إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #91
    ممالك إسبانيا النصرانية في عهد ملوك الطوائف

    ممالك إسبانيا النصرانية



    مَرَّت الممالك النصرانية الإسبانية في الشمال خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي بنفس الأطوار التي مرَّت بها الأندلس الإسلامية في الجنوب، فمرَّة في طور القوَّة والنشاط، ومرَّة في طور التفرُّق والنزاع، وطور القوة يأتي من وَحْدة تلك الممالك المتنازِعة فيما بينها، وطور الضعف يأتي من التنازع بينها، فكما رأينا الحال في الأندلس عندما تنازعها ملوك الطوائف، وتقاتلوا فيما بينهم؛ حتى إن الأخ يقتل أباه وأخاه وأهله ليستأثر بالحُكم دونهم، كان هذا هو الوضع -كذلك- في الممالك النصرانية.


    ولا نعرف أيًّا من الطرفين أخذ بسُنَّة الآخر!

    وفيما يلي في هذه السطور نحاول أن نُلقي بعض الضوء على حال تلك الممالك وعَلاقتها بملوك الطوائف، وكيف تَوَحَّدت تلك الممالك وعادت حركة الاسترداد النصرانية على الأندلس المسلمة؟

    الممالك النصرانية في الشمال

    انقسمت المملكة النصرانية في الشمال في أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي إلى ثلاث ممالك؛ هي على النحو التالي:
    مملكة نافار أو نبرَّة: وهي أكبر الممالك النصرانية، وكان يحكمها سانشو الكبير.

    مملكة ليون: فكان يحكمها برمودو الثاني (982-999م)، وخلفه في الحكم ابنه ألفونسو الخامس، وظلَّ بها حتى تُوُفِّيَ سنة 1027م، وذلك خلال إحدى غاراته على أراضي المسلمين في شمال البرتغال، وحاصر مدينة بازو، فأصابه سهم مسموم فقتله، فخلفه ابنه برمودو الثالث.
    مملكة قشتالة: وكان يحكمها سانشو غرسية حتى سنة 1021م، ثم خلفه ابنه غرسية بن سانشو.



    وكان بين هذه الممالك تنازع وفرقة، وكان كلٌّ منها -تمامًا كما كان يحدث بين ملوك الطوائف- يترقَّب الفرصة المناسبة للانقضاض على مُلْك الآخرين، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ قصد غرسية بن سانشو ملك قشتالة مملكة ليون؛ ليتمَّ عقد زواجه من أخت ملكها برمودو الثالث، فقُتل غِيلة هناك في الكنيسة أثناء مراسم الحفل، وبذلك أصبحت مملكة قشتالة بلا ملك ولا أمير، وكان ذلك سنة 1028م، وكان لهذا الحدث أثره الكبير في تغيير الخريطة السياسية في الممالك النصرانية.


    سانشو الكبير وتوحيد ممالك إسبانيا

    كان سانشو الكبير ملك ناڤار (نبرة)، يرقب الأحداث عن كثب، وكانت تلك فرصته الذهبية؛ إذ كان سانشو زوجًا لأخت غرسية القتيل، وبالتالي فهو الوريث الشرعي لميراث زوجته، فجمع قوته واحتلَّ قشتالة، وضمَّها إلى مملكته، ووضع عليها ابنه فرناندو؛ وبذلك أضحت قشتالة ونافار مملكة واحدة.

    أضحت إسبانيا مفترقة بين مملكتين، الأولى يحكمها سانشو وولده فرناندو؛ وهي مملكة قشتالة ونافار، والثانية يحكمها برمودو الثالث؛ وهي مملكة ليون.

    كانت عين سانشو الكبير على ليون؛ إذ بها تتوحَّد إسبانيا على يديه ويُصبح هو الملك الأوحد للنصارى الإسبان، وكانت وسيلته في ذلك أن توجَّه فرناندو ملك قشتالة وعقد زواجه على أخت برمودو الثالث ملك ليون، وبالطبع كان ذلك الزواج زواج مصلحة إلى حين، فكما استطاع سانشو أن يتغلَّب على قشتالة بزواجه من أخت غرسية القتيل، أراد فرناندو أن يُخضع ليون بالطريقة ذاتها، ولكن يبدو أن فرناندو استعجل ثمرته فهاجم مملكة ليون وافتتحها لنفسه، ففرَّ برمودو الثالث ليرقب الفرصة لاسترداد عرشه، وقد حاول ذلك مرارًا ولكنه لقي مصرعه على يد صهره، وبذلك توحَّدت ممالك إسبانيا الثلاثة على يد سانشو الكبير، وكان ذلك سنة 1037م.

    وفاة سانشو الكبير

    وكان سانشو قُبيل وفاته قد قسَّم مملكته بين أولاده الأربعة؛ فجعل قشتالة وليون وجِلِّيقِيَّة من نصيب ابنه فرناندو، وخصَّ ابنه الأكبر غرسية بنافار، وجعل لابنه راميرو ما تسّمى بمملكة أراغون، واقتطع لابنه كونزالو منطقة صغيرة هي ولايتي سوبرابي وربا جورسيا، هذا فضلاً عن إمارة ببرشلونة في شمال شرقي إسبانيا، والتي يحكمها رامون برنجيز الأول.

    وكان هذا التقسيم إيذانًا بعودة الفُرقة والتناحر بين الإخوة الأشقاء، وهو ما حدث بالفعل، بعد وفاة سانشو الكبير[1].

    [1] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/376-378.

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #92
      فرناندو وتوحيد ممالك إسبانيا النصرانية

      الحرب الأهلية بين ممالك إسبانيا

      ما إن مات سانشو الكبير اندلعت الحرب الأهلية في إسبانيا النصرانية بين الإخوة الأشقاء، وكانت حربًا دموية وشرسة، استعان أطرافها بالغيلة والخيانة والخديعة.



      لم يقتنع راميرو ملك أراغون بنصيبه من مملكة أبيه، وطمع في نصيب أخيه غرسية؛ أي: مملكة نافار نفسها، ولم تكن قوَّاته كفيلة بتحقيق أحلامه، فعقد حلفًا مع جاره المسلم ابن هود صاحب سرقسطة على أن يُمِدَّه بجنود من عنده، ثم زحف راميرو في قوَّاته المتحدة، إلى نافار ومعه حلفاؤه من المسلمين، وضرب حصاره على قلعة تافالا، وعلى عَجَلٍ جمع غرسية جيوشه، وفي جُنح الظلام انقضَّ بقواته على جيش راميرو، وكانت مقتلة عظيمة ومفاجأة، وقُتل كذلك معظم جيش المسلمين المشارك في المعركة، وكان ذلك سنة 1042م.


      وعلى الجانب الآخر كان غرسية ملك نافار يرى أنه أحقُّ بقشتالة من أخيه فرناندو؛ فهو أكبر إخوته سنًّا، وتملكت الغيرة قلبه من أخيه الأصغر فرناندو، فدبَّر له حيلة ومكيدة يكون فيها مقتل فرناندو؛ إذ دعا غرسية أخاه فرناندو لزيارته في نافار؛ فهو على فراش الموت، ويحبُّ أن يرى أخاه قبل انقطاع حياته، وفعلاً لبَّى فرناندو دعوة أخيه الأكبر، ولكنه فطن إلى حيلته بفعل عيونه، فعاد مسرعًا، وقلبه يمتلئ حقدًا على أخيه، ولم يكن غرسية على علم بأن فرناندو اكتشف حقيقة أمره ومكيدته، وبعث فرناندو برسالة لأخيه غرسية يدعوه لزيارته بقشتالة، فسار إليه وهو مطمئن النفس من أخيه، وما لبث حتى قبض عليه فرناندو واعتقله، ولكنه استطاع الفرار وهو يُضمر لأخيه الانتقام، فكان لا بد من الحرب!

      جمع غرسية حشوده مستعينًا في ذلك بحليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة، كما جمع فرناندو حشوده من قشتالة وليون، واشتبك الفريقان عند سهل أتابوركا شرقي برغش، وكانت معركة دامية، انقلبت فيها الموازين على غرسية وحلفائه من المسلمين، وقُتل غرسية بضربة قاضية، فانهار جيشه ولاذ بالفرار، وقصر فرناندو مطاردته على جيش المسلمين، فمُزِّقُوا شرَّ ممزَّق، وكانوا بين أسير وقتيل، ووقع اختيار فرناندو على سانشو بن غرسية ملكًا جديدًا على نافار؛ ليكون وريثًا لأبيه[1].

      وهكذا توحَّدت ممالك إسبانيا النصرانية مرَّة أخرى؛ إذ أضحت قشتالة وليون ونافار وجليقية وأراجون (أراغون) تحت قبضة ملك واحد هو فرناندو بن سانشو الكبير.

      فرناندو وحرب الاسترداد الأولى

      حقًّا إن التاريخ يُعيد نفسه، وما أشبه أحداث الواقع بالتاريخ.. ففي الوقت الذي كانت إسبانيا النصرانية تنزع نحو الوَحْدَة والقوَّة على يد فرناندو، الذي استطاع بالفعل أن يُكَوِّن جبهة نصرانية صليبية مُوَحَّدة، كانت إسبانيا المسلمة أو الأندلس الإسلامية تصطلي بنيران الفُرقة والتنازُع والتشرذم بين أبناء الدين الواحد، فما أن أُلغيت الخلافة الأموية (عِقد الأمَّة ورمز وَحدتها) وذلك في قرطبة سنة (422هـ=1031م)، حتى أضحت الأندلس فرقًا ممزَّقة وقطعًا متناثرة، وطوائف متنازعة متقاتلة.

      وكان هذا التنازع سبيلاً إلى أن يتقوَّى بعضهم على بعض بتكوين التحالفات والتكتلات والاستعانة بغيرهم؛ ليتقوى بهم على جاره المسلم، وربما كان جاره أباه أو أخاه، وكان لا بدَّ لهذا الحليف أن يكون في موضع قوَّة واتحاد؛ لذلك اتجهت أنظار ملوك الطوائف إلى النصارى الصليبيين، الذين يحملون رُوح الحقد والكراهية للمسلمين.

      فكان هذا الاتحاد الذي أحدثه فرناندو بين ممالك إسبانيا الصليبية، وحالة التنازع والفرقة بين ملوك الطوائف سبيلاً إلى تغيير ميزان القوى السياسية والعسكرية في شبه الجزيرة الأيبيرية بشِقَّيْهَا الإسلامي والنصراني، وكانت هذه القوة النصرانية بداية لما يُسَمَّى بحرب الاسترداد الصليبية ضدَّ الممالك الأندلسية المسلمة.

      تمركزت سياسة حرب الاسترداد التي تزعَّمها فرناندو الأول[2] ملك قشتالة على أكثر من جهة، وكان يهدف من هذا الأمر إلى إضعاف قوَّة ملوك الطوائف، وإخضاعهم لسلطانه وسيطرته؛ إمَّا من خلال السيطرة على أراضيهم، أو إضعافهم وإرهاق كاهلهم بدفع الجزية والإتاوات، ولم يُوَلِّ فرناندو نظره وقوَّته إلاَّ للممالك الأقوى بين ملوك الطوائف، وكانت هذه الممالك هي طليطلة وإشبيلية وسرقسطة وبطليوس وغيرها من الممالك الضعيفة.

      غزو فرناندو لمملكة بني الأفطس في بطليوس



      فما أن انتهى فرناندو من توحيد جبهته الصليبية بعد تغلُّبه على إخوته، حتى وجَّه أمره وقوته إلى بني الأفطس أصحاب بطليوس؛ لإخضاع وضمِّ ممتلكاتهم إلى دولته، ومعلوم أن بطليوس تُمَثِّل الحدود الشمالية والغربية لدولة الأندلس؛ أي: تشمل دولة البرتغال الحالية بكاملها؛ فهي تضمُّ لشبونة (lispon)، وشنترين (Santarém)، وقلمرية (Coimbra) وغيرها، وفي سنة (449هـ=1057م) تأهَّب فرناندو الأول وجمع جيوشه وغزا بلاد بطليوس، وعبر بقوَّاته نهري دويرة وتورمس، وهاجم الحدود الشمالية لمملكة بطليوس، واستطاع أن يُخضع مدينتي بازو ولاميجو الواقعتين في شمال البرتغال، وعاث فيهما فسادًا وتخريبًا، ثم قام بعملية تصفية وتطهير عرقي ضد مسلمي المدينتين الإسلاميتين؛ إذ طرد المسلمين منها واستوطنها بالنصارى[3].


      وبعد أن تمَّت السيطرة لفرناندو طلب من المظفر بن الأفطس دفع الجزية والإتاوة، بيد أن المظفر رفض دفع الجزية له، وهذا ما دفع فرناندو أن يُغِيرَ مرَّة أخرى، فبعث بحملة من عشرة آلاف جندي عاثت تخريبًا وقتلاً، ولم تلقَ مقاومة تُذْكَر من جند ابن الأفطس، وظَلَّت قوَّات النصارى تعيث في أراضي المسلمين فسادًا حتى وصلت مدينة شَنْتَرِين، وكان ابن الأفطس على علمٍ بتحرُّكات النصارى، فسبق النصارى إلى شَنْتَرِين، وعَلِمَ أنه لا قِبَلَ له بجيش النصارى، فعرض عليهم الصلح والهدنة، وانتهت المفاوضات على أن يدفع ابن الأفطس الجزية السنوية ومقدارها خمسة آلاف دينار[4].

      غزو فرناندو لمملكة بني ذي النون في طليطلة

      يبدو أن فرناندو قنع بخضوع بطليوس وأصحابها من بني الأفطس، فوجَّه وجهته الثانية ناحية طليطلة، وقد بيَّنَّا -سابقًا- أن فرناندو كان يبعث سراياه لتعيث فسادًا في أراضي طليطلة، أثناء حلفه مع ابن هود في فترة الصراع المحتدم بين سليمان المستعين بن هود وبين المأمون بن ذي النون، كما أن المأمون كان يستعين بغرسية ملك نافار، وكانت جيوش النصارى تعيث في أراضي المسلمين بتحريض من الأميرين المشئومين.

      وأدرك فرناندو بعد توحيد جبهته أن لا قِبَل لملوك الطوائف بردِّه؛ إذ هم منهمكون في حرب بعضهم البعض، ففي سنة (454هـ=1062م) هاجم فرناندو حدود مملكة طليطلة الشمالية الشرقية؛ فأغار على مدينة سالم ووادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس)، وعاث فيها فسادًا وتخريبًا، ولم يكن أمام المأمون إلاَّ أن هرع مسرعًا إلى فرناندو، وجمع معه أطنانًا من الذهب والفضة، وقدم له الهدايا اعترافًا بطاعته، وتعهد بدفع الجزية له[5].

      غزو فرناندو لمملكة بني عباد في إشبيلية

      وبعد أن اطمأن فرناندو إلى ولاء المأمون بن ذي النون، خرج بقوَّات كثيفة سنة (455هـ=1063م) وأغار على مملكة إشبيلية، وأحرق قراها وخرَّب أراضيها، فلم يجد المعتضد بن عباد بُدًّا من أن يحتذي حذو المأمون صاحب طليطلة، وهرع المعتضد مسرعًا إلى فرناندو وقدَّم له الهدايا؛ معلنًا الولاء والطاعة، كما عرض عليه الصلح والمهادنة والسلم فقَبِلَ منه! وطلب منه أن ينقل رفات القديسة خوستا، التي استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودُفِنَتْ بإشبيلية، فوافق المعتضد بن عباد، وحُمِلَتْ رفات القديسة في احتفال فخم، ونقلت إلى ليون[6].

