إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الناصر

    رأينا كيف كان الوضع أواخر عهد الضعف من الإمارة الأموية، وكيف أن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت يرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأنها ما هي إلاَّ بضعة أشهر أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى الأندلسَ ويُحكِمُوا قبضتهم عليها.

    عبد الرحمن الناصر (277-350هـ= 891-961م)



    هو أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وأُمُّه أمُّ ولدٍ تُسمَّى (ماريا) أو (مرته أو مزنة)، وجِدُّه السادس هو عبد الرحمن بن معاوية الأموي - صقر قريش - وقد وُلِدَ في قُرْطُبَة وعاش بها.


    نشأ عبد الرحمن بن محمد يتيمًا؛ فعندما كان عُمرُه عشرين يومًا قَتَلَ عمُّه أباه؛ لأنه كان مؤهلاً للإمارة بعد أبيهما عبد الله الأمير السابع من أمراء الأمويين بالأندلس، وفتح الصبي عينيه على الدنيا ليجد الحياة قاتمة أمامه، ولم يكن البلاط الأموي المشغول بكثير من الأحداث -من ثورات داخلية ومطامع خارجية- لِيشغلَ نفسه بطفل صغير كهذا، غير أن جدَّه الأمير عبد الله -الذي اتصف بالورع والتقوى والتقشف وحب الناس، وكان على درجة عالية من التدين- هذا الجد هو الذي تولَّى تربيته، فنال الصبي الصغير نصيبًا كبيرًا من رعايته، وكان جزاءُ عَمِّه القتل، فقد قتله أبوه عبد الله، بعد أن تأكد من براءة أخيه مما اتُّهم به، ثم اهتم الأمير عبد الله بحفيده اهتمامًا كبيرًا وأولاه عناية خاصة[1]؛ ولعلَّ ذلك عطفٌ وشفقةٌ عليه بعد مقتل أبيه، ونشأ عبد الرحمن في هذا الجو المليء بالأحداث المتتابعة.

    وكان عبد الرحمن من ناحيته فتى شديد النجابة والنبوغ، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقًا في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسُّنَّة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، حتى كان جده يُرَشِّحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه، وهكذا تعلَّقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمرًا واضحًا مقضيًّا، بل يقال: إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده، وذلك بأن برئ بخاتمه إليه حينما اشتدَّ عليه المرض كإشارة باستخلافه[2].

    ولاية العهد لعبد الرحمن الناصر

    لا شَكَّ أن سيرة عبد الرحمن الداخل -الجد الأكبر لعبد الرحمن- كانت تلهمه، كما أن قصة تأسيسه للدولة الأموية بعد عناء وجهاد وإرادة فولاذية كانت نصب عين عبد الرحمن، وهو يخوض ما يمكن أن نُسَمِّيَه رحلة التأسيس الثاني.

    ومن الطرائف التي تندر في التاريخ أن أحدًا من أعمام عبد الرحمن، ولا من أعمام أبيه، حاول أن يعترضه في المنصب أو ينازعه فيه[3]، بل كانوا أول مَنْ بايعوه حتى تكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله قائلاً: «والله! لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنتُ أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد»[4].

    وقفات مع عبد الرحمن الناصر

    إن دراسة كافَّة جوانب حياة عبد الرحمن الناصر لَتحتاج إلى دراسة جادَّة متأنِّية، وعناية خاصَّة تَفُوق هذه السطور، إلا أن هناك بعض الإشارات العامَّة رأينا أن نقف أمامها بعض الشيء، فحينما تولى الحُكم كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنةً هجريةً[5]؛ أي: إحدى وعشرين سنةً ميلادية، وبِلُغَةٍ أخرى فهو طَالِبٌ بالفرقة الثالثة أو الرابعة بالجامعة في أيامنا هذه، هذه واحدة.

    أمَّا الثانية فإنه يُخطئ مَنْ يَظُنُّ أن تاريخ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يبدأ منذ هذه السن أو منذ ولايته هذه على البلاد، فقد رُبِّي عبد الرحمن الناصر منذ نعومة أظافره تربية قلَّما تتكرَّر في التاريخ.

    لم يكد يرى عبد الرحمن الناصر نورَ الدنيا حتى قُتِلَ أبوه، وهو بعدُ لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة أسابيع فقط؛ ومن ثَمَّ قام على تربيته جدُّه الأمير عبد الله بن محمد، فربَّاه –رحمه الله- ليقوم بما لم يستطع هو القيام به، ربَّاه على سعة العلم وقوة القيادة، وحب الجهاد، وحُسن الإدارة؛ ربَّاه على التقوى والورع، ربَّاه على الصبر والحلم وعلى العزة والكرامة، ربَّاه على العدل مع القريب والبعيد، ربَّاه على الانتصار للمظلوم، ربَّاه ليكون عبدَ الرحمن الناصر.

    وهي رسالة إلى كل آباء المسلمين وأُولي الأمر منهم: إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، وإذا كان كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه؛ فما بال تربية أبنائنا اليوم؟! هل نأمرهم بالصلاة عند سبع ونضربهم عليها عند عشر؟! هل نُحَفِّظ أبناءَنا القرآن، أم ندعهم يتعلمون اللغات فقط، ويحفظون الأغاني، وينشغلون بالكرتون؟! وتُرَى ما قدوة أولادنا الآن؟ وبمَنْ يتمثَّلون ويُريدون أن يكونوا مثلهم؟! أعباء ضخمة، ولكن: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[6].

    والثالثة أنَّ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- حين تولَّى الحُكم كان على ثقةٍ شديدةٍ بالله U، وفي الوقت ذاته على ثقةٍ شديدةٍ بنفسه، وأنه قادر على أن يُغَيِّر، فهو يعي قول الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. فلم يدخل قلبَه يومًا شكٌّ أو يأسٌ أو إحباطٌ من صعوبة التغيير أو استحالته، أو أنَّه لا أمل في الإصلاح.. فقام وهو ابن اثنين وعشرين عامًا، وحمل على عاتقه مهمَّة ناءت بها السموات والأرض والجبال؛ مهمَّة هي من أثقل المهام في تاريخ الإسلام.


    [1] ابن الأثير: الكامل، 6/467، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/156، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/265، 15/562، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/136.
    [2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/373.
    [3] رسائل ابن حزم 2/194.
    [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/374.
    [5] انظر: ابن الأثير: الكامل، 6/467، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/156، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/265، 15/562، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/136.
    [6] البخاري: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق 2416 عن عبد الله بن عمر، ومسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر 1829.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الأندلس قبل ولاية عبد الرحمن الناصر

    الأندلس أواخر عهد الضعف

    بعد اثنين وستين عامًا من الضعف الشديد، وبعدما تفاعلت عوامل السقوط مع بعضها البعض، نُلقي الآن نظرة عامَّة على طبيعة الوضع في بلاد الأندلس أواخر عهد الضعف في الإمارة الأموية؛ أي سنة (300هـ=913م)، ونُوَضِّح أهمَّ الملامح التي سادت هذا العصر، والتي كانت من فعلِ ونتاجِ عوامل الضعف.

    أولاً: كثرة الثورات داخل الأندلس

    كانت هناك ثورات لا حصر لها داخل الأندلس، بل واستقلالات في كثير من المناطق، والتي كان من أشهرها استقلال صمويل أو عمر بن حفصون؛ حيث استقلَّ بالجنوب وكوَّن ما يشبه الدُّوَيْلة، فضَمَّ إليه الكثير من الحصون، حتى ضمَّ كل حصون إِسْتِجَة وجَيَّان، التي كانت عند فتح الأندلس من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وكذلك كانت غَرْنَاطَة إحدى المدن التي في حوزته، والتي اتخذ لها عاصمة سمَّاها (بابشتر) وتقع في الجنوب بجوار ألمَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط[1].

    وكان من هذه الثورات الكبيرة -أيضًا- ثورة ابن حجاج في أشبيلية، وكانت هذه الثورة تمدُّ وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قُرْطُبَة[2].

    ومثلها كانت ثورة ثالثة في شرق الأندلس في منطقة بَلَنْسِيَة، ورابعة في منطقة سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي، حيث استقلَّت إمارة سَرَقُسْطَة -أيضًا- عن الإمارة الأموية في قُرْطُبَة، وخامسة في غرب الأندلس يقودها عبد الرحمن الجلِّيقي، وسادسة في طُلَيْطلَة، وهكذا ثورات وثورات أَدَّت في نهاية الأمر إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية في قُرْطُبَة لم تَعُدْ تُسيطر على كل بلاد الأندلس إلاَّ على مدينة قُرْطُبَة وحدها، إضافة إلى بعض القرى التي حوله[3].

    ومن ثَمَّ فقد انفرط العِقد تمامًا حتى سنة (300هـ= 913م)، وتوزَّعت الأندلس بين كثير من القوَّاد، كُلٌّ يحارب الآخر، وكُلٌّ يبغي مُلكًا ومالاً.

