إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #61
    قرطبة .. الحضارة والرقي

    في السطور التالية نَتَعَرَّفُ على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميَّزَتْ بها الأندلس عامَّة، ومدينة قرطبة خاصَّة؛ لنقف على الإسهامات الإسلامية في مسيرة الإنسانية.

    قنطرة قرطبة



    كان من المعالم المهمَّة في قرطبة (قنطرة قرطبة)، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عُرفت باسم: (الجسر)، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا!


    وقد شهد لها ابن الوردي والإدريسي بأنها «القنطرة التي عَلَتِ القناطرَ فَخْرًا في بنائها وإتقانها»[1].

    كان عدد أقواسها سبع عشرة قوسًا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترًا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترًا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترًا[2].

    إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بُنِيَت في بداية القرن الثاني الهجري (101هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، على يد السمح بن مالك الخولاني الذي كان والي الأندلس من قِبَل عمر بن عبد العزيز، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلاَّ الخيل والبغال والحمير، ولم تكن وسائل وأساليب البناء على المستوى المتطور حينئذٍ؛ مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية.

    جامع قرطبة

    يُعتبر جامع قرطبة (الجامع الكبير) من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهو يُسمى بالإسبانية (Mezquita) (وتنطق: ميتكيتا)، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا! وقد بدأ بناءَه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ= 786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل خليفة جديد يُضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه؛ ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده.



    وفي وصف مسجد قرطبة يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا؛ طوله مائة باع[3] وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[4]، ارتفاع الجائزة[5] منه شبر في عرض شبر إلاَّ ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يُشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسِعَة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.


    ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان([6])، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصَّة[7] رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا!

    وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[8] ذهب وفضة وحسك[9]، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان t الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه.

    وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[10] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[11] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.

    وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[12]؛ منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلاَّ إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[13] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.

    وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[14].

    وبقريبٍ من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب). وقد كانت ساحته تملؤها أشجار البرتقال والرمان؛ ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينَة من شتى البقاع! ومما يحزن له القلب وتَدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تَحَوَّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتَحَوَّلَتْ مئذنته الشاهقة إلى برج تُنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنيَّة نادرة، وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.

    جامعة قرطبة



    لم يقتصر دور جامع قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان -أيضًا- جامعة علميَّة تُعَدُّ من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم، وكان منهم: الزهراوي (325-404هـ= 936-1013م) أشهر جَرَّاح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، وهناك -أيضًا- ابن باجه، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأَبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.



    [1] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب ص12، والإدريسي: نزهة المشتاق 2/579.
    [2] المقري: نفح الطيب 1/4820.
    [3] القياسات القديمة كانت بوحدات الشبر والذراع والباع، والشبر يساوي 23 سنتيمترًا تقريبًا، والذراع يساوي نصف متر تقريبًا. انظر: محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي: معجم لغة الفقهاء 1/256، 2/48.
    [4] نوع من أنواع الخشب.
    [5] الجائزَةُ من البيت: سهم البيت، أي الخشبة التي تَحْمِل خشب البيت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة جوز 5/326.
    [6] الزُّرْزُورُ: طائر من رتبة العصفوريات وهو أكبر قليلاً من العصفور، له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، أو بريق أرجواني فاتح، أو هو حَجَرٌ أبيضُ رِخْوٌ، ومنه خَمْرِي أو أصْفَرَ، وله بريق معدني. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرر 4/321.
    [7] لعل المقصود كتلة رخام.
    [8] جمع طَسْت وهو من الآنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة طست، 2/58.
    [9] الحَسَكُ: من أدوات الحرب، ربما أُخذ من حديدٍ فأُلقي حول العسكر، وربما أُخذ من خشب فنصب حوله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حسك، 10/411.
    [10] السَّاباطُ: سَقيفةٌ بين حائطين أو بين دارين، ومن تحتها طريق نافذ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سبط، 7/308.
    [11] كواكب جمع كوكب: اللمعان والبريق للمعدن، وقيل: الكوكب المسمار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كوكب، 1/720، والزبيدي: تاج العروس، 4/158.
    [12] الذراع الرشاشي: هو ثلاثة أشبار. انظر: الحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/55.
    [13] الكذَّان: الحجارة الرَّخْوة النَّخِرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة كذذ، 3/505، ومادَّة كذن، 13/357.
    [14] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، 1/456، 457.

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #62
      قرطبة .. العلم والعمران

      قرطبة مدينة العلم



      للحال التي رأينا، وللحياة التي شاهدنا لا غَرْوَ أن تُصْبِحَ قرطبة (منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وكأنها مدينة عصرية، تُضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة! وكيف العجب وقد انتشرت المدارس لتعليم الناس، وانتشرت المكتبات الخاصَّة والعامَّة، حتى صارت هي أكثر بلاد الله كُتبًا‍‍، وحتى غَدَتْ مركزًا ثقافيًّا ومجمعًا علميًّا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وقد كان الفقراء يَتَعَلَّمُون في مدارس بالمجَّان على نفقة الحُكَّام أنفسهم؛ ولذا فليس عجيبًا أن نعلم أن جميع أفراد الشعب كان قد عرف القراءة والكتابة، ولم يُوجَدْ في قرطبة شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة[1]، في حين لم يَكُنْ يعرفها أرفع الناس في أوربا، باستثناء بعض رجال الدين!


      وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، واكبها -أيضًا- نهضة إدارية؛ وذلك من خلال عدد من المؤسسات والنُّظُمِ الرائدة في الحكم؛ منها: الإمارة والوزارة، وقد تطوَّرَتْ أنظمة القضاء والشرطة والحِسْبة، وغيرها، وواكبتها -أيضًا- نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطوَّرت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات مثل: صناعة الجلود، وصناعة السفن، وآلات الحرث، والأدوية.. وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس![2]

      أمَّا إذا نظرنا إلى الحياة المدنية والعصرية فيها، فنراها مُقَسَّمَة إلى خمس مدن، وكأنها خمسة أحياء كبرى، يقول المقري: «وبين المدينَة والمدينَة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلَّة بنفسها، وفي كل منها من الحمامات، والأسواق، والصناعات... ما يكفي أهلها»[3].

      كما تميزت قرطبة -كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان- بأسواقها الممتلئة بكافَّة السلع، وكان لكل مدينة سوقٌ خاصٌّ بها[4].

      ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة:
      المساجد: انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.
      البيوت الشعبية: 213077 بيتًا.
      بيوت النخبة: 60300 بيت.
      الحوانيت (المتاجر وما شابه): 80455 حانوتًا.
      الحمامات العامة: 900 حمام.
      الأرباض (الضواحي): 28 ضاحية[5].

      وهذه الأرقام كانت تزيد وتنقص باختلاف الأحوال السياسيَّة، وباختلاف روايات المؤرخين، غير أنها اختلافات على «مدى» الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحقُّقِهَا.

      وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زُهاء خمسمائة ألف نسمة![6] والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليًا يبلغ 310,000 نسمة تقريبًا![7].


      [1] محمد ماهر حمادة: المكتبات في الإسلام، ص99.
      [2] القلقشندي: صبح الأعشى، 5/218.
      [3] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 1/558.
      [4] ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
      [5] المقري: نفح الطيب، 1/540 وما بعدها.
      [6] محمد عبد الله عنان: الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال، ص19.
      [7] موقع ويكيبيديا: http://ar.wikipedia.org.

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #63
        سقوط الدولة الأموية في الأندلس


        سليمان المستعين وتدمير قرطبة



        كان سليمان بن الحكم (المستعين بالله) لم يُقتل بعدُ وما زال في البلاد يُدَبِّر المكائد؛ يُريد أن يعود إلى الحُكم من جديد، ولم يجد أمامه إلاَّ أن يعود مرَّة أخرى إلى ملك قشتالة (المرَّة الأولى كان قد ساعده على هزيمة المهدي والوصول إلى الحُكم)؛ ليعرض عليه من جديد أن يكون معه ضدَّ الفتى واضح وهشام بن الحكم (هشام المؤيد )حتى يصل إلى الحُكم.


        ويبدو أن مكيدة سليمان المستعين هذه وصلت إلى بلاط قرطبة، ولا نستبعد أن يكون الذي أوصلها هو ملك قشتالة نفسه، فما كان من هشام المؤيد وواضح العامري إلاَّ أن نزلوا لملك قشتالة عن مائتي حصن من الحصون الشمالية، التي كان قد افتتحها الحَكم والمنصور بن أبي عامر والمظفر بن المنصور، فتوسَّعت قشتالة كثيرًا حتى أصبحت حدودها أكبر من حدود مملكة ليون، بالرغم من أنها كانت جزءًا صغيرًا منفصلاً عن مملكة ليون، وعظمت بذلك البلاد النصرانية في الشمال[1].

        وإنها لكارثة كبيرة قد حَلَّت بديار الإسلام؛ فقد حدثت كل هذه الأحداث من القتل والمكائد والصراعات والاستعانة بالنصارى ثم دخولهم بلاد المسلمين، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط.

        وفي سنة (403هـ= 1012م) -عندما كان هشام بن الحكم على الحُكم- قام سليمان بن الحكم ومن معه من البربر بعملٍ لم يحدث في تاريخ المسلمين من قبل وحتى هذه اللحظة؛ فقد هجموا على قُرْطُبَة وعاثوا فيها فسادًا وقتلاً واغتصابًا للنساء، ثم من جديد يتولَّى سليمان بن الحكم (المستعين بالله) الحكم في بلاد الأندلس، وفَرَّ هشام بن الحكم أو قُتل، فلم يُعرف مصيره على وجه اليقين، وكان مقرُّ الحُكم آنذاك هو قُرْطُبَة، لكن البلاد كانت مفكَّكة تمامًا، وقد فرَّ العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها[2].

        خلافة علي بن حمود

        من سنة (403هـ= 1012م) ظلَّ سليمان بن الحكم –المستعين بالله- يتولَّى الحُكم، وكان غالبية جيشه من البربر، وبعد عام واحد من تولِّيه يثور حاكم مدينة سبتة المغربية، ويدَّعى علي بن حمود -وقد كان من البربر- أنه وصلت إليه رسالة على لسان هشام بن الحكم المؤيد بالله (الخليفة المخلوع مرتين) تُوصي إليه بالخلافة من بعده[3]، وبعض الروايات تقول بأن البربر -الذين هم عماد جيش سليمان المستعين بالله- أرادوا الانقلاب عليه وألَّفوا هذه الرسالة على لسان هشام المؤيد، وبعثوا بها إلى علي بن حمود، فثار علي بن حمود في سبتة، واتصل ببعض مَنْ يُناصره في الأندلس، ثم عبر إليها، وفي سنة (407هـ= 1016م) وقعت المعركة بين علي بن حمود، وبين سليمان المستعين بالله، فانتصر علي بن حمود، وتولى الحكم في قُرْطُبَة وقَتَل سليمان وأخاه وأباهما الحكم؛ كي يضمن ألاَّ يثور عليه أحد، ثم تولَّى الحُكم في بلاد وتَسَمَّى بالناصر بالله[4].

        الدولة الحمودية في قرطبة

        استقرَّ الأمر للناصر بالله علي بن حمود، فبدأ بذلك عهد الدولة الحمودية في قُرْطُبَة، وقام بتعيين أخيه القاسم بن حمود على إِشْبِيلِية في سنة (407هـ= 1016م)، وأصبح البربر هم الخلفاء الذين يتملَّكُون الأمور في قُرْطُبَة وما حولها.

        خلافة المرتضي بالله الأموي

        لم يرضَ العامريون الذين فرُّوا إلى شرق الأندلس بهذا الوضع، فما كان منهم إلاَّ أن بحثوا عن أموي آخر وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر، ثم بايعوه على الخلافة، وقد تلقَّب بالمرتضي بالله[5].

        سار العامريون ومعهم المرتضي بالله إلى غَرْنَاطة كمقدمة للتوجُّه إلى قُرْطُبَة، ولكن –وكما هي العادة في زمن الفتنة- وقع أمر عجيب، فقد فوجئ خيران العامري بقوة شخصية المرتضي، وأيقن أنه لن يكون أبدًا صورة خليفة كما كان هشام المؤيد بالله، فكان أن انقلب عليه سرًّا فتحالف مع الحموديين، فلما نشبت المعركة بين المرتضي ومعه خيران العامري وبين زاوي بن زيري –والي غَرْنَاطة البربري- انهزم خيران، فانهزم جيش المرتضي، ثم أدركه بعض فتيان خيران فقتلوه.

        خلافة القاسم بن حمود

        كان من العجيب -أيضًا- ما حدث قبل ذلك بقليل؛ إذ تآمر ثلاثة فتيان من الصقالبة موالي بني أمية بالخليفة الجديد علي بن حمود فقتلوه في الحمام، وعلى الفور راسل البربر المتغلبون على قُرْطُبَة أخا عليٍّ المقتول القاسم بن حمود، الذي كان حاكمًا لإِشْبِيلِيَة من قِبَل أخيه الذي قُتل.

        خليفتان في الأندلس

        لكن ما لبث الحال أن تطور -أيضًا- فلقد ثار على القاسم ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود في سَبْتَة، ورأى أنه الخليفة الطبيعي بعد وفاة أبيه، واجتمع حوله نفر من البربر، وسار في جموعه إلى قُرْطُبَة، فانسحب أمامه عمه القاسم واتجه إلى إشبيلية، ثم كان من أعجب العجب أن تصالح كل منهما مع الآخر، فرضي كل منهما أن يكون الآخر خليفة، وفي ذلك يقول ابن حزم: «وهذا أمرٌ لم يُسمع في الدنيا بأشنع منه، ولا بأدلَّ على إدبار الأمور: يحيى بقُرْطُبَة والقاسم بإشبيلية»[6].

        غير أن الأمور لم تهدأ؛ فكلما نُصِّب حاكم في قُرْطُبَة ثار عليه القرطبيون إن كان من البربر، أو لم يستطع ضبط الأمور إن كان أمويًّا، لقد انتهى عهد الرجال الأقوياء من بني أمية، ولم يبقَ إلاَّ ضعيف الرأي والعزم، وقامت بعد ذلك صراعات كثيرة، واستمرَّ الوضع على هذا الحال حتى سنة (422هـ= 1031م).

        سقوط الخلافة الأموية وتولِّي أبو الحزم بن جهور



        في محاولة لحلِّ هذه الأزمة التي تمرُّ بها البلاد، وفي محاولة لوقف هذه الموجة من الصراعات العارمة، اجتمع العلماء وعلية القوم من أهل قُرْطُبَة، وذلك في سنة (422هـ= 1031م)، ووجدوا أنه لم يَعُدْ هناك من بني أمية مَنْ يَصْلُح لإدارة الأمور؛ وكان زعيم هذا الأمر قاضي قُرْطُبَة البارز وصاحب التاريخ والخصال أبا الحزم بن جهور، فلقد كان أبو الحزم هذا من علماء القوم، كما كان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل، وظلَّ الحال على هذا الوضع ما يقرب من ثلاث سنوات.


        كوَّن ابن جهور مجلسًا للشورى لإدارة البلاد، لكن حقيقة الأمر أن أبا الحزم بن جهور لم يكن يُسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قُرْطُبَة فقط من بلاد الأندلس، أمَّا بقية البلاد والأقاليم الأخرى فقد ضاعت السيطرة عليها تمامًا، وبدأت الأندلس بالفعل تُقَسَّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة؛ ليبدأ ما يُسَمَّى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف[7].

        وقد ذكرنا -سابقًا- أن مساحة الأندلس كانت ستمائة ألف كم، فإذا طرحنا منها ما أخذه النصارى في الشمال؛ فإن النتيجة هي أربعمائة وخمسون ألف كم (أقل من نصف مساحة مصر) مقسمة إلى اثنتين وعشرين دولة؛ كلٌّ منها لها مقومات الدولة المتكاملة من رئيس وجيش ووزارات وعملة وسفراء، فتفتَّتَ المسلمون في الأندلس تفتُّتًا لم يُعهد من قبلٍ في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرًا مهمًّا جدًّا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشدِّ ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!


