إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    المنصور الموحدي

    أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي (554-595هـ=1160-1199م)



    بعد وفاة يوسف بن عبد المؤمن بن علي تولَّى من بعده ابنه يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وقد لُقب بالمنصور، وكان له ابن يُدعى يوسف، فعُرف بأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي.

    يُعَرِّفه ابن خلكان فيقول: أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحب بلاد المغرب... كان صافي السمرة جدًّا، إلى الطول ما هو، جميل الوجه، أَفْوَه أَعْيَنَ شديد الكحل، ضخم الأعضاء، جَهْوَرِيَّ الصوت، جَزْلَ الألفاظ، من أصدق الناس لهجة، وأحسنهم حديثًا، وأكثرهم إصابة بالظنِّ، مجربًا للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثًا شافيًا، وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور، ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقدوا له الولاية، ودَعَوْهُ أمير المؤمنين كأبيه وجدِّه، ولَقَّبُوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.

    ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتَّب قواعدُ بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرَّر المقاتلين في مراكزها، ومهَّد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الإسلام التي في مملكته، فأجاب قومٌ وامتنع آخرون[1].

    وقد تولَّى المنصور الموحدي حُكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة متصلة؛ من سنة (580هـ= 1184م) وحتى سنة (595هـ= 1199م)، وكان أقوى شخصية في تاريخ دولة الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامَّة، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذهبي.

    المنصور الموحدي الرجل الإنسان

    مثل عبد الرحمن الداخل ومِنْ بعده عبد الرحمن الناصر، وغيرهم ممن فعلوا ما لم يفعله الشيوخ والكبار، تولَّى أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي وكان عمره ستًا وعشرين سنة فقط[2]، وقد قام بالأمر على أحسن ما يكون، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن.

    واستطاع أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أن يُغَيِّر كثيرًا من أسلوب السابقين له؛ فكانت سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم؛ حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق[3]، وكان يَؤُمُّ الناس في الصلوات الخمس[4]، وكان زاهدًا؛ يلبس الصوف الخشن من الثياب، وقد أقام الحدود حتى في أهله وعشيرته؛ فاستقامت الأحوال في البلاد، وعظمت الفتوحات.

    بَلَغَتْ أعمال أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الجليلة في دولته أوجها، فحارب الخمور[5]، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتمَّ بالطب والهندسة[6]، وألغى المناظرات العقيمة، التي كانت في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين[7]، وزاد كثيرًا في العطاء للعلماء، «وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل مَنْ يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة»[8]، ومال هو إلى مذهب ابن حزم الظاهري؛ وأحرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وعلى كتب السُّنَّة الصحيحة[9].

    وفي دولته اهتمَّ -أيضًا- أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالعمران، وقد أكمل إنشاء مدينة الرباط التي كان قد اختطها ورسم حدودها أبوه يوسف، وسمَّاها رباط الفتح[10]، وأقام فيها المستشفى الكبير الذي يصفه عبد الواحد المراكشي مبهورًا بقوله: «وبنى بمدينة مراكش بيمارستانًا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخيَّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يُغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادةً على أربع بِرَكٍ في وسطه، إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفُرُش النفيسة من أنواع الصوف والكَتَّان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم برسم الطعام، وما يُنْفَقُ عليه خاصة خارجًا عما جَلَب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدَّ فيه للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار... من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نَقَهَ المريض فإن كان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقلُّ، وإن كان غنيًّا دفع إليه ماله وتُرِكَ وسببه، ولم يَقْصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كلُّ مَنْ مرض بمَرَّاكُش من غريب حُمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعودُ المرضى ويسأل عن أهلِ بيتٍ أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القُوَمَةُ عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج، لم يزل مستمرًّا على هذا إلى أن مات –رحمه الله»[11].

    وكان -أيضًا- يجمع الزكاة بنفسه ويُفَرِّقُها على أهلها، وكان كريمًا كثير الإنفاق؛ حتى إنه وزَّع في يوم عيدٍ أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء[12].

    المنصور الموحدي يتبرأ من أباطيل ابن تومرت

    ويتبدى هذا في خطاب ابنه المأمون[13] لما أبطل القول بالمهدية، وأزال رسومها فكان مما قال: «وقد كان سيدنا المنصور –رحمه الله- هَمَّ أن يصدع بما به الآن صَدَعْنَا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يُساعده لذلك أمله، ولا أجَّلَه إليه أجله، فقدم على ربِّه بصدق نية، وخالص طويَّة، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يَدْرِ بأي يدٍ يأخذ كتابه...»[14].

    وكان مجلس المنصور الموحدي عامرًا بالعلماء وأهل الخير والصالحين، وقد ذكر الذهبي -رحمه الله- في السِّيرَ أنه كان يُجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلَّم في الفقه ويناظر، وكان فصيحًا مهيبًا، يرتدي زي الزهَّاد والعلماء، ومع ذلك عليه جلالة الملوك[15].

    وعدم اعتراف المنصور الموحدي بأفكار ابن تومرت المخالفة للكتاب والسُّنَّة يجعله من أهل السُّنَّة والجماعة، ومن الفئة الصالحة المصلحة، التي يُحَقِّق الله بها النصر والتمكين لدينه والعزَّة والمنعة لأهله -تعالى- وقد أورد المراكشي ما يُفيد براءة المنصور الموحدي من أفكار ابن تومرت الضالَّة، فقال: أخبرني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري ونحن بحجر الكعبة، قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف: يا أبا العباس؛ اشهد لي بين يدي الله أَنِّي لا أقول بالعصمة. - يعني: عصمة ابن تومرت – قال (أبو العباس): وقال لي يومًا وقد استأذنتُه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس؛ أين الإمام؟ أين الإمام؟[16]

    ويقول أيضًا: أخبرني شيخ ممن لقيته من أهل مدينة جَيَّان من جزيرة الأندلس يُسَمَّى أبا بكر بن هانئ مشهور البيت هناك، لقيته وقد عَلَتْ سِنُّه، فرويت عنه قال لي: لما رجع أمير المؤمنين - يعني: المنصور الموحدي - من غزوة الأرك، وهي التي أوقع فيها بالأذفنش وأصحابه، خرجنا نتلقَّاه فقدَّمني أهل البلد لتكليمه، فرفعت إليه، فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته، فلما فرغتُ من جوابه سألني كيف حالي في نفسي، فتشكَّرتُ له، ودعوتُ بطول بقائه، ثم قال لي: ما قرأتَ من العلم؟ قلتُ: قرأت تواليف الإمام. - أعني: ابن تومرت - فنظر إليَّ نظرة المغضب، وقال: ما هكذا يقول الطالب، إنما حكمك أن تقول: قرأتُ كتاب الله، وقرأتُ شيئًا من السُّنَّة. ثم بعد هذا قُلْ ما شئتَ[17].

    وكان يقعد للناس عامَّة، لا يحجب عنه أحد من صغير ولا كبير، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما، وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربًا خفيفًا؛ تأديبًا لهما، وقال لهما: أما كان في البلد حُكَّام قد نُصبوا لمثل هذا. فكان هذا -أيضًا- مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا يُنفذها غيره.

    وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين؛ يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم، وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرًا؛ قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولنَّ امرؤ منكم إلا حقًّا. وربما تلا في بعض المجالس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135][18].

    المنصور الموحدي وبلاد الأندلس

    إضافة إلى أعماله السابقة في دولة الموحدين -بصفة عامَّة- فقد وَطَّد أبو يوسف يعقوب المنصور الأوضاع كثيرًا في بلاد الأندلس، وقَوَّى الثغور هناك، وكان يُقاتل فيها بنفسه، وقد كانت أشدُّ الممالك ضراوة عليه مملكة البرتغال، ثم مِنْ بعدها مملكة قشتالة، وقد كان له في الأندلس ما يلي:
    الموحدون و بنو غانية



    وبنو غانية: هم أبناء محمد بن علي من قبيلة مسوفة، وكان علي بن يوسف بن تاشفين قد أرسل محمدَ بن علي وأخاه يحيى إلى الأندلس قبل ظهور ابن تومرت، و«غانية» هو اسم أمِّ هذين الرجلين (يحيى ومحمد ابني علي)، دُعيا به جريًا على عادة أهل هذه البلاد من نسبة الرجال في أحايين كثيرة لأمهم[19]، وبعدما مات يحيى أخو محمد بن علي (ابن غانية) وظهرت دعوة الموحدين، وبدأت تنتشر على حساب دولة المرابطين، انتقل محمد ابن غانية إلى جزر البليار، وأقام فيها دولة له ولأبنائه من بعده، وساعده على ذلك قيام ابن مردنيش في شرق الأندلس؛ وهذا ما حمى جانب بني غانية من سطوة الموحدين، فلما دان شرق الأندلس للموحدين، بدأ إسحاق بن محمد ابن غانية، يُلاطف الموحدين، ويُرسل لهم من وقت لآخر بهدايا من غنائمه وسبيه من النصارى، وكان الموحدون-في أول الأمر- لا يعبئون بهذه الجزر، ولكنهم مع مرور الوقت سَعَوْا لإدخالها في طاعتهم، فأرسلوا إلى إسحاق بذلك، فماطل قدر استطاعته، ثم استُشهد في إحدى غزواته قبل أن يَرُدَّ عليهم، فخلفه ابنه عليٌّ على الحُكم، ثم مات بعد قليل يوسف بن عبد المؤمن في غزوة شنترين، فقويت نفوس بني غانية، وأعلنوا صراحة رفضهم الدخول في طاعة الموحدين، ثم زادوا فسعوا لاستغلال موت الأمير الموحدي على هذا النحو، واتصلوا ببعض أعيان بجاية (في شمال دولة الجزائر الآن)، واتفقوا معهم على نصرتهم، ثم خرجوا بأساطيلهم في أوائل عهد المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي سنة (580هـ) واستولوا عليها، وبدأ بينهم وبين الموحدين في الأندلس وإفريقيا صراع طويل.


    وفي سنة (585هـ= 1189م) حاربهم المنصور أبو يعقوب، واستطاع أن يسيطر على جزيرتين من جزر البليار الثلاث، ثم واجه تمردهم كذلك في المغرب، وكان من جرَّاء ذلك أن ضعفت كثيرًا قوَّة الموحدين في الأندلس.

    استغلَّ ملك البرتغال انشغال المنصور الموحدي في هذه المواجهات، واستغلَّ الضعف الذي كان نتيجة طبيعية لذلك، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرِّيَّة والبحريَّة، ثم حاصر إحدى مدن المسلمين هناك، واستطاع أن يحتلَّها ويُخْرِجَ المسلمين منها، وقد فعل فيها من الموبقات ما فعل، ثم استطاع أن يُوَاصل تقدُّمَه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس[20]، وهنا أضحى الوضع في غاية الخطورة.

    سياسة المنصور الموحدي في الحروب

    تُعتبر السنوات 15 التي حكمها المنصور الموحدي -ثالث الخلفاء الموحدين- العصر الذهبي للدولة الموحدية، والذروة التي وصل إليها التطوُّر السياسي في المغرب نحو التوحيد وإقامة الدولة الموحدية، ولقد كان العصر الذهبي قصيرًا، لا يتناسب مع دولة ضخمة مترامية الأطراف، غزيرة الثروة والموارد مثل دولة الموحدين؛ فإن خلفاء الموحدين حكموا بلادًا تُضاهي ما حكمه العباسيون في أوج قوَّتهم، وكان تحت إمارتهم حشود من الجند القوي القادر على كسب المعارك، لم يتيسر للكثير من الدول في التاريخ الإسلامي؛ فقد كانت جيوش الموحدين تعجُّ بحشود من أبناء القبائل المغربية من المصامدة أولاً، ثم من بقية الصنهاجيين والزناتيين ممن استمالتهم الدولة الموحدية بقوتها وهيبتها، ثم أُضيفت إلى هؤلاء حشود من العرب الهلاليين، الذين انضووا تحت لواء الدولة الكبيرة، ولم يَخْلُ الأمر من قوات أندلسية ذات قدرة ومهارة. ورغم وجود هذه القوَّات، إلاَّ أن هذه القوة العسكرية الموحدية كانت دائمًا مُفَكَّكة، تنقصها القيادة الحازمة، التي تقبض على الجيش قبضة محكمة، وتُوَجِّه الأعمال وَفق خطة واحدة مرسومة، وكان أبو يوسف يعقوب المنصور من زعماء الموحدين القلائل الذين استطاعوا قيادة جيوشهم قيادة سليمة حكيمة، وكان الرجل في نفسه كذلك رجلاً حازمًا موهوبًا في شئون الإدارة والقيادة، وكان شديد الإيمان؛ فانتقل إيمانه إلى رجاله، وأصبحت جيوش الموحدين في أيامه قوَّة ضاربة كبرى[21].


    [1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/3، 4.
    [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص170، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص217، وفي روايات أخرى أن سنه كانت اثنتين وثلاثين سنة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعحب، ص336، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/312، وتاريخ الإسلام، 42/213.
    [3] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 42/225، والسلاوي: الاستقصا، 2/199.
    [4] ثم انقطع عن ذلك بعد أن «أبطأ يومًا عن صلاة العصر إبطاءً كاد وقتها يفوت، وقعد الناس ينتظرونه، فخرج عليهم فصلى، ثم أوسعهم لومًا وتأنيبًا، وقال: ما أرى صلاتكم إلاَّ لنا، وإلاَّ فما منعكم عن أن تُقَدِّموا رجلاً منكم فيصلِّي بكم، أليس قد قَدَّم أصحاب رسول الله عبد الرحمن بن عوف حين دخل وقت الصلاة وهو غائب، أما لكم بهم أسوة وهم الأئمة المتَّبَعُون، والهداة المهتدون. فكان ذلك سببًا لقطعه الإمامة». انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص361، والذهبي: تاريخ الإسلام، 42/219.
    [5] انظر: ابن عذاري، قسم الموحدين، ص173.
    [6] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص385، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/317،.
    [7] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص354.
    [8] المصدر السابق، ص354.
    [9] المصدر السابق، ص355.
    [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص341، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/313.
    [11] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص364.
    [12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/317.
    [13] أعلن المأمون –الخليفة الموحدي فيما بعد- وهو ابن المنصور بطلان المهدية في عام 626 هـ، وأصدر مرسومه يقول فيه: «ولتعلموا أَنَّا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحقَّ، وأن لا مهدي إلاَّ عيسى ابن مريم، وما سُمِّيَ مهديًّا إلا أنه تَكَلَّم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يُعيننا على القلادة التي تقلدناها، وقد أزلنا لفظ العصمة عمن لا تثبت له عصمة؛ فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتُبَتُّ، وتُمْحَى ولا تثبت، وقد كان سيدنا المنصور ~ هَمَّ أن يصدع بما به الآن صَدَعْنَا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يُساعده لذلك أمله، ولا أجَّلَه إليه أجله، فقدم على ربِّه بصدق نية، وخالص طويَّة، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يَدْرِ بأي يدٍ يأخذ كتابه...». أمر بقطع ذِكْرِ إمامهم المهدي من الخطبة في جميع بلاده، ومحا اسمه من المخاطبات ومن النقش في السَّكَّة، وقطع النداء بعد الصلاة... وما أشبه ذلك مما كان العمل عليه من أول دولة الموحدين.
    [14] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص286، 287.
    [15] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/316.
    [16] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص369.
    [17] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص369.
    [18] المصدر السابق، ص361-363.
    [19] وقد رأينا هذا في أسماء كبار قادة المرابطين كداود ابن عائشة.
    [20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص356، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد الموحدين، ص79.
    [21] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص223، 224.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    يوسف بن عبد المؤمن بن علي

    يوسف بن عبد المؤمن بن علي (533-580هـ= 1138-1184م)

    في عام (558هـ= 1163م) تُوُفِّيَ عبد المؤمن بن علي في رباط سلا في طريقه للجهاد في الأندلس، ونُقل إلى تينملل فدُفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت، وخلفه على الحُكم ابنه محمد، ثم خُلع لفسقه وسوء خُلقه، وولي الأمر يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وكان يبلغ من العمر 22 عامًا، وقد كان مجاهدًا شهمًا كريمًا، إلاَّ أنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية[1].

    وقد وصفه الزركلي في الأعلام فقال: وكان حازمًا شجاعًا، عارفًا بسياسة رعيته، له علم بالفقه، كثيرَ الميل إلى الحكمة والفلسفة، استقدم إليه بعض علماء الأقطار؛ وفي جملتهم أبو الوليد بن رشد... وهو باني مسجد إشبيلية، أتمَّه سنة (567هـ)، وإليه تُنسب الدنانير (اليوسفية) في المغرب، وكانت علامته في المكاتبات وعلامة مَنْ بعده: «الحمد لله وحده»[2].

    وقد ظلَّ يوسف بن عبد المؤمن بن علي يحكم دولة الموحدين اثنين وعشرين عامًا مُتَّصلة، منذ سنة (558هـ= 1163م) وحتى سنة (580هـ= 1185م)، وقد نَظَّم الأمور وأحكمها في كل بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضدَّ النصارى، لكنه كان يعيبه شيء خطير؛ وهو أنه كان متفرِّد الرأي لا يأخذ بالشورى، وهذا -بالطبع- كان من تعليم وتربية أبيه عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت كما ذكرنا.

    وقد مات يوسف بن عبد المؤمن بن علي وهو في جهاد الصليبيين عند مدينة شنترين بغرب الأندلس نتيجة خطأ إداري قاتل، يرويه الذهبي هكذا: «وفي سنة 579هـ تجهَّز للغزو، واستنفر أهل السهل والجبل والعرب، فعبر بهم الأندلس فنزل إشبيلية، ثم قصد مدينة شنترين – أعادها الله إلى المسلمين - وهي بغرب الأندلس، أخذها ابن الريق -لعنه الله- فنازلها أبو يعقوب وضايقها، وقطع أشجارها، وحاصرها مدَّة، ثم خاف المسلمون البرد وزيادة النهر، فأشاروا على أبي يعقوب بالرجوع فوافقهم، وقال: غدًا نرحل. فكان أوَّل مَنْ قوَّض خباءَه أبو الحسن علي ابن القاضي عبد الله المالقيّ، وكان خطيبهم، فلمَّا رآه الناس قوَّضوا أخبيتهم ثقةً به لمكانه، فعبر تلك العشيَّة أكثرُ العسكر النهر، وتقدَّموا خوف الزحام، وبات الناس يعبرون الليل كلَّه، وأبو يعقوب لا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العساكر، وأخبرهم عيونهم بالأمر، انتهزوا الفرصة وخرجوا وحملوا على الناس، فانهزموا أمامهم حتى بلغوا إلى مخيَّم أبي يعقوب، فقُتِلَ على باب المخيَّم خَلْق من أعيان الجند، وخُلِصَ إلى أمير المؤمنين، فطُعن تحت سُرَّته طعنة مات منها بعد أيَّام يسيرة، وتدارك الناس، فانهزم الروم إلى البلد، وقد قضوا ما قضوا، وعبر الموحِّدون بأبي يعقوب جريحًا في محفَّة... ولم يسيروا بأبي يعقوب إلاَّ ليلتين أو ثلاثًا حتى مات»[3].

    علماء الأندلس في عهده

    ابن العوَّام الإشبيلي (ت580هـ=1185م)

    هو أبو زكريا يحيى بن محمد بن أحمد، الشهير بابن العوام الإشبيلي، وقد عاش في فترة قلقلة في بلاد الأندلس؛ هي فترة غروب الحضارة الإسلامية عنها، وعاش في إشبيلية في منطقة الوادي الكبير المزدهر بنباتاته المتنوِّعة، والمعروف بخصبه وازدهار الفنون الزراعية بين أهله.



    اهتمَّ ابن العوام بالفلاحة فأتقنها، وصنفها علمًا كاملاً، ولولا ابن العوام ومَنْ أتقن (علم الفلاحة) من علماء الأندلس المسلمين، لما وصل هذا العلم برُقِيِّه إلى أوربا بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي، وفي هذا العلم خاصة استفاد العلماء المسلمون وغيرهم من نتاج ابن العوام المتميز في التربة والأسمدة والحرث والسقي... وقد نُقِلَ إلى اللغات الأجنبية مبكرًا، ونتيجة لكثرة تجاربه وجُرأته عرف العرب -كما عرف الأوربيون فيما بعدُ- خواصَّ التربة، وكيفية تركيب السماد، وأساليب الغرس والزراعة والسقي.


