إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    الحكم المستنصر وشمال أفريقيا

    علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي



    مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.


    غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.

    وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.

    سياسة الحكم المستنصر

    كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.

    وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].

    فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].

    وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.



    وكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.


    ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].

    وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].

    وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.

    أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.

    وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.

    واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].


    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/242.
    [2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
    [3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
    [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
    [6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
    [7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #47
      المشهد الصليبي في عهد الحكم المستنصر


      مملكة ليون



      كان سانشو ملك ليون قد لجأ مع جدته طوطة ملكة نافار إلى عبد الرحمن الناصر ليُساعده على اعتلاء عرش ليون من جديد، بعدما عزله أشراف ليون عن الحكم، ووَلَّوا بدلاً منه ابن عمه أردونيو الرديء -كما ذكرنا من قبل- وقد أحسن الناصر استقبالهم، ووعدهم بالمساعدة، وأرسل طبيبًا يهوديًّا إلى سانشو ليُعالجه من بدانته المفرطة، وكذلك أمدَّ سانشو بالمال والرجال؛ ليُساعدوه على أن يعود لعرشه، في مقابل تسليم بعض الحصون على حدودهم مع الأراضي الإسلامية، وأن يهدموا حصونًا أخرى، وبالفعل عاد سانشو إلى الحُكم بمساعدة عبد الرحمن الناصر، وهرب أردونيو الرابع (الرديء) إلى برغش في قشتالة.

      ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بوعوده التي قطعها لعبد الرحمن الناصر، فلم يهدم الحصون التي اتفقا على هدمها، كما لم يُسَلِّم المسلمين ما اتفق على تسليمه لهم من حصون أخرى، ولم يكن هذا ذكاء من سانشو؛ إذ إن أردونيو الرابع لم يزل على قيد الحياة، وسيحاول هو الآخر أن يعود إلى العرش كما حاول سانشو، فلم يكن من الصواب أن يُعادي سانشو المسلمين، بأن يتنكَّر لعهوده معهم على هذا النحو.


      وبالفعل استغلَّ أردونيو هذا التطور الجديد في علاقة ليون مع المسلمين، وذهب إلى الحكم المستنصر يستنجد به، ويطلب التحالف معه؛ ليساعده على أن يعود إلى عرشه، فأحسن الحكم استقباله، ووعده بالنصرة والمساعدة، فلمَّا علم سانشو بما عزم عليه الخليفة الحكم المستنصر من مساعدة خصمه وعدوِّه، أرسل إلى الخليفة المستنصر وفدًا من أشراف ليون وأحبارها يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهَّد به لعبد الرحمن الناصر من قبل، فيهدم الحصون التي كان يجب أن يهدمها ويُسَلِّم المسلمين الحصون الأخرى.


      ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، فعاد سانشو ونكث بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، فعزم المستنصر على تأديبه، وبدأ يستعدُّ لمواجهة ليون عسكريًّا، فخاف النصارى من أثر ذلك عليهم، وقرَّرُوا أن يتحدوا لمواجهة المسلمين، وكان الكونت فرنان كونثالث قد أعلن قبل ذلك بقليل استقلاله بقشتالة عن ليون، وكانت العداوة قائمة بينه وبين سانشو ملك ليون، ولكن خوفهم من المسلمين أرغمهم على أن يتَّحدوا معًا لمقاومة الضربة الإسلامية القادمة.


      جهاد الحكم المستنصر ضد النصارى


      تحالف سانشو مع فرنان كونثالث أمير قشتالة، ومع غرسية سانشيز ملك نافار، ومع كونت بَرْشُلُونَة، وتأهَّبوا جميعًا لصدِّ الهجوم الإسلامي الوشيك.


      وخرج الحكم المستنصر على رأس صائفة عام (352هـ= 963م) معلنًا الجهاد، فاجتاحت الجيوش الإسلامية أراضي قشتالة ومَزَّقت جيوشها شَرَّ ممزَّق في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمت فرنان كونثالث، وسانشو على طلب الصلح، ثم اجتاحت الجيوش الإسلامية غربي مملكة نافار؛ عقابًا لملكها على نكثه بعهوده مع المسلمين وإغارته على أراضيهم، ثم توالت غارات المسلمين على أراضي قشتالة ما بين سنتي 963م، و967م.


      مؤامرات داخلية في الممالك النصرانية


      وقد تسببت الصراعات الداخلية على الحُكم في مملكة ليون، والصراعات الخارجية مع المسلمين وغيرهم في ضعف سلطان ليون في الداخل والخارج، فكثرت ثورات الزعماء والأشراف على سانشو، وكان من أشدِّ هؤلاء الثوار من الأشراف الكونت جوندسالفو سانشيز حاكم جِلِّيقِيَّة، وكان قد استطاع أن يُوَطِّد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على ثلاث قواعد مهمة؛ هي: لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته وجد الزعيم الثائر قد أرسل إليه يعرض عليه التسليم والدخول في طاعته، ثم دعاه إلى لقائه، فقبل سانشو وذهب إليه، فغدر به حاكم جِلِّيقِيَّة بأن دعاه إلى مأدبة طعام، وقدَّم إليه فاكهة مسمومة، فأكل منها سانشو، وسرعان ما شعر بآثار السمِّ تسري في جسده، فحُمل في الحال إلى ليون، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودُفن بها سنة (966م).


      وتولَّى من بعد سانشو ابنه راميرو الثالث، وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتولَّت الوصاية عليه عمته الراهبة إلبيرة، ولكن ذلك لم يَرُقْ لمعظم أشراف ليون، فأبوا الاعتراف بسلطانه، ونشبت نتيجة لذلك عددٌ من الثورات المحلية، وأعلن كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وكان مَثَلُ فرنان كونثالث في الانفصال بقشتالة أقوى مشجِّع لهم على ذلك، وكانت أخطر الثورات هي ثورة جوندسالفو سانشيز قاتل سانشو؛ حيث استمرَّ على استقلاله بحكم جِلِّيقِيَّة، وحكم القواعد الثلاثة المهمة لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.


      وفي خلال ذلك توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة عام (970م)، وخلفه على قشتالة ابنه غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار، وخلفه ابنه سانشو غرسية الثاني.


      سفارة نصرانية إلى الحكم المستنصر


      وقد تسبَّبت هذه الأحداث والاضطرابات الداخلية في الممالك النصرانية في أن تلتزم هذه الممالك الهدوء تجاه المسلمين حينًا من الزمن دون أن تحاول الاعتداء عليهم؛ بل اتجه الملوك والأمراء النصارى إلى تحسين علاقاتهم بالمسلمين؛ فتوالت زياراتهم وسفاراتهم على الحكم المستنصر يطلبون منه الصلح والمهادنة.


      فوفد أمير جِلِّيقِيَّة، وأمير أشتوريش، ثم وفدت رُسل غرسية ملك نافار، وهم جماعة من القوامس (الكونتات) والأساقفة يسألون الصلح، فأجابهم الحكم إلى ما طلبوا، وأرسل أمير بَرْشُلُونَة كذلك بسفارة إلى الحكم في شعبان سنة 360هـ=يونيو 971م؛ لتجديد المودَّة والصداقة، وكان مع السفارة ثلاثون أسيرًا مسلمًا كانوا محتجزين في بَرْشُلُونَة، كما وفدت الراهبة إلبيرة الوصية على ملك ليون تطلب السلم، فاستقبلها الحكم استقبالاً حافلاً، وأجابها إلى ما تطلب من السلم، كما وفدت سفارات أخرى من غرسية فرناندز أمير قشتالة، وفرنان لينيز أمير شلمنقة.. وغيرهم.


      وكانت هذه السفارات في معظمها لطلب السلم والمودَّة مع الحكم المستنصر، وأحيانًا كانت لتقديم الطاعة وطلب العون.




      استقلال قشتالة


      كان عبد الرحمن الناصر قد تدخَّل لإعادة سانشو إلى العرش -كما ذكرنا- فاستغلَّ فرنان كونثالث هذا الصراع على الحُكم داخل مملكة ليون، وأعلن استقلاله بقشتالة عن مملكة ليون، وسعيًا منه إلى توسيع أملاكه وتوطيد حكمه أخذ يُغِيرُ على أراضي المسلمين من وقت لآخر؛ حيث كان نزوله إلى ميدان مقاومة المسلمين ومحاولة إضعافهم سبيلاً -في ذلك الوقت- إلى تدعيم هيبته في نفوس النصارى، واجتذاب عطفهم ومحبتهم، كما أنه بذلك يُوَطِّد سلطانه في مواجهة ملك ليون، الذي لم يَعُدْ إلى هذا المكان إلاَّ بدعمٍ من عبد الرحمن الناصر العدوِّ اللدود للنصارى الإسبان.


      ومنذ ذلك الوقت بدأت قشتالة تحتلُّ مكانها في تاريخ الكفاح بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة، وتغدو -بالرغم من نشأتها المتواضعة- شيئًا فشيئًا أعظم الممالك النصرانية رقعة، وأوفرها قوة ومنعة، وأشدها مراسًا في محاربة المسلمين، وإنهاك قواهم.


      مملكة نافار




      كانت العلاقات قد اضطربت بين قشتالة وبين نافار في آخر حياة عبد الرحمن الناصر، ودارت رحى حرب شديدة بين الطرفين انتهت بهزيمة قشتالة، وأَسْرِ قائدها الكونت فرنان كونثالث، فلما توفي عبد الرحمن الناصر، وتولَّى من بعده ابنه الحكم المستنصر، طالب ملك نافار بتسليمه فرنان كونثالث، إلاَّ أن ملك نافار رفض أمر الحكم، بل زاد فأطلق فرنان كونثالث من أسره.

      ثم اتحدَّ النصارى لمواجهة المسلمين عسكريًّا، بعدما رفض سانشو تنفيذ ما تعهَّد به للمسلمين، ودخلت الجيوش الإسلامية غرب نافار وعاثت فيها -كما تقدَّم- وظلَّ غرسية سانشيز في الحُكم حتى سنة (970م)، واستمرَّت أُمُّه الملكة طوطة محتفظة بإشرافها عليه، ومشاركتها الفعلية في الحكم حتى وفاتها سنة (690م)
      [1].


      [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/594، بتصرف.

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #48
        الحكم المستنصر .. الخليفة المجاهد

        توسعات الحكم المستنصر



        ظنَّت الممالك الإسبانية النصرانية في الشمال أن وفاة عبد الرحمن الناصر ستؤثِّر كثيرًا على الأندلس، وأن الأندلس لن يكون بعد وفاة عبد الرحمن الناصر كما كان قبل وفاته، وربما ظنُّوا أن هذه الثورات التي استطاع عبد الرحمن الناصر إخمادها في أول عهده، لن تلبث أن تعود من جديد بعد موته؛ لذلك استهانوا بالحكم المستنصر، فهو في بداية عهده، وهو في أمسِّ الحاجة لاستقرار أحوال بلاده في هذه الفترة؛ حتى يقوى مُلكه، أو هكذا ظنُّوا، فسارع سانشو - كما ذكرنا - إلى نقض العهد الذي كان بينه وبين عبد الرحمن الناصر، ثم عاد ونقض عهده مع المستنصر، في حين أبت نافار تسليم فرنان كونثالث زعيم قشتالة، الذي هاجم الثغور الإسلامية أكثر من مرَّة، فرأى الحكم أنه لا بُدَّ من تأديب نصارى الشمال؛ على كل ما فعلوا ويفعلون، وبالفعل أعَدَّ جيشًا قويًّا وغزا به الممالك النصرانية في الشمال سنة (351هـ)، وفتح حصونًا كثيرة، وقتل وغنم وسبى، ثم رجع ظافرًا[1].

        ثم عاد وجَهَّز جيشًا قويًّا في العام التالي سنة (352هـ) أرعب النصارى، وحملهم - رغم ما بينهم من عداوات- على الاتحاد لمواجهة القوات الإسلامية، ثم غزا الحكم بهذا الجيش الممالك الصليبية الثلاث في الشمال، ومزَّق به جيوشهم شَرَّ ممزق، واضطرهم إلى طلب الصلح والإذعان للمسلمين
        [2]، بل وتمسكوا -على عادة الأمم الضعيفة التي لا تملك الدفاع عن نفسها- بعلاقات السلام مع الحكم المستنصر، وظَلَّت وفودهم تأتي من عام إلى آخر تطلب تجديد الصلح مع الحكم المستنصر، أو تطلب منه التحالف معه في مقابل الدخول في طاعته[3].


        غزو الفايكنج لسواحل الأندلس


        استطاع الحكم المستنصر بهذه الهمة العالية أن يطأ أرض نصارى الشمال، وأن يُخضعهم، وأن يحملهم على اليأس من أن ينالوا منه شيئًا، وهذا ما اضطرهم إلى الحفاظ على حالة السلم بينهم وبين الحكم المستنصر، ولكن هذه الحالة من الرخاء والسلام لم تستمرّ طويلاً، بل لعلَّ هذا الرخاء قد أغرى أقوامًا آخرين بالأندلس؛ فهجمت على السواحل الغربية للأندلس سنة (355هـ) عصابات الفايكنج الذين هاجموا الأندلس من قبلُ في عهد عبد الرحمن الأوسط، واستطاع عبد الرحمن الأوسط رَدَّهم عن الأندلس مهزومين، وشرع في تحصين إِشْبِيلِيَة -كما ذكرنا من قبل- ولكن يبدو أن حالة الرخاء التي وصل إليها المجتمع في ذلك الوقت قد أنستهم هذه الهزائم القديمة، وأغرتهم بأن يُعيدوا الكَرَّة من جديد، فهاجموا السواحل الأندلسية الغربية بثمانية وعشرين مركبًا، وبدءوا يعيثون فيها فسادًا؛ فخرج إليهم المسلمون ودارت بينهم معارك شديدة، قُتل فيها عدد من الطرفين، وأَرسلت هذه المناطق رسائل إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة، تُخبره بما حدث وتطلب منه العون والنجدة، فسارع بأمر الأسطول بالتحرُّك إلى نجدة المسلمين، وبالفعل دارت بين الأسطول وبينهم معارك شديدة هزمهم المسلمون فيها، وحطموا عددًا من مراكبهم، واستطاعوا رَدَّهم عن السواحل الأندلسية خائبين خاسرين، بعدما خَلَّصُوا مَنْ معهم من أسرى المسلمين، وظَلَّت سفنهم -التي بقيت لهم بعد هذه المعركة- تجوب المياه الغربية للأندلس فترة، لم يجرءوا فيها على مهاجمة الأندلس، ثم اختفوا بعد ذلك
        [4].

        وبعد ذلك شُغل الحكم المستنصر بأمر الشمال الإفريقي، وإخضاعه لسلطانه، وبين هذا وذاك كان الحكم مهتمًّا بنشر العلم والتعليم، وإقامة هذا الصرح الحضاري العظيم في الأندلس، حتى توفي سنة (660هـ) بعدما أخذ البيعة لابنه هشام، وهو لا يزال طفلاً.



        [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/234.
        [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/236، وتاريخ ابن خلدون، 4/144، 145.
        [3] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/145.
        [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/239، وتاريخ ابن خلدون: 1/246.


        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #49
          خلافة هشام المؤيد


          استخلاف هشام المؤيد



          بالرغم من أن الحكم المستنصر كان من أفضل حكَّام الأندلس إلاَّ أنه في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا؛ فقد أُصيب في آخر أيامه بالفالج (بالشلل)، فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم (هشام المؤيد) وعمره آنذاك عشرة أعوام فقط[1]، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة العبيدية (الدولة الفاطمية) في الجنوب، وكل ممالك أوربا متربِّصة للكيد لهذه القوة العظيمة وهزيمتها.