    ثانيًا: تكوُّن مملكة نافار



    ذكرنا -سابقًا- أنه كانت هناك مملكتان نصرانيتان؛ هما مملكة ليون في الشمال الغربي ومملكة أراجون في الشمال الشرقي وعاصمتها بَرْشُلُونَة، اللتان تكوَّنتا زمن ضعف المسلمين في عهد الولاة الثاني، وهنا وفي الفترة الثانية من فترتي الإمارة الأموية تكوَّنت في الشمال -أيضًا- مملكة نصرانية ثالثة كانت قد انفصلت عن مملكة ليون، وهي مملكة أو إمارة نافار، وتُكتَب في بعض الكتب العربية (نباره)، وتُعرَفُ الآن في إسبانيا بإقليم الباسك، ذلك الإقليم الذي يحاول الانشقاق عن إسبانيا.


    هذه الممالك النصرانية الثلاث بعد أن كانت تخاف المسلمين في العهد الأول للإمارة الأموية، تجرَّأت كثيرًا على البلاد الإسلامية؛ فهاجمت شمال الأندلس، وبدأت تقتل المسلمين المدنيين في مدن الأندلس الشمالية.

    ثالثًا: قتلُ ولي العهد محمد بن عبد الله

    أمر خطير آخر قد ظهر، وهو يُعَبِّرُ عن مدى المأساة والفتنة في ذلك الوقت، وهو أنَّ وَلِيَّ العهد للأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قتله أخوه المطرف بن عبد الله، وكان ولي العهد هذا يُسمَّى محمد بن عبد الله، فأصبح الوضع من الخطورة بمكان[4].

    وهكذا يكون الحال حين يختلف المسلمون ويتفرَّقون، وحين ينشغلون بدنياهم وبزريابهم وبأنفسهم؛ حكومات نصرانية في الشمال تهاجم المسلمين، ثورات واستقلالات في الداخل، قتلٌ لولي العهد القادم، بلاد إسلامية واسعة بغير ولي عهد في هذه المرحلة الحرجة.

    رابعًا: ظهور نجم الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية

    زادت الأمور تعقيدًا في بلاد الأندلس بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب، كانت من أشدِّ الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة المسمَّاة بالفاطمية، واسمها الصحيح الدولة العبيدِية.

    ظهرت الدولة العبيدية في بلاد المغرب العربي سنة (296هـ= 909م)؛ أي: قبل سنة (300هـ=913م) [5] (نهاية الفترة الثانية من الإمارة الأموية) بأربع سنوات فقط، وكانت دولةً شيعيةً خبيثةً؛ همُّها الأول قَتْل علماء السُّنَّة في بلاد المغرب العربي، ومحاولة نشر نفوذها في هذه المنطقة، فانتشرت بصورة سريعة من بلاد المغرب إلى الجزائر وتونس، ثم إلى مصر والشام والحجاز وغيرها.
    وأعلن ابن حفصون الطاعة لعبيد الله المهدي[6]، ولا شَكَّ أن ذلك لم يكن حبًّا في العبيدين؛ ولكن احتياجًا لمددهم وأموالهم.

    خامسًا: تَردِّي الأوضاع في بقية أقطار العالم الإسلامي

    إذا تخطَّيْنَا بلاد الأندلس وألقينا نظرة على مجمل أقطار العالم الإسلامي في الشرق والغرب وجدنا ما يلي:
    مصر والشام يحكمها الإخشيديون، الموصل يحكمها ابن حمدان، البحرين واليمامة يحكمها القرامطة، أصبهان يحكمها بنو بويه، خراسان يحكمها نصر الساماني، طبرستان يحكمها الدَّيْلَم، الأهواز يحكمها البُريديون، كرمان يحكمها محمد بن إلياس، الدولة العباسية أو الخلافة العباسية لا تحكم إلاَّ بغداد فقط، ولا تبسط سيطرتها حتى على أطراف العراق.

    هكذا كان الوضع في أقطار العالم الإسلامي؛ لم يكن هناك أيُّ أمل في أيِّ مدد إلى بلاد الأندلس؛ حيث كانت كلها أقطار مشتتة ومفرقة، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

    المنحة في ظل المحنة

    وإن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت ليرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأن ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويُحكِموا قبضتَهم عليها، ولن تُنقَذَ إلاَّ بمعجزة جديدة مثل معجزة عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-.

    وبالفعل فإن الله I بمنِّه وجُودِه أنعم على المسلمين بتلك المعجزة للمرَّة الثانية، فمَنَّ عليهم بأمير جديد، وحَّد الصفوف وقوَّى الأركان، وأعلى من شأن بلاد الأندلس حتى أصبحت في عهده أقوى ممالك العالم على الإطلاق، وأصبح هو أعظم ملوك أوربا في زمانه بلا منازع، إنه عبد الرحمن الناصر.


    [1] لمزيد من التفاصيل، انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 24/38، وما بعدها.
    [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/125.
    [3] انظر بعض تفصيل ذلك عند ابن عذاري: البيان المغرب، 2/133.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/150.
    [5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 6/446.
    [6] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/135.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعف

    فترة الضعف في الإمارة الأموية



    بوفاة عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية، ويبدأ من سنة (238هـ=852م) وحتى سنة (300هـ=913م) أي حوالي اثنتين وستين سنة.


    فلقد تولَّى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، ثم اثنان من أولاده؛ هما: المنذر وعبد الله، وحقيقة الأمر أن الإنسان لَيَتَعجَّب: كيف بعد هذه القوَّة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وذلك الانحدار؟!

    فمن سُنن الله تعالى أن الأمم لا تسقط فجأة، بل يأتي السقوط متدرِّجًا وعلى فترات طويلة، ففي عهد الولاة الثاني ظهرت أسباب الضعف؛ منها:
    أولاً: انفتاح الدنيا وحبُّ الغنائم.
    ثانيًا: القَبَلِيَّة والقومية.

    ثالثًا: ظلم الولاة.

    رابعًا: ترك الجهاد.

    وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوَّة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.

    إذًا لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف، والأمراض التي أدَّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني.

    عوامل وأسباب ضعف الإمارة الأموية

    كان من أهمِّ أسباب ضعف الإمارة الأموية ما يلي:
    أولاً: كثرة الأموال وانفتاح الدنيا على المسلمين

    من جديد كانت الدنيا قد انفتحت على المسلمين، وكثرت الأموال في أيديهم، وقد زاد هذا بشدَّة في أواخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد ازدهرت التجارة كثيرًا، ولم يُوجد هناك في البلاد فقير، وفُتِنَ الناسُ بالمال، وتكرَّر ثانية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[1]. وقال -أيضًا-: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»[2] وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدنيا مِرارًا وتكرارًا وقلَّل من قيمتها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم : «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ[3] فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» [4].

    ثانيًا: زِرْياب

    اسم ليس بغريب لكنه كان كدابَّة الأرض التي أكلت مِنْسأَةَ سليمان u؛ فسقط جسده على الأرض؛ زِرْياب هذا كان من مطربي بغداد، تربَّى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء؛ حيث كان يُغَنِّي لهم ويُطربهم، وكان مُعَلِّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت[5].

    ومع كرِّ الأيام ومرِّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبَّر له مكيدة فطُرِدَ من البلاد، أو أنه هدَّده فهرب زرياب من نفسه دون مكائد كما في روايات أخرى.

    وكانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًّا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد زرياب ضالَّته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، كما تكون -أيضًا- أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم[6].

    وغالب الأمر أن الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلاَّ أن زرياب ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظَّمُوه وأحسنوا وِفَادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامَّة ونواديهم، فأخذ يُغَنِّي للناس ويُعَلِّمهم ما قد تَعَلَّمَه في بغداد، ولم يكتفِ زرياب بتعليمهم الغناء وتأليف ما يُسمَّى بالموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يُعَلِّمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصَّة بكل مناسبة من المناسبات العامَّة والخاصَّة[7].

    ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من زرياب ويَتَعَلَّمُون؛ خاصَّة وأنه قد بدأ يُعَلِّمهم -أيضًا- فنون الطعام كما عَلَّمَهُم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات، وما إلى ذلك حتى تعلَّق الناس به بشدَّة، وتعلَّق الناس بالغناء، وكَثُرَ المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث وهكذا.

    الغريب أن دخول زرياب إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي اهتمَّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه -ويا للأسف- ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور، وينخر في جسد الأُمَّة دون أن يدري أحدٌ.

    ففي الوقت الذي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثُرَ العلماء، كان كلام زرياب المنمَّق وإيقاعه الرَّنَّان يصرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، ويصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل - والله - لقد انصرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلُّق بلهوه ومجونه.

    وليس هذا بعجيب أو جديد؛ ففي بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وحين رآه النضر بن الحارث -وكان من رءوس الكفر- يخاطب الناس بالقرآن فيتأثَّرُون ويؤمنون بهذا الدين، ما كان منه إلاَّ أن قطع أميالاً طويلة وذهب إلى بلاد فارس، وقضى هناك فترة طويلة يتعلَّم حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلَّم الأساطير الفارسية، ثم اشترى قينتين (مغنيتين) وعاد إلى مكة، وفي مكة كان النضر بن الحارث يقوم بحرب مضادة للدعوة الإسلامية، فكان إذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له القينتين تُغَنِّيانِه ما كان في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار؛ حتى يُلهياه عن هذا الدين، وظلَّ على هذا النحو، وأنزل الله I فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
    وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها ما نزلت إلاَّ في الغناء[8].