    ولابن العوام كتاب في الفلاحة عظيم الشأن، ليس لاحتوائه على فنون الزراعة فقط؛ بل لكونه تتبَّع في الأندلس نظريات جديدة في الكيمياء والطبيعة، واختصر فيه علوم القدماء في الزراعة، وما زال هذا الكتاب -برغم أهميته النظرية والتطبيقية- لم يُحَقَّقْ بعدُ تحقيقًا جيدًا[4].

    وأَلَّف ابن العوام -أيضًا- رسالة في (تربية الكرم)، وقد عُثر له على مخطوط بعنوان: (عيون الحقائق وإيضاح الطرائق)، وقد توفي –رحمه الله- سنة (580هـ= 1185م)[5].

    ابن طفيل (494-581هـ= 1100-1185م)

    هو الفيلسوف الشهير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي من أهل وادي آش جنوب الأندلس، وهو صاحب المؤلف الفلسفي الشهير: رسالة حي بن يقظان.

    قال عنه لسان الدين بن الخطيب: كان عالمًا صدرًا، حكيمًا فيلسوفًا، عارفًا بالمقالات والآراء، كلفًا بالحكمة المشرقية، محقِّقًا، متصوفًا، طبيبًا ماهرًا، فقيهًا، بارع الأدب؛ ناظمًا، ناثرًا، مشاركًا في جملة من الفنون[6].

    وقال عنه المراكشي في (المعجب): صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونَبْذِ ما سواه، وكان حريصًا على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظِّمًا لأمر النُّبُوَّات ظاهرًا وباطنًا، هذا مع اتساعٍ في العلوم الإسلامية، وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الدهر في ذاته وأدواته[7].

    وقد أخذ ابن طفيل على عاتقه جمع العلماء وجلبهم من البلاد والأقطار إلى بلاط يوسف بن عبد المؤمن، وكان يحضُّه على إكرامهم والتنويه بهم، وكان ممن جلبهم إليه الفيلسوف الكبير والفقيه المالكي المعروف أبو الوليد بن رشد، فمن هنا عُرف ابن رشد وبلغ ما بلغ[8].

    وله شعر «غاية في الجودة»[9]؛ ومنه في الزهد: [البسيط]
    يَا بَاكِيًا فُرْقَةَ الأَحْبَابِ عَنْ شَحَطٍ[10]

    هَلاَّ بَكَيْتَ فِرَاقَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ؟!
    نُورٌ تَرَدَّدَ فِي طِـينٍ إِلَـى أَجَلٍ

    فَانْحَازَ عُلْوًا وَخَلَّى الطِّيـنَ لِلْكَفَنِ
    يَا شَدَّ مَا افْتَرَقَا مِنْ بَعْدَ مَا اعْتَلَقَا

    أَظُنُّهَا هُدْنَةً كَانَتْ عَلَى دَخَنِ[11]
    إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رِضَا اللهِ اجْتِمَاعُهُمَا

    فَيَا لَهَا صَفْقَةً تَمَّتْ عَلَى غَبَنِ[12]

    عاش ابن طفيل 87 سنة، وتُوُفِّيَ بمَرَّاكُش سنة (581هـ= 1185م)، وحضر الخليفة يعقوب المنصور[13]. جنازته


    [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص306، والسلاوي: الاستقصا، 2/144.
    [2] الزركلي: الأعلام، 8/241.
    [3] الذهبي: تاريخ الإسلام، 40/323، وانظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص332.
    [4] انظر: محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام، 5/184، بتصرف.
    [5] انظر: الزركلي: الأعلام، 8/165، بتصرف.
    [6] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/479.
    [7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص312.
    [8] المصدر السابق، ص314.
    [9] الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/463.
    [10] الشحط: البُعْد. ابن منظور: لسان العرب، مادة شحط 7/327.
    [11] هُدْنة على دَخَن: أي سكون لِعلَّة لا للصلح، وشبهها بدخان الحَطب الرَّطْب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصَّلاح الظاهر. ابن منظور: لسان العرب، مادة دخن 13/149.
    [12] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص313، 314.
    [13] الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/463.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    دولة الموحدين في الأندلس

    سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين

    متابعةً للأحداث بصورة متسلسلة فقد كان لسقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين في عام (541هـ= 1146م) ومقتل ما يربو على الثمانين ألف مسلم في بلاد الأندلس؛ نتيجة الحروب بينهما - كان لهذه الأحداث العظام تداعيات خطيرة على كلِّ بلاد المغرب العربي والأندلس، وما يهمُّنَا هنا هو ما حدث في الأندلس، فكان كما يلي:

    سقوط ألمرية

    بعد قيام دولة الموحدين بعام واحد وفي سنة (542هـ= 1147م) سقطت ألمرية في أيدي النصارى، وهي تقع على ساحل البحر المتوسط في جنوب الأندلس؛ أي: هي بعيدة جدًّا عن ممالك النصارى، لكنها سقطت عن طريق البحر بمساعدة فرنسا.. وفي ألمرية استُشْهِدَ آلافٌ من المسلمين، وسُبِيَتْ أكثر من أربعة عشر ألف فتاة مسلمة[1]، وفي هذا يقول المقري التلمساني: «وأُحْصِيَ عدد من سُبِيَ من أبكارها فكان أربعة عشر ألفًا»[2].

    سقوط طرطوشة ولاردة

    بعد ذلك -أيضًا- بعام واحد وفي سنة (543هـ= 1148م) سقطت طرطوشة ثم لارِدَة في أيدي النصارى، وهما في مملكة سرقسطة التي تقع في الشمال الشرقي، والتي كان قد حَرَّرها المرابطون قبل ذلك[3].

    توسع مملكة البرتغال

    وفي العام نفسه -أيضًا- توسَّعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشدِّ الممالك ضراوة وحربًا على المسلمين[4].

    احتلال النصارى تونس

    بدأ النصارى يتخطَّوْن حدود الأندلس ويُهاجمون بلاد المغرب العربي، فاحْتُلَّت تونس في السنة ذاتها -أيضًا- من قِبل النصارى، وهي خارج بلاد الأندلس[5].

    ولقد كانت مثل هذه التداعيات شيئًا متوقَّعًا نتيجة الفتنة الكبيرة، والحروب التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.

    انجازات عبد المؤمن بن علي في المغرب



    كان عبد المؤمن بن علي صاحب شخصية قوية، وصاحب فكر سياسي عالٍ؛ فبدأ وبطريقة عملية منظمة وشديدة في تأسيس وبناء دولته الفتيَّة الناشئة؛ فعمل على ما يلي:


    إنشاء المساجد والمدارس

    أنشأ الكثير من المدارس والمساجد، واهتم غاية الاهتمام بالتعليم والتثقيف، وكان –كما يقول عبد الواحد المراكشي- «مُؤْثِرًا لأهل العلم محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده والجوار بحضرته، ويُجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظهر التنويه بهم، والإعظام لهم، وقسَّم الطلبة طائفتين طلبة الموحدين وطلبة الحضر، هذا بعد أن تسمَّى المصامدة بالموحدين؛ لتسمية ابن تومرت لهم بذلك؛ لأجل خوضهم في علم الاعتقاد، الذي لم يكن أحد من أهل ذلك الزمان في تلك الجهة يخوض في شيء منه»[6].

    إقران الخدمة العسكرية بالعلوم التثقيفية

    عمل عبد المؤمن بن عليٍّ على إقران الخدمة العسكريَّة بالعلوم التثقيفية، وأنشأ معسكرًا بقصره لتدريس وتعليم وتخريج رجال السياسة والحُكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأنشأ جيلاً فريدًا من قوَّاد الحروب والسياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يُدَرِّبهم على كل فنون الحرب؛ حتى إنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة في بلاد المغرب لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء، وكيف تكون الحروب البحرية، وكان -أيضًا- يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه[7].

    إنشاء مصانع للأسلحة

    أقام مصانع ومخازن ضخمة وكثيرة للأسلحة؛ ليستعدَّ بذلك لحرب الصليبيين في الأندلس[8].

    إعمال السيف في رقاب المخالفين

    لكن هذا لم يكن ليغضَّ الطرف عن كون عبد المؤمن بن عليٍّ ذا فرديَّة في نظام الحُكم والإدارة؛ أي أنه كان -بِلُغَة العصر- حاكمًا ديكتاتورِيًّا، فرديَّ الرأي لا يأخذ بالشورى، ولقد كان سَفَّاكًا للدماء، حتى أحصى له مؤرخ العهد الشهير بـ «البيذق» أكثر من ثلاثين ألف قتيل بدأ بها عهده لنشر الرعب وتثبيت أقدام الدولة بالسيف[9].

    بل لما سُرق من تاجر بعض ماله، جمع عبد المؤمن أشياخ القبيلة التي وقع فيها السرقة، فأخرج للتاجر ماله منهم، ثم أمر بقتل الجميع «فأقبلوا يتضرَّعون ويبكون، وقالوا: تؤاخذ -سيدنا- الصلحاء بالمفسدين؟ فقال: يُخرج كلُّ طائفة منكم مَنْ فيها من المفسدين. فصار الرجل يُخرج ولده، وأخاه، وابن عمه، إلى أن اجتمع نحو مائة نفسٍ، فأمر أهلهم أن يَتَوَلَّوْا قتلهم، ففعلوا. فخرجتُ (والكلام للتاجر) من المغرب إلى صقلِّية خوفًا على نفسي من أهل المقتولين»[10].

    وكان يتمثل ببيت الشعر الذي يقول: [البسيط]
    وَحَكِّمِ السَّيْفَ لا تَعْبَأْ بِعَاقِبَةٍ

    وَخَلِّهَا سِيرَةً تَبْقَى عَلَى الْحِقَبِ
    فَمَا تُنَالُ بِغَيْرِ السَّيْفِ مَنْزِلَةٌ

    وَلا تُرَدُّ صُدُورُ الْخَيْلِ بِالْكُتُبِ[11]

    هذا كله في بلاد المغرب العربي، ولم تكن بلاد الأندلس قد دخلت بعدُ في حسابات عبد المؤمن بن عليٍّ في ذلك الوقت، إلا ما كان منه في إرسال الجيوش إليها؛ لتحوزها بعد انتصاره على المرابطين، وكان ذلك بعد استيلائه على مراكش، وفي بعض المصادر بعد استيلائه على فاس وتلمسان؛ إلا أنه أولى اهتمامه أكثر للمغرب؛ لأنه كان يعمل على أن يستقرَّ له الأمر أولاً في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان، فلقد كانت المغرب حاضرة الدولة.

    عبد المؤمن بن علي في الأندلس

    بعد تساقط المرابطين في المغرب أمام الموحدين، تبعهم الموحدون في الأندلس، واستولوا على المدن الأندلسية التي كانت في يد المرابطين، وفي سنة (543هـ= 1148م) وبعد استيلاء الموحدين على كثير من البلاد الأندلسية، قدم القاضي ابن العربي إلى بلاد المغرب، وبايع عبد المؤمن بن علي، وطلب النجدة لأهل الأندلس، وإن مبايعة القاضي ابن العربي لعبد المؤمن بن علي قد تُعطي إشارة إلى أن عبد المؤمن بن علي لم يكن يعتقد أو يدعو إلى أفكار ضالَّة كما في الدعوة إلى العصمة أو المهديَّة، أو غيرها مما كان يَدِينُ به محمد بن تومرت وبعضٌ من أتباعه[12].

    قَبِلَ عبد المؤمن بن علي الدعوة من القاضي ابن العربي، وجَهَّزَ جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وهناك بدأ يحارب القوَّات الصليبية، حتى ضمَّ معظم بلاد الأندلس الإسلامية، التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وكان ممن قاتله هناك بعض أنصار دولة المرابطين، إلا أنه قاتلهم وانتصر عليهم وذلك في سنة (545هـ= 1150م)[13].

    وفي سنة (552هـ= 1157م) استطاع أن يستعيد ألمَرِيَّة[14]، وفي سنة (555هـ= 1160م) استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل - ولأول مرة - استطاع أن يضمَّ ليبيا إلى دولة الموحدين، وهي لم تكن ضمن حدود دولة المرابطين[15].

    وبهذا يكون قد وصل بحدود دولة الموحدين إلى ما كانت عليه دولة المرابطين، إضافة إلى ليبيا، وقد اقتربت حدود دولته من مصر كثيرًا، وكان يُفَكِّر في أن يُوَحِّد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.


    [1] انظر: ابن الأثير: الكامل، 9/347، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص279، والمقري: نفح الطيب، 4/463، والسلاوي: الاستقصا، 2/118.
    [2] المقري: نفح الطيب، 4/463.
    [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/357، والسلاوي: الاستقصا، 2/118.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/526، 527، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 1/257.
    [5] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/350، وتاريخ ابن خلدون، 5/203.
    [6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص269، والسلاوي: الاستقصا، 2/145.
    [7] مجهول: الحلل الموشية، ص150.
    [8] السلاوي: الاستقصا، 2/143.
    [9] البيذق: أخبار المهدي ابن تومرت، ص69.
    [10] الذهبي: تاريخ الإسلام، 38/259.
    [11] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص297.
    [12] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/234، والحلل الموشية، ص147، والسلاوي: الاستقصا، 2/117.
    [13] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص265، والسلاوي: الاستقصا، 2/116.
    [14] ابن الأثير: الكامل، 9/416، والسلاوي: الاستقصا، 2/122.
    [15] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/237.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد المؤمن بن علي والصراع مع المرابطين



    صراع عبد المؤمن بن علي مع المرابطين

    عاد عبد المؤمن بن علي إلى تينملل بعد موقعة البحيرة أو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، ثم مات ابن تومرت بعد ذلك بقليل، فبُويع من بعده عبد المؤمن بن علي، وأقام في تينملل فترة يتألَّف القلوب، ويُحسن إلى الناس، وكان جوادًا مقدامًا في الحروب، ثابتًا في الشدائد.

    وفي سنة (528هـ) جهَّز عبد المؤمن جيشًا كبيرًا، وقاده إلى مدينة تادلة، ودارت بينه وبين أهلها حرب، انتهت بانتصار عبد المؤمن بن علي، ودخول المدينَة عَنْوة، وسار بعدها في الجبال يفتح المدن التي تليها.

    وفي سنة (531هـ) تُوُفِّيَ وليُّ العهد سير بن علي بن يوسف، فاستدعى علي بن يوسف بن تاشفين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميرًا عليها، وجعله وليَّ عهده، ثم قلَّده أبوه بعد ذلك قيادة جيش قوي، وأرسله لمحاربة عبد المؤمن بن علي، فسار بالجيش في الصحراء قبالة جيش عبد المؤمن، الذي كان يسير في الجبال، وكانت تَحْدُث بينهما مناوشات من وقت لآخر، ولكن لم تَحْدُث بينهما حروب أو معارك كبيرة.

    وفي شتاء سنة (533هـ) وصل عبد المؤمن إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة بين شجر، ونزل تاشفين مقابل عبد المؤمن في سهل لا نبات فيه، وفي أثناء ذلك توالى هطول الأمطار أيامًا، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وَسَدَّت المياهُ الطرق؛ حتى انقطعت عن تاشفين وجيشه الإمدادات، فكانوا إذا أرادوا نارًا لم يجدوا إلاَّ رماحهم لِيُوقدوا بها النار، وأنهكهم الجوع والبرد وسوء الحال.

    وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يُبَالون بشيء، والإمدادات مُتَّصلة إليهم، فاستغلَّ ذلك عبد المؤمن وأرسل جيشًا في ذلك الوقت إلى وجرة من أعمال تِلِمْسَان، وقَدَّم عليهم أبا عبد الله محمد بن رقو، وهو من أهل الخمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا (والي تلمسان من قِبَل المرابطين)، فخرج في جيش من المرابطين، فالتقوا بموضع يُعْرَفُ بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقُتِلَ محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجَّه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعته قبائلها، وأقام عندهم مدَّة.

    وظلَّ يسير بجيشه في الجبال، وتاشفين يُحاذيه في الصحارى، حتى تُوُفِّيَ أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش، وخلفه ابنه تاشفين سنة (535هـ)، فزاد طمع عبد المؤمن في البلاد، إلاَّ أنه ظلَّ مع ذلك معتصمًا بالجبال، ولم ينزل إلى الصحراء.



    وفي سنة (538هـ) توجَّه عبد المؤمن بجيشه إلى تلمسان للاستيلاء عليها، فسارع تاشفين لنجدتها، وعسكر الفريقان هناك دون حرب، اللهم إلا مناوشات بسيطة، وظلاَّ كذلك حتى سنة (539هـ)، حتى رحل عبد المؤمن إلى جبل تَاجَرَة، ووجَّه جيشًا مع عمر الهِنْتَاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، واستولى عليها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران على البحر في شهر رمضان من السنة نفسها، وفي هذا الشهر قُتل تاشفين هناك، وصُلِبَتْ جُثَّتُه.


    وقيل في سبب موته: إنه قصد حصنًا هناك على رابية، وله فيه بستان كبير، فيه من كلِّ الثمار، فاتفق أن عمر الهِنْتَاتي، أرسل سرية إلى ذلك الحصن، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فأشعلوا النار في بابه، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأُخذ تاشفين فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال بسبب إصابته، ثم صلبوه، وقُتِلَ كُلُّ مَنْ معه، وتفرَّق عسكره ولم يَعُدْ لهم جماعة، فتولَّى بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.

    ولما قُتِلَ تاشفين أرسل عمر الهِنْتَاتي إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرَة في يومه بجميع جنوده، وتفرَّق عسكر تاشفين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلمَّا وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يُحصى، ثم سار عبد المؤمن إلى تاهَرْت وأقادير؛ فامتنعت أقادير وغَلَّقت أبوابها، وتأهَّب أهلها للقتال.

    وأمَّا تاهَرْت فكان فيها يحيى ابن الصحراوية، فهرب منها بجنوده إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فسارع إليه أهلها للدخول في طاعته، ولكنه لم يقبل منهم، وقتل أكثرهم، ودخلها ورتَّب أمرها، ورحل عنها تاركًا جيشًا يُحَاصِر أقادير.

    وسار إلى مدينة فاس سنة (540هـ) فحاصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى ابن الصحراوية، وعسكره الذين فَرُّوا من تاهَرْت، فلما طال حصار المدينَة عمد عبد المؤمن إلى نهر يدخلها، فسَدَّه فترة، حتى إذا اجتمع الكثير من الماء فتح المجرى فجأة، فهدم سورها، وكُلَّ ما بجوار النهر من مبانٍ وإنشاءات، فلما أراد دخولها خرج إليه أهلها، وقاتلوه خارجها؛ فلم يتمكَّن من دخولها.

    ثم عاد والي فاس وأعيانها فكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبوبها، فدخلها جيشه في أواخر (540هـ)، وهرب يحيى ابن الصحراوية، وسار إلى طنجة، ورتَّب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنُودِيَ في أهلها: مَنْ ترك عنده سلاحًا وعُدَّة قتال حلَّ دمه. فحمل كلُّ مَنْ في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.

    ولما فرغ عبد المؤمن من فاس وتلك النواحي، سار إلى مراكش وهي عاصمة المرابطين، وكانت من أكبر المدن وأعظمها، وكان يحكمها حينئذٍ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وكان صبيًّا صغيرًا، فوصل مَرَّاكُش سنة (541هـ)، وعسكر على جبل صغير في غرب المدينَة، وبنى عليه مدينة له ولجنوده، وبنى بها جامعًا، وبنى له بناءً عاليًا يُشرف منه على المدينَة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وحاصرها أحد عشر شهرًا، قاتَلَ المدينةَ فيها قتالاً كثيرًا، كان المرابطون يخرجون فيه من المدينَة لقتال الموحدين، وأرهق الحصار عبد المؤمن، وقلَّ الطعام عنده، فعزم على أن ينصب كمينًا لأهل مَرَّاكُش ليُضعفهم به.

    فأمر جنوده فزحفوا يومًا إلى مراكش، فخرج إليهم جنود المرابطين كالعادة، فدارت بين الفريقين معركة شديدة، ثم انهزم الموحدون وفروا أمام المرابطين، فتبعهم المرابطون إلى المدينَة التي بناها عبد المؤمن له ولجنوده على الجبل، ودارت بين الفريقين معارك شديدة، وهُدمت أجزاء كبيرة من سور مدينة عبد المؤمن، وكان عبد المؤمن يُشاهد المعركة من أعلى البناء الموجود على الجبل، وكان قد اتَّفق مع رجاله أن ينهزموا أمام المرابطين، حتى إذا لحق بهم المرابطون أمر بضرب الطبول؛ فتخرج مجموعة أخرى من رجاله كانت مختبئة، لتُحيط بالمرابطين حتى تقضي عليهم، فلما اشتدَّت المعركة صاح الموحدون بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبول، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهل مراكش، أمر بضرب الطبول، فخرج الكمين عليهم، فقاتلوهم ودارت الدائرة على المرابطين، وقتلوا مقتلة عظيمة.