          وهي بلا شكٍّ زلَّة خطيرة من الحكم بن عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان عليه أن ينتقي مَنْ يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويُوَلِّي رجلاً آخر من بني أمية؛ يستطيع أن يقوم بأعباء حُكم دولة قوية، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
          وقد توفي الحكم المستنصر سنة (366هـ=976م)، مستخلفًا على الحُكم من بعده ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم (هشام المؤيد)، وكان في القصر حزبان قويان؛ هما: الفتيان الصقالبة من جهة، ومن الجهة الأخرى الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومعه قائد الشرطة القوي والناظر على شئون الخليفة ومتولي أمره محمد بن أبي عامر، ومن وراء هذا الحزب أم الخليفة صبح البشكنسية، التي كانت أقوى شخصية في هذا الحزب في تلك اللحظة، وهي بشكنسية الأصل (نافارية)، وكانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده.

          مؤامرة الفتيان الصقالبة



          كان من عادة أمراء بني أمية الاستكثار من الفتيان الصقالبة، والاعتماد عليهم في أعمال القصر وأمورهم الخاصة، وقد سار عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر على هذا النهج، فزاد عدد الفتيان الصقالبة في عهدهم، وبلغ عدد العاملين منهم في القصر فقط في نهاية عهد الحكم المستنصر أكثر من ألف فتى، فاتَّسع نفوذهم، وأصبحوا قوة لا يُستهان بها لكثرتهم، ولقُربهم من الخليفة، ولاعتماد الخليفة عليهم في أعمال مهمة كحراسته شخصيًّا، وما إلى ذلك من أعمال تمرَّسُوا فيها بمرور الوقت دون غيرهم، حتى ظنُّوا أن المُلْكَ بأيديهم، وأن لا غالب لهم.


          وكان كبير الفتيان الصقالبة الفتى فائق، ويليه في المرتبة والمكانة الفتى جؤذر، فلما مات الحكم المستنصر كتم هذان الفتيان خبر موته، وضبطوا أمور القصر وسَيَّرُوها كأنْ لم يحدث شيء، وعقدا العزم على صرف أمر الخلافة عن هشام المؤيد لصغر سِنِّه، ولمعرفتهم أن الحاكم الفعلي سيكون حزب المصحفي وابن أبي عامر وصبح، فعزموا على نَقْلِ الخلافة إلى أخي الحكم المستنصر المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فيكون لهما نتيجةً لذلك فضل على المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، ويَتَّسع نفوذهما ونفوذ أتباعهما.

          جلس الفتيان فائق وجؤذر يضعان الخطة لتنفيذ فكرتهما، فأشار جؤذر بقتل الحاجب المصحفي، فبذلك يتمُّ لهم الأمر، فلم يرض فائق بهذا، وأشار بأن يأتوا بالحاجب فيُخَيِّروه بين الموافقة أو القتل، فأرسلا إلى جعفر الحاجب، ونعوا إليه الحكم المستنصر، وأخبراه بما ينويان به من صرف الأمر إلى المغيرة أخي الحكم لصغر سن هشام، فأدرك الحاجب التهديد الكامن وراء الكلام، فأظهر الموافقة وقال: هذا والله! أَسَدُّ رأي وأوفق عمل؛ والأمر أمركما، وأنا وغيري فيه تبع لكما، فاعزما على ما أردتما، واستعينا بمشورة المشيخة؛ فهي أنفى للخلاف، وأنا أسير إلى الباب (أي القصر)، فأضبطه بنفسي، وأنفذا أمركما إليَّ بما شئتما.

          وبادر بالفعل إلى ضبط أبواب القصر لكي لا ينتشر الخبر، ثم سارع إلى طلب كبار رجال الدولة من العرب والبربر، وكان منهم محمد بن أبي عامر، كما أمر بإحضار أتباعه وشيعته، ونعى إليهم الخليفة، وأخبرهم بخطة الفتيان الصقالبة في تحويل أمر الخلافة إلى المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلاً من هشام بن الحكم، ثم عَرَّفهم أضرار ذلك فقال: «إن حَبَسْنَا الدولة على هشام، أَمِنَّا على أنفسنا، وصارت الدنيا في أيدينا، وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده». فأشاروا عليه بقتل المغيرة بن عبد الرحمن، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على التقدُّم لتنفيذ هذا الأمر.
          فلما رأى ابن أبي عامر ذلك، سارع هو بتنفيذ هذه المهمة؛ حرصًا منه عليهم، واتباعًا لجعفر بن عثمان، فأُعجبوا به، وزاد تقديرهم له، وقال له جعفر: أنت أحقُّ بتولِّي كِبْرَه لخاصَّتك بالخليفة هشام ومحلك من الدولة. ثم أرسل معه فرقة من الجنود فذهبوا من فورهم إلى دار المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، فأحاطوا بالدار من جميع جوانبها، ودخل عليه ببعض هؤلاء الجنود، ولم يكن قد علم بخبر وفاة أخيه، فنعاه ابن أبي عامر إليه، وأخبره بأن الوزراء قد خشوا أن يخرج المغيرة على بيعة هشام، فأرسلوه إليه ليمتحنه، وليتأكَّد من صدق ولائه لابن أخيه، وبقائه على بيعته، فذُعِر المغيرة ثم استرجع عليه، واستبشر بملك ابن أخيه، وقال: «أَعْلِمْهم أني سامع مطيع وافٍ ببيعتي؛ فتوثَّقُوا مني كيف شئتم». وأقبل يستلطف ابن أبي عامر، ويناشده الله في دمه، ويسأله المراجعة في أمره، حتى رقَّ له ابن أبي عامر، فأرسل إلى جعفر المصحفي يصف له أمر المغيرة، ويطمئنه بأنه سامع مطيع، وكان جعفر وأصحابه قد عزموا على التخَلُّص من المغيرة أيًّا كان موقفه؛ مبالغة في تأمين الخلافة، فلما رأى جعفر رغبة ابن أبي عامر في ترك المغيرة حيًّا، أرسل إليه بلومه على التأخير، ويقول له: غررتنا من نفسك؛ فانْفُذْ لشأنك أو فانصرف نرسل سواك.

          فعلم ابن أبي عامر أن لا سبيل لنجاة المغيرة، واستفزَّت كلمات جعفرٍ ابنَ أبي عامر، فأمر بالمغيرة فقُتل خنقًا أمام حريمه، ثم عَلَّقُوا جثمانه على هيئة المشنوق، ليقولوا مِنْ بعدُ: إنه قتل نفسه لَمَّا أكرهوه على الركوب لابن أخيه لمبايعته. وكانت سنه يوم قُتل سبعًا وعشرين سنة[2].

          هل كان المغيرة طرفًا في مؤامرة الفتيان الصقالبة؟

          حتى باعتبار أن الحكم المستنصر أخطأ حين عهد بولاية العهد لابنه الصغير، ففي عُرْفِ ذلك الزمان أن الولد قد تمت له بيعة شرعية، وأن الخروج على هذه البيعة هو خروج على الوالي الشرعي، ولقد كان المغيرة فتى بني أمية ومن المؤهلين لتولي الخلافة، ووردت عبارة لابن بسام في الذخيرة تُفيد بأنه كان يتأهَّب للانقلاب على ابن أخيه، قال: «وكان فتى القوم كرمًا ورجلة، وممن أُشير نحوه بالأمر بأسباب باطنة، فأخذ له أهبته»[3].

          كما بدا في كلمة المصحفي: «وإن انتقلت إلى المغيرة اسْتَبْدَل بنا، وطلب شفاء أحقاده»، أن له عداوة سابقة مع المصحفيين، وهم رجال دولة الحكم، فهذا دليل آخر على أن الرجل لم يكن بعيدًا عن صراعات القصر وأطرافه.

          ونحن لا نتوقَّع أن يكون الفتيان الصقالبة من السذاجة بحيث إنهم يُدَبِّرون لصرف الأمر إلى المغيرة إلاَّ لو كانوا على سابق اتفاق معه، فليس من طبائع الأمور أنهم سيدبرون لهذا الأمر دون أن يتم تواصل مع الرجل الذي يُريدون تنصيبه خليفة؟
          ولهذا، فنحن نميل إلى القول بأن المغيرة كان ينوي الانقلاب على ابن أخيه، إلاَّ أن المصحفي –وقد كان يملك أمر الدولة- كان أسرع إليه من خبر وفاة أخيه الحكم، فوصل إليه ابن أبي عامر ومجموعته وهو آمن.

          لا شَكَّ أن مصلحة المصحفي كانت في تصفية المغيرة وإغلاق هذا الملف كله؛ فيضمنون انتهاء مؤامرة الصقالبة، وانتهاء الرجل القوي الذي قد ينازع بعدئذٍ في منصب الخلافة، ويقود الخروج على ابن أخيه، ولا شَكَّ أن المغيرة حين رأى ابن أبي عامر ومجموعته أيقن بالهلاك، فحاول بكل ما أطاق استنقاذ نفسه، ولا شَكَّ -أيضًا- أن المصحفي حين بلغه رجاء ابن أبي عامر ألا يقتل المغيرة لأنه أعلن الطاعة قدَّر في رأسه هذا المعنى، وأنه لو تُرِك المغيرة حيًّا فإنه سيكون أشد نقمة على المصحفي وجماعته بعد هذا الموقف؛ فلقد كانوا على وشك قتله، فرأي المصحفي أن يُغلق هذا الباب كله، وأرسل إلى ابن أبي عامر الذي صَدَع بالأمر وما كان له –في هذه اللحظة- أن يفعل إلاَّ هذا، ولو لم يرضَ به.

          وتميل بعض التحليلات الأخرى إلى أن المغيرة لم يكن على علم بمؤامرة الصقالبة، ولا كان ينوي الخروج؛ إذ لم تبدُ من بادرة نحو هذا، وأن مقتله لم يكن إلاَّ نتيجة مؤامرات لم يكن هو طرفًا فيها، ولكن كانت مصلحة المصحفي في قتله ليصفو له الأمر.

          المؤامرات بين الصقالبة وجعفر المصحفي

          عاد ابن أبي عامر إلى جعفر يُبَشِّره بتصفية المغيرة، ففرح بذلك، وقرَّب ابن أبي عامر إليه، فلمَّا بلغ الأمر لفائق وجؤذر سُقِطَ في أيديهم، وأخذا يتلاومان، ثم أرسلا إلى جعفر يعتذران إليه، ويقولان له: إنَّ الجزع أذهلنا عمَّا أرشدك الله إليه، فجزاك الله عن ابن مولانا خيرًا، وعن دولتنا وعن المسلمين. وأظهرا له القبول والاستبشار، فأظهر الحاجب جعفر -أيضًا- لهما قبول عذرهما، وعدم التثريب عليهما، غير أن العداوة قد استعلنت بين الطرفين: الصقالبة من جهة، وحزب هشام من جهة أخرى، فبقي الحاجب جعفر على حذر شديد من الصقالبة كلهم، ونَشَرَ بينهم العيون والجواسيس، وظلَّ في انتظار الفرصة المناسبة لتمزيقهم وتشتيت جمعهم، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك.

          بلغ المصحفي أن فائقًا وجؤذرًا يتآمران مع بعض أتباعهما من الصقالبة في داخل القصر وخارجه؛ لتنحية هشام عن الملك، فشدَّد الحاجب الرقابة على الصقالبة، وأمر بسدِّ الباب المخصَّص لهم في القصر، وأن يكون دخولهم وخروجهم من بعدُ من باب السدَّة مع باقي الناس، ثم تفاهم مع ابن أبي عامر على أن يُلحق بعضهم بحاشيته، فاستجاب له ابن أبي عامر، فانتقل خمسمائة منهم إلى حاشية ابن أبي عامر، فعمل ابن أبي عامر على استرضائهم، وقويت بهم شوكته من بعدُ.

          فشعر مَنْ بقي من الصقالبة بأن أمرًا ما يُحَاك ضدَّهم، فسَعَوْا للضغط على الحاجب جعفر، فأعلن الفتى جؤذر رغبته في الاستعفاء من عمله، وكان يظنُّ أن له مكانة في القصر، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، إلاَّ أن استقالته قد قُبلت بالفعل في رسالة واضحة لمَنْ بقي منهم، أنهم لا يُمَثِّلون الأهمية الكبيرة التي يظنونها لأنفسهم، فزاد تذمُّرهم وسخطهم على الدولة، وكان أكثرهم جسارة في ذلك فتى اسمه دري، وكان جاهلاً متمردًا، فحرَّك الحاجب جعفرٌ المصحفي رجلَه القوي الذكي ابنَ أبي عامر للتخلص منه، فأوعز ابن أبي عامر لمن تحت قيادة الفتى دري بأن يشتكوا جوره وظلمه لهم؛ لكي يُخَلِّصهم منه، فسارعوا إلى ذلك.

          ورفع الحاجب جعفر أمر ذلك إلى هشام المؤيد، فأمر بجمع دري والمتظلمين منه والتحقيق معهم، فاستدعاهم ابن أبي عامر إلى دار الوزارة للتحقيق معهم، فلما أقبل دري على دار الوزارة، أحسَّ بالشرِّ فَهَمَّ بالرجوع فاعترضه ابن أبي عامر وقبض عليه، فأساء دري إليه وتشاجر معه، وجذبه من لحيته، فقُبِض عليه ثم حُمِلَ إلى داره، وقُتل في تلك الليلة، ثم عمد إلى باقي الفتيان الصقالبة فأمرهم بمغادرة القصر إلى دورهم، وأن يلزموها ولا يخرجوا منها، فلما تمَّ له ذلك، اشتدَّ في مطاردتهم، وأخذ أموالهم؛ حتى لا يُفَكِّروا في العودة إلى التآمر على الدولة، ونفى فائقًا إلى الجزائر الشرقية (جزر البليار حاليًا) فبقي بها حتى مات، وبذلك استأصلوا شوكة الفتيان الصقالبة، وأَمِنُوا مكرهم[4].



          [1] ذكر ابن عذاري في البيان المغرب 2/253 أنه بلغ إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر، في حين ذكر ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص44 أنه تولَّى وهو ابن عشر سنين، وقال المقري في نفح الطيب 1/396 أنه تولى وهو ابن تسع سنين.
          [2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/295 وما بعدها، بتصرف.
          [3] ابن بسام: الذخيرة 7/58.
          [4] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/295، وما بعدها بتصرف.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #50
            محمد بن أبي عامر .. الحاجب المنصور


            نشأة ابن أبي عامر



            هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد -رحمه الله، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، واستقرَّ بها، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وقد مات في مدينة طَرَابُلُس الغرب وهو عائد من أداء فريضة الحج، وأمه هي بُرَيْهَة بنت يحيى من قبيلة بني تميم العربية المعروفة.


            نشأ محمد بن أبي عامر في هذا البيت نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظافره، وقد سار على خطى أهله وسَلَك سبيل القضاء؛ فتعلَّم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قُرْطُبَة ليُكمل تعليمه.

            ابن أبي عامر في قصر الخلافة

            كان ابن أبي عامر ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد، وعمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق بن السليم، الذي رأى من نبوغه ما جعله يوصي به عند الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وكان من تصاريف القدر أن وَلدت صبح البشكنسية –جارية الخليفة الحكم المستنصر- ولدها الأول عبد الرحمن فطلب الحكم المستنصر وكيلاً لولده عبد الرحمن، يقوم على ولده ويرعاه، فرشَّح الحاجب المصحفي هذا الفتى النابه محمدَ بن أبي عامر لذلك، وأثنى عليه عند الحكم المستنصر، فولاه الحكم المستنصر وكالة ابنه عبد الرحمن بالفعل سنة (356هـ).