        ([1]) ابن عذاري: البيان المغرب 4/151، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص117، والمقري: نفح الطيب، 1/428.
        ([2]) انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 3/112، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص118، وتاريخ ابن خلدون، 4/151، والمقري: نفح الطيب، 1/429.
        ([3]) ابن عذاري: البيان المغرب، 3/116.
        ([4]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص121.
        ([5]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص130.
        ([6]) ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/92.
        ([7]) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/195.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #64
          قرطبة كما وصفها العلماء والأدباء


          قرطبة في عيون العلماء والأدباء

          ابن حوقل



          وقد طَرَقَ قرطبة في حدود سنة (350هـ= 961م) ابن حوقل، التاجر الموصلي، فقال يَصِفُها: «وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة، وليس لها في المغرب شبيهٌ في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها. وهي حصينة بسور من حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة، والرصافة مساكن أعالي البلد مُتَّصِلَة بأسافله من رُبُضِهَا[1]، وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربها وجنوبها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، ومساكن العامَّة برُبُضِها، وأهلها متموِّلون[2] مُتَخَصِّصُون»[3].


          الإدريسي

          يقول الإدريسي عن تميُّز سكان قرطبة بأنهم أشراف الناس وعلماؤهم، وأرفعهم مكانةً!: «ولم تخلُ قرطبة قَطُّ من أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتُجَّارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة، ولهم مراكب سَنِيَّة وهممٌ عَلِيَّة»[4].


          الحميري

          ويقول الحِميري: «قرطبة: قاعدة الأندلس، وأُمُّ مدائنها، ومستقرُّ خلافة الأمويين بها، وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تُذْكَر، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، اشتهروا بصحَّة المَذْهَبِ، وطيب المكسب، وحُسن الزيِّ، وعلوِّ الهمَّة، وجميل الأخلاق، وكان فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء»[5].

          ياقوت الحموي

          ويصفها ياقوت الحموي -أيضًا- فيقول: «مدينة عظيمة بالأندلس وَسَط بلادها، وكانت سريرًا لمَلِكِهَا وقصبتها[6]، وبها كانت ملوك بني أمية، ومَعْدِن الفضلاءِ، ومنبع النبلاءِ من ذلك الصُّقْع[7]»[8].

          ابن بسام

          ويحكي أبو الحسن بن بسَّام عنها قوله: «كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأُمَّ القرى، وقرارة أهل الفضل والتُّقَى، ووطن أُولِي العلم والنُّهى، وقلب الإقليم، وينبوعَ مُتَفَجّر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر دُرَرِ القرائح؛ ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة، وصُنِّفَتِ التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك -وتبريز القوم قديمًا وحديثًا هنالك على مَنْ سواهم- أن أُفُقَهُم القرطبيّ لم يشتمل قطُّ إلاَّ على أهل البحث والطلب لأنواع العلم والأدب. وبالجملة فأكثر أهل بلاد هذا الأفق -يعني قرطبة خاصةً والأندلس عامَّة- أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر»[9].

          ابن الوردي

          ويَصِفُها وأَهْلَهَا ابن الوردي في خريدة العجائب فيقول: «وأهلها أعيان البلاد، وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب وعلو الهمَّة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وأجِلاَّء الغزاة وأمجاد الحروب». ثم قال بعد أن وصف مسجدها وقنطرتها: «ومحاسن هذه المدينَة أعظم من أن يحيط بها وصف»[10].

          كانت هذه هي إحدى مُدُن الحضارة الإسلاميَّة التي ساهمت في تَقَدُّم مسيرة الإنسانية، ودفع عجلتها إلى الأمام. والحقيقة أن قرطبة ليست الوحيدة في ذلك، ولو كان حديثنا عن بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، أو البصرة، أو غيرها وغيرها، لكان على الدرجة نفسها من العجب أو أشدَّ، ولا غَرْوَ! فهذه حضارة المسلمين، أعظم حضارات الدنيا، ودُرَّة الجبين في تاريخ الإنسانية الطويل.


          [1] الرُّبُض: جماعة الشجر الملتفّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ربض، 7/149.
          [2] تَمَوَّلَ الرجل: صار ذا مالٍ. انظر: الرازي: مختار الصحاح، مادة مول، ص642.
          [3] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
          [4] الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، 2/575.
          [5] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، ص456.
          [6] قَصَبةُ البَلد: مَدينَتُه، ووسطه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قصب، 1/674، والزبيدي: تاج العروس، 4/43.
          [7] الصُّقْع: ناحية الأرض. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة صقع، 8/201.
          [8] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، 4/324.
          [9] أبو الحسن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، 1/33.
          [10] ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب، ص12.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #65
            ملوك الطوائف في الأندلس



            هذه فترة من أصعب فترات التاريخ الأندلسي قاطبة، وأكثرها تعقيدًا وتشابكًا، فعلى الرغم من قِصَر مدتها -التي لا تتجاوز القرن الواحد- إلا أنها تتسم بالأحداث المتعاقبة والأطماع المتزايدة، والفُرْقَة والتنازع الشديدين؛ فغدت الأندلس كحبَّات العِقد المتناثرة، التي لا يجمعها رابط عرق ولا دين، وكانت هذه الأحداث جديرة بأن تجعل القرن الخامس الهجري من القرون المظلمة في تاريخ الأندلس كله، فمنذ إعلان إلغاء الخلافة الأموية في الأندلس بدأت الأندلس بالفعل تُقسَّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة، ليبدأ ما يُسَمَّى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف.


            كيف تكونت ملوك الطوائف؟

            استحالت الأندلس بعد أن كانت كتلة موحدة إلى أشلاء ممزقة ورقاع متناثرة، ودولايات ومدن متباعدة متخاصمة، يُسيطر على كل منها حاكم سابق استطاع أن يحافظ على سلطته المحلية خلال الانهيار، أو متغلِّبٌ من الفتيان الصقالبة أو القادة ذوي السلطان السابق، أو زعيم أسرة محلي من ذوي الجاه والعصبية، وسيطر البربر من جانبهم على أراضي المثلث الإسباني الجنوبي، وما كان منه بيد الدولة الحمودية، وأنشئوا هنالك إمارات عدَّة، ما لبثت أن نزلت إلى ميدان الصراع العام، الذي شمل هذه المنطقة، وهكذا قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى دول عديدة هي دول الطوائف، وذلك منذ أوائل الربع الأول من القرن الخامس حتى الفتح المرابطي، زهاء سبعين عامًا، قضتها جميعًا في سلسلة لا نهاية لها من المنازعات الصغيرة، والخصومات والحروب الأهلية، وكادت بتنابُذها وتفرُّقها ومنافساتها تمهِّد لسقوط الأندلس النهائي[1].

            وقد ذكرنا -سابقًا- أن مساحة الأندلس تقسمت إلى اثنتين وعشرين دولة؛ فتفتَّت المسلمون في الأندلس تفتُّتًا لم يُعهد من قبل في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرًا مهمًّا جدًّا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشدِّ ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

            الطوائف .. تقسيم بلاد الأندلس



            في ذلك العصر قُسِّمَتْ فيه بلاد الأندلس إلى سبع مناطق رئيسة؛ هي كما يلي:

            أولاً: بنو عَبَّاد: وهم ينتمون إلى العرب من بني لخم، وقد أخذوا منطقة إِشْبِيلِيَة.
            ثانيًا: بنو زيري:وهم من البربر، وقد أخذوا منطقة غَرْنَاطَة، وكانت إِشْبِيلِيَة وغَرْنَاطَة في جنوب الأندلس.
            ثالثًا: بنو جهور: وهم الذين كان منهم أبو الحزم بن جهور زعيم مجلس الشورى، وقد أخذوا منطقة قُرْطُبَة وسط الأندلس.
            رابعًا: بنو الأفطس:وهم من البربر، استوطنوا غرب الأندلس، وأسسوا هناك إمارة بَطَلْيُوس[2] الواقعة في الثغر الأدنى.
            خامسًا: بنو ذي النون: وهم من البربر، استوطنوا المنطقة الشمالية، التي فيها طُلَيْطِلَة وما فوقها (الثغر الأوسط).
            سادسًا: بنو عامر: وهم أولاد بني عامر، الذين هم عرب معافريون من العرب اليمانية، استوطنوا شرق الأندلس، وكانت عاصمتهم بَلَنْسِيَة.
            سابعًا: بنو هود: وهؤلاء أخذوا منطقة سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)، تلك التي تقع في الشمال الشرقي.

            وهكذا قُسِّمَتْ بلاد الأندلس إلى سبعة أقسام شبه متساوية، كل قسم يضمُّ إما عنصرًا من العناصر، أو قبيلة من البربر، أو قبيلة من العرب، بل إنَّ كل قسم أو منطقة من هذه المناطق كانت مُقَسَّمة إلى تقسيمات أخرى داخلية، حتى وصل عدد الدويلات الإسلامية داخل أراضي الأندلس عامة إلى اثنتين وعشرين دويلة، وذلك رغم وجود ما يقرب من خمس وعشرين بالمائة من مساحة الأندلس في المناطق الشمالية في أيدي النصارى.
            وفيما يلي من المقالات ذكر لحال أشهر تلك الدويلات.


            [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/676، 677.
            [2] بطليوس: مدينة كبيرة بالأندلس من أعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة. ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/447.

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #66
              بنو جهور في قرطبة

              خلافة هشام المعتد بالله

              لما غادر يحيى بن علي الحمودي قرطبة بعد أن ترك حامية بربرية فيها -وذلك في المحرم من عام 417هـ متجهًا إلى مَالَقَة- ثار أهل قُرْطُبَة على الحامية البربرية، وقتلوا ألفًا منهم، واجتمع أمرهم على ردِّ الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبا الحزم جهور بن محمد، الذي أرسل إلى أهل الثغور والمتغلِّبين هنالك على الأمور، وعرض عليهم الأمر فقبلوه، وأجمعوا على مبايعة هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر لدين الله، وكان مقيمًا في منفاه بالبُونت[1] عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم الفهري المتغلِّب بها، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418هـ، وتلَّقب بالمعتدِّ بالله، وبقي على ذلك خليفة يُخطب له في قُرْطُبَة وهو في منفاه.

              إلغاء الخلافة الأموية

              عزم المعتد بالله على القدوم إلى قُرْطُبَة عصبةِ المُلْكِ والخلافة، وذلك بعد سنتين من مبايعته، فقدمها في ذي الحجة 420هـ، ولبث فيها سنتين حتى أساء السيرة، وتعرَّض وزراؤه لظلم الرعية، فثار أهل قُرْطُبَة عليه، فخلعوه وخرج هو وأهله وخدمه في ذي الحجة 422هـ، واجتمع أهل قُرْطُبَة وأجمعوا أمرهم على إلغاء الخلافة الأموية، والتخلُّصِ نهائيًّا من بني أمية وإجلائهم خارج قُرْطُبَة، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبا الحزم جهور بن محمد، وغدت قُرْطُبَة بلا خلافة ترفعها ولا خليفة يجمعها.. وانتهى عهد الخلافة الأموية في بلاد الأندلس إلى الأبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

              وبذلك انفرط عِقد الأندلس منذ تلك اللحظة؛ فالخلافة وإن كانت ضعيفة إلا أنها رمز لجمع الكلمة وتوحيد الصفِّ، إذا وَجَدَتْ مَنْ يحمل رسالتها الخالصة وأَخَذَهَا بِحَقِّها، ولكن تلك سُنَّة الله في بناء الدول وانحدارها، وما أشبه الليلة بالبارحة! فمنذ أن أُلغيت الخلافة العثمانية وحال المسلمين كما نرى: رقاع متناثرة، ودول متناحرة، لا يجمعهم إلا القومية والعصبية الجاهلية.

              بدأت أنظار القرطبيين تتجه صوب الوزير الحازم المعروف برأيه وحسن تدبيره وصلاح سيرته؛ ليتولى أمور قُرْطُبَة بعد طرد الأمويين والحموديين من قُرْطُبَة، وهكذا اختير الوزير أبي الحزم بن جهور رئيس الجماعة وكبير قُرْطُبَة، اختيارًا شرعيًّا شوريًّا؛ للاضطلاع بتلك المهمة الخطيرة، وذلك في منتصف ذي الحجة عام 422هـ، ولبيان حال خلافة هشام المعتدِّ وعزله يقول ابن عذاري: افْتُتِحَتْ بيعته بإجماع وخُتِمَتْ بفُرْقَة، وعُقدت برضًا وحُلَّتْ بكراهية[2].
              ومن هذا التاريخ بدأت دولة بني جهور بقُرْطُبَة.

              بنو جهور



              ينتمي أبو الحزم بن جهور إلى بيت عريق من بيوت الشرف والوزارة في بلاد الأندلس منذ أن دخلها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية -الملقب بصقر قريش-، وظَلَّت في عقبهم إلى أن آلت إليه وفي ولده من بعده، فهو أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافر بن يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي.


              كان جدُّه يوسف بن بخت بن أبي عبدة من الفرس وهو مولى عبد الملك بن مروان، وكان قد دخل الأندلس مع طالعة بلج بن بشر، وكان من كبار موالي بني أمية في قُرْطُبَة قبل دخول عبد الرحمن بن معاوية إليها، ولما دخلها كان من أنصاره، وولي وزارته وحجابته، وكان ذا دين وفضل وخير، كما تولَّى القيادة والحجابة في عهد هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل ، ومن بعده للحكم الربضي[3]، وظلَّت الوزارة في عقب يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي، فوليها حفيده عبد الملك بن جهور للأمير عبد الله بن محمد وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر[4]، وتولَّى ولده جهور بن عبد الملك الوزارة في عهد الناصر أيضًا[5]، كما وَلِيَ أبو الوليد محمد بن جهور بن عبد الملك الخزانة لعبد الرحمن الناصر[6]، وولي الوزارة في عهد المنصور بن أبي عامر، ثم تولَّى أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور الكتابة لعبد الرحمن المنصور المعروف بشنجول، وهو آخر مَنْ تَوَلَّى الدولة العامرية.

              الوزير أبو الحزم بن جهور

              عاش أبو الحزم جهور الفتنة، وراقب الأحداث والتقلُّبَات التي عانتها الخلافة في قُرْطُبَة، حتى آلت لعلي بن حمود الذي استوزره، ثم شهد ما حدث بين يحيى بن علي الحمودي وعمه القاسم بن حمود وتبادُل الخلافة بينهما، ثم خروج علي بن حمود من قُرْطُبَة إلى مَالَقَة على نحو ما ذكرنا، وكان هو زعيم الثورة القرطبية على بني حمود، ثم استقدامه هشام المعتدِّ، ثم ثورة أهل قُرْطُبَة التي تزعَّمَها على هشام المعتد وطرده هو وبني أمية والمروانية كلهم من قُرْطُبَة، وبقيت قُرْطُبَة بلا حاكم أو خليفة، وهنا اتجهت أنظار أهل الرأي والمشورة في قُرْطُبَة إلى صاحب الزعامة الشعبية وحُسن التدابير في الوزارة والحكم، وكان هو أبو الحزم جهور بن محمد؛ فهو كبير الجماعة ورئيس مجلس الشورى وزعيم قُرْطُبَة، فأصبح هو رئيس الحكومة القرطبية بإجماع أهلها ورؤسائها وأهل الرأي فيها.