    وبهذا ضعفت قوات المرابطين داخل مراكش ضعفًا شديدًا، وكان إسحاق بن علي صبيًّا صغيرًا، وكان يُدير دولتَه مشايخُ المرابطين، فحدث أن أحدهم واسمه عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنًا، وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فزاد طمع عبد المؤمن فيهم، وشدَّد عليهم الحصار، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، حتى فنيت أقواتهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات من العامَّة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.

    وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسل الفرنج عبد المؤمن يسألونه الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبواب البلد يقال له: باب أغمات. فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينَة عَنْوَة، وقتلوا مَنْ وَجَدُوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع مَنْ معه من أمراء المرابطين، فقُتِلُوا.

    وكان إسحاق هذا صغيرًا؛ فلما قُبِضَ عليه، وخاف أن يُقْتَل أخذ يبكي ويدعو لعبد المؤمن ويتوسَّل إليه، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان مُقَيَّدًا إلى جانبه فبصق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله، ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه -وكان من شجعان المرابطين، المعروفين بالإقدام- وقُدِّم إسحاق على صغر سنه، فضُربت عنقه سنة (542هـ)، وكان آخر ملوك المرابطين، وكانت مدَّة ملكهم سبعين سنة، وَلِيَ منهم أربعة: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق.

    ولما فتح عبد المؤمن مَرَّاكُش أقام بها، وجعلها عاصمة لدولة الموحدين، وكان عبد المؤمن لما دخل مَرَّاكُش قد أكثر القتل في أهلها؛ فاختفى كثيرٌ من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنُودِيَ بأمان مَنْ بَقِيَ من أهلها فخرجوا، فأراد أصحابُه قتلهم فمنعهم، وقال: هؤلاء صُنَّاع وأهل الأسواق مَنْ ننتفع به. فتُركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعًا كبيرًا، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين[1].

    وقال عبد الواحد المراكشي في المعجب: ولم يزل عبد المؤمن -بعد وفاة ابن تومرت- يطوي الممالك مملكة مملكة، ويَدُوخ البلاد[2] إلى أن ذَلَّت له البلاد وأطاعته العباد[3].

    وبنظرة إجمالية فإن عَدَدَ مَنْ قُتِلَ من المسلمين في المواقع التي دارت بين المرابطين والموحدين تجاوز عشرات الآلاف، وذلك في نحو ثمانٍ وعشرين سنة؛ من سنة (512هـ= 1118م) وحتى قيام دولة الموحدين في سنة (541هـ= 1146م)، وقامت دولة الموحدين كما قامت دولة المرابطين من قبل، لكن على أشلاء الآلاف من المسلمين، وكان هذا هو الطريق الذي سلكه محمد بن تومرت ومَنْ معه، وكان هذا نهجهم في التغيير.


    [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، وما بعدها بتصرف.
    [2] داخَ البلادَ يَدُوخُها: قهرها واستولى على أهلها. ابن منظور: لسان العرب، مادة دوخ 3/16.
    [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص270.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد المؤمن بن علي

    عبد المؤمن بن علي

    وفي سنة (541هـ=1146م) بزغ نجم دولة الموحدين، وكان أوَّل حُكَّامها عبد المؤمن بن علي 487-558هـ=1094-1163م) صاحب محمد بن تومرت، والرجل الثاني بعد ابن تومرت المؤسِّس الحقيقي والفعلي لجماعة الموحدين.

    وهو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان، أبو محمد الكومي، نسبته إلى كومية (من قبائل الأمازيغ البربر). ولو أنه -أيضًا- كان ينسب نفسه إلى العرب من مضر[1]. وُلِدَ في مدينة تاجرت بالمغرب قرب تلمسان، ونشأ فيها طالب علم، وأبوه صانع فخَّار[2].

    ويصف عبد الواحد المراكشي عبد المؤمن بن علي فيقول: وكان أبيض ذا جسمٍ عممٍ، تعلوه حمرة، شديدَ سواد الشعر، معتدل القامة، وضيءَ الوجه، جَهْوَرِيَّ الصوتِ، فصيح الألفاظ، جَزْل المنطق، وكان محبَّبًا إلى النفوس، لا يراه أحدٌ إلا أحبَّه بديهة؛ وبلغني أن ابن تومرت كان يُنشد كلما رآه: [البسيط]
    تَكَامَلَتْ فِيكَ أَخْلاقٌ خُصِصْتَ بِهَا

    فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ
    فَالسِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالْكَفُّ مَانِحَةٌ

    وَالصَّدْرُ مُنْشَرِحٌ وَالْوَجْهُ مُنْبَسِطُ[3]

    وذكر الذهبي في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب أنه كان ملكًا عادلاً، سائسًا، عظيم الهيبة، عالي الهمة، متين الديانة، كثير المحاسن، قليل المِثْل، وكان يقرأ كلَّ يوم سُبُعًا من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير -وهذا يعني أنَّ لبس الحرير كان عادة وإلفًا في زمانه- وكان يصوم الاثنين والخميس، ويهتمُّ بالجهاد والنظر في الْمُلْك كأنما خُلق له. ثم بعد هذه الأوصاف نجد هذه العبارة التي تحمل كثيرًا من علامات الاستفهام حيث يقول: وكان سفَّاكًا لدماء مَنْ خالفه![4]

    وقال عنه الزركلي في الأعلام: وكان عاقلاً حازمًا شجاعًا مُوَفَّقًا، كثير البذل للأموال، شديد العقاب على الجرم الصغير، عظيم الاهتمام بشئون الدين، محبًّا للغزو والفتوح، خضع له المَغْرِبَان (الأقصى والأوسط)، واستولى على إشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، والجزائر، والمهدية، وطرابلس الغرب، وسائر بلاد إفريقية، وأنشأ الأساطيل، وضرب الخراج على قبائل المغرب، وهو أول مَنْ فعل ذلك هنالك[5].

    ومثل هذه الأوصاف ذكرها ابن كثير-أيضًا- في البداية والنهاية، بقوله: «وكان مَنْ لا يحافظ على الصلوات في زمانه يُقتل، وكان إذا أَذَّن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد... ولكن كان سفاكًا للدماء، حتى على الذنب الصغير»[6]. وهذه بالطبع هي تعاليم محمد بن تومرت.

    وإضافة إلى هذا المنهج العقيم وتلك الصفة السابقة -التساهل في أمر الدماء- فقد كان محمد بن تومرت حين يعلم أن أتباعه ينظرون إلى الغنائم، التي حصَّلوها من دولة المرابطين في حربهم معهم، كان يأخذها كلها فيحرقها[7].. وكان يُعَذِّر بالضرب مَنْ يفوته قيام الليل من جماعته؛ فنشأت جماعة من الطائعين الزاهدين العابدين، لكن على غير نهج رسول الله ، الذي لم يكن يحرق الغنائم، أو يضرب المتباطئين أو المتثاقلين عن قيام الليل، أو يَتَّبع مثل هذا المنهج وتلك الرهبنة المتشدِّدَة.



    وعلى كلٍّ فقد كان عبد المؤمن بن علي -على ما يبدو- غير مقتنع بفكرتَيِ العصمة والمهديَّة، اللتين ادَّعاهما محمد بن تومرت واقتنع بهما أتباعه من بعده؛ ويدفعنا إلى ذلك أن رجلاً بعلم وعقل عبد المؤمن لا شك علم –على الأقل بعد وفاة ابن تومرت- أنه ليس المهدي الذي ذكرت الأحاديث أنه يملأ الأرض عدلاً، ثم يتبعه نزول المسيح ابن مريم وما إلى ذلك من الحوادث، لكنه على الجانب الآخر فإن عبد المؤمن بن عليٍّ لم ينفِ مثل هذه الأفكار الضالَّة صراحة؛ وذلك لأن غالبَ شيوخ الموحِّدين كانوا على هذا الفكر وذلك الاعتقاد، فخاف –على ما يظهر- إن هو أعلن أن أفكار محمد بن تومرت هذه مخالفة للشرع، أن ينفرط العِقد ويحدث التفكُّك في هذه الفترة الحرجة من دولة الموحدين.


    مشاهد من حياة عبد المؤمن بن علي

    نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الواحد المراكشي قوله: أخبرني غير واحد ممن أرضى نقله، أنه (عبد المؤمن بن علي) لما نزل مدينة سلا - مدينة بأقصى المغرب ...- عبر النهر، وضُربت له خيمة على الشاطئ، وجعلت العساكر تعبر قبيلة بعد قبيلة... فخرَّ ساجدًا، ثم رفع وقد بلَّ الدمع لحيته... فقال: أعرف ثلاثة أشخاص وَرَدُوا هذه المدينَة لا شيء لهم إلاَّ رغيف واحد، فراموا عُبور هذا النهر، فأتوا صاحب القارب، وبَذَلُوا له الرغيف على أن يعبروا ثلاثتهم، فقال: لا آخذه إلا على اثنين خاصة. فقال لهم أحدهم وكان شابًّا جلدًا: خذا ثيابي معكما وأعبر أنا سباحة... فجعل الشاب يسبح، فكلما أعيا دنا من القارب ووضع يده عليه ليستريح، فيضربه صاحبه بالمجداف الذي معه حتى يؤلمه؛ فما بلغ البرَّ إلاَّ بعد جهد شديد. فما شكَّ السامعون للحكاية أنه هو العابر سباحة، وأن الاثنين المذكورين هما: ابن تومرت، وعبد الواحد الشرقي[8].

    وكان لعبد المؤمن من الولد ستة عشر ذكرًا؛ وهم: محمد وهو أكبر ولده، ووليُّ عهده، وهو الذي خُلع بعد ذلك، وعلي، وعمر، ويوسف، وعثمان، وسليمان، ويحيى، وإسماعيل، والحسن، والحسين، وعبد الله، وعبد الرحمن، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب[9].


    [1] انظر: تاريخ ابن خلدون، 6/126، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص265، السلاوي: الاستقصا 2/99.
    [2] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص265، والسلاوي: الاستقصا، 2/99.
    [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص266.
    [4] ابن العماد: شذرات الذهب، 4/183، والذهبي: العبر 3/29.
    [5] الزركلي: الأعلام، 4/170.
    [6] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 12/306.
    [7] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 36/120.
    [8] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص296، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 20/373.
    [9] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص266.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصراع بين المرابطين والموحدين



    المواجهة بين المرابطين والموحدين

    حمل محمد بن تومرت على عاتقه وعاتق جماعته -الموحدين- أمر مقاتلة المرابطين وسفك دمهم.

    يقول ابن خلدون ملخصًا معارك المرابطين والموحدين: «ولما تمَّ له (ابن تومرت) خمسون من أصحابه سمَّاهم ايت الخمسين، وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل، فاجتمعوا إليه، وأوقعوا بعسكر لمتونة، فكانت هزمة الفتح، وكان الإمام (أي: ابن تومرت) يَعِدُهم بذلك، فاستبصروا في أمره (أي تأكدوا من صدق ابن تومرت)، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردَّدت عساكر لمتونة إليهم مرَّة بعد أخرى ففضُّوهم... وكانوا يُسَمّون لمتونة الحشم، فاعتزم على غزوهم، وجمع كافَّة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات، فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون...»[1].

    لقد استطاع ابن تومرت أن يتحصن في تينملل وأن يُخرج منها الجيوش التي تفتك بدولة المرابطين، ولقد استطاع بطبيعة الحال أن يُوَسِّع الأرض التي حوله والتي ينطلق منها، ولقد التقوا مع المرابطين في مواقع عديدة؛ كان منها تسع مواقع ضخمة، انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين.

    وأكبر هزائمهم كانت حين استفحل خطرهم فجهز لهم علي بن يوسف بن تاشفين جيشًا كبيرًا، ثم خرج من الموحدين جيش كبير على قيادته عبد المؤمن بن علي، يروي عبد الواحد المراكشي كيف سارت المعركة فيقول: «ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا من المصامدة، جُلُّهُم من أهل تينملل مع مَنِ انضاف إليهم من أهل سوس، وقال لهم: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدِّلِينَ، الذين تسمَّوْا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لكم ما لهم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم؛ فقد أباحت لكم السُّنَّة قتالهم. وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي وقال: أنتم المؤمنون، وهذا أميركم. فاستحقَّ عبد المؤمن من يومئذ اسم إمرة المؤمنين.

    وخرجوا قاصدين مدينة مراكش، فلقيهم المرابطون قريبًا منها بموضع يدعى البحيرة، بجيش ضخم من سراة لمتونة، أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فلمَّا تراءى الجمعان، أرسل إليهم المصامدة (من الموحدين) يدعونهم إلى ما أمرهم به ابن تومرت، فردُّوا عليهم أسوأ ردٍّ، وكتب عبد المؤمن إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بما عهد إليه محمد بن تومرت، فردَّ عليه أمير المسلمين يُحَذِّره عاقبة مفارقة الجماعة، ويُذَكِّرُه الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة، فلم يردع ذلك عبد المؤمن؛ بل زاده طمعًا في المرابطين، وَحَقَّق عنده ضعفهم، فالتقت الفئتان، فانهزم المصامدة وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونجا عبد المؤمن في نفر من أصحابه، فلمَّا جاء الخبر لابن تومرت، قال: أليس قد نجا عبد المؤمن؟ قالوا: نعم. قال: لم يُفقد أحد»[2].

    وقفة مع تاريخ ابن تومرت

    الحقيقة أن سيرة هذا الرجل فيها خلط كثير جدًّا، وتفاصيل كثيرة متشابكة في معظم الأحيان، وهي على تشابكها تتنافر وتتجاذب، فلا يدري المرء أي الأحداث أصدق، أو أيها أسبق، وبخاصة أن القدماء الذين كتبوا عن هذا الرجل لم يُؤَرِّخوا بدقَّة له أو للأحداث في عهده، اللهم إلا في القليل جدًّا، وهذا أمر يُعذرون فيه؛ إذ إن الظروف التي أحاطت بالرجل، أو التي أحاط نفسه بها -عن قصد أو غيرِه- تَحُولُ دون الدقَّة في الإخبار عنه؛ فلقد كان على غرابته ووحدته وصمته، دائم الترحال، ولم يستقرّ إلا في منطقة جبلية وعرة وحصينة؛ بل منهم مَن يقول: إنه استقر حينًا في منطقة وعرة، ثم ارتحل عنها بعد قليل (ثلاث سنوات تقريبًا) لمنطقة أخرى كانت أكثر حصانة منها ووعورة، وأشدَّ قسوة على أهلها ومَنْ راموهم بسوء، وهذا هو الأرجح، ولقد اعتمد على ساكني هذه المناطق في دعوته، ولنا أن نتوقَّع حال مَنْ يسكن هذه المناطق وعقلياتهم، بل يكفينا أن نتذكَّر أنهم ساروا خلفه رغم ادعائه الهدى والعصمة، ورغم ما فعله بهم يوم التمييز، ثم إنه قتل في يوم التمييز كلَّ مَنْ كان يخافه على نفسه ودعوته وأتباعه من أهل الفهم بين هؤلاء القوم، وقتلهم بأيدي أهليهم، بل إن مِن المصادر مَن يذكر أن هؤلاء الذين قُتلوا لم يحاولوا الهرب، وانتظروا حتى قتلهم أهلوهم، وإن كان ثمة مصادر أخرى ذكرت ما يختلف عن هذا؛ فمنهم مَن قال: إنه متى ذُكر أن فلانًا من أهل النار يُكَتَّف ثم يقتل. ومنهم من ذكر أنه كان يُلْقَى من أعلى الجبل في ساعتها، ومنهم.. ومنهم.. المهم أن أهل الفهم مِنْ هؤلاء لم يكونوا علماء، ولكنهم كانوا قومًا قد لا يصدقون كذبه وادعاءه، وينشرون ذلك بفطرتهم، فيُثَبِّطون به العزائم من حوله أو ما شابه؛ لهذا فإن المرء لا يَعْجَبُ إذا وجد أن كتاب (أخبار المهدي ابن تومرت) لأبي بكر بن علي الصنهاجي الشهير بالبيذق -وقد كان من أتباع ابن تومرت المقربين، وسابع مَنْ بايعوه في تينملل- لم يكن يذكر تواريخ كثير من الأحداث، بل ولا حتى عام حدوثها، حتى معارك ابن تومرت نفسها لم يكن الرجل يذكر تواريخها ولا سنة وقوعها، اللهم إلا ما ذكره على سبيل الإجمال في نهاية كتابه عن أهم ما حدث من سنة 518هـ إلى سنة 527هـ، فهذا رجل كان من كبار أتباع ابن تومرت، ولا يهتم أن يسوق الحدث ومعه تاريخ وقوعه؛ لذلك فإن المؤرخين معذورون في وقوع هذا الخلط.


    معركة البحيرة


    كانت معركة البحيرة أو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقُتِلَ فيها من الموحدين أربعون ألفًا، وهذه المعركة -البستان أو البحيرة- هي التي سُبقت بحادث التمييز؛ حيث قام ابن تومرت بقتل كلِّ مَنْ يشُكُّ في ولائه له، بل جعل أهلَهم وأقرباءهم هم الذين يقتلونهم، كما سبق الإشارة إلى هذا الأمر.

    قال ابن الأثير: «فجهَّز المهدي -ابن تومرت- جيشًا كثيفًا يبلغون أربعين ألفًا، أكثرهم رجَّالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسَيَّر معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيَّقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يومًا، فأرسل أمير المسلمين إلى متولِّي سِجِلْمَاسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشًا كثيرًا وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مَرَّاكُش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا واشتدَّ القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقُتِلَ الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرًا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامَّة النهار، وصَلَّى عبد المؤمن صلاة الخوف؛ الظهر والعصر، والحربُ قائمة، ولم تُصَلَّ بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوَّتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك -والبستان يُسَمَّى عندهم البحيرة؛ فلهذا قيل: وقعة البحيرة، وعام البحيرة- وصاروا يُقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قُتِلَ من المصامدة أكثرهم، وحين قُتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يَرَوْه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة. ولما جنَّهم الليل سار عبد المؤمن ومَنْ سلم من القتلى إلى الجبل»[3].

    لم تَفُتُّ هذه الهزيمة في عضد ابن تومرت، ولم يُصبه اليأس، وإن كان أصحابه قد بدءوا يَشُكُّون في مهديَّته المزعومة؛ فلجأ نتيجة لذلك إلى الحيلة والكذب؛ ليبعث الأمل من جديد في نفوس أصحابه، ويُوهمهم بأنهم على الحقِّ، وأن هؤلاء الملثَّمِينَ على الباطل، ولا بُدَّ أن يُهزموا.

    يقول المراكشي في المعجب: «ولما رجع القوم إلى ابن تومرت، جعل يُهَوِّن عليهم أمر الهزيمة، ويُقَرِّر عندهم أن قتلاهم شهداء؛ لأنهم ذابُّون عن دين الله، مُظهرون للسُّنَّة؛ فزادهم ذلك بصيرةً في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوِّهم، ومن حينئذٍ جعل المصامدة يشنُّون الغارات على نواحي مراكش، ويقطعون عنها موادَّ المعايش وموصول المرافق، ويقتلون ويَسْبُون، ولا يُبْقُون على أحد ممن قَدروا عليه؛ وكثر الداخلون في طاعتهم والمُنْحَاشون إليهم، وابن تومرت في ذلك كله يُكثر التزهُّد والتقلُّل، ويُظهر التشبُّه بالصالحين، والتشدُّد في إقامة الحدود؛ جاريًا في ذلك على السُّنَّة الأُولى»[4].

    لم يلبث ابن تومرت أن تُوُفِّيَ بعد معركة البحيرة هذه، تاركًا أصحابه بعد أن أمَّر عليهم عبد المؤمن بن علي، ولما مات كَفَّنه عبد المؤمن بن علي وصَلَّى عليه، ودفنه بمسجده[5].

    وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول؛ بسبب هذه الهزيمة الشديدة التي نزلت بأتباعه في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح مع ذلك في ترسيخ دعوته في قلوبهم، حتى صَدَّقُوه وآمنوا بمهديَّتِه، وأطاعوه ولو في قتل أبنائهم؛ كما حصل في حادثة التمييز التي تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلت كل قبيلة أبناءها دون أن يُصِيبها التردُّد أو الحيرة.