            وقد أُعجب الحكم المستنصر بأخلاق محمد بن أبي عامر، وذكائه ونباهته وحُسن تصرُّفه، كما بهره هذا النبوغ العلمي الذي يحوزه ذلك الشاب، ولقد كان الحكم –كما سبق- عالمًا وخبيرًا بالأنساب ومؤرخًا، فلا شَكَّ أن هذا كان من أهم أسباب تقريبه لابن أبي عامر وحبِّه إيَّاه.

            توفي عبد الرحمن طفلاً صغيرًا، ثم لم يلبث أن ولدت صبح ولدها الثاني هشامًا، فتولَّى وكالته -أيضًا- ابن أبي عامر سنة (359هـ)، ولم يلبث أن تدرَّج في المناصب العليا، فعُيِّنَ أمينًا لدار السكة، وكُلِّفَ بالنظر على الخزانة العامة وخُطة المواريث، ثم أصبح قاضيًا لإِشْبِيلِيَة ولبلة، ثم عَيَّنه مديرًا للشرطة الوسطى، ثم ولاَّه الأمانات بالعدوة، فاستصلحها واستمال أهلها، ثم عينه الحكم قاضي القضاة في بلاد الشمال الإفريقي، وأمر عماله وقوَّاده هناك ألا يقطعوا أمرًا إلاَّ بمشورته، ثم عينه الحكم المستنصر ناظرًا على الحشم وهو في مرض موته.

            ومن المدهش في أمر محمد بن أبي عامر أنه لم يتولَّ عملاً إلاَّ وأداره ببراعة وكفاءة فاقت براعة سالفيه، رغم أنه دونهم في السنِّ والخبرة، وأنه كانت تزيد عليه المناصب والتكاليف فيستطيع أن يجمع بينها مهما اختلفت وتكاثرت ويُبْدي –بعد كل هذا- مهارة فائقة في الإدارة والتصرف، رغم أن الدولة كانت في عصرها الذهبي؛ أي أن الأعمال كانت في الغاية من التفنن والدقة، وتتطلب خبرة وإتقانًا.
            وكان مما ساعد محمد بن أبي عامر على أن يصل إلى هذه المراتب العالية بهذه السرعة –بجانب هذه المواهب النادرة- أنه استطاع استمالة «صبح البشكنسية» أمَّ هشام المؤيد، وجارية الحكم المستنصر، بحُسن خدمته لها ولابنها، وسعة بذله في الهدايا التي كان يُهديها دائمًا إليها، فأتاها بأشياء لم يُعهد مثلها؛ حتى لقد صاغ قصرًا من فضة وقت ولايته السكة، وصرف فيه مالاً جسيمًا، حتى جاء بديعًا، لم تَرَ العيون أعجب منه ولا أحسن، ثم حُمل إليها من دار ابن أبي عامر؛ ليُشاهده الناس جميعًا، في مشهد لم يُعهد ولم يُرَ مثله من قبلُ.

            على أن الحكم المستنصر لم يكن غائبًا عن هذا كله، فيُحكى أن الحكم المستنصر ظنَّ أن محمد بن أبي عامر يُتلف مال السكة (وزارة المالية) المؤتَمن عليه، فأمره الحكم بأن يُحضر المال الذي عنده ليراه بنفسه، ويتأكَّد من كماله، ويُقال: إن ابن أبي عامر كان قد استهلك بعضًا من هذه الأموال؛ ولذلك ذهب إلى الوزير ابن حدير ليُسلفه المال الناقص -وكان صديقًا له- فأسلفه ابنُ حدير المال الناقص، فعرف الحكم أنه قد أساء به الظنَّ، وزاد إعجابُ الحكم بأمانة ابن أبي عامر وحُسن تدبيره، ورفع قدره عنده، وبمجرَّد أن تأكَّد الحكم من عدم نقصان المال، أعاد ابن أبي عامر إلى الوزير ابن حدير مالَه، وهو مع هذا كله يُحسن معاملة الحاجب (رئيس الوزراء) جعفر بن عثمان المصحفي ويُداريه[1]، ويطلب منه دائمًا النصح والمشورة[2].

            بعد وفاة الحكم المستنصر، وبعد القضاء على مؤامرة الصقالبة، ثم على قوة الصقالبة ونفوذهم في القصر، صفا الحال لحزب هشام بن الحكم المؤيد بالله، وهذا الحزب -كما سبق وقلنا- متمثِّل في الحاجب المصحفي، وأم الخليفة الصغير صبح البشكنسية، وهي الشخصية القوية في القصر، التي كانت أحب نساء الحكم إليه وأحظاهن عنده. ثم ابن أبي عامر الشخصية القوية التي تتولَّى العديد من الأعمال، والتي يتكئ عليها جعفر المصحفي في كل عمل مهم، وهو كذلك متصل بصبح باعتباره كان وكيلاً لولدها هشام –الذي هو الخليفة الآن- ثم تولَّى النظر على شئون الخاصة.

            بين محمد بن أبي عامر وصبح البشكنسية

            تذكر المصادر التاريخية أن حبًّا عظيمًا نشأ بين صبح وبين محمد بن أبي عامر، وأن هذا الحب كان ذا سهم كبير –بجانب كفاءة ابن أبي عامر- في ترقيه في مناصب الدولة، ثم في الأمور التي ستأتي فيما بعد، والحقُّ أن أمرًا كهذا لا يمكن القطع به على سبيل اليقين، وإن لم يكن مستبعدًا، فصبح شابَّة جارية كانت عند الخليفة الذي كان في مرحلة الكبر، بينما ابن أبي عامر شاب يشتعل ذكاء وحسنًا، ومقدرة على تصريف الأمور، ثم هو يتقرَّب إليها بين الحين والحين بالهدايا الفاخرة.

            إلاَّ أن كل هذا لا يدفعنا للتيقُّن من وجود هذا الحب، فضلاً عن أن ندخل فيما حرَّم الله -كما فعل البعض- فنتوقَّع ما وراء هذا مما يُجاوز الحلال إلى الحرام؛ ذلك أن كل ما حدث وما سيأتي يمكن أن يُفَسَّر في إطار المصلحة المشتركة؛ ابن أبي عامر لا عصبة له ولا عائلة يتكئ عليها، فلا بُدَّ له من وجود هشام في منصب الخليفة؛ ليبقى هو في مكانته من الدولة، وصبح جارية بشكنسية فلو لم يكن ولدها في منصب الخليفة لما كان لها شأن يُذْكَر، إلى جانب ما رُكِّب في الأُمِّ من غريزة حب الولد، التي تجعلها تجاهد ما استطاعت ليكون ولدها هو الخليفة سيد البلاد.

            ففي هذه اللحظة من تاريخ الأندلس كان في المشهد ثلاث شخصيات قوية: المصحفي الذي يتكئ على عصبته «المصحفيين»، وابن أبي عامر يتكئ على صبح والخليفة ومواهبه الفائفة، وصبح التي تتكئ على ولدها الخليفة وعلى ولاء محمد بن أبي عامر. ثم نُضيف إلى هؤلاء شخصية قوية رابعة ألا وهي شخصية فارس الأندلس الكبير وصاحب التاريخ الجهادي الزاهر غالب الناصري.

            وكان غالب الناصري لا يحب المصحفي، ولا يراه أهلاً لأن يكون شيخَ الموالي دونه؛ ذلك أن المصحفي ليس له سابقة جهاد ولا تاريخ، كما أنه معروف بالبخل، ولم يَتَرَفَّع في مناصب الدولة إلاَّ لأنه كان -قديمًا- مُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا للخليفة الحكم لَمَّا كان ولي العهد، فلمَّا تولى الحكم الخلافة عَهِدَ إليه بمنصب الحجابة.

            هجمات النصارى على الأندلس



            ثم وقع بالأندلس حادث خطير؛ إذ ما أن علم نصارى الشمال بوفاة الحكم المستنصر، وجدوا الفرصة سانحة لنقض كلَّ ما كان بينهم وبينه من عهود ومواثيق، وشرعوا يُهاجمون الثغور الإسلامية هجمات عنيفة، بغرض الثأر من المسلمين وإضعافهم؛ فلا يجدون فرصة لاستجماع قواهم من جديد، ولا يجد حاكمهم الجديد -أيضًا- الفرصة لتوطيد مُلكه؛ فيستطيع من بعدُ أن يُوَجِّه لهم الضربات العنيفة التي اعتادوها في عهد الحكام الأقوياء؛ ومن هنا فقد اشتدَّت هجمات نصارى الشمال على الثغور الإسلامية، بل وتخطّوها حتى كادت حملاتهم تصل إلى قُرْطُبَة عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس.


            وكأنَّ ضعف الخليفة الصغير قد انسحب على رجال الدولة جميعًا، فلم يُقدم أحد على كفاح النصارى وردِّهم، ولا يجدون أحدًا يتقدَّم لهم؛ فغالب الناصري في مدينة سالم -وهي إحدى الثغور- يقول بأنه لا يستطيع ترك المدينة؛ وإلاَّ هوجمت. وبعض التحليلات تقول بأنه لم يشأ الخروج لملاقاة العدوِّ ليُحْرِج المصحفي، ويُثَبِّت قدره ومكانته في الدولة.

            والمصحفي متردد خائر الرأي، ليس له عزيمة، ولا يدري ماذا يفعل، وهو يجبن عن الخروج لملاقاة العدوِّ، بل بلغ به الأمر -بالرغم من قوة الجيش الذي تركه الحكم المستنصر، ووفرة المال والسلاح والعتاد- أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدِّ نهرهم؛ ظنًّا منه أن هذا قد يُنجيهم من ضربات النصارى المتلاحقة.

            وهكذا بدت هذه الدولة القوية وكأنما ستعاني وتسقط جراء خلافات رجالها، وصغر سن خليفتها، وضعف وتردُّد حاجبها ومتولِّي إدارتها.

            وهنا.. نهض للأمر محمد بن أبي عامر، الذي أَنِف من تصرُّف المصحفي، ووجد فيها إعلانًا بالضعف والصغار، وكأن البلاد قد خلت من الرجال، فلا يجدون رجلاً يقود الجيوش القوية الموجودة بالفعل، فيلجئون إلى هذه الخطة الدفاعية الذليلة التي تضرُّ، وقد لا تنفع، فعرض محمد بن أبي عامر على الحاجب جعفر المصحفي أن يقوم بتجهيز الجيش للجهاد في سبيل الله، ولكن لم يجد المصحفي رجلاً يقود الجيش، فلقد جبنوا، فضلاً عن استحالة أن يقوم هو بنفسه بقيادة الجيش؛ فليست له خبرة بالجهاد من قبل، فبادر لهذه القيادة ابن أبي عامر، وقام باختيار مَنْ يخرج معه من الرجال، واحتاج في تجهيزه للجيش لمائة ألف دينار، فاستكثر ذلك بعض الحاضرين، فقال له ابن أبي عامر: «خُذْ ضِعْفَها، وامض! وليحسنْ غَنَاؤُك». فبُهت المعترض وسكت.

            بروز نجم محمد بن أبي عامر

            استعدَّ ابن أبي عامر لهذه الغزوة أفضل استعداد، وقاد الجند، وأخذ معه المال، وسار في رجب سنة (366هـ) إلى الشمال، وهرب من أمامه جيش النصاري، ثم استطاع الاستيلاء على حصن الحامة وربضه، وعاد إلى قُرْطُبَة بعد اثنين وخمسين يومًا من خروجه إلى الغزو محملاً بالسبي والغنائم، ففرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزاد حبُّهم وتقديرهم له؛ إذ استطاع بشجاعته وإقدامه رفع الذلِّ والعار عنهم، وكذلك أحبه الجنود الذين كانوا معه؛ لِمَا رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وشجاعته في الحرب، فأحبوه والتفُّوا حوله، وزاد هو إحسانًا إليهم.
            وهكذا انتهت الغزوة الأولى لصالح المسلمين عامة، ولصالح ابن أبي عامر خاصة، ولم تفتر همة ابن أبي عامر بعد هذه الغزوة؛ بل سارع بهمة عالية إلى استغلال آثارها على كافَّة المستويات، وكانت هجمات النصارى التي تتابعت على الأندلس عقب موت الحكم، وسكوت غالب عن مواجهتها قد أضعفت مركز غالب بن عبد الرحمن وقَلَّلَتْ من شأنه.
            محمد بن أبي عامر وغالب الناصري

            عرف ابن أبي عامر ما في نفس غالب من العداوة للمصحفي، وبأنه يرى نفسه فوقه، ويُغضبه أن يكون المصحفي في الحجابة وفي مراتب الدولة، وهو الذي بلا تاريخ ولا سابقة، فسعى ابن أبي عامر للدفاع عن غالب عند الخليفة الصغير وأُمِّه، فرُفع بذلك قدره، وأُعطيَ لقب ذي الوزارتين، وأصبح هو وابن أبي عامر المسئولَيْنِ عن الإعداد للصوائف؛ فهو المسئول عن جيش الثغر، وابن أبي عامر المسئول عن جيش الحضرة (أي الجيش المكلف بالدفاع عن قُرْطُبَة)، وفي عيد الفطر من العام نفسه (366هـ) اتجه ابن أبي عامر بالجيش إلى الشمال، واجتمع ابن أبي عامر بغالب بن عبد الرحمن في مدينة مجريط (مدريد الآن)، واتجها بالجيش إلى قشتالة، وفتحا حصن مُولَة، وغنموا وسبوا كثيرًا، وكان غالب ورجاله قد أبلوا أحسن البلاء، حتى كانوا سببًا في هذا الفتح.

            وكان غالب قد أحب ابن أبي عامر لما رآه من مواهبه، أو لما رأى من سعيه للدفاع عنه ورَفْع قدره عند الخليفة وأمه، ودوره في أن يُلَقَّب بذي الوزارتين، أو لما كان من العداوة بينه وبين للمصحفي؛ فمن ثَمَّ رأى أن ابن أبي عامر أحق بالحجابة من المصحفي.

            أيًّا ما كان الأمر، لسبب مما سبق أو لكل هذه الأسباب معًا، فلقد توطَّدت العلاقة بين غالب الناصري ومحمد بن أبي عامر، إلى الحدِّ الذي تنازل فيه غالب عمَّا أبلاه وجنوده في الفتح، فنُسب ذلك كله إلى ابن أبي عامر، فأرسل الرسائل إلى قُرْطُبَة تُشيد بما كان منه ومن بطولته وجهاده، وعظم الفتح الذي تمَّ على يديه، ثم اتفقا على عزل المصحفي، ذلك الحاجب الضعيف المتردِّد الرأي، وقال غالب لمحمد بن أبي عامر: «سيظهر لك بهذا الفتح اسم عظيم وذِكْر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تُحدثه من قصة، فإيَّاك أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!»؛ لأن ابن جعفر المصحفي كان متوليًا لقُرْطُبَة العاصمة، وعَزْل هذا الوالي أول طريق عزل المصحفي عن الحجابة.

            عاد ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة ومعه الغنائم والسبي، فاستمال بهذا الفتح الكبيرِ العامةَ والخاصةَ، وعَرفوا فيه حُسن النقيبة، وبُعد الهمة، فما كاد يصل ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة حتى أمر الخليفة في اليوم نفسه بعزل محمد بن جعفر المصحفي عن مدينة قُرْطُبَة، وتولية ابن أبي عامر المدينة، فأظهر ابن أبي عامر في حُكم المدينة كفاءة منقطعة النظير؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي يصف ما قام به بالنسبة إلى فعل ابن المصحفي فيقول: «فضبط محمد المدينة ضبطًا أنسى أهل الحضرة (أي قُرْطُبَة) مَنْ سلف من أفراد الكُفَاة[3] وأُولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويُكابدون من روعات طُرَّاقه ما لا يُكابد أهل الثغور من العدوِّ. فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته، وتنزُّهه عما كان يُنسب لابن جعفر؛ فسدَّ باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والذعارات، حتى ارتفع البأس، وأَمِنَ الناس، وأمنت عادية المتجرِّمين من حاشية السلطان؛ حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة؛ فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدًا مبرحًا كان فيه حمامه[4]؛ فانقمع الشرُّ في أيامه جملة»[5].