              وللوزير الكاتب الفتح بن خاقان وصف عجيب، وبيانٌ جليل لقدر هذه العائلة ومنزلة أبي الحزم منهم في مقال فريد نذكره لحسن سجعه وجمال تعبيره، يقول فيه: «وبنو جَهْوَر أهل بيت وزارة، اشتهروا كاشتهار ابن هُبَيْرة في فَزَارة، وأبو الحَزْم أمجدهم في المكرمات، وأنجدهم في الملمَّات، ركب مُتُون الفتون فَرَاضها، ووقع في بحور المِحَن فَخَاضها، مُنْبَسِطٌ غيرُ مُنْكمش، لا طائش اللِّسانِ ولا رَعِش، وقد كان وزر في الدولة العامرية فَشَرُفَتْ بجلاله، واعترفتْ باستقلاله، فلمَّا انقرضت وعاقت الفتنُ واعترضت، تخلَّى عن التدبير مُدَّتها، وخلَّى لخلافه تدبير الخلافة وشدَّتها، وجعل يُقْبِل مع أولئك الوزراء ويُدْبِر، وينهلُ الأمر معهم ويُدَبِّر، غير مُظْهر للانفراد، ولا مقصِّر في ميدان ذلك الطِّرَاد، إلى أن بلغت الفتنة مداها، وسوَّغت ما شاءت رَدَاها، وذهب مَنْ كان يَخِدُ[7] في الرئاسة ويخبُّ[8]، ويسعى في الفتنة ويَدِبُّ، ولمَّا ارتفع ذلك الوبال، وأدبر ذلك الإقبال، راسَلَ أهلَ التقوى مستمدًّا بهم، ومعتمدًا على بعضهم؛ تحيُّلاً منه وتمويهًا، وتَدَاهِيًا على أهل الخلافة وذَويها، وعَرَضَ عليهم تقديم المعتدّ هشام، وأومض منه لأهل قُرْطُبَة برق خُلَّبٍ[9] يُشَام[10]، بعد سرعة التياثها[11]، وتعجيل انتكاثها، فأنابوا إلى الإجابة، وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحِجَابة، وتوجَّهوا مع ذلك الإمام، وألمُّوا بقُرْطُبَة أحسنَ إلمام، فدخلوها بعد فتن كثيرة، واضطرابات مستثيرة، والبلد مُقْفِر، والجلد مُسْفِر، فلم يبقَ غيرُ يسير حتى جبذ واضطرب أمره فخُلِعَ، واخْتُطِفَ من المُلْكِ وانْتُزِعَ، وانقضت الدولة الأموية، وارتفعت الدولة العَلوية، واستولى على قُرْطُبَة عند ذلك أبو الحزم، ودبَّرها بالجِدِّ والعزم، وضبطها ضبطًا أَمَّنَ خائفها، ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها، وخلا له الجوُّ فطار، واقتضى اللُّبَانَات[12] والأوطار[13]، فعادت له قُرْطُبَة إلى أكمل حالاتها، وانجلى به نوء استجلالاتها، ولم تزل به مشرقة، وغصون الأمل فيها مورقة إلى أن تُوُفِّيَ سنة 435هـ»[14].

              ومن هنا وبعد أن انفرد أبو الحزم بن جهور بالحُكم بلا منازع ينازعه، ولا خليفة ينادي بالحكم دونه، ماذا عن سياسته في إدارة الأمور وتسيير البلاد؟

              حكومة أبي الحزم بن جهور

              تقف حكومة قُرْطُبَة في ذلك الوقت موقف الفريد والنادر بين ممالك الأندلس، التي تشعَّبت بها الطرق بعد إلغاء الخلافة الأموية؛ فالسياسة التي اتَّبعها أبو الحزم بن جهور بعد اختياره حاكمًا لقُرْطُبَة تنمُّ على بُعْدِ سياسته ودهائه؛ فهي حكومة من نوع خاصٍّ، فأبو الحزم بن جهور يحكم دولة على أنقاض الخلافة الأموية، تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس، تمتدُّ شمالاً حتى جبل الشارات (سييرا مورينا)، وشرقًا حتى منابع نهر الوادي الكبير، وغربًا حتى قرب إِسْتِجَة، وجنوبًا حتى حدود ولاية غَرْنَاطَة، وتشمل من المدن عدا قُرْطُبَة جَيَّان وأُبَّذَة وبَيَّاسَة والمدور وأَرْجُونَة وأندوجر[15].

              وهو رجل خبر السياسة والدهاء بحُكم اشتغاله بالوزارة والكتابة وملازمة الخلفاء والمتسلِّطين على الخلافة، فعَرَّفته التجارِب أن التسلُّط والاستبداد طريق الزوال القريب، فابتكر نظامًا سياسيًّا شوريًّا، أقرب إلى النظام الديمقراطي في وقتنا الحاضر، فلم ينفرد بالسياسة ولا بتدبير الأمور، بل شكَّل مجلسًا شوريًّا وزاريًّا من الوزراء وأهل الرأي والمشورة والقيادة بقُرْطُبَة، وجعلهم أهل رأيه، لا يصدر عن رأي إلا بهم، ولا بسياسة إلا بتدبيرهم، وسمَّى نفسه (أمين الجماعة)، وكان إذا سُئِلَ قال: «ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا أمينهم». وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيُسرعون إليه، فإذا علموا مراده فَوَّضُوا إليه بأمرهم؛ وإذا خُوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء، كما أنه اتبع سياسة أخرى كانت أشدَّ ذكاء ودهاء؛ فهو لم يُفارق رسم الوزارة، ولم ينتقل من دور الوزارة إلى قصور الخلفاء والأمراء، بل دَبَّرَها تدبيرًا لم يُسبق إليه، وجعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء مستحقٌّ يُتَّفق عليه، فيُسَلِّم إليه، ورتَّب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الخلافة، ولم يتحوَّل عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رَتَّبهم لذلك، وهو المشرف عليهم[16].

              إضافة إلى هذا الدهاء السياسي الذي اتبعه أبو الحزم بن جهور فقد كان من أشدِّ الناس تواضعًا وعفَّة وصلاحًا، وأنقاهم ثوبًا، وأشبههم ظاهرًا بباطن، وأولاً بآخرَ، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يُعْثَر له قطُّ على حال يدلُّ على ريبة؛ جليسُ كتابٍ منذ درج، ونَجِيُّ نظرٍ منذ فهم، مشاهدًا للجماعة في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلَّفُوا عنه، حافظًا لكتاب الله قائمًا به في سرِّه وجهره، متقنًا للتلاوة، متواضعًا في رفعته، مشاركًا لأهل بلده، يزور مرضاهم ويُشاهد جنائزهم[17].

              حكومة الجماعة

              إن نظام الحُكم الذي اتَّبعه الوزير ابن جهور يدلُّ على بُعد نظره وحُسن سياسته وتدبيره، وقد عُرِفَتْ هذه الحكومة التي كوَّنها ابن جهور بحكومة الجماعة والشورى، والباعث الحقيقي لدى الوزير ابن جهور لتكوين ذلك النظام من الحُكم ربما يكون خفيًّا، فيمكن أن يكون الأمر ضربًا من الذكاء والدهاء السياسي، يجمع به كلمة الشعب حوله وأصحابَ الرأي فيه، يَتَّقي بهم منافسيه، ويكونون له عونًا يستند إليهم عند الحاجة، ويمكن أن نُرجعه إلى حُبِّه للشورى وإقامة العدل وجمع كلمة المسلمين، وخاصَّة بعد أن انفرط عقد الخلافة وبالتالي انفرط عقد الأندلس كلها.

              وعلى كلٍّ فإنها كانت بلا ريب نموذجًا بديعًا من حُكم الشورى، أو حكم الأقلية الأرستقراطية في عصر سادت فيه نزعة الرئاسة الفردية والحُكم المطلق، وكان من أبرز مزاياها أن يستطيع الرئيس أن يتنصَّل من المسئولية، وأن يستظلَّ بلواء الجماعة إذا ما ساءت الأحوال، وأن يُحْرِزَ الثناءَ وجميل الذِّكْر إذا حسنت العواقب[18].


              [1] حصن من حصون بلنسية.
              [2] انظر تفاصيل ذلك في ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، 2/203، والحميدي: جذوة المقتبس، 1/27، وابن بسام: الذخيرة، 2/602، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/30، 31، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/145-152، 185، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص138، 139، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/20، 21.
              [3] انظر: الحميدي: جذوة المقتبس، 5/188، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/30، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/185، 186، والمقري: نفح الطيب، 3/45.
              [4] الحميدي: جذوة المقتبس، 7/282، والمقري: نفح الطيب، 1/356.
              [5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/159.
              [6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/197.
              [7] وَخَد يَخِد: أسرع ووسَّع الخَطْو. ابن منظور: لسان العرب، مادة وخد، 3/453، والزبيدي: تاج العروس، 9/277، والمعجم الوسيط، 2/1019.
              [8] الخَبَب: ضرب من العدو، أي الإسراع في المشي. ابن منظور: لسان العرب، مادة خبب، 1/341، والزبيدي: تاج العروس، 2/328.
              [9] البَرْقُ الخُلَّب: السحاب الذي يبرق ويرعد ولا مطر معه، ولا غيث فيه، كأنه خادع يومض حتى تطمع بمطره ثم يُخْلِفُك، ويقال لمن يَعِدُ ولا يُنْجز وعْدَه: إنما أنت كَبَرْق خُلَّب. الجوهري: الصحاح، باب الباء فصل الخاء 1/122، وابن منظور:
              [10] شامَ السحاب والبرق شَيْمًا: نظر إليه أين يقصد وأين يُمْطر، وقيل: هو النظر إليهما من بعيد. الجوهري: الصحاح، باب الميم فصل الشين، 5/1963، وابن منظور: لسان العرب، مادة شيم، 12/329، والمعجم الوسيط، 1/504.
              [11] الالتياث: الاختلاط والالتفاف والالتباس وصعوبة الأمر وشدته. الجوهري: الصحاح، باب الثاء فصل اللام، 1/291، وابن منظور: لسان العرب، مادة لوث، 2/185، والزبيدي: تاج العروس، باب الثاء المثلثة، فصل اللام، 5/345، 346.
              [12] اللُّبانات: الحاجات من غير فاقة، ولكن من هِمَّةٍ، فهو أخصُّ وأعلى من مطلق الحاجة، يقال: قضى فلان لبانته. ابن منظور: لسان العرب، مادة لبن، 13/372، والزبيدي: تاج العروس، باب النون فصل اللام، 36/92، والمعجم الوسيط، 2/814.
              [13] الأوطار جمع الوطر: وهو الحاجة لك فيها هَمٌّ وعِنايةٌ، فإذا بلغتها فقد قضيت وطرك وأربك. الزبيدي: تاج العروس، باب الراء فصل الواو، 14/364.
              [14] الفتح بن خاقان الإشبيلي: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، 1/34-36.
              [15] عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/21، 22.
              [16] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، وابن بسام: الذخيرة 2/602، 603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/30، 31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/22، 23، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص433.
              [17] ابن حزم: رسائل ابن حزم 2/204، والحميدي: جذوة المقتبس 1/29، وابن بسام: الذخيرة 2/603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186.
              [18] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/22.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #67
                سياسة أبي الحزم جهور في قرطبة


                السياسة الداخلية



                تولَّى أبو الحزم جهور حكومة قرطبة والبلاد تعيش حالة توتر أمني؛ فالبلاد تعيش بلا خليفة يحكمها، أو خليفة يلتفُّ الناس حوله، فكانت البلاد مسرحًا للعابثين من محترفي النهب والسرقة، كما شهدت فسادًا اقتصاديًّا؛ حيث غلت الأسعار، وتدهورت التجارة، وعمَّ الاستغلال، وارتفعت الضرائب والمكوس، ونُهِبَت الأموال العامة من مختلسي أموال الدول، وعاشت كذلك تدهورًا علميًّا وفكريًّا فليست هناك حكومة تعتني بالعلماء والأدباء والشعراء، وتُنفق عليهم من الأموال ما هو كفيل بإبداعهم وتفوقهم، فكان النظام الجديد الذي ابتكره أبو الحزم بن جهور كفيلاً بأن يقف أمام هذه التحديات، التي تعصف بدول وحكومات لو ساءت الإدارة وتعسَّف المتحكمون.


                القضاء على الانفلات الأمني

                سلك الوزير ابن جهور مسلك الحاكم المصلح، باتخاذ إجراءات إصلاحية في البلاد؛ لعل أوَّلها القضاء على الانفلات الأمني وأحداث الشغب، التي قد تعصف بالبلاد، وأن يُوَطِّد دعائم الأمن والنظام، فعامل البربر الثائرين عليه بخفض الجناح والرفق في المعاملة، حتى حصل على سلمهم ومحبَّتهم، كما فَرَّق السلاح على البيوت والمحلات؛ حتى إذا دهم أمرٌ في ليلٍ أو نهارٍ كان سلاح كل واحد معه، كما جعل أهل الأسواق جندًا، وهذه السياسة كفيلة بأن تجعل البلاد بلد أمن وسلام، بل وأصبحت قُرْطُبَة ملجأ أمنٍ للفارِّين والمنفيين من الأمراء المخلوعين عن عروشهم، فقُرْطُبَة في أيامه حريمًا يأمن فيه كل خائف من غيره[1].

                الإصلاح الاقتصادي

                كما عمل أبو الحزم ابن جهور على إصلاح الفساد الاقتصادي؛ فقضى على كل أنواع البذخ والترف، وعمل على حفظ الأموال العامة؛ وخاصة الأموال السلطانية من السرقة، فقد جعل عليها رجالاً يثق بقدرتهم وأمانتهم، وجعل نفسه مشرفًا عليهم[2]، كما عمل على خفض الضرائب والمكوس، وعمل على تشجيع المعاملات التجارية؛ فوزَّع الأموال على التجار؛ لتكون بيدهم دَيْنًا عليهم، يستغلُّونها ويحصلون على ربحها فقط، وتُحْفَظ لديهم، ويُحَاسَبُون عليها من وقت لآخر، وكانت النتيجة أن عمَّ الرخاء قُرْطُبَة، وازدهرت الأسواق، وتحسَّنت الأسعار، وغلت الدور، وعاد النماء بعد الكساد[3].

                إصلاح القضاء والازدهار الفكري

                ونتيجةً لهذه السياسة الحكيمة التي اتبعها الوزير أبو الحزم بن جهور شهدت قُرْطُبَة ازدهارًا سياسيًّا واقتصاديًّا، كان دافعًا إلى إصلاح القضاء من ناحية؛ حيث عمَّ العدل بين الناس، وأَمِنَ الناس على حقوقهم، ومن ناحية أخرى عملت هذه السياسة على الازدهار الثقافي والفكري، وهذا الانقلاب الإيجابي الذي أحدثته حكومة ابن جهور أثارت دهشة مؤرِّخ الأندلس ابن حيان، وهو أحد من عاشوا وشاهدوا ذلك التحوُّل بقوله: «فعَجِبَ ذو التحصيل للَّذي أَوَى إليه في صلاح أحوال الناس من القوَّة ولما تعتدل حال، أو يهلك عدوٌّ، أو تَقْوَ جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون»[4].

                وابن حيان نفسه في موضع آخر يذكر أن ابن جهور لم يكن لينسى نفسه أمام هذا الرخاء، الذي نعمت به قُرْطُبَة في ظلِّ حكومته، فيقول: «ولم يخلُ مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه[5] لمعيشته، حتى تضاعف ثراؤه، وصار لا تقع عينه على أغنى منه، حاطَ ذلك كلَّهُ بالبخل الشديد والمنع الخالص، اللذين لولاهما ما وَجَدَ عائِبُه فيه طعنًا، ولكَمُلَ لو أن بشرًا يكمُل»[6].

                السياسة الخارجية

                موقف الوزير جهور من دعوة ظهور هشام المؤيد في إشبيلية

                كان للوزير ابن جهور موقفًا خاصًّا من دعوة القاضي أبي القاسم بن عباد متملِّك إِشْبِيلِيَة بظهور الخليفة هشام المؤيد في إِشْبِيلِيَة سنة (426هـ=1235م) [7]؛ وذلك ليدحض دعوة يحيى بن علي الحمودي في الخلافة من ناحية، وليُكْسِبَ الشرعية السياسية لحُكم البلاد من ناحية أخرى، فبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام من أهل إِشْبِيلِيَة وأعيانها، بعث بالكُتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحدٌ سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بَلَنْسِيَة، والمُوَفَّق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وصاحب طُرْطُوشة[8].

                أما الوزير أبو الحزم بن جهور فإنه أرسل الرسل ليتبيَّن حقيقة الأمر، ولما ظهر له كذبها رفض هذا الادعاء؛ إلا أن أهل قُرْطُبَة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وكادت تقوم ثورة ضدَّ ابن جهور، فزوَّر الشهادة؛ فَصَحَّت عنده الشهادة به، فبايعه وخطب له؛ بيد أن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة، ومطامعهم في أملاكها على نحو ما أراد ابن عباد، غير أن ابن جهور تراجع عن طاعته، خاصة أن القاضي ابن عباد طلب منه أن يدخل في طاعته باسم الخليفة هشام، فرفض ابن جهور وأعلن تَبَرُّؤَه من دعوته[9].