    البيعة لعبد المؤمن بن علي

    ومن عجيب ما ينقل المراكشي في (المعجب) أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة استدعى هؤلاء المسمَّيْنَ بالجماعة، وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرِّقة، لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلمَّا حضروا بين يديه قام -وكان متكئًا- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على محمد نبيه ، ثم أنشأ يترضَّى عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وذَكَر مِن حَدِّ عمر بن الخطاب -t- ابنَه في الخمر، وتصميمه على الحقِّ في أشباهٍ لهذه الفصول، ثم قال: فانقرضت هذه العصابة - نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أُمَّةِ نَبِيِّهَا- وخبطت الناس فتنةٌ تركت الحليم حيران، والعالم متجاهلاً مُداهنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قصدوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم... ثم إنَّ الله - سبحانه وله الحمد - مَنَّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخَصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض لكم من أَلْفَاكُم ضُلاَّلاً لا تهتدون، وعُمْيًا لا تُبصرون؛ لا تعرفون معروفًا، ولا تُنكرون منكرًا، قد فَشَتْ فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، وزَيَّنَ لكم الشيطان أضاليلَ وتُرَّهاتٍ أُنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَأُ بلفظي عن ذِكْرِهَا، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبَصَّركم بعد العمى، وجمعكم بعد الفُرقة، وأعزَّكم بعد الذِّلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كسبته أيديهم، وأضمرته قلوبهم، وما ربك بظلام للعبيد؛ فجدِّدوا لله -سبحانه- خالصَ نيَّاتكم، وأَروه من الشكر قولاً وفعلاً ما يُزَكِّي به سعيكم، ويتقَبَّلُ أعمالكم وينشر أمركم، واحذروا الفُرقة واختلاف الكلمة وشتاتَ الآراء، وكُونُوا يدًا واحدة على عدوِّكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحقَّ على أيديكم، وإلاَّ تفعلوا شَمِلَكم الذلُّ، وعَمَّكم الصَّغَارُ، واحتقرتكم العامَّة، فتَخَطَّفَتْكم الخاصَّة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يَصلح أمرُ آخرِ هذه الأُمَّة إلاَّ على الذي صلح عليه أمرُ أوَّلها، وقد اخترنا لكم رجلاً منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بَلَوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناهُ في ذلك كله ثَبْتًا في دينه، مُتَبَصِّرًا في أمره، وإني لأرجو ألاَّ يُخلف الظنَّ فيه، وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أَمْرِه ففي الموحِّدين -أعزَّهم الله- بركةٌ وخير كثير، والأَمْرُ أمرُ الله يُقَلِّده من شاء من عباده.

    فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم واحدًا واحدًا؛ فهذا سبب إمرة عبد المؤمن بن علي؛ ثم تُوُفِّيَ ابن تومرت بعد عهده هذا بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن[6].


    [1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
    [2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص259.
    [3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/200.
    [4] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
    [5] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/229.
    [6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص262-264.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    ابن تومرت ومنهجه في التغيير

    بين علي بن يوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت

    سمع علي بن يوسف بن تاشفين بمحمد بن تومرت وبدعوته، وبمنطق سليم فكَّرَ الخليفة في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين، يكون مقرُّها قصر الخليفة نفسه، فقدم محمد بن تومرت على رأس أتباعه الستة، وأتى علماءُ دولة المرابطين، وكان على رأسهم كبير العلماء وقاضي القضاة مالك بن وهيب، وبدأ الفريقان في المناظرة.

    ونظرة أولية إلى فكرة عَقْد مثل هذه المناظرة يُوحي بأن علي بن يوسف بن تاشفين كان رجلاً ما زال يحمل من الخير الكثير، وإلاَّ فإنه -وعلى أقلِّ تقدير- كان من الممكن أن يفتعل مثل هذه المناظرة ويقوم بعدها بسجن محمد بن تومرت، أو قتله أو فعل أيِّ شيء آخر من هذا القبيل، خاصَّة وهو ذلك الثائر على الحاكم، والذي يُريد قلب وتغيير نظام الحُكم، وهذا ما سيزداد تأكيدًا في نهاية هذه المناظرة في صالح الأمير على نحو ما سيأتي.

    وفي هذه المناظرة تفوَّق محمد بن تومرت على علماء دولة المرابطين تفوُّقًا ملحوظًا؛ فقد كان -كما ذكرنا- من كبار العلماء المتشبِّعين بالعلم، وكان كما وصفه ابن خلدون بحرًا متفجِّرًا من العلم وشهابًا في الدين، وهو الذي أمضى عشر سنين في بغداد يتعلَّم علم المجادلة، وفنون المحاورة على يد العقليين من المعتزلة وغيرهم، فاستطاع ابن تومرت أن يحاجَّ علماء دولة المرابطين جميعًا في كل القضايا التي أُثيرت بينه وبينهم، حتى بكى علي بن يوسف بن تاشفين في مجلسه؛ لما رأى من كثرة المعاصي في دولته، وهو لا يدري عنها شيئًا، أو هو يدري عنها لكنه لم يُغَيِّرْها، بكى من الخشية لَمَّا سمع حجج وأقاويل ابن تومرت، لكن ذلك لم يشفع له عنده، وظلَّت الحِدَّة واضحة جلية في كلامه وحديثه مع الأمير.

    وكان علماء الدولة ووزراؤها يعلمون أنه يُحَرِّض الناس على الخروج على الحاكم، فأَسَرَّ مالك بن وهيب قاضي القضاة في أُذنِ علي بن يوسف بن تاشفين؛ بأنَّ عليه أن يعتقل هذا الرجل، ويُنفق عليه دينارًا كل يوم في السجن، وإلا ستمرُّ عليك الأيام فتُنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه؛ لكن الوزير أشار على علي بن يوسف بن تاشفين بعدم فعل ذلك؛ خاصَّة وأنه جلس في مجلسه وبكى من خشية الله حين سمع كلماته، فلا يُعقل أن تأتي بعد ذلك وتعتقله، فتَحْدُث بذلك بلبلة عند عموم الناس، كما أنه بمَنْ معه سبعة نفر فقط، أمَّا أنت فحاكم دولة ضخمة، وهي دولة المرابطين؛ فكيف تخشى من هذا الرجل؟!

    وازن عليُّ بن يوسف بن تاشفين بين رأي مالك بن وهيب قاضي القضاة وبين رأي الوزير، واستقرَّ أخيرًا على ترك محمد بن تومرت؛ خشية أن يأثم إن حبسه دون وجه حقٍّ؛ فالرجل ما زال به خير، وكان من الممكن أن يُصلح أمره إذا حاول معه محمد بن تومرت ومَنْ معه بالتي هي أحسن، لكنه لم يفعل[1].

    جماعة الموحدين

    ما أن خرج محمد بن تومرت من مجلس الأمير علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش حتى نزل على صديق له في بلد مجاور، وذهبوا بعدها إلى قرية في عمق الجبل اسمها تينملل، وهي التي ستكون عاصمة للدولة التي سوف يُؤَسِّسها محمد بن تومرت بعد ذلك[2].

    وكان محمد بن تومرت زاهدًا أشدَّ الزهد، وكان لا يحمل في يده إلا عصا وركوة[3]، ولا يأكل إلا القليل من الطعام، وكان -كما ذكرنا- صاحب علم غزير، فبدأ الناسُ في هذه القرية الصغيرة يلتفُّون حوله ويسمعون لكلامه، وبدأ يُؤَثِّر فيهم بشكل طبيعي؛ لِمَا كانوا عليه من المعاصي والمنكرات، تلك التي انتشرت في بلاد المرابطين، ثم بدأ يُكَوِّن حوله جماعة بدأت صغيرة، وقد سمَّاها جماعة الموحدين[4]، وهي تسمية خطيرة لما سنعلمه بعد قليل.

    دعوة ابن تومرت وطريقة تربيته



    يذكر عبد الواحد المراكشي مراحل دعوة ابن تومرت وتربيته الناس في تينملل، فيقول: «من هذا الموضع قامت دعوته وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير من غير أن يُظهر إمرة ولا طلبة ملك، وألَّف لهم عقيدة بلسانهم، وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان، فلمَّا فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته، فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه؛ أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء، ولم يأذن لهم فيها، وأقاموا على ذلك مدة، وأمر رجالاً منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل، وجعل يذكر المهدي ويُشَوِّق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه من المصنفات، فلمَّا قَرَّر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه، وقال: أنا محمد بن عبد الله. ورفع نسبه إلى النبي وصرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديث كثيرة؛ حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسط يده فبايعوه على ذلك، وقال: أبايعكم على ما بايع عليه أصحاب رسولِ الله رسولَ الله. ثم صنَّف لهم تصانيف في العلم منها: كتاب سماه (أعز ما يطلب)، وعقائد في أصول الدين، وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل، إلا في إثبات الصفات، فإنه وافق المعتزلة في نفيها، وفي مسائل قليلة غيرها، وكان يُبطن شيئًا من التشيُّع، غير أنه لم يَظهر منه إلى العامة شيء»[5].


    انحرافات ابن تومرت العقائدية والمنهجية

    قويت شوكة محمد بن تومرت، وبمجرَّد أن قويت شوكته ظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة؛ فقد كان لأخذه العلم من تيارات مختلفة تُمَثِّل سنةة وشيعة ومعتزلة، وغيرهم في بلاد الشام وبغداد ومكة ومصر وغيرها من البلاد، كان من جرَّاء ذلك أن ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة؛ والتي تمثَّلت فيما يلي:

    ادعى العصمة

    وعند أهل السنة والجماعة أن العصمة لم تَثْبُت إلاَّ للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يقولوا بها لغيرهم، حتى لكبار الصحابة الذين خَصَّهم الله بالفضل؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم[6]؛ فابن تومرت بهذا النهج قد وافق الرافضة الاثني عشرية، الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم؛ حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والنسيان، كما قالوا: إن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان[7].

    وهكذا نرى محمد بن تومرت قد اشتطَّ كثيرًا في القول بالعصمة لنفسه، وهذا -بلا شكٍّ- انحراف عقدي خطير؛ لأن الاعتراف بعصمته أو عصمة غيره يُوجب الإيمان بكل ما يقوله، فقد أعطاه ذلك معنى النبوة، وإن لم يُعطه لفظها.

    ادعى أن المرابطين من المجسمة

    كان المرابطون يُثبتون لله تعالى صفاته كما هي، لكن محمد بن تومرت أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله ، وهي قضية جدليَّة طويلة لا نُريد الخوض في تفصيلاتها، وخلاصة الأمر في ذلك أنه لما أثبت أنَّ المرابطين يُثبتون الصفات لله ، ادَّعى أنهم من المجسمة؛ وتبعًا لهذا الادعاء فقد قال بكفر المرابطين، وادَّعى أن علي بن يوسف بن تاشفين ومَنْ معه من الولاة والعلماء، ومَنْ يعمل تحت حكمهم ومَنْ يَرضى بحُكمهم، هو من الكافرين[8].

    وهذا منحى خطير؛ إذ إنه كفَّر حُكَّام الدولة التي كان يعيش فيها، وهي دولة المرابطين التي تشمل بلاد الأندلسبلاد المغرب في ذلك الوقت. و
    فكان يقول لأتباعه: «واشتغِلُوا بتعليم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق الشبيه والشريك والنقائص، والآفاق والحدود والجهات، ولا تجعلوه -سبحانه- في مكان أو جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة ومكان فقد جسَّمه، ومَنْ جسمه فقد جعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فهو كعابد وثن»[9].

    لقد تبنَّى ابن تومرت منهج المعتزلة في الأسماء والصفات؛ حيث نفى كل ما عساه أن يُوهم الشبه والمثلية لله سبحانه، حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسُّنَّة؛ ولهذا سَمَّى أصحابه بالموحدين؛ لأنهم في رأيه هم الذين يُوَحِّدُون الله لنفيهم الصفات عنه ، كما كان يُسَمِّي أتباعه بالمؤمنين، ويقول لهم: «ما على وجه الأرض مَنْ يُؤمن إيمانكم»[10].

    استحل دماء المرابطين

    وتبعًا لهذا التكفير السابق لغير الموحدين استحلَّ محمد بن تومرت دماء المرابطين؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أمر بالخروج عليهم وقتلهم، وأنه ليس هناك إثم في ذلك؛ بل إن في قتلهم إحرازًا لثواب عظيم[11]، وهنا يَبُرز أحد أخلاق محمد بن تومرت فقد كان متساهلاً في الدماء، وهي خاصية من خصائص الخوارج، الذين تَعَلَّم على أيدي بعضهم -كما ذكرنا- أثناء رحلته لطلب العلم.

    كان ابن تومرت يهدف إلى هدم دولة المرابطين من جذورها، وبناء دولة الموحدين على أنقاضها مهما كَلَّفه ذلك؛ وقد استباح في سبيل ذلك الدماء والأرواح والأموال، وكانت غايته تلك مبرِّرَة -من وجهة نظره- لكل وسيلة، فكان لا يتردَّد في قتل مَنْ يشكُّ في إيمانه بما يدَّعيه من مبادئ، حتى ولو كان من أتباعه؛ فقد قام ابن تومرت بما سمِّي التمييز؛ أي: تمييز أتباعه الصادقين من المداهنين والمنافقين والمخالفين، فيقتلهم على الفور ليظلَّ صَفُّه قويًّا[12].

    ومن المعلوم أنَّ من أهمِّ مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على النفس، وما فعله هذا الآثِم إنما هو اعتداء بغير حقِّ على أنفسٍ حرَّم الله إزهاقها، وفي فعله هذا انحراف واضحٌ عن الشرع، وارتكاب متعمَّد للكبائر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

    يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله؛ حيث يقول -سبحانه- في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى أن قال: { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا... منها: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ[13]»[14].

    إن أمر القتل في غاية الخطورة ولا يستحلُّه إلاَّ مَنْ تجرَّد من كل معاني الأخلاق والرحمة ومن كل المعاني الإنسانية.

    وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"[15].

    يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله: «إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حقٍّ- ولكنها -كذلك- جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها؛ ومن ثَمَّ قُرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النساء: 116].. فرجَا للقاتل التائب المغفرة.. وفسَّر الخلود بأنه الدهر الطويل. والذين تربَّوْا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يَرَوْنَ قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة، ولكنهم لا يُفَكِّرُون في قتلهم، لا يُفَكِّرُون مرَّة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشدِّ الحالات وجدًا ولذعًا ومرارة؛ بل إنهم لم يُفَكِّرُوا في إنقاصهم حقًّا واحدًا من حقوقهم، التي يُخَوِّلها لهم الإسلام»[16].

    كان لا بُدَّ لنا من هذا الوقفة مع هذا الأمر الخطير؛ أمر الدماء التي استحلَّها هذا الآثم المخادع، أمَّا عملية التمييز التي سبق الإشارة إليها فقد استعان فيها ابن تومرت برجل على شاكلته يُسَمَّى أبو عبد الله بن محسن الونشريشي، وكان يُلَقِّبه بالبشير؛ إمعانًا في خداع الناس وإضلالهم، وقد طلب ابن تومرت من هذا الفاسق أن يُخفي علمه وحفظه للقرآن، ويظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه.

    قال الذهبي: «فلمَّا كان عام تسعة عشر وخمسمائة (519 هـ) خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير -يُريد الونشريشي- رجل أُمِّيٌّ، ولا يثبت على دابَّة، فقد جعله الله مُبَشِّرًا لكم، مُطَّلِعًا على أسراركم، وهو آية لكم قد حفظ القرآن، وتعلَّم الركوب، وقال: اقرأ. فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانًا وساقه، فبُهِتُوا، وعَدُّوها آية لغباوتهم، فقام خطيبًا، وتلا: { لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فهذا البشير مُطَّلع على الأنفس مُلْهَم، ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ»[17].

    وقد صَحِبَنَا أقوام أطلعه الله على سِرِّهم، ولا بُدَّ من النظر في أمرهم، وتَيَمُّمِ العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: مَنْ كان مطيعًا للإمام فليأت. فأقبلوا يهرعون، فكانوا يُعْرَضون على البشير، فيُخرج قومًا على يمينه، ويَعدُّهم من أهل الجنة، وقومًا على يساره، فيقول: هؤلاء شاكُّون في الأمر. وكان يُؤْتَى بالرجال منهم، فيقول: هذا تائب رُدُّوه على اليمين تاب البارحة. فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يُطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفرُّ منهم أحد، وإذا تجمَّع منهم عدَّة، قتلهم قراباتُهم حتى يقتل الأخ أخاه!» [18].

    وأورد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) هذا الأمر فقال: «وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السرِّ؛ بحيث لا يعلم أحدٌ ذلك منه، فلمَّا كان سنُّه تسع عشرة، وخاف المهدي -ابن تومرت- من أهل الجبل، خرج يومًا لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانًا حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: مَنْ هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي. فقال له المهدي: إن أمرك لعجبٌ! ثم صلَّى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إنَّ هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي فانظروه، وحقِّقُوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قِصَّتُك؟ قال: إنني أتاني الليلة مَلَكٌ من السماء، فغسل قلبي، وعَلَّمَنِي الله القرآن والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك. فقال: افعل.

    وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أيِّ موضع سُئِلَ، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعَجِبَ الناسُ من ذلك، واستعظموه، ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نورًا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.

    فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر، وصَلَّى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله؛ إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت.
    فقال مَنْ بها: صدق. وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلمَّا قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تُطَمَّ لئلاَّ يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز. فألقَوْا فيها من الحجارة والتراب ما طَمَّهَا -وبهذا يكون قد قتل الرجال الذين اتَّفق معهم على هذا القول؛ لئلاَّ يُفْتَضح أمره- ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار. فيُلْقَى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغرِّ ومَنْ لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة. فيُتْرَك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفًا، فلما فرغ من ذلك أَمِنَ على نفسه وأصحابه»[19].


    هذا فِعْلُ ابن تومرت بمَنْ معه، فكيف يكون فعله بالمرابطين؟!

    ولقد رُويت عنه كثير من الأخبار التي احتال فيها؛ حتى ظهر وكأنه يعلم الغيب، ولا نشك أن له عيونًا وأتباعًا، كما لا شك في أنه شخصية قوية ذات بصر وخبرة وفراسة، يروي المراكشي واقعة منها فيقول: «أخبرني مَنْ رآه -ممن أثق إليه- يضرب الناسَ على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخل؛ متشبِّهًا في ذلك بالصحابة. ولقد أخبرني بعض مَنْ شهده وقد أتى برجل سكران، فأمر بحدِّه، فقال: رجلٌ من وجوه أصحابه يُسَمَّى يوسف بن سليمان: لو شدَّدْنَا عليه حتى يُخبرنا من أين شربها لنَحْسم هذه العلةَ من أصلها. فأَعْرَض عنه، ثم أعاد عليه الحديث، فأعرض عنه، فلما كان في الثالثة قال له: أرأيت لو قال لنا: شربتُها في دار يوسف بن سليمان. ما نحن صانعون؟ فاستحيا الرجل وسكت، ثم كُشف على الأمر، فإذا عبيدُ ذلك الرجل سقَوه، فكان هذا من جملة ما زادهم به فتنة وتعظيمًا، إلى أشياءَ كان يُخبر بها فتقع كما يُخبر، ولم يزل كذلك وأحوالُه صالحة، وأصحابه ظاهرون، وأحوال المرابطين المذكورين تَخْتَلُّ، وانتقاض دولتهم يتزيد، إلى أن تُوُفِّيَ ابن تومرت... بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، ورسم لهم ما هم فاعلوه»[20].

    كذلك يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وقد بلغني فيما يُقال: أن ابنَ تُومرت أخفى رجالاً في قبور دَوَارِسَ[21]، وجاء في جماعة لِيُرِيهم آية، يعني فصاحَ: أيُّها الموتى أجيبوا. فأجابوه: أنتَ المهدي المعصومُ، وأنت وأنت.. ثم إنه خاف من انتشارِ الحيلة، فخسف فوقهم القبور فماتوا»[22].

    وقفة مع ابن تومرت وجماعته

    كان محمد بن تومرت في جماعته الجديدة يقتل العشرات من المخالفين له، حتى من فرقته وجماعته (الموحدين)، فالذي يُخَالِفُه في الرأي ليس له من دواء إلاَّ القتل، وهو أمر في غاية الغرابة؛ نظرًا لما عنده من العلم الغزير، وأغرب منه كان ادعاؤه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر!