            ولما رأى الحاجب جعفر المصحفي ما آل إليه أمر ابن أبي عامر من القوة، وما بدا من تضعضع قوته وانحسار نفوذه، بادر إلى استمالة غالب، فخطب ابنة غالب لابنه، وما أن علم ابن أبي عامر بالأمر، حتى أرسل إلى غالب يُناشده العهد، ويخطب ابنة غالب لنفسه، وسانده في ذلك أهل دار الخلافة، فخرج طلب خطبة أسماء إلى ابن أبي عامر من قصر الخلافة في الزهراء، وبهذا كان الميزان كله في صالح ابن أبي عامر، فوافق غالب على تزويج ابنته أسماء له، وتم عقد القران بالفعل في المحرم سنة (367هـ)، وعندها أيقن المصحفي بالنكبة، وكفَّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء، وانفضَّ الناس عن المصحفي، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قُرْطُبَة ويروح وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها.

            نهاية جعفر المصحفي

            وبعد أن تمَّ عقد قران ابن أبي عامر على أسماء ابنة غالب، خرج ابن أبي عامر في غزوته الثالثة، فخرج إلى طليطلة في غرَّة صفر 367هـ، واجتمع مع صهره غالب، ونهضا معًا إلى الشمال النصراني، فافتتحا حصن المال، وحصن زنبق، ودخلا مدينة شلمنقة، واستولوا على أرباضها، ثم عاد ابن أبي عامر بالغنائم والسبي، وبعدد كبير من رءوس النصارى، بعد أربعة وثلاثين يومًا من خروجه، فزادت حفاوة الخليفة به، وقلده خُطَّة الوزارتين للتسوية بينه وبين صهره، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارًا في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك الوقت، ثم زُفت أسماء بنت غالب إلى محمد بن أبي عامر في ليلة النيروز من قصر الخليفة في عرس لا مثيل له في الأندلس، ثم قلَّده الخليفة خُطَّة الحجابة إلى جانب جعفر المصحفي، ثم تغيَّر الخليفةُ على جعفر وسخط عليه، وأمر بعزله هو وأولاده وأقاربه عن أعمالهم في الدولة، والقبض عليهم، فسارع محمد بن أبي عامر إلى محاسبتهم حتى استصفى كل أموالهم، ومزَّقهم كل ممزق، وأيقن جعفر المصحفي بأنه هالك لا محالة، فحاول استرضاء ابن أبي عامر إلاَّ أن ذلك لم يُجْدِ شيئًا، حتى توفي سنة (372هـ) في سجنه، وقيل: قُتل. وقيل: دست إليه شربة فيها سُمّ[6].

            ويُعلِّق ابن حيان على ما آل إليه أمر جعفر المصحفي فيقول: «وكانت لله عند جعفر في إيثاره هشامًا بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظِّ دنياه، وتسرُّعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسُلط عليه مَنْ كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه»[7].


            [1] دارى: أي لاينه ورفق به، وأحسن صحبته واحتماله له؛ لئلاَّ ينفر منه. ابن منظور: لسان العرب، مادة درى 14/254.
            [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/،256 وما بعدها بتصرف.
            [3] الكُفاة: الخدم الذين يقومون بالخدمة؛ جمع كافٍ. ابن منظور: لسان العرب، مادة كفى 15/226.
            [4] أي مات من الجلد، وكان قد جلده في حد شرب الخمر.
            [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/266.
            [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/264، بتصرف.
            [7] انظر: ابن بسام: الذخيرة 7/65.

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #51
              الدولة العامرية في الأندلس


              الدولة العامرية (366-399هـ= 976-1009م)



              استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ فلقد أضحى الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس؛ فهو الحاجب القوي، الذي يسوس البلاد والعباد، ويغزو صيفًا وشتاءً فينتصر في كل معاركه مع النصارى، بينما الخليفة الذي كان صغيرًا يكبر على مهل، ولا يدري من حال مملكته شيئًا.


              وقبض الحاجب محمد بن أبي عامر على أَزِمَّة السلطان في الدولة، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.

              والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، وتُعَدُّ الدولة العامرية مندرجة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الخليفة ما زال قائمًا، وإن كان مجرَّد صورة.

              ابن أبي عامر وتوطيد حكمه

              من الأهمية بمكان -ونحن نناقش فترة محمد بن أبي عامر- أن نتذكر أنه بلا عصبة، أي ليست وراءه عائلة يتقوى بها، وتتعصب له على نحو ما كان مهيَّأ للعائلات الكبيرة؛ كبني أمية وبني العباس في المشرق، وغيرهم من العائلات الأقل، ولنتذكر أن عامل «العصبية» هذا هو الذي كان يحكم كل العالم إلى ما قبل أن تنشأ الجمهوريات الحديثة، فكان لا بُدَّ للملك أو الحاكم أن تكون له عصبة ترفعه وتحميه ويتكئ عليها.

              وحين دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استفاد من تناحر العصبيات العربية الكائنة فيها، فحاول التحالف مع القيسية، ثم تحالف مع اليمنية وبهم انتصر، ولقد كان الداخل بعيد النظر حين علم أنه إن أراد إقامة دولة للإسلام فلا بُدَّ له من أن يقضي على العصبيات، وأن يتخذ لنفسه رجالاً لا عصبية لهم، فأكثر –رحمه الله- من اتخاذ الموالي، الذين صار لهم الشأن الأكبر في عهد الإمارة الأموية، بينما تراجعت رجالات العرب، وابتعدت عنهم المناصب، وصاروا في الدولة في مكانة تشريفية؛ يحضرون المجالس ويُقَدَّمون في المناسبات، وما إلى ذلك.

              وكذلك -أيضًا- فعل عبد الرحمن الناصر؛ فلقد أكثر من الاعتماد على البربر الذين عبروا إلى الأندلس من عدوة المغرب، ونستطيع أن نقول بأن نجاح الدولة الأندلسية كان من أهم أسبابه اختفاء العرب ذوي العصبيات من مناصب الحكم.

              وكذلك فعل ابن أبي عامر؛ فلقد كان البربر عُدَّته ورجاله، ولقد استكثر منهم، وضمهم إليه واستقوى بهم، وكان ابن أبي عامر قد تولى قضاء عدوة المغرب في أيام الحكم المستنصر، وساهم بذكائه وحسن سياسته في جعل أهم قبائل البربر المغربية -وهم بني برزال، وزعيمهم جعفر بن حمدون- يتخلَّوْن عن تحالفهم مع العبيديين (الفاطميين)، وينحازون بالولاء إلى قُرْطُبَة عاصمة الأمويين، وكان من نتائج هذا أن فقد العبيديين (الدولة الفاطمية) المغرب الذي خلص من بعد للأمويين[1].

              فالآن نحن أمام رجل ذكي موهوب، حسن السياسة، يتولَّى حكم الأندلس فعليًّا باسم الخليفة الغلام هشام المؤيد بالله، وصحيح أن الأندلس قد خلت من الرجال الأقوياء، الذين يبلغون منافسته في الحكم –اللهم إلا فارس الأندلس العظيم غالبًا الناصري، وهو صهره الآن وعلاقتهما طيبة وبينهما تحالف- إلاَّ أن هذه السياسة تجعله في خطر من بني أمية، الذين يرون الملك باسمهم، ولكن فعليًّا ليس بأيديهم، وكذلك المصحفيين الذين نُكبوا وزالت سطوتهم بزوال الحاجب جعفر المصحفي.

              وبعد قليل سيظهر في الأفق خصم شديد الخطر عظيم الذكاء، إنها صبح، أُمُّ الخليفة هشام، والتي سترى أن الخلافة تخرج من بين يدي ولدها، وأن ابن أبي عامر يُسيطر بنفسه على الأمور.

              مدينة الزاهرة



              كما أنشأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قُرْطُبَة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة ملوكية جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، بدأ في بنائها عام (368هـ)، وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في (370هـ)، نقل إليها الوزارات ودواوين الحُكم، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحُكم[2].

              وكان إنشاء هذه المدينة يُحَقِّق هدفين مهمين؛ الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، وحيث قصر الخليفة وأمه، ومن غير المأمون أن تُدَبَّر عليه مؤامرة بيد الأمويين أو مواليهم أو بعض فتيان القصر. والثاني: هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بشئون الدولة وإدارتها.

              قدوم جعفر بن حمدون

              استدعى ابن أبي عامر (في عام 370 هـ) فارس المغرب وزعيم بني برزال جعفر بن حمدون، وقد ذكرنا أنه قد كانت بينهما صلة قديمة منذ كان ابن أبي عامر قاضيًا في المغرب، فنزل جعفر إلى الأندلس وقربه ابن أبي عامر ورفع من قدره، ولا شَكَّ أن في هذه الخطوة تقوية لمركز وقوة ابن أبي عامر، فجعفر فارس كبير وشخصية قوية، ثم هو زعيم البربر الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيم منهم في كنفه، وأن يصير من رجال الدولة وفرسانها.

              إلاَّ أن هذا النزول وهذه النتائج لم تكن بالتي تغيب عن ذهن فارس الأندلس غالب الناصري، والذي رأى في وجود جعفر منافسة له، بل وربما تحديًا، يُثبت أن الدولة تستطيع الاستغناء عنه بغيره، وأنه لم يَعُدِ الوحيد المختص بجهاد العدوِّ، ولم يَعُد الدِّعامة التي يُستند إليها في مهمات الحرب الجليلة.

              ولا شَكَّ أن ابن أبي عامر استفاد من درس الماضي القريب؛ حين كان المصحفي في الحجابة، وثار العدو بثغور الأندلس فلم ينهض إليهم غالب لإحراج المصحفي ولإثبات مكانته من الدولة، فأحب أن يتجنَّب تكرار هذه الأزمة، وتورد بعض الروايات أن غالبًا كان بالفعل «يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويُباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدَّم لابن أبي عامر بها معرفة»[3].

              ومن ثَمَّ ساء الجوُّ بين غالب وابن أبي عامر.. ووقع الحدث الخطير، وهو تمرد غالب الناصري.

              تمرد غالب الناصري

              خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة أقامها بمدينة «أنتيسة» وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»[4]. ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.

              ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة وقد استُعلنت بينهما العداوة.

              جهز ابن أبي عامر جيشًا من قُرْطُبَة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش قُرْطُبَة، فأمده راميرو بجزء من جنده.

              ويستطيع المرء أن يتخيَّل السعادة التي حازها راميرو حينما يجد الفارس الكبير الذي أذله وبلاده كثيرًا في موقف المستنجد به، ولعلَّه أمَّل في أن يكون هذا بداية تحالف طويل بينهما.

              نهاية غالب الناصري

              التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب –الذي صار فارس المغرب والأندلس- جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.

              ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى -وربما الأخيرة- في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.

              رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، ولولا أنه وصل إلينا من رواية صحيحة ثابتة لما صدقه أحد من المؤرخين[5]، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.

              وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[6]، إلاَّ أن هذا الحادث المفاجئ أسفر عن تطور لم يتوقَّعْه أحد؛ إذ انحاز جيش غالب المسلم إلى جيش قُرْطُبَة فوقع جيش ليون في المأزق الكبير!

              بقي أن نذكر -قبل أن نتجاوز قصة تمرُّد غالب الناصري- أن بعض المؤرخين يتوقَّع أن من أسباب تمرُّد غالب الناصري ما قد يكون تحريضًا من صبح أم الخليفة الفتى، التي بدأت ترى أن الملك يذهب من بين يدي ولدها.

              غزو الممالك النصرانية

              استدار جيش ابن أبي عامر -الذي انحاز إليه جيش غالب- ليواجها جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية، التي استمرَّت بعدئذٍ سبعة وعشرين عامًا، وانتهت جميعها بالظفر للمسلمين.

              قصد ابن أبي عامر إلى مدينة سمورة –التابعة لمملكة ليون- ليُعاقب ملكها راميرو الثالث، وحاصرها واستولى على ما حولها، وفرت أمامه الجيوش، حتى طلب راميرو المساعدة من غرسية صاحب قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا، وسارت الجيوش المتحالفة إلى لقاء جيش المسلمين فهُزموا شرَّ هزيمة، ثم زحف الجيش الإسلامي في خطوة بالغة الشجاعة إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، إلاَّ أن نزول الشتاء والثلوج دفعا بالجيش إلى الرجوع دون إكمال فتح المدينة، فعاد الجيش إلى قُرْطُبَة، وكان ابن أبي عامر يحمل معه مفاجأة:

              الحاجب المنصور

              بعد عودة الجيش الإسلامي إلى قُرْطُبَة مكللا بهذا الظفر الكبير؛ القضاء على تمرُّد غالب الناصري، ثم هزيمة جيش ليون، ثم هزيمة جيوش النصارى المتحالفة، ثم الوصول إلى أبواب ليون، قام محمد بن أبي عامر (في سنة 371هـ=982م) باتخاذ لقب ملوكي، فلَقَّب نفسه بالحاجب المنصور، وقد كانت الألقاب من قبلُ عادة الخلفاء، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكُتب والرسائل[7].

              ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور (Al manzor).

              كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، وعلى المستوى الداخلي فاض الأمن والرخاء، وبلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة.

              وكانت الدولة العامرية تحت السلطان الكامل للحاجب المنصور، ويختفي تمامًا ذكر الخليفة هشام، الذي ظلَّ حبيس قصره الفاخر في الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا؛ لذا تختلف الروايات التاريخية إلى حدِّ التضارب في حاله؛ فمن رواياتٍ تذكر أنه كان منصرفًا للعبادة مقبلاً على العلم كثير الإنفاق على المحتاجين[8]، إلى رواياتٍ أخرى تقول بأنه كان منصرفًا إلى اللهو والعبث ومجالسة الجواري والاهتمام بالتفاهات[9]، إلى روايات أخرى تصفه بالذكاء والحكمة والمروءة[10]، إلاَّ أنه كان مغلوبًا على أمره، ليس بيده شيء يمكنه به استرجاع ملكه في ظلِّ السيطرة الكاملة والشاملة للمنصور على مقادير الأمور.

              بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد قام المنصور بن أبي عامر في سنة (381هـ=991م) بأمر لم يُعهد من قَبْلُ في تاريخ الأندلس؛ بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن يكون العهد بالخلافة، وأن يكون من الخليفة نفسه، ثم بعد خمس سنوات أي في سنة (386هـ= 996م) اتخذ لنفسه لقب الملك الكريم[11].


              [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/278، وتاريخ ابن خلدون، 4/147.
              [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/275، وتاريخ ابن خلدون، 4/148، والمقري: نفح الطيب، 1/578.
              [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/278.
              [4] المقري: نفح الطيب، 3/91.
              [5] رواه الإمام الكبير ابن حزم عن أبيه الوزير شاهد العيان. ابن حزم: رسائل ابن حزم 2/94، 95. رسالة نقط العروس.
              [6] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص64.
              [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/279.
              [8] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/253.
              [9] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، 1/194، 195.
              [10] ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/373.
              [11] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/293، 294.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #52
                المنصور ابن أبي عامر .. المجاهد الذي لا يهزم

                تولَّى محمد بن أبي عامر الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- في سنة (392هـ= 1002م)، وقد قضى هذه المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها[1].

                غزوات المنصور ابن أبي عامر



                غزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة؛ تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبلُ، واستطاع –رحمه الله- أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو ذا قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية[2].


                وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلاَّ أن الحاجب المنصور كانت له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.