                دعوة الوزير جهور للسلم وفض المنازعات بين الأمراء



                كانت سياسة الوزير أبي الحزم بن جهور سببًا مباشرًا في إقرار السلام والأمان والازدهار في قُرْطُبَة؛ وهذا ما جعلها موضع ثقة ملوك الطوائف الأخرى في بلاد الأندلس، وكانت الهيبة ورجاحة العقل صفتين تميَّزَ بهما الوزير ابن جهور، وهذا ما جعله موضع الوسيط العدل لفضِّ المنازعات والخصومات بين الأمراء المتنازعين، فحين كاد الصراع أن يحتدم بين المعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة والمظفر بن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس، حيث هاجم المعتضد بن عباد مدينة لَبْلَة الواقعة غربي إِشْبِيلِيَة، فاستغاث صاحبها ابن يحيى بالمظفر بن الأفطس لنجدته، فتحرَّك له، وأرسل جماعة من البربر لمهاجمة إِشْبِيلِيَة، وأرسل الوزير ابن جهور رسله ليُنْذرهم من رَحَى فتنةٍ تعصف ببلاد الأندلس، ويدعوهم إلى السلم وفضِّ النزاع، وهي السياسة نفسها التي اتبعها ابنه أبو الوليد محمد بن جهور بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس كذلك، على نحو ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.


                وكان لهذا النصح المتكرِّر من الوزير جهور وابنه أبي الوليد محمد أَثَرٌ في إنقاذ الأندلس من فتنة هوجاء عاصفة[10].

                وفاة الوزير ابن جهور

                وهكذا عاشت قُرْطُبَة في ظلِّ حكومة الجماعة آمنة من الفتنة، فضلاً عن ذلك الازدهار الاقتصادي والأمن السياسي، وظلَّ الوزير ابن جهور حاكمًا لقُرْطُبَة حتى وافته المنية في صفر، وقيل: المحرم سنة 435هـ. وقد أجمع أهل قُرْطُبَة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكمًا عليهم[11].

                ويجدر بنا هنا أن نذكر قصيدة لابن حيان يرثي بها أبا الحزم بن جهور، ويمدح فيها أبا الوليد بن جهور يقول: [الطويل]
                أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ ضَمَّهَا الْقَبْرُ

                وَأَنْ قَدْ كَفَانَا فَقْدَهَا الْقَمَرُ الْبَدْرُ
                وَأَنَّ الْحَيَا إِنْ كَانَ أَقْلَعَ صَوْبُهُ

                فَقَدْ فَاضَ لِلآمَالِ فِي إِثْرِهِ الْبَحْرُ
                إِسَاءَةُ دَهْرٍ أَحْسَنَ الْفِعْلَ بَعْدَهَا

                وَذَنْبُ زَمَانٍ جَاءَ يَتْبَعُهُ الْعُذْرُ
                فَلا يَتَهَنَّ الْكَاشِحُونَ فَمَا دَجَا

                لَنَا اللَّيْلُ إِلاَّ رَيْثَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ
                وَإِنْ يَكُ وَلَّى جَهْوَرٌ فَمُحَمَّدٌ

                خَلِيفَتُهُ الْعَدْلُ الرِّضَا وَابْنُهُ الْبَرُّ
                لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْعِلْقُ[12] أَتْلَفَهُ الرَّدَى

                فَبَانَ وَنِعْمَ الْعِلْقُ أَخْلَفَهُ الدَّهْرُ[13]



                [1] الحميدي: جذوة المقتبس 1/29، وابن بسام: الذخيرة 2/603، 604، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186، 187.
                [2] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، 29، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32.
                [3] الحميدي: جذوة المقتبس 1/28، 29، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/32، 33، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/23.
                [4] ابن بسام: الذخيرة 2/604، وابن عذاري: البيان المغرب 3/187.
                [5] التَّرْقِيح: إصلاح المعيشة، وترقيح المال إصلاحه والقيام عليه. الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الراء 1/366، وابن منظور: لسان العرب، مادة رقح 2/451.
                [6] ابن بسام: الذخيرة 2/603، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/31، وابن عذاري: البيان المغرب 3/186.
                [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/197-200، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153، 154.
                [8] ابن عذاري: البيان المغرب 3/190، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
                [9] ابن عذاري: البيان المغرب 3/198، 199، 201.
                [10] ابن بسام: الذخيرة 3/33-36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/209-213.
                [11] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/33، ، وابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، تحقيق الدكتور شوقي ضيف 1/56، وابن عذاري: البيان المغرب 3/187، 232، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص148.
                [12] العِلْق: النفيس من كل شيءٍ، لتَعَلُّقِ القلب به. الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل العين 4/1530، وابن منظور: لسان العرب، مادة علق 10/261، والمعجم الوسيط 2/622.
                [13] ابن بسام: الذخيرة، 1/392.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #68
                  نهاية دولة بني جهور



                  أبو الوليد محمد بن جهور



                  عند وفاة الوزير جهور سنة 435هـ أجمع أهل قرطبة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكما عليهم، وقد اقتفى أبو الوليد محمد بن جهور خطى والده في سياسته، وأقرَّ لأول ولايته الحُكَّام وأُولي المراتب على ما كانوا عليه أيام أبيه، وأخذ بسياسة الحزم على نحو ما كان عليه أبوه، وأقرَّ الأمن والنظام[1].


                  وكان من محاسن دولته أن قرَّب إليه مؤرِّخ الأندلس أبا مروان بن حيان، وجعله من خاصَّته في ديوان السلطان، وفي ذلك يقول ابن حيان: «وكنتُ ممَّن جَادَتْهُ سماءُ الرئيس الفاضل أبي الوليد الثرَّة، وكَرُم فيَّ فعلُه ابتداءً من غير مسألة، فأقْحَمَني في زمرة العصابة المُبَرِّزَة الخَصل، مع كلال الحدِّ وضعف الآلة؛ واهتدى لمكان خِلَّتي، وقد ارتشف الدهرُ بُلالتي[2]، بأن قلَّدني إملاءَ الذِّكْر في ديوان السلطان المطابق لصناعتي، اللاَّئق بتحرُّفي، براتب واسع، لولا ما أخذ عليَّ كَتْم ما أسداه لجهدتُ في وصفه، وإلى الله تعالى أفزع في إجمال المكافأة عني برحمته»[3]. ومن محاسنه كذلك أن قرَّب إليه شاعر الأندلس الكبير أبا الوليد بن زيدون، وجعله وزيره، وقَدَّمه إلى النظر على أهل الذمَّة لبعض الأمور المعترضة، وجعله لسان دولته وسفيرًا له إلى أمراء الممالك الأندلسية، وظلَّ كذلك إلى أن سخط عليه فأودعه السجن، ثم فرَّ ابن زيدون إلى دولة المعتضد بن عباد بإِشْبِيلِيَة وأصبح وزيره الأول[4].

                  الفتنة القاضية

                  بقيت الأمور على ما هي عليه من الاستقرار والأمان حينًا، ويبدو أن أبا الوليد محمد بن جهور أتعبته السياسة وأثقلت كاهله، وكان له ولدان، عبد الرحمن أكبرهما، وعبد الملك أصغرهما، ولكن عبد الملك تميَّز عن أخيه بشهامته، فلما عزم أبو الوليد على ترك السياسة وأمورها عقد الأمر لابنه عبد الملك الأصغر، وأنشد يقول: [الكامل]
                  وَإِذَا الْفَتَى فَقَدَ الشَّبَابَ سَمَا لَهُ

                  حُبُّ الْبَنِينِ وَلا كَحُبِّ الأَصْغَرِ

                  عبد الملك بن جهور

                  مع كثرة نصائح المقربين من أبي الوليد بن جهور بتقديم عبد الرحمن، إلا أنه أصرَّ على تقديم عبد الملك، وقدَّمه للناس، وطلب منهم البيعة له، فظَلَمَ وأساء السيرة، واستبدَّ بالسلطة من دون الجماعة، واستباح أموال المسلمين، وسلَّط عليهم أهل الفساد، وأهمل الأمور الشرعية، وشرع في المعاصي والفسوق، وعمَّ الخوف محلَّ الأمان، وتعاظمت قوَّته بتجبُّره، وتسمَّى بذي السيادتين (المنصور بالله الظافر بفضل الله)، وخُطب له على المنابر، فخالف سيرة أبيه وجدِّه، وفي سنة 440هـ عَهِد عبد الملك بأمور الحُكم إلى وزير أبيه أبي الحسن إبراهيم بن يحيى المعروف بابن السقَّاء، فضبط الأمن وأعاد النظام، وساد العدل بين الناس، وكان المعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب؛ ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على قُرْطُبَة، فلما وجد ما حَلَّتْ به تحت يَدَيْ ذلك الوزير القوي ابن السقاء، ورأى أن ذلك يحُول بينه وبين حلمه في امتلاك قُرْطُبَة؛ عَمِلَ على الوقيعة بين عبد الملك بن جهور وبين وزير أبيه ابن السقاء، فدسَّ إلى عبد الملك مَنْ جَسَّره[5] على الفتك بابن السقاء، وحذره من طمعه واستئثاره بالسلطة دونه، وإلى ابن السقاء مَنْ ألقى في روعه حُبَّ المُلْكِ، وكان عبد الملك ضعيفَ العقل سيِّئ الرأي، فقتل وزيره في كمين دبَّره له سنة (455هـ= 1063م)[6].

                  وبعد أن قُتل الوزير ابن السقاء انفرد عبد الملك بالسلطة لنفسه، فتجبَّر وأساء، فلما وجد أخوه الأكبر عبد الرحمن ذلك طمع في السلطة، وزعم أنه أحقُّ بالولاية من أخيه، فطفقا يستميلُ كلٌّ منهما طائفةً من الجند، ويتقرَّب للرعية، وبدأت بوادر الفوضى تعمُّ قُرْطُبَة، فلما وجد أبو الوليد بن جهور ذلك خاف سوء العاقبة عليه وعلى ولديه، فعمد إلى تقسيم السلطة عليهما وذلك سنة (456هـ=1064م)؛ فجعل إلى أكبرهما عبد الرحمن النظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة ومشاهدتهم في مكان مجتمعهم، والتوقيع في الصكوك السلطانية المتضمِّنة للحلِّ والعقد، وجميع أبواب النفقات، وجعل إلى عبد الملك النظر في الجند، والإشراف على أعطياتهم، وتجريدهم في البعوث، والتقوية لأولادهم وجميع ما يخصهم، ورضيا الأخوان بذلك، إلا أن عبد الملك تغلب على أخيه فسجنه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته، واستبدَّ بالأمر دونه، وأطلق العِنان وتسلَّط هو والسوقة من رعيته بين الناس بالأذى، فما كان من أهل قُرْطُبَة إلا أن انصرفوا عن بني جهور[7].

                  نهاية دولة بني جهور

                  كانت هذه السياسة -التي اتبعها عبد الملك بن جهور في قُرْطُبَة- كفيلة بإسقاط حكمه، خاصَّة وأن حاشيته عاثت في الأرض فسادًا ونهبًا وسرقة؛ مما أثار أهل قُرْطُبَة، وبدأت مظاهر الانحلال السابقة للسقوط الأزلي لدولة بني جهور في قُرْطُبَة، خاصة وأن قُرْطُبَة محلُّ أنظار الممالك المجاورة لها؛ سواء بني عباد في إِشْبِيلِيَة، أو بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، وعقب الاضطرابات التي شهدتها قُرْطُبَة عام 462هـ أغار صاحب طُلَيْطِلَة المأمون يحيى بن ذي النون على قُرْطُبَة، فاستغاث عبد الملك بن جهور بالمعتمد بن عباد[8]، وكانت تلك الاستغاثةَ الأخيرة من بني جهور، والتي أعقبها سقوط حُكمهم إلى الأبد في قُرْطُبَة على نحو ما سنذكره في موضعه، إن شاء الله.


                  [1] المصدر السابق، 2/605.
                  [2] البُلالة: الإساءة والعيب. الجوهري: الصحاح، باب اللام فصل الباء 4/1640، وابن منظور: لسان العرب، مادة بلل 11/63.
                  [3] ابن بسام: الذخيرة 2/605.
                  [4] ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 1/63، 64، وابن بسام: الذخيرة، 1/337، 338.
                  [5] يُجَسِّره: يُشَجِّعه ويجعله يتطاول ويتجرَّأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الجيم 2/613، 614، وابن منظور: لسان العرب، مادة جسر 4/136، والمعجم الوسيط 1/122.
                  [6] ابن بسام: الذخيرة 2/608، 609، 7/241-245، وابن عذاري: البيان المغرب 3/232، 233، 251.
                  [7] ابن بسام: الذخيرة 2/606، 607، وابن عذاري: البيان المغرب 3/258، 259، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149.
                  [8] ابن بسام: الذخيرة 2/609-611، وابن عذاري: البيان المغرب 3/260، 261، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149-152.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #69
                    علماء الأندلس في قرطبة



                    علماء قرطبة



                    شكَّلت النهضة العلمية والأدبية -التي تمتَّعت بها الأندلس في فترة الطوائف- بُعْدًا حضاريًّا على الرغم من الفوضى السياسية الصارخة، التي عمت الأرجاء الأندلسية زهاء قرن من الزمان؛ لذلك ما فتئت كلُّ مملكة من ممالك الطوائف أن جعلت لها حاضرة تستقطب بها العلماء والفقهاء في شتَّى جوانب العلوم النظرية والتجريبية.


                    وكانت قُرْطُبَة عاصمة الخلافة المنصرمة تُمَثِّل حاضرة العلوم، ليس في الأندلس فحسب، بل في العالم كله، وكانت مكتبتها شعلةَ علمٍ، تأتي إليها البعثات الغربية لتستضيء بنورها من ظلمات الجهل الذي غرقت فيها أوربا قرونًا من الزمان.

                    وقد نبغ في قُرْطُبَة العديد من الشعراء والعلماء في شتَّى فروع المعرفة، وكان لهم بلا شكٍّ دور بارز في تسيير أمور المملكة سياسيًّا وعلميًّا في آن واحد؛ ويقف على رأس هؤلاء العلماء الإمام المؤرخ الفقيه الفيلسوف ابن حزم الأندلسي، وقاضي قضاة الأندلس يونس بن عبد الله بن مغيث، ومؤرخ الأندلس الأوحد أبو مروان بن حيان، وتلميذه أبو عبد الله الحميدي، وغيرهم كثير، وسوف نقف على بعض لمحات من حياة بعضهم.

                    ابن حزم الأندلسي (٣٨٤-٤٥٦هـ=٩٩٤-١٠٦٤م)

                    الإمام الكبير أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القُرْطُبِيُّ اليَزِيدِيُّ، مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب، الأموي الظَّاهِرِيُّ، وكان جدُّه خلف بن مَعْدَانَ هو أول من دخل الأندلس في صحابة عبد الرحمن الداخل، وُلِدَ في قُرْطُبَة، وتعلَّم فيها وتربَّى على شيوخها، وتَفَقَّهَ أوَّلاً للشافعي، ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إلى القول بنفي القياس كُلِّه جَلِيِّه وَخَفِيِّه، والأَخْذ بظاهر النصِّ وعمومِ الكتاب والحديث، كان مفسِّرًا محدِّثًا، فقيهًا مؤرِّخًا، شاعرًا مربِّيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب؛ لذلك يُعَدُّ / من أكبر علماء الإسلام فقهًا وعلمًا وتصنيفًا.

                    كان ابن حزم سياسيًّا بارعًا، ووزيرًا ماهرًا، وكان بيته بيت وزارة؛ إذ وزر أبوه للمنصور بن أبي عامر، وقد عاش ابن حزم أمور الفتنة في قُرْطُبَة، وناصر المرتضى الأموي على الحموديين، ولكنه أُسِرَ وكان ذلك في منتصف سنة 409هـ، ثم أُطلق سراحه من الأسر، فعاد إلى قُرْطُبَة، ثم ولي الوزارة للمستظهر ثم قُتل المستظهر وسُجِنَ ابن حزم، ثم عُفِي عنه، ثم تولَّى الوزارة أيام هشام المعتد فيما بين (418هـ-422هـ)، وقد عاصر ابن حزم ملوك الطوائف وهي في أوج اختلافها، وكان يحمل عليهم ويُؤَلِّب الفقهاء ضدَّهم، ومن ثَمَّ أُحْرِقَت كُتبه في إِشْبِيلِيَة بأمر من المعتضد بن عباد.