    وهكذا؛ فالشيطان لا يهدأ ولا ينام حتى في وجود هذه النهضة العلمية؛ {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17].
    وكلما زاد الاهتمام بالدين، وارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وتعلَّقت قلوبهم بالمساجد، نشط الشيطان، وزادت حركته عن طريق زرياب ومَن سار على نهجه.

    وإنه بالرغم من مرور أكثر من ألفٍ ومائتي عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد شمال إفريقيا، فلم يسمع الكثير من الناس عن السَّمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم -رحمهما الله- ولم يسمعوا عن عُقبَة بن الحجاج، أو سيرة عبد الرحمن الداخل، أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قادة المسلمين في فارس والروم وفي بلاد إفريقيا والأندلس؛ لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تُغنَّى في تونس والمغرب والجزائر، وما زالت تُدرَّس سيرته الذاتية هناك على أنه رجل من قوَّاد التنوير والنهضة، ويُمَجَّد في حربه ضدَّ الجمود وكفاحه من أجل الفنِّ، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومَنْ سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    ثالثًا: عمر بن حفصون

    عمر بن حفصون (240-306هـ=855-919م) كان مسلمًا من المولَّدين؛ أي: من أهل الأندلس الأصليين، كان عمر بن حفصون قاطعًا للطريق، وكان يتزعَّم عصابة من أربعين رجلاً، وحين بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله زاد حجمه، واشتدَّ خطره، وبدأ يثور في منطقة الجنوب؛ حتى أرهب الناس في هذه المنطقة، وأخذ يجمع حوله الأنصار فتوسَّع سلطانه كثيرًا، فسيطر على كل الجنوب الأندلسي.

    وفي سنة (286هـ=899م) قام عمر بن حفصون بعملٍ لم يتكرَّر كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفة عامَّة وتاريخ الأندلس بصفة خاصَّة؛ فلكي يُعَضِّد من قوَّته في آخر عهده، وبعد اثنين وعشرين عامًا من ثورته انقلب على عقبيه وتحوَّل من الإسلام إلى النصرانية، وسمَّى نفسه صمويل؛ وذلك بهدف كسب تأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال، وهو وإن كان قد تركه بعض المسلمين الذين كانوا معه إلاَّ أنه نال بالفعل تأييد مملكة ليون، في الوقت الذي تزامن مع توقُّف الجهاد في ممالك النصارى[9].

    بدأت (مملكة ليون) تتجرَّأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال وعمر بن حفصون أو صمويل يُهاجمها من جهة الجنوب.


    [1] البخاري: كتاب الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961 عن عمرو بن عوف واللفظ له.
    [2] الترمذي: كتاب الزهد، باب أن فتنة هذه الأمة في المال 2336، وقال: صحيح غريب. وأحمد 17506، وابن حبان 3223، والحاكم 7896، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
    [3] أشار أحد رواة الحديث بِالسَّبَّابَةِ.
    [4] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 2858 عن المستورد بن شداد، وأحمد 18037، وابن حبان 6265.
    [5] المقري: نفح الطيب، 3/123.
    [6] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/123.
    [7] انظر مزيدًا من التفاصيل في المقري: نفح الطيب، 1/133.
    [8] انظر: الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، 20/127، والبغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، 6/284، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 14/53، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 6/332.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/139.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الثاني ( عبد الرحمن الأوسط )

    ولاية عبد الرحمن الأوسط


    بعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].


    قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات... وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي ، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3] الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].

    عهد عبد الرحمن الثاني

    ومن أهم ما تميَّز به عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية:
    أولاً: ازدهار الحضارة العلمية

    ومن أشهر العلماء في عصر عبد الرحمن الأوسط عباس بن فرناس -رحمه الله- (274 هـ=887م)، وكنيته أبو القاسم، وهو من أهل قُرْطُبَة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الأوسط (في القرن التاسع للميلاد)، وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273هـ)، وكان فيلسوفًا شاعرًا، له علم بالفلك[5].

    وهو أول مَنِ استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومَثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وهو أول طيار اخترق الجوَّ؛ أراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدَّ له جناحين طار بهما في الجوِّ مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذَّى في ظهره؛ لأنه لم يعمل له ذنبًا، ولم يَدْرِ أن الطائر إنما يقع على زِمِكِّه[6].

    ولكنه -برغم هذه المحاولة الرائدة التي فشلت- كان عبقرية هائلة؛ حتى إن الصفدي بَعْدَ كثيرٍ من المدح له يصفه بأنه «له شخص إنسي وفطنة جني»[7].

    ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية

    اهتمَّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا[8]، فازدهرت حركة التجارة في عهده؛ ومن ثَمَّ كثُرت الأموال[9]؛ ومن المهم أن نعلم أن بلاد الأندلس لم يكن فيها ما نُسَمِّيه بـ «التسوُّل»، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى؛ لكنها لم تُعرَف في بلاد الأندلس[10].

    كذلك تقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده –رحمه الله[11].

    ثالثًا: وقف غزوات النورمان

    النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضمُّ الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة؛ فقد كانوا يعيشون على ما يُسَمَّى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عُرِفَت باسم «غزوات الفايكنج»، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرِّقة من بلاد العالم، ليس لها من هَمٍّ إلاَّ جمع المال وهَدْم الديار.

    جهاد عبد الرحمن الأوسط

    في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230هـ=845م) هجمت هذه القبائل على إِشْبِيلِيَة من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، ودخلوها فأفسدوا فسادًا كبيرًا، ودمَّروا إِشْبِيلِيَة تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراضها، ثم تركوها إلى شَذُونة وألمَرِيَّة ومُرْسِيَة وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب، وعمَّ الفزع[12]، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامَّة، وشتَّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم!

    فلمَّا علم عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- بهذا الأمر ما كان منه إلاَّ أن جهَّز جيشه وأعدَّ عُدَّته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أُغرِقَت خلالها خمسٌ وثلاثون سفينةً للفايكنج، ومنَّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين[13].

    ولم يجنح عبد الرحمن الأوسط بعدها إلى الدَّعَة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:
    أولاً: رأى أن إِشْبِيلِيَة تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبُّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًّا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إِشْبِيلِيَة، فقام بإنشاء سور ضخم حول إِشْبِيلِيَة، وحصَّنها تحصينًا منيعًا، ظلَّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة[14].

    ثانيًا: لم يكتفِ بذلك بل قام -أيضًا- بإنشاء أسطولين قويين؛ أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك حتى يُدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.

    وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية[15]، وكذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمَّلة بالهدايا تطلب وُدَّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم.
    وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا[16].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/81.
    [2] مجهول: أخبار مجموعة، ص122.
    [3] تملَّى: أي عاش طويلاً واستمتع بالشيء. ابن منظور: لسان العرب، مادة ملا 15/290.
    [4] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/84.
    [5] الصفدي: الوافي بالوفيات، 16/380.
    [6] المقري: نفح الطيب، 3/374، وزِمِكّ الطائر: ذيله وذنبه. ابن منظور: لسان العرب، مادة زمك 10/436، والمعجم الوسيط 1/400.
    [7] الصفدي: الوافي بالوفيات، 16/380.
    [8] المقري: نفح الطيب، 1/347.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/91.
    [10] قال المقري: «وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدروزة التي تكسل عن الكد، وتحوج الوجوه للطلب في الأسواق، فمستقبحة عندهم إلى نهاية، وإذا رأوا شخصًا صحيحًا قادرًا على الخدمة يطلب سَبُّوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه؛ فلا تجد بالأندلس سائلاً إلاَّ أن يكون صاحب عذر». نفح الطيب، 1/220، والفقراء هنا هم الصوفية.
    [11] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/91، والمقري: نفح الطيب، 1/347.
    [12] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/87.
    [13] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/87، 88.
    [14] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/261، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/84، والحميري: صفة جزيرة الأندلس، ص20.
    [15] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/89، وكنا قد ذكرنا أن الذي فتحها للمرة الأولى كان موسى بن نصير ~؛ وذلك قبل فتح الأندلس سنة 91هـ=710م، ثم سقطت في أيدي النصارى في عهد الولاة الثاني حين انحدر حال المسلمين آنذاك، ثم سيطر عليها الفايكنج، وهنا وفي سنة 234هـ=849م تم فتحها ثانية.
    [16] المقري: نفح الطيب، 1/346.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الحكم بن هشام ( الحكم الربضي )

    ولاية الحكم بن هشام



    تولَّى بعد هشام بن عبد الرحمن الداخل ابنه الحكم الشهير بالحكم الربضي، وذلك من سنة (180هـ=796م) وحتى سنة (206هـ=821م) [1]، لكن الحكم لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جدِّه، فكان قاسيًا جدًّا، فرض الكثير من الضرائب، واهتمَّ بالشِّعر والصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ حتى وصل الأمر في آخر حياته إلى حرق بيوت الثائرين عليه، ونفيهم خارج البلاد[2].