    ولا شكَّ في أنْ يعتقدَ صِدْقَه وما يذهب إليه من أقواله تلك كثيرٌ من الناس؛ وذلك -كما ذكرنا- لانشغال علماء الدولة بالأمور الفرعية عن تعليم هؤلاء الناس أصول العقائد وأصول العبادات، فقد أقام العلماء جدارًا عازلاً بينهم وبين العامَّة، الذين لا يعرفون أين الحقُّ وأين الباطل، والذين لا يستطيعون أن يُمَيِّزُوا بين الغثِّ والسمين.

    ومن هنا حين رأى مثل هؤلاء الناس رجلاً مثل محمد بن تومرت في شخص العالم الكبير، وهو يروي من أحاديث رسول الله عن فلان وفلان، ثم هو يحفظ كتاب الله ، ويعلم سِيَرَ الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، حين رأوا ذلك ما كان منهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا لما يقوله، وما يمليه عليهم عالمهم ومعلمهم، وقد اعتقدوا جميعًا بعصمته، واعتقدوا جميعًا بِحلِّ قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على قتلهم.

    ولنا أن نتخيَّل مثل هذا الأمر في حقِّ المرابطين، الذين فتحوا البلاد، وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس لسنوات وسنوات، الآن وبعد ظهور بعض المنكرات في بلادهم، وبعد انشغالهم بالجهاد عن التعليم، أصبحوا يُكَفَّرون وتُحَلُّ دماؤهم، ويُقَاتَلون من قِبَلِ جماعة الموحِّدِين، ذلك الاسم (الموحِّدين) الذي يُشير بقوَّة إلى أن غيرهم كفار وليسوا بموحدين أو مسلمين.


    [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص251، وابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
    [2] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/50، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/455.
    [3] الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والدلو الصغيرة. المعجم الوسيط 1/371.
    [4] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/51.
    [5] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص254، وابن الأثير: الكامل 9/196.
    [6] انظر: ابن تيمية: منهاج أهل السنة، 7/59.
    [7] انظر: أبو حامد الغزالي: فضائح الباطنية، ص142، والخميني: الحكومة الإسلامية، ص52، ومن المفيد أن ننقل قول الخميني: «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم والأئمة ع كانوا قبل هذا العالم أنوارًا، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله».
    [8] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/550، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
    [9] ابن تومرت: أعز ما يُطلب، ص204، نقلاً عن الصلابي: دولة الموحدين، ص41.
    [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص255.
    [11] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
    [12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/199، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
    [13] رواه الترمذي: كتاب الديات، باب في تشديد قتل المؤمن 1395 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والنسائي 3987، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع 5077.
    [14] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/376.
    [15] البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة: 45 6484، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومسلم: كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 1676 واللفظ له.
    [16] سيد قطب: في ظلال القرآن، 2/736.
    [17] والحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 3486 واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل عمر رضي الله عنه 2398.
    [18] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/546.
    [19] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/198، 199.
    [20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
    [21] دوارس جمع دارس: وهو العافي وذهاب الأثر ومتقادم العهد. ابن منظور: لسان العرب، مادة درس 6/79، والمعجم الوسيط 1/279.
    [22] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/551.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    محمد بن تومرت .. مؤسس دولة الموحدين


    ابن تومرت (473-524 هـ= 1080-1130م)

    كانت دولة المرابطين تتَّجه بقوَّة نحو هاوية سحيقة وكارثة محقَّقة، وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ قام سنة (512هـ= 1118م) رجل من قبائل مصمودة الأمازيغية (البربرية) يُدعى محمد بن تومرت بثورة على المرابطين، وكان محمد بن تومرت صاحب منهج في التغيير والإصلاح مختلف بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين -رحمه الله.

    وقد وُلِدَ محمد بن تومرت هذا سنة (473 هـ= 1080 م) [1]، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة[2]، وقد نسب هو نفسه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب[3]، لكن غالبَ الأمر أنه من قبائل الأمازيغ (البربر) في هذه المنطقة، وقد ظلَّ محمد بن تومرت في هذا البيت إلى سنة (500هـ= 1107م)، وكان قد بلغ من العمر آنذاك 27 سنة، وكان شغوفًا بالعلم، وكانت عادة الطلاب في ذلك الزمن أن يتجوَّلوا في سائر البلاد الإسلامية؛ ليتعلموا من علماء المسلمين في مختلف الأقطار؛ ولهذا فقد سافر محمد بن تومرت في سنة (500هـ= 1107م) إلى قرطبة وتلقَّى العلم هناك، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الإسكندرية ثم إلى مكة، حيث أدَّى فريضة الحج، وهناك تتلمذ على أيدي علماء مكة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة؛ يتلقَّى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وكانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السُّنَّة والشيعة والمعتزلة.. وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقَّى على أيديهم العلم.

    وذهب محمد بن تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وتَذْكُر بعض المصادر أنه تلقَّى العلم على الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إلا أن هذا غير صحيح بيقين[4]- وعاد بعدها إلى الإسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي[5]، ويصف ابنُ خلدون محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة (512 هـ= 1118م) وكان قد بلغ من العمر 39 سنة، فيقول: أصبح محمد بن تومرت «بحرًا متفجرًا من العلم، وشهابًا واريًا من الدين»[6]. يعني أنه جمع علومًا كثيرة وأفكارًا جمَّة من تيارات إسلامية مختلفة، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.

    منهج التغيير عند ابن تومرت

    في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الإسكندرية يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه -كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا، إلاَّ أنه كان شديدًا غاية الشِّدَّة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شِدَّة تصل إلى حدِّ التنفير، فكان يَنْفرُ عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، حتى إنه خرج من الإسكندرية مطرودًا منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضًا- ظلَّ ابن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن.

    واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيرًا، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك اشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب[7]، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تُسَمَّى المهدية، ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي، أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع الناس به في البلد فجاءوا إليه وقرءوا عليه كتبًا من أصول الدين[8].


    كان ابن تومرت يُرِيد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًّا ودفعة واحدة، والحقُّ أن هذا أمر مخالف لسُنَن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول
    صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة لم يأمر بهذا التغيير الجذري المفاجئ ولا سعى إليه، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بصورة متدرِّجَة؛ فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة، ومراعية للتدرُّج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل ذلك لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.

    تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين تولَّى الخلافة الأموية؛ فقد كانت هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- شديدًا في الحقِّ، فأراد أن يُغَيِّرَ كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلاَّ أنه وجد أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرِّجة فشقَّ ذلك عليه، فذهب إليه، وقال له: يا أبي؛ أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تُغَيِّرَ هذا المنكر كله، وتُقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام. فقال له عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: يا بُنَيَّ؛ لو حملتُ الناس على الحقِّ جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة[9].

    لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا المنحى، إنما يُريد أن يُغَيِّرَ كل شيء تغييرًا جذريًّا، بل وبأسلوب فظٍّ شديد، وقد قال جَلَّ شأنه يخاطب نبيَّه الكريم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]. خطابٌ لشخصه صلى الله عليه وسلم ؛ وهو المؤيَّد بالوحي، وأحكم الخلق، وأعلم البشر جميعًا: إن دعوتَ إلى الله تعالى بفظاظة وغلظة انفضَّ الناس عنك، فما البال بعموم الناس من دونه؟!

    ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي

    ولما كان ابن تومرت في بجاية قابل رجلاً، كان يُريد هو -أيضًا- ما كان يُريده ابن تومرت في أوَّل رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن علي، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاده وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فردَّ عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديَّ، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يُعَلِّمُه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلاَّ معًا في طريقهما لم يفترقَا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه[10].

    أخذ عبد المؤمن بن علي العلم من ابن تومرت مع الطريقة الفظَّة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله في بلاد المغرب العربي، وقد انضمَّ إليهما خمسة آخرون، وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه[11]، وعلى هذه الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثُرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشَّت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسَّسها يوسف بن تاشفين –رحمه الله- من قبل، وكانت ثغرًا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاةَ وقد بدءوا يظلمون الناس، ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد -أيضًا- ذاك السفور والاختلاط قد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس؛ حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير، وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة، علم أنها أخت أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأنكر ذلك عليها إنكارًا شديدًا؛ حتى إن بعض المصادر تثبت أنه وأصحابه كانوا يضربون وجوه مطاياها حتى أوقعوها من عليه[12].

    هذا هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو -بلا أدنى شكٍّ- مخالف تمامًا للنهج القويم، ونهج رسول الله في العمل ذاته على نحو ما رأينا.


    [1] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، فقد قال: «ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمسًا وخمسين سنة». وعلى هذا فهو إمَّا مولود في 469 أو 473هـ، وفي مولده اختلاف كبير غير هذا.
    [2] ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، 6/236.
    [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص245، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/236، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، 19/539: «المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي».
    [4] يقول الأستاذ عبد الله عنان مفندًا هذه المقولة: «ونحن نقف قليلاً عند هذه الرواية، التي يُرَدِّدها كثير من مؤرِّخي المشرق والمغرب؛ إذ متى وأين كان هذا اللقاء؟ وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على إثر ذلك إلى بغداد، وإذًا فيكون من المرجَّح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 أو 505هـ، وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484، 488هـ=1091، 1095م، وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، وإذًا فيكون من المستحيل ماديًّا أن يكون ابن تومرت -الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ- قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي؛ ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور، حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية 505هـ= ديسمبر سنة 1112م.
    ويتضح من ذلك جليًّا بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية، وفضلاً عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة؛ ذلك أنها تُقرن بواقعة أخرى خُلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه إحياء علوم الدين بالمغرب والأندلس، تغيَّر وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يُؤَمِّنُون، فقال: «اللهم مزِّق ملكهم كما مزَّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه». وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك.
    وينقض هذه الواقعة من أساسها أن قرار المرابطين بحرق كتاب الإحياء قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام، فأين إذًا ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نُسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
    هي أسطورة إذًا، نُسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت؛ لتغدو هالة تُحيط بشخصه وسيرته، وتُذكي عناصر الخفاء والقدسية حول شخصه وإمامته، وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوُّئِه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي... ومن ثمَّ فإنا نجد كثيرًا من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا: «والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به أي: بالغزالي». ويُبْدِي ابن خلدون ريبة فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يُعاملها لسان الدين بن الخطيب، وكذلك فإن البحث الحديث يُنكرها وينفيها، ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر... على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثَّر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته...». محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/161-163.
    [5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص245، وتاريخ ابن خلدون، 6/226، والسلاوي: الاستقصا، 2/78.
    [6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/226.
    [7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص246.
    [8] السلاوي: الاستقصا، 2/79.
    [9] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/419.
    [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص247، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 1/227، والسلاوي: الاستقصا، 2/80، ومنهم من قال: إنه لقيه بملالة على بعد فرسخ من بجاية. ومنهم من قال: بفنزارة من بلاد متيجة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص100.
    [11] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/49، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/543، والسلاوي: الاستقصا، 2/83.
    [12] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    دولة المرابطين .. الضعف ثم الانهيار

    ثورات المغرب ضد المرابطين

    في سنة (512هـ=1118م) تحدث في داخل بلاد المغرب وفي عقر دار المرابطين ثورة تؤدي بأثر سلبي إلى هزيمتين متتاليتين لهم في بلاد الأندلس، كانت الأولى هزيمة كتندة في 24 ربيع الأول 514هـ ـ يونية 1120م، والثانية هزيمة القليعة.

    المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية



    على إثر قيام ثورة في المغرب في عقر دار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبل النصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولة المرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!


    وفي تحليلٍ موضوعيٍّ لهذه الأحداث نعود بالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، فمنذ عام (440هـ=1048م) ولمدة سبعين عامًا تقريبًا، وحتى عام (509هـ= 1115م) حيث الانتصارات المتتالية، وحيث العلو والارتفاع، وحيث الأموال والغنائم، والدنيا التي فُتِحَتْ على المسلمين، والتي وصلوا فيها إلى درجة عالية من العزِّ والسلطان والتمكين، فما المتوقَّع بعد ذلك، وما الأحداث الطبيعية التي من الممكن أن تحدث كما سبق ورأينا؟!

    لا شكَّ أن الشيء الطبيعي والمتوقَّع حدوثه هو حصول انكسار من جديد للمسلمين، وحدوث فتنة من هذه الدنيا التي فُتحت على المسلمين، وفتنة من هذه الأموال التي كثرت في أيديهم.

    وقد يتساءل البعض: هل من المعقول بعد انتصارات أبو بكر بن عمر اللمتوني، وانتصارات يوسف بن تاشفين وأعماله، وبعد الزلاقة، هل من المعقول بعد كل هذا أن يحدث انكسار للمسلمين؟!
    وفي معرض الردِّ على هذا نقول: كيف نتعجَّبُ من حدوث هذا الانكسار الذي حدث بعد وفاة يوسف بن تاشفين، ولا نستغربه وقت أن حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجسدًا في الردة الكبيرة التي حدثت بين المسلمين؟! وهو -بلا شكٍّ- أعظم تربية وأقوى أثرًا من يوسف بن تاشفين ومَنْ على شاكلته؛ وخاصة إذا كانت هناك شواهد بَيِّنَة لهذا الانكسار وتلك الرجعة.

    عوامل سقوط دولة المرابطين



    كدورة طبيعية من دورات التاريخ، ومما لا يُعَدُّ أمرًا غريبًا أو غير متوقَّع، كانت هناك شواهد بَيِّنَة لانكسار وتراجع دولة المرابطين عما كانت عليه قبل ذلك؛ نستطيع أن نُجملها فيما يلي:


    فتنة الدنيا وإن ظل أمر الجهاد قائما

    بالرغم من عدم توقُّف الجهاد، وبالرغم من صولات وجولات علي بن يوسف بن تاشفين، التي كانت له مع النصارى وفي أكثر من موقعة، إلاَّ أن المرابطين كانوا قد فُتنوا بالدنيا، وهو يُعَدُّ شيئًا غريبًا جدًّا، وفي تحليل لمنشأ هذا الشاهد وُجد أن سببه خطأ كبير كان قد ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين، وهم عنه غافلون، وليتنا نأخذ العظة والعبرة منه؛ فقد جعلوا جُلَّ اهتمامهم التركيز على جانب واحد من جوانب الإسلام، وتركوا أو أهملوا الجوانب الأخرى، كما نرى من إغفال هذه الجوانب في كتب التاريخ؛ فقد انشغل المرابطون -في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها من البلاد- بالجهاد في سبيل الله عن إدارة الحُكم وعن السياسة داخل البلاد، شُغلوا بالأمور الخارجية عن الأمور الداخلية، والإسلام بطبيعته دين متوازن، ونظام شامل لا يُغَلِّب جانبًا على جانب، وقد رأينا مثالاً واضحًا لهذا الأمر في تلك الدولة المتوازنة التي أقامها عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، في نواحي العلم والجهاد، والاقتصاد والقانون، والعمران والعبادة.. وكل شيء؛ حيث الدولة التي تسدُّ حاجات الروح والجسد، فسادت وتمكَّنَتْ وظلَّت حينًا من الدهر.

    ومثلها -أيضًا- كانت بداية دولة المرابطين وإقامة الجماعة المتوازنة على يد الشيخ عبد الله بن ياسين، تلك التي اهتم في قيامها بكل جوانب الحياة وعوامل ومقومات الدولة المتكاملة، التي تعطي كل جانب من مقوِّماتها قدرًا مناسبًا من الجهد والوقت والعمل، فتعلَّمُوا أن يكونوا فرسانًا مجاهدين، ورهبانًا عابدين، كما تعلَّمُوا أن يكونوا سياسيين بارعين، ومتعاونين على منهج صحيح من الإسلام وأصوله، لكن أن يُوَجِّه المسلمون كل طاقاتهم إلى الجهاد في سبيل الله في سَنَة 500هـ وما بعدها، ثم يتركون أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمور دينهم، فتلك هي قاصمة الظهر.

    كثرة الذنوب رغم وجود العلماء

    كثرت الذنوب والمعاصي في دولة المرابطين؛ سواء أكان ذلك في الأندلس أو في أرض المغرب، وهذا مع وجود العلماء الكثيرين في ذلك الوقت، وكثرة الذنوب كان أمرًا طبيعيًّا خاصَّة بعد أن فُتحت البلاد وكثرت الأموال؛ وذلك لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال لاقترافها، وأصحاب النفوس الضعيفة، الذين كانوا يقطنون في دولة المرابطين (في المغرب) وكانوا يفكرون في الذنوب لكن لا يقدرون عليها، أما الآن وقد فُتحت الدنيا عليهم وكثرت الأموال في أيديهم، فتحرَّكت هذه النفوس الضعيفة ناحية الذنوب، وبدأت ترتكب من الذنوب والكبائر ألوانًا وأشكالاً.

    ولا شكَّ أنه كان هناك الغني الشاكر، لكن الحق أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة، والأصل أن الناس جميعًا يُفتنون بالدنيا، ويقعون في الذنوب إذا كثر المال في أيديهم، يقول الله تعالى في معرض قصة نوحٍ عليه السلام: { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]. والأراذل هم ضعاف الناس وبسطاء القوم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحًا عليه السلام، واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة إلى يوم القيامة؛ ومن هنا فإنَّ كثرة الذنوب أمر طبيعي ومتوقَّع كنتيجة مباشرة لكثرة الأموال، لكن أين العلماء الكثيرون المنتشرون في بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي في ذلك الوقت؟!

    كيف يفتن الناس بالدنيا وراية الجهاد خفاقة، وكيف تكثر الذنوب رغم وجود العلماء الأجلاء؟!

    واقع الأمر أن العلماء هم الذين يقع على عاتقهم العبء الأكبر من هذا التدني وذاك الانحدار؛ إذ نراهم وقد انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها؛ لقد طرقوا أمورًا وتركوا أمورًا أولى وأهمَّ منها، أخذوا يُؤَلِّفون المؤلفات، ويعقدون المناظرات، ويُقَسِّمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، ولا كثير جدوى؛ بينما أغفلوا أمورًا ما يصحُّ لهم أبدًا أن يتركوها أو يُغفلوها، يقول عبد الواحد المراكشي: «ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلاَّ مَنْ عَلِمَ الفروع -أعني فروع مذهب مالك- فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعُمِلَ بمقتضاها، ونُبِذَ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسِيَ النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل مَنْ ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم مَنْ ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدَّى أكثره إلى اختلال في العقائد في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعُّد مَنْ وُجِدَ عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي -رحمه الله- المغرب أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدَّم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى مَنْ وُجِدَ عنده شيء منها، واشتد الأمر في ذلك»[1].

    لقد أحرق علي بن يوسف بن تاشفين بالفعل كتب أبي حامد الغزالي، باعتبارها تخالف الإسلام الصحيح، وهو الإمام الذي لقب بحجة الإسلام، وكان سيد فقهاء المشرق، وهو الذي أفتى ليوسف بن تاشفين بحكم الشرع في ملوك الطوائف، فكانت فتواه أقوى ما استند إليه يوسف في إزالة ممالك الطوائف وتوسيع دولة المرابطين!

    النتائج التي ترتبت على تعمق العلماء في الفروع دون الأصول

    كان اتِّجَاه العلماء في ذلك الوقت إلى التعمُّق في الفروع وإهمال الأصول، كمَنْ ترك لُجَّة البحر واتجه إلى القنوات الفرعية، فأنَّى له الوصول؟! وأنَّى لعمله الفائدة المرجوَّة منه؟! فكان -ونتيجة طبيعية لذلك- أن نتج عن هذا القلب الخاطئ، وذاك التعمق في الفروع تلك الأمور الخطيرة التالية:

    جدال عظيم عقيم بين العلماء والعامة

    وذلك أن العلماء لم يفهموا أو لم يستطيعوا أن يتفهموا حاجة العامة، كما لم تعرف العامة ما يتنطَّع به العلماء، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم البشر، وأحكم الخلق- يتكلَّم بالكلمة فيفهمه علماء الصحابة ويفهمه الأعرابي البسيط، كما كان يفهمه الرجل وتفهمه المرأة، والكبير والصغير، كلٌّ على حدٍّ سواء.