                    ونظرًا لجهوده العلمية والسياسية فقد نال ثناء العلماء، الذين عرفوا شمائله وعلوَّ همته؛ قال الأمير أبو نصر بن ماكولا: كان فاضلاً في الفقه حافظًا في الحديث، مصنِّفًا فيه، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة، وله شعر ورسائل[1].

                    وقال الحميدي: كان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، ومستنبطًا للأحكام من الكتاب والسُّنَّة، متفنِّنًا في علوم جمَّة، عاملاً بعلمهن، زاهدًا في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمَّة[2].

                    وقال الحافظ الذهبي: ابن حزم الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف. وله –رحمه الله- العديد من التصانيف، أشهرها: طوق الحمامة، والمحلى في الفقه، والفصل في الملل والأهواء والنحل، والناسخ والمنسوخ، وله أيضًا: رسالة في الطب النبوي، وكتاب حدِّ الطب، وكتاب اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادَّة، وكتاب في الأدوية المفردة.

                    بيد أن آراء ابن حزم في ملوك الطوائف جعلته موضع اضطهاد ومطاردة منهم، وظلَّ حاله معهم من بلد إلى بلد حتى استقرَّ به المقام في لَبْلَة حيث أصله الأول، وبها مات[3].

                    ابن حيان القرطبي (377-469 هـ=987-1076م)

                    الإمام الإخباري المؤرخ، أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي الأموي بالولاء، وقد كان أبوه وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وقد عاصر ابن حيان أحداث الأندلس في فترة الطوائف، فكان أبلغ من كتب فيها، كما كان ابن حيان وزيرًا للوليد بن جهور في قُرْطُبَة، ومِنْ خاصَّته، وقد عايش ابن حيان سقوط دولتهم، كما كان بارعًا في الآداب، وهو صاحب لواء التاريخ بالأندلس، وأفصح الناس فيه، كان لا يتعمَّد كذبًا فيما يحكيه من القصص والأخبار، من كُتبه: المقتبس في تاريخ الأندلس، والمتين في تاريخ الأندلس أيضًا[4].


                    [1] ابن ماكولا: الإكمال 2/451.
                    [2] الحميدي: جذوة المقتبس 8/308.
                    [3] انظر ترجمته في: الذهبي: سير أعلام النبلاء 18/184-212.
                    [4] ابن بسام: الذخيرة 2/605، والذهبي: سير أعلام النبلاء 18/370-372.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #70
                      بنو عباد في إشبيلية

                      مملكة إشبيلية



                      تُعَدُّ مملكة إِشبِيلِية أهمَّ دول الطوائف كلها، وأعظمها شأنًا وأقواها عدَّة وشكيمة، فمع تفوُّقها العسكري والسياسي وموقعها الجغرافي، فقد علا فيها شأن العلم والعلماء، والأدب والأدباء؛ وهذا ما جعل ملوكها أشهر الملوك، وشعراءها أفحم الشعراء.


                      وإذا كنا سنتحدَّث عن مملكة إِشْبِيلِيَة فيجدر بنا أن نتحدث عن بني عبَّاد الذين صنعوا من إِشْبِيلِيَة مملكة تَفَوَّقت على دول الطوائف الأندلسية، واستطاعت التغلُّب على قُرْطُبَة، وأسقطوا حكم الحموديين فيها، وعلا كعبهم[1] في بلاد الأندلس حتى خطب ودَّهم أمراؤها وأعيانها.

                      نسب بني عباد

                      بنو عباد من العرب الداخلين إلى الأندلس، وهم ينتمون إلى لخم، وكان قد دخل رهط من اللخميين بلاد الأندلس، كان منهم عطاف بن نُعيم وهو جدُّ العباديين، دخل الأندلس مع طالعة بلج بن بشر القشيري، وهو لخمي النسب صريحًا، وأصله من عرب حمص بأرض الشام، ولما دخل الأندلس نزل بقرية قرب إِشْبِيلِيَة، وقد تناسل ولده بها مدَّة من الزمان، ثم انتقلوا إلى حمص (وهي إِشْبِيلِيَة)، وكان جند الشام يسمون إِشْبِيلِيَة حمص؛ لقوة الشبه بينها وبين حمص الشام، من حيث الطبيعة والإقليم[2].

                      وبنو عباد قيل: إنهم ينتمون إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء. فهم لخميون أصليون، وكانوا بنسبهم يفتخرون على غيرهم، ويمتدحهم بذلك شعراؤهم، وفي ذلك يقول شاعرهم ابن اللبانة: [الخفيف]
                      مِنْ بَنِي الْمُنْذِرِينَ وَهْوَ انْتِسَابٌ

                      زَادَ فِي فَخْرِهِ بَنُو عَبَّادِ[3]
                      فِتْيَةٌ لَمْ تَلِدْ سِوَاهَا الْمَعَالِي

                      وَالْمَعَـــالِي قَلِيلَةُ الأَوْلادِ[4]

                      وكانت لأسرة بني عباد مكانة وحظوة لدى خلفاء وأمراء بني أمية؛ خاصة الحكم المستنصر، وابنه هشام المؤيد، وحاجبه المنصور محمد بن أبي عامر، فكانت فيهم الإمامة والخطابة والقضاء[5].

                      وخير مَنْ أجاد وأبلغ في وصفهم وبيان حالهم الوزير الكاتب الفتح بن خاقان الإشبيلي في قوله: هذه بقيةٌ منتماها في لَخْم، ومرتماها إلى مَفْخَرٍ ضَخْم، وجَدُّهم المنذر بن ماء السماء، ومَطْلعهم من جوِّ تلك السماء، وبنو عباد ملوك أَنِسَ بهم الدهر، وتنفَّس منهم عن أَعْبَق الزهر، وعمَرُوا ربع المُلْك، وأمروا بالحياة والهلك، ومُعْتَضِدُهم أحد من أقام وأَقْعَد، وتبوَّأ كاهلَ الإرهاب واقْتَعد[6]، وافترش من عِرِّيسته[7]، وافترس من مكائد فريسته، وزاحم بِعَوْد[8]، وهَزَّ كُلَّ طَوْد، وأخْملَ كل ذي زيٍّ وشارة وخَتَل بوحي وإشارة، ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نَيِّرات تلك الأفلاك»[9].

                      القاضي ذو الوزارتين أبو الوليد إسماعيل بن عباد

                      وقد سطع نجم بني عباد في إِشْبِيلِيَة منذ سقوط حكم العامريين واعتلال الخلافة الأموية ثم سقوطها، وذلك أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين، ونتج عن ذلك توالي الفتن وكثرة الانقلابات، وقد تألَّق نجم بني عباد في أعقاب الفتنة، على يد جدهم أبي الوليد إسماعيل بن عباد، وقد استطاع بحكمة ودهاء أن يجمع خيوط السياسة في يده، ويجمع حوله أعيان ورؤساء إِشْبِيلِيَة؛ لمكانته في نفوس أهلها، فقد ولي الشرطة لهشام المؤيد، ثم ولي الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، كما ولاَّه المنصور بن أبي عامر قضاء إِشْبِيلِيَة، وظلَّ بها يرقب الأحداث على كثب، ويعمل ليوم ينفرد فيه بالسلطة لنفسه وولده من بعده كما انفرد غيره بممالكهم، ويستأثر بحُكم مدينة من أعظم مدن الأندلس[10].

                      كان أبو الوليد إسماعيل بن عباد عميد الأسرة وكبيرها؛ وكان يتمتَّع بصفات الزعامة ومؤهلات القيادة، فكان يُنفق مِنْ ماله وآوى كثيرين ممن فروا من قُرْطُبَة عند احتدام الفتنة، وكان معلومًا بوفور العقل وسبوغ العلم والدهاء وبُعد النظر[11]، واستطاع أن يحمي مدينة إِشْبِيلِيَة من سطوة البرابرة النازلين حولها «بالتدبير الصحيح، والرأي الرجيح، والنظر في الأمور السلطانية»[12].

                      وهكذا استتبَّ الأمر في يد القاضي ذي الوزارتين إسماعيل بن عباد، ثم لما مرض ندب الأمر من بعده لابنه أبي القاسم محمد ليشغل القضاء، واقتصر هو على تدبير الرأي في إِشْبِيلِيَة، وظلَّ كذلك إلى أن أتاه أجله سنة 414هـ[13].

                      القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد

                      هو المؤسس الفعلي لدولة بني عباد، أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف[14].

                      كان سلطان الحموديين في ذلك الوقت يتردَّد بين قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة، فلما قُتل علي بن حمود في أواخر سنة 408هـ تولَّى الخلافة من بعده أخوه القاسم بن حمود، وبعد سلسلة من الصراعات الداخلية على السلطة بين القاسم بن حمود وابن أخيه يحيى بن علي، ترك القاسم بن حمود قُرْطُبَة وقصد إِشْبِيلِيَة سنة 412هـ، وهناك بُويع له وتلقَّب بالمستعلي، ثم عاد ثانية إلى قُرْطُبَة في ذي الحجة سنة 413هـ، وجُدِّدَتْ له البيعة. وكان القاسم بن حمود وهو في إِشْبِيلِيَة قد قَدَّم القاضي ابن عباد على قضاء إِشْبِيلِيَة[15]، وكان القاضي ابن عباد يشعر من جانبه أن استمرار سلطان الحموديين يُهَدِّد رئاستهم ويُنذر بالقضاء عليها، فلمَّا استدعى المستعلي ليتولى الخلافة ثانية في قُرْطُبَة، اجتمع رأي أهل إِشْبِيلِيَة على ثلاثة من الزعماء؛ هم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل، والفقيه أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله ابن مريم، فكانوا يحكمون في النهار بالقصر، وتنفذ الكتب تحت أختامهم الثلاثة، إلا أن القاضي ابن عباد استطاع أن ينفرد بالسلطة لنفسه.

                      ثم حدث أن ثار أهل قُرْطُبَة على القاسم بن حمود ففرَّ إلى إِشْبِيلِيَة وطلب فتح أبوابها له، إلا أن زعماء المدينة وعلى رأسهم القاضي أبو القاسم ابن عباد اتفقوا على إغلاق أبوابها، وأخرجوا وَلَدَ القاسم المستعلي ومَنْ فيها من أهله، واتَّفق أهل إِشْبِيلِيَة اتِّقاء عدوان القاسم المستعلي على أن يُؤَدُّوا له قدرًا من المال وينصرف عنهم، وتكون له الخطبة والدعوة ولا يدخل بلدهم، ولكن يُقَدِّم عليهم مَنْ يحكمهم ويفصل بينهم، فقدَّم عليهم القاضي ابن عباد، وبذلك انفرد ابن عباد بإِشْبِيلِيَة، وأصبحت رئاسته عليها شرعية وفعلية[16].

                      وبعد أن أصبحت إِشْبِيلِيَة ولاية شرعية للقاضي أبي القاسم بن عباد؛ فهو قاضيها وحاكمها معًا، راح يسعى لتوطيد حُكمه وتوسيعه، وهذا لا يكون إلا بحاشية مخلصة له وبجنود يتفانون في خدمته والدفاع عنه؛ فأكثر من شراء الرجال الأحرار والعبيد، واقتناء أنواع السلاح والعُدَّة والعتاد، إلى أن ساوى ملوك الطوائف، وزاد على أكثرهم بكثافة سلطانه وقوة جيشه وعتاده، ولم يكن القاضي ابن عباد على غفلة من تدبير الحموديين والبرابرة ضدَّه؛ فهو يعلم تربُّصهم به، وطموحهم في امتلاك إِشْبِيلِيَة ثانية، كما أن طموح القاضي أبي القاسم بن عباد لم تكن على حدود إِشْبِيلِيَة فقط؛ بل اتجه للتوسُّع خارج حدود مملكته ناحية الغرب؛ للارتباط الإقليمي بين إِشْبِيلِيَة وغرب الأندلس، إضافة إلى خلوِّها من المنافسين الأقوياء[17].

                      ظهور الخليفة هشام المؤيد

                      وكان من أشهر أعمال القاضي أبي القاسم بن عباد أثناء ولايته إعلانه ظهور الخليفة هشام المؤيد، وتجديد البيعة له خليفة بإِشْبِيلِيَة، وأنه قد عثر عليه حيًّا وذلك سنة (426هـ=1035م)، ولم تكن هذه الخطوة التي خطاها القاضي ابن عباد عبثًا؛ فهو كان يرمي من ناحية إلى دحض دعوى الحموديين بالخلافة؛ وذلك بظهور الخليفة الشرعي، ومن ناحية أخرى يُريد أن يُضفي الشرعية على حُكمه وتدبيره وتوسعاته خارج حدود إِشْبِيلِيَة؛ فهو يتوسَّع بأمر الخليفة الشرعي للأندلس كلها.

                      وقصة هشام المؤيد هذا يكتنفها الغموض، وتضاربت الروايات في شأنه واختلفت في تحديد مصيره، والروايات الأندلسية يظهر منها أن القاضي ابن عباد أظهر شخصًا زعم أنه هشام المؤيد، وتُظهر الروايات أن هذا الرجل يُشبه هشامًا المؤيد شبهًا كبيرًا، وأنَّ هذا الدعيَّ كان اسمه خلف الحصري، وتذكر الروايات أن هشامًا المؤيد لما فرَّ من الفتنة كتم أمره، واستقرَّ بقرية من قرى إِشْبِيلِيَة، وعمل مؤذِّنًا بأحد مساجدها، ولما وصل أمره إلى القاضي ابن عباد جمع ولده وخاصَّته وخدمه وعبيده، وقَبَّلُوا الأرض بين يديه، وألبسوه لباس الخلافة، وخُوطب بالخلافة، وبايعه الناس، ونودي في المدينة: يا أهل إِشْبِيلِيَة؛ اشكروا الله على ما أنعم به عليكم؛ فهذا مولاكم أمير المؤمنين هشام قد صرفه الله عليكم، وجعل الخلافة ببلدكم؛ لمكانه فيكم، ونقلها من قُرْطُبَة إليكم، فاشكروا الله على ذلك[18].

                      وبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام بإِشْبِيلِيَة بعث بالكُتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحدٌ سوى الوزير أبي الحزم بن جهور، مع علمه بكذب دعوى ابن عباد، ولكن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة ومطامعهم في أملاكها على نحو ما ذكرنا سابقًا[19].

                      وبهذا قامت دولة بني عباد بإِشْبِيلِيَة، والذي يُعَدُّ القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد هو المؤسس الحقيقي لها، والتي كان لها شأن كبير بين ملوك الطوائف في الأندلس، وقد عظم مُلْك ابن عباد وقويت شوكته إلى أن تُوُفِّيَ سنة (433هـ=1042م).

                      وللقاضي ابن عباد مقطوعة شعرية تشير إلى رغبة قديمة في الحكم، تقول: [الطويل]
                      وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ أَسُودَ عَلَى الْوَرَى

                      وَلَوْ رُدَّ عَمْرٌو للزَّمَانِ وَعَامِرُ
                      فَمَا الْمَجْدُ إِلاَّ فِي ضُلُوعِيَ كَامِنٌ

                      وَلا الْجُودُ إِلاَّ مِنْ يَمِينِيَ ثَائِرُ
                      فَجَيْشُ الْعُلا مَا بَيْنَ جَنْبِيَ جَائِلٌ

                      وَبَحْرُ النَّدَى مَا بَيْنَ كَفِّيَ زَاخِرُ ([20])


                      [1] علا كعبهم؛ أي: ازدادوا علوًّا وشرفًا وظَفَرًا وحظًّا. ابن منظور: لسان العرب، مادة كعب 1/717، والمعجم الوسيط 2/790.
                      [2] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/34، 35، وابن عذاري: البيان المغرب 3/193، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/23-33.
                      [3] في حاشية الحلة السيراء كتب ما يلي: في الأصل:
                      من بني المنذر بن ماء السماء وهو انتساب زاد في فخره بنو عباد
                      وهو واضح الانكسار، وقد صوبه دوزي على هذا النحو, وهو صحيح.
                      [4] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/35.
                      [5] ابن عذاري: البيان المغرب 3/193، 194، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
                      [6] اقتعد: ركب واتخذها قعودًا له. الجوهري: الصحاح، باب الدال فصل القاف 2/525، وابن منظور: لسان العرب، مادة قعد 3/357، والمعجم الوسيط 2/748.
                      [7] العِرِّيسة: الشجر الملتف يكون مأوى للأسد. الجوهري: الصحاح، باب السين فصل العين 3/948، وابن منظور: لسان العرب، مادة عرس 6/134، والمعجم الوسيط 2/592.
                      [8] العَوْدُ: الجمل المُسِنُّ وفيه بقية، وفي المثل: زاحِمْ بعَوْد أو دَعْ. أَي: استعن على حربك بأهل السنِّ والمعرفة؛ فإنَّ رأي الشيخ خير من مَشْهَدِ الغلام. الجوهري: الصحاح، باب الدال فصل العين 2/514، وابن منظور: لسان العرب، مادة عود 3/315، وانظر: أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني: مجمع الأمثال 1/320.

