفسه، وقد عبَّرت عن شدة بأسه في تعامله مع مثل تلك الظروف؛ إذ تآمر عليه ابنُه وولي عهده إسماعيل ووزيره البزلياني؛ لأسباب شخصية وتملُّكِ الحقد في قلب الابن على أبيه والوزير على سيده، ولكن يبدو أن المعتضد كان شديد الحيطة فيمن حوله، فاكتشف المؤامرة التي دَبَّرها ابنه مع الوزير البزلياني وقتلهما[18].

    قطع الخطبة لهشام المؤيد بالله

    كان المعتضد بن عباد شديد الطموح والاعتداد بنفسه، وعدم تقيُّده بغيره؛ لذلك عزم على قطع الخطبة للمدعو هشام المؤيد، فقطعها سنة (451هـ=1059م)، ونعى هشام المؤيد إلى رجال دولته وأهل مملكته.

    وقد عَلَّق المؤرِّخُون الأندلسيون وغيرهم شماتة وحزنًا على هشام، فقالوا: «صارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها تكون -إن شاء الله- الصادقة، فكم قُتِلَ! وكم مات! ثم انتفض عنه التراب»[19]. وقال بعضهم فيه: [الرجز]
    ذَاكَ الَّذِي مَاتَ مِرَارًا وَدُفِنْ

    فَانْتَفَضَ التُّرْبُ وَمُزِّقَ الْكَفَنْ[20]

    فقد أعلن محمد بن هشام المهدي الأموي وفاة هشام المؤيد، ودُفن بمحضر من الفقهاء والعلماء في شعبان سنة (399هـ=1009م)، ثم ظهر بعد عام على يد الفتى واضح، وتولَّى الخلافة، ثم تُوُفِّيَ قتيلاً على يد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان سنة (403هـ=1012، 1013م)، ودُفن خُفية، ولما دخل علي بن حمود قرطبة، بحث عن هشام فلم يجده فأعلن وفاته، ودعا لنفسه بالخلافة سنة (407هـ=1016م)، ثم جاء القاضي ابن عباد سنة (426هـ=1035م)، فأظهر الدعوة الهاشمية ودعا له وأخذ البيعة له؛ وذلك دفعًا لدعوى ابن حمود بالخلافة، وليُضفي على نفسه الشرعية كما ذكرنا قبل ذلك[21].

    المعتضد بالله الشاعر الأديب

    ومع سطوة المعتضد بن عباد السياسية وبراعته العسكرية، إلا أنه كان يتمتَّع بثراء علمي وثقافي واسع، وكان بلاطه بلاطَ العلماء والفقهاء، وقد اشتهرت إِشْبِيلِيَة في عصره بالعلم والشعر والفن؛ فقصدها الشعراء من كل جانب في الأندلس، حتى أصبح بلاطه الملكي محلًّى بالشعراء ورجال العلم في الأندلس كلها، ومن أشهرهم الشاعر الأديب الوزير ابن زيدون، الذي لحق بالمعتضد إثر نكبته مع بني جهور فقصد إِشْبِيلِيَة، فأكرمه المعتضد وقَرَّبه إليه، وجعله وزيره ولسان دولته، وكان منهم وزيره وكاتبه البزلياني، الذي كان «أحد شيوخ الكُتَّاب، وجهابذة أهل الآداب»[22]. هذا فضلاً عن أن المعتضد كان شاعرًا[23].

    وفاة المعتضد بالله

    تُوُفِّي المعتضد بن عباد بعد أن توسَّعت دولته، وعظم ملكه، وهو يبلغ من العمر 57 سنة، وذلك في جمادى الآخرة سنة (461هـ=1069م)، وفيه يقول ابن القطَّان المؤرخ: «كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي، يُدَبِّر مُلكه من داره، وكان يغلب عليه الجود؛ فلم يُعْلَم في نظرائه أبذل منه للمال»[24].