    ثورة الربض

    من أشهر الثورات التي قمعها الحكم بن هشام – الحكم الربضي- ثورة الربض (202 هـ= 808 م) وهم قومٌ كانوا يعيشون في إحدى ضواحي قُرْطُبَة، وقد ثار أهلها ثورة كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرة الخمر، وتشاغله باللهو والصيد، وقد زاد من نقمة الشعب عليه قتله لجماعة من أعيان قُرْطُبَة؛ فكرهه الناس، وصاروا يتعرَّضون له ولجنده مما حثَّه على تحصين قرطبة، فأقام حولها الأسوار، وحفر الخنادق، وجعل جنوده على مقربة منه؛ فزاد ذلك من حقد أهل قُرْطُبَة عليه، وزاد توجُّسهم منه، ثم حدث أن مملوكًا له اختلف مع أحد العوامِّ فقتله؛ فثار أهل الربض، وزحفوا إلى قصره وأحاطوا به فقاتلهم قتالاً شديدًا هو وجنده حتى تغلَّب عليهم[3].

    ولم يكتفِ الحكم بهزيمتهم، بل أحرق وخرَّب ديارهم، وقتل ثلاثمائة من وجهائهم وصلبهم، وأمر بطردهم خارج البلاد[4]؛ فتفرَّقوا في البلاد ومنهم مَنْ ذهب إلى الإسكندرية في مصر، وأقاموا فيها فترة ثم ارتحلوا عنها إلى جزيرة كريت، فأقاموا فيها دويلة عام (212هـ=728م) استمرَّت مائة عام حتى استولى عليها البيزنطيون من بعد[5].
    الجهاد في عهد الحكم بن هشام

    ورغم أفعاله تلك إلاَّ أن الحكم بن هشام لم يُوقِفْ حركة الجهاد[6]؛ وذلك لأن الجهاد كان عادة في الإمارة الأموية؛ سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، لكن كانت له انتصارات وهزائم في الوقت نفسه، وكنتيجة طبيعية لهذا الظلم الذي اتَّصف به، وهذه العلاقة التي ساءت بين الحاكم والمحكوم سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ فسقطت بَرْشُلُونَة، وأصبحت تُمثِّل إمارة نصرانية صغيرة في الشمال الشرقي عُرِفَت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد[7].

    لكن الحكم بن هشام بفضل من الله ومَنٍّ عليه تاب عن أفعاله في آخر عهده، ورجع عن ظلمه، واستغفر واعتذر للناس عن ذنوبه، ثم اختار من أبنائه أصلحهم، وإن لم يكن الأكبر؛ ليكون وليًّا لعهده، وكان من حُسْنِ خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهذه التوبة وهو في كامل قوَّته وبأسه، وذلك قبل موته بعامين[8].


    [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/68، والمقري: نفح الطيب، 1/339.
    [2] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/413، والمقري: نفح الطيب، 1/339.
    [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/413، 414.
    [4] المصدر السابق، 5/414.
    [5] المصدر السابق، 5/480، وتاريخ ابن خلدون، 3/253.
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/72.
    [7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/322، 323.
    [8] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، 1/43.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    هشام بن عبد الرحمن الداخل ( هشام الرضا )

    ولاية هشام بن عبد الرحمن الداخل



    كان عبد الرحمن الداخل قد استقرَّ أمره على ابنه هشام خليفة له، فولاَّه العهد مع كونه أصغر من أخيه سليمان، فلقد كان أكفأ منه وأفضل، ولقد صدق حَدْسُه فيه؛ حيث كان الناس يُشبِّهونه بعد ذلك بعمر بن عبد العزيز t في علمه وعمله وورعه وتقواه.

    الفتنة بين أولاد عبد الرحمن الداخل


    وكان هشام بن عبد الرحمن - هشام الرضا- بمَارِدَة عند موت أبيه، وقد عاد منها إلى قُرْطُبَة بعد ستة أيام من وفاة أبيه، فبايعه العوامُّ ورجال الدولة، وكان ذلك سنة 172هـ= 788م، وكان أخوه سليمان بطُلَيْطلَة، فلما علم سليمان بالأمر غضب، وأعلن الثورة على أخيه، وجهَّز بالفعل جيشًا توجَّه به لقتال أخيه في قُرْطُبَة، فخرج إليه هشام بن عبد الرحمن الداخل والتقيا في جَيَّان، ودارت بينهما حرب شديدة انتهت بهزيمة سليمان، ففرَّ عائدًا إلى طُلَيْطِلَة
    [1].

    وكان لهشام أخٌ آخر يُسَمَّى عبد الله، وكان هشام يُحسن معاملته، ولكن يبدو أن عبد الله قد طمع فيما هو أكثر من ذلك، ففرَّ إلى أخيه سليمان في طُلَيْطِلَة، فلمَّا علم هشام بالأمر أشفق على عبد الله فأرسل له مَنْ يَرُدُّه ويترضَّاه، إلاَّ أن الرسول لم يلحق به
    [2].

    ولم يبقَ أمام هشام إلاَّ أن يُبادر إلى أخيه سليمان -كما كان يفعل أبوه- قبل أن يبدأه سليمان -كما فعل من قبل- ويحاول هو مهاجمة قُرْطُبَة، وبالفعل خرج إلى طُلَيْطِلَة وحاصرها فترة، فحاول سليمان أن يستغلَّ الفرصة وفرَّ منها إلى
    قُرْطُبَة؛ ليستوليَ عليها في غياب أخيه، ولكن أهلها حاربوه، فحاول الاستيلاء على مَارِدَة؛ لأنها قريبة من قُرْطُبَة، ليستطيع تهديد قُرْطُبَة منها إلاَّ أن واليها استطاع ردَّه عن مَارِدَة، فهرب إلى مُرْسِيَة ثم إلى بَلَنْسِيَة، وأخوه يُطارده، فلمَّا دبَّ اليأس إلى نفسه، طلب الأمان، فأمنَّه وكان قد أمَّن عبد الله قبله، وتركهما يرحلان إلى بلاد الشمال الإفريقي[3].


    عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل


    وقد كان هشام بن عبد الرحمن الداخل –هشام الرضا- عالِمًا محبًّا للعلم، وقد أحاط نفسه –رحمه الله-
    بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها، وقد أخذ ذلك منه مجهودًا وافرًا وعظيمًا، حتى أصبحت اللغة العربية تُدرَّس في معاهد اليهود والنصارى داخل أرض الأندلس[4].

    ومن أبرز التغيرات الجوهرية التي تمَّت بالأندلس في عهد هشام انتشار
    المذهب المالكي فيها، وقد كانت البلاد من قبل ذلك على مذهب الإمام الأوزاعي[5].

    وكانت لهشام صولات وجولات كثيرة في الشمال مع الممالك النصرانية
    [6].

    وكان من علماء عصره صعصعة بن سلامة الشامي، وكان المفتي أيام عبد الرحمن الداخل، وفي بداية عهد هشام بن عبد الرحمن، كما ولي الصلاة بقُرْطُبَة، وروى عنه عبد الملك بن حبيب وعثمان بن أيوب
    [7]، كما كان من المحدثين في أيامه عبد الرحمن بن موسى، وقد روى عنه أصبغ بن خليل وغيره، وقد توفي هو وصعصعة بن سلامة أيام هشام بن عبد الرحمن الداخل[8].

    وفاة هشام بن عبد الرحمن الداخل


    وتوفي هشام بن عبد الرحمن الداخل -هشام الرضا- في صفر 180هـ= إبريل 796م فكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر، وتوفي –رحمه الله- وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودُفِنَ في القصر، وصلَّى عليه ابنه الحكم
    [9].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/61، وتاريخ ابن خلدون، 4/124.
    [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/284، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/62، وتاريخ ابن خلدون، 4/124.
    [3] تاريخ ابن خلدون، 4/124.
    [4] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص310.
    [5] المقري: نفح الطيب، 2/46.
    [6] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/64، والمقري: نفح الطيب، 1/337.
    [7] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص75.
    [8] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/300.
    [9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/65، والمقري: نفح الطيب، 1/338.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المشاركة الأصلية بواسطة ابو فيصل الحربي مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيك اخوي الغالي ابو ابراهيم

    ولقد امتعتنا بهذا الموضوع التاريخي في هذه البقعة من الارض

    والتي كانت بها صولات وجولات من الثقافة الاسلامية

    جزاك الله خيرا
    وبكم بارك الرحمن اخي
    اشكر وجودك بين طيات موضوعي

    المتعة الحقيقية لم تنتهي بعد من هذا الموضوع الشيق عن هذا المجد السليب اخي
    وكما قال الكاتب ( لنقرأ كيف تقام الأمجاد وكيف تضيع )
    لنتابع سويا ذلك المجد المفقود الذي سيظل عنوانا للحضارة الإسلامية على مر التاريخ
    فالموضوع لم تنتهي حلقاته بعد

    تحياتي لكم

    اترك تعليق:


  • ابو فيصل الحربي
    رد
    بارك الله فيك اخوي الغالي ابو ابراهيم

    ولقد امتعتنا بهذا الموضوع التاريخي في هذه البقعة من الارض

    والتي كانت بها صولات وجولات من الثقافة الاسلامية

    جزاك الله خيرا

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الإمارة الأموية في الأندلس

    الإمارة الأموية



    ظلَّ عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (172هـ=788م) أي قُرابَةَ أربعةٍ وثلاثين عامًا -كما ذكرنا- وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية، والتي استمرَّت من سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (316 هـ=928م).