                      [9] الفتح بن خاقان الإشبيلي: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس 1/22، 23.
                      [10] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194.
                      [11] ابن الأبار: الحلة السيراء، 2/35، 36.
                      [12] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
                      [13] ابن عذاري: البيان المغرب 3/194، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص152.
                      [14] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/34، وابن عذاري: البيان المغرب 3/198، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153.
                      [15] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/195، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153.
                      [16] الحميدي: جذوة المقتبس 1/24-32، وابن بسام: الذخيرة 1/481-485، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/195، 196، 314، 315، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص133، 153، والمقري: نفح الطيب 1/432، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/33، 34.
                      [17] ابن بسام: الذخيرة 3/15، 16، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/37، 38، وابن عذاري: البيان المغرب 3/196، 197، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص153، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/35.
                      [18] ابن عذاري: البيان المغرب 3/197-200، ولسان الدين ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص154.
                      [19] ابن عذاري: البيان المغرب 3/198-201.
                      [20] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/38.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #71
                        المعتضد بالله بن عباد

                        المعتضد بالله .. الملك



                        عندما تُوُفِّيَ القاضي أبو القاسم ولي من بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد، وتلقَّب أوَّلاً بفخر الدولة، ثم تلقَّب بالمعتضد بالله، وقد تميَّز المعتضد هذا بذكائه السياسي وتفوُّقه العسكري، ولمَّا مَلَكَ إِشْبِيلِيَة وأعمالها جرى على سنن أبيه في إيثار الإصلاح وحُسْنِ التدبير وبسط العدل، وظلَّ على ذلك مدَّة يسيرة، ثم بدَا له أن يستبدَّ بالأمور وحده، وكان شخصية قوية، كان صارمًا قاسي القلب، ذكيًّا داهية سريع البديهة[1].


                        قالوا عن المعتضد بالله ابن عباد

                        ابن بسام

                        قال عنه المؤرخ ابن بسام: «رجل لم يثبتْ له قائمٌ ولا حصيدٌ، ولا سَلِمَ عليه قريبٌ ولا بعيدٌ، جبَّارٌ أَبْرَمَ الأمور وهو متناقض، وأسدٌ فَرَسَ الطُّلَى[2] وهو رابض، متهوِّر تتحاماه[3] الدهاة، وجبَّارٌ لا تَأمَنُه الكماة[4]، متعسِّف[5] اهتدى، ومُنْبَتٌّ قطع فما أبقى، ثار والناسُ حربٌ، وكلُّ شيءٍ عليه إِلْب[6]، فكفى أقرانَهُ وهم غيرُ واحد، وضبَط شانَه بين قائم وقاعد، حتى طالت يدُه، واتَّسع بلدُه، وكثر عديدُه وعُدَدُه... جبَّارًا من جبابرة الأنام، شَرَّدَ به مَنْ خلْفَه... حَرْبُهُ سمٌّ لا يُبطئ، وسهم لا يُخطئ، وسلْمُهُ شرٌّ غيرُ مأمون، ومتاعٌ إلى أدنى حين»[7].

                        ابن حيان القرطبي

                        وقال عنه مؤرخ الأندلس ابن حيان: «ذو الأنباء البديعة، والحوادثِ الشنيعة، والوقائعِ المُبيرة[8]، والهمَم العليَّة، والسطوة الأبيَّة... حُمِلَ عليه على مرِّ الأيام، في باب فَرْطِ القسوة وتجاوُز الحدود، والإبلاغ في المُثْلَةِ، والأخذ بالظِّنَّةِ، والإخْفَار[9] للذمَّة، حكاياتٌ شنيعة لم يبدُ في أكثرها للعالم بصدقها دليلٌ يقومُ عليها، فالقول ينساغ في ذكرها؛ ومهما بَرِئ من مغبَّتها فلم يَبْرَأْ من فظاعة السطوة وشدَّة القسوة، وسوء الاتِّهام على الطاعة»[10].

                        المعتضد وتوسع مملكة إشبيلية

                        التوسع على حساب إمارات غربي الأندلس

                        بدأ المعتضد بن عباد عهده بالقوَّة والصرامة، فبطش بوزراء أبيه، ثم انتقل للامتلاك على إمارات غربي الأندلس الصغيرة، واستطاع بقوَّته وتفوُّقه العسكري أن يُسيطر عليها ويضمَّها إلى أملاكه، فانتزع لَبْلَة من ابن يحيى اليحصبي، وقضى على دولته سنة (445هـ=1053م)[11]، كما أنه انتزع جزيرة شَلْطِيش وولبة من بني البكري، وقضى على دولتهم سنة (443هـ=1051م) [12]، وفي السنة نفسها انتزع شَنْتَمَرِيَّة الغرب من بني هارون وقضى على دولتهم[13]، وأخرج القاسم بن حمود من الجزيرة الخضراء[14]، وهكذا توسَّعت مملكة إِشْبِيلِيَة كثيرًا على حساب الطوائف المغلوبة على أمرها!

                        التوسع على حساب الإمارات البربرية في الجنوب



                        ولما فرغ المعتضد من إمارات الغرب اتجه إلى الإمارات البربرية في الجنوب؛ وهي: إمارة بني يفرن في رُنْدة، وبني دمّر في مورور، وبني خزرون في شَذُونة وأركش، وبني برزال في قَرْمُونة؛ وذلك ليتفرَّغ بعدها للشمال والشرق، واستطاع بذكائه وخديعته أن يُسيطر على تلك الإمارات ويضمَّها لأملاكه؛ إذ دبَّر لهم حيلة قتلهم فيها جميعًا؛ ففي سنة (445هـ=1053م) دبَّر المعتضد كمينًا لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته بإِشْبِيلِيَة، فلبَّى الدعوة ثلاثة؛ صاحب رُنْدة، وصاحب مورور، وصاحب أركش، فاستقبلهم أحسن استقبال ثم أمر بالقبض عليهم، وتكليبهم، واستولى على أمتعتهم وسلاحهم، ثم أمر بإدخالهم الحمام، وأشعل النار فيه، فهلكوا جميعًا، ويُقال: إنه أبقى على ابن أبي قرة صاحب رُنْدة، وهلك الآخران؛ وبذلك امتلكت مملكة إِشْبِيلِيَة في عهد المعتضد مساحة شاسعة تشمل المثلَّث الجنوبي من الأندلس[15].


                        وأما قَرْمُونة وأصحابها بني برزال فبينهم وبين المعتضد شأن كبير، فما زال المعتضد يُرهقها بغاراته منذ أيام محمد بن عبد الله البرزالي حليفه بالأمس، ولكن البرزالي صمد أمامه حتى وفاته سنة 434هـ، ثم بُويع لابنه المستظهر عزيز بن محمد، وقد انتظمت أحوالها معه ورخت أسعارها، وعمَّ الأمن والرخاء، حتى جدَّد المعتضد غاراته عليها، فما زالت الحروب على أُوَارها[16] بينهما، حتى استسلم المستظهر أمام جبروت المعتضد، وخرج من قَرْمُونة وحلَّ بإِشْبِيلِيَة، ومَلَكَها المعتضد سنة (459هـ=1067م) [17].

                        الفتنة بين المعتضد و بني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس

                        وقعت في عهد المعتضد أشرس الفتن الأندلسية وأقواها وقعًا في النفوس، تلك الفتنة التي اشتعل أوارها بينه وبين بني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس لولا حماية الله للمسلمين ثم تدخُّل القاضي جهور وابنه أبي الوليد لفضِّها والتحذير من عواقبها، وهو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.

                        مؤامرة لقتل المعتضد

                        تعرَّض المعتضد بن عباد لمآسٍ كثيرة خلال فترة حكمه، التي لا تهدأ عواصفها معه، ففي سنة (450هـ=1058م) تعرَّض المعتضد لمؤامرة كادت أن تفتك به وبمُلْكِه كله، وكانت هذه المؤامرة شديدة الوقع على نفسه، وقد عبَّرت عن شدة بأسه في تعامله مع مثل تلك الظروف؛ إذ تآمر عليه ابنُه وولي عهده إسماعيل ووزيره البزلياني؛ لأسباب شخصية وتملُّكِ الحقد في قلب الابن على أبيه والوزير على سيده، ولكن يبدو أن المعتضد كان شديد الحيطة فيمن حوله، فاكتشف المؤامرة التي دَبَّرها ابنه مع الوزير البزلياني وقتلهما[18].

                        قطع الخطبة لهشام المؤيد بالله

                        كان المعتضد بن عباد شديد الطموح والاعتداد بنفسه، وعدم تقيُّده بغيره؛ لذلك عزم على قطع الخطبة للمدعو هشام المؤيد، فقطعها سنة (451هـ=1059م)، ونعى هشام المؤيد إلى رجال دولته وأهل مملكته.

                        وقد عَلَّق المؤرِّخُون الأندلسيون وغيرهم شماتة وحزنًا على هشام، فقالوا: «صارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها تكون -إن شاء الله- الصادقة، فكم قُتِلَ! وكم مات! ثم انتفض عنه التراب»[19]. وقال بعضهم فيه: [الرجز]
                        ذَاكَ الَّذِي مَاتَ مِرَارًا وَدُفِنْ

                        فَانْتَفَضَ التُّرْبُ وَمُزِّقَ الْكَفَنْ[20]

                        فقد أعلن محمد بن هشام المهدي الأموي وفاة هشام المؤيد، ودُفن بمحضر من الفقهاء والعلماء في شعبان سنة (399هـ=1009م)، ثم ظهر بعد عام على يد الفتى واضح، وتولَّى الخلافة، ثم تُوُفِّيَ قتيلاً على يد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان سنة (403هـ=1012، 1013م)، ودُفن خُفية، ولما دخل علي بن حمود قرطبة، بحث عن هشام فلم يجده فأعلن وفاته، ودعا لنفسه بالخلافة سنة (407هـ=1016م)، ثم جاء القاضي ابن عباد سنة (426هـ=1035م)، فأظهر الدعوة الهاشمية ودعا له وأخذ البيعة له؛ وذلك دفعًا لدعوى ابن حمود بالخلافة، وليُضفي على نفسه الشرعية كما ذكرنا قبل ذلك[21].

                        المعتضد بالله الشاعر الأديب

                        ومع سطوة المعتضد بن عباد السياسية وبراعته العسكرية، إلا أنه كان يتمتَّع بثراء علمي وثقافي واسع، وكان بلاطه بلاطَ العلماء والفقهاء، وقد اشتهرت إِشْبِيلِيَة في عصره بالعلم والشعر والفن؛ فقصدها الشعراء من كل جانب في الأندلس، حتى أصبح بلاطه الملكي محلًّى بالشعراء ورجال العلم في الأندلس كلها، ومن أشهرهم الشاعر الأديب الوزير ابن زيدون، الذي لحق بالمعتضد إثر نكبته مع بني جهور فقصد إِشْبِيلِيَة، فأكرمه المعتضد وقَرَّبه إليه، وجعله وزيره ولسان دولته، وكان منهم وزيره وكاتبه البزلياني، الذي كان «أحد شيوخ الكُتَّاب، وجهابذة أهل الآداب»[22]. هذا فضلاً عن أن المعتضد كان شاعرًا[23].

                        وفاة المعتضد بالله

                        تُوُفِّي المعتضد بن عباد بعد أن توسَّعت دولته، وعظم ملكه، وهو يبلغ من العمر 57 سنة، وذلك في جمادى الآخرة سنة (461هـ=1069م)، وفيه يقول ابن القطَّان المؤرخ: «كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي، يُدَبِّر مُلكه من داره، وكان يغلب عليه الجود؛ فلم يُعْلَم في نظرائه أبذل منه للمال»[24].


                        [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص151، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص155.
                        [2] الطُّلى: الأعناق، مفردها الطُّلاة: وهي العنق أو صفحته. ابن منظور: لسان العرب، مادة طلي 15/10، والمعجم الوسيط 2/564.
                        [3] تحاماه الناس؛ أي: توقَّوْه واجتنبوه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الحاء 6/2321، وابن منظور: لسان العرب، مادة حما 14/197، والمعجم الوسيط 1/200.
                        [4] الكُماة مفردها الكميّ: الشجاع المقدام الجريء المحمي بسلاحه ودرعه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الكاف 6/2477، وابن منظور: لسان العرب، مادة كمي 15/231، والمعجم الوسيط 2/799.
                        [5] المتعسِّف: الظالم الجائر والسائر على غير هدى ولا علم. الجوهري: الصحاح، باب الفاء فصل العين 4/1403، وابن منظور: لسان العرب، مادة عسف 9/245، والمعجم الوسيط 2/600، 601.
                        [6] الإِلْب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان. ابن منظور: لسان العرب، مادة ألب 1/215، والمعجم الوسيط 1/23.
                        [7] ابن بسام: الذخيرة 2/24، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/39، 40.
                        [8] المبيرة: المهلكة التي تُسرف في الإهلاك. ابن منظور: لسان العرب، مادة بور 4/86، والزبيدي: تاج العروس، باب الراء فصل الباء 10/253.
                        [9] الإخفار: نقض العهد والغدر به. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الخاء 2/649، وابن منظور: لسان العرب، مادة خفر 4/253، والمعجم الوسيط 1/246.
                        [10] ابن بسام: الذخيرة 2/24، 25، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/40، ورَحِم واشِجة: مشتبكة متصلة متآلفة. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل الواو 1/347، وابن منظور: لسان العرب، مادة وشج 2/398، والمعجم الوسيط 2/1033.
                        [11] ابن عذاري: البيان المغرب 3/240، 300، 301.
                        [12] ابن بسام: الذخيرة 3/233-235.
                        [13] ابن عذاري: البيان المغرب 3/298، 299.
                        [14] ابن بسام: الذخيرة 3/36، وابن عذاري: البيان المغرب 3/240-243.
                        [15] ابن بسام: الذخيرة 3/38-40، وابن عذاري: البيان المغرب 3/294-301، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/45-48.
                        [16] أوار الشيء: شدته، ويوم ذو أُوارٍ؛ أي: ذو سَمُوم وحرٍّ شديد. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35، والمعجم الوسيط 1/32.
                        [17] ابن عذاري: البيان المغرب 3/311، 312.
                        [18] ابن عذاري: البيان المغرب 3/244-249.
                        [19] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/52.
                        [20] البيت لمتنبي الأندلس أبي طالب عبد الجبار، انظر: ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 1/940.
                        [21] ابن عذاري: البيان المغرب 3/249، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/52.
                        [22] ابن بسام: الذخيرة 2/624.
                        [23] الحميدي: جذوة المقتبس رقم 672، ص296، وابن عذاري: البيان المغرب 3/285.
                        [24] ابن عذاري: البيان المغرب 3/284.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #72
                          المعتمد بن عباد

                          المعتمد بن عباد ملك إشبيلية



                          تُوُفِّيَ المعتضد سنة (461هـ=1069م) وآل حُكم مملكة إِشْبِيلِيَة إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد، وتلقَّب بالظافر بحول الله والمؤيد بالله والمعتمد على الله، وكان المعتمد يوم أن جلس على كرسي والده فتًى في ريعان شبابه في الثلاثين من عمره، كان مولده سنة 431هـ أو 432هـ[1].