      سقوط قلمرية في يد فرناندو

      وهكذا استطاع فرناندو أن يُخضع طليطلة وبطليوس وإشبيلية تحت قبضته، بإرهاقهم بالجزية والغارات، وكان في كلُّ ذلك يعدُّ عُدَّته وخطته الكبرى للسيطرة على قلمرية من أعمال بطليوس، التي فتحها المنصور بن أبي عامر في 375هـ، قصد فرناندو قلمرية بجيوشه وفرض عليها الحصار سنة (456هـ=1064م)، وكان قائدها في ذلك الوقت رجلاً يُسَمَّى راندة، وقد غادر المدينة بعد أن راسل فرناندو سرًّا، وخرج هو وأهله سالمين، ثم توجَّه إلى المظفر بن الأفطس الذي قتله جزاء خيانته وتعاونه مع الصليبيين، ويبدو أن المسلمين حاولوا المقاومة، ولكن نفدت أقواتهم، ولم تلبث المدينة حتى سقطت بعد ستة أشهر من الحصار، بعد حُكم إسلامي دام أكثر من بضع سبعين سنة[7].

      فرناندو وغزو مملكة بني هود في سرقسطة

      لم يَعُدْ أمام فرناندو إلا أنْ يُخْضِعَ مملكة بني هود، التي تُسَمَّى بالثغر الأعلى سرقسطة؛ فهي المملكة الوحيدة التي يماطل أصحابها فرناندو في دفع الجزية والإتاوات المفروضة عليهم، كما أنه أراد أن يُخْضِعَ بلنسية لسلطانه، فتوجَّه بقوَّاته سنة (457هـ=1065م) صوب بلنسية مخترقًا في ذلك حدود سرقسطة الجنوبية، وأعمل فيها القتل والتخريب، ونهب الزروع والقرى، كما أنه اجتاح سائر البقاع والحصون؛ وبذلك أرغم المقتدر بن هود على دفع الجزية.

      فرناندو وإخضاع بلنسية

      ثم اتجه من فوره ناحية بلنسية وفرض عليها الحصار، ولَمَّا طال الحصار ورأى فرناندو أن حصون المدينة منيعة، ووسائل الدفاع لديها قوية، عزم على الحيلة والمكيدة؛ فتظاهر بالانسحاب والمغادرة، فخرج أهل المدينة فرحين بالنصر متتبِّعين فلول المنهزمين، متزينين بزينة النصر والأُبَّهة، وهنا وفي غفلة من أهل بلنسية وأميرها عبد الملك بن عبد العزيز المنصور، ارتدت القوات الصليبية، وأعملت في أهل بلنسية القتل والأَسْرَ، واستسلمت المدينة لفرناندو، ولكنه أحسَّ بالمرض فآثر العودة إلى ليون، ولم تمضِ أيام حتى تُوُفِّيَ سنة (457هـ= ديسمبر 1065م) [8].

      وهكذا استطاع فرناندو أن يبسط قوَّته على إسبانيا الصليبية وإسبانيا الإسلامية بسلطانه المادي بقوته وجيوشه، والمعنوي بالجزية والإتاوات، التي يُرهق بها ملوك الطوائف.


      [1] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/378-381.
      [2] فرناندو الأول ملك قشتالةة الإسلام في الأندلس 3/85، 86، 383.
      [3] عنان: دولالإسلام في الأندلس 3/101، 383، 384.
      [4] ابن عذاري: البيان المغرب 3/237، 238.
      [5] عنان: دولة : يُطلق عليه في المصادر العربية (فرذلند ملك الجلالقة).
      [6] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/384.
      [7] ابن عذاري: البيان المغرب 3/238، 239، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص184.
      [8] انظر: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/224، 225، 386، 387.

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • #93
        ألفونسو ملكا على عرش قشتالة وليون

        فرناندو وتقسيم مملكته على أبنائه



        عمد فرناندو قُبَيْلَ وفاته إلى تقسيم مملكته المتحدة على أبنائه الثلاثة وبنتيه، ويبدو أن فرناندو لم يتعلَّم من درس والده سانشو الكبير عندما قسَّم مملكته المتحدة بين أبنائه، وقد ذاق فرناندو لظى الفُرقة التي كانت بينه وبين إخوته! على كل حالٍ اتَّخذ فرناندو قراره بالتقسيم، وجمع الأساقفة والأشراف في سنة 1064م، وانتهى إلى تقسيم الدولة على أبنائه الثلاثة: سانشو الابن الأكبر، وألفونسو، وغرسية، وبنتيه: أوراكا، وإلبيرة.


        فخصَّ سانشو بقشتالة وحقوق الجزية من مملكة سرقسطة.
        وخصَّ ألفونسو بليون وحقوق الجزية من مملكة طليطلة.
        وخصَّ غرسية بجليقية والبرتغال، وحقوق الجزية من مملكة إشبيلية وبطليوس.
        وخصَّ أوراكا بمدينة سمورة الحصينة.
        وخصَّ إلبيرة بمدينة تورو وأماكن أخرى على نهر دويرة.

        الصراع بين أبناء فرناندو


        كان هذا التقسيم سبيلاً إلى اندلاع الشقاق بين الإخوة الأشقاء، وسبيلاً إلى الفُرقة والتنازع بينهم، وهو ما حدث بالفعل.

        كانت مملكة نافار في ذلك الوقت تحت يد سانشو بن غرسية، كما كانت مملكة أراغون تحت حكم سانشو بن راميرو، وقد طمع سانشو بن فرناندو في ضمِّ المملكتين إلى أملاكه، وقد شعر مَلِكَا أراغون ونافار بنية ملك قشتالة، فكَوَّنَا حلفًا ضده، واستطاعَا أن يصداه عن مملكتيهما في معركة فيانا عام 1067م، وبعد عام هاجم سانشو بن فرناندو ملك قشتالة أراضي ليون، وحاول أخوه ألفونسو ردَّه، ولكنه هُزم وتنازل لسانشو عن بعض ممتلكاته عام 1068م.

        ثم أعاد سانشو كَرَّته على ليون، وهُزم في بادئ الأمر، ولكنه استطاع بحيلة ردريجو ياث (الذي يُعرف بالقمبيطور) أن ينتصر على ألفونسو؛ إذ أغار على جيش ليون ليلاً، ودخل سانشو ليون ظافرًا، واعتقل أخاه ألفونسو وسجنه في يوليو عام 1071م، ولكنه خرج من معتقله بوساطة أخته أوراكا، وحُدِّدت إقامته في دير ساهاجون، وقد دَبَّرت أخته أوراكا له مكيدة، استطاع بها أن يهرب، والتجأ إلى مملكة طليطلة؛ ليكون في رعاية المأمون بن ذي النون، وقد استقبله المأمون أحسن استقبال، وأكرمه وعاش في كنفه أحسن معيشة.

        ألفونسو في طليطلة


        ويبدو أن ألفونسو لم يكن يقضي منفاه في لهو ولعب وعبث، وإنما كان يتنقل بين جنبات طليطلة، تلك المدينة التي يحلم أن يمتلكها يومًا ما؛ ومما يؤيد ذلك قول الأستاذ بيدال: «كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين ويتريض في جنبات المدينة الحصينة، ويُفَكِّر من أيِّ الأماكن وبأيِّ نوع من أدوات الحرب يمكن اقتحامها»[1]. وقضى ألفونسو تسعة أشهر في منفاه معزَّزًا مكرَّمًا، إلى أن شاءت الأقدار وتطوَّرت الأحداث في قشتالة!

        سانشو يغزو أملاك أخوته


        لم يقنع سانشو بما تمَّ له من السيطرة على ليون، بل أراد أن ينتزع المُلْكَ من أخيه غرسية ملك جليقية والبرتغال، وقد تمَّ له ذلك، وفرَّ غرسية هاربًا ليكون في حمى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وذلك سنة 1071م.

        لم يَبْقَ لسانشو من مُلْكِ أبيه سوى مُلْكِ أختيه في مدينتي سمورة وتورو، وعقد عزمه على أن ينزع منهما ملكهما، واستطاع فعلاً أن يستوليَ على تورو، ولم تصمد أخته إلبيرة أمامه، ثم توجَّه بجيشه إلى سمورة، فصمدت أمامه كثيرًا، ففرض عليها الحصار، وفي ذات يوم وفد إلى معسكره فارس، وطلب مقابلته؛ ليُنْبِئه عن بعض أحوال المدينة المحصورة، وما كاد الفارس يراه حتى طعنه بحربته فأرداه قتيلاً، وانفضَّ الحصار عن المدينة، بيد أن أخته أوراكا كانت وراء هذه الجريمة، وكان ذلك في أكتوبر سنة 1072م.

        وهكذا بقيت المملكة بلا ملك يتولَّى شئونها، ولم يبقى من إخوة القتيل سوى ألفونسو اللاجئ في بلاط طليطلة، وغرسية اللاجئ في بلاط إشبيلية، فإلى مَنْ تئول المملكة الواسعة؟!

        ألفونسو ملكا على عرش قشتالة وليون




        وهكذا قُتل سانشو جزاء طمعه واعتدائه على حقِّ إخوته، فاجتمع الأشراف على استدعاء ألفونسو من طليطلة؛ ليتولَّى الحُكم مكان أخيه، بشرط أن يُقْسِمَ أنه لم يشترك بأي حال في تدبير مقتل أخيه سانشو، فأرسلت أخته أوراكا إليه تستدعيه وتُعْلِمُه بالأمر، وعلى الفور أعلم ألفونسو المأمونَ بن ذي النون بالنبأ، فما كان من المأمون إلا أن أعرب عن سروره وغبطتُه، ووعده بمساعدته بالمال والخيل، ولم يطلب سوى صداقته، وأن يعده أن يساعده ضد إخوانه من المسلمين، فقطع له ألفونسو عهده، وودَّعه المأمون في موكب عظيم إلى حدود مملكته.


        ويا لخيبة المأمون! إذ ماذا كان سيفعل لو علم أن ألفونسو هو مَنْ سيُسْقِط مملكته، ويُهِينُ حفيده القادر!

        على كل حالٍ غَدَا ألفونسو ملكًا على عرش ليون وقشتالة، وهكذا عادت المملكة الصليبية وحدة واحدة، كما كانت على عهد سانشو الكبير وفرناندو الأول.

        بيد أن غرسية الأخ الآخر لألفونسو طمع في أملاك أخيه وتَمَلَّكَهُ الحسد، فدبَّر له ألفونسو مكيدة بإيعاز من أختهما أوراكا؛ إذ دعا ألفونسو أخاه غرسية للتفاهم، وما كاد يصل غرسية حتى قُبِضَ عليه، وزُجَّ في السجن إلى أن تُوُفِّيَ سنة 1090م، وخَلُص عرش المملكة لألفونسو بلا منازع[2].


        [1] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/391.
        [2] انظر التفاصيل في: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/389-395.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #94
          ألفونسو والحرب الصليبية على ملوك الطوائف

          الحرب والحملات الصليبية



          كان ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة أقوى ملك نصراني صليبي في ذلك الوقت، ولم ينسَ ألفونسو يومًا عداوة آبائه وأجداده للمسلمين في الأندلس؛ لذلك ليس غريبًا أن يستأنف ألفونسو حرب الاسترداد الصليبية في إسبانيا الإسلامية، بل وتكون أشُدَّها ضراوة وقوَّة وحمية.


          وقد اتَّسمت فترة الصراع الإسلامي الصليبي في عهد ألفونسو بالدينية، وكان ذلك بتأييد من البابوية الكنسية؛ لذلك اتَّسم الصراع بالحماسة الشديدة من أجل تحقيق أهداف الكنيسة في القضاء على الإسلام والمسلمين في الأندلس.

          الحرب الصليبية على ملوك الطوائف

          ألفونسو وسرقسطة

          عندما اعتلى ألفونسو عرش قشتالة وليون سنة (466هـ=1072م) كان الصراع على أشدِّه بين إشبيلية وغرناطة، وقد سبق وفصلنا كيف استعانت كلتا المملكتين بألفونسو السادس على بعضهما، حتى أرهقهما بالجزية وبما أثاره من تقتيل وتخريب وإفساد باسم تحالفه مع المملكتين.

          كانت العَلاقة بين ألفونسو ومملكة سرقسطة تسير من سيئ إلى أسوأ، وحدث أن تُوُفِّيَ يوسف المؤتمن بن هود في السنة نفسها التي سقطت فيها طليطلة بيد ألفونسو (478هـ=1085م)، فتوجه إلى سرقسطة، وضرب الحصار عليها، إلا أن حملته باءت بالفشل؛ إذ جاءت الأنباء إليه بقدوم المرابطين لنجدة إخوانهم بالأندلس، فعاد إلى قشتالة ليُعِدَّ عُدَّته.

          ألفونسو وبلنسية



          أما عن بلنسية فقد كانت تمرُّ بفوضى سياسية تحت حُكم القادر يحيى بن ذي النون، الذي دخلها تحت الحماية القشتالية في شوال (478هـ=1086م)، فقد تعرَّضت بلنسية لضغط المنذر بن هود صاحب طرطوشة ودانية والجزء الشرقي من مملكة سرقسطة، وكانت المدينة تشطر أملاكه، فالتمس المساعدة من كلٍّ مِنْ ألفونسو السادس وأحمد المستعين، الذي هرع إلى القمبيطور، غير أن المصالح تضاربت بين الحليفين، فاضطر المستعين أن يستعين برامون أمير برشلونة، كما استعان القمبيطور بألفونسو السادس، وحدث أن انتصر القمبيطور على رامون، واستولى بذلك على شرقي الأندلس وبلنسية منها، وفرض الجزية عليها، وتعهَّد يحيى بدفع مائة ألف دينار سنويًّا مقابل حمايته له، بيد أن العلاقة ساءت بين القمبيطور وألفونسو السادس، فقبض ألفونسو السادس على زوجة القمبيطور وأولاده، وهاجم بلنسية في الوقت الذي كان فيه القمبيطور في سرقسطة؛ لتنظيم الدفاع عنها تجاه خطر المرابطين![1]


          وهكذا أضحت ملوك الطوائف كلها تحت نير[2] هجمات النصارى وممالكهم المختلفة في كل مكان، والتي أنهكت قوى ملوك الطوائف وأضعفت قواهم، ونتج عنها أن سقطت طليطلة على نحو ما سنُفَصِّله إن شاء الله.

          ألفونسو وأخذ الجزية من المسلمين

          إنَّ أشدَّ وأنكى ما كان من أمر ملوك الطوائف في هذه الفترة أنهم كانوا يدفعون الجزية للنصارى، فكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس، وهم في ذِلَّة ومهانة؛ كانوا يدفعون الجزية حتى يحفظ لهم ألفونسو السادس أماكنهم وبقاءهم على الحُكم في بلادهم.