    وحتى نستطيع أن نفهم عهد الإمارة الأموية يمكنُنا تقسيمه إلى فتراتٍ ثلاثٍ كما يلي:
    الفترة الأولى: فترة القوة

    واستمرَّت مائة عام كاملة (138-238هـ= 755-852م)، وتُعتَبَر هذه الفترة هي فترة القوَّة والمجد والحضارة، وكانت فيها الهيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق.

    الفترة الثانية: فترة الضعف

    وتُعَدُّ فترة ضعف، وقد استمرَّت اثنين وستين عامًا (238-300هـ=852-913م).

    الفترة الثالثة: فترة الانتقال للخلافة الأموية

    وهي ما بعد سنة (300هـ=913م)، وحتى (316 هـ)، وهي فترة التأسيس والانتقال لعصر الخلافة الأموية.

    الفترة الأولى: فترة القوة

    تُمَثِّل هذه الفترة عهد القوَّة في فترة الإمارة الأموية؛ كانت البداية فيها لعبد الرحمن الداخل -رحمه الله- ثم خَلَفَه من بعده ثلاثة من الأمراء، كان أوَّلهم هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقد حكم من سنة (172هـ=788م) حتى سنة (180هـ=796م) [1].


    [1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/334.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الداخل .. القائد والإنسان

    عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ



    لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.


    مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
    «كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].

    شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.

    ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
    ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].

    إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.

    وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.

    عبد الرحمن الداخل.. الإنسان

    مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.

    وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.

    قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
    يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي

    فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
    فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ

    عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
    لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ

    مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
    لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي

    بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]

    ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
    أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي

    أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
    إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ

    وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
    قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا

    فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]

    عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري

    تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.

    ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
    أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة

    فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.

    ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.

    ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف

    وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.

    حياة صقر قريش في سطور

    لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.

    وفاته

    عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].


    [1] المقري: نفح الطيب، 3/37.
    [2] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/37.
    [3] المصدر السابق، 3/39.
    [4] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/41، 42.
    [5] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/37.
    [6] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، 242، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/36.
    [7] المقري: نفح الطيب، 3/33.
    [8] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/58، والمقري: نفح الطيب، 3/48.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الداخل وبناء دولة الأندلس

    حين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بما يأتي:
    أولاً: إنشاء جيش قوي

    وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
    1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية

    أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
    ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].

    ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.

    وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.

    2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة

    أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.

    3- إنشاء أسطول بحري قوي

    أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.

    4- تقسيم ميزانية الدولة

    كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.

    ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ

    أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
    - نَشْر العلم وتوقير العلماء.
    - اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
    - اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    - كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].

    وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].
    وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].

    ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي

    ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
    - اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.

    - إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].

    رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء

    بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
    المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:
    - الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
    - الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
    - الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
    المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
    [2] المقري: نفح الطيب، 3/36.
    [3] المصدر السابق، 3/36.
    [4] المصدر السابق، 3/49.
    [5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/229، والمقري: نفح الطيب، 1/545.
    [6] أبو الحسن النبهاني: تاريخ قضاة الأندلس، 1/43.
    [7] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/191.
    [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/280، والمقري: نفح الطيب، 1/467.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    صقر قريش وثورة العباسيين

    عبد الرحمن الداخل



    بعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله قُرْطُبَة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا[1]، فكان له الكثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس، وعُرِفت الفترة التي تلت دخوله قُرْطُبَة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ=755م وتنتهي سنة 316هـ=928م، وسُمِّيت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية؛ سواء كانت في عصر الدولة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.


    وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، ورث بعضها وبعضها الآخر ثار عليه، وبصبر شديد وأناة عجيبة، أخذ عبد الرحمن الداخل يُرَوِّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وتعامل مع كلٍّ منها بما يتوافق معها؛ فاستمال مَنِ استطاع من الثائرين، وحارب الباقين.

    ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138هـ=755م وحتى سنة 172هـ=788م [2]- قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.

    الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل

    تَعَرَّضَتِ الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلَّب عليها جميعًا؛ ومن هذه الثورات:
    ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني، وثورة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143هـ=760م [3]، وثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ=761م [4]، وثورات أخرى تتابعت عليه من سنة 144هـ إلى سنة 146هـ، وثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ=763م [5]، وثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149هـ=766م [6]، وثورة أبي الصباح حيِّ بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ=766م [7]، وثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي سنة 151هـ=768م [8]، وثورة اليمانية في إِشْبِيلِيَة بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 156هـ=773م [9]، وثورة سليمان بن يقظان في بَرْشُلُونَة سنة 157هـ=774م [10]، وثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161هـ=777م [11]، وثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166هـ=782م [12]، وثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168هـ=784م [13]، وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، ولكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها.

    صقر قريش وثورة العباسيين

    ولن نقف إلاَّ أمام ثورة واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146هـ=763م؛ أي: بعد حوالي ثمان سنوات من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي[14].

    وكان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح، قد رَاسَلَ العلاء بن مغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية؛ ومن ثَمَّ يضمُّ الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية[15].

    وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورة يدعو فيها للعباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور[16].

    ولم يتوانَ عبد الرحمن الداخل عن محاربته، فقامت لذلك حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن الداخل، وانتصر عبد الرحمن الداخل كعادته في قمع الثورات، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور -وكان في الحجِّ- بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتِل.
    وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتَلْنَا هذا البائس. يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع، يعني: عبد الرحمن الداخل، الحمدُ لله الذي جعل بيننا وبينه البحر[17].

    وكفَّ أبو جعفر من ساعتها عن التفكير في استعادة بلاد الأندلس.

    صقر قريش

    يعد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمَّى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وهو اللقب الذي اشتُهِرَ به بعد ذلك.

    فقد ذُكِرَ أن أبا جعفر المنصور قال يومًا لبعض جلسائه: أخبروني: مَنْ صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء.
    قال: ما قلتم شيئًا!
    قالوا: فمعاوية (معاوية بن أبي سفيان)؟ قال: لا.
    قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئًا.
    قالوا: يا أمير المؤمنين؛ فمَنْ هو؟
    قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا، منفردًا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدَّة شكيمته، إنَّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلَّلا له صعبه؛ وعبدُ الملك ببيعة أُبْرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عِتْرَته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيَّدٌ برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين.
    فقال الجميع: صدقتَ والله! يا أمير المؤمنين[18].

    وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًّا بعبد الرحمن الداخل، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.

    عبد الرحمن الداخل والخلافة العباسية:

    تُثير قضية هذا الانفصال الطويل الذي دام بين الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرِّ العصور عدَّة تساؤلات في نفوس جميع المسلمين؛ فلماذا ينفصل عبد الرحمن الداخل -الرجل الورع التقيُّ الذي أقام دولة قوية في بلاد الأندلس- بالكلية عن الخلافة العباسية؟!

    ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحقِّ الأمويين؛ وذلك بقتلهم وتَتَبُّعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقُّوا الاستبدال فليكن تغييرُهم، وَلْيَكُن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا قتل وسفك للدماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

    كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صُقْع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.

    فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدَّث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المصارة، ويقول لهم حين أرادوا أن يَتَتَبَّعُوا الفارِّين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم[19]. ليضمَّهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم؛ حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدًّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.

    عفو الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة

    وهذا -أيضًا- المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا فعل بعد أن دخل مكة، وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها؟! وماذا قال عن أبي سفيان وهو مَنْ هو قبل ذلك؟! ما كان منه إلاَّ أن دخل متواضعًا، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[20]. أليس أبو سفيان هذا هو زعيم الكفر وزعيم المشركين في أُحُدٍ والأحزاب؟! فلماذا إذًا يقول عنه مثل هذا؟! إنما كان يُريد أن يخطب وُدَّه، ويضمَّه إلى صفِّه، وبالمثل فعل الرسول مع رءوس الكفر في مكة حين قال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. فرَدَّ عليهم بمقولته التي وعاها التاريخ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[21].

    وليس هذا من كرم الأخلاق فحسب، لكنه -أيضًا- من فنِّ معاملة الأعداء، وحُسْنِ السياسة والإدارة، فَلْنتخيَّلْ ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحَدَّ وقطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنواتٍ وسنواتٍ؟! بلا شكٍّ كان سيُحدِث جيبًا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الأخرى للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللانفصال عن الدولة الإسلامية.

    لكن العجب العُجَاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فقد ارتدَّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبقَ على الإسلام منها إلاَّ المدينة ومكة والطائف، وقرية صغيرة تُسَمَّى هجر، ثلاث مدن وقرية واحدة فقط؛ أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلاَّ قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات فقط كانت في تعداد هذه المدن القليلة التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شكٍّ فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يَنْسَوْه، فكان أن استُوعِبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزَّيْغِ.

    وكان هذا ما سيتكرَّر لو فعل العباسيون مثله واستوعبوا الأُمَوِيين في داخل الدولة العباسية؛ ولأنهم لم يفعلوا ذلك فكان أن اضْطُرَّ مَنْ نجا من الأمويين للذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.