    [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص151، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
    [2] الطُّلى: الأعناق، مفردها الطُّلاة: وهي العنق أو صفحته. ابن منظور: لسان العرب، مادة طلي 15/10، والمعجم الوسيط 2/564.
    [3] تحاماه الناس؛ أي: توقَّوْه واجتنبوه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الحاء 6/2321، وابن منظور: لسان العرب، مادة حما 14/197، والمعجم الوسيط 1/200.
    [4] الكُماة مفردها الكميّ: الشجاع المقدام الجريء المحمي بسلاحه ودرعه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الكاف 6/2477، وابن منظور: لسان العرب، مادة كمي 15/231، والمعجم الوسيط 2/799.
    [5] المتعسِّف: الظالم الجائر والسائر على غير هدى ولا علم. الجوهري: الصحاح، باب الفاء فصل العين 4/1403، وابن منظور: لسان العرب، مادة عسف 9/245، والمعجم الوسيط 2/600، 601.
    [6] الإِلْب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان. ابن منظور: لسان العرب، مادة ألب 1/215، والمعجم الوسيط 1/23.
    [7] ابن بسام: الذخيرة 2/24، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/39، 40.
    [8] المبيرة: المهلكة التي تُسرف في الإهلاك. ابن منظور: لسان العرب، مادة بور 4/86، والزبيدي: تاج العروس، باب الراء فصل الباء 10/253.
    [9] الإخفار: نقض العهد والغدر به. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الخاء 2/649، وابن منظور: لسان العرب، مادة خفر 4/253، والمعجم الوسيط 1/246.
    [10] ابن بسام: الذخيرة 2/24، 25، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/40، ورَحِم واشِجة: مشتبكة متصلة متآلفة. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل الواو 1/347، وابن منظور: لسان العرب، مادة وشج 2/398، والمعجم الوسيط 2/1033.
    [11] ابن عذاري: البيان المغرب 3/240، 300، 301.
    [12] ابن بسام: الذخيرة 3/233-235.
    [13] ابن عذاري: البيان المغرب 3/298، 299.
    [14] ابن بسام: الذخيرة 3/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/240-243.
    [15] ابن بسام: الذخيرة 3/38-40، وابن عذاري: البيان المغرب 3/294-301، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/45-48.
    [16] أوار الشيء: شدته، ويوم ذو أُوارٍ؛ أي: ذو سَمُوم وحرٍّ شديد. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35، والمعجم الوسيط 1/32.
    [17] ابن عذاري: البيان المغرب 3/311، 312.
    [18] ابن عذاري: البيان المغرب 3/244-249.
    [19] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/52.
    [20] البيت لمتنبي الأندلس أبي طالب عبد الجبار، انظر: ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 1/940.
    [21] ابن عذاري: البيان المغرب 3/249، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/52.
    [22] ابن بسام: الذخيرة 2/624.
    [23] الحميدي: جذوة المقتبس رقم 672، ص296، وابن عذاري: البيان المغرب 3/285.
    [24] ابن عذاري: البيان المغرب 3/284.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بنو عباد في إشبيلية

    مملكة إشبيلية



    تُعَدُّ مملكة إِشبِيلِية أهمَّ دول الطوائف كلها، وأعظمها شأنًا وأقواها عدَّة وشكيمة، فمع تفوُّقها العسكري والسياسي وموقعها الجغرافي، فقد علا فيها شأن العلم والعلماء، والأدب والأدباء؛ وهذا ما جعل ملوكها أشهر الملوك، وشعراءها أفحم الشعراء.


    وإذا كنا سنتحدَّث عن مملكة إِشْبِيلِيَة فيجدر بنا أن نتحدث عن بني عبَّاد الذين صنعوا من إِشْبِيلِيَة مملكة تَفَوَّقت على دول الطوائف الأندلسية، واستطاعت التغلُّب على قُرْطُبَة، وأسقطوا حكم الحموديين فيها، وعلا كعبهم[1] في بلاد الأندلس حتى خطب ودَّهم أمراؤها وأعيانها.