          كانت سياسة ألفونسو السادس التي استعان بها في إنجاح خطته وسيطرته على ممالك الطوائف تعتمد على شقَّيْنِ، الأول: إرهاقهم بالغارات المتواصلة، والثاني: إرهاقهم بالجزية والإتاوات؛ وبذلك تضعف قوى ملوك الطوائف العسكرية والاقتصادية، فلا يقدرون على المدافعة.
          وكأنَّ قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 51- 52]. قد نزل في أهل الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث يَتَعَلَّلون ويتأَوَّلُون في مودَّة وموالاة النصارى بالخوف من دائرة تدور عليهم من قِبَلِ إخوانهم، وهنا يُعَلِّق بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 52]، وهو بعينه الذي سيحدث في نهاية هذا العهد كما سنرى، حين يكون النصر فيُسِرُّ هؤلاء في أنفسهم ما كان منهم من موالاة النصارى في الظاهر والباطن، ويندمون حين يفضحهم الله ويُظهر أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، وذلك بعد أن كانوا مستورين لا يدري أحدٌ كيف حالهم.

          وإنها لعبرة وعظة يُصَوِّرُها القرآنُ الكريمُ منهجُ ودستورُ الأُمَّة في كل زمان ومكان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].

          موقف المتوكل بن الأفطس مع ألفونسو

          غير أن الصورة لاح فيها نور من العزَّة والإباء قادم من بطليوس، التي أرهقتها غارات ألفونسو، فمع أن كل الممالك وأمراء الطوائف كانوا يدفعون الجزية إلى ألفونسو السادس إلا المتوكل بن الأفطس أمير مملكة بَطَلْيُوس.

          وبعد أن أسقط ألفونسو طليطلة سنة (487هـ=1085م)، وجد نفسه قادرًا على تحدِّي ملوك الطوائف جميعًا، وهنا أرسل ألفونسو السادس للمتوكل بن الأفطس رسالة شديدة اللهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية، كما كان يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فرد عليه المتوكل برسالة قوية تثبت ما كان عليه من علم وعزة وإرادة، قال:
          «وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مُدَّعٍ في المقادير، وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يُفَرِّق، ويُهَدِّد بجنوده الوافرة، وأحواله المتضافرة، ولو علم أن لله جنودًا أعزَّ بهم ملَّة الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد u، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ} [المائدة: 54]، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرَّعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، و{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11].

          وأمَّا تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، وظهر من اختلالهم؛ فبالذنوب المركوبة... ولو اتَّفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك؛ لعلمتَ أيَّ مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا تتجرَّعه... وبالأمس كانت قطيعة[3] المنصور[4] على سلفك، إهداء ابنته إليه[5]، مع الذخائر التي كانت تَفِدُ في كل عام عليه... وأما نحن؛ وإن قلَّت أعدادنا، وعُدِم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلاَّ سيوفًا تشهد بحدِّتها رقاب قومك، وجلادًا تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسوَّمين، نتقوَّى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما {تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومِنَّة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هَدِّدْتَ، وفرج يبتر ما مددت، ويقطع بك فيما أعددت»[6].

          فما كان من ألفونسو السادس إلاَّ أن وجم ولم يُفَكِّر، ولم يستطع أن يُرسل له جيشًا؛ فقد غزا كل بلاد المسلمين في الأندلس خلا بطليوس، لم يتجرَّأ على أن يغزوها، فكان يعلم أن هؤلاء الرجال لا يقدر أهلُ الأرض جميعُهم على مقاومتهم، فأعزَّ الإسلامُ ورفع من شأن المتوكل بن الأفطس ومَنْ معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرَّد أن لوَّحوا بجهاد لا يرضون فيه إلاَّ بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة.

          إلاَّ أن المتوكل صاحب هذه الرسالة، وصاحب العلم والفضل، ختم حياته على أسوأ وأخزى ما يكون الختام؛ إذ هو لما أتى فرجُ الله وتوحَّدت الأندلس استولت عليه شهوة الملك؛ حتى تحالف مع ألفونسو عدوِّه القديم ضد المسلمين، وما أغنى عنه ذلك شيئًا! إذ لقي جزاء خيانته قتلاً في خاتمةٍ ما كان أحسن به أن يتجنبها!


          [1] انظر تفاصيل الأحداث في بلنسية عند: عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/237-252، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص476، 477.
          [2] النير: الخشبة المعترضة فوق عنق الثور لجرِّ المحراث أو غيره. ابن منظور: لسان العرب، مادة نير 5/246، والمعجم الوسيط 2/966.
          [3] القطيعة: المال المفروض على العدو كل عام، وهي نوع من أنواع الجزية، يضمن بها المهادنة من المسلمين.
          [4] المنصور: هو المنصور بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية.
          [5] لما أجبر أجداده على دفع الجزية، فكان ملك نافار جدُّ ألفونسو السادس قد أرسل ابنته هدية إلى المنصور حتى يأمن جانبه، وهي أمُّ عبد الرحمن بن المنصور الذي انتهت بحُكمه الدولة العامرية.
          [6] الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، لمؤلف أندلسي من أهل القرن الثامن الهجري، ص36، 37.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • #95
            ألفونسو السادس وحصار إشبيلية

            ألفونسو السادس ذو الملتين

            بعد أن استطاع ألفونسو إسقاط طليطلة في صفر سنة (487هـ=1085م)، علا وتجبَّر وتسمى بذي الملتين، وراح يستهين بملوك الطوائف، لا يُفَرِّق بين أحد منهم، وكانت خطوته التالية بعد طليطلة إخضاع إشبيلية لسلطانه، وكان ألفونسو -كما أوضحنا- قد اعتمد في إرهاق إشبيلية على الجزية والغارات المتواصلة، ولكن حدث أمر قلب موازين الأمور في الأندلس..

            موقف تاريخي للمعتمد بن عباد

            أرسل ألفونسو سفارة على رأسها وزير يهودي لأخذ الجزية من المعتمد بن عباد، وكان المعتمد قد تأخَّر عن موعد دفع الجزية لانشغاله بغزو ابن صمادح صاحب ألمرية، فغضب ألفونسو وطلب فوق الجزية أن يتسلم بعض الحصون، ثم بالغ في طلباته فطلب أن تلد امرأته جنينها في مسجد قرطبة، وأن تسكن في الزهراء؛ بحجة أن الأطباء أشاروا عليه بنقاء الهواء في الزهراء، كما أن القساوسة أشاروا عليه بهذا الموضع من الجامع، فرفض المعتمد هذه الطلبات، وإذ باليهودي -وهو مجرد رسول- يردُّ على المعتمد بكلام مهين أمام مجلسه ووزرائه[1].

            وكعادة النفوس التي قد بقي بها شيء من عوالق الفطرة السوية، أخذت الغيرة المعتمد بن عباد، وبنخوة كانت مفقودة قام المعتمد على الله فضرب اليهودي وقطع رأسه وصلبه بقرطبة، واعتقل بقيَّة الوفد.

            جُنَّ جنون ألفونسو السادس، وعلى الفور جمع جيشه وأتى بحدِّه وحديده، يُخَرِّب في أراضي إشبيلية، وبعث سراياه فعاثت في أراضي باجة ولبلة، وأحرق كل القرى حول حصن إشبيلية الكبير، ثم عاث في أراض شَذُونة وانحدر غربًا يُخَرِّب ويحرق، ثم فرض الحصار على إشبيلية[2].

            حصار إشبيلية



            فرض ألفونسو حصاره على إشبيلية (478هـ=1085م) بعد أن خرب أعمالها حرقًا ونهبًا، ثم بعث برسالة للمعتمد بن عباد مع رجل يُسَمَّى البرهانس، وهي رسالة مِلْؤُها الوعيد والانتقام، يقول له فيها:

            «من الإمبراطور ذي الملتين الملك أذفونش بن شانجة إلى المعتمد بالله سدَّد الله آراءه، وبصَّره مقاصد الرشاد، قد أبصرتَ تَزَلْزُلَ أقطار طليطلة، وحصارها في سالف هذه السِّنين، فأسلمتم إخوانكم، وعطَّلتم بالدِّعة زمانكم، والحَذِر مَنْ أيقظ بالَهَ قبل الوقوع في الحِبَالة[3]، ولولا عهدٍ سَلَفَ بيننا نحفظ ذِمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الإنذار يقطع الأعذار، ولا يعجل إلاَّ مَنْ يخاف الفَوْت فيما يرومه، وقد حمَّلنا الرسالة إليك السيد البرهانس، وعنده من التسديد الذي يلقى به أمثالك، والعقل الذي يُدَبّر به بلادك ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدقُّ ويجلُّ، وفيما يصلح لا فيما يخلُّ، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك»[4].

            رد المعتمد على ألفونسو



            فلمَّا قدم الرسول أحضر المعتمد بن عباد أكابر القوم ووزراءه وفقهاءه، فلمَّا قرأ الكتاب بكى فقيه الأندلس أبو عبد الله بن عبد البر وقال: قد أُبْصِرنا ببصائرنا أنَّ مآل هذه الأموال إلى هذا، وأن مسالمة اللَّعين قوَّة بلاده، فلو تضافرنا لم نصبح في التِّلاف تحت ذلِّ الخلاف، وما بقي إلاَّ الرجوع إلى الله والجهاد.


            ثمَّ أخذ المعتمد رسالة ألفونسو وكتب عليها: [الكامل]
            الذُّلُّ تَأْبَاهُ الْكِرَامُ وَدِينُنَا

            لَكَ مَا نَدِينُ بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ
            سُمْنَاكَ سِلْمًا مَا أَرَدْتَ وَبَعْدَ ذَا

            نَغْزُوكَ فِي الإِصْبَاحِ وَالإِمْسَاءِ
            اللهُ أَعْلَى مِنْ صَلِيبِكَ فَادَّرِعْ

            لِكَتِيبَةٍ خَطَبَتْكَ فِي الْهَيْجَاءِ
            سَوْدَاءَ غَابَتْ شَمْسُهَا فِي غَيْمِهَا

            فَجَرَتْ مَدَامِعُهَا بِفَيْضِ دِمَاءِ
            مَا بَيْنَنَا إِلاَّ النِّزَالُ وَفِتْنَةٌ

            قَدَحَتْ زِنَادَ الصَّبْرِ فِي الْغَمَّاءِ[5]
            فَلَتَقْدُمَنَّ إِذَا لَقِيتَ أَسِنَّةً

            زُرْقًا تُرَى بِالْوَجْنَةِ الْوَجْنَاءِ[6]
            ثم قال:
            «من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله محمد بن المعتضد بالله، إلى الطَّاغية الباغية أدفونش الذي لَقَّب نفسه ملك الملوك، وتسمَّى بذي الملَّتَيْنِ، سلام على مَنِ اتَّبع الهُدى، فأول ما نبدأ به من دعواه أنه ذو الملَّتَيْنِ والمسلمون أحقُّ بهذا الاسم؛ لأنَّ الذي نملكه من نصارى البلاد، وعظيم الاستعداد، ولا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملَّتكم، وإنَّما كانت سِنَةُ سعدٍ اتَّعظ منها مُناديك، وأغفل عن النَّظر السَّديد جميل مُناديك، فركِبنا مركب عجز يشحذ الكيْس، وعاطيناك كئوس دَعَةٍ، قلت في أثنائها: لَيْس. ولم تستحي أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنَّا لنعجب من استعجالك وإعجابك بِصُنْعٍ وافَقَكَ فيه القَدَر، ومتى كان لأسلافك الأخدمين مع أسلافنا الأكرمين يدٌ صاعدة، أو وقفة مساعدة، فاستعدَّ بحربٍ، وكذا وكذا... إلى أن قال: فالحمد لله الذي جعل عقوبة توبيخك وتقريعك بما الموت دونه، والله ينصر دينه ولو كره الكافرون، وبه نستعين عليك»[7].

            طاول المعتمد على الله في التحصُّن، وفي محاولة لبثِّ الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين والفتِّ في عضدهم أرسل ألفونسو السادس رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول فيها: «كثُر بطول مقامي في مجلسي الذِّبَّان[8]، واشتدَّ علي الحرَّ فأتحِفْنِي من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها عن نفسي، وأطرد بها الذباب عني».

            يُريد وبكل كبرياء وغرور أن يُخبره أن أكثر ما يُضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أمَّا أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.

            وبنخوة أخرى أخذ المعتمد على الله بن عباد الرسالةَ وقلبها، وكتب على ظهرها ردًّا وأرسله إلى ألفونسو السادس، ولم يكن هذا الردُّ طويلاً، إنه لا يكاد يتعدَّى السطر الواحد فقط، وما أن قرأه ألفونسو السادس حتى تَمَلَّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى..

            لم تكن رسالة المعتمد بن عباد إلاَّ قوله: قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللَّمْطِيَّة[9] في أيدي الجيوش المرابطية، تُريح منك لا تروح عليك إن شاء الله[10].

            رفع الحصار عن إشبيلية

            لم يكن أمام المعتمد على الله غير أسلوب التهديد هذا؛ فقط لوَّح بالاستعانة بالمرابطين، وقد كان ألفونسو السادس يعلم جيدًا مَنْ هم المرابطون، فهو مطَّلِع على أحوال العالم الخارجي، فما كان منه إلاَّ أن أخذ جيشه وانصرف وفضَّ حصار إشبيلية.

            وهنا أيقن المعتمد فداحة جرمه وخطأه في دفع الجزية للنصارى، وإغارته على ممالك المسلمين، وقد أيقن أنه لا قِبَلَ له بألفونسو إلاَّ بالمرابطين، وقد استنكر عليه بعضهم، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ[11]، والسيفان لا يجتمعان في غمد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير[12].


            [1] الحميري: الروض المعطار، ص288.
            [2] الحميري: الروض المعطار ص288، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/73، 74.
            [3] حِبالة: هي ما يصاد بها من أَيّ شيء. ابن منظور: لسان العرب، مادة حبل 11/134.
            [4] الذهبي: تاريخ الإسلام 32/25، والحلل الموشية، ص38، 39.
            [5] الغمَّاء: الشديدة من شدائد الدهر. ابن منظور: لسان العرب، مادة غمم 12/441، والمعجم الوسيط 2/663.
            [6] الوَجْنَة: ما ارتفع من الخَدَّين للشِّدْق والمَحْجِر. والوجناء: تامة الخَلْق غليظة لحم الوَجْنةِ صُلْبة شديدة. ابن منظور: لسان العرب، مادة وجن 13/443.
            [7] الذهبي: تاريخ الإسلام 32/24-26، وانظر: الحميري: الروض المعطار ص288، والحلل الموشية ص38-42.
            [8] الذِّبَّان جمع: ذُباب. ابن منظور: لسان العرب، مادة ذبب 1/380.
            [9] اللمطية: نسبة إلى لمطة وهي قبيلة بأرض المغرب الأقصى. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/23.
            [10] انظر: الحميري: الروض المعطار، ص 288، وصفة جزيرة الأندلس، ص85، والمقري: نفح الطيب، 4/358، السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 2/38.
            [11] الملك عقيم: مَثَلٌ يراد به أن الْمَلِكَ لو نازعه وَلَدُه مُلْكَه لم يلبث أن يُهلكه، فيصير كأنه عقيم لم يُولد له. العسكري: جمهرة الأمثال 2/247، والميداني: مجمع الأمثال 2/311 .
            [12] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام 32/25، والحميري: الروض المعطار ص288، والسلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2/38.