    عزلة العلماء عن مجتمعاتهم

    باتجاه العلماء إلى دقائق الأمور من الفروع لم يَعُدْ يشغلهم حال مجتمعاتهم، ولم يعودوا هم يعرفون شيئًا عمَّا يدور فيها، وما يحلُّ بها من مصائب وذنوب، فتوسَّعت الهوَّة كثيرًا بينهم وبين مجتمعاتهم، وحدثت بذلك عزلة خطيرة لهم في العهد الأخير للمرابطين؛ فكانت الخمور تُباع وتُشترى، بل وتُصنَّع في البلاد ولا يتكلَّم أحد، وكانت الضرائب الباهظة تُفرض على الناس غير الزكاة وبغير وجه حقٍّ، ولا يتكلَّم من العلماء أحد، وكان الظلم من الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم من العلماء أحد، وكانت هناك ملاهي الرقص لا تُستر، بل تُعْلِن عن نفسها في سفور ولا يتكلم من العلماء أحد، وإنه لعجب والله! أن تحدث مثل هذه الأمور في هذا الزمن (من بعد سنة خمسمائة من الهجرة) وتلك الدولة المرابطية، فقد كانت النساء تخرج سافرات بلا حجاب، والعلماء لاهون بالحديث عن المرجئة والمعطِّلة، وغيرها من أمور الجدال العقيمة والفُرْقَة المقيتة، ويعتقدون أن مثل هذه الأمور هي التي يجب أن يُشغَل بها المسلمون، وغيرها هي الأقل أهمية من وجهة نظرهم[2].

    أزمة اقتصادية حادة

    كان من بين شواهد الانكسار الأخرى في نهاية دولة المرابطين، وبعد فتنة الدنيا والمال، وغياب الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء وانعزالهم عن المجتمع، كان فوق كل هذه الأمور أن حدثت أزمة اقتصادية حادة في دولة المرابطين؛ ففي سنة (532هـ) وقع السيل العظيم بطنجة، حمل الديار والجدر، ومات فيه خلق عظيم من الناس والدواب[3]. وكذلك فتك الجراد بحقول الأندلس من سنة (526هـ) وحتى سنة (531هـ)، فاشتدت المجاعة وانتشر الوباء في سنة (526هـ) بأهل قرطبة، فكثر الموتى وبلغ مُدُّ القمح 15 دينارًا[4]، وكان قد وقع قبل ذلك بسنة (525هـ)، حريق ضخم في سوق الكتانين بقرطبة، واتصالها بسوق البز، كذلك حدث في سنة (535هـ) حريق ضخم آخر في سوق مدينة فاس، فاحترقت سوق الثياب والقراقين وغير ذلك من الأسواق إلا البقالون، وأن ذلك كان في أول الليل فتلفت أموال جليلة، وافتقر فيه خلق كثير[5].

    وبعض المصادر تتحدث -أيضًا- عن القحط الذي حلَّ بالبلاد، فيبست الأرض وجفَّ الزرع وهلكت الدواب[6].

    وقد يرى البعض أن هذا من قبيل المصادفة البحتة والعجيبة في الوقت نفسه، لكنها والله! ليست مصادفة؛ بل هي في كتاب الله تعالى ومن سُنَنِه الثوابت، يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

    وهذا كلام نوحٍ عليه وعلى رسولنا السلام في حديثه لقومه؛ حيث يقول: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح: 10- 13].

    فالله تعالى يبتلي المؤمنين دائمًا بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، وعن نهجه القويم الذي رسَمَهُ لهم، ومن هنا فلو لوحظ تدهور في الحالة الاقتصادية لأحد البلدان أو المجتمعات، وبدأت الأموال تقلُّ في أيدي الناس، وبدءوا يعملون لساعات وساعات ولا يحصل لهم ما يكفي لسدِّ رمقهم، أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وربهم I، وأن هناك ابتعادًا عن منهجه وطريقه المستقيم؛ إذ لو كانوا يُطيعونه لبارك لهم في أقواتهم وأرزاقهم.

    هزائم المرابطين

    هزيمة كتندة والقليعة

    وبالطبع سبق وأعقب هذه الأحداث التي وقعت في بلاد المرابطين هزائم متعدِّدَة من قِبل النصارى، فكانت -كما ذكرنا- موقعة كتندة أو قتندة في سنة (514هـ=1120م)، والتي هُزم فيها المسلمون هزيمة منكرة[7]، ومثلها وبعدها -أيضًا- كانت موقعة القليعة في سنة (523هـ=1129م)، والتي مُني فيها المسلمون -أيضًا- بالهزيمة المنكرة[8].


    [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص236، وما بعدها.
    [2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص241، وانظر وثائق مرابطية نشرها حسين مؤنس في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد – العدد 2 سنة 1954م.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/96.
    [4] ابن القطان المراكشي: نظم الجمان، ص226، 228، 230، 235، 242، 250، 252.
    [5] المصدر السابق، ص222، 268.
    [6] انظر: مراجع الغناي: سقوط دولة الموحدين، نقلاً عن الصلابي: دولة المرابطين، ص229.
    [7] انظر في خبر هذه الموقعة: ابن الأثير: الكامل، 9/206.
    [8] انظر خبر هذه الموقعة: ابن القطان: نظم الجمان، ص152، وما بعدها.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    علماء الأندلس في عهد المرابطين


    علي بن يوسف بن تاشفين



    نتناول في هذا المقال أشهر علماء الأندلس في عهد المرابطين وخاصة في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، فقد تولى علي بن يوسف بن تاشفين البلاد بعد وفاة والده سنة 500هـ، وسار على نفس درب أبيه، فتابع الجهاد ونشر العدل، وقرب العلماء، وكان حسن السيرة، جيد الطوية، عادلاً، نزهاً، حتى كان إلى أن يعد من الزهاد المتبتلين أقرب، وأدخل من أن يعد من الملوك، واشتد إيثاره لأهل العلم والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورتهم، وكان إذا ولى أحداً من قضاته، كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمراً دون أن يكون بمحضر أربعةٍ من أعيان الفقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإن صغر، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً، ونفقت في زمانه كتب الفقه في مذهب مالك، وعمل بمقتضاها[1].

    ومن أشهر العلماء الذين برزوا في عهد علي بن يوسف ما يلي:

    القاضي أبو بكر ابن العربي (468-543هـ=1076-1148م)

    هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري الإشبيلي الأندلسي المالكي، وُلِدَ في إِشْبِيلِيَة سنة 468هـ، تعلَّم في الأندلس ثم ارتحل مع أبيه، فتعلَّم في بغداد ثم في دمشق ثم في بيت المقدس ثم في مكة ثم في مصر، وفي الإسكندرية مات أبوه فدفن هناك، ثم رجع إلى الأندلس في سنة (491هـ).

    ومن أشهر شيوخه الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، والفقيه أبو بكر الشاشي، والعلامة الأديب أبو زكريا التبريزي، والطرطوشي وجماعة آخرين[2].

    وقد نقل إلى الأندلس علمًا كثيرًا وإسنادًا عاليًا، وتخرج على يديه أئمة كثيرون، من أشهرهم القاضي عياض، وأبو جعفر بن الباذش[3].

    وله مؤلفات كثيرة من أشهرها: العواصم من القواصم، وأحكام القرآن، وأنوار الفجر في التفسير، أتمَّه في ثمانين ألف ورقة، والناسخ والمنسوخ، والقبس، شرح موطأ مالك بن أنس، وعارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي[4].

    يذكره ابن بشكوال فيقول: «الإمام العالم الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها... كان من أهل التفنُّن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدِّمًا في المعارف كلها، متكلِّمًا في أنواعها، نافذًا في جميعها، حريصًا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحُسن العهد، وثبات الوعد، واستقضى ببلده فنفع الله به أهله لصرامته وشدَّته، ونفوذ أحكامه، وكان له في الظالمين سَوْرة مرهوبة، ثم صُرِفَ عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثِّه.

    وتوفي أبو بكر ابن العربي بالعدوة ودُفِنَ بمدينة فاس في ربيع الآخر سنة 543هـ[5].

    القاضي عياض (476-544هـ= 1083-1149م)



    هو القاضي الإمام المجتهد اليحصبي، سبتي الدار والميلاد، أندلسي الأصل، وُلِدَ بسبتة في النصف من شعبان عام (476هـ).

    وقد ألف ابنه القاضي أبو عبد الله محمد كتابًا يَذكر فيه مآثر أبيه، سماه: (التعريف بالقاضي عياض)، وقد نَقل عنه الكثير من المؤرخين والعلماء، وكان عمرون (أبو جد القاضي عياض) رجلاً خيارًا من أهل القرآن، وحجَّ إحدى عشرة حجة، وغزا مع المنصور بن أبي عامر غزوات كثيرة، ثم انتقل إلى سَبْتَة ووُلد له ابنه عياض، ثم وُلِدَ لعياض ابنه موسى، ثم ولد لموسى القاضي أبو الفضل عياض.

    وكان أبوه حافظًا لكتاب الله، مع الحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه، وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليًّا متكلمًا، فقيهًا حافظًا للمسائل، نحويًّا أديبًا شاعرًا خطيبًا.

    رحل القاضي عياض إلى الأندلس، فدرس بقرطبة ومرسية وغيرهما، ثم عاد إلى سبتة، فكان من علمائها وهو ابن ثلاثين سنة أو أكثر بقليل، ثم جلس للشورى، ثم ولي القضاء، فسار في ذلك حسن السيرة مشكور الطريقة، ثم انتقل إلى غرناطة في أول صفر سنة 531هـ، فتولى القضاء بها، ثم قضاء تادَلة.

    وله من المؤلفات كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وإكمال المعلم في شرح مُسلم، والمستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة، وترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، والإعلام بحدود قواعد الإسلام، والإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.. وغيرها كثير.

    قال ابن بشكوال: جمع من الحديث كثيرًا، وله عنايةٌ كثيرة به واهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنُّن في العلم والذكاء واليقظة والفهم[6].

    وقال الفقيه محمد بن حمادة السبتي: جلس القاضي -يعني القاضي عياضًا- للمناظرة وله نحو من ثمانٍ وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هَيِّنًا من غير ضعف، صلبًا في الحقِّ... ولم يكن أحدٌ بسَبْتَة في عصره أكثر تواليف منه... وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلاَّ تواضعًا وخشية لله تعالى[7].

    وقال عنه القاضي ابن خلكان في (وفيات الأعيان): كان إمام وقته في الحديث وعلومه، والنحو واللغة، وكلام العرب، وأيامهم وأنسابهم[8].

    وقال أبو عبد الله محمد الأمين في كتابه (المجد الطارف والتالد)، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام: «مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة... وانظر إلى عياض فلا ترى تأليفًا معتبرًا من تواليف أهل الحديث، ولا أصحاب السير والفقهاء إلاَّ وجدته مشحونًا بكلامه، مع أنه لم يرتحل إلى المشرق»[9].

    وقد توفي القاضي عياض بمراكش ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة من سنة (544هـ)، ودفن في باب إيلان من داخل السور[10].


    [1] الذهبي: تاريخ الإسلام 36/445.
    [2] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/297.
    [3] انظر: المقري: نفح الطيب، 2/30.
    [4] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 20/197، وما بعدها بتصرف.
    [5] ابن بشكوال: الصلة، 2/856.
    [6] ابن بشكوال: الصلة، 2/660، 661.
    [7] انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ، 4/68.
    [8] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/483.
    [9] انظر: عبد الحي الكتاني: فهرس الفهارس، 2/804.
    [10] انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 4/222-230، بتصرف.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    جهاد المرابطين في الأندلس

    جهاد المرابطين



    حاول المرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية، التي أُخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة؛ فحاربوا في أكثر من جبهة، حتى اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا[1]. كما حاولوا كثيرًا تحرير طليطلة، (وكانت كما ذكرنا من قبلُ أنَّها من أكثر وأشدِّ مدن الأندلس حصانة على الإطلاق)؛ لكنهم فشلوا في هذا الأمر، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن التي حولها.


    معركة أقليش

    بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفي سنة (501 هـ=1107م) وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدور واحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سُمِّيَت في التاريخ بموقعة أقليش، وقد تولَّى القيادة فيها على المسلمين تميم بن يوسف بن تاشفين، وكان هذا في عهد علي بن يوسف بن تاشفين الذي تولى دولة المرابطين خلفًا لأبيه، وتولَّى القيادة على الصليبيين سانشو بن ألفونسو السادس، وانتصر المسلمون -أيضًا- انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة، وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا من بينهم سانشو بن ألفونسو وقائد جيش النصارى[2]، وقيل عن هذه المعركة بأنها الزلاقة الثانية[3].

    وسانشو هذا هو ابن ألفونسو السادس من زوجته التي كانت قبل ذلك جارية –واسمها زائدة- أعجبت المأمون بن المعتمد بن عباد الذي كان واليًا على قرطبة، فلما انهزم المأمون وفتح المرابطون قرطبة فرَّت هي ومعها ولداها –حفيدا المعتمد بن عباد- إلى ألفونسو فتنصرت وتزوجها، وأنجب منها ولده سانشو هذا، فهذه عاقبة الطغاة المستبدين!

    كان سانشو في الحادية عشرة من عمره، وأرسله أبوه ألفونسو لإثارة حماسة الجند، بعدما أوهنته الشيخوخة ولم يعد قادرًا على قيادة الجيش بنفسه؛ إذ كان قد بلغ الثمانين في ذلك الوقت.

    فتح جزر البليار

    وتوالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذه المعركة؛ ففي عام (509هـ=1115م) استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار، تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمون يُسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين[4].

    سياسة المرابطين في الأندلس

    ولقد مرَّت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
    1 - مرحلة التدخُّل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.

    2 - مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعد أن ظلَّ وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض بينهم، ولم يُفَكِّرُوا في الاندماج في دولة واحدة، بل فَضَّل بعضهم التقرُّب إلى الأعداء للكيد بالآخرين.

    3 - مرحلة ضمِّ الأندلس إلى المغرب؛ فوضعوا حدًّا لمهزلة ملوك الطوائف[5].

    مصير ألفونسو السادس



    حزن ألفونسو على وحيده سانشو حزنًا شديدًا، حتى مات بعدها بعشرين يومًا[6]، وذلك في 29 يونيه سنة 1109م (ذي الحجة من عام اثنين وخمسمائة[7])، فحزن القشتاليون قاطبة لوفاته، وقد أسس ألفونسو خلال أربعة وأربعين عامًا من حكم قوي مستنير مجد قشتالة إلى قرون، وكان يلقب بـ «نور إسبانيا ودرعها»، وبلغت قشتالة في عهده من القوة ما لم توهنه بعدئذٍ حرب أهلية ولا تقسيم[8].



    [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/54، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
    [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
    [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث ص253.
    [4] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص162.
    [5] شوقي أبو خليل: الزلاقة، ص72، والصلابي: دولة المرابطين، ص136، 137.
    [6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص159.
    [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50.
    [8] يوسف أشياخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 1/142.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    دولة المرابطين في الأندلس

    الصراع في الأندلس



    ظلَّ الصراع بين المسلمين والنصارى قائمًا بعد الزلاقة، بل لقد كثر عيث النصارى في بلاد المسلمين، وتخريبهم لها، ولم يستطع حكام الطوائف فعل شيء، بل وصلت الأحوال إلى أن سقطت بلنسية –وهي حاضرة الشرق الأندلسي، ومن أبرز حواضر الأندلس كلها- في يد النصارى.


    العبور الثاني ليوسف بن تاشفين

    لم تنته الصراعات بين ملوك الطوائف وما نفَّذوا وصية يوسف بن تاشفين لهم بالاتحاد؛ فاستغاث الناس بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين للمرة الثانية، وكذلك فعل المعتمد بن عباد-أيضًا- فمن أجل ذلك كان الجواز الثاني ليوسف بن تاشفين إلى أرض الأندلس.

    العبور الثالث ليوسف بن تاشفين

    ويتكرر ما حدث في العبور الأول إذ يقوم المرابطون بنصرة الأندلسيين وهزيمة النصارى في أكثر من موقعة، إلا أنه وفي أثناء حصار حصن لبيط (Aledo) في سنة (481هـ=1088م)، رأى من خداع أمراء الطوائف وشهد عندئذٍ من تمردهم ونفاقهم، وجنوحهم إلى ممالأة النصارى ما أغضبه وأحفظه عليهم، ثم تكررت هذه الأحوال للمرة الثالثة، فعبر ابن تاشفين مرة ثالثة إلى الأندلس في عام (483هـ=1090م)، فجهز جيوشه ودخل إلى الأندلس.

    والواقع يقول أن يوسف بن تاشفين لم يطمع في الأندلس، وتردَّد كثيرًا قبل العبور، وعفَّ عن الغنائم بعد ذلك وتركها للمعتمد ولأمراء الأندلس ولم يأخذ منها شيئًا، ثم يعود في الجواز الثاني بسبب اختلافات ملوك الطوائف، وتحالف بعضهم مع عدوِّ الإسلام، وكان الجواز الثالث لوضع حدٍّ لمهزلة ملوك الطوائف، لقد آن -وباسم الإسلام- لهذه الدويلات الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أن تنتهي[1].

    منذ أن انتهى يوسف بن تاشفين من الجهاد في المرة الثانية، ثبت له بقاء حال أمراء الطوائف على ما هم عليه من تفرُّق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلَّف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين، بل لَمَّا قام بحصار النصارى -عَقِبَ جوازه الثاني في حصن لبيط- تخلَّف بعض رؤساء الشرق عن معاونته، وقالوا: إنَّ طاعته ليست بواجبة؛ لأنه ليس إمامًا شرعيًّا من قريش. وأبشع من ذلك وأشنع أن رسالة قد وقعت في يد يوسف وُجِّهت من بعض ملوك الطوائف إلى العدو، يُشَجِّعه على المقاومة والصمود، وكان جواب يوسف لأولئك الزعماء المتمرِّدِينَ، أنه خادم أمير المؤمنين المستظهر، وأن الخطبة تجري باسمه على أكثر من ألفي منبر، وتُضْرَب السكة باسمه[2].

    فتوى الفقهاء لابن تاشفين

    ورغم دلائل الولاء هذه للخليفة في بغداد، إلا أن مَنْ لا ولاء لهم ولا انتماء من ملوك الطوائف تمسَّحوا الآن في الشرع، الذي ينتهكونه منذ حكموا حتى أذلوا المسلمين وبلادهم، ووضعوها في يد النصارى، وبذلوا لهم الأموال والهدايا، وتحالفوا معهم على إخوانهم المسلمين.



    عندئذٍ اعتزم يوسف بن تاشفين أمره في افتتاح ممالك الطوائف، وأخذ يستولي عليها تباعًا، وأرسل إلى بغداد طلبًا للخليفة ليحصل على كتاب منه بتوليته المغرب والأندلس، وكان يهمه -إلى جانب الحصول على المرسوم الخلافي- أن يحصل على سند شرعي يُبَرِّر تصرُّفه نحو أولئك الأمراء، فلما وصل الفقيه أبو محمد العربي وولده أبو بكر بن العربي إلى بغداد، لقي الإمام أبا حامد الغزالي قطب فقهاء المشرق يومئذٍ، وشرح له أحوال الأندلس، وخلال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وما اضطلع به من أعمال الجهاد وإعزاز الدين، وما كان عليه أمراء الطوائف من تفرُّق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلَّف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين. وشرحا له الحال، ثم طلب الفقيه ابن العربي إلى الإمام الغزالي أن يُزَوِّدَه فيما تقدَّم بفتوى تُبَيِّنُ حكم الشرع فيه، وأن يُزَوِّده بكتاب إلى أمير المسلمين، فأفتى الإمام الغزالي بحكم الشرع في موقف ملوك الطوائف، حسبما شرحه ابن العربي للإمام، وعن حقِّ يوسف في الحصول على المرسوم الخلافي بولايته على ما فتحه من الأقطار بسيفه، وقد عاد الإمام الغزالي بعد ذلك، فكتب إلى يوسف كتابًا يعرض فيه بالتفصيل إلى قصة ملوك الطوائف، حسبما رواها له ابن العربي، وإلى ما كانت عليه الأندلس في ظلِّ حكمهم، من التخاذل والذل... ثم يُشير بعد ذلك إلى ما أصدره من فتوى في شأن ملوك الطوائف، وإلى ما كان ابن العربي بصدده من السعي إلى استصدار المرسوم الخلافي بولاية يوسف على جميع بلاد المغرب، وتمكين طاعته، وإلى ما كان يبثُّه ابن العربي من دعاية واسعة للإشادة بحكم يوسف وخلاله؛ سواء في العراق أو في المشاهد الكريمة بأرض الحجاز.


    وكذلك حصل ابن العربي من العلامة أبي بكر الطرطوشي -حين مروره على ثغر الإسكندرية، وهو في طريق العودة- على خطاب آخر برسم يوسف، ويُسدي الطرطوشي في كتابه النصح إلى يوسف بأن يحكم بالحق وفقًا لكتاب الله.