    نسب بني عباد

    بنو عباد من العرب الداخلين إلى الأندلس، وهم ينتمون إلى لخم، وكان قد دخل رهط من اللخميين بلاد الأندلس، كان منهم عطاف بن نُعيم وهو جدُّ العباديين، دخل الأندلس مع طالعة بلج بن بشر القشيري، وهو لخمي النسب صريحًا، وأصله من عرب حمص بأرض الشام، ولما دخل الأندلس نزل بقرية قرب إِشْبِيلِيَة، وقد تناسل ولده بها مدَّة من الزمان، ثم انتقلوا إلى حمص (وهي إِشْبِيلِيَة)، وكان جند الشام يسمون إِشْبِيلِيَة حمص؛ لقوة الشبه بينها وبين حمص الشام، من حيث الطبيعة والإقليم[2].

    وبنو عباد قيل: إنهم ينتمون إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء. فهم لخميون أصليون، وكانوا بنسبهم يفتخرون على غيرهم، ويمتدحهم بذلك شعراؤهم، وفي ذلك يقول شاعرهم ابن اللبانة: [الخفيف]
    مِنْ بَنِي الْمُنْذِرِينَ وَهْوَ انْتِسَابٌ

    زَادَ فِي فَخْرِهِ بَنُو عَبَّادِ[3]
    فِتْيَةٌ لَمْ تَلِدْ سِوَاهَا الْمَعَالِي

    وَالْمَعَـــالِي قَلِيلَةُ الأَوْلادِ[4]

    وكانت لأسرة بني عباد مكانة وحظوة لدى خلفاء وأمراء بني أمية؛ خاصة الحكم المستنصر، وابنه هشام المؤيد، وحاجبه المنصور محمد بن أبي عامر، فكانت فيهم الإمامة والخطابة والقضاء[5].

    وخير مَنْ أجاد وأبلغ في وصفهم وبيان حالهم الوزير الكاتب الفتح بن خاقان الإشبيلي في قوله: هذه بقيةٌ منتماها في لَخْم، ومرتماها إلى مَفْخَرٍ ضَخْم، وجَدُّهم المنذر بن ماء السماء، ومَطْلعهم من جوِّ تلك السماء، وبنو عباد ملوك أَنِسَ بهم الدهر، وتنفَّس منهم عن أَعْبَق الزهر، وعمَرُوا ربع المُلْك، وأمروا بالحياة والهلك، ومُعْتَضِدُهم أحد من أقام وأَقْعَد، وتبوَّأ كاهلَ الإرهاب واقْتَعد[6]، وافترش من عِرِّيسته[7]، وافترس من مكائد فريسته، وزاحم بِعَوْد[8]، وهَزَّ كُلَّ طَوْد، وأخْملَ كل ذي زيٍّ وشارة وخَتَل بوحي وإشارة، ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نَيِّرات تلك الأفلاك»[9].

    القاضي ذو الوزارتين أبو الوليد إسماعيل بن عباد

    وقد سطع نجم بني عباد في إِشْبِيلِيَة منذ سقوط حكم العامريين واعتلال الخلافة الأموية ثم سقوطها، وذلك أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين، ونتج عن ذلك توالي الفتن وكثرة الانقلابات، وقد تألَّق نجم بني عباد في أعقاب الفتنة، على يد جدهم أبي الوليد إسماعيل بن عباد، وقد استطاع بحكمة ودهاء أن يجمع خيوط السياسة في يده، ويجمع حوله أعيان ورؤساء إِشْبِيلِيَة؛ لمكانته في نفوس أهلها، فقد ولي الشرطة لهشام المؤيد، ثم ولي الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، كما ولاَّه المنصور بن أبي عامر قضاء إِشْبِيلِيَة، وظلَّ بها يرقب الأحداث على كثب، ويعمل ليوم ينفرد فيه بالسلطة لنفسه وولده من بعده كما انفرد غيره بممالكهم، ويستأثر بحُكم مدينة من أعظم مدن الأندلس[10].

    كان أبو الوليد إسماعيل بن عباد عميد الأسرة وكبيرها؛ وكان يتمتَّع بصفات الزعامة ومؤهلات القيادة، فكان يُنفق مِنْ ماله وآوى كثيرين ممن فروا من قُرْطُبَة عند احتدام الفتنة، وكان معلومًا بوفور العقل وسبوغ العلم والدهاء وبُعد النظر[11]، واستطاع أن يحمي مدينة إِشْبِيلِيَة من سطوة البرابرة النازلين حولها «بالتدبير الصحيح، والرأي الرجيح، والنظر في الأمور السلطانية»[12].