                          كان المعتمد بالله فارسًا شجاعًا، وشاعرًا ماضيًا، مشكور السيرة في رعيته، تَلَقَّب بالمعتمد؛ لشدة حبه لجاريته اعتماد[2]، وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل، مخالفًا لأبيه في القهر والسفك والأخذ بالظنِّ، ردَّ جماعة ممَّنْ نفاهم أبوه، وأحسن السيرة، إلا أنه كان مولعًا بالخمر، منغمسًا في اللذات، عاكفًا على البطالة، مخلدًا إلى الراحة؛ فكان ذلك سبب عطبه وأصل هلاكه[3]، وكان شاعرًا رائع الشعر، وشغوفًا بالأدب وعلومه[4].

                          المعتمد وتوسع مملكة إشبيلية

                          امتلاك قرطبة

                          ويُعَدُّ عصر المعتمد في الأندلس من أشهر عصور الطوائف على الإطلاق، وكان أول عمل تضلَّع له المعتمد بن عباد أن تدخَّل وبصورة مباشرة في شئون قرطبة؛ ليحسم الخلاف ويُحَقِّق حلم آبائه في تملُّكها، وهذا ما حدث له بالفعل سنة (462هـ=1070م)، وكانت بينه وبين المأمون بن ذي النون (ملك طليطلة) مساجلات، وألعاب سياسية تحت الستار على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.

                          التوسع على حساب غرناطة وطليطلة

                          كان المعتمد بن عباد على عِلْم بما تُضمره له القبائل البربرية في الأندلس وخاصة في غَرْنَاطَة، صاحبة المساجلات العسكرية الشرسة مع إِشْبِيلِيَة، وبالتالي سَيَّر المعتمد قوَّاته ناحية غَرْنَاطَة للسيطرة على ممتلكاتها وضَمِّها لنفسه، واستطاع ضمَّ جَيَّان أهمَّ قواعد غَرْنَاطَة الشمالية سنة (466هـ=1074م)، كما استطاع أن يستولي على معظم أراضي طُلَيْطِلَة الجنوبية الشرقية من المعدن شرقًا حتى قونقة، واستولى على مُرْسِيَة وبَلَنْسِيَة من يحيى القادر بن ذي النون[5].

                          صدامات المعتمد بن عباد

                          صدامات المعتمد ومملكة غرناطة

                          ولم يقنع المعتمد بن عباد بما تحت يديه؛ إذ طمع في ضمِّ غَرْنَاطَة، وهنا اصطدم بعبد الله بن بُلُقِّين حاكمها، ودارت بينهما حروب ونزاعات، استنصر فيها المعتمد بن عباد بالنصارى على أخيه المسلم، مقابل ما يدفعه من جزية باهظة أثقلت كاهله وكاهل غيره من ملوك الطوائف، على نحو ما سنُبَيِّنُه في الصراع بين إِشْبِيلِيَة وغَرْنَاطَة، إن شاء الله.

                          صدامات المعتمد ومملكة طليطلة

                          كما أن المعتمد بن عباد وقع في خصومات مع بني ذي النون أصحاب طُلَيْطِلَة، انتهت بسقوط طُلَيْطِلَة في يد ملك النصارى ألفونسو السادس، ليدفع المعتمد بن عباد ثمن خيانته واستهتاره بدينه وبدماء المسلمين، وتعاونه مع النصارى ضدَّ ملوك الطوائف، والتي جاءت بالوبال عليه وعلى الأندلس؛ إذ هاجم النصارى ممالك الأندلس وأولها إِشْبِيلِيَة وفرضوا عليها الحصار، وانتهى الأمر باستدعاء المرابطين من المغرب العربي.

                          مملكة المعتمد بن عباد

                          ولقد استطاع المعتمد بن عباد أن يُؤَسِّس أعظم مملكة للطوائف، تمتدُّ في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الأندلسية، من غرب ولاية تُدْمِير شرقًا حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوبًا حتى أراضي الفرنتيرة[6].

                          المعتمد بن عباد .. الشاعر الأديب

                          وفاقت شهرة المعتمد الأدبية والشعرية شهرته في السياسة والمُلْكِ؛ فقد كان له في الأدب باعٌ، ينظم وينثر، وفي أيامه نفقت سوق الأدباء[7]، فتسابقوا إليه وتهافتوا عليه، وشعره مدوَّن موجود بأيدي الناس، ولم يكُ في ملوك الأندلس قبله أشعر منه ولا أوسع مادة[8]، ومحاسن المعتمد في أشعاره كثيرة، وخصوصًا مراثيه لأبنائه وتفجُّعه لزوال سلطانه ومنها: [مجزوء الكامل]
                          قَالُوا الْخُضُوعُ سِيَاسَةٌ

                          فَلْيَبْدُ مِنْكَ لَهُمْ خُضُوعُ
                          وَأَلَذُّ مِنْ طَعْمِ الْخُضُو

                          عِ عَلَى فَمِي السُّمُّ النَّقِيعُ
                          إِنْ تَسْتَلِبْ عَنِّي الدُّنَا

                          مُلْكِي وَتُسْلِمُنِي الْجُمُوعُ
                          فَالْقَلْبُ بَيْنَ ضُلُوعِهِ

                          لَمْ تُسْلِمِ الْقَلْبَ الضُّلُوعُ
                          لَمْ أُسْتَلَبْ شَرَفَ الطِّبَا

                          عِ، أَيُسْلَبُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ؟
                          قَدْ رُمْتُ يَوْمَ نِزَالِهِمْ

                          أَلاَّ تُحَصِّنَنِي الدُّرُوعُ
                          وَبَرُزْتُ[9] لَيْسَ سِوَى الْقَمِيـ

                          ـصِ عَلَى الْحَشَا شَيْءٌ دَفُوعُ
                          وَبَذَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَسِيـ

                          ـلَ إِذَا يَسِيلُ بِهَا النَّجِيعُ
                          أَجَلِي تَأَخَّرَ لَمْ يَكُنْ

                          بِهَوَايَ ذُلِّي وَالْخُشُوعُ
                          مَا سِرْتُ قَطُّ إِلَى الْكُمَا

                          ةِ وَكَانَ مِنْ أَمَلِي الرُّجُوعُ
                          شِيَمُ الأُلَى أَنَا مِنْهُمُ

                          وَالأَصْلُ تَتْبَعُهُ الْفُرُوعُ[10]

                          وفاة المعتمد بن عباد

                          كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في المغرب إِثْر نكبته مع المرابطين؛ جزاء تعاونه مع النصارى ضد ابن تاشفين، وذلك في ذي الحجة سنة (488هـ=1095م)، وقد رثى نفسه بهذه الأبيات، وأمر أن تُكتب على قبره: [البسيط]
                          قَبْرَ الْغَرِيبِ سَقَاكَ الرَّائِحُ الْغَادِي

                          حَقًّا ظَفِرْتَ بِأَشْلاءِ ابْنِ عَبَّادِ
                          بِالْحِلْمِ بِالْعِلْمِ بِالنُّعْمَى إِذَا اتَّصَلَتْ

                          بِالْخِصْبِ إِنْ أَجْدَبُوا بِالرِّيِّ لِلصَّادِي
                          بِالطَّاعِنِ الضَّارِبِ الرَّامِي إِذَا اقْتَتَلُوا

                          بِالْمَوْتِ أَحْمَرَ بِالضِّرْغَامَةِ الْعَادِي
                          بِالدَّهْرِ فِي نِقَمٍ بِالْبَحْرِ فِي نِعَمٍ

                          بِالْبَدْرِ فِي ظُلُمٍ بِالصَّدْرِ فِي النَّادِي
                          نَعَمْ هُوَ الْحَقُّ فَاجَانِي عَلَى قَدَرٍ

                          مِنَ السَّمَاءِ وَوَافَانِي لِمِيعَادِ
                          وَلَمْ أَكُنْ قَبْلَ ذَاكَ النَّعْشِ أَعْلَمُهُ

                          أَنَّ الْجِبَالَ تُهَادِي فَوْقَ أَعْوَادِ
                          فَلا تَزَلْ صَلَوَاتُ اللهِ نَازِلَةً

                          عَلَى دَفِينِكَ لا تُحْصَى بِتَعْدَادِ([11])
                          وهكذا انتهت حياة ملك ملوك الطوائف، وهكذا انتهت مملكة إِشْبِيلِيَة إلى الأبد.

                          علماء الأندلس في إشبيلية

                          تمتعت إِشْبِيلِيَة بمكانة علمية واسعة النطاق؛ بقدر ما كانت تتمتَّع به من مكانة سياسية وعسكرية، وقد كان بنو عباد في إِشْبِيلِيَة أعظم ملوك الطوائف اعتناءً بالأدب قدر اعتنائهم بالسياسة، وكان بلاط إِشْبِيلِيَة مسرحًا رائعًا للشعراء والأدباء والفقهاء؛ إذ كان المعتضد شاعرًا أديبًا، فضلاً عن أن شهرة المعتمد الشعرية ربما فاقت شهرته السياسية، وقد اجتمع في بلاد بني عباد فحول شعراء الطوائف، وقد اعتنَوْا بهم وقَدَّمُوهم، واتخذوهم ندماء ووزراء، ولعلَّ أشهرهم ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار الوزير الفارس، وكان من أشهر كُتَّاب الدولة البزلياني كاتب المعتضد، الذي قال فيه ابن بسام: «أحد شيوخ الكُتَّاب، وجهابذة أهل الآداب»[12].

                          [1] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/53.
                          [2] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 2/109.
                          [3] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/54.
                          [4] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص158.
                          [5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص160، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/71.
                          [6] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/71.
                          [7] نَفَقت سوقهم ونَفَق مالُه: نقص وقلَّ، وقيل: فني وذهب. الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل النون 4/1560، وابن منظور: لسان العرب، مادة نفق 10/357.
                          [8] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/55.
                          [9] بَرُزَ بَرازَةً: سَبَق بعد تمام. الجوهري: الصحاح، باب الزاي فصل الباء 3/864، وابن منظور: لسان العرب، مادة برز 5/309، والمعجم الوسيط 1/49.
                          [10] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 2/53، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/65، 66، والذهبي: تاريخ الإسلام 33/271، 272.
                          [11] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 2/57، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص222، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص164، والإحاطة في أخبار غرناطة 2/119، 120.
                          [12] ابن بسام: الذخيرة 2/624.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #73
                            بنو الأفطس في بطليوس


                            بطليوس



                            في الثغر الأدنى من بلاد الأندلس تَكَوَّنت مملكة بَطَلْيُوس؛ وهي مملكة تُمَثِّل بُعْدًا مهمًّا في الصراع بين ممالك الطوائف؛ نظرًا لأهميتها الجغرافية الخاصة؛ فهي من ناحية تقع في الشمال من مملكة إِشْبِيلِيَة، ولا يفصل بينهما إلا سلسلة جبال الشارات أو سييرا مورينا، ومن ناحية أخرى فهي تشمل رقعة واسعة تمتدُّ من غرب مملكة طُلَيْطِلَة عند مثلث وادي يانة، وغربًا حتى المحيط الأطلسي، كما تشمل بَطَلْيُوس (Badajoz) المدينة المهمة من مدن المملكة فهي العاصمة، وتُعَدُّ المنطقة الوسطى للمملكة، إضافة إلى أنها تشمل المنطقة الغربية لبلاد الأندلس؛ أي: تشمل كل دولة البرتغال الحالية تقريبًا، حتى مدينة بَاجَة (beja) في الجنوب، وبالتالي فهي تشمل مدن مهمة؛ مثل: مَارِدَة (Mérida) ولَشْبُونَة (lispon) وشَنْتَرِين (Santarém) وقُلُمْرِيَة (Coimbra)، وغيرها.


                            مملكة بني الأفطس

                            ظهرت مملكة بَطَلْيُوس وأحدثت تغييرًا فعليًّا في عصر الطوائف على يد بني مسلمة، أو بني الأفطس على ما هو مشهور في كُتب التاريخ الأندلسي، فقد كانوا سادتها نيفًا وسبعين سنة.



                            وقصة الدولة تبدأ عند احتدام الفتنة في أواخر عهد الحكم المستنصر بالله، حيث كان يحكم المنطقة الغربية لبلاد الأندلس (البرتغال) فتى يُسَمَّى سابور العامري أو الفارسي؛ أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وظلَّ حاكمًا على البلاد ثلاث عشرة سنة، فلمَّا اشتدَّت أحداث الفتنة وطمع كل طامع بما تحت يده من البلاد، استبدَّ سابور وأعلن انفصاله واستقلاله، وكان فارسًا شجاعًا، إلا أنه افتقد الخبرة في شئون الحُكم والإدارة وأنواع المعارف، فاستوزر عبد الله بن محمد بن مسلمة الأفطس، ورمى إليه بأمور البلاد، فدبَّر أعماله، فما لبث أن صار الأفطس هو الحاكم الفعلي في البلاد، فلما مات سابور سنة (413هـ=1022م)، ترك ولدين صغيرين لم يبلغا الحلم؛ هما: عبد الملك وعبد العزيز، فأعلن الأفطس استقلاله، واستبدَّ بالأمور من دون الولدين الصغيرين، وضبط أمور مملكته وتلقَّب بالمنصور، وصارت المملكة له ولأعقابه من بعده.


                            عبد الله بن مسلمة بن الأفطس

                            عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، أصله من مِكْنَاسة المغربية، من قوم متواضعين غير أنه كان من أهل المعرفة التامَّة، والعقل والدهاء والسياسة؛ لذلك لم يكن غريبًا عليه - وقد دانت له المملكة - أن يعمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتقوية جيشه، وبناء الأسوار بما يضمن له حماية المملكة من أي عدوان خارجي؛ خاصة وأن القدر وضعه بين خصمين لدودين، يتحيَّنان الفرص بين الحين والآخر للانقضاض على خصميهما؛ وهما: بنو عباد في إِشْبِيلِيَة، وبنو ذي النون في طُلَيْطِلَة.

                            وكان ابن الأفطس يرقب تحرُّكات القاضي أبي القاسم بن عباد بكل حذر وحيطة، خاصة وأن دولة القاضي ابن عباد أضحت في قوة؛ لذلك تزايدت مخاوفه حتى أصبحت حقيقة بمهاجمة ابن عباد مدينة بَاجَة إثر اندلاع الثورة فيها سنة 421هـ، وأُسر فيها محمد بن عبد الله بن الأفطس ثم أُطلق سراحه، ثم عاد الصدام بينهما مرة أخرى سنة (425هـ=1034م)، وكانت الغلبة هذه المرَّة لقوات ابن الأفطس، وكانت محنة شنيعة لبني عباد، ثم توقَّف السجال بين الطرفين بسبب انشغال بني عباد بحروبهم ضد البربر، التي أسفرت عن محنة أشد من سابقتها سنة 431هـ؛ إذ تجمَّع البربر في غَرْنَاطَة وقَرْمُونة ومَالَقَة ضد قوات ابن عباد وهزمته هزيمة منكرة، وقُتل إسماعيل ابن القاضي أبي القاسم بن عباد، على نحو ما سنفصِّله في موضعه إن شاء الله[1].

                            وعلى النحو الآخر كان عبد الله بن الأفطس مشغولاً بالقضاء على ثورة ابني سابور (عبد العزيز وعبد الملك) في لَشْبُونَة؛ إذ طمع عبد العزيز في استرداد مُلْكِ أبيه، فأعلن الثورة في لَشْبُونَة، ولم تَطُلْ ثورته لوفاته، فخلفه من بعده أخوه عبد الملك، ويبدو أنه لم يكن على قدر الكفاءة والسياسة والإدارة، فلم يقنع به أهل لَشْبُونَة؛ فكاتبوا سرًّا ابن الأفطس أن يبعث لهم واليًا من عنده، فسيَّر لهم جيشًا عليه ولده محمد، ودخل المدينة دون مقاومة تُذكر؛ إذ تواطأ أهل البلد ضده مع ابن الأفطس، فلم يفق عبد الملك حتى وجد نفسه محاطًا بالعساكر والجند، فأذعن بالتسليم، وطلب السلامة له ولأهله ولماله، فأُعطي ما طلب، وتركوه يسير حيث يشاء، فترك لَشْبُونَة وقصد قُرْطُبَة، فلما قرب منها استأذن الوزير ابن جهور في الدخول فأذن له، فدخل قُرْطُبَة ونزل بدار أبيه سابور، وظلَّ بها إلى أن مات[2].