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #96
              سقوط طليطلة

              طليطلة .. الثغر الأوسط لبلاد الأندلس

              كان نتيجة زلزال عصر ملوك الطوائف هو سقوط طليطلة، ففي سنة (478هـ= 1085م) سقطت طليطلة، هذا الثغر الإسلامي الأوسط في بلاد الأندلس، تلك المدينة العظيمة التي كانت عاصمة للقوط قبل دخول المسلمين في عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله.
              طليطلة التي فتحها طارق بن زياد بستة آلاف؛ فتحها بالرعب قبل مسيرة شهر منها.
              طليطلة الثغر الذي كان يستقبل فيه عبد الرحمن الناصر الجزية من بلاد النصارى، ومنه كان ينطلق هو ومَنْ تبعه من الحكَّام الأتقياء لفتح بلادهم في الشمال.

              طليطلة المدينة العظيمة الحصينة، التي تحوطها الجبال من كل النواحي عدا الناحية الجنوبية.

              هجمات النصارى على طليطلة



              أما عن قصة سقوط طليطلة: فقد تعرَّضت مدينة طليطلة لهجمات كثيرة من النصارى في عهد فرناندو الأول وابنه ألفونسو السادس، هذا إضافة إلى غارات ملوك الطوائف المجاورة لها إثر النزاعات المتبادلة بينهم، وكان النصارى على علم بأن طليطلة واسطة العِقد في بلاد الأندلس، فلو سقطت فمِنَ المؤكَّد أن تسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية وهكذا تباعًا.


              سذاجة المأمون بن ذي النون

              تُرى لو يعلم المأمون بن ذي النون أن ألفونسو هو مَنْ سيُسقط طليطلة، هل كان سيُحسن ضيافته؟!

              إنها لسذاجة حقًّا من المأمون، فألفونسو الذي هرب من حرب أهلية مع أخيه سانشو، وأحسن المأمون ضيافته تسعة أشهر كاملة.. وأخذ عليه عهده أن يحفظ طليطلة له ولأبنائه.. وقَبِلَ ألفونسو، وكأنه استخفَّ بعقل ذلك الرجل!

              المأمون بن ذي النون يستضيف ابن فرناندو الذي أثقل كاهله وكاهل المسلمين بالجزية والغارات والإتاوات، الآن يستقبل ابنه الذي عمَّا قليل سيُسقط طليطلة!
              يبدو أن ألفونسو كان أكبر ذكاءً من المأمون؛ إذ كان ألفونسو يتريَّض في جنبات طليطلة ويأكل من خيراتها، ويُخَالِط أهلها، ويعرف كمائنها ونقاط قوَّتها وضعفها، ويتأمل أسوارها، لقد جعل ألفونسو حياته في طليطلة من منفى إلى مهمة استخباراتية سيحتاج إليها بعد حين.

              وما هي إلاَّ أشهر قليلة وأصبح ألفونسو ملكًا على قشتالة سنة 1072م، وأخذ يُعِدُّ عُدَّته لإسقاط طليطلة.

              فساد القادر بن ذي النون

              مات المأمون بقرطبة وخلفه من بعده حفيده يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن ذي النون وذلك سنة (467هـ=1075م)، وتلقَّب بالقادر بالله، وكان القادر بالله سيئ الرأي، فاسد الخُلُق، أحاط نفسه ببطانة سوء، فتحكَّمَت فيه نساء القصر، وسار وراء هوى الغانيات والمغنيات، وما لبثت هذه البطانة السيئة حتى أوغروا صدره على وزيره الرجل القوي ابن الحديدي، الذي قتله في أوائل ذي الحجة (468هـ=1076م)[1].

              وما لبث القادر أن جنى عاقبة فساده واعتماده على بطانة السوء، وانهالت عليه الثورات والهموم من كل جانب؛ فالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة يُرهقه بغاراته من ناحية، وأبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية أعلن الثورة والاستقلال، والنصارى من ناحية ثالثة يُغيرون على أعمال مملكته، وكادت قونقة أن ينتزعها منه سانشو راميرو ملك أراجون، لولا أنه افتداها بمبلغ كبير من المال، وحاول القادر أن يجد عونًا ونصيرًا له أمام تلك المتاعب والهموم، فالتجأ إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، يطلب مساعدته، وبالطبع وافق ألفونسو، ولكن في مقابل ماذا؟!

              وافق ألفونسو في مقابل أن يتنازل له القادر بن ذي النون عن بعض الحصون القريبة من الحدود، وقد تَسَلَّم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك إضافة إلى الأموال الباهظة التي اشترطها عليه، والتي يعجز عنه القادر، إلا أنه وافق لحاجته إليه!

              ثورة أهل طليطلة

              في خضمِّ كل هذه الأحداث كان المتآمرون داخل طليطلة يُمَهِّدُون لثورة انقلابية على القادر وأعوانه، وأمام هذه التنازلات المخزية من القادر، واستشراء الفساد في طليطلة اندلعت ضده الثورة الداخلية ونادت بالإطاحة به، وفعلاً هرب القادر من طليطلة إلى حصن وبذة، وأصبح أهل طليطلة بلا أمير ولا حكومة ولا نظام، فاستقدموا المتوكل بن الأفطس ليحكم البلاد سنة (472هـ=1079م).

              ألفونسو يعيد القادر على حراب الصليبيين

              انتقل القادر بن ذي النون من ملجئه في وبذة إلى مدينة قونقة، وأرسل إلى ألفونسو يطلب مساعدته، ويُذَكِّره بسالف الودِّ بينه وبين جدِّه المأمون وما كان للمأمون من فضل في عونه وإغاثته، فاستجاب له ألفونسو، وسار معه في سرية من جنوده، فهي فرصة سانحة لألفونسو أن يبسط سلطانه على القادر، إلى أن تحين الفرصة ويبسط سلطانه على المدينة كلها، فعاد القادر مرَّة أخرى بمعونة ألفونسو ملك قشتالة، وحاصرت قوَّات النصارى طليطلة، مما اضطر المتوكل بن الأفطس إلى أن يخرج منها بعد أن أخذ من أسلاب القادر ما شاء؛ من أثاث وفراش وآنية، وسلاح وكتب وغيرها، وبعث بها إلى بطليوس، ونجحت قوَّات ألفونسو في الدخول إلى طليطلة وإعادة القادر إليها بعد عشرة أشهر من خروجه منها، ودخل القادر طليطلة في حمى النصارى وجنودهم، ويقال: إن ألفونسو حاصر طليطلة والمتوكل بداخلها، واضطر المتوكل أن يغادرها بالفرار، وكان ذلك في ذي الحجة سنة (473هـ=1080م) [2].

              ألفونسو يحاصر طليطلة

              الواقع أن ألفونسو كان قد أعدَّ عُدَّتَه للقضاء على طليطلة، ووضع خطته العسكرية التي تُمَهِّد لمشروعه الواسع بالسيطرة على ممالك الطوائف كلها، وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية لَمَّا رأى من استفحال أمر ألفونسو وقوَّته فكر كيف يصنع؛ وبدلاً من أن يسلك مسلك الشرفاء الأعزاء فيُساند طليطلة، أو يسارع فيُكَوِّن حلفًا من ملوك المسلمين، إذا به يخشى على نفسه من أن ينساب تيار الغزو القشتالي إلى مملكته، فرأى أن يعقد مهادنة وصلحًا مع ألفونسو يأمن بها على أراضيه، فبعث وزيره ابن عمار ليتفاوض مع ألفونسو، وتمت المعاهدة والاتفاق على ما يلي:
              - يُؤَدِّي المعتمد للملك القشتالي الجزية سنويًّا.
              - يُسمح للمعتمد بغزو أراضي طليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّمَ منها إلى الملك القشتالي الأراضي الواقعة شمالي سيرامورينا (جبال الشارات).
              - لا يعترض المعتمد على مشروع ألفونسو القاضي بالاستيلاء على طليطلة.

              وهكذا ضحَّى المعتمد بمعقل إسلامي مهمٍّ؛ لكي يفوز بإمارات لم تخضع له بعد، وهذا خطأ سياسي جسيم يُضاف إلى أخطائه، ودلالة على استهتاره نحو أُمَّته ودينه[3].
              وفي شوال (474هـ=1082م) ضرب ألفونسو الحصار على طليطلة، وشدَّد غاراته عليها، وظلَّ على ذلك أربع سنوات كاملة؛ يُخَرِّب في الزروع والأراضي والقرى، وعاش الناس في ضيق وكرب، وليس بين المسلمين مجير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!

              وفي الوقت الذي تُحَاصَر فيه طليطلة كان ملوك الطوائف يُقَدِّمُون ميثاق الولاء والمحبَّة له؛ أي: الجزية والإتاوة، ولم يجرؤ أحد منهم على الاعتراض عليه في ذلك إلاَّ المتوكل بن الأفطس الذي أُخْرِج من طليطلة قبل قليل، وفي الوقت نفسه الذي تُحَاصَر فيه طليطلة نجد أن ممالك الطوائف الأخرى تتنازع فيما بينها، أو تَرُدُّ غارات النصارى المتواصلة عليها.

              ألفونسو على أعتاب طليطلة

              هكذا أضحت طليطلة وحيدة بلا مأوى!
              وهكذا أضحت طليطلة تنتظر ساعة الحسرة والسقوط.
              وهكذا تُركت طليطلة المدينة المنكوبة لمصيرها، وفي خريف سنة (477هـ=1084م) اقترب ألفونسو من المدينة، وأحكم الحصار بشدَّة، وضاق الناس ذرعًا، وكان موقف القادر مريبًا، وكأنَّ هناك اتفاقًا بينه وبين النصارى! وحاول أهل المدينة أن يُطيلوا انتظارهم عسى نجدة من المسلمين تنجدهم، ولكن ليس بين مسلمي الأندلس في ذلك الوقت مجير!

              ولما طال الحصار واستحكم على المسلمين وضاق بهم، أرسلوا جماعة من زعمائهم إلى ألفونسو تتحدث عن الصلح والمهادنة، فما كان من ألفونسو إلا أن أهانهم، وسخر منهم واستدعى سفراء ملوك الطوائف، وقد كانوا جميعًا يومئذ لديه يخطبون ودَّه، ويُقَدِّمُون إليه الأموال، وهكذا خرج زعماء طليطلة وقد فقدوا أملهم، عادوا خائبين، وأيقنوا سوء المصير[4].

              شروط ألفونسو على أهل طليطلة

              مضى على الحصار إلى الآن تسعة أشهر، وتحطَّمت كل الآمال المرجوَّة في الصلح والهدنة، وهكذا عرضت المدينة التسليم، بعد أن عجزت عن المقاومة، وبعد أن سَلَّمها ملوك الطوائف ثمنًا لدينهم، وشرفهم وعزَّتهم!
              وكان من ضمن شروط التسليم:
              - أن يُؤَمَّن أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم.
              - أن يُغادرها مَنْ يشاء حاملاً أمواله، وأن يُسمح لمن عاد منهم باسترداد أموله.
              - أن يُؤَدُّوا الجزية إلى ملك قشتالة على ما كانوا يُؤَدُّونَه لملوكهم من المكوس والضرائب.
              - أن يحتفظ المسلمون للأبد بمسجدهم الجامع، وأن يتمتَّعُوا بالحرية التامَّة في إقامة شعائرهم وشريعتهم.
              - تسليم سائر القلاع والحصون.
              وأما بالنسبة للقادر بن ذي النون:
              يمكِّنه ملك قشتالة من الاستيلاء على بلنسية، وبالتالي تخضع له القواعد الشرقية كلها[5].

              خروج القادر بن ذي النون من طليطلة

              وكانت هذه العلاقة المشئومة بين القادر بن ذي النون وألفونسو السادس ملك قشتالة سببًا في سقوط طليطلة، وخروج القادر المنكود منها ذليلاً هو وأهله، وما أبلغ تعبير ابن بسام في وصف حال القادر عند خروجه! إذ يقول: «وخرج ابن ذي النون خائبًا مما تمنَّاه، شرقًا بعقبى ما جناهُ، والأرض تَضِجُّ من مُقامه، وتستأذنُ في انتقامه، والسماء تودُّ لو لم تُطْلِعْ نَجْمًا إلاَّ كدَرَتْهُ عليه حَتْفًا مبيدًا، ولم تُنْشِئ عارضًا إلا مَطَرَتْهُ عذابًا فيه شديدًا، واستقرَّ بمحَلَّة أذفنوش (ألفونسو) مخفورَ الذِّمَّة، مُذَالَ الحرمة، ليس دونه باب، ولا دونَ حُرمِه سِترٌ ولا حجاب، حدَّثَنِي مَنْ رآه يومئذ بتلك الحال وبيده أصطرلابٌ؛ يرصدُ فيه أيّ وقت يَرْحَل، وعلى أي شيء يعوِّل، وأيّ سبيلٍ يتمثَّل، وقد أطافَ به النصارى والمسلمون، أولئكَ يضحكونَ من فِعله، وهؤلاء يتعجَّبونَ من جهله»[6].

              وما أبلغ شماتة ابن الخطيب في القادر وأهله عندما قال: «والطاغيةُ بين يديه يَتَبَحْبَح[7] بيده عنده، واستقرَّ بها شرَّ استقرار، واقتضاه الطاغيةُ الوَعْد، وسلبه الله النصر والسعد، وهلكت الذمم، واستُؤصلت الرِّمَم، ونُفِّذ عقابُ الله في أهلها جاحدي الحقوق، ومُتَعَوِّدي العقوق، ومُقيمي أسواق الشقاق والنفاق، والمَثَل السائر في الآفاق»[8].

              سقوط طليطلة



              وفي صفر (478هـ=1085م) دخل ألفونسو السادس ملك قشتالة طليطلة، وهكذا سقطت طليطلة وخرجت من قبضة الإسلام، وغدت عاصمة للنصرانية، وحاضرة لمملكة قشتالة، التي يتربَّع على عرشها ألفونسو السادس.


              وبسقوط طليطلة اهتزَّ العالم الإسلامي في الشرق والغرب، يُصَوِّره الشاعر ابن عسال بقوله: [البسيط]

              يَا أَهْلَ أَنْدَلُسٍ حُثُّوا مَطِيَّكُمُ

              فَمَـا الْمَقَـامُ بِهَـا إِلاَّ مِـنَ الْغَلَطِ
              الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى

              ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
              مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ

              كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ[9]

              وهي صورة عجيبة ينقلها ذلك الشاعر (إعلام ذلك الوقت) المحبَّط، حتى كأنَّه يدعو أهل الأندلس جميعًا بكل طوائفه ودويلاته إلى الهجرة والرحيل إلى بلاد أخرى غير الأندلس؛ لأن الأصل الآن هو الرحيل، أما الدفاع أو مجرَّد البقاء فهو ضرب من الباطل أو هو (الغلط) بعينه، ولقد سانده وعضَّد موقفه هذا أن من الطبيعي إذا ما انسلَّت حبة من العِقد -مثلاً- فإن الباقي لا محالة مفروط، فما الحال إذا كان الذي انسلَّ من العِقد هو أوسطه (طليطلة) أوسط بلاد الأندلس، فذاك أمر ليس بالهزل، بل وكيف يعيشون بجوار هؤلاء (الحيَّات) إن هم رضوا لهم بالبقاء؟! فما من طريق إلا الفرار وشدِّ الرِّحَال.