    وهكذا استتبَّ الأمر في يد القاضي ذي الوزارتين إسماعيل بن عباد، ثم لما مرض ندب الأمر من بعده لابنه أبي القاسم محمد ليشغل القضاء، واقتصر هو على تدبير الرأي في إِشْبِيلِيَة، وظلَّ كذلك إلى أن أتاه أجله سنة 414هـ[13].

    القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد

    هو المؤسس الفعلي لدولة بني عباد، أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف[14].

    كان سلطان الحموديين في ذلك الوقت يتردَّد بين قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة، فلما قُتل علي بن حمود في أواخر سنة 408هـ تولَّى الخلافة من بعده أخوه القاسم بن حمود، وبعد سلسلة من الصراعات الداخلية على السلطة بين القاسم بن حمود وابن أخيه يحيى بن علي، ترك القاسم بن حمود قُرْطُبَة وقصد إِشْبِيلِيَة سنة 412هـ، وهناك بُويع له وتلقَّب بالمستعلي، ثم عاد ثانية إلى قُرْطُبَة في ذي الحجة سنة 413هـ، وجُدِّدَتْ له البيعة. وكان القاسم بن حمود وهو في إِشْبِيلِيَة قد قَدَّم القاضي ابن عباد على قضاء إِشْبِيلِيَة[15]، وكان القاضي ابن عباد يشعر من جانبه أن استمرار سلطان الحموديين يُهَدِّد رئاستهم ويُنذر بالقضاء عليها، فلمَّا استدعى المستعلي ليتولى الخلافة ثانية في قُرْطُبَة، اجتمع رأي أهل إِشْبِيلِيَة على ثلاثة من الزعماء؛ هم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل، والفقيه أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله ابن مريم، فكانوا يحكمون في النهار بالقصر، وتنفذ الكتب تحت أختامهم الثلاثة، إلا أن القاضي ابن عباد استطاع أن ينفرد بالسلطة لنفسه.

    ثم حدث أن ثار أهل قُرْطُبَة على القاسم بن حمود ففرَّ إلى إِشْبِيلِيَة وطلب فتح أبوابها له، إلا أن زعماء المدينة وعلى رأسهم القاضي أبو القاسم ابن عباد اتفقوا على إغلاق أبوابها، وأخرجوا وَلَدَ القاسم المستعلي ومَنْ فيها من أهله، واتَّفق أهل إِشْبِيلِيَة اتِّقاء عدوان القاسم المستعلي على أن يُؤَدُّوا له قدرًا من المال وينصرف عنهم، وتكون له الخطبة والدعوة ولا يدخل بلدهم، ولكن يُقَدِّم عليهم مَنْ يحكمهم ويفصل بينهم، فقدَّم عليهم القاضي ابن عباد، وبذلك انفرد ابن عباد بإِشْبِيلِيَة، وأصبحت رئاسته عليها شرعية وفعلية[16].

    وبعد أن أصبحت إِشْبِيلِيَة ولاية شرعية للقاضي أبي القاسم بن عباد؛ فهو قاضيها وحاكمها معًا، راح يسعى لتوطيد حُكمه وتوسيعه، وهذا لا يكون إلا بحاشية مخلصة له وبجنود يتفانون في خدمته والدفاع عنه؛ فأكثر من شراء الرجال الأحرار والعبيد، واقتناء أنواع السلاح والعُدَّة والعتاد، إلى أن ساوى ملوك الطوائف، وزاد على أكثرهم بكثافة سلطانه وقوة جيشه وعتاده، ولم يكن القاضي ابن عباد على غفلة من تدبير الحموديين والبرابرة ضدَّه؛ فهو يعلم تربُّصهم به، وطموحهم في امتلاك إِشْبِيلِيَة ثانية، كما أن طموح القاضي أبي القاسم بن عباد لم تكن على حدود إِشْبِيلِيَة فقط؛ بل اتجه للتوسُّع خارج حدود مملكته ناحية الغرب؛ للارتباط الإقليمي بين إِشْبِيلِيَة وغرب الأندلس، إضافة إلى خلوِّها من المنافسين الأقوياء[17].