    وواقع الأمر يقول: إنه لو كان عبد الرحمن الداخل يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يَعفو عنه ويُعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سَلَّم الأمرَ إليه فلربما كان يفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومَنْ معه من الأمويين إن كانوا مرشَّحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًّا، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قِبَلِ الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شكَّ أن الدولة العباسية قد غيَّرت كثيرًا من نهجها الذي اتَّبَعَتْهُ أولاً، وتولَّى بعد ذلك رجالٌ كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيَّر ما بدأه تمامًا، لكن كانت هناك قسوة شديدة في البَدْء؛ بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمَنْ يحاول الالتفاف على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائمًا هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تَعُدْ مددًا للمسلمين طيلة عهدها؛ فالعنف في غير محلِّه لا يُورِثُ إلاَّ عنفًا، وطريق الدماء لا يُورث إلاَّ الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلاَّ من سبيل واحد فقط؛ إنه الطريق المستقيم طريق الله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].

    وقفة مع عبد الرحمن الداخل في قضائه على الثائرين

    ذكرنا -فيما سبق- أنه في خلال الأربع والثلاثين سنةً الممتدَّة من بداية حكم عبد الرحمن الداخل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورةً في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا -أيضًا- كيف روَّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمِّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمَّ القضاء عليها.

    وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الداخل أن يُقاتِل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
    وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ أي: مجتمع عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[22].

    ومن هنا فقد كان موقف عبد الرحمن الداخل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكرِّرَة، والتي تُضعِف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد، إلاَّ أنه من الإنصاف أن نذكر أنه –رحمه الله-كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلاَّ إذا كان مضطرًا.

    وبلا شكٍّ فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًّا؛ ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس 138-142هـ=755-759م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبعٍ وأربعين سنةً متصلة، منذ أيام موسى بن نصير / وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سُنن الله الثوابت، فما أن شُغِل المسلمون بأنفسهم إلاَّ وكان التقلُّص والهزيمة أمرًا حتميًّا.


    [1] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/122، والمقري: نفح الطيب، 1/329.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، ص41، والمقري: نفح الطيب، 1/333.
    [3] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص92، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/136.
    [4] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص95، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
    [5] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/51.
    [6] مجهول: أخبار مجموعة، ص96، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/178، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53، وتاريخ ابن خلدون، 4/122.
    [7] مجهول: أخبار مجموعة، ص96، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
    [8] مجهول: أخبار مجموعة، ص97، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/54، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
    [9] مجهول: أخبار مجموعة، ص98، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/55، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
    [10] مجهول: أخبار مجموعة، ص102، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
    [11] مجهول: أخبار مجموعة، ص100، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/56.
    [12] مجهول: أخبار مجموعة، ص103، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/56، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
    [13] مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/57.
    [14 انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/51.
    [15] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/122، والمقري: نفح الطيب، 1/332، 3/36.
    [16] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص93، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/52.
    [17] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/52، والمقري، نفح الطيب، 3/36.
    [18] انظر: أخبار مجموعة، ص107، وما بعدها، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/59.
    [19] المقري: نفح الطيب، 3/42.
    [20] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة 1780 عن أبي هريرة، وأبو داود 3021، وأحمد 7909، وابن حبان 4760.
    [21] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/411، والطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/55، وابن كثير: البداية والنهاية، 4/301.
    [22] مسلم: كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 1852 عن عرفجة بن شريح.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عبد الرحمن الداخل في الأندلس

    خطة دخول الأندلس



    في سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:

    أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف الفهري[1].

    ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر[2]، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين، والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.

    ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم[3].

    كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4] –مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه[5]. فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.

    وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا بحول الله تعالى وقوته[6]. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.

    عبد الرحمن الداخل في الأندلس

    نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات[7].

    وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.

    كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح[8].

    وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك[9]، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.

    موقعة المصارة

    من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي (ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على اليمنيين من جهة أخرى[10].
    وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا وحدنا للفهريين.

    وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها، وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة[11].
    ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري[12].

    عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

    كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].

    يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:
    أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.
    ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.
    ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم[14].

    وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن الداخل تعصب لنسبه المضري[15].
    وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس[16].

    بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

    ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال: «يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك[17].

    ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي[18].

    لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛ إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس [19].


    [1] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/ 239، وسير أعلام النبلاء، 8/244، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/167.
    [2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/239، وابن كثير: البداية والنهاية، 10/80.
    [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/ 123.
    [4] الحقيقة أن بدرًا مولى عبد الرحمن الداخل من أكثر الشخصيات تأثيرًا في قصة الداخل هذه، وله دور كبير منذ لحظة الهروب من الشام ثم قيامه بالسفارة لعبد الرحمن في أمر من أخطر الأمور؛ مثل: توليه الأندلس وتوثيقه للتحالف، ثم سيصير قائد جيوش عبد الرحمن، ثم سينتهي نهاية مأساوية وغامضة، دون أن يعرف أحد الأسباب الحقيقية مما يثير حيرة المؤرخين، إلى جانب أن المعلومات المعروفة عنه قليلة جدًّا.
    [5] هذا نص كلامه: «إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما، فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على جوانبه ولا يسعنا بدل منه». المقري: نفح الطيب 3/30.
    [6] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/31.
    [7] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص73، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/42، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
    [8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/123.
    [9] المصدر السابق، 5/123، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
    [10] مجهول: أخبار مجموعة، ص80، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
    [11] مجهول: أخبار مجموعة، ص82.
    [12] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
    [13] المقري: نفح الطيب، 3/42.
    [14] انظر: القاضي أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية، ص55، ويوسف القرضاوي: فقه الجهاد، ص1011، وسعود بن عبد العالي البارودي العتيبي: الموسوعة الجنائية الإسلامية ص183.
    [15] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84.
    [16] المقري: نفح الطيب 3/34.
    [17] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
    [18] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
    [19] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    صقر قريش .. عبد الرحمن الداخل

    نشأة عبد الرحمن الداخل



    لكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى أرض الأندلس، يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً حتى سنة (132هـ=750م)، وهو زمن سقوط الدولة الأموية في المشرق، فقد قتل العباسيون كلَّ مَن كان مُؤَهَّلاً من الأُمَوِيِّين لتولِّي الخلافة؛ فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء (الأحفاد)، إلا قلَّة ممَّن لم تصل إليهم سيوفُهم[1].


    وكان من هؤلاء الذين لم تصل إليهم سيوف بني العباس- عبدُ الرحمن بن معاوية حفيدُ هشام بن عبد الملك الذي حكم من سنة (105هـ=723م) إلى سنة (125هـ=743م).

    وقد نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عَمَّ أبيه يراه أهلاً للولاية والحكم، وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، فترك ذلك في نفسه أثرًا إيجابيًّا، ظهرت ثماره فيما بعدُ[2]، ولما بلغ رَيْعَانَ شبابه انقلب العباسيون على الأمويين، وأعملوا فيهم السيف -كما ذكرنا- حتى لا يُفَكِّر في الخلافة أحدٌ منهم؛ فكانوا يقتلون كلَّ مَنْ بلغ من البيت الأموي، ولا يقتلون النساء والأطفال، وكان هذا في سنة (132هـ).

    هروب عبد الرحمن الداخل

    هرب عبد الرحمن بن معاوية من مكانه ومستقره في قرية دير خنان من أعمال قنسرين بالشام إلى بعض القرى في العراق ناحية الفرات، ولكن المطاردة العباسية المحمومة –بما جنَّدته من مكافآت وعيون تبلغها الأنباء- بلغته في مكانه، وبينما كان يجلس في بيته؛ إذ دخل عليه ابنه ذو الأربع سنوات يبكي فزعًا، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضًا معتزلاً في الظلام في ركن من البيت؛ لأنه كان يُعاني من رمد في عينه، فأخذ يُسَكِّن الطفل بما يُسكَّن به الأطفال، إلاَّ أن الطفل ظلَّ فزعًا مرعوبًا لم يهدأ، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود (رايات الدولة العباسية) خارج البيت، وكانت تعمُّ القرية جميعها، فعلم أنَّه مطلوب، فرجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه هشام بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأنه يعلم أنهم لن يمسوهم بسوء.

    وانطلق عبد الرحمن هاربًا –ومعه أخوه هشام- نحو الفرات، وعند الفرات أدركتهما خيول العباسيين، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون: أن ارجعا ولكما الأمان. وأقسموا لهما على هذا، كانت الغاية أن يقطعا النهر سباحة حتى الضفة الأخرى، إلاَّ أن هشامًا لم يقوَ على السباحة لكل هذه المسافة، ثم أثَّر فيه نداء العباسيين وأمانهم، فأراد أن يعود، فناداه عبد الرحمن يستحثُّه ويُشَجِّعه: أن لا تَعُدْ يا أخي، وإلاَّ فإنهم سوف يقتلونك. فردَّ عليه: إنهم قد أَعْطَوْنَا الأمان. ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى قتلوه أمام عيني أخيه، وعَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلَّم، أو يُفَكِّر من شدَّة الحزن على أخيه ابن ثلاث عشرة سنة، ثم اتجه إلى بلاد المغرب؛ لأن أمَّه كانت من إحدى قبائل الأمازيغ (البربر)، فهرب إلى أخواله هناك، في قصة هروبٍ طويلة جدًّا وعجيبة -أيضًا- عبر فيها الشام ومصر وليبيا والقيروان[3].

    وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى بَرْقَة (في ليبيا)، وظلَّ مختبئًا فيها خمس سنين إلى أن يهدأ الطلب والمطاردات، ثم خرج إلى القيروان، وكانت القيروان حينئذٍ في حكم عبد الرحمن بن حبيب الفهري([4]، وكان قد استقلَّ -فعليًّا- بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية.

    كان عبد الرحمن بن حبيب من نسل عقبة بن نافع فاتح المغرب الأول، وكان ابن عم يوسف الفهري الذي كان يحكم الأندلس، وكان يرغب في أن يحكم الأندلس -أيضًا- إذ الأندلس تَبَعٌ للمغرب، وكان ظهور عبد الرحمن بن معاوية مما يُعَطِّل هذه الأماني.

    لماذا يعطل ظهور عبد الرحمن بن معاوية آمال عبد الرحمن بن حبيب الفهري؟

    إجابة هذا السؤال فيها جانب واقعي تقريري، وجانب آخر طريف يتمثَّل في النبوءة!
    عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، والحاكم الفعلي لمنطقة الشمال الإفريقي، وابن عم صاحب الأندلس يوسف الفهري، يعلم أن عبد الرحمن بن معاوية -وهو الأموي سليل بيت الخلافة الأموية التي فتحت هذه البلاد، ونصبت هؤلاء الولاة على مقاليدها، وكانت تملك عزلهم وتوليتهم- لا يسعه أن يجلس في بيته قانعًا من الحياة بالعيش الطيب فحسب، بل لا بُدَّ له أن يطلب حقه في مُلك آبائه وأجداده الخلفاء، فما هذه إلاَّ بلاد هم الذين افتتحوها وملكوها وحكموها بالإسلام.

    وهذا في الواقع صحيح جدًّا، وهو -بالمناسبة- التفسير الذي يُفَسِّر تلك الدموية البالغة التي استعملتها الدولة العباسية في القضاء على الأمويين؛ إذ ما دام وُجد أمويٌّ أو عصبة أموية فإنها لن تفتأ تُفَكِّر في استعادة مُلكها المغصوب؛ ومن هنا كان لا بُدَّ من اجتثاث الأمويين تمامًا لإنهاء هذه المعضلة الخطيرة، والتي أخطر ما فيها مسألة «الشرعية»؛ إذ حُكْم بني أمية لهذه البلاد بعد أن فتحوها بجهادهم لا يُشَكُّ في شرعيته، بينما انقلاب العباسيين على الأمويين موضع أخذ وردٍّ وقيل وقال.

    فظهور أموي في بلاد المغرب كعبد الرحمن بن معاوية يفتح في ذهن صاحب المغرب –كما سيفتح في ذهن صاحب الأندلس فيما بعدُ- بابًا من الخوف والتوجُّس والانزعاج؛ إذ الأموي أحق بحكم تلك البلاد، وهي من ميراث أجداده الخلفاء العظام.

    دار هذا في ذهن عبد الرحمن بن حبيب، ولا شَكَّ أنه دار -أيضًا- في ذهن كلِّ صاحب رأي، وكل مَنْ كان من أهل الحلِّ والعقد والرئاسة والزعامة. هذا هو الجانب الواقعي.

    نبوءة مسلمة بن عبد الملك

    أمَّا الجانب الطريف فهو مسألة النبوءة!
    أجمعت كتب التاريخ على أن مسلمة بن عبد الملك -الفاتح العظيم وفارس بني أمية الذي تولَّى فتح بلاد الشمال والقوقاز كما ذكرنا- كان يتنبَّأ بزوال مُلك بني أمية في المشرق، ثم هروب فتى منهم لإحيائه في بلاد المغرب مرَّة أخرى! وتزيد بعض الكتب فتقول بأنه كان يتوقَّع أن يكون عبد الرحمن بن معاوية هو هذا الفتي الذي سيُقيم مُلك الأمويين في المغرب بعد زواله في المشرق.

    وبهذه النبوءة يُفَسِّر كثير من المؤرخين أحداث هذه الفترة، فيُفَسِّرون بها إصرار العباسيين على مطاردة عبد الرحمن بن معاوية خاصة، ويُفَسِّرون بها اتجاه عبد الرحمن بن معاوية إلى بلاد المغرب، ويفسرون بها حُبَّ هشام بن عبد الملك ورعايته لحفيده عبد الرحمن هذا دون غيره من أبنائه وأحفاده، ويفسرون بها -أيضًا- سعي عبد الرحمن بن حبيب لقتل عبد الرحمن بن معاوية في القيروان.

    وما يزيد في الطرافة أن النبوءة تقول بأن صاحب الأندلس يُرسل شَعْرَه ويجعل فيه ضفيرتين، فكان عبد الرحمن بن معاوية بهذا الوصف، وكذا كان عبد الرحمن بن حبيب أيضًا[5].
    ما حقيقة هذه النبوءة في الواقع التاريخي؟
    الحقيقة أن النبوءات دخلت في العديد من أحداث التاريخ، ولكن -على حدِّ علمي- في كل هذه الأحداث ليس من دليل يقول بأن هذه النبوءة وُجدت أو قيلت قبل وقوع الأحداث نفسها، ثم جاءت الأحداث تصدق النبوءة.

    وهذه النبوءة التي نحن بصددها لا تختلف عن هذا، فليس في كتب التاريخ التي وصلت إلينا ما يُؤَيِّد أنها نبوءة ظهرت قبل وقوع الأحداث، لا سيما وأننا نتحدَّث عن تاريخ مبكِّر جدًّا، في بداية القرن الثاني الهجري، قبل أن تُكتب المصادر التاريخية التي بين أيدينا.

    والشاهد في موضوعنا أن عبد الرحمن بن حبيب كان يرجو هو -أيضًا- أن يكون صاحب الأندلس، فهو من أبناء الملوك، وهو صاحب جديلتين؛ ومن ثَمَّ فظهور مَنْ يُنافسه في النبوءة -أيضًا- كان من الخطر الذي لا بُدَّ من التخلُّص منه.

    وكان عبد الرحمن بن حبيب قد عرف بخبر النبوءة من خادم يهودي له كان قد خدم مسلمة بن عبد الملك، فأوصل ذلك الخادم لعبد الرحمن بن حبيب نبوءة مسلمة من أن قرشيًّا أمويًّا يملك بلاد المغرب بعد زوال الأمر من المشرق[6].

    ولما كثر الهاربون الأمويون الواصلون إلى أرض المغرب، ازدادت خشية عبد الرحمن بن حبيب من تَكَوُّن عصبة أموية في بلاده، فأخذ في طرد الكثير منهم، وقتل اثنين من أبناء الوليد بن يزيد، وتزوَّج غصبًا بأخت إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان، وأخذ مالاً له، ثم جدَّ في طلب عبد الرحمن بن معاوية[7].

    إلى بلاد الأندلس

    بلغ ذلك عبد الرحمن الداخل الذي ما كان له أن تفوته مثل هذه الأمور، فلما أن طلبه عبد الرحمن بن حبيب كان قد خرج من القيروان إلى تادلا، ومنها إلى مضارب قبيلة نفزة بالمغرب الأقصى، وهم أخواله؛ إذ إن أمَّ عبد الرحمن كانت جارية من نفزة، ولم يكن الوضع هناك بالآمن؛ إذ إن وجود الخوارج في هذه المنطقة -وهم الذين يكرهون الأمويين- كان يجعل مقامه هذا -أيضًا- مقامًا على شفا جرف هارٍ[8].

    في الواقع لم يَعُدْ أمام عبد الرحمن بن معاوية إلاَّ بلاد الأندلس، وإذا جرينا وراء النبوءة فيمكننا أن نقول بأن بلاد الأندلس لم تكن فقط وجهته الوحيدة، بل كانت -أيضًا- مطلبه وغايته وهدفه القديم منذ أن سمعه صبيًّا من عم أبيه مسلمة بن عبد الملك.

    فعبد الرحمن مطلوب الرأس في أيِّ قُطْرٍ من بلاد المسلمين؛ ففي أقصى الشرق من فارس وما يليها تكمن شوكة العباسيين ومعقلهم الرهيب، وقد كانت فارس في هذه الأثناء تحت حكم الرجل القوي الجبار أبو مسلم الخراساني، الذي لُقِّبَ بحجاج بني العباس، وفي العراق عاصمة العباسيين، وفي الشام ومصر سلطة العباسيين مكينة كذلك، وفي الشمال الإفريقي وبلاد المغرب الإسلامي مطلوب من عبد الرحمن بن حبيب والخوارج.

    هذا من ناحية الأخطار التي يمكن أن تحيط بالفرد العادي إن كان مطلوبًا، فكيف وهو من بني أمية الذين لا يأمن أحد الملوك على ملكه وتحت سلطانه واحد منهم؟! لم يكن يسعه في الحقيقة إلاَّ أن يعيش أميرًا أو ملكًا، وإلاَّ فلن يعيش. بذا قضى قانون الواقع على عبد الرحمن بن معاوية.
    كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقباله؛ وذلك لأنها:
    أولاً: أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج.
    وثانيًا: لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدًّا؛ وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري في نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة؛ ففي هذا الجوُّ يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع -أيضًا- أن يدخلها؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وُعُورَتها واحتدام الثورات فيها.