              استدعاء المرابطين

              وعلى إثر سقوط طليطلة، بدأ ألفونسو يُعِدُّ عُدَّته، ويتجهَّز للهجوم على الممالك الأخرى، لا سيما إشبيلية وبطليوس وسرقسطة وما حولهما، وبدأ ألفونسو يستخدم سياسة الاستهزاء والاستهتار بزعماء الأندلس، وتسمَّى بذي الملتين، وتطوَّر الأمر أن حاصر إشبيلية على نحو ما ذكرنا، حتى كان ما كان من فكرة الاستنجاد بالمرابطين.

              المعتمد بن عباد واستدعاء المرابطين

              إلاَّ أن ما يدلُّك على فساد الحكام في ذلك الوقت هو أن بعضهم رفض فكرة المعتمد، وراسله في أن يعود عن قرار الاستنجاد بالمرابطين، وخوَّفُوه من أن نزول المرابطين إلى الجزيرة قد يُغريهم بحكمها بأنفسهم، وحقًّا إن شهوة الملك هذه تُذهب الدين والعقل والمروءة وسائر الصفات الكريمة، فما أكثر الحسرات التي يعانيها القارئ في تاريخ الأندلس وهو يقرأ أخبار هذه الفئة التي سكنتها شهوة الحكم الصوري الضعيف الهش، الذي لا يتماسك أمام العدوِّ، ولا يتوسَّع إلاَّ على حساب دماء المسلمين، ويرضى بالذلِّ ودفع الجزية، ويسكت عن إخوانه المحاصرين والمقتولين، ولا يُبصر أن الدور سيأتي عليه، فلا يرضى حتى بالنجدة تعبر إليه لاحتمال أن تحوز الملك دونه! أيُّ فسادٍ في الدين هذا، بل في العقل، بل في الفطرة السوية؟!

              إلاَّ أن الله ألهم المعتمد بهذه العزيمة والإصرار، وقال كلمته الخالدة التي صارت مثلاً: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير». ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعُذَّاله ولوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما، أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة شكٍّ، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشكِّ فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه؟ فحينئذ قصر أصحابه عن لومه»[10].

              والحق أن المعتمد -أيضًا- لم يترك من حسنات في سيرته إلاَّ هذه الخطوة، ثم جهاده وصبره في معركة الزلاقة الذي سيأتي بيانه، أما قبل هذا القرار وبعده فهو ليس إلا واحدًا من ملوك الطوائف، سكنته شهوة السلطان؛ حتى أذهبت عنه كل أثر من عقل أو فضيلة، وسنراه كيف سيقاتل المسلمين المرابطين بما لم يفعل مثله مع النصارى.

              ولكن لا نسبق الأحداث؛ فأمام الحالة الإيمانية والجهادية العالية التي كان عليها المعتمد بن عباد تحرَّكت النخوة في قلوب الأمراء الآخرين، فقام المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فوافقوا المعتمد بن عباد في رأيه، وبذلك اجتمعت الحواضر الكبرى في الأندلس على استدعاء المرابطين، وتقدَّمت الوفود تلو الوفود إلى المغرب العربي؛ يقول الحميري: «وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم»[11].
              فمن هم المرابطون؟ وما صفاتهم؟ ومن يكون يوسف بن تاشفين؟
              هذا حديثنا في المقالات القادمة إن شاء الله.


              [1] ابن بسام: الذخيرة 7/150-155، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص179، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/107.
              [2] ابن بسام: الذخيرة 7/163، 164، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/108.
              [3] طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص443، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/109.
              [4] ابن بسام: الذخيرة 7/165-167، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/112، 113.
              [5] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/113، 114.
              [6] ابن بسام: الذخيرة 7/156-169.
              [7] التَّبَحْبُح: التمكن في الحلول والمُقامِ والنفقة. ابن منظور: لسان العرب، مادة بحح 2/406، والمعجم الوسيط 1/39.
              [8] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص181.
              [9] الصفدي: وفيات الأعيان 5/28، والمقري: نفح الطيب 4/352. والسَّفَط: وعاء يوضع فيه الطيب. المعجم الوسيط 1/433.
              [10] المقري: نفح الطيب 4/359.
              [11] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار 1/288، 289.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #97
                تاريخ المغرب قبل المرابطين

                قبيلة جدالة وأصل المرابطين



                في أعماق صحراء موريتانيا، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدَّة، والجدب المقفر، والحرُّ الشديد، وحيث أناس لا يُتْقِنُون الزراعة ويعيشون على البداوة.. في هذه المناطق كانت تعيش إحدى القبائل الأمازيغية (البربرية) الكبيرة، والتي تُدْعَى قبيلة صنهاجة، كانت هذه القبائل مجوسية تعيش في الصحراء بعيدًا عن أي عمران؛ حتى إن الرجل منهم ربما يُعَمَّر دهرًا طويلاً ويموت دون أن يرى في حياته خبزًا، فضلاً عن أن يتذوَّقه، وظلُّوا هكذا حتى انتشر فيهم الإسلام في القرن الثالث الهجري.


                ومع ابتعادهم في أعماق الصحراء في أقصى المغرب فقد استمروا على جهالتهم وبداوتهم فكأن لم يعرفوا الإسلام وتعاليمه وكأنه لم يدخل بلادهم، ثم اجتمعوا كلهم حول مَلِك واحد، ثم مات ملكهم وخلفه حفيده، ثم ابن حفيده الذي ثار عليه الصنهاجيون فقتلوه، واختلف أمرهم، وصاروا طوائف عديدة، ثم اجتمعوا بعد فترة أخرى حول ملك آخر كان من لمتونة (وهي قبيلة كبيرة من صنهاجة)، واسمه ابن تيفاون اللمتوني.

                غير أنه لم يُعَمَّر طويلاً، فقد مات في إحدى المعارك، فخلفه صهره يحيى بن إبراهيم الجدالي، الذي كان من قبيلة جدالة (وتنطق الجيم مثل الكاف الفارسية أو الجيم القاهرية)، التي هي -أيضًا- قبيلة كبيرة من صنهاجة مثلها مثل لمتونة، فصار يحيى بن إبراهيم رئيس صنهاجة.

                ومن أَعْجَبُ ما يرويه المؤرخون عن الجهل التام بتعاليم الإسلام ذلك الذي ساد الناس في هذا الزمن، أن يُخرج «أحدهم ابنه وابنته لرعي السوام، فتأتي البنت حاملاً من أخيها، فلا يُنكرون ذلك، وكان من دأبهم الإغارة بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا»[1]، وانتشر بينهم الزنا، ومصادقة الرجل للمرأة المتزوجة بعلم زوجها وحضوره[2]. وكان الرجل منهم يتزوج ما يشاء من النساء بلا عدد؛ حتى إن يحيى هذا -رئيسهم- كان متزوِّجًا من تسع نسوة، فهم لا يعرفون من الإسلام لا صلاة ولا زكاة ولا شرائع، اللهم إلا الشهادتين فحسب[3].

                لقد كانت هذه الأوضاع أشد وطأةً مما نحن عليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبَّر تلك الخطوات المنظَّمة التي سار أصحابها وَفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وإصلاح أحوال الأُمَّة.

                يحيى بن إبراهيم يحمل هَمَّ المسلمين

                أبو عمران الفاسي

                أراد يحيى بن إبراهيم الجدالي أن يحج، وكان الحج في هذا الزمان يعني -أيضًا- رحلة في طلب العلم، فاستخلف ابنه إبراهيم وسار إلى الشرق، وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسى بن عيسى الفاسي، وهو شيخ المالكية في مدينة القيروان، وكان المذهب المالكي هو المنتشر في بلاد شمال إفريقيا وإلى عصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس آنذاك، قابل يحيى بنُ إبراهيم أبا عمران الفاسي، ذلك العالم الكبير الذي يقول عنه الحميدي: فقيه القيروان، إمام في وقته، دخل الأندلس، وله رحلة إلى المشرق وصل فيها إلى العراق، وسمع بالقيروان وبمصر وبمكة وكان مكثرًا عالمًا[4]. كما وصفه الحميري في الروض المعطار بالفقيه الإمام المشهور بالعِلْم والصلاح[5].

                ونقل ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (المالكي) أنه كان من أحفظ الناس وأعلمهم؛ جمع حفظ المذهب المالكي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة معانيه، وكان يقرأ القرآن بالسبع ويُجَوِّده، مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم، أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه مَنْ لم يَلْقَه، وله كتاب التعليق على المدونة، كتابٌ جليل لم يُكْمَل، وغير ذلك[6].

                لا نشكُّ في أن يحيى سمع من الفقيه أبي عمران ما أدهشه وأيقظه، وعرَّفه بأن قومه يعيشون في جاهلية كبرى، ولا نشكُّ كذلك في أن يحيى –وهو الزعيم الحريص على أهله وقومه- حمل الهم الكبير لما اكتشفه من حقيقة الحال، وما هو إلا أن أخبر يحيى شيخه أبا عمران بأنه من قوم لا يعرفون شيئًا عن أمور دينهم، فعامَّة الناس لا يعرفون إلاَّ الشهادتين، وقليل من الخاصة مَنْ يُصَلُّون، وأنَّ لا علم لهم من العلوم ولا مذهب لهم من المذاهب؛ لأنهم منقطعون في الصحراء، لا يذهب إليهم إلاَّ بعض التجار الجهَّال، وأن فيهم أقوامًا يرغبون في تَعَلُّم العلم، والتفقُّه في الدين، لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فاختبره الفقيه حتى تأكد من حقيقة هذه الفاجعة[7].

                فعرض الفقيه ذلك على طلابه فأَبَوْا، فأرسله إلى أحد فقهاء بلاد المغرب ويُدعى وجاج بن زلو اللمطي، وكان من طلابه، وكان قد تَفَقَّه وجلس للتدريس، فرحل إليه يحيى الجدالي، فأرسل معه الفقيه وجاج واحدًا من ألمع وأذكى تلاميذه وهو عبد الله بن ياسين.


                [1] الذهبي: تاريخ الإسلام، 31/82.
                [2] علي الصلابي: دولة المرابطين، ص15.
                [3] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص124.
                [4] الحميدي: جذوة المقتبس، 1/338، باختصار.
                [5] الحميري: الروض المعطار، ص435.
                [6] ابن فرحون: الديباج المذهب، 2/337، 338.
                [7] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص122 وما بعدها.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #98
                  عبد الله بن ياسين وتأسيس دولة المرابطين

                  عبد الله بن ياسين

                  كان عبد الله بن ياسين- الزعيم الأول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم، (ت451هـ=1059م)- من فقهاء المالكية.

                  كان من حُذَّاق الطلبة الأذكياء النبهاء النبلاء، من أهل الدين والفضل، والتقى والورع والفقه، والأدب والسياسة، مشاركًا في العلوم[1]، قال الذهبي: «كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير»[2].
                  أي ذا شخصية قوية له علم وبصر بالأمور وله قدرة على حسن التصرف. وها هو ذا يَقبل القيام بهذه المهمَّة الكبيرة، التي أحجم عنها أقرانه من تلاميذ الفقيه وجاج، وفضَّل أن يُغَوِّر في الصحراء.

                  عبد الله بن ياسين ومهمة الأنبياء



                  اتَّجه الشيخ عبد الله بن ياسين صَوْب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرض المجدِبة والحرُّ الشديد، وفي أناةٍ شديدة، وبعدما هالَه أمر الناس في ارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض، ولا يُنْكِر عليهم مُنْكِر، بدأ يُعَلِّم الناسَ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان الناس في جهل مطبق يصفه القاضي عياض -رحمه الله- بقوله: كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما[3].


                  ولكن ثار عليه زعماء القوم وأصحاب المصالح، فهم أكبر مستفيد مما يحدث، فبدأ الناس يجادلونه ويصدُّونه عمَّا يفعل، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجُدالي زعيم القبيلة أن يحميه.

                  لم يقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرَّة تلو المرَّة، فضربوه وأهانوه، ثم هَدَّدُوه بالطرد من البلاد أو القتل، إلا أن موقف الشيخ لم يَزْدَدْ إلاَّ صلابة، ومرَّت الأيام وهو يدعو ويدعو، حتى طردوه بالفعل، ولسانُ حالهم: دعك عنا، اتركنا وشأننا، ارجع إلى قومك فعَلِّمهم بدلاً منا، دع هذه البلاد تعيش كما تعيش فليس هذا من شأنك. وكأني أراه رأي العين وهو يقف خارج حدود القبيلة وبعد أن طرده الناس، تنحدر دموعه على خدِّه، ويقول مشفقًا على قومه: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26].

                  يُريد أن يُغَيِّر ولا يستطيع، أنْفُسٌ تتفلَّتُ منه إلى طريق الغواية والانحراف عن النهج القويم، ولا سبيل إلى تقويمها، حزَّ في نفسه أن يُولَد الناس في هذه البلاد فلا يجدون مَنْ يُعَلَّمهم ويُرْشِدهم، فأراد أن يبقى، ولكن كيف يبقى؟ أيَدخل جُدَالة من جديد؟ إذًا سيقتلونه، فلو كان في مقتله صلاح لهم فأهلاً بالموت، لكن هيهات ثم هيهات!

                  عبد الله بن ياسين ونواة دولة المرابطين

                  جلس عبد الله بن ياسين يُفكِّر ويمعن النظر، فهداه ربُّه تعالى ، فما كان منه إلاَّ أن تعمَّق في الصحراء ناحية الجنوب بعيدًا في أعماق القارة الإفريقية، حتى وصل إلى جزيرة يُرَجَّح أنها تقع في منحنى نهر (النيجر)، على مقربة من مدينة تنبكتو، فمن هنا بدأ أمر المرابطين[4]، يصف ابن خلدون هذه الجزيرة بقوله: «يحيط بها النيل[5]، ضَحْضَاحًا[6] في الصيف، يخاض بالأقدام، وغمرًا[7] في الشتاء يُعْبَر بالزوارق»[8].

                  صنع عبد الله بن ياسين خيمة بسيطة، وكان من الطبيعي أن يكون في جُدَالة بعض الناس- وخاصَّة من الشباب- الذين تحرَّكت قلوبهم وفطرتهم السويَّة لهذا الدين، فحين علموا خبر شيخهم في مقرِّه البعيد هذا، نزلوا إليه من جنوب موريتانيا ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر سبعة نفر من جدالة، على رأسهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي[9]، الذي ترك قومه ومكانته فيهم ونزل مع الفقيه، وتضيف بعض المصادر أن معهم اثنين من كبار قبيلة لمتونة؛ هم: يحيى بن عمر وأخوه أبو بكر[10]!

                  وفي خيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يُعَلِّمهم الإسلام كما أنزله الله تعالى على نبيِّه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف أنَّ الإسلام نظام شامل متكامل، يُنَظِّم كل أمور الحياة.

                  تربية المرابطين

                  مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلى الخمسين، فالمائة، فالمائة وخمسين، فالمائتين، أصبح من الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسَّمهم إلى مجموعات صغيرة، وجعل على كلٍّ منها واحدًا من النابغين، وهو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يُعَلِّمهم الإسلام، وفي بيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلاً من أهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهم نقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرَّة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلمين دولتهم.

                  وهكذا -أيضًا- كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة (440هـ=1048م)، بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى الجزيرة إلى ألف نفس مسلمة، {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].