                غزوة شانت يعقوب

                كانت أعظم هذه الغزوات قاطبة غزوة «شانت ياقب»، وشانت ياقب هو النطق العربي في ذلك الوقت لـ «سانت يعقوب» أي القديس يعقوب، وكانت هذه المدينة في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي منطقة على بعدها الشديد عن أهل الأندلس في ذلك الوقت كانت شديدة الوعورة؛ ولذلك لم يصل إليها فاتح مسلم قبل المنصور بن أبي عامر، هذا بالإضافة إلى أن هذه المدينة على وجه التحديد كانت مدينة مقدسة عند النصارى، فكانوا يأتونها من مختلف بقاع الأرض ليزوروا قبر هذا القديس؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي قال: إنها «أعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فبها يحلفون، وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها»[3].

                وكان ملوك نصارى الشمال كلما هاجم ابن أبي عامر عواصمهم فروا إلى هذه المنطقة القاصية الوعرة؛ يحتمون فيها من بأس المسلمين؛ ولهذا قرَّر ابن أبي عامر أن يذهب إلى هذه المدينة، وأن يحطم أسوارها وحصونها؛ ولِيُعْلِمَ هؤلاء أن ليس في شبه الجزيرة كلها مكان يمكنهم أن يحتموا فيه من بطش ابن أبي عامر.

                وقصة هذه المدينة هي ما يُقال عن يعقوب صاحب هذا القبر، من أنه كان أحد حواريِّي سيدنا عيسى ابن مريم u الاثني عشر، وأنه كان أقربهم إليه u؛ حتى سموه أخاه u للزومه إيَّاه، فكانوا يُسَمُّونه أخا الرب –تعالى الله عمَّا يصفون علوًّا كبيرًا - ومنهم مَنْ يزعم أنه ابن يوسف النجار، وتقول الأسطورة أن صاحب هذا القبر كان أسقف بيت المقدس، وأنه جاب الأرض داعيًا إلى عقيدته حتى وصل إلى تلك الأرض البعيدة، ثم إنه عاد إلى أرض الشام، وقُتل بها، فلما مات نقل أصحابه رفاته إلى آخر مكان بلغه في رحلته الدعوية.

                وفي صائفة سنة (378هـ) -وهي غزوته الثامنة والأربعون- قاد ابن أبي عامر قواته متجهًا بها نحو الشمال قاصدًا شانت ياقب، وفي الوقت نفسه بدأ الأسطول الأندلسي الذي أعده المنصور لهذه الغزوة تحرُّكَه من الموضع المعروف بقصر أبي دانس غربي الأندلس، وفي الطريق انضم إلى المنصور ابن أبي عامر عدد كبير من أمراء نصارى الإسبان؛ نزولاً على ما بينه وبينهم من معاهدات تُوجب عليهم أن يشتركوا معه في المعارك، ثم اتجه إلى شانت ياقب مخترقًا الطرق الجبلية الوعرة، حتى وصل إلى هذه المدينة، بعد فتح كل الحصون والبلاد التي في طريقه، وغنم منها وسبى، ثم وصل ابن أبي عامر إلى مدينة شانت ياقب ولم يجد فيها إلاَّ راهبًا بجوار قبر القديس يعقوب، فسأله عن سبب بقائه، فقال: أؤانس يعقوب. فأمر بتركه وعدم المساس به، وأمر بتخريب حصون هذه المدينة وأسوارها وقلاعها، وأمر بعدم المساس بقبر القديس يعقوب، ثم تعمق حتى وصل إلى ساحل المحيط دون أن يقف أمامه شيء، وكرَّ راجعًا، بعدما أنعم على مَنْ كان معه من أمراء النصارى بالمال والكساء كلٍّ على حسب قدره، ثم كتب إلى المسلمين يُبَشِّرهم بالفتح[4].

                صور من جهاد المنصور ابن أبي عامر

                يسير جيشا جرارا لإنقاذ نسوة ثلاث

                جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.

                وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث[5].

                يقطع النصارى عليه الطريق، فيملي شروطه عليهم

                ومما ذُكر عن الحاجب المنصور -أيضًا- أنه –رحمه الله- وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود.فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.
                وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.
                لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام. فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً ودوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب[6].

                يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليُدفن معه في قبره

                مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «... وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»[7]. فكان من عادة الحاجب المنصور -رحمه الله- في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى[8].
                ولقد كان من أهم مميزات جهاد الحاجب المنصور أنه كان يبدأ بالهجوم، ويحاول إجهاض المؤامرات في مهدها، ولا ينتظر للدفاع مثلما كان حال مَنْ سبقه[9].

                حضارة الأندلس في عهد الحاجب المنصور



                من الجوانب الوضَّاءة في حياة ابن أبي عامر أو الحاجب المنصور -أيضًا- اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد؛ فقد أسَّس مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون -كما ذكرنا- وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قُرْطُبَة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد، وذلك بالمبلغ الذي يرضونه[10].


                وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلاَّ إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخلة كما أرادت، حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد[11].
                زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو ما يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه -وللأسف- حُوِّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
                وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمَّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يَعُدْ هناك فقراء تمامًا، كما كان الحال أيام الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو أيام عبد الرحمن الناصر نفسه.
                وحتى البلاد التي فتحها المنصور من بلاد النصارى اهتم بتعميرها وعمارتها؛ حتى صارت الجزيرة الأندلسية كلها متصلة العمران، عامرة زاهرة خضرة نضرة[12].

                الاستقرار الداخلي في الأندلس

                كان من اللافت للنظر -أيضًا- في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه -التي امتدَّت من سنة (366هـ= 976م) وحتى سنة (392هـ= 1002م)- لم تقم عليه أي ثورة، أو تمرُّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها، اللهم إلاَّ ما ذكرناه من قبل عن النزاع بينه وبين غالب الناصري.
                فقد كان الحاجب المنصور رجلاً قويًّا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلاً مع الرعية؛ ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجلٌ بسيط من عامَّة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم يُنصفني فيها. وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم يُنصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي، وإنما هي عند الوسيط (بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا)، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب (يقصد ثياب التميز والحُكم)، واخلع سيفك، ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي. ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما. فنظر القاضي في أمرهما، وقال: إن الحقَّ مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط. فما كان من الحاجب المنصور إلاَّ أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحدِّ الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجَّب القاضي، وقال للمنصور: يا سيدي؛ إنني لم آمر بكل هذه العقوبة. فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقُرْبِه مِنَّا؛ ولذلك زدنا عليه الحدَّ؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكِّنه من ظلم الرعيَّة[13].


                [1] ابن عذاري: البيان المغرب 2/301، وتاريخ ابن خلدون، 4/148، والمقري: نفح الطيب 1/398.
                [2] انظر تفصيل ذلك عند ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294، والمقري: نفح الطيب، 1/413.
                [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294.
                [4] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/294، وما بعدها.
                [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/297، والمقري: نفح الطيب، 1/403.
                [6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/369.
                [7] الترمذي: كتاب فضائل الجهاد، باب في فضل الغبار في سبيل الله 1633 عن أبي هريرة t، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي 4316، وابن ماجة 2774، وأحمد 10567، والحاكم 7667، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
                [8]
                [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/540.
                [10] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/287.
                [11] المقري: نفح الطيب، 1/546.
                [12] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/181 م، وابن الكردبوس: نص في وصف الأندلس، من منشورات المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد 13/12.
                [13] ابن عذاري: البيان المغرب 2/289.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #53
                  المشهد الصليبي في عهد المنصور ابن أبي عامر



                  مملكة قشتالة



                  شُغل المسلمون بعد وفاة الحكم المستنصر لبعض الوقت بشئونهم الداخلية، فظنَّ النصارى -كالعادة- أن الوقت قد حان لأن يضربوا بكل عهود السلم التي كانت بينهم وبين الحكم المستنصر عُرض الحائط، وأن يعودوا إلى الإغارة على أراضي المسلمين، فأغار القشتاليون على الأراضي الإسلامية، وتوغَّلوا فيها جنوبًا، وعاثوا فيها فسادًا، فهبَّ ابن أبي عامر لردِّهم ومعاقبتهم، فغزا أراضي قشتالة في أوائل سنة (366هـ = 977م)، ثم غزاها ثانية، واقتحم مدينة شلمنقة في العام التالي، وبدأت بذلك سلسلة الغزوات الشهيرة المتوالية على الممالك النصرانية في الشمال، والتي استغرقت طيلة حياة ابن أبي عامر.


                  مملكة ليون

                  أمَّا مملكة ليون، فقد أقدم الملك راميرو الثالث، على معاونة القائد غالب الناصري ببعض قواته في خروجه على المنصور، فعزم ابن أبي عامر على عقاب راميرو على هذا التحدِّي، وسار إليه في جيش لمحاربته، فتحالف راميرو الثالث مع أمير قشتالة غرسية فرناندز ومع ملك نافار سانشو غرسية، والتقى الجمعان؛ المنصور بن أبي عامر من جهة والجيوش النصرانية المتحدة من جهة أخرى، وهزمهم المسلمون في موقعة شنت منكش سنة (371هـ= 981م).
                  وبعد هزيمة راميرو الثالث في هذه المعركة؛ ادَّعى أشراف ليون أنه لم يعد صالحًا لتولِّي أمر المملكة، فقرَّروا خلعه، وتولية ابن عمه برمودو بدلاً منه، ولكن راميرو لم يُذعن لهذا القرار، فحشد أنصاره وخاض حربًا مع ابن عمه، فهُزِم وفرَّ إلى مدينة أسترقة، ثم حاول أن يلجأ بعد ذلك إلى المنصور بن أبي عامر، وأن يستعين به لاسترداد عرشه، ولكن القَدَرَ لم يُمهله؛ إذ توفي بعد ذلك بقليل، وخلا الجوُّ لبرمودو.

                  ولكن برمودو نفسه لم يستطع الاطمئنان على ملكه؛ وبخاصة أن عددًا من الأشراف عارضوا حكمه، فخشي أن يُفعل به مثلما فُعل بابن عمه، فلجأ إلى المنصور بن أبي عامر يستمدُّ منه العون والتأييد في مقابل أن يعترف بطاعته، وأن يُؤَدِّيَ إليه الجزية، فأجابه المنصور إلى طلبه، وأرسل إليه بقوَّة من الجند، نزلت مدينة ليون عاصمة المملكة؛ لتحمي برمودو، وبذلك أصبحت ليون تابعة للمسلمين.

                  ولكن هذا الوضع لم يَرُقْ لبرمودو؛ فبمجرَّد أن شعر باستقراره على العرش، وبازدياد نفوذه وقوته، قرَّر أن يغدر بالمسلمين ويتخلَّص من تبعيته لابن أبي عامر، فهاجم الحامية الإسلامية، واستخلص من يدها مدينة ليون، فهبَّ المنصور لحربه، وسار إلى مدينة ليون واقتحمها، ومزَّق قوى النصارى، ثم استمرَّ يغزو أراضي ليون تباعًا، ويُوقع الهزائم المتتالية ببرمودو، حتى اضطر برمودو إلى طلب الصلح، والعودة إلى طاعة ابن أبي عامر عام (995م).

                  ولم يُعَمَّر برمودو طويلاً بعد ذلك فمات عام (999م)، وخلفه ابنه ألفونسو الخامس، وكان طفلاً، فعُيِّن أحد أشراف ليون -وهو الكونت مننديث كونثالث- وصيًّا على الملك الصغير.

                  مملكة نافار

                  تولَّى سانشو غرسية الثاني عرش نافار بعد موت أبيه غرسية سانشيز، وكانت نافار قد اتسعت رقعتها عندئذٍ، فصارت تشمل عدَّة ولايات، غير ولاية نافار الأصلية؛ مثل: ولايات كانتبريا، وسوبرابي، وربا جورسيا، ونمت مواردها وقواها، حتى بدأ سانشو غرسية في مهاجمة الأراضي الإسلامية، فكان ردُّ المنصور بن أبي عامر على ذلك عنيفًا؛ فغزا مملكة نافار وتوغَّل فيها حتى دخل عاصمتها بنبلونة عام (987م).

                  وخلف سانشو في الحُكم ولده غرسية سانشيز الثالث، فلم يدم حكمه سوى خمسة أعوام، وقد غزا المنصور بن أبي عامر نافار في عهده مرَّة أخرى عام (999م)، وقد مات غرسية بعد هذه الغزوة بعام، وتولَّى بعده ابنه سانشو الثالث الملقب بالكبير[1].

                  لقد كان المشهد الصليبي في أيام المنصور وبأثر من جهاده في غاية الضعف والتمزُّق.


                  [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/598، بتصرف.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #54
                    عبد الملك بن محمد العامري .. الحاجب المظفر


                    وفاة المنصور ابن أبي عامر

                    توفي المنصور بن أبي عامر وهو في أوج قوته، و الأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تَصِلْ إليه من قبلُ في أي عصر من العصور، إلى جوار ما كان فيه أعداؤها من الضعف الشديد، وكذلك كان الحال داخل الأندلس نفسها؛ فالخليفة الأموي هشام المؤيد كان رجلاً ضعيفًا، في حين كانت قوة العامريين قد بلغت شأوًا بعيدًا، ومع ذلك فبمجرد أن مات المنصور بن أبي عامر سارع ابنه عبد الملك إلى قُرْطُبَة، قبل أن يطرأ أي أمر لم يكن قد استعدَّ له من قبل، ليستصدرَ مرسومًا من الخليفة بتوليته الحجابة بعد أبيه، وكان أبوه قد عَهِدَ له بالحجابة من بعده -كما ذكرنا- وتمت توليته الحجابة كما أراد يوم الاثنين لثلاث بقين من رمضان (392هـ)، وبقي في الحكم سبع سنين إلى أن مات سنة (399هـ) [1].

                    عبد الملك المظفر



                    سار عبد الملك المظفر على نهج أبيه في سياساته الداخلية والخارجية، وفي غزوه الدائم للأراضي النصرانية في الشمال، حتى قال عنه المقري التلمساني في نفح الطيب: «جرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيامه أعيادًا دامت مدَّة سبع سنين، وكانت تسمى بالسابع تشبيهًا بسابع العروس، ولم يزل مِثْلَ اسمه مظفَّرًا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم، وقيل: سنة ثمان وتسعين»[2].


                    المظفر وسيرة العظماء

                    وقد أُعجب به المسلمون وأحبوه حبًّا عظيمًا، فأثنوا عليه أجمل الثناء، فكان من ذلك ما نقله ابن الخطيب: «قالوا: كان عبد الملك أسعد مولود وُلِدَ بالأندلس على نفسه وأبيه وغيرهما؛ فجدَّد الألقاب، واقتفى الرسوم، فقد ذُكر أن المنصور توفِّي عن ألقاب عديدة من ألقاب الطبقات من بابه من الفقهاء والعلماء والكتاب والشعراء والأطباء والمنجمين؛ فلم يكونوا أوفر عددًا ولا أسنى أرزاقًا منهم في أيامه، مع عدم التلبُّس بشيء من أمرهم؛ إذ كان مُقْتَصِرًا على شأنه في التجنُّد والعمل بالسلاح؛ حفظًا للرسوم، والتماسًا لجميل الذِّكْر، وحرصًا على التزيُّد والشفوف على غيره، وكان مثلاً في الحياء والشجاعة؛ إذ كان عند الحياء والحشمة بكرًا عزيزة، وفي مواقِفِ الكريهة أسدًا وَرْدًا، لا يقوم له شيء إلاَّ حطمه»[3].
                    وقد زاد من حُبِّ المسلمين له وإعجابهم به أنه ابتدأ عهده بأن أسقط عن المسلمين سدس الجباية التي كانت عليهم[4]، فتعلَّقت به قلوب الرعية وآمالها، ووجدت فيه العزاء عن فقدان أبيه، وبخاصة أنَّ أباه كان يعتمد عليه دائمًا في حياته، ويُكَلِّفه بالمهام الجسام؛ كقيادة الجيوش وما إلى ذلك.