    وقد توفي الفقيه ابن العربي بثغر الإسكندرية في فاتحة سنة (493هـ)، وعاد ابنه أبو بكر إلى الأندلس في العام نفسه، وهو يحمل الرسالتين- رسالة الغزالي ورسالة الطرطوشي- وكذلك مرسوم الخليفة المستظهر إلى عاهل المرابطين[3].

    دولة المرابطين على المغرب والأندلس

    لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلس أمرًا سهلاً، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد بن عباد، ذلك الرجل الذي لم يجد العزَّة إلاَّ تحت راية يوسف بن تاشفين –رحمه الله- قبل وبعد الزلاقة، قام المعتمد على الله بمحاربته وأنَّى له أن يحارب مثله!

    استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف، وانتهت بضمِّ كل ممالك الأندلس إلى دولة المرابطين، واستطاع أن يضمَّها إلى بلاد المسلمين، وقد أصبح يوسف بن تاشفين الآن أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب من فرنسا وحتى وسط إفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين.

    وفاة يوسف بن تاشفين

    ولقد ظلَّ هذا الشيخ الكبير يحكم حتى سنة (500هـ=1106م)، وكان قد بلغ من الكبر عتيًّا، وتوفي –رحمه الله- بعد حياة حافلة بالجهاد، وقد وفَّى تمام المائة[4]؛ منها سبع وأربعون سنة في الحكم، وكان تمام ستين سنة على ميلاد دولة المرابطين، تلك التي أصبحت من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.


    [1] شوقي أبو خليل: الزلاقة، ص64، 65.
    [2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/41-44.
    [3] انظر: ابن الأثير: الكامل، 8/447، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/187، 188، والمقري: نفح الطيب، 4/373، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/41-44.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/45، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص156.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    يوسف بن تاشفين يحكي معركة الزلاقة

    وثيقة ليوسف بن تاشفين

    تم العثور على وثيقة مهمة عن معركة الزلاقة، كتبها بطل الزلاقة نفسه، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقد نقلها الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه (دولة الإسلام في الأندلس)[1]، ووصفها بقول: «رسالة كتب بها الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين إلى الناصر بدين الله تميم بن المعز بن باديس بالمهدية؛ يصف فيها بلاد الغرب، وجوازه للأندلس للجهاد بها، وهزيمته للأذفنش أمير النصارى في رجب سنة 479هـ).
    وفيها مما يهمنا في هذه الوثيقة، هو شرح أمير المسلمين يوسف بن تاشفين لأدوار المعركة.

    رواية يوسف بن تاشفين لمعركة الزلاقة



    «فجمعنا عساكرنا وسرنا إليه (ألفونسو السادس)، وصرنا إلى قفل قورية من بلاد المسلمين صرفها الله، فسمع بنا، وقصد قصدنا، وورد وردنا، واحتلَّ بفنائها منتظرًا لنا، فبعثنا إليه نحضه على الإسلام، ودخوله في ملة محمد، أو ضرب الجزية عليه، وإسلام ما كان من المال والبيوت لديه، كما أمرنا الله تعالى وبيَّن لنا في كتابه؛ من إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فأبى وتمرَّد، وكفر ونخر، وعَمِل على الإقبال علينا، وحثَّ في الورود علينا، فلحِقَنَا وبيننا وبينه فراسخ، فلمَّا كان بعد ذلك، برزنا عليه أيامًا، فلم يُجِبْنَا، فبقينا وبقوا، ونحن نخرج الطلائع إليه، ونُتابع الوثوب عليه، وبنينا على لقائه يوم الخميس لإحدى عشر ليلة خلت لرجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة.


    فلما كان يوم الجمعة ثانيه، ورد علينا بكتائب قد ملأت الآفاق؛ وتقلَّبَتْ تَقَلُّب الحتوف للأحداق؛ قد استلموا الدروع للكفاح، وربطوا في سوقهم الألواح، وبطونهم ملأى من الخمر، يُقَدِّرون أن الدائرة علينا تدور، ونحن في أخبيتنا صبيحة اليوم المذكور، كلٌّ مِنَّا سَاهٍ، وجميعنا لاهٍ، فقصد أشدُّهم شوكة، وأصلبُهم عودًا، وأنجدُهم عديدًا، محلةَ المعتمد على الله المؤيد بنصر الله -وَفَّقَهُ الله- عماد رؤساء الأندلس وقطبهم، لا يقدرون عسكرًا إلا عسكره، ولا رجالاً إلا رجاله، ولا عديدًا إلاَّ عديده، وداود من أصحابنا منا إلى إزائه، فهبطوا إليه لفيفًا واحدًا، كهبوط السيل، بسوابق الخيل، فلما كان معه من جنده ومن جميع الطبقات، الذين كانوا يدخرون من قبله الأموال والضياع، استكَّت آذانهم[2]، واضطربت أضلاعهم، ودهشت أيديهم، وزلزلت أقدامهم، وطارت قلوبهم، وصاروا كركب الحمير، فَرُّوا يطلبون معقلاً يعصمهم، ولا عاصم إلاَّ الله، ولا هاربًا منه إلاَّ إليه، فلحقوا من بطليوس بالكرامات، لما عاينوا من الأمور المعضلات، وأسلموه (المعتمد) -أيده الله- وحده في طرف الأخبية، مع عدد كثير من الرجالة والرماة، قد استسلموا للقضاء، فوثبوا (الروم) عليه وثب الأسد على الفرائس، يعظمون الكنايس، فحبسهم حينًا وحده مع مَنْ إليه ممن ذكرناه، وبسطوا منهم الأرض، ولم يبقَ من الكل إلاَّ البعض، ولجأ في الأخبية بعد أن عاين المنية، وتَخَلَّصَه اللهُ بنِيَّتِه في المسلمين وبلغه أمنيته، بعد أن وقف وقفة بطل مثله، لا أحد يَرُدُّ عليه، ولا فارس من فرسانه وعبيده يرجع إليه، لا يروعه أحد منهم فيهزم، ولا يهابهم فيسأم.

    ثم قَصَدَتْ كتيبَتَهُ (كتيبة ألفونسو) سودًا كالجبل العظيم أو الليل البهيم، عسكر داود وأخبيته، فجالوا فيها جولانًا، وقتلوا من الخلق ألوانًا، واستشهد الكل بحمد الله، وصاروا إلى رضوان الله، ونحن في ذلك كله غافلون، حتى ورد علينا وارد، وقصد إلينا قاصد، فخرجنا من رواء الشعب، كقطع اللهب، بجميع مَنْ معنا، على الخيل المسومة العراب، يتسابقن الطعن والضراب، فلما رأونا، ووقعت أعينهم علينا، ظَنُّوا أن الدائرة فينا ولدينا، وأَنَّا طُعْم أسيافهم، ولقاء رماحهم، فكَبَّرْنَا وكَبَّر الكل معنا، مبتهلين لله وحده لا شريك له، ونهضنا للمنون الذي لا بُدَّ منه، ولا محيص لأحد عنه، وقلنا: هذا آخر يومنا من الدنيا، فلتموتوا شهداء.

    فحملوا علينا كالسهام، فثَبَّتَ الله أقدامنا، وقوَّى أفئدتنا، والملائكة معنا، والله تعالى وليُّ النصر لنا، فَوَلَّوْا هاربين، وفَرُّوا ذاهبين، وتساقط أكثرهم بقدر الله تعالى دون طعنة تلحقه، ولا ضربة تُثخنه، وأضعف الرعب أيديهم، فطعَنَّاهم بالسمهرية[3] دون الوخز بالإبر، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، حتى إن هاربهم لا يرى غير شيء إلا ظنه رجلاً، وفتكت فيهم السيوف على رغم الأنوف، فوالله! لقد كانت تقع على الدروع فتفريها، وعلى البيضات فتبريها، وزرقوا الرجالة منا على خيلهم الرماحَ، فشَكُّوهم بها فرمحت بهم.

    فما كنت ترى منهم فارسًا إلاَّ وفرسه واقف على رأسه لا يستطيع الفرار، الكلُّ يجرُّ عنانه، كأنه مُعْقَل بعقاله، ونحن راكبون على الجواد الميمون، العربي المصون، السابق اللاحق، المعدُّ للحقائق، وما منا إلاَّ مَنْ له جرناز[4] فيه سيفان، وبيدنا الثالث، عسى أن يحدث من حادث، فصاروا في الأرض مجدلين[5]، موتى معفَّرين[6]، وقد تراجع الناس بعد الفرار، وأمنوا من العثار، وتضافروا مع عسكرنا وغيرهم؛ يقطعون رءوسهم، وينقلون بإزاء المحلات، حتى علت كالجبال الراسيات، عدد لا يُقَدَّر، ومدد لا يُحْزَر، والتجريد فيهم، والأيدي متعاودة لبطونهم، واستأصلنا أكابرهم، وحللنا دون أماطيهم وأمانيهم، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

    وانقطع من عسكرهم نحو ألفي رجل أو أقل، والأذفونش فيهم على ما أخبرنا، قد أُثخنوا جراحًا بإزاء محلاتهم، يرتادون الظلام للهروب في المقام، واللهِ! لقد كان الفرسان والرجَّالة يدخلون محلَّتهم، ويعثرون في أخبيتهم، وينتهبون أزودتهم، وهم ينظرون شزرًا نظر التيوس إلى شفار الجازرين، إلى أن جنَّ الليل وأرخى سدوله، وَلَّوْا هاربين، وأسلموا رحائلهم صاغرين، فكم من دلاص[7] على البقاع ساقطة، وخيول على البقاع رابضة، ولقد ارتبط كل فارس منا الخمسة الأفراس أو أزيد.

    وأمَّا البغال والحمير فأكثر من ذلك، وأما الثياب والمتاع فناهيك، والأسرَّة بأوطية الحرير، والثياب والأوبار عدد ليلهم، ولا يكلُّون في الانتقال، ولا يسأمون من تشريط الأموال، ولحقوا قورية، ومنها إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم[8]، فصححنا ضمائرنا، وأخلصنا للمعتمد على الله نياتنا وسرائرنا، ورجعنا بحمد الله غانمين منصورين.

    لم يستشهد منا إلاَّ الفرقة التي قَدَّر الله عليها بذلك، وقَدَّرنا أن الكل منهم هلك لقلَّة معرفتهم وجهالتهم بقتال النصارى، وتراميهم للشهادة، قدَّس الله أرواحهم، وكرَّم مثواهم وضريحهم، وجعل الجنة ميعادًا بيننا وبينهم، وفقدنا من أكابرنا نحو عشرين رجلاً ممن شُهدت نجدته في المغرب، وانقلبت خير منقلب. ولحقنا إشبيلية حضرته (المعتمد) عمرت ببقايه، وأقمنا عنده أيامًا، ورفعنا عنه مُوَدِّعين، لا تَوَدُّع قاطع...»[9].


    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/446. منقولة من المخطوط رقم 448 الغزيري بمكتبة الإسكوريال Fol. 49R. -53V. وهو مخطوط ناقص من أوله ولا عنوان له.
    [2] استكَّت آذانهم: أي صُمَّت. ابن منظور: لسان العرب، مادة سكك 10/439.
    [3] السمهرية: الرماح الصُّلبة. ابن منظور: لسان العرب، مادة سمهر 4/381.
    [4] هكذا في المصدر.
    [5] المجدَّل: الصريع، أو الملقى بالأرض. ابن منظور: لسان العرب، مادة جدل 11/103.
    [6] معفَّر: أي تقلَّب في التراب.
    [7] الدِّرع الدِلاص: البرَّاقة، الملساء، اللينة. ابن منظور: لسان العرب، مادة دلص 7/37.
    [8] أم قشعم: الحرب، أو المنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة قشعم 12/484.
    [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/448، وما بعدها.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    معركة الزلاقة

    دخول المرابطين الأندلس



    يدخل يوسف بن تاشفين والمرابطون أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يقصد إلى بطليوس حيث كانت على مقربة من الزلاقة التي كان قد نزلها ألفونسو السادس، فتوجَّه إليه أمير المسلمين بجيوشه[1]. واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوِّعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى ألفونسو فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة[2].


    وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.

    ولا نعجب فهذه هي أهمية القدوة وفِعْلِها في المسلمين، وصورتها كما يجب أن تكون، تحرَّكت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأُخُوَّة الصادقة، والغَيْرَة على الدين الخاتِم، تلك الأمور التي تُوجَد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى مَنْ يُحَرِّكها من سُباتها.

    التحرك نحو الزلاقة

    تحرَّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاقة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ.

    كان النصارى قد استعدُّوا لقدوم يوسف بن تاشفين فجمعوا عددًا ضخمًا من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل[3]، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وقَدِمَ ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح، وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجنَّ والإنس، وأقاتل ملائكة السماء. فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام[4].

    الرسائل والحرب الإعلامية

    رسالة ألفونسو إلى يوسف بن تاشفين

    كان ألفونسو السادس من قبل هذا أرسل إلى يوسف بن تاشفين رسالة كلها غرور واستعلاء، وهذا نصها:
    باسمك اللهمَّ فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، أما بعدُ: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمتَ الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحُكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأُمَثِّل بالرجال، ولا عذر لك في التخلُّف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منَّا بواحد منكم، فالآن خَفَّف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعًا ولا تملكون امتناعًا، وقد حُكِيَ لي عنك أنك أخذتَ في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام، تُقَدِّم رِجْلاً وتؤخِّر أخرى، فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربُّك، ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلَّةٍ لا يسوغ لك التقحُّم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وتُرسل إليَّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزِّ الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جُلبت إليك، وهدية عظيمة مَثَلَتْ بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملَّتَيْنِ والحُكم على البرَّيْنِ، والله تعالى يُوَفِّقُ للسعادة ويُسَهِّل الإرادة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلاَّ خيره، إن شاء الله تعالى[5].

    رسالة يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو

    فلما تمَّ عبور جيش المرابطين إلى الأندلس أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14، غافر: 50] وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب[6].

    تَسَلَّم ألفونسو السادس الرسالة وما أن قرأها حتى استشاط غضبًا و«جاش بحر غيظه، وزاد في طغيانه وكفره، وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل مِلَّته منذ ثمانين سنة؟!» ثم أرسل ليوسف بن تاشفين متوعِّدًا ومُهَدِّدًا: فإني اخترت الحرب، فما ردُّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى. فلما وقف ألفونسو على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به[7].

    قال صاحب (الروض المعطار): «ولما تحقق ابن فرذلند[8] -ألفونسو السادس- جواز يوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يُحصى عدده، وجعل يُصغي إلى أنباء المسلمين متغيِّظًا على ابن عباد، حانقًا ذلك عليه، متوعِّدًا له، وجواسيس كل فريق تتردَّد بين الجميع، وبعث -ألفونسو السادس- إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أُكَلِّفكم تعبًا، أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم؛ رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم. وقال لأهل ودِّه ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني[9] بين جدرها ربما كانت الدائرة عليَّ؛ فيكتسحون البلاد، ويحصدون مَنْ فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت عليَّ اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلاَّ بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صونٌ لبلادي، وجبرٌ لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خِفْتُ أنا أن يكون منهم فيَّ وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها[10].

    محاولة ماكرة من ألفونسو السادس

    وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يُحَدِّدُ يوم المعركة، فأرسل أن: غدًا الجمعة، ولا نُحِبُّ مقاتلتكم فيه؛ لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثيرون في محلَّتنا، ونحن نفتقر إليهم، وبعده الأحد عيدنا، فلنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين[11].

    تَسَلَّم يوسف بن تاشفين الرسالة، وكاد ينخدع بها لأنه كان يعتقد أن الملوك لا تغدر[12]، ولقد كانت هذه أولى جولاته مع النصارى، إلاَّ أن المعتمد بن عباد فهم الخديعة ونبَّه يوسف بن تاشفين إلى ما قد يكون فيها من الغدر[13].

    رؤيا ابن رميلة

    بحذر تامٍّ لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمِّ الاستعداد.

    إنها لحظة لم يتذوَّقها الأندلسيون منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يقوم جيش مسلم ويستعد لحرب النصارى من بعد سنوات الذل والهزيمة والجزية، ولا شكَّ أنها لحظات تتلقاها قلوب المؤمنين باشتياق، كاشتياقها إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرُّ هو بنفسه –رحمه الله- على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومَنْ بقي فله الأجر والغنيمة. وجاء في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعُبَّاد يعظون الناس ويحضُّونهم على الصبر، ويُحَذِّرُونهم الفرار[14].

    وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي، والذي قال عنه ابن بشكوال في الصلة: كان معتنيًا بالعلم، وصُحبة الشيوخ، وله شعر حسن في الزهد، وكان كثير الصدقة وفعل المعروف، وكان أبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين[15].

    لم تكن مهمَّة الشيخ يومها هي مجرَّد الجلوس في المسجد، أو إلقاء الدروس، أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يَفْقَه أمور دينه، ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين، وفي هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: «يَا ابْنَ رُمَيْلَةَ، إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا».

    يستيقظ ابنُ رُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حقٌّ؛ لأن الشيطان لا يتمثَّل به ؛ ففي البخاري بسنده عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»[16].

    يقوم الشيخ فرحًا مسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشَّره الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيا لها من فرحة! ويا له من أجر!

    وعلى الفور يذهب ابن رميلة –رحمه الله- في جنح الليل فيُوقظ قادة المسلمين حتى أيقظ المعتمد بن عباد، وقصَّ عليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن هذه الرؤيا قد هزَّت ابن عباد فأرسل بخبرها إلى يوسف بن تاشفين وكلِّ قوَّاد الجيش، وقاموا من شدَّة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا»[17].

    مخابرات المعتمد بن عباد

    كان المعتمد بن عباد يراقب –فيما يراقب- معسكر المرابطين أيضًا «خوفًا عليهم من مكائد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا عِلْمَ لهم بالبلاد، وجعل يتولَّى ذلك بنفسه؛ حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين -المرابطين- كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفًا بالمحلَّة بعد ترتيب الكراديس –وهي كتائب الخيل- من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يُخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم»[18].

    ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحقت بقية الطلائع محقِّقين بتحرُّك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل معسكر ألفونسو يقولون: «استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة». وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر ابن القصيرة إلى يوسف يُعَرِّفه بإقبال ألفونسو ويستحثُّ نُصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي الأرض طيًّا حتى جاء يوسف بن تاشفين فعَرَّفه جلية الأمر[19].

    الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم

    بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ=23 من أكتوبر 1086م، نقض ألفونسو السادس عهده، وبدأ بالهجوم في ذلك اليوم؛ إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصل عندهم.

    ولقد صُدم الجيش الإسلامي، وفوجئ بالفعل -كما ستؤكد الرسالة التي كتبها يوسف بن تاشفين نفسه فيما بعد- وانحطَّ عليه جيش النصارى بكتائب «تملأ الآفاق»، وبدت الصدمة الأولى صدمة هائلة حقًّا!

    كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:
    الأولى: فرقة الأندلسيين وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد[20]، كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة[21]، وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي[22].

    يُريد بذلك أن يغسل عار السنين السابقة وما رآه من ذل وهوان، أو لعله كان يُريد أن يحوز القدر الأعلى من النصر إن تم؛ فيُنسب الأمر له، والله أعلم بالنوايا.

    وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين[23].

    الثانية: فرقة من جيش المرابطين

    وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.

    الثالثة: جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة[24].

    وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين[25].

    لم تكن خطَّة يوسف بن تاشفين -رحمه الله- جديدة في حروب المسلمين؛ فقد كانت هي الخطة نفسها التي استعملها خالد بن الوليد t في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي -أيضًا- الخطة نفسها التي استعملها النعمان بن مُقَرِّن t في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضًا، فكان يوسف بن تاشفين –رحمه الله- رجلاً يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.

    معركة الزلاقة

    هجوم ألفونسو على المعتمد

    لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ= 23 من أكتوبر 1086م هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأول للمسلمين (الجيش الأندلسي)، مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد –وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعَضَّته الحرب، واشتدَّ البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأُثْخِنَ ابن عباد جراحات وضُرِبَ على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدِّمَ له آخر، وهو يقاسي حياض الموت يضرب يمينًا وشمالاً، وتَذَكَّر في تلك الحال ابنًا له صغيرًا كان مغرمًا به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى وكنيته أبو هاشم، فقال: [المتقارب]
    أَبَا هَاشِمٍ هَشَّمَتْنِي الشِّفَارُ

    فَلِلَّهِ صَبْرِي لِذَاكَ الأُوَارُ[26]
    ذَكَرْتُ شَخِيصَكَ تَحْتَ الْعَجَاجِ[27])

    فَلَمْ يُثْنِنِي ذِكْرُهُ لِلْفِرَارِ

    ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد[28].