                  فبعد أن طُرد الرجل وأُوذي في الله وضُرب وهُدِّد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماق الصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدَّى أربع سنوات يتخرَّج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلام وفقه الواقع.

                  يروي ابن أبي زرع فيصف هذه المرحلة من حياة المرابطين بقوله: «فدخلاها (الجزيرة) ودخل معهما سبعة نفر من كدالة، فابتنيا بها رابطة، وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة من ثلاثة أشهر، فتسامع الناس بأخبارهم، وأنهم يطلبون الجنة والنجاة من النار، فكثر الوارد عليهم والتوابون، فأخذ عبد الله بن ياسين يُقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الآخرة، ويُرَغِّبهم في ثواب الله تعالى، ويُحَذِّرهم أليم عذابه، حتى تمكَّن حُبُّه منهم في قلوبهم، فلم تمر عليهم أيام حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته، وأخذ هو يُعَلِّمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة، وما فرض الله عليهم من ذلك، فلما تفقهوا في ذلك وكثروا قام فيهم خطيبًا، فوعظهم وشَوَّقهم إلى الجنة، وخَوَّفهم من النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك من ثواب الله تعالى وعظيم الأجر، ثم دعاهم إلى جهاد مَنْ خالفهم من قبائل صنهاجة، وقال لهم: يا معشر المرابطين؛ إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حقَّ جهاده. فقالوا: أيها الشيخ المبارك؛ مُرْنَا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا. فقال لهم: اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخَوِّفُوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحقِّ وأقلعوا عمَّا هم عليه فخلوا سبيلهم، وإن أَبَوْا من ذلك وتمادوا في غيهم ولجُّوا في طغيانهم، استعنَّا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين. فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته، فوعظهم وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عمَّا هم بسبيله، فلم يكن منهم من يقبل ولا يرجع، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين، فجمع أشياخ القبائل ورؤساءهم وقرأ عليهم حجة الله، ودعاهم إلى التوبة، وخَوَّفهم عقاب الله، فأقام يُحَذِّرهم سبعة أيام وهم في كل ذلك لا يلتفتون إلى قوله، ولا يزدادون إلا فسادًا، فلمَّا يئس منهم قال لأصحابه: قد أبلغنا الحجة وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله تعالى»[11].

                  معنى المرابطين

                  أصل كلمة الرباط هي ما تُربط به الدابَّة، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمَّنْ خلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد[12]، وروى البخاري بسنده عن سهل بن سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا...» الحديث[13].

                  ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يَتَّخِذُون خيامًا على الثغور يحمون فيها ثغور المسلمين، ويُجاهدون في سبيل الله؛ فقد تَسَمَّى الشيخ عبد الله بن ياسين ومَنْ معه ممن كانوا يُرابطون في خيام على نهر السنغال بجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.

                  كما تُطْلِق عليهم بعض المصادر الملثَّمِينَ، فيُقال: أمير الملثمين، ودولة الملثمين. ويرجع سببُ هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان) إلى أنهم: «قوم يتلثَّمُون ولا يكشفون وجوههم؛ فلذلك سَمَّوْهُم الملثَّمين، وذلك سُنَّة لهم يتوارثونها خلفًا عن سلفٍ، وسبب ذلك على ما قيل: أن (حِمْيَرَ) كانت تتلثَّم لشدَّة الحرِّ والبرد، يفعله الخواصُّ منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامَّتُهم. وقيل: كان سببه أن قومًا من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم، فيطرقون الحي، فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زيِّ الرجال إلى ناحية، ويقعدوا هم في البيوت ملثَّمين في زيِّ النساء، فإذا أتاهم العدوُّ ظنُّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبرُّكًا بما حصل لهم من الظفر بالعدوِّ»[14].

                  وقال ابن الأثير في سبب اللثام: وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا غائرين على عدوٍّ لهم، فخالفهم العدوُّ إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلاَّ المشايخ والصبيان والنساء، فلمَّا تحقَّق المشايخ أنه العدوّ، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال ويتلثَّمن ويُضَيِّقْنَه حتى لا يُعْرَفْنَ، ويلبسن السلاح، ففعلن ذلك، وتقدَّم المشايخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدوُّ؛ رأى جمعًا عظيمًا فظنَّه رجالاً، فقال: هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجًا عن حريمهم. فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي، فبقي العدوُّ بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدوِّ فأكثروا، وكان من قتل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سُنَّة يُلازمونه، فلا يُعرف الشيخ من الشاب، فلا يُزيلونه ليلاً ولا نهارًا، ومما قيل في اللثام: [الكامل]
                  قَوْمٌ لَهُمْ دَرْكُ الْعُلا فِي حِمْيَرٍ

                  وَإِنِ انْتَمَوْا صِنْهَاجَةً فَهُمُ هُمُ
                  لَمَّا حَوَوْا إِحْرَازَ كُلِّ فَضِيلَةٍ

                  غَلَبَ الْحَيَاءُ عَلَيْهِمُ فَتَلَثَّمُوا[15]

                  إنَّ مَنْ يقرأ عن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة، يظنُّ أنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمران ومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق؛ بل كان هذا الاعتزال جزءًا من خطة كبيرة، يتمُّ تنفيذها خطوة بعد خطوة، بفهم سليم وعمق في التفكير، ودقَّة في التخطيط، وبراعة في التنفيذ.

                  عندما وصل عدد المرابطين إلى ألف، بعثهم الشيخ ابن ياسين إلى أقوامهم لينذروهم، ويطلبوا إليهم الكف عن البدع والضلالات، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أُمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يُصْغِ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذَّرهم عقاب الله، ونصحهم باتباع أحكامه، فلم يلقَ منهم سوى الإعراض والتحدي، فعندئذٍ قرر عبد الله وصحبه إعلان الحرب على أولئك المخالفين[16].

                  وبالفعل بدءوا يستعدُّون لغزو البلاد والقبائل المحيطة بهم، وأرسلوا يُنذرون ويُعذرون، ثم بدأت غزواتهم بالفعل للقبائل والبلاد، ففتحوا الكثير منها، وأخضعوا القبائل المحيطة بهم، وتسامع بهم فقهاء بعض البلاد الأخرى، فأرسلوا إليهم ليُخَلِّصُوهم من حكامهم الطغاة.

                  يحيى بن عمر اللمتوني

                  استشهد أمير المرابطين يحيى بن إبراهيم الجدالي في إحدى الغزوات المرابطية، والأمير يحيى هو الرجل الذي بدأ به أمر المرابطين، وهو أحد السبعة الذين انعزلوا مع الشيخ ابن ياسين في الرباط بعد أن أُخرج من أراضي جدالة في أول الأمر، فعرض عبد الله بن ياسين الزعامة على جوهر الجدالي ولكن جوهرًا زهد فيها وأعرض عنها، فما كان من عبد الله بن ياسين إلا أن اتخذ قرارًا حكيمًا وبعيد النظر حقًّا، ألا وهو صرف الزعامة إلى يحيى بن عمر اللمتوني[17]، وقد كان هو وأخوه فقط من قبيلة لمتونة –ثاني القبائل الكبرى في المنطقة- مع السبعة من جدالة، الذين انحازوا إلى الرباط مع الشيخ ابن ياسين في أول الأمر.

                  وفي الحقيقة نحن لا نستبعد أن يكون الشيخ ابن ياسين قد اتفق مع جوهر الجدالي –زعيم جدالة بعد يحيى- على التنازل عن الرئاسة ليحيى بن عمر اللمتوني؛ لِمَا في تولِّيه الرئاسة على قوم غالبيتهم من جدالة[18] من معانٍ تربوية تقاوم ترسبات العصبيات القديمة، كذلك لما في هذا من مصلحة الدعوة وجذب اللمتونيين، فلقد كان يحيى وأبو بكر من زعماء لمتونة، لكنهما تركا هذه الزعامة لِما آمنا به من دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين. ولقد كان لا بُدَّ من عرض الأمر أولاً على جدالي فيتركها لئلاَّ يظن الجداليين ظنًّا سيئًا بالطريقة التي جعلت لمتونيًّا زعيمًا عليهم؛ إن آثار التعصب القبلي والعائلي لا تزول في سنوات قليلة، وكان لا بُدَّ من مراعاتها في مثل هذه القرارات الفارقة، ولقد شهد التاريخ أن الشيخ ابن ياسين قد نجح بالفعل في هذا القرار الفارق، وصار يحيى بن عمر اللمتوني زعيمًا للمرابطين.

                  كان هذا في سنة (445هـ=1053م)، وبالفعل وبتأثير من هذا القرار وكذلك بازدياد نطاق الجهاد المرابطي، الذي تساقطت أمامه الإمارات والقبائل الصغيرة والمتناثرة، اتسعت دولة المرابطين ودخل في سلطانها الآلاف من الناس.

                  وفي مثال لحُسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لَمْتُونة في جماعة المرابطين يستشهد زعيمهم الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني في إحدى غزواتهم سنة (447هـ=1055م)، ثم يتولَّى من بعده أخوه الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.

                  أبو بكر بن عمر اللمتوني

                  وقد دخل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأ أمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جُدَالة، فأصبحت جُدَالة ولَمْتُونة -وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا- جماعة واحدةً تمثِّل جماعة المرابطين.

                  ثم تنتهي قصة المؤسس الكبير والاسم الخالد الشيخ عبد الله بن ياسين باستشهاده في حرب برغواطة التي كانت –كما يقول المؤرخون- على غير ملة الإسلام، في سنة (451هـ=1059م) بعد أن أمضى أحد عشر عامًا من تربية الرجال على الجهاد.


                  [1] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص123، والسلاوي: الاستقصا، 2/7.
                  [2] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 31/80.
                  [3] القاضي عياض: ترتيب المدارك، 2/64.
                  [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/302.
                  [5] المقصود هنا فرع من نهر النيجر، ولا علاقة له بالنيل الذي في مصر والسودان، وقد كان يُعرف هذا النهر في ذلك الوقت باسم النيل.
                  [6] الضحضاح: الماء القليل وقريب القعر يكون في الغدير وغيره. انظر: الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الضاد 1/385، وابن منظور: لسان العرب، مادة ضحح 2/524، والمعجم الوسيط 1/534.
                  [7] الغَمْر: الماء الكثير الذي يعلو ويغطي الأماكن. انظر: الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الغين 2/772، وابن منظور: لسان العرب، مادة غمر 5/29، والمعجم الوسيط 2/661.
                  [8] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/183
                  [9] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص125، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص227، والسلاوي: الاستقصا، 2/8.
                  [10] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/183.
                  [11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص125، وما بعدها، والسلاوي: الاستقصا 2/8.
                  [12] انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ربط 7/302.
                  [13] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله 2735، والترمذي 1664، وأحمد 22923، والبيهقي 17665.
                  [14] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/129.
                  [15] ابن الأثير: الكامل، 8/331، والبيتان نُسِبَا لأبي محمد بن حامد الكاتب، انظر: السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2/4.
                  [16] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/302، 303.
                  [17] ابن الأثير: الكامل 8/328.
                  [18] سبق أن ذكرنا أن لمتونة وجدالة كانتا القبيلتين القويتين والكبريين في هذه المنطقة من المغرب الأقصى، ويمكن تقريب الصورة لدى القارئ باستحضاره ما كان بين الأوس والخزرج قبل الإسلام.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #99
                    يوسف بن تاشفين والعبور إلى الأندلس

                    سقوط طليطلة والاستعانة بالمرابطين



                    في سنة (478هـ=1085م) كانت قد سقطت طليطلة، ومنذ سقوطها في ذلك التاريخ لم تَعُدْ إلى المسلمين، ثم حوصرت إشبيلية؛ مع أنها كانت تقع في الجنوب الغربي للأندلس وبعيدة عن مملكة قشتالة النصرانية التي تقع في الشمال، ثم كاد المعتمد بن عباد أن يحدث معه مثلما حدث مع بربشتر أو بلنسية لولا أن مَنَّ الله عليه بفكرة الاستعانة أو التلويح بالاستعانة بالمرابطين.


                    ويبدو أن فكرة الاستعانة بالمرابطين كانت فكرة شعبية خرجت أول ما خرجت من العلماء والمشايخ، وتلقاها العامة بالقبول والتأييد، ثم صارت مطلبًا عامًّا، ونداء متكررًا يجد الدعم الشعبي، ويوحى به عند الأمراء، ومن الواضح -أيضًا- أنها بدأت من قبل سقوط طليطلة بأعوام، ولو أن ملوك الطوائف امتلكوا مثل هذا الوعي الشعبي لكانوا قد منعوا سقوط طليطلة، وما لحقهم من الذل قبلها وبعدها.

                    يُورد النويري أنه قد «بلغ مشايخ قرطبة ما جرى، فاجتمعوا بالفقهاء وقالوا: هذه مدائن الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبقَ منها إلاَّ القليل، وإن استمرَّت الأحوال على ما نرى عادت نصرانيةً كما كانت. ثم ساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغَار والذلة، وإعطائهم الجزية إلى الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم، وابن عباد هو الذي حمل الفرنج على المسلمين، حتى جرى ما جرى وطلب منه ما طلب، وقد دبَّرنا رأيًا نعرضه عليك. قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونُعلمهم أنهم إن وصلوا إلينا قاسمناهم في أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله تعالى. قال: أخاف أن يُخَرِّبُوا الأندلس كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدءوا بكم، والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالاً. قالوا: فكاتب يوسف بن تاشفين ورغِّب إليه أن يدخل إلينا بنفسه، أو يرسل إلينا قائدًا من قوَّاده. قال: أمَّا الآن فقد أشرتم برأي فيه السَّداد. وقَدِمَ المعتمد إلى قُرْطُبَة في أثر ذلك، فدخل عليه القاضي وأعلمه بما دار بينه وبين أهل قُرْطُبَة وما اتفقوا عليه، فقال المعتمد: نِعْمَ ما أشاروا به، وأنت رسولي إليه. فامتنع القاضي واستعفاه، وإنما أراد أن يُقَوِّيَ عزمه على إرساله، فقال: لا أجد لها غيرك.

                    فسار القاضي وصحبه أبو بكر ابن القصيرة الكاتب إلى أمير المسلمين، فوجداه بسبتة، فأبلغاه الرسالة، وأعلماه بحال المسلمين وما هم عليه من الخوف والجزع من الأذفونش، وأنهم يستنصرون بالله ثم به؛ وأن المعتمد يستنجد به...» [1].

                    بل نستطيع أن نقول: إن حركة المشايخ والفقهاء قد وصلت إلى يوسف بن تاشفين من قبل هذا، ففي سنة 474هـ، وفد جماعة من أهل الأندلس على يوسف بن تاشفين، وشَكَوْا إليه ما حلَّ بهم من أعدائهم، فوعدهم بإمدادهم، وإعانتهم، وصرفهم إلى أوطانهم[2].

                    كما وردت عليه -أيضًا- الرسائل والكتب من أهل «الأندلس، يبثُّون حالهم، ويُحَرِّكونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها ورد عليه عبد الرحمن بن أسباط من ألمرية؛ يشرح حال الأندلس»[3].