    ظهور الخليفة هشام المؤيد

    وكان من أشهر أعمال القاضي أبي القاسم بن عباد أثناء ولايته إعلانه ظهور الخليفة هشام المؤيد، وتجديد البيعة له خليفة بإِشْبِيلِيَة، وأنه قد عثر عليه حيًّا وذلك سنة (426هـ=1035م)، ولم تكن هذه الخطوة التي خطاها القاضي ابن عباد عبثًا؛ فهو كان يرمي من ناحية إلى دحض دعوى الحموديين بالخلافة؛ وذلك بظهور الخليفة الشرعي، ومن ناحية أخرى يُريد أن يُضفي الشرعية على حُكمه وتدبيره وتوسعاته خارج حدود إِشْبِيلِيَة؛ فهو يتوسَّع بأمر الخليفة الشرعي للأندلس كلها.

    وقصة هشام المؤيد هذا يكتنفها الغموض، وتضاربت الروايات في شأنه واختلفت في تحديد مصيره، والروايات الأندلسية يظهر منها أن القاضي ابن عباد أظهر شخصًا زعم أنه هشام المؤيد، وتُظهر الروايات أن هذا الرجل يُشبه هشامًا المؤيد شبهًا كبيرًا، وأنَّ هذا الدعيَّ كان اسمه خلف الحصري، وتذكر الروايات أن هشامًا المؤيد لما فرَّ من الفتنة كتم أمره، واستقرَّ بقرية من قرى إِشْبِيلِيَة، وعمل مؤذِّنًا بأحد مساجدها، ولما وصل أمره إلى القاضي ابن عباد جمع ولده وخاصَّته وخدمه وعبيده، وقَبَّلُوا الأرض بين يديه، وألبسوه لباس الخلافة، وخُوطب بالخلافة، وبايعه الناس، ونودي في المدينة: يا أهل إِشْبِيلِيَة؛ اشكروا الله على ما أنعم به عليكم؛ فهذا مولاكم أمير المؤمنين هشام قد صرفه الله عليكم، وجعل الخلافة ببلدكم؛ لمكانه فيكم، ونقلها من قُرْطُبَة إليكم، فاشكروا الله على ذلك[18].

    وبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام بإِشْبِيلِيَة بعث بالكُتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحدٌ سوى الوزير أبي الحزم بن جهور، مع علمه بكذب دعوى ابن عباد، ولكن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة ومطامعهم في أملاكها على نحو ما ذكرنا سابقًا[19].

    وبهذا قامت دولة بني عباد بإِشْبِيلِيَة، والذي يُعَدُّ القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد هو المؤسس الحقيقي لها، والتي كان لها شأن كبير بين ملوك الطوائف في الأندلس، وقد عظم مُلْك ابن عباد وقويت شوكته إلى أن تُوُفِّيَ سنة (433هـ=1042م).

    وللقاضي ابن عباد مقطوعة شعرية تشير إلى رغبة قديمة في الحكم، تقول: [الطويل]
    وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ أَسُودَ عَلَى الْوَرَى

    وَلَوْ رُدَّ عَمْرٌو للزَّمَانِ وَعَامِرُ
    فَمَا الْمَجْدُ إِلاَّ فِي ضُلُوعِيَ كَامِنٌ

    وَلا الْجُودُ إِلاَّ مِنْ يَمِينِيَ ثَائِرُ
    فَجَيْشُ الْعُلا مَا بَيْنَ جَنْبِيَ جَائِلٌ

    وَبَحْرُ النَّدَى مَا بَيْنَ كَفِّيَ زَاخِرُ ([20])