    إلا أن ألفونسو كان قد قسَّم هو الآخر جيشه إلى قسمين، فانهال بالقسم الآخر على جيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة بأعداد ضخمة، «فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وصبر المرابطون صبرًا جميلاً، وداسهم اللعين بكثر جنوده حتى كاد يستأصلهم، وكانت بينهم مضاربة تفلَّلت فيها السيوف، وتكسَّرت الرماح، وسارت الفرقة الثانية من عسكر اللعين مع البرهانس وابن رذمير نحو ملحة (لعله يقصد محلة) ابن عباد، فداسوها، واستمرَّت الهزيمة على رؤساء الأندلس إلى جهة بطليوس، ولم يثبت منهم غير ابن عباد وجيشه، فإنهم ثبتوا في ناحية يُقاتلون لم ينهزموا، وقاتلوا قتالاً شديدًا، وصبروا صبر الكرام لحرب اللئام...» [29]. وبدا المعسكر الإسلامي مرة أخرى في حالة الهزيمة.

    تحرك يوسف بن تاشفين

    وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الرئيسي الذي يقوده ابن تاشفين، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالقسم الرئيسي من جيش المرابطين الذين كانوا معه، وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.

    قسَّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين: فالأول وقائده سير ابن أبي بكر - في قبائل المغرب وزناتة والمصامدة وغمارة وسائر قبائل البربر- يساعد جيش المسلمين الذي يقوده داود ابن عائشة والمعتمد بن عباد، والقسم الثاني بقيادته هو ومعه باقي قبائل صنهاجة والمرابطين يلتفُّ خلف جيش النصارى، ويقصد مباشرة إلى معسكرهم، «فأضرمها نارًا وأحرقها، وقتل مَنْ كان بها من الأبطال والرجال والفرسان، الذين تركهم ألفونسو بها يحرسونها ويحمونها، وفرَّ الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليهم خيله من محلته فارِّين، وأمير المسلمين يوسف في أثرهم بساقته وطبوله وبنوده، وجيوش المرابطين بين يديه يحكمون في الكفرة سيوفهم، ويروونها من دمائهم، فقال ألفونسو السادس: ما هذا؟! فأُخبر الخبر بحرق محلته ونهبها، وقتل حماتها، وسبي حريمها، فردَّ وجهه إلى قتاله، وصمم أمير المسلمين نحوه، فانتشبت الحروب بينهما، فكانت بينهما حروب عظيمة لم يُسمع قط بمثلها...» [30].

    وحين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم، وأنهم محاصَرون «ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»[31].

    اضطراب جيش النصارى



    وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.


    يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»[32].

    انتصار المسلمين

    تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة[33].

    يصف صاحب الحلل الموشية هذه اللحظات من المعركة بقوله: «واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك فأمدَّ الله المسلمين بنصره... وفي أثناء ذلك، تلاقى بالطاغية أذفنش غلام أسود بيده خنجر يدعوه البرابر بالأفطس، قطع جرز درعه، وطعنه في فخذه مع مدار سرجه، فكان أذفنش يقول بعد ذلك: التحق بي غلام أسود فضربني في الفخذ بمنجل أراق دمي. فتخيل له الأفطس أنه منجل لكونه رآه معوجًا»[34].

    ويقول لسان الدين بن الخطيب: «ولم تزل الكَرَّات بين المحلات تتعاقب، والهجمات سجالاً تداول، والحرب تدور، وأَمَرَ الأميرُ يوسف العبيدَ فترجَّلوا عن الخيل في نحو ألف، ودخلوا المعرك بالمزارق (الرماح القصيرة الخفيفة) لعجز السلاح عن الخيل الدارعة، فأثرت فيها بالطعن، وجعلت ترمح بفرسانها، ولصق منهم بالأذفونش عبد قبض على عنانه، وضربه بخنجر...» [35]. وبقي أثر الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها[36].

    ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة[37]، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين[38]. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك[39]. واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل[40].
    وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي اليرموك والقادسية.

    كان رأي المعتمد بن عباد أن يواصل الجيش مطاردته لألفونسو المنحسب حتى يقضي عليه نهائيًّا، ولكن ابن تاشفين كان يرى أن الضغط عليهم وإرهاقهم يجعلهم يستبسلون في القتال، فيقاتلون قتال مَنْ لا يرى حياته إلا بموت خصمه، وفي هذا ضرر على المسلمين، لا سيما وأن مطاردة ألفونسو وهو على هذا الحال قد تُوقع في طريقه بعض المسلمين المنسحبين، الذين يتواصل عودتهم إلى الجيش مع انقلاب كفة المعركة، وهم بالنسبة له أقل قوة وهو أقدر على الإيقاع بهم، فإن انتظروا هذا اليوم فتكامل عدد المسلمين برجوع الذين انسحبوا، هان عليهم أن يقاتلوه في اليوم الثاني، وردَّ عليه ابن عباد بقوله: إن فرَّ أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه. إلا أن يوسف أصرَّ على الامتناع وقال: الكلب إذا أُرهق لا بُدَّ أن يعضَّ[41].

    ونحن إذ نقرأ التاريخ الآن نرى أن ابن عباد كان أصوب رأيًّا من ابن تاشفين في هذا الأمر، فلقد استمر ألفونسو يقاتل المسلمين بعدها عشرين سنة ولم يضعف ولم يتوانَ، ويُتوقع أن لو كان قُضي عليه في يوم الزلاقة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، ولكان المسلمون استطاعوا أن يستعيدوا طُلَيْطلَة مرة أخرى.. إلاَّ أنه لا يسعنا أن نعترف بأننا نقول الرأي الآن بعدما انتهت الأحداث وانقشعت المعارك، وما ندري لو كنا في ذلك الموقف ماذا قد يكون الاختيار.

    واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس؛ مثل: ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مَرَّاكُش أبي مروان عبد الملك المصمودي.. وغيرهما، رحمهم الله تعالى[42].

    وما أن تنتهي أحداث الزلاقة حتى يصل إلى يوسف بن تاشفين نبأ مُفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حَلَّت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، فيعجل هذا برجوع ابن تاشفين إلى المغرب[43].

    زهد وورع يوسف بن تاشفين

    بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرِّفة من صور الإخلاص والتجرُّد، وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامَّة، ولأمرائهم خاصَّة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زُهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].

    قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام؛ حتى جمعت الغنائم، واستُؤْذِن في ذلك السلطان يوسف، فعفَّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعَرَّفهم أن مقصدَه الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلمَّا رأتْ ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبُّوه وشكروا له ذلك[44].

    عودة إلى المغرب

    يعود يوسف بن تاشفين –رحمه الله- إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم؛ حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر[45]، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!

    كان من الممكن ليوسف بن تاشفين –رحمه الله- أن يُرسل قائدًا من قوَّاده إلى أرض الأندلس، ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدًا عن تخطِّي القفار وعبور البحار، وبعيدًا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدًا عن أرض غريبة وأناس أغرب؛ لكنه –رحمه الله- وهو الشيخ الكبير يتخطَّى تلك الصعاب، ويركب فرسه، ويحمل رُوحه بين يديه، لسان حاله: أذهبُ إلى أرض الجهاد لعلِّي أموتُ في سبيل الله.
    شعاره هو: [الوافر]
    إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ

    فَلاَ تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
    فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ

    كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ[46]

    لكن يوسف بن تاشفين –رحمه الله- لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.

    المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد

    ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهُنِّئ بالفتح، وقَرَأت القرَّاء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، يقول عبد الجليل بن وهبون: حضرتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أُنشده إياها، فقرأ القارئ: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]. فقلتُ: بُعْدًا لي ولشعري، واللهِ! ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعًا بالتهنئة، ولم يزل ملحوظًا معظَّمًا إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان[47].


    [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/447، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/100، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/116، وتاريخ ابن خلدون، 6/186، والحميري: الروض المعطار، ص92، والمقري: نفح الطيب، 4/364، والسلاوي: الاستقصا، 2/43، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146.
    [2] المقري: نفح الطيب، 4/361.
    [3] تُعَبِّر المصادر التاريخية عن عدد الروم بالعبارات التي تفيد الكثرة والضخامة، وأما مَنْ ذكروا العدد فمنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل. ومنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس لابسين الدروع دون غيرهم. وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية الذي يعود ويقول بعد ذلك: إنه قُتل في هذه الغزوة من النصارى ثلاثمائة ألف. ومنهم من يقول: إنهم كانوا خمسين ألف مقاتل. ومنهم من يقول: إن أقل تقدير لهم أنهم كانوا أربعين ألف دارع، ولكل دارع أتباع.
    [4] الحميري: الروض المعطار، ص289، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
    [5] ذكرت بعض المصادر أن هذه الرسالة إنما أرسلها ألفونسو الثامن إلى يعقوب المنصور الموحدي بعد هذا بحوالي قرن من الزمان، إلا أن التحقيق يؤدي إلى أنها مرسلة من ألفونسو السادس إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. انظر: ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/6، 7، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/198.

    [6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحميري: الروض المعطار، ص290، والحلل الموشية، ص53، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
    [7] ابن الأثير: الكامل، 8/446، ومجهول: الحلل الموشية، ص53.
    [8] فرذلند: هو التعريب لاسم فرناندو، أول من بدأ بحرب الاسترداد وأخذ الجزية من المسلمين، وابنه هو ألفونسو السادس، والذي يعرب اسمه إلى: ألفُنش ألفونش وأذفونش.
    [9] ناجزه: نازله وقاتله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نجز 5/413، والمعجم الوسيط 2/903.
    [10] الحميري: الروض المعطار، ص298، وما بعدها.
    [11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحلل الموشية، ص57.
    [12] عبد الواحد المراكشي: المعجب 194، 195.
    [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص147.
    [14] الحميري: الروض المعطار، ص290.
    [15] ابن بشكوال: الصلة، 1/118 144.
    [16] البخاري: كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، 6593 واللفظ له، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» 2266.
    [17] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 4/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
    [18] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147، والحميري: الروض المعطار، ص290.
    [19] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 2/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
    [20] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والسلاوي: الاستقصا، 2/44، 45.
    [21] مجهول: الحلل الموشية ص59.
    [22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
    [23] ابن الأثير: الكامل، 8/447.
    [24] ابن الأثير: الكامل 8/447، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص242، 243.
    [25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/118.
    [26] الأوار: شدَّة الشيء وقوته. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35.
    [27] العجاج: الغبار. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل العين 1/327، وابن منظور: لسان العرب، مادة عجج 2/318.
    [28] انظر: ابن الأثير: الكامل 8/477، وعبد الواحد المراكشي: المعجب ص194، 195، والحميري: الروض المعطار، ص291، والمقري: نفح الطيب، 4/366، والسلاوي: الاستقصا، 2/46.
    [29] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147.
    [30] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن أبي زرع: روض القرطاس ص147 وما بعدها.
    [31] مجهول: الحلل الموشية ص59.
    [32] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها.
    [33] ابن خلكان في وفيات الأعيان، 7/118، والسلاوي: الاستقصا، 2/47، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/325.

    [34] مجهول: الحلل الموشية ص61.

    [35] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص243.
    [36] الحميري: الروض المعطار، ص290.
    [37] المصدر السابق، ص290 وما بعدها.
    [38] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
    [39] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/117.
    [40] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص148.
    [41] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها، ومجهول: الحلل الموشية ص59.
    [42] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/369، والسلاوي: الاستقصا، 2/48.
    [43] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص152، والحلل الموشية، ص66، والحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/49.
    [44] المقري: نفح الطيب، 4/369.
    [45] انظر: عبد الله بن بلقين: التبيان، ص339، نقلاً عن حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، ص282، وسعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين، ص97.
    [46] ديوان المتنبي، ص195.
    [47] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/50.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    يوسف بن تاشفين والعبور إلى الأندلس

    سقوط طليطلة والاستعانة بالمرابطين



    في سنة (478هـ=1085م) كانت قد سقطت طليطلة، ومنذ سقوطها في ذلك التاريخ لم تَعُدْ إلى المسلمين، ثم حوصرت إشبيلية؛ مع أنها كانت تقع في الجنوب الغربي للأندلس وبعيدة عن مملكة قشتالة النصرانية التي تقع في الشمال، ثم كاد المعتمد بن عباد أن يحدث معه مثلما حدث مع بربشتر أو بلنسية لولا أن مَنَّ الله عليه بفكرة الاستعانة أو التلويح بالاستعانة بالمرابطين.


    ويبدو أن فكرة الاستعانة بالمرابطين كانت فكرة شعبية خرجت أول ما خرجت من العلماء والمشايخ، وتلقاها العامة بالقبول والتأييد، ثم صارت مطلبًا عامًّا، ونداء متكررًا يجد الدعم الشعبي، ويوحى به عند الأمراء، ومن الواضح -أيضًا- أنها بدأت من قبل سقوط طليطلة بأعوام، ولو أن ملوك الطوائف امتلكوا مثل هذا الوعي الشعبي لكانوا قد منعوا سقوط طليطلة، وما لحقهم من الذل قبلها وبعدها.

    يُورد النويري أنه قد «بلغ مشايخ قرطبة ما جرى، فاجتمعوا بالفقهاء وقالوا: هذه مدائن الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبقَ منها إلاَّ القليل، وإن استمرَّت الأحوال على ما نرى عادت نصرانيةً كما كانت. ثم ساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغَار والذلة، وإعطائهم الجزية إلى الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم، وابن عباد هو الذي حمل الفرنج على المسلمين، حتى جرى ما جرى وطلب منه ما طلب، وقد دبَّرنا رأيًا نعرضه عليك. قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونُعلمهم أنهم إن وصلوا إلينا قاسمناهم في أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله تعالى. قال: أخاف أن يُخَرِّبُوا الأندلس كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدءوا بكم، والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالاً. قالوا: فكاتب يوسف بن تاشفين ورغِّب إليه أن يدخل إلينا بنفسه، أو يرسل إلينا قائدًا من قوَّاده. قال: أمَّا الآن فقد أشرتم برأي فيه السَّداد. وقَدِمَ المعتمد إلى قُرْطُبَة في أثر ذلك، فدخل عليه القاضي وأعلمه بما دار بينه وبين أهل قُرْطُبَة وما اتفقوا عليه، فقال المعتمد: نِعْمَ ما أشاروا به، وأنت رسولي إليه. فامتنع القاضي واستعفاه، وإنما أراد أن يُقَوِّيَ عزمه على إرساله، فقال: لا أجد لها غيرك.

    فسار القاضي وصحبه أبو بكر ابن القصيرة الكاتب إلى أمير المسلمين، فوجداه بسبتة، فأبلغاه الرسالة، وأعلماه بحال المسلمين وما هم عليه من الخوف والجزع من الأذفونش، وأنهم يستنصرون بالله ثم به؛ وأن المعتمد يستنجد به...» [1].

    بل نستطيع أن نقول: إن حركة المشايخ والفقهاء قد وصلت إلى يوسف بن تاشفين من قبل هذا، ففي سنة 474هـ، وفد جماعة من أهل الأندلس على يوسف بن تاشفين، وشَكَوْا إليه ما حلَّ بهم من أعدائهم، فوعدهم بإمدادهم، وإعانتهم، وصرفهم إلى أوطانهم[2].

    كما وردت عليه -أيضًا- الرسائل والكتب من أهل «الأندلس، يبثُّون حالهم، ويُحَرِّكونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها ورد عليه عبد الرحمن بن أسباط من ألمرية؛ يشرح حال الأندلس»[3].

    وكان ممن كتب إليه –قبل ذلك- المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستصرخه حين هاجم العدوُّ بلاده، ولما بلغ خطابه هذا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتب إليه يَعِدُه بالجواز، والإمداد على العدو[4].

    يوسف بن تاشفين يمهد للعبور

    إلاَّ أن يوسف بن تاشفين كانت لديه مشكلتان رئيستان؛ الأولى: أنه لم يُسيطر على سبتة، وهو الميناء المهم الذي يُعَدُّ منفذًا لدخول الأندلس، فقد كان ما يزال تسيطر عليه قبيلة برغواطة وعليهم زعيمهم سقوت البرغواطي. والثانية: أنه ما كان يمكنه العبور إلى الأندلس من دون النزول في أراضي غرناطة أو إشبيلية، فهي أقرب المناطق إلى المغرب؛ لذا فما كان أمام ابن تاشفين إلا أن ينتظر رسالة من المعتمد بن عباد لكي يستطيع أن ينزل إلى الأندلس بأمان ولا يُعتبر محاربًا مهاجمًا لأراضي إشبيلية أو غرناطة.

    إلا أن ابن تاشفين –بعد أن وصلته استغاثات الأندلس- وجَّه جهوده إلى فتح سبتة، ففتحها بالفعل، ثم بدأ يستكثر من الأعداد وتجهيز الإمدادات منتظرًا أن تأتيه الرسل من ابن عباد ملك إشبيلية.

    ولا شكَّ أن ابن عباد كان يفهم كل هذا ويعلمه؛ ولذلك فإنه لما راسل ابن تاشفين خاطبه خطاب مَنْ يعرف وعوده السابقة للعامة وللمتوكل ابن الأفطس، «منتجزًا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية»[5].

    المعتمد بن عباد يرد على ألفونسو

    انتشر في الأندلس الرد الذي كتبه المعتمد إلى ألفونسو والذي يُهَدِّده فيه بالجيوش المرابطية، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدوِّ، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفُتحت لهم أبواب الآمال، وأما ملوك طوائف الأندلس فلمَّا تحقَّقوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتمُّوا منه -أي: صاروا مهمومين مما عزم عليه- ومنهم مَنْ كاتبه، ومنهم مَنْ كَلَّمَه مواجهة، وحَذَّرُوه عاقبة ذلك، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير. ومعناه: أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا له يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذَّاله ولُوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما؛ أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشكِّ، وأمَّا حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدعُ ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه. فحينئذٍ قصر أصحابه عن لومه[6].

    وكان ممن وافق ابن عباد على رأيه المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، وكذلك عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فأصبحت (غرناطة وإشبيلية وبطليوس) الحواضر الإسلامية الضخمة متَّفِقَة على الاستعانة بالمرابطين.



    وفور موافقة الأمراء الثلاثة جعلوا منهم سفارة كانت مكونة من قضاة المدن الثلاث: قاضي الجماعة بقرطبة أبو بكر بن أدهم، وقاضي غرناطة أبو جعفر القليعي، وقاضي بطليوس أبو إسحاق بن مُقانا، ثم أضاف المعتمد إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين، وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بُدَّ منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وعلى هذا، فقد كان الوفد مكوَّنًا من هؤلاء الأربعة فقط[7].


    وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم([8]).

    وفي سنة (478هـ=1085م) يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبَل بعض ملوك الطوائف -كما ذكرنا- يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدِّ هجمات النصارى عليهم[9]، فأَعَدَّ العُدَّة –رحمه الله- وجهَّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق وفي وسطه يهيج البحر، وترتفع الأمواج، وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا، خاشعًا ذليلاً، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
    «اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعِّبْه عليَّ حتى لا أجوزه». فتسكن الريح، ويَعْبُر هو ومَنْ معه[10]، وعند أول وصول له -والوفود تنتظره ليستقبلوه استقبال الفاتحين- يسجدُ لله شكرًا أنْ مكَّنَهُ من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًّا من جنوده U ومجاهدًا في سبيله[11].


    [1] النويري: نهاية الأرب، 23/266، 267، وابن الأثير: الكامل 8/445، 446.
    [2] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
    [3] ابن الخطيب: الإحاطة، 4/350.
    [4] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
    [5] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/186.
    [6] المقري: نفح الطيب، 4/359.
    [7] الحميري: الروض المعطار، ص288، والمقري: نفح الطيب، 4/359، والسلاوي: الاستقصا، 2/39.
    [8] الحميري: الروض المعطار، ص289.
    [9] انظر: ابن الأثير: الكامل، 8/446.
    [10] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص145، والسلاوي: الاستقصا، 2/34، وانظر رسالته إلى تميم بن باديس، نقلاً عن محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/447.
    [11] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/320.

    اترك تعليق:

يعمل...
X