                    جهاد الحاجب المظفر ضد النصارى

                    كان من عادة نصارى الشمال -كما رأينا- أنه متى مات حاكم الأندلس -وبخاصة إذا كان قويًّا- ضربوا بالمعاهدات والمواثيق عُرض الحائط، وأخذوا يُهاجمون الثغور والأراضي الإسلامية بهدف الثأر من المسلمين وإضعافهم، وسلب ما يمكن سلبه، وهم بهذا -أيضًا- يُضعفون موقف الحاكم الجديد، الذي يسعى لتوطيد ملكه، رأينا هذا عند تولِّي عبد الرحمن الناصر، كما رأيناه عند تولِّي الحكم المستنصر وابنه هشام المؤيد، ولكنهم هذه المرَّة لم يفعلوا ذلك، وربما كان ذلك بسبب الضربات القوية المؤثِّرة التي وجهها لهم المنصور بن أبي عامر في حياته.

                    ولم يكتفِ الحاجب المظفر بهذه الموادعة؛ إذ إنهم لو وادعوا اليوم، فلن يوادعوا غدًا إذا اجتمعت لهم قوتهم، ثم ربما يظنون به الضعف والجبن عن لقائهم، ومن هنا بدأ الحاجب المظفر يُجَهِّز لغزو نصارى الشمال، واجتهد في الإعداد؛ حتى إن أهل العدوة قد سمعوا بهذه الغزوة، فتوافدوا إلى الأندلس للمشاركة فيها، وفيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وزعمائهم وفقهائهم، وقد أحسن الحاجب المظفر استقبالهم، وأغدق لهم العطاء، فقبل بعضهم وتحرَّج البعض الآخر.

                    غزو إمارة برشلونة

                    وخرج الحاجب المظفر من الزاهرة بجنده ليلة 11 شعبان سنة 393هـ في مشهد مهيب، وسار حتى وصل مدينة سالم، فانضمت له قوة من قشتالة، نزولاً على ما كان بين قشتالة والمنصور بن أبي عامر من معاهدات، ثم سار إلى إمارة بَرْشُلُونَة، ودارت بينه وبين نصارى بَرْشُلُونَة حرب شديدة، هُزموا فيها هزيمة نكراء، واستولى المسلمون على عدد من حصون بَرْشُلُونَة، وهدموا حصونًا أخرى، وغنموا وسبوا، وعمل الحاجب المظفر على إسكان المناطق المفتوحة بالمسلمين، فنهى الجنود عن تدمير البيوت وهدمها، وأمر بنقل المسلمين لعمارة هذه الأرض، وجعل لمن يسكنها منهم راتبًا شهريًّا يتقاضاه من بيت المال، وقضى الحاجب المظفر عيد الفطر بأرض بَرْشُلُونَة، واحتفل به مع جنوده ورجاله في بسائطها، ثم أمر بإرسال رسالتين للتبشير بالفتح؛ إحداهما إلى الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتُقْرَأ على المسلمين كافة في قُرْطُبَة، ثم في باقي الولايات.

                    وجاء في الرسالتين أن عدد السبي بلغ 5570، وأن عدد الحصون التي اقتحمت عَنْوة ستة حصون، وعدد الحصون التي أخلاها العدوُّ فخُرِّبت ودُمِّرت 85 حصنًا، وذكر أسماء هذه الحصون كلها في الرسالتين، ثم أَذِنَ للمتطوعين معه للجهاد بالعودة إلى ديارهم وبلدانهم؛ إذ إن الهدف الذي خرجوا من أجله قد انتهى؛ فعاد المتطوعون إلى بلادهم مسرورين فرحين بنصر الله[5].

                    وفي السنة التالية لهذه الغزوة (394هـ) -وفي دلالة واضحة على ما وصلت إليه قوة الدولة وهيبتها في عهده- احتكم إليه قادة الممالك النصرانية[6]، وفي ذلك ينقل ابن عذاري المراكشي عن المؤرخ الفقيه أبي مطرف محمد بن عون الله (وهو من معاصري هذه الحوادث) قوله: «وانتهى المظفر عند ملوك الأعاجم في دولته إلى منزلة عظيمة، مثل منزلة والده المنصور، وأحلُّوه محلَّه في الإصغاء له والتعظيم؛ لجلاله والهيبة من سخطه والطلب لمرضاته، حتى صار أعاظمهم يحتكمون إليه فيما شجر بينهم؛ فيفصل الحُكم فيهم، ويرضون بما قضاه ويقفون عنده»[7].

                    غزو مملكة قشتالة

                    وتوالت غزوات الحاجب المظفر -رحمه الله- على أراضي النصرانية في الشمال، وكانت غزوته الخامسة سنة (397هـ)، وفيها اتجه بجيشه إلى مملكة قشتالة، فاتحدت جميع الممالك والقوى النصرانية ضده، ودارت بين الفريقين معركة شديدة، نصر الله فيها المسلمون نصرًا عظيمًا، وكان قد بلغ الناسَ في الأندلس خبرُ اتحاد الممالك النصرانية ضد جيش المسلمين، فأشفقوا على الجيش الإسلامي، وخافوا عاقبة ذلك، وكان أهل العساكر المشاركين في الغزوة هم أكثر الناس خوفًا، فلما وردهم خبرُ انتصار المسلمين، كان فرحهم بذلك فرحًا عظيمًا، وعلى أثر هذه الغزوة تلقّب عبد الملك بالحاجب المظفر بالله[8].

                    ثم خرج بعد ذلك في شاتية سنة (398هـ) -وكانت هذه هي شاتيته الوحيدة- وقد خرج فيها إلى قشتالة، ودارت بينه وبين نصارى قشتالة معارك عنيفة استمرَّت عدَّة أيام، انتهت بنصر عظيم للمسلمين[9]، وكانت هذه هي غزوته قبل الأخيرة؛ لأنه خرج إلى غزو قشتالة في صائفة العام نفسه (398هـ)، ولكنه مرض مرضًا شديدًا في مدينة سالم في شمال الأندلس، فتفرَّق عنه كثير من الجنود المتطوعين معه، ففشل مشروع الغزو، وعاد إلى قُرْطُبَة[10]، ثم عاد وشعر ببعض التحسن فتحامل على نفسه وبدأ يتأهَّب إلى غزو قشتالة من جديد، وخرج بالفعل متحاملاً على نفسه في شاتية عام (399هـ) يقصد قشتالة، إلاَّ أن الحركة قد آذته وزادت مرضه، فلم يَعُدْ يستطيع الغزو، فعادوا به محمولاً على محفَّة، وتوفي –رحمه الله- في الطريق إلى قُرْطُبَة في صفر عام (399هـ) [11].


                    [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3.
                    [2] المقري: نفح الطيب،1/423.
                    [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
                    [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/3، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص84.
                    [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/4.
                    [6] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10، وتاريخ ابن خلدون، 4/181.
                    [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/10.
                    [8] المصدر السابق، 3/14.
                    [9] المصدر السابق، 3/21.
                    [10] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/23.
                    [11] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/27، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص89.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #55
                      أشهر العلماء في الدولة العامرية


                      ابن ذكوان (342-413هـ= 953-1022م)

                      ابو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبيدوس بن ذكوان، الشهير بابن ذكوان قاضي الجماعة بقُرْطُبَة وخطيبها، وُلِدَ سنة (342هـ= 953م)، ولاَّه المنصور بن أبي عامر القضاء، وكان من خاصته يُلازمه في رحلاته وغزواته، ومحلُّه منه فوق محلِّ الوزراء، يُفاوضه المنصور في تدبير المُلْكِ وفي سائر شئونه. كذلك كان معه المظفر وشنجول ولدي المنصور بعد وفاة أبيهما، وتوفي المظفر فزاد أخوه عبد الرحمن في رفع منزلته وولاَّه الوزارة بالإضافة إلى قضاء القضاة، وكان عظيم أهل الأندلس ورئيسهم، وأقربهم من الدولة وأعلاهم محلاًّ، توفي سنة (413هـ)[1].

                      ابن جلجل (332- بعد 377هـ= 943- بعد 987م)

                      أبو داود سليمان بن حسان، الشهير بابن جلجل، كان طبيبًا ماهرًا، وكان إمامًا في معرفة الأدوية المفردة، لا سيما بكتاب ديسقوريدس، الذي عُرِّب في بغداد في خلافة المتوكل العباسي، وبقيت منه ألفاظ كثيرة يونانية لم تُعَرَّب ولا عُرفت، ويحكي ابن جلجل قصة هذا الكتاب فيقول: «انتفع الناس بما عُرِّب منه، فلما كان في دولة الناصر عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس، كاتبه أرمانوس صاحب القسطنطينية قبل الأربعين وثلاثمائة وهاداه بنفائس، فكان منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير العجيب، والكتاب باليوناني، ومنها كتاب هروشيش، وهو تاريخ عجيب في الأمم والملوك باللسان اللطيني (اللاتيني). وكان بالأندلس مَنْ يتكلَّم به، ثم كاتبه الناصر وسأله أن يبعث إليه برجل يتكلم باليوناني واللطيني، ليُعَلِّم له عبيدًا؛ حتى يُترجموا له، فبعث إليه براهب يُسَمَّى نقولا، فوصل قُرْطُبَة في سنة أربعين، ونشر من كتاب ديسقوريدس ما كان مجهولاً، وكان هناك جماعة من حُذَّاق الأطباء، فأُحْكم الكتاب، وقد أدركتُهم، وأدركتُ نقولا الراهب وصحبتُهم، وفي صدر دولته (أي: المستنصر) مات نقولا الراهب».

                      ومن كُتب ابن جلجل «تاريخ الأطباء والفلاسفة»، وله تذييل وزيادات على كتاب ديسقوريدس مما لم يعرفه ديسقوريدس[2].

                      المجريطي (338-398هـ= 950-1007م):

                      هو الفيلسوف الرياضي الفلكي أبو القاسم مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي، وهو مشهور بالمجريطي، وُلِدَ في مدينة مجريط (مدريد) سنة (338هـ= 950م)، كان إمام الرياضيين بالأندلس، وأوسعهم إحاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم[3].

                      برع في علوم كثيرة، وله كتابان رجع إليهما ابن خلدون هما: (رتبة الحكيم): وهو أهم مصدر لدراسة الكيمياء في الأندلس، و(غاية الحكيم): وهو كتاب موسوعي تُرجم إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي... وفي هذا الكتاب بحوث تهتم بدراسة تاريخ الحضارة في أقدم عصورها، وتاريخ مستنبطات الأمم الشرقية العريقة في القدم من أنباط وأقباط وسريان وهنود.. وغيرهم، ومكتشفاتهم وجهودهم في تَقَدُّم العمران، وفي هذا الكتاب -أيضًا- بحوث في الرياضيات والكيمياء، وعلم السحر، وعلم الحيل، والتاريخ الطبيعي، وتاريخ المنشأ، والبيئة[4]، وله زيج قيل فيه: لم يُؤَلَّف في الأزياج مثل زيج مسلمة -أي: المجريطي- وزيج ابن السمح[5].

                      ومن مؤلفاته أيضًا:
                      - روضة الحدائق ورياض الخلائق.
                      - ثمار العدد: وهو في الحساب ويُعرف بالمعاملات.
                      - اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني.
                      - كتاب الأحجار.

                      ولقد قال إدوارد فنديك صاحب كتاب (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع): توجد مجموعة أخرى تسمى بالرسائل الجامعة ذات الفوائد النافعة، وتُعْرَف -أيضًا- باسم (رسائل إخوان الصفا) للحكيم المجريطي القرطبي... وهي على نمط رسائل إخوان الصفا، ولكنها لم تُطبع ولم تشتهر كالأولى[6]، ولعلَّ هذا هو ما جعل خير الدين الزركلي صاحب الأعلام يقول: ذهب بعض المؤرخين إلى أنه مؤلف (رسائل إخوان الصفا)، ولم يَثْبُت ذلك[7]، وقد توفي في مدينة مجريط (مدريد) سنة (398هـ= 1007م).

                      ابن الفرضي (351-403هـ= 962-1013م):

                      الإمام الحافظ، البارع الثقة، أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي، المعروف بابن الفرضي، مؤرخ حافظ أديب، وُلِدَ بقُرْطُبَة سنة (351هـ= 962م)، ألَّف في (أخبار شعراء الأندلس)، وكتاب في (المؤتلف والمختلف)، وفي (مشتبه النسبة).

                      وكان من تلاميذه الإمام المعروف أبو عمر بن عبد البر، وهو من أئمة المذهب المالكي الكبار، ووصفه بقوله: كان فقيهًا حافظًا، عالمًا في جميع فنون العلم في الحديث والرجال، أخذتُ معه عن أكثر شيوخي، وكان حسن الصحبة والمعاشرة.

                      وقال عنه شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان: لم يُرَ مثله بقُرْطُبَة في سعة الرواية، وحفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والافتنان في العلوم والأدب البارع، وجمع من الكتب أكثر ما يجمعه أحد في علماء البلد، وكان حسن البلاغة والخطِّ.

                      ومما يُذكر عنه قول الحميدي: حدثنا علي بن أحمد الحافظ، أخبرني أبو الوليد بن الفرضي قال: تعلَّقتُ بأستار الكعبة، وسألت الله تعالى الشهادة، ثم فَكَّرت في هول القتل، فندمت، وهممت أن أرجع، فأستقيل الله ذلك، فاستحييت. يقول الحافظ علي: فأخبرني مَنْ رآه بين القتلى، ودنا منه، أنه سمعه يقول بصوت ضعيف: «لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ»[8]. كأنه يُعيد على نفسه الحديث، ثم قضى على إثر ذلك .

                      وله شعر جيد منه: [الطويل]

                      أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ
                      عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
                      يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا
                      وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ وَخَائِفُ
                      وَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْجُو سِوَاكَ وَيَتَّقِي
                      وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ
                      فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي
                      إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ[9]



                      [1] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص85، والذهبي: تاريخ الإسلام، 28/312.
                      [2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 27/213.
                      [3] الزركلي: الأعلام، 7/224.
                      [4] انظر: محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام، 5/111.
                      [5] المقري: نفح الطيب، 2/176.
                      [6] إدوارد فنديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص184.
                      [7] الزركلي: الأعلام، 7/231.
                      [8] الحديث رواه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله U 2649، ومسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 1876 عن أبي هريرة t، واللفظ له.
                      [9] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 17/177.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #56
                        الزهراوي .. أشهر علماء الأندلس

                        أبو القاسم الزهراوي.. أعظم جراح



                        لنا مع هذا الرجل وقفة أطول قليلاً؛ إذ يُعَدُّ خلف بن عباس المشهور بأبي القاسم الزهراوي (ت 427هـ= 1036م) من العلماء الأعلام في الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي كله، كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوربية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبَحَثَ في التهاب المفاصل، وفي السلِّ.. وغيرها[1].

                        والزهراوي -المعروف في أوربا باسم (Abulcasis = أبو القاسم)- هو أول مَنْ تمكَّن من اختراعِ أُولى أدوات الجراحة؛ كالمشرط والمقصِّ الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، التي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة؛ فكان أَحَد العلماء الأعلام الذين سعدت بهم الإنسانية.

                        وقد وُلِدَ أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء، ونُسب إليها، كان طبيبًا فاضلاً خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تامٌّ في معناه([2]).