    [1] علا كعبهم؛ أي: ازدادوا علوًّا وشرفًا وظَفَرًا وحظًّا. ابن منظور: لسان العرب، مادة كعب 1/717، والمعجم الوسيط 2/790.
    [2] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/34، 35، وابن عذاري: البيان المغرب 3/193، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/23-33.
    [3] في حاشية الحلة السيراء كتب ما يلي: في الأصل:
    من بني المنذر بن ماء السماء وهو انتساب زاد في فخره بنو عباد
    وهو واضح الانكسار، وقد صوبه دوزي على هذا النحو, وهو صحيح.
    [4] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/35.
    [5] ابن عذاري: البيان المغرب 3/193، 194، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
    [6] اقتعد: ركب واتخذها قعودًا له. الجوهري: الصحاح، باب الدال فصل القاف 2/525، وابن منظور: لسان العرب، مادة قعد 3/357، والمعجم الوسيط 2/748.
    [7] العِرِّيسة: الشجر الملتف يكون مأوى للأسد. الجوهري: الصحاح، باب السين فصل العين 3/948، وابن منظور: لسان العرب، مادة عرس 6/134، والمعجم الوسيط 2/592.
    [8] العَوْدُ: الجمل المُسِنُّ وفيه بقية، وفي المثل: زاحِمْ بعَوْد أو دَعْ. أَي: استعن على حربك بأهل السنِّ والمعرفة؛ فإنَّ رأي الشيخ خير من مَشْهَدِ الغلام. الجوهري: الصحاح، باب الدال فصل العين 2/514، وابن منظور: لسان العرب، مادة عود 3/315، وانظر: أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني: مجمع الأمثال 1/320.

    [9] الفتح بن خاقان الإشبيلي: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس 1/22، 23.
    [10] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194.
    [11] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/35، 36.
    [12] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
    [13] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
    [14] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/34، وابن عذاري: البيان المغرب 3/198، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153.
    [15] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/195، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153.
    [16] الحميدي: جذوة المقتبس 1/24-32، وابن بسام: الذخيرة 1/481-485، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/195، 196، 314، 315، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص133، 153، والمقري: نفح الطيب 1/432، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/33، 34.
    [17] ابن بسام: الذخيرة 3/15، 16، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/37، 38، وابن عذاري: البيان المغرب 3/196، 197، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/35.
    [18] ابن عذاري: البيان المغرب 3/197-200، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص154.
    [19] ابن عذاري: البيان المغرب 3/198-201.
    [20] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/38.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء الأندلس في قرطبة



    علماء قرطبة



    شكَّلت النهضة العلمية والأدبية -التي تمتَّعت بها الأندلس في فترة الطوائف- بُعْدًا حضاريًّا على الرغم من الفوضى السياسية الصارخة، التي عمت الأرجاء الأندلسية زهاء قرن من الزمان؛ لذلك ما فتئت كلُّ مملكة من ممالك الطوائف أن جعلت لها حاضرة تستقطب بها العلماء والفقهاء في شتَّى جوانب العلوم النظرية والتجريبية.


    وكانت قُرْطُبَة عاصمة الخلافة المنصرمة تُمَثِّل حاضرة العلوم، ليس في الأندلس فحسب، بل في العالم كله، وكانت مكتبتها شعلةَ علمٍ، تأتي إليها البعثات الغربية لتستضيء بنورها من ظلمات الجهل الذي غرقت فيها أوربا قرونًا من الزمان.

    وقد نبغ في قُرْطُبَة العديد من الشعراء والعلماء في شتَّى فروع المعرفة، وكان لهم بلا شكٍّ دور بارز في تسيير أمور المملكة سياسيًّا وعلميًّا في آن واحد؛ ويقف على رأس هؤلاء العلماء الإمام المؤرخ الفقيه الفيلسوف ابن حزم الأندلسي، وقاضي قضاة الأندلس يونس بن عبد الله بن مغيث، ومؤرخ الأندلس الأوحد أبو مروان بن حيان، وتلميذه أبو عبد الله الحميدي، وغيرهم كثير، وسوف نقف على بعض لمحات من حياة بعضهم.