                    وكان ممن كتب إليه –قبل ذلك- المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستصرخه حين هاجم العدوُّ بلاده، ولما بلغ خطابه هذا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتب إليه يَعِدُه بالجواز، والإمداد على العدو[4].

                    يوسف بن تاشفين يمهد للعبور

                    إلاَّ أن يوسف بن تاشفين كانت لديه مشكلتان رئيستان؛ الأولى: أنه لم يُسيطر على سبتة، وهو الميناء المهم الذي يُعَدُّ منفذًا لدخول الأندلس، فقد كان ما يزال تسيطر عليه قبيلة برغواطة وعليهم زعيمهم سقوت البرغواطي. والثانية: أنه ما كان يمكنه العبور إلى الأندلس من دون النزول في أراضي غرناطة أو إشبيلية، فهي أقرب المناطق إلى المغرب؛ لذا فما كان أمام ابن تاشفين إلا أن ينتظر رسالة من المعتمد بن عباد لكي يستطيع أن ينزل إلى الأندلس بأمان ولا يُعتبر محاربًا مهاجمًا لأراضي إشبيلية أو غرناطة.

                    إلا أن ابن تاشفين –بعد أن وصلته استغاثات الأندلس- وجَّه جهوده إلى فتح سبتة، ففتحها بالفعل، ثم بدأ يستكثر من الأعداد وتجهيز الإمدادات منتظرًا أن تأتيه الرسل من ابن عباد ملك إشبيلية.

                    ولا شكَّ أن ابن عباد كان يفهم كل هذا ويعلمه؛ ولذلك فإنه لما راسل ابن تاشفين خاطبه خطاب مَنْ يعرف وعوده السابقة للعامة وللمتوكل ابن الأفطس، «منتجزًا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية»[5].

                    المعتمد بن عباد يرد على ألفونسو

                    انتشر في الأندلس الرد الذي كتبه المعتمد إلى ألفونسو والذي يُهَدِّده فيه بالجيوش المرابطية، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدوِّ، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفُتحت لهم أبواب الآمال، وأما ملوك طوائف الأندلس فلمَّا تحقَّقوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتمُّوا منه -أي: صاروا مهمومين مما عزم عليه- ومنهم مَنْ كاتبه، ومنهم مَنْ كَلَّمَه مواجهة، وحَذَّرُوه عاقبة ذلك، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير. ومعناه: أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا له يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذَّاله ولُوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما؛ أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشكِّ، وأمَّا حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدعُ ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه. فحينئذٍ قصر أصحابه عن لومه[6].

                    وكان ممن وافق ابن عباد على رأيه المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، وكذلك عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فأصبحت (غرناطة وإشبيلية وبطليوس) الحواضر الإسلامية الضخمة متَّفِقَة على الاستعانة بالمرابطين.



                    وفور موافقة الأمراء الثلاثة جعلوا منهم سفارة كانت مكونة من قضاة المدن الثلاث: قاضي الجماعة بقرطبة أبو بكر بن أدهم، وقاضي غرناطة أبو جعفر القليعي، وقاضي بطليوس أبو إسحاق بن مُقانا، ثم أضاف المعتمد إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين، وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بُدَّ منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وعلى هذا، فقد كان الوفد مكوَّنًا من هؤلاء الأربعة فقط[7].


                    وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم([8]).

                    وفي سنة (478هـ=1085م) يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبَل بعض ملوك الطوائف -كما ذكرنا- يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدِّ هجمات النصارى عليهم[9]، فأَعَدَّ العُدَّة –رحمه الله- وجهَّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق وفي وسطه يهيج البحر، وترتفع الأمواج، وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا، خاشعًا ذليلاً، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
                    «اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعِّبْه عليَّ حتى لا أجوزه». فتسكن الريح، ويَعْبُر هو ومَنْ معه[10]، وعند أول وصول له -والوفود تنتظره ليستقبلوه استقبال الفاتحين- يسجدُ لله شكرًا أنْ مكَّنَهُ من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًّا من جنوده U ومجاهدًا في سبيله[11].


                    [1] النويري: نهاية الأرب، 23/266، 267، وابن الأثير: الكامل 8/445، 446.
                    [2] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
                    [3] ابن الخطيب: الإحاطة، 4/350.
                    [4] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
                    [5] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/186.
                    [6] المقري: نفح الطيب، 4/359.
                    [7] الحميري: الروض المعطار، ص288، والمقري: نفح الطيب، 4/359، والسلاوي: الاستقصا، 2/39.
                    [8] الحميري: الروض المعطار، ص289.
                    [9] انظر: ابن الأثير: الكامل، 8/446.
                    [10] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص145، والسلاوي: الاستقصا، 2/34، وانظر رسالته إلى تميم بن باديس، نقلاً عن محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/447.
                    [11] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/320.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • معركة الزلاقة

                      دخول المرابطين الأندلس



                      يدخل يوسف بن تاشفين والمرابطون أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يقصد إلى بطليوس حيث كانت على مقربة من الزلاقة التي كان قد نزلها ألفونسو السادس، فتوجَّه إليه أمير المسلمين بجيوشه[1]. واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوِّعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى ألفونسو فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة[2].


                      وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.

                      ولا نعجب فهذه هي أهمية القدوة وفِعْلِها في المسلمين، وصورتها كما يجب أن تكون، تحرَّكت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأُخُوَّة الصادقة، والغَيْرَة على الدين الخاتِم، تلك الأمور التي تُوجَد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى مَنْ يُحَرِّكها من سُباتها.

                      التحرك نحو الزلاقة

                      تحرَّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاقة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ.

                      كان النصارى قد استعدُّوا لقدوم يوسف بن تاشفين فجمعوا عددًا ضخمًا من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل[3]، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وقَدِمَ ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح، وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجنَّ والإنس، وأقاتل ملائكة السماء. فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام[4].

                      الرسائل والحرب الإعلامية

                      رسالة ألفونسو إلى يوسف بن تاشفين

                      كان ألفونسو السادس من قبل هذا أرسل إلى يوسف بن تاشفين رسالة كلها غرور واستعلاء، وهذا نصها:
                      باسمك اللهمَّ فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، أما بعدُ: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمتَ الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحُكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأُمَثِّل بالرجال، ولا عذر لك في التخلُّف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منَّا بواحد منكم، فالآن خَفَّف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعًا ولا تملكون امتناعًا، وقد حُكِيَ لي عنك أنك أخذتَ في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام، تُقَدِّم رِجْلاً وتؤخِّر أخرى، فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربُّك، ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلَّةٍ لا يسوغ لك التقحُّم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وتُرسل إليَّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزِّ الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جُلبت إليك، وهدية عظيمة مَثَلَتْ بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملَّتَيْنِ والحُكم على البرَّيْنِ، والله تعالى يُوَفِّقُ للسعادة ويُسَهِّل الإرادة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلاَّ خيره، إن شاء الله تعالى[5].

                      رسالة يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو

                      فلما تمَّ عبور جيش المرابطين إلى الأندلس أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14، غافر: 50] وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب[6].

                      تَسَلَّم ألفونسو السادس الرسالة وما أن قرأها حتى استشاط غضبًا و«جاش بحر غيظه، وزاد في طغيانه وكفره، وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل مِلَّته منذ ثمانين سنة؟!» ثم أرسل ليوسف بن تاشفين متوعِّدًا ومُهَدِّدًا: فإني اخترت الحرب، فما ردُّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى. فلما وقف ألفونسو على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به[7].

                      قال صاحب (الروض المعطار): «ولما تحقق ابن فرذلند[8] -ألفونسو السادس- جواز يوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يُحصى عدده، وجعل يُصغي إلى أنباء المسلمين متغيِّظًا على ابن عباد، حانقًا ذلك عليه، متوعِّدًا له، وجواسيس كل فريق تتردَّد بين الجميع، وبعث -ألفونسو السادس- إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أُكَلِّفكم تعبًا، أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم؛ رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم. وقال لأهل ودِّه ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني[9] بين جدرها ربما كانت الدائرة عليَّ؛ فيكتسحون البلاد، ويحصدون مَنْ فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت عليَّ اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلاَّ بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صونٌ لبلادي، وجبرٌ لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خِفْتُ أنا أن يكون منهم فيَّ وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها[10].

                      محاولة ماكرة من ألفونسو السادس

                      وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يُحَدِّدُ يوم المعركة، فأرسل أن: غدًا الجمعة، ولا نُحِبُّ مقاتلتكم فيه؛ لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثيرون في محلَّتنا، ونحن نفتقر إليهم، وبعده الأحد عيدنا، فلنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين[11].

                      تَسَلَّم يوسف بن تاشفين الرسالة، وكاد ينخدع بها لأنه كان يعتقد أن الملوك لا تغدر[12]، ولقد كانت هذه أولى جولاته مع النصارى، إلاَّ أن المعتمد بن عباد فهم الخديعة ونبَّه يوسف بن تاشفين إلى ما قد يكون فيها من الغدر[13].

                      رؤيا ابن رميلة

                      بحذر تامٍّ لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمِّ الاستعداد.

                      إنها لحظة لم يتذوَّقها الأندلسيون منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يقوم جيش مسلم ويستعد لحرب النصارى من بعد سنوات الذل والهزيمة والجزية، ولا شكَّ أنها لحظات تتلقاها قلوب المؤمنين باشتياق، كاشتياقها إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرُّ هو بنفسه –رحمه الله- على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومَنْ بقي فله الأجر والغنيمة. وجاء في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعُبَّاد يعظون الناس ويحضُّونهم على الصبر، ويُحَذِّرُونهم الفرار[14].

                      وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي، والذي قال عنه ابن بشكوال في الصلة: كان معتنيًا بالعلم، وصُحبة الشيوخ، وله شعر حسن في الزهد، وكان كثير الصدقة وفعل المعروف، وكان أبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين[15].

                      لم تكن مهمَّة الشيخ يومها هي مجرَّد الجلوس في المسجد، أو إلقاء الدروس، أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يَفْقَه أمور دينه، ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين، وفي هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: «يَا ابْنَ رُمَيْلَةَ، إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا».

                      يستيقظ ابنُ رُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حقٌّ؛ لأن الشيطان لا يتمثَّل به ؛ ففي البخاري بسنده عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»[16].

                      يقوم الشيخ فرحًا مسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشَّره الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيا لها من فرحة! ويا له من أجر!

                      وعلى الفور يذهب ابن رميلة –رحمه الله- في جنح الليل فيُوقظ قادة المسلمين حتى أيقظ المعتمد بن عباد، وقصَّ عليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن هذه الرؤيا قد هزَّت ابن عباد فأرسل بخبرها إلى يوسف بن تاشفين وكلِّ قوَّاد الجيش، وقاموا من شدَّة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا»[17].

                      مخابرات المعتمد بن عباد

                      كان المعتمد بن عباد يراقب –فيما يراقب- معسكر المرابطين أيضًا «خوفًا عليهم من مكائد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا عِلْمَ لهم بالبلاد، وجعل يتولَّى ذلك بنفسه؛ حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين -المرابطين- كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفًا بالمحلَّة بعد ترتيب الكراديس –وهي كتائب الخيل- من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يُخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم»[18].

                      ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحقت بقية الطلائع محقِّقين بتحرُّك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل معسكر ألفونسو يقولون: «استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة». وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر ابن القصيرة إلى يوسف يُعَرِّفه بإقبال ألفونسو ويستحثُّ نُصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي الأرض طيًّا حتى جاء يوسف بن تاشفين فعَرَّفه جلية الأمر[19].

                      الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم

                      بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ=23 من أكتوبر 1086م، نقض ألفونسو السادس عهده، وبدأ بالهجوم في ذلك اليوم؛ إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصل عندهم.

                      ولقد صُدم الجيش الإسلامي، وفوجئ بالفعل -كما ستؤكد الرسالة التي كتبها يوسف بن تاشفين نفسه فيما بعد- وانحطَّ عليه جيش النصارى بكتائب «تملأ الآفاق»، وبدت الصدمة الأولى صدمة هائلة حقًّا!

                      كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:
                      الأولى: فرقة الأندلسيين وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد[20]، كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة[21]، وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي[22].

                      يُريد بذلك أن يغسل عار السنين السابقة وما رآه من ذل وهوان، أو لعله كان يُريد أن يحوز القدر الأعلى من النصر إن تم؛ فيُنسب الأمر له، والله أعلم بالنوايا.

                      وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين[23].

                      الثانية: فرقة من جيش المرابطين

                      وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.

                      الثالثة: جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة[24].

                      وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين[25].

                      لم تكن خطَّة يوسف بن تاشفين -رحمه الله- جديدة في حروب المسلمين؛ فقد كانت هي الخطة نفسها التي استعملها خالد بن الوليد t في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي -أيضًا- الخطة نفسها التي استعملها النعمان بن مُقَرِّن t في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضًا، فكان يوسف بن تاشفين –رحمه الله- رجلاً يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.

                      معركة الزلاقة

                      هجوم ألفونسو على المعتمد

                      لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ= 23 من أكتوبر 1086م هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأول للمسلمين (الجيش الأندلسي)، مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد –وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعَضَّته الحرب، واشتدَّ البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأُثْخِنَ ابن عباد جراحات وضُرِبَ على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدِّمَ له آخر، وهو يقاسي حياض الموت يضرب يمينًا وشمالاً، وتَذَكَّر في تلك الحال ابنًا له صغيرًا كان مغرمًا به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى وكنيته أبو هاشم، فقال: [المتقارب]
                      أَبَا هَاشِمٍ هَشَّمَتْنِي الشِّفَارُ

                      فَلِلَّهِ صَبْرِي لِذَاكَ الأُوَارُ[26]
                      ذَكَرْتُ شَخِيصَكَ تَحْتَ الْعَجَاجِ[27])

                      فَلَمْ يُثْنِنِي ذِكْرُهُ لِلْفِرَارِ

                      ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد[28].

                      إلا أن ألفونسو كان قد قسَّم هو الآخر جيشه إلى قسمين، فانهال بالقسم الآخر على جيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة بأعداد ضخمة، «فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وصبر المرابطون صبرًا جميلاً، وداسهم اللعين بكثر جنوده حتى كاد يستأصلهم، وكانت بينهم مضاربة تفلَّلت فيها السيوف، وتكسَّرت الرماح، وسارت الفرقة الثانية من عسكر اللعين مع البرهانس وابن رذمير نحو ملحة (لعله يقصد محلة) ابن عباد، فداسوها، واستمرَّت الهزيمة على رؤساء الأندلس إلى جهة بطليوس، ولم يثبت منهم غير ابن عباد وجيشه، فإنهم ثبتوا في ناحية يُقاتلون لم ينهزموا، وقاتلوا قتالاً شديدًا، وصبروا صبر الكرام لحرب اللئام...» [29]. وبدا المعسكر الإسلامي مرة أخرى في حالة الهزيمة.

                      تحرك يوسف بن تاشفين

                      وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الرئيسي الذي يقوده ابن تاشفين، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالقسم الرئيسي من جيش المرابطين الذين كانوا معه، وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.