    [1] انظر تفصيل ذلك عند ابن كثير: البداية والنهاية 10/48، وتاريخ ابن خلدون، 3/132.
    [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والمقري: نفح الطيب 1/328، 3/53.
    [3] المقري: نفح الطيب، 3/28، وما بعدها.
    [4] الذهبي: تاريخ الإسلام، 8/25.
    [5] انظر في أخبار النبوءة: مجهول: أخبار مجموعة ص53، 54، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/53، والناصري: الاستقصا 1/175.
    [6] ابن عذاري: البيان المغرب 1/156.
    [7] المقري: نفح الطيب 3/29، والناصري: الاستقصا 1/175.
    [8] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/244.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    سقوط الدولة الأموية

    الخلافة الأموية في الشرق

    الوليد بن يزيد بن عبد الملك



    بعد وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك عام (125هـ) بدأت عوامل الضعف تسري في جسد الدولة الأموية، وبدت الخلافة وكأنها تسير نحو الهاوية؛ فبوفاة الخليفة هشام بدأت الاضطرابات والفتن والقلاقل تظهر على مسرح الأحداث، واستمرَّ الأمر كذلك نحوًا من سبع سنوات داخل البيت الأموي نفسه، فبعد وفاة هشام بُويع للخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (الوليد الثاني)، وقد استهلَّ الوليد خلافته بالاهتمام بأحوال رعيته اهتمامًا شاملاً، ثم ما لبث أن ارتكب جنايات كثيرة؛ كان أعظمها تنكيله ببني عمه سليمان وهشام، وتنكيله بكبار رجال دولته، ثم إظهاره للمجون والخلاعة والعبث؛ مما عجَّل بسقوط مُلْكه وخلافته، ثم قتله.

    يزيد بن الوليد بن عبد الملك

    قُتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثْرَ ثورة قام بها يزيد بن الوليد بن عبد الملك اشترك معه فيها أمراء البيت الأموي واليمنية، وما أن تمَّت البيعة ليزيد بن الوليد (يزيد الثالث) حتى قامت المعارضة العنيفة في وجهه، وتزعَّمها أبناء عمومته، كما ثارت عليه الأقاليم الشامية، فلم يهنأ بخلافته طويلاً، ولم تَدُمْ خلافته سوى ستة أشهر (جمادى الآخرة - ذو الحجة سنة 126هـ)؛ حيث توفي في ذي الحجة، ليترك الشام -وهي الحصن الحصين للدولة الأموية- تشتعل نارًا، كما ترك أبناء أسرته منقسمين على أنفسهم، منشغلين بصراعاتهم عن الأخطار المحدقة بهم، وبصفة خاصة الخطر العباسي.
    إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

    ثم بُويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك عام (127هـ)، ولكن لم يتم له الأمر؛ إذ انقلب عليه مَرْوَان بن محمد وانتصر عليه في عين الجر، وبويع له بالخلافة في ربيع الآخر (127هـ)، فكانت مدَّة خلافة إبراهيم بن الوليد ما يقرب من أربعة أشهر.

    مروان بن محمد (الحمار)

    تسلَّم مَرْوَان بن محمد الخلافة الأموية ليُصَارع أحداثًا أقوى منه، ويُواجه دنيا مُدبِرَة ودولة ممزقة، قُدِّرَ له أن يكتب الفصل الأخير من حياتها، فبعد حالة من السكون والاستقرار إِثْر بيعة مَرْوَان بن محمد بالخلافة، اندلعت الثورات في كل مكان في الدولة؛ فهناك ثورة في حمص، وأخرى في الغوطة، وثالثة في فلسطين، واضطرابات في العراق قام بها الخوارج والشيعة، وأخطر من ذلك كله كان انقلاب أمراء البيت الأموي عليه؛ كسليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن العزيز، وقد كان انهماك مَرْوَان الثاني في إخماد الثورات والفتن؛ سببًا في انشغاله عن الاهتمام بما كان يجري في المشرق، خاصَّة في خراسان التي كانت مركزًا للدعوة العباسية، وقد انتشرت في المنطقة انتشارًا واسعًا، واستقامت الأمور فيها لبني العباس؛ مما أدَّى إلى اقتناع الدعاة العباسيين بأن الوقت قد حان للجهر بها، وبدأت رايات العباسيين تنساح في البلاد انسياحًا سريعًا.

    معركة الزاب

    التقت سيوف الأمويين والعباسيين، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة عند نهر الزاب في شهر جمُادَى الآخرة عام (132هـ)، استمرَّت أحدَ عشرَ يومًا انتهت بهزيمة مَرْوَان بن محمد ثم قَتْلِه، لتبدأ حِقبة جديدة في التاريخ الإسلامي، هي الخلافة العباسية.

    أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة في الأندلس

    نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض، نستطيع بإيجاز شديد أن نُلَخِّص أهمَّ الأحداث التي تمخَّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:
    أولاً: فُقِدَت كثير من الأراضي الإسلامية في فرنسا[1].
    ثانيًا: ظهرت مملكة نصرانية في الشمال الغربي عند منطقة الصخرة، تُسَمَّى مملكة (ليون)([2].
    ثالثًا: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية -الأموية في ذلك الوقت- وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ[3].
    رابعًا: انقسمت الأندلس إلى فرقٍ عديدةٍ متناحرة، وثورات لا نهاية لها، فكلٌّ يُريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.
    خامسًا: أمر خطير جدًّا وهو ظهور فكر الخوارج، الذين جاءوا من الشام، واعتناق الأمازيغ (البربر) له؛ وذلك أن الأمازيغ (البربر) كانوا يُعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبَل يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيِّ؛ مما مهَّد عقولهم لقبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خَلاصًا مما يحدث لهم ممَنْ ليسوا على فكر الخوارج[4].

    سادسًا: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة (132هـ=750م)، وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، الذي كان قيامًا دمويًّا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين؛ ومن ثَمَّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان.

    ونتيجة لهذه العوامل جميعًا فقد أجمع المؤرخون على أن الإسلام كاد أن ينتهي من بلاد الأندلس، وذلك في عام (138هـ=755م)، وأصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضلٍ من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين؛ وذلك بدخول رجل يُدعَى عبدَ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة عام (138هـ= مايو 756م).

    ملامح عهد الولاة الثاني

    حُبُّ الدنيا

    في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفُتِحَت الدُّنيا عليهم، في حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا»[5]. وهكذا فُتِحَت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثَّر بذلك إيمانُهم.

    ظهور العنصرية والقبلية

    وتبعًا لتأثُّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس؛ حدثت انقسامات بين العرب والأمازيغ (البربر)، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)؛ حتى إنه كانت هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز، ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم؛ بين الفِهْرِيين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض[6].

    ظلم الولاة

    وإضافة إلى حبِّ الغنائم وتفاقم ظاهرة القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نُسمِّيه ظلم الولاة، فقد تولَّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط؛ كان منهم -على سبيل المثال- عبد الملك بن قَطَن، فقد كان ظالمًا جائرًا[7].

    وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ الذي تولَّى عام (130هـ=748م) وحتى آخر هذه الفترة، وآخر عهد الولاة كلية سنة (138هـ= 755م)[8]، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة داخل بلاد الأندلس [9].

    تَرْك الجهاد

    كنَّا نتحدَّث منذ قليل عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي ذي الدنيا قد تمكَّنت من القلوب، وها هي ذي العنصرية قد ظهرت، وها هو ذا ظلم الولاة يُسْلِمُ الناس إلى هذه الثورات، وكردِّ فعل طبيعي جدًّا لكلِّ هذا ترك الناسُ الجهاد، وتوقَّفت الفتوحات في فرنسا، وتوقَّفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، التي كان يتمركز بها مجموعة من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسُنَّة إلهية فما تَرَكَ قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاَّ ضرب الله عليهم الذلَّ، يروي أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ[10]، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ[11]، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[12]. وهكذا كان الحال حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسَلَّط الله عليهم الذلَّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.

    [1] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس ص239-251.
    [2] انظر تفصيل ذلك في فجر الأندلس، ص255-286.
    [3] ابن عذاري: البيان المغرب 1/62.
    [4] مجهول: أخبار مجموعة ص42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
    [5] البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى (1396) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم: كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم (1052).
    [6] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص129-79، ص183-203.
    [7] المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
    [8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35-38، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25.
    [9] انظر التفصيل عند ابن عذاري: البيان المغرب 2/38.
    [10] بيع العينة: هو أن يبيع الرجل شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. العظيم آبادي: عون المعبود 9/242، والمناوي: فيض القدير 1/403.
    [11] وأخذتم أذناب البقر: كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. المناوي: فيض القدير 1/403.
    [12] أبو داود: كتاب الإجارة، باب النهي عن العينة (3462)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (11).


    اترك تعليق:

يعمل...
X