                        أبو القاسم الزهراوي.. إنجازات وإبداعات

                        كان الزهراوي يمارس بنفسه فنَّ الجراحة بدلاً من أنْ يُوكل ذلك -كما كانت العادة- للحجَّامين أو الحلاقين، فمارس الجراحة وحذق فيها وأبدع، حتى صار عَلَمًا من أعلام طبِّ الجراحة، لدرجة أنه لا يكاد يُذكر اسمه إلاَّ مقترنًا مع الطب الجراحي[3]، وقد حلَّ مبحث الزهراوي في الجراحة خاصة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدة في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر، وباتت أفكاره حدثًا تحوُّليًّا في طرق العلاجات الطبية؛ حيث هيَّأ للجراحة قُدرة جديدة في شفاء المرضى أذهلت الناس في عصره وبعد عصره، وقد ساعدت آلاته الجراحية التي اخترعها على وضع حجر الأساس للجراحة في أوربا[4].

                        وقد وصف الزهراوي هذه الآلات والأدوات الجراحية التي اخترعها بنفسه للعمل بها في عملياته، ووصف كيفية استعمالها وطرق تصنيعها؛ منها: جِفت الولادة، والمنظار المهبلي المستخدم حاليًا في الفحص النسائي، والمحقن أو الحقنة العادية، والحقنة الشرجية، وملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم، ومقصلة اللوزتين، وجفت وكلاليب خلع الأسنان، ومناشير العظام، والمكاوي والمشارط على اختلاف أنواعها، وغيرها الكثير من الآلات والأدوات التي أصبحت النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتُصبح الأدوات الجراحية الحديثة([5]).

                        يقول كامبل في كتابه (الطب العربي): «كانت الجراحة في الأندلس تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس أو لندن أو أدنبره؛ ذلك أن ممارسي مهنة الجراحة في سَرَقُسْطَة كانوا يُمنحون لقب طبيب جراح, أمَّا في أوربا فكان لقبهم حلاق جراح، وظلَّ هذا التقليد ساريًا حتى القرن العاشر الهجري»([6]).

                        كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف



                        وكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) هو في الحقيقة موسوعة كثيرة الفائدة، تامَّة في معناها، لم يُؤَلَّف في الطب أجمع منها، ولا أحسن للقول والعمل، وتُعتبر من أعظم مؤلفات المسلمين الطبية، وقد وصفها البعض بأنها دائرة معارف، ووصفها آخرون بأنها ملحمة كاملة، وليس من الغريب أن تُصبح هذه الموسوعة المصدر الأساسي لجراحي الغرب حتى القرن السابع عشر، وتظلَّ المرجع الكبير لدارسي الطب في جامعات أوربا؛ مثل جامعة سالرنو ومونبلييه في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والحقيقة التي ينبغي ألاَّ تُغْفل -أيضًا- أن الجراحين الذين عُرفوا في إيطاليا في عصر النهضة وما تلاه من قرون قد اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي[7]. ويقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالّر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع مَنْ ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر»[8].


                        والزهراوي هو أوَّل مَنْ جعل الجراحة علمًا قائمًا على التشريح، وأوَّل من جعله علمًا مستقلاً، وقد استطاع أن يبتكر فنونًا جديدة في علم الجراحة، وأن يُقَنِّنَها[9]، وهو أوَّل مَنْ وصف عملية القسطرة، وصاحب فكرتها والمبتكر لأدواتها، وهو الذي أجرى عمليات صعبة في شقِّ القصبة الهوائية، وكان الأطباء قبله -مثل: ابن سينا والرازي- قد أحجموا عن إجرائها لخطورتها، وابتكر الزهراوي -كذلك- آلة دقيقة جدًّا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة؛ لتسهيل مرور البول، كما نجح في إزالة الدم من تجويف الصدر، ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام. والزهراوي -كذلك- هو أول مَنْ نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء العمليات الجراحية؛ وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وسبق بهذا الربط سواه من الأطباء الغربيين بستمائة عام! والعجيب أن يأتي مِنْ بعده مَنْ يَدَّعي هذا الابتكار لنفسه، وهو الجراح إمبراطور باري عام (1552م).
                        وهو –أيضًا- أول من صنع خيطانًا لخياطة الجِرَاح، واستخدمها في جراحة الأمعاء خاصة، وصنعها من أمعاء القطط، وأول من مارس التخييط الداخلي بإبرتين وبخيط واحد مُثَبَّتٍ فيهما؛ كي لا تترك أثرًا مرئيًّا للجِرَاح، وقد أطلق على هذا العمل اسم (إلمام الجروح تحت الأدمة)، وهو أوَّل من طبَّق في كل العمليات التي كان يُجريها في النصف السفلي للمريض رفع حوضه ورجليه قبل كل شيء؛ ممَّا جعله سبَّاقًا على الجرَّاح الألماني (فريدريك تردلينوبورغ) بنحو ثمانمائة سنة، الذي نُسب الفضل إليه في هذا الوضع من الجراحة؛ ممَّا يُعَدُّ اغتصابًا لحقٍّ حضاري من حقوق الزهراوي المبتكر الأول لها[10].

                        كما يُعَدُّ الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدَّة قرون، وقد سَجَّل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفَّذَها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذِّ (التصريف)؛ ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرَّة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تُصَبُّ فيه هذه الأقراص أو تُحَضَّر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويُحْفَر في كل وجه قدر غِلَظِ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغشِّ في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية.

                        وفي ذلك يقول شوقي أبو خليل: «ولا ريب أن ذلك يُعطي الزهراوي حقًّا حضاريًّا لكي يكون المؤسس والرائد الأول لصناعة الطباعة، وصناعة أقراص الدواء؛ حيث اسم الدواء على كل قرص منها، هاتان الصناعتان اللتان لا غنى عنهما في كل المؤسسات الدوائية العالمية، ومع هذا فقد اغْتُصِبَ هذا الحقُّ وغفل عنه كثيرون»[11].

                        وكذلك يُعَدُّ الزهراوي أوَّل مَنْ وصف عملية سَلِّ العروق من الساق لعلاج دوالي الساق والعرق المدني، واستخدمها بنجاح، وهي شبيهة جدًّا بالعملية التي نمارسها في الوقت الحاضر، والتي لم تُستخدم إلاَّ منذ حوالي ثلاثين عامًا فقط، بعد إدخال بعض التعديل عليها[12]، وللزهراوي إضافات مهمَّة جدًّا في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّيْنِ، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصًّا به[13].

                        وكان مرض السرطان وعلاجه من الأمراض التي شغلت الزهراوي، فأعطى لهذا المرض الخبيث وصفًا وعلاجًا بقي يُستعمل خلال العصور حتى الساعة، ولم يزد أطباء القرن العشرين كثيرًا على ما قدَّمه علامة الجراحة الزهراوي[14].

                        وإن ما كتبه الزهراوي في التوليد والجراحة النسائية ليُعتبر كنزًا ثمينًا في علم الطب؛ ولقد ابتكر آلة خاصة لاستخراج الجنين الميت فسبق الدكتور فالشر بنحو تسعمائة سنة في وصف ومعالجة الولادة الحوضية، وهو أول مَن استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، وأول مَنِ ابتكر آلة خاصة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا([15]).
                        ويحكي جوستاف لوبون عن الزهراوي فيصفه بقوله: «أشهر جراحي العرب، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص؛ فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غيرِ حقٍّ...» [16]. وجاء في دائرة المعارف البريطانية أنه أشهر مَنْ ألَّف في الجراحة عند العرب (المسلمين)، وأول من استعمل ربط الشريان لمنع النزيف[17].


                        [1] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 1/333، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية، ص513.
                        [2] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 3/246، والزركلي: الأعلام، 2/310.
                        [3] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس.. إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص31، وجلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص331، 332، وعلي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص362.
                        [4] جلال مظهر: حضارة الإسلام، ص332.
                        [5] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص176.
                        [6] نقلاً عن جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص336.
                        [7] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص221.
                        [8] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490.
                        [9] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص265، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، ص106.
                        [10] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص35، وعامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص162.
                        [11] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص32، 33.
                        [12] محمد كامل حسين: الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب، ص142، 143.
                        [13] المصدر السابق، ص201.
                        [14] انظر: الدفاع: رواد علم الطب، ص264.
                        [15] انظر: كمال السامرائي: الأمراض النسائية في الطب العربي القديم، مجلة المهن الطبية، العدد1- 1964م، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين، ص163 وما بعدها.
                        [16] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490، 492.
                        [17] الزركلي: الأعلام، 2/310.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #57
                          شنجول وسقوط الدولة العامرية




                          من خَلْف ستار الخلافة الأموية ظلَّ الحاجب المنصور بن أبي عامر يحكم الأندلس ابتداءً من سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- سنة (392هـ= 1002م)، وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولَّى الحجابة منذ قُتل والده وحتى وفاته سنة (399هـ= 1009م) أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولِّي حُكم البلاد، فكان يُجاهد في بلاد النصارى كل عام مرَّة أو مرَّتين، كل هذا وهو -أيضًا- تحت غطاء الخلافة الأموية.


                          في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم (هشام المؤيد) قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، ومع ذلك فلم يطلب الحُكم، ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان قد تعوَّد على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.

                          عبد الرحمن شنجول

                          في سنة (399هـ= 1009م) توفي الحاجب المظفر، فتولَّى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور المشهور بعبد الرحمن شنجول[1]؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملَّكُون زمام الأمور في البلاد، وأخذ -أيضًا- يُدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فإضافة إلى أن أُمَّه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًّا ماجنًا فاسقًا، شَرَّابًا للخمر، فعَّالاً للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس في الأندلس [2].

                          وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قَبْلُ عند العامريين، وهو أنه أجبر الخليفة هشام المؤيد في أن يجعله وليًّا للعهد من بعده، وبذلك لن يُصبح الأمر من خَلْفِ ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولِّي والده محمد بن أبي عامر، أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجَّ بنو أمية لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي ردِّ فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر، الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور[3].

                          سقوط الدولة العامرية

                          ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلاَّ أن الشعب كان قد تعوَّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فلمَّا خرج شنجول على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، انتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يُغَيِّرُوا من الأمر، فذهبوا إلى هشام المؤيد في قصره وخلعوه بالقوَّة، وعَيَّنُوا مكانه رجلاً من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر (من أحفاد عبد الرحمن الناصر)، وما أن طار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول حتى بدأت الجموع التي معه تنفضُّ من حوله شيئًا فشيئًا، فلمَّا دخل إلى قُرْطُبَة كان الناس قد انفضوا عنه وانحازوا إلى محمد بن هشام الذي تلقَّب بـ«المهدي»، ثم ما لبث أن أرسل إليه المهدي جماعة قبضوا عليه وقتلوه وأرسلوا إليه برأسه[4].

                          وتقول بعض الروايات أنه التجأ إلى دَيْر فأعطاه أحد رهبانه طعامًا وشرابًا، ثم عثر عليه رجال بني أمية سكران، فأظهر الخوف والجزع، وادعى دخوله في طاعة المهدي، فلم يشفع له ذلك فقتلوه[5].

                          واشتعلت الثورات في الأندلس، فكأنَّ مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قُتِلَ عبد الرحمن بن المنصور انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقَسَّم.


                          [1] شنجول: هو لقب كانت أمه تدعوه به منذ صغره، باسم سنجول Sanchuelo، تذكراً منها لأبيها سانشو غرسيه ملك نافار الذي أهدى ابنته للمنصور بن أبي عامر فتزوجها واعتنقت الإسلام وحسن إسلامها.
                          [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/38، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص66.
                          [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص94، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.
                          [4] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص96، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.
                          [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/72.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #58
                            فتنة قرطبة .. بين محمد المهدي وسليمان المستعين


                            خلافة محمد المهدي

                            بعد خلع هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر (هشام المؤيد) وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، الذي تلقَّب بالمهدي، انفرط العقد تمامًا في الأندلس، فلم يكن يملك المهدي من لقبه إلاَّ رسمه، إذ كان فتى لا يُحسن قيادة الأمور، وليس له من فن الإدارة شيء، فكان من أول أعماله في الحُكم ما يلي:

                            أولاً: التنكيل بالعامريين

                            فقد ألقى القبض على كثير من العامريين ونفاهم إلى أطراف البلاد، وانتهك العامريين حتى بلغ في انتهاكهم وانتهاب أموالهم أن ترحَّم الناس على أيام العامريين، وهدم الزاهرة وأباح انتهابها، فنهض السفهاء يتسابقون حتى هُدمت الزاهرة وتُركت خرابًا كأن لم تغن بالأمس[1].

                            ثانيًا: فصل الجند

                            فقد فصل سبعة آلاف من الجند، وهو عدد كبير، فتغيرت عليه قلوب هؤلاء[2].

                            ثالثًا: الإساءة إلى البربر

                            فقد أساء إلى البربر حتى بدأ العامة يتطاولون عليهم، وقد كانوا في ذلك الوقت أولو قوة وعصبية، كما كانوا حديثي عهد بالسلطان، ثم إنهم كانوا قد انفضُّوا عن شنجول حينما رأوا سوء سياسته، وساعدوا خصومه، ولكن ورغم ذلك كله، لم تكن نفوس بني أمية قد صفت من ناحيتهم؛ إذ كانوا عماد الدولة العامرية التي أخذت منهم سلطانهم، فأساءوا إليهم، وكان المهدي يُظهر سخطه لهم ولا يُخفيه، حتى وصل به الحال إلى أن أعلن أن مَنْ قتل بربريًّا فسينال جائزة، فسارع أهل قرطبة إلى قتل البربر وهتك أعراضهم! وكان البربر قبل حدوث هذا يستعدُّون للثورة عليه؛ لما كان منه من عداوة، فلمَّا حدث ما حدث زاد حنقهم وغيظهم وحماستهم على الثورة عليه[3].

                            خلافة سليمان المستعين

                            أثار هذا الفعل غير الحصيف من قِبَل المهدي غضبًا عارمًا لدى البربر والعامريين، بل وعند الأمويين أنفسهم، الذين لم يعجبهم هذا القتل وذاك التشريد، وهذه الرعونة في التصرُّف، فبدأ يحدث سخط كبير من جميع الطوائف على المهدي، ولم يكن ليقف الأمر عند هذا الحدِّ؛ فقد تجمَّع البربر وانطلقوا إلى الشمال، وهناك أتوا بسليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فنصَّبُوه عليهم ولقَّبُوه بالمستعين أمير المؤمنين، وبدأ يحدث الصراع بين سليمان بن الحكم هذا ومِنْ ورائه البربر وبين المهدي في قُرْطُبَة، وكان البربر من قبل قد فكروا في مناصرة هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فقبض المهدي عليه وعلى أخيه وقتلهما، ففر ابن أخيهما سليمان بن الحكم إلى البربر بظاهر قُرْطُبَة، فبايعوه ولقبوه المستعين بالله[4].


                            الفتنة بين محمد المهدي وسليمان المستعين



                            وجد سليمان بن الحكم ومَنْ معه من البربر أن قوتهم ضعيفة، ولن تقوى على مجابهة قوات المهدي، فقاموا بعمل لم يُعهد على الأمويين من قبلُ في بلاد الأندلس.. استعانوا بملك قشتالة.


                            وكانت مملكة قشتالة هذه هي أحد جزأي مملكة ليون في الشمال الغربي، بعد أن كان قد نشبت فيها (مملكة ليون) حرب داخلية، وانقسمت على نفسها في سنة (359هـ= 970م) إلى قسمين، فكان منها قسم غربي؛ وهو مملكة ليون نفسها، وقسم شرقي وهو مملكة قشتالة، وكلمة قشتالة تحريف لكلمة كاستولَّة، وتعني -أيضًا- قلعة باللغة الإسبانية، فحُرِّفَتْ في العربية إلى قشتالة، وكانت قد بدأت تكبر نسبيًّا في أول عهد ملوك الطوائف؛ فاستعان بها سليمان بن الحكم المستعين والبربر على حرب المهدي.