    ابن حزم الأندلسي (٣٨٤-٤٥٦هـ=٩٩٤-١٠٦٤م)

    الإمام الكبير أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القُرْطُبِيُّ اليَزِيدِيُّ، مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب، الأموي الظَّاهِرِيُّ، وكان جدُّه خلف بن مَعْدَانَ هو أول من دخل الأندلس في صحابة عبد الرحمن الداخل، وُلِدَ في قُرْطُبَة، وتعلَّم فيها وتربَّى على شيوخها، وتَفَقَّهَ أوَّلاً للشافعي، ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إلى القول بنفي القياس كُلِّه جَلِيِّه وَخَفِيِّه، والأَخْذ بظاهر النصِّ وعمومِ الكتاب والحديث، كان مفسِّرًا محدِّثًا، فقيهًا مؤرِّخًا، شاعرًا مربِّيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب؛ لذلك يُعَدُّ / من أكبر علماء الإسلام فقهًا وعلمًا وتصنيفًا.

    كان ابن حزم سياسيًّا بارعًا، ووزيرًا ماهرًا، وكان بيته بيت وزارة؛ إذ وزر أبوه للمنصور بن أبي عامر، وقد عاش ابن حزم أمور الفتنة في قُرْطُبَة، وناصر المرتضى الأموي على الحموديين، ولكنه أُسِرَ وكان ذلك في منتصف سنة 409هـ، ثم أُطلق سراحه من الأسر، فعاد إلى قُرْطُبَة، ثم ولي الوزارة للمستظهر ثم قُتل المستظهر وسُجِنَ ابن حزم، ثم عُفِي عنه، ثم تولَّى الوزارة أيام هشام المعتد فيما بين (418هـ-422هـ)، وقد عاصر ابن حزم ملوك الطوائف وهي في أوج اختلافها، وكان يحمل عليهم ويُؤَلِّب الفقهاء ضدَّهم، ومن ثَمَّ أُحْرِقَت كُتبه في إِشْبِيلِيَة بأمر من المعتضد بن عباد.

    ونظرًا لجهوده العلمية والسياسية فقد نال ثناء العلماء، الذين عرفوا شمائله وعلوَّ همته؛ قال الأمير أبو نصر بن ماكولا: كان فاضلاً في الفقه حافظًا في الحديث، مصنِّفًا فيه، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة، وله شعر ورسائل[1].

    وقال الحميدي: كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، ومستنبطًا للأحكام من الكتاب والسُّنَّة، متفنِّنًا في علوم جمَّة، عاملاً بعلمهن، زاهدًا في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمَّة[2].

    وقال الحافظ الذهبي: ابن حزم الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف. وله –رحمه الله- العديد من التصانيف، أشهرها: طوق الحمامة، والمحلى في الفقه، والفصل في الملل والأهواء والنحل، والناسخ والمنسوخ، وله أيضًا: رسالة في الطب النبوي، وكتاب حدِّ الطب، وكتاب اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادَّة، وكتاب في الأدوية المفردة.

    بيد أن آراء ابن حزم في ملوك الطوائف جعلته موضع اضطهاد ومطاردة منهم، وظلَّ حاله معهم من بلد إلى بلد حتى استقرَّ به المقام في لَبْلَة حيث أصله الأول، وبها مات[3].

    ابن حيان القرطبي (377-469 هـ=987-1076م)

    الإمام الإخباري المؤرخ، أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي الأموي بالولاء، وقد كان أبوه وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وقد عاصر ابن حيان أحداث الأندلس في فترة الطوائف، فكان أبلغ من كتب فيها، كما كان ابن حيان وزيرًا للوليد بن جهور في قُرْطُبَة، ومِنْ خاصَّته، وقد عايش ابن حيان سقوط دولتهم، كما كان بارعًا في الآداب، وهو صاحب لواء التاريخ بالأندلس، وأفصح الناس فيه، كان لا يتعمَّد كذبًا فيما يحكيه من القصص والأخبار، من كُتبه: المقتبس في تاريخ الأندلس، والمتين في تاريخ الأندلس أيضًا[4].


    [1] ابن ماكولا: الإكمال 2/451.
    [2] الحميدي: جذوة المقتبس 8/308.
    [3] انظر ترجمته في: الذهبي: سير أعلام النبلاء 18/184-212.
    [4] ابن بسام: الذخيرة 2/605، والذهبي: سير أعلام النبلاء 18/370-372.

    اترك تعليق:

يعمل...
X