                            وهكذا ظلَّ عبد الله بن الأفطس يعمل على تقوية دولته وتوسعتها وإحكام السيطرة عليها، إلى أن مات في جمادى الأولى سنة (437هـ=1045م)، وخلفه من بعده ابنه محمد الملقب بالمظفر[3].


                            [1] ابن بسام: الذخيرة، 3/20-22، وابن عذاري: البيان المغرب 3/201-203.

                            [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/237.
                            [3] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، وابن عذاري: البيان المغرب 3/236، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص183.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #74
                              المظفر بن الأفطس

                              المظفر بن الأفطس .. الملك الشجاع



                              المظفر سيف الدولة أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، خلف والده بعد وفاته سنة 437هـ، وكان المظفَّر مثل أبيه بعيد النظر والسياسة، فعمل على توطيد مُلْكه في بَطَلْيُوس وما حولها، وإقرار النظام في أنحاء المملكة؛ ليتسنَّى له مراقبة الأحداث الخارجية؛ سواء ما يُخَبِّؤُه القدر له من ملوك الطوائف، أو ما يُدَبِّرُه النصارى له في الشمال، واستطاع بحنكته وشجاعته أن يُقيم ملكًا ضاهى فيه مُلْك بني عباد في إِشْبِيلِيَة، ومُلْك بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، ولم يكن ذلك إلا بدماء جُنده التي أُهدرت في ساحات الحرب بينه وبين ابن عباد، وخاصة في المعارك العنيفة بينهما حول لَبْلَة ويَابرَة الواقعتين بين مملكة إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، وكانت المعارك بينهما شنيعة، كما كانت سجالاً بين الطرفين، وكاد كل منهما يُفني الآخر، لولا تدخُّل الوزير أبي الحزم جهور وابنه أبي الو ليد بن جهور صاحب قُرْطُبَة على نحو ما سنفصِّله إن شاء الله[1].


                              وما كان المظفر لينتهي - ولو إلى حين - من خصمه العنيد المعتضد بن عباد حتى وقع عرضة لهجمات المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة ودارت بينهما معارك طاحنة[2].

                              لم يكن النصارى في الشمال لِتغيب عنهم تلك الأحداث المؤسفة في بلاد المسلمين؛ لأنهم يتحيَّنون الفرصة بين الحين والآخر للقضاء على الإسلام في الأندلس، فما أن استتبَّ الأمر لفرناندو الأول بن سانشو ملك قشتالة وليون، حتى هاجمت قوَّاته المنطقة الشمالية والغربية لمملكة بَطَلْيُوس -أي: شمال البرتغال حاليًا- ودارت بينهما حروب كانت الغلبة فيها للنصارى، وضاعت الثغور الغربية في أيدي فرناندو، ولعلَّ أعظمها وأفدحها سقوط قُلُمْرِيَة (Coimbra) سنة (456هـ = 1064م)، وإجبار ابن الأفطس على دفع الجزية للنصارى[3] على نحو ما سنفصِّله ضمن حلقات تطوُّر المشهد الصليبي في عهد ملوك الطوائف.

                              وفاة المظفر بن الأفطس

                              وهكذا ظلَّ المظفر بن الأفطس يتقلَّب من حال إلى حال، لا يكاد يُغمض جفنيه عن حرب في الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب، وظلَّ كذلك حتى وافته المنية سنة (460هـ=1067م)، وخَلَفه ابنه يحيى على بَطَلْيُوس وتلقَّب بالمنصور[4].

                              المظفر بن الأفطس .. أديب الملوك

                              وقبل أن يتطرَّق بنا الحديث عن فترة المنصور يحيى وأخيه المتوكل عمر، يجدر بنا أن نذكر جانبًا من الجوانب المضيئة في حياة المظفر -رحمه الله، وهو الجانب الفكري والنشاط العلمي الذي خلفه في بَطَلْيُوس.

                              فمع شدَّة المظفر وبأسه واستحكام قوته في الحروب والنزاعات، إلا أنه كان أديب ملوك عصره، شغوفًا بالعلم والثقافة ومجالسة العلماء، وشراء الكتب وجمعها، حتى أصبح –رحمه الله-حكاية زمانه في العلم، كما كان –رحمه الله- يُحضر العلماء للمذاكرة فيُفيد ويستفيد[5]، وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق، المترجم بـ(التذكرة) والمشتهر اسمه بـ(كتاب المظفر أو المظفري)، وهو في مائة مجلد، وقيل: في خمسين مجلد. وقيل: في عشرة أجزاء. يشتمل على علوم وفنون من مغازٍ وسِيَرٍ، ومَثَلٍ وخَبَرٍ، وجميع ما يختصُّ به علم الأدب، فكان موسوعة علمية وتاريخية وأدبية عظيمة؛ جمعت بين الآداب المتخيَّرة، والطرائف المستملحة، والنكت البديعة، والغرائب الملوكية واللغات الغربية، وقد ألف المظفر هذه الموسوعة بنفسه، ولم يستعن فيه بأحد من العلماء إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيرة[6].

                              فأيُّ علم وثقافة! وأيُّ همَّة وعزيمة امتلكها المظفر بن الأفطس! وأين وقت الفراغ الذي كفله لنفسه ليكتب هذا السفر العظيم، وهذا ما حدا بابن حزم الأندلسي أن يفتخر به على ملوك الأندلس جميعًا، ويجعله فضيلة من فضائل الأندلس على مرِّ التاريخ، بقوله: وهل لكم ملك أَلَّف في فنون الأدب كتابًا في نحو مائة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بَطَلْيُوس، ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همَّة الأدب[7].

                              ومن شعره: [الوافر]
                              أَنِفْتُ مِنَ الْمُدَامِ[8] لأَنَّ عَقْلِي

                              أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ أُنْسِ الْمُدَامِ
                              وَلَمْ أَرْتَحْ إِلَى رَوْضٍ وَزَهْرٍ

                              وَلَكِنْ لِلْحَمَائِلِ وَالحُسَامِ
                              إِذَا لَمْ أَمْلِكِ الشَّهَوَاتِ قَهْرًا

                              فَلَمْ أَبْغِي الشُّفُوفَ عَلَى الأَنَامِ
                              وكان يقول: مَنْ لم يكن شعره مثل شعر المتنبي والمعري فليسكت[9].


                              [1] ابن عذاري: البيان المغرب 3/210-212.
                              [2] ابن عذاري: البيان المغرب 3/283.
                              [3] ابن عذاري: البيان المغرب 3/238، 239، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
                              [4] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/160، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، وذكر الدكتور حسين مؤنس في تحقيقه للحلة السيراء أن المظفر بن الأفطس توفي سنة 456هـ=1063م، وأيَّد ذلك في حاشية 2/97، في ذِكْر تسلسله لحكام بني
                              [5] المقري: نفح الطيب 3/380، 381.
                              [6] ابن حزم وابن سعيد والشقندي: فضائل الأندلس وأهلها ص35، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص128، وابن بسام: الذخيرة 2/60، 4/640، 641، وابن عذاري: البيان المغرب 3/236، 237، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص183، 184.
                              [7] ابن حزم وابن سعيد والشقندي: فضائل الأندلس وأهلها ص35.
                              [8] المدام: أي الخمر.
                              [9] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • #75
                                المتوكل على الله بن الأفطس

                                المنصور يحيى بن الأفطس

                                تُوُفِّيَ المظفر بن الأفطس سنة 460هـ، وخلفه ابناه يحيى وعمر، أما يحيى فخلف أباه ومَلَك بَطَلْيُوس وأعمالها سنة 460هـ، وتلقَّب بالمنصور، وكان أخوه عمر بيَابرَة (Evora) (بلدة في جنوب البرتغال حاليًا) حاكمًا عليه وما إليها من كور وبلدات، وما كاد المنصور يحيى لينعم بمُلْكِ أبيه ومملكته الواسعة، حتى ثار عليه أخوه عمر حاكم يَابرَة، واشتدَّ النزاع بينهما.

                                المتوكل على الله بن الأفطس



                                بلغ الصراع بين الأخوين عمر ويحيى أشدَّه سنة (461هـ=1068م)، وكانت تلك الفتنة فرصة لألفونسو بن فرناندو ملك قشتالة ليشنَّ هجومه على بلاد المسلمين، وينتزع أموالهم وديارهم، واشتعلت الحرب الأهلية بمملكة بَطَلْيُوس وأصبحت على أشدِّها، وتفاقم الأمر فالتجأ عمر إلى المعتمد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة، ومال أخوه يحيى المنصور إلى المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة، وما زال الأمر سجالاً، وكادت نار الفتنة تأكل كل شيء، إلا أن الله وقى المسلمين شرها بموت يحيى المنصور فجأة سنة (461هـ=1068م)، وانفرد عمر بالأمر كله دون منازع. ودخل بَطَلْيُوس وجعل ابنه العباس على يَابرَة، وتلقَّب بالمتوكل على الله[1].


                                كان المتوكِّل عالي القدر، مشهورًا بالفضل، مثلاً في الجلالة والسرور، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بَطَلْيُوس في مُدَّته دار أدب وشعر، ونحوٍ وعلمٍ[2].

                                المتوكل بن الأفطس .. الشاعر الأديب

                                ولم تكن شهرة المتوكل بن الأفطس شهرةَ سياسةٍ أو دهاء، أو حروب وشجاعة وإغارة، وإنما كانت شهرته شهرة أديب وشاعر وبليغ؛ فقد جمع –رحمه الله- فوق شجاعته علمًا وأدبًا وبلاغة؛ فكان المتوكل بن الأفطس في حضرة بَطَلْيُوس كالمعتمد بن عباد في حضرة إِشْبِيلِيَة، فكم أُحْيِيَت الآمال بحضرتهما، وشُدَّت الرحالُ إلى ساحتهما[3].

                                كما وصفه المراكشي بعد مدحه لأبيه المظفر بقوله: وكان لابنه المتوكل قدم راسخة في صناعة النظم والنثر مع شجاعة مفرطة وفروسية تامَّة، وكان لا يُغِبُّ[4] الغزو، ولا يشغله عنه شيء[5].

                                وقد نَقَلَتْ لنا كُتب التاريخ والتراجم جملة من أشعاره وأخباره، تنمُّ على سعة علم المتوكل بن الأفطس وثقافته وقوَّة بلاغته شعرًا ونثرًا؛ وتتجلى فيها الرُّوح الدينية التي كانت ملازمة له وظاهرة في أقواله وأفعاله، وأَمَّا عن نثره –رحمه الله- فهو أشفُّ من شعره، وإنَّه لطَبَقة تتقاصر عنها أفذاذ الكُتَّاب، ونهاية من نهاية الآداب[6].

                                المتوكل بن الأفطس في طليطلة

                                ودولة المتوكل بن الأفطس لم يَعْلُ ذِكْرُها بين ملوك الطوائف بالعلم والثقافة فقط، بل كذلك بانتشار العدل والمساواة بين الناس، وإيثاره الشريعة وتقديمه للعلماء، أمَّا عن الجانب السياسي من حياة المتوكل بن الأفطس فلعلَّ أشهر الأحداث السياسية في عهده دخوله طُلَيْطِلَة سنة (472هـ=1079م)، وذلك بعد هروب حاكمها القادر بالله يحيى بن ذي النون إثر ثورة عليه، وظلَّ المتوكل حاكمًا على طُلَيْطِلَة يُدَبِّرُ أمرها وشئونها، ثم خرج منها بعودة القادر بالله مرَّة أخرى مستعينًا بالنصارى، وقد عاد المتوكل إلى بَطَلْيُوس بعد أن حصل على أموال وذخائر ابن ذي النون، بيد أن طُلَيْطِلَة لم تنعم كثيرًا في يد القادر بالله؛ إذ سقطت طُلَيْطِلَة في يد النصارى سنة (487هـ=1085م)، على نحو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.

                                وبعد سقوط طُلَيْطِلَة بدأ ألفونسو ملك قشتالة يُعِدُّ عُدَّته للقضاء على ملوك الطوائف واحدًا إثر آخر، وهنا لاح في الأُفق الخطر، وعلى الفور تحرَّكت النخوة والغَيْرة على الدين؛ فانتدب المتوكل قاضيه أبا الوليد الباجي ليطوف بملوك الطوائف؛ يدعوهم إلى الوحدة ولَمِّ الشعث ومدافعة العدوِّ، ولما لم يستنصره أحدٌ انتهى به الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحوُّل في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين[7]، على نحو ما سنُفَصِّلُه في المشهد الصليبي وعلاقته بملوك الطوائف، إن شاء الله.

                                محنة بني الأفطس

                                وقد دامت أيامُ المتوكل بن الأفطس إلى أن تغلَّب المرابطون على الأندلس، فبعد أن حاصر سير بن أبي بكر إِشْبِيلِيَة وأسقطها (484هـ=1091م)، قام المتوكل بن الأفطس بما لم يكن متخيلاً من مثله؛ لقد راسل ألفونسو السادس، ومكَّنه من لَشْبُونَة وشَنْتَرِين وشَنْتَرَة؛ وذلك ليستعين به على المرابطين، فلما رأى الناسُ منه ذلك انحرفوا عنه، فلما كانت أوائل سنة (488هـ=1059م) راسلوا سير بن أبي بكر قائد المرابطين، فدخل بَطَلْيُوس وحاصرها، واعتصم المتوكل ومَنْ معه بقَلعة بَطَلْيُوس لمناعتها، ولم يتمكَّن ألفونسو من معاونة حليفه المسلم المتوكل، وقد استطاع المرابطون دخول بَطَلْيُوس بسهولة، وأعملوا فيها السيف والقوَّة، وقبض سير بن أبي بكر على المتوكل وعلى ابنيه العباس والفضل، وأُخِذَ بهم إلى إِشْبِيلِيَة، وعلى مقربة منها قيل له: تأهَّب للموت. فسأل أن يُقَدَّم ابناه، فقدَّمُوهما قبله رغبة منه أن يحتسبهما عند الله ولينال أجرهما، فقُدِّمَا عليه فقتلا، وقام بعدهما كي يُصَلِّيَ ركعتين فطعنوه بالرماح؛ وقد اختلط كلامه في صلاته، حتى فاضت نفسه وغربت شمسه[8].

                                وكان للمتوكل ابن اسمه المنصور بعث به إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة؛ ليمتنع فيه، فلمَّا علم بما جرى القدر به في أبيه وإخوته، سار بأهله إلى ملك قشتالة ليحتمي به، وأقام بأرضه، وقيل بأنه اعتنق النصرانية[9].

                                وهكذا التاريخ يُعَلِّمُنَا.. وهكذا انتهت محنة بني الأفطس.. وهكذا انتهت مأساة المتوكل على الله.. وهكذا تمَّت للمرابطين السيطرة على غرب الأندلس.. وهكذا دفع المتوكل بن الأفطس ثمن موالاته للنصارى من دون المؤمنين، وتلك زلَّة لم يغفرها له التاريخ، مع حُسن سيرته وشيوع عدله وعلمه.. ولكنها الدنيا وشهوة السلطان، وصدق الله إذ يقول:
                                {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].


                                [1] ابن بسام: الذخيرة 4/650، 651، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، 98، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
                                ([2]) ابن الأبار: الحلة السيراء 2/96، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص185.
                                ([3]) ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 1/364.
                                ([4]) أَغَبَّ القومَ: جاءَ يومًا وترك يومًا، وأَغَبَّ عَطاؤُه: إِذا لم يأْتنا كلَّ يوم. والمقصود: لا يترك الغزو. الجوهري: الصحاح، باب الباء فصل الغين 1/190، 191، وابن منظور: لسان العرب، مادة غبب 1/634، والمعجم الوسيط 2/642.
                                ([5]) عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص128.
                                ([6]) الفتح بن خاقان: قلائد العقيان ص45، 46، وابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 4/45، 46.
                                ([7]) عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/91.
                                ([8]) ابن دحية الكلبي: المطرب من أشعار أهل المغرب ص26، وعبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص128، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/102، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص185، 186، والإحاطة في أخبار غَرْنَاطَة 4/46، 47.
                                ([9]) ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص186، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/369.

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X