                            وبين المهدي من ناحية وسليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى دارت موقعة كبيرة، هُزم فيها المهدي أو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وتولَّى سليمان المستعين أو سليمان بن الحكم مقاليد الحكم في بلاد الأندلس، وبالطبع كانت فرصة من السماء لملك قشتالة لضرب الأندلسيين بعضهم ببعض، ووضع قاعدة لجيشه وجنده في أرض الأندلس، تلك البلاد التي طالما دفعت الجزية كثيرًا للمسلمين من قبلُ[5].

                            وفي فترة مدتها اثنتان وعشرون سنة يتولَّى حكم المسلمين في الأندلس ثلاثة عشر خليفة متتاليين، بدأت هذه الفترة بهشام بن الحكم سنة (359هـ= 970م)، ثم المهدي، ثم سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الذي تولَّى الحُكم، (وكان قد استعان بملك قشتالة) وذلك في سنة (400هـ= 1010م).

                            الاستعانة بالنصارى

                            وتدور الأحداث بعد ذلك، حيث يفرُّ المهدي -الذي انهزم أمام سليمان بن الحكم أو المستعين بالله- إلى الشمال حيث طُرْطُوشة، وفي طُرْطُوشة -وحتى يرجع إلى الحُكم الذي انتزعه منه سليمان بن الحكم، والذي لم يبقَ فيه غير شهور قليلة- فكَّر المهدي في أن يتعاون مع أحد أولاد بني عامر الذين كانوا أعداءه منذ قليل.

                            كان المهدي قد قابل في طُرْطُوشة رجلاً من موالي بني عامر يُدْعَى الفتى واضح، وكان واضح قد بايع للمهدي بمجرَّد أن اعتلى كرسي الخلافة، ففر إليه المهدي في طليطلة، لمَّا خاف القتل في قُرْطُبَة.

                            وقد أقنع المهدي بأنه سيتعاون معه ليُعيده إلى المُلْكِ من جديد، ويبقى هو على الوزارة كما كان في عهد الدولة العامرية من قبل، وهذا ما وافق قبولاً لدى المهدي، فقَبِلَ عرض الفتى واضح، وبدءا يتعاونان معًا لتنفيذ مخطَّطِهما ذلك.

                            في بداية الأمر وجد الفتى واضح والمهدي أنهما لن يستطيعا أن يصمدا أمام قوة كبيرة مثل التي يملكها سليمان بن الحكم والبربر ومعهما ملك قشتالة، فهداهما تفكيرهما في الاستعانة بأمير بَرْشُلُونَة، وبَرْشُلُونَة هذه كانت ضمن مملكة أراجون، التي تقع في الشمال الشرقي للأندلس، والتي كان يدفع حاكمها الجزية لعبد الرحمن الناصر ولابنه وأيضًا للحاجب المنصور، فلما حدثت هذه الهزَّة في بلاد المسلمين انخلعت من هذه العباءة، وقامت من جديد، فكان أن استعان بجيشها المهدي والفتى واضح في حرب سليمان وملك قشتالة.

                            وقد وافق أمير بَرْشُلُونَة على أن يساعدهم؛ لكن على شروط؛ هي:
                            أولاً: مائة دينار ذهبية له عن كل يوم في القتال.
                            ثانيًا: دينار ذهبي لكل جندي عن كل يوم في القتال، وقد تطوَّع الكثير لحرب المسلمين، فكان عدد الجيش كبيرًا.
                            ثالثًا: أَخْذ كل الغنائم من السلاح إن انتصر جيش بَرْشُلُونَة مع المهدي والفتى واضح.
                            رابعًا: أَخْذ مدينة سالم، التي تمثِّل الثغر الشمالي الذي طالما انطلق منه الجهاد ضد الممالك النصرانية.

                            وهي بلا شكٍّ شروط قبيحة ومخزية، ولا ندري كيف يُوافق مسلم على مثلها؟! حتى إن وصف ابن عذاري لما حدث يدلُّ على مدى قبحه، قال: ووافق الرومَ على إدخالهم مدينة سالم وتسليمها لهم، فأخلاها ممَّنْ كان فيها من المسلمين، وأنزلها الكافرين؛ ليُقاتلوا معه البربر حماية للفاجر ابن عبد الجبار، فدخل الإفرنج مدينة سالم قاعدة الثغر الأوسط وملكوها، فأول ما دخلوا من المدينة الجامع... وضربوا فيه الناقوس وحوَّلوا قبلته... ثم شرطوا على واضح أن يلتزم لكل رجل منهم دينارين في كل يوم، وما يقوم به من الشراب واللحم.. وغير ذلك، ويجري على القومس (الكونت) في كل يوم مائة دينار، وما يقوم به من الطعام والشراب.. وغير ذلك، وعلى أنَّ لهم كل ما حازوه من عسكر البربر من سلاح وكُراع[6] ومال، وأن نساء البربر ودماءهم وأموالهم حلال لهم، لا يحول أحد بينهم وبينهم، وشرطوا عليه شروطًا كثيرة غير هذه فالتزم ذلك كله لهم»[7].

                            وبدأت بالفعل موقعة كبيرة جدًّا في شمال قُرْطُبَة بين المهدي (محمد بن هشام بن عبد الجبار) ومعه الفتى واضح العامري ومعهم أمير بَرْشُلُونَة من جهة، وسليمان بن الحكم الخليفة الملقَّب بالمستعين بالله ومعه البربر من جهة أخرى، انتصر فيها المهدي ومَنْ معه، وانهزم سليمان بن الحكم، وفرَّ ومَنْ بقي معه من البربر، وسُلِّمَت مدينة سالم لأمير بَرْشُلُونَة، ومِثْلُها الغنائم، وتولَّى المهدي الحُكم من جديد في قُرْطُبَة[8].

                            خلافة هشام المؤيد مرة ثانية

                            لم يتراجع المهدي عن سياسته التي أشعلت الفتنة، وظلَّ على تتبُّعه للبربر وقتلهم وانتهاكهم بمساعدة الصليبيين، كذلك البربر لم يكن أمامهم إلاَّ أن يُقاوموا ويشنوا الغارات على قُرْطُبَة، حتى ضجَّ أهل قُرْطُبَة، وأغروا الفتى واضح العامري، وهو حاجب المهدي، بأن يقتله فإنه هو سبب ما نزل من الفتن، وأعان على ذلك أن المهدي كان -وسط هذه الأجواء- منشغلاً بملذاته.

                            ولا نستبعد أن واضحًا -أيضًا- لم تصفُ نفسه تجاه المهدي؛ فهو الذي شتَّت العامريين وأذهب دولتهم؛ ومن ثَمَّ فما هو إلا قليل حتى انقلب واضح على المهدي فقتله، وبدأ هو في تولِّي الأمور، كان الفتى واضح أذكى من عبد الرحمن بن المنصور، هذا الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك، فقد رفض أن يكون هو الخليفة؛ حيث اعتاد الناس أن يكون الخليفة أمويًّا وليس عامريًّا؛ ومن ثَمَّ فإذا فعل ذلك فسيضمن ألاَّ تحدث انقلابات عليه، وأيضًا يكون محلَّ قبول لدى جميع الطوائف.

                            ومن هنا فقد رأى الفتى واضح أن يُنَصِّب خليفة أمويًّا ويحكم هو من ورائه، وبالفعل وجد أن أفضل مَنْ يقوم بهذا الدور ويكون أفضل صورة لخليفة أموي هو هشام بن الحكم الخليفة المخلوع من قبل، هذا الذي ظلَّ مجرَّد اسم طيلة ثلاث وثلاثين سنة أيام المنصور بن أبي عامر، ثم عبد الملك بن المنصور، ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور على التوالي.
                            وعاد هشام بن الحكم -الذي كان ملقَّبًا بالمؤيد بالله- من جديد إلى الحُكم، لكن زمام الأمور كانت في يد الفتى واضح[9].


                            [1] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/63، وما بعدها.
                            [2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/78.
                            [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/75،80، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص113، وتاريخ ابن خلدون، 4/150.
                            [4] تاريخ ابن خلدون، 4/150.
                            [5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/91، وتاريخ ابن خلدون، 4/150، والمقري: نفح الطيب، 1/428.
                            [6] الكُرَاعُ: السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كرع 8/306.
                            [7] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/94.
                            [8] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/95، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص115.
                            [9] ابن عذاري: البيان المغرب 3/97، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص114، وتاريخ ابن خلدون 4/151، والمقري: نفح الطيب 1/428.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #59
                              أسباب سقوط الدولة الأموية في الأندلس


                              أسباب سقوط الدولة الأموية

                              كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية؛ ومن ثَمَّ سقوط الدولة الأموية في الأندلس هو تولِّي عبد الرحمن بن المنصور –عبد الرحمن شنجول- الحُكم، ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أمية وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد.

                              وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله أن تهلك الأمم لمجرَّد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلَّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يُؤَدِّيَ إلى مثل هذا الفشل الذريع، والسقوط المدوِّي للبلاد، فلا بدَّ إذًا أن تكون هناك أسباب وجذور أخرى، كانت قد نمت من قبل وتزايدت مع مرور الزمن، حتى وصلت أوجها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمَّ كان هذا التفتُّت وذلك الانهيار.

                              وكما رأينا -سابقًا- في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية، وكيف كانت لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدُّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسة لسقوط الدولة الأموية؛ ومن ثَمَّ الدولة العامرية.

                              السبب الأول: انتشار الترف والإسراف



                              ويرجع هذا إلى زمن عبد الرحمن الناصر ذاته، ذلك الرجل الفذُّ الذي اتَّسم عصره بالبذخ والترف الشديدين، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا؛ ومن ثَمَّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء، الذي أنشأه عبد الرحمن الناصر، وكان آية في الروعة والجمال، وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطَّنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه -أيضًا- مبطَّنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول[1]، ومع أن عبد الرحمن الناصر لم يكن مُقَصِّرًا في الإنفاق على أي شأن من شئون الدولة؛ مثل: الإنفاق على التعليم، أو الجيش.. أو غيره، إلا أنَّ فِعْلَه هذا يُعَدُّ نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه؛ أَدَّى في النهاية إلى أن تتعلَّق القلوب بالدنيا وزخرفها.


                              ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد -رحمه الله- دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره وكان على هذا الوصف السابق، فقال له عبد الرحمن الناصر: ما تقول في هذا يا منذر (يُريد الافتخار)؟! فأجابه المنذر ودموعه تقطر على لحيته قائلاً: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة، وفَضَّلَكَ على كثير من عباده تفضيلاً حتى يُنْزِلَك منازل الكافرين.

                              فقال عبد الرحمن الناصر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! فردَّ عليه المنذر: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].

                              فقد ذكر الله السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز؛ يعني: لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا، وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله ، لكنَّا لم نجعله، إلاَّ أن عبد الرحمن الناصر فعله، وجعل لقصره سقفًا من فضة.

                              وهنا وجم عبد الرحمن الناصر بعدما سَقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه –رحمه الله- تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف، وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تُبْنَى السُّقُف في ذلك الزمن، إلاَّ أن مظهر الترف -لكثرة الأموال ومع مرور الوقت- يعود ويبرز من جديد، حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16][2].

                              السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله:



                              إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أَدَّت إلى سقوط الدولة العامرية والخلافة الأموية، ولقد تَجَسَّد هذا العامل واضحًا جليًّا حين ولَّى الحكم بن عبد الرحمن الناصر –الحكم المستنصر- ابنه أمور الحُكم في البلاد، وهو ما زال طفلاً لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعدُ، فأذن بهذا زوال الدولة الأموية في الأندلس؛ إذ تولَّى الحُكم رجال لم يملكوا عصبة الأمويين، فلئن كان منهم مقتدورن موهوبون كما كان المنصور وابنه، فلم يكن هذا متوفرًا فيمن بعدهم.


                              وقد حذَّرنا رسول الله صلى الله عيه وسلم من توسيد الأمر لغير أهله حين أجاب السائلَ عن أمارات ووقت الساعة بقوله: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»[3].

                              وهكذا إذا تولَّى مَنْ لا يستحقُّ منصبًا من المناصب، فلا بُدَّ وأن تحدث الهزَّة في البلاد ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟! فقد ضُيِّعَت الأمانة، ووُسِّد الأمر لغير أهله، فكان لا بدَّ أن تقع الأندلس وتسقط الخلافة الأموية والدولة العامرية.


                              [1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/566.
                              [2] أبو الحسن النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص72.
                              [3] البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل 59 عن أبي هريرة t، وأحمد 8714، واليهقي 20150.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • #60
                                قرطبة .. الموقع والتاريخ


                                مدينة قرطبة



                                إتمامًا للفائدة رأينا أن نقف بالقارئ على وصف لمدينة قرطبة عاصمة الأندلس الفاخرة الباهرة في أيام روعتها ومجدها.


                                «إن قُرْطُبَة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً أثناء القرن العاشر (الميلادي) كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حُكَّام ليون، أو النافار، أو برشلونة إلى جرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجهون بمطالبهم إلا إلى قُرْطُبَة»[1]. هذا هو وصف أحد الغربيين لمدينة قُرْطُبَة الأندلسية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو جون براند ترند.

                                فامتدادًا لحضارة إسلامية إنسانية -علمًا، وقِيَمًا، ومجدًا- بزغ نجم مدينة قرطبة، كشاهدٍ حيٍّ على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعزِّ الإسلام في ذلك الوقت من التاريخ، وهو منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، يوم أن كانت أوربا تغطُّ في جهل عميق.

                                قرطبة.. ذلك الاسم الذي طالما كان له جرس مُعَيَّنٌ، ووقع خاصٌّ في الأذن الإسلامية، بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية، يقول المقري: قال بعض علماء الأندلس: [البسيط]
                                بِأَرْبَعٍ فَاقَتِ الأَمْصَارَ قُرْطُبَةُ
                                مِنْهُنَّ قَنْطَرَةُ الْوَادِي وَجَامِعُهَا
                                هَاتَانِ ثِنْتَانِ وَالزَّهْرَاءُ ثَالِثَةٌ
                                وَالْعلمُ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَهْوَ رَابِعُهَ[2]

                                قرطبة .. الموقع الجغرافي والتاريخ



                                هي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، وقد أرَّخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: «أسسها القرطاجيون فيما يُعتقد، وخضعت لحكم الرومان والقوط الغربيين»[3].


                                وقد قام بفتحها القائد الإسلامي الشهير طارق بن زياد، وذلك سنة (93هـ= 711م). ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخطُّ لنفسها خطًّا جديدًا، وملمحًا مهمًّا في تاريخ الحضارة؛ فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية، لا سيما في عام (138هـ= 756م)، عندما أسس عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي الدولة العباسية.

                                وفي عهد عبد الرحمن الناصر (أول خليفة أموي في الأندلس) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها؛ خاصةً أنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية، ومقرًّا له كخليفة للمسلمين في العالم الغربي، وقد جعل منها منبرًا للعلوم والثقافة والمدنية، حتى غدتْ تُنَافس القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في قارتها، وبغدادَ عاصمة العباسيين في المشرق، والقيروانَ والقاهرةَ في إفريقيا، حتى أطلق عليها الأوربيون: «جوهرة العالم».

                                وقد شمل اهتمام الأمويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي الحياة المختلفة فيها؛ من زراعة وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة.. وغيرها، وقد شقُّوا الترع، وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تُزْرَع فيها.


                                [1] جون براند ترند: إسبانيا والبرتغال، دراسة منشورة بكتاب تراث الإسلام بإشراف أرنولد، ص27.
                                [2] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/153.
                                [3] موسوعة المورد الحديثة 1995م.


                                د. راغب السرجاني
                                انتظرونا في تتمة الموضوع الشيق فالبحث لم ينتهي بعد

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X