                      قسَّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين: فالأول وقائده سير ابن أبي بكر - في قبائل المغرب وزناتة والمصامدة وغمارة وسائر قبائل البربر- يساعد جيش المسلمين الذي يقوده داود ابن عائشة والمعتمد بن عباد، والقسم الثاني بقيادته هو ومعه باقي قبائل صنهاجة والمرابطين يلتفُّ خلف جيش النصارى، ويقصد مباشرة إلى معسكرهم، «فأضرمها نارًا وأحرقها، وقتل مَنْ كان بها من الأبطال والرجال والفرسان، الذين تركهم ألفونسو بها يحرسونها ويحمونها، وفرَّ الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليهم خيله من محلته فارِّين، وأمير المسلمين يوسف في أثرهم بساقته وطبوله وبنوده، وجيوش المرابطين بين يديه يحكمون في الكفرة سيوفهم، ويروونها من دمائهم، فقال ألفونسو السادس: ما هذا؟! فأُخبر الخبر بحرق محلته ونهبها، وقتل حماتها، وسبي حريمها، فردَّ وجهه إلى قتاله، وصمم أمير المسلمين نحوه، فانتشبت الحروب بينهما، فكانت بينهما حروب عظيمة لم يُسمع قط بمثلها...» [30].

                      وحين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم، وأنهم محاصَرون «ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»[31].

                      اضطراب جيش النصارى



                      وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.


                      يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»[32].

                      انتصار المسلمين

                      تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة[33].

                      يصف صاحب الحلل الموشية هذه اللحظات من المعركة بقوله: «واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك فأمدَّ الله المسلمين بنصره... وفي أثناء ذلك، تلاقى بالطاغية أذفنش غلام أسود بيده خنجر يدعوه البرابر بالأفطس، قطع جرز درعه، وطعنه في فخذه مع مدار سرجه، فكان أذفنش يقول بعد ذلك: التحق بي غلام أسود فضربني في الفخذ بمنجل أراق دمي. فتخيل له الأفطس أنه منجل لكونه رآه معوجًا»[34].

                      ويقول لسان الدين بن الخطيب: «ولم تزل الكَرَّات بين المحلات تتعاقب، والهجمات سجالاً تداول، والحرب تدور، وأَمَرَ الأميرُ يوسف العبيدَ فترجَّلوا عن الخيل في نحو ألف، ودخلوا المعرك بالمزارق (الرماح القصيرة الخفيفة) لعجز السلاح عن الخيل الدارعة، فأثرت فيها بالطعن، وجعلت ترمح بفرسانها، ولصق منهم بالأذفونش عبد قبض على عنانه، وضربه بخنجر...» [35]. وبقي أثر الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها[36].

                      ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة[37]، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين[38]. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك[39]. واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل[40].
                      وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي اليرموك والقادسية.

                      كان رأي المعتمد بن عباد أن يواصل الجيش مطاردته لألفونسو المنحسب حتى يقضي عليه نهائيًّا، ولكن ابن تاشفين كان يرى أن الضغط عليهم وإرهاقهم يجعلهم يستبسلون في القتال، فيقاتلون قتال مَنْ لا يرى حياته إلا بموت خصمه، وفي هذا ضرر على المسلمين، لا سيما وأن مطاردة ألفونسو وهو على هذا الحال قد تُوقع في طريقه بعض المسلمين المنسحبين، الذين يتواصل عودتهم إلى الجيش مع انقلاب كفة المعركة، وهم بالنسبة له أقل قوة وهو أقدر على الإيقاع بهم، فإن انتظروا هذا اليوم فتكامل عدد المسلمين برجوع الذين انسحبوا، هان عليهم أن يقاتلوه في اليوم الثاني، وردَّ عليه ابن عباد بقوله: إن فرَّ أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه. إلا أن يوسف أصرَّ على الامتناع وقال: الكلب إذا أُرهق لا بُدَّ أن يعضَّ[41].

                      ونحن إذ نقرأ التاريخ الآن نرى أن ابن عباد كان أصوب رأيًّا من ابن تاشفين في هذا الأمر، فلقد استمر ألفونسو يقاتل المسلمين بعدها عشرين سنة ولم يضعف ولم يتوانَ، ويُتوقع أن لو كان قُضي عليه في يوم الزلاقة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، ولكان المسلمون استطاعوا أن يستعيدوا طُلَيْطلَة مرة أخرى.. إلاَّ أنه لا يسعنا أن نعترف بأننا نقول الرأي الآن بعدما انتهت الأحداث وانقشعت المعارك، وما ندري لو كنا في ذلك الموقف ماذا قد يكون الاختيار.

                      واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس؛ مثل: ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مَرَّاكُش أبي مروان عبد الملك المصمودي.. وغيرهما، رحمهم الله تعالى[42].

                      وما أن تنتهي أحداث الزلاقة حتى يصل إلى يوسف بن تاشفين نبأ مُفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حَلَّت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، فيعجل هذا برجوع ابن تاشفين إلى المغرب[43].

                      زهد وورع يوسف بن تاشفين

                      بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرِّفة من صور الإخلاص والتجرُّد، وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامَّة، ولأمرائهم خاصَّة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زُهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].

                      قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام؛ حتى جمعت الغنائم، واستُؤْذِن في ذلك السلطان يوسف، فعفَّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعَرَّفهم أن مقصدَه الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلمَّا رأتْ ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبُّوه وشكروا له ذلك[44].

                      عودة إلى المغرب

                      يعود يوسف بن تاشفين –رحمه الله- إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم؛ حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر[45]، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!

                      كان من الممكن ليوسف بن تاشفين –رحمه الله- أن يُرسل قائدًا من قوَّاده إلى أرض الأندلس، ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدًا عن تخطِّي القفار وعبور البحار، وبعيدًا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدًا عن أرض غريبة وأناس أغرب؛ لكنه –رحمه الله- وهو الشيخ الكبير يتخطَّى تلك الصعاب، ويركب فرسه، ويحمل رُوحه بين يديه، لسان حاله: أذهبُ إلى أرض الجهاد لعلِّي أموتُ في سبيل الله.
                      شعاره هو: [الوافر]
                      إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ

                      فَلاَ تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
                      فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ

                      كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ[46]

                      لكن يوسف بن تاشفين –رحمه الله- لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.

                      المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد

                      ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهُنِّئ بالفتح، وقَرَأت القرَّاء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، يقول عبد الجليل بن وهبون: حضرتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أُنشده إياها، فقرأ القارئ: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]. فقلتُ: بُعْدًا لي ولشعري، واللهِ! ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعًا بالتهنئة، ولم يزل ملحوظًا معظَّمًا إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان[47].


                      [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/447، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/100، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/116، وتاريخ ابن خلدون، 6/186، والحميري: الروض المعطار، ص92، والمقري: نفح الطيب، 4/364، والسلاوي: الاستقصا، 2/43، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146.
                      [2] المقري: نفح الطيب، 4/361.
                      [3] تُعَبِّر المصادر التاريخية عن عدد الروم بالعبارات التي تفيد الكثرة والضخامة، وأما مَنْ ذكروا العدد فمنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل. ومنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس لابسين الدروع دون غيرهم. وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية الذي يعود ويقول بعد ذلك: إنه قُتل في هذه الغزوة من النصارى ثلاثمائة ألف. ومنهم من يقول: إنهم كانوا خمسين ألف مقاتل. ومنهم من يقول: إن أقل تقدير لهم أنهم كانوا أربعين ألف دارع، ولكل دارع أتباع.
                      [4] الحميري: الروض المعطار، ص289، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
                      [5] ذكرت بعض المصادر أن هذه الرسالة إنما أرسلها ألفونسو الثامن إلى يعقوب المنصور الموحدي بعد هذا بحوالي قرن من الزمان، إلا أن التحقيق يؤدي إلى أنها مرسلة من ألفونسو السادس إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. انظر: ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/6، 7، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/198.

                      [6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحميري: الروض المعطار، ص290، والحلل الموشية، ص53، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
                      [7] ابن الأثير: الكامل، 8/446، ومجهول: الحلل الموشية، ص53.
                      [8] فرذلند: هو التعريب لاسم فرناندو، أول من بدأ بحرب الاسترداد وأخذ الجزية من المسلمين، وابنه هو ألفونسو السادس، والذي يعرب اسمه إلى: ألفُنش ألفونش وأذفونش.
                      [9] ناجزه: نازله وقاتله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نجز 5/413، والمعجم الوسيط 2/903.
                      [10] الحميري: الروض المعطار، ص298، وما بعدها.
                      [11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحلل الموشية، ص57.
                      [12] عبد الواحد المراكشي: المعجب 194، 195.
                      [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص147.
                      [14] الحميري: الروض المعطار، ص290.
                      [15] ابن بشكوال: الصلة، 1/118 144.
                      [16] البخاري: كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، 6593 واللفظ له، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» 2266.
                      [17] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 4/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
                      [18] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147، والحميري: الروض المعطار، ص290.
                      [19] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 2/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
                      [20] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والسلاوي: الاستقصا، 2/44، 45.
                      [21] مجهول: الحلل الموشية ص59.
                      [22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
                      [23] ابن الأثير: الكامل، 8/447.
                      [24] ابن الأثير: الكامل 8/447، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص242، 243.
                      [25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/118.
                      [26] الأوار: شدَّة الشيء وقوته. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35.
                      [27] العجاج: الغبار. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل العين 1/327، وابن منظور: لسان العرب، مادة عجج 2/318.
                      [28] انظر: ابن الأثير: الكامل 8/477، وعبد الواحد المراكشي: المعجب ص194، 195، والحميري: الروض المعطار، ص291، والمقري: نفح الطيب، 4/366، والسلاوي: الاستقصا، 2/46.
                      [29] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147.
                      [30] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن أبي زرع: روض القرطاس ص147 وما بعدها.
                      [31] مجهول: الحلل الموشية ص59.
                      [32] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها.
                      [33] ابن خلكان في وفيات الأعيان، 7/118، والسلاوي: الاستقصا، 2/47، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/325.

                      [34] مجهول: الحلل الموشية ص61.

                      [35] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص243.
                      [36] الحميري: الروض المعطار، ص290.
                      [37] المصدر السابق، ص290 وما بعدها.
                      [38] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
                      [39] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/117.
                      [40] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص148.
                      [41] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها، ومجهول: الحلل الموشية ص59.
                      [42] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/369، والسلاوي: الاستقصا، 2/48.
                      [43] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص152، والحلل الموشية، ص66، والحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/49.
                      [44] المقري: نفح الطيب، 4/369.
                      [45] انظر: عبد الله بن بلقين: التبيان، ص339، نقلاً عن حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، ص282، وسعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين، ص97.
                      [46] ديوان المتنبي، ص195.
                      [47] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/50.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • يوسف بن تاشفين يحكي معركة الزلاقة

                        وثيقة ليوسف بن تاشفين

                        تم العثور على وثيقة مهمة عن معركة الزلاقة، كتبها بطل الزلاقة نفسه، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقد نقلها الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه (دولة الإسلام في الأندلس)[1]، ووصفها بقول: «رسالة كتب بها الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين إلى الناصر بدين الله تميم بن المعز بن باديس بالمهدية؛ يصف فيها بلاد الغرب، وجوازه للأندلس للجهاد بها، وهزيمته للأذفنش أمير النصارى في رجب سنة 479هـ).
                        وفيها مما يهمنا في هذه الوثيقة، هو شرح أمير المسلمين يوسف بن تاشفين لأدوار المعركة.

                        رواية يوسف بن تاشفين لمعركة الزلاقة



                        «فجمعنا عساكرنا وسرنا إليه (ألفونسو السادس)، وصرنا إلى قفل قورية من بلاد المسلمين صرفها الله، فسمع بنا، وقصد قصدنا، وورد وردنا، واحتلَّ بفنائها منتظرًا لنا، فبعثنا إليه نحضه على الإسلام، ودخوله في ملة محمد، أو ضرب الجزية عليه، وإسلام ما كان من المال والبيوت لديه، كما أمرنا الله تعالى وبيَّن لنا في كتابه؛ من إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فأبى وتمرَّد، وكفر ونخر، وعَمِل على الإقبال علينا، وحثَّ في الورود علينا، فلحِقَنَا وبيننا وبينه فراسخ، فلمَّا كان بعد ذلك، برزنا عليه أيامًا، فلم يُجِبْنَا، فبقينا وبقوا، ونحن نخرج الطلائع إليه، ونُتابع الوثوب عليه، وبنينا على لقائه يوم الخميس لإحدى عشر ليلة خلت لرجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة.


                        فلما كان يوم الجمعة ثانيه، ورد علينا بكتائب قد ملأت الآفاق؛ وتقلَّبَتْ تَقَلُّب الحتوف للأحداق؛ قد استلموا الدروع للكفاح، وربطوا في سوقهم الألواح، وبطونهم ملأى من الخمر، يُقَدِّرون أن الدائرة علينا تدور، ونحن في أخبيتنا صبيحة اليوم المذكور، كلٌّ مِنَّا سَاهٍ، وجميعنا لاهٍ، فقصد أشدُّهم شوكة، وأصلبُهم عودًا، وأنجدُهم عديدًا، محلةَ المعتمد على الله المؤيد بنصر الله -وَفَّقَهُ الله- عماد رؤساء الأندلس وقطبهم، لا يقدرون عسكرًا إلا عسكره، ولا رجالاً إلا رجاله، ولا عديدًا إلاَّ عديده، وداود من أصحابنا منا إلى إزائه، فهبطوا إليه لفيفًا واحدًا، كهبوط السيل، بسوابق الخيل، فلما كان معه من جنده ومن جميع الطبقات، الذين كانوا يدخرون من قبله الأموال والضياع، استكَّت آذانهم[2]، واضطربت أضلاعهم، ودهشت أيديهم، وزلزلت أقدامهم، وطارت قلوبهم، وصاروا كركب الحمير، فَرُّوا يطلبون معقلاً يعصمهم، ولا عاصم إلاَّ الله، ولا هاربًا منه إلاَّ إليه، فلحقوا من بطليوس بالكرامات، لما عاينوا من الأمور المعضلات، وأسلموه (المعتمد) -أيده الله- وحده في طرف الأخبية، مع عدد كثير من الرجالة والرماة، قد استسلموا للقضاء، فوثبوا (الروم) عليه وثب الأسد على الفرائس، يعظمون الكنايس، فحبسهم حينًا وحده مع مَنْ إليه ممن ذكرناه، وبسطوا منهم الأرض، ولم يبقَ من الكل إلاَّ البعض، ولجأ في الأخبية بعد أن عاين المنية، وتَخَلَّصَه اللهُ بنِيَّتِه في المسلمين وبلغه أمنيته، بعد أن وقف وقفة بطل مثله، لا أحد يَرُدُّ عليه، ولا فارس من فرسانه وعبيده يرجع إليه، لا يروعه أحد منهم فيهزم، ولا يهابهم فيسأم.

                        ثم قَصَدَتْ كتيبَتَهُ (كتيبة ألفونسو) سودًا كالجبل العظيم أو الليل البهيم، عسكر داود وأخبيته، فجالوا فيها جولانًا، وقتلوا من الخلق ألوانًا، واستشهد الكل بحمد الله، وصاروا إلى رضوان الله، ونحن في ذلك كله غافلون، حتى ورد علينا وارد، وقصد إلينا قاصد، فخرجنا من رواء الشعب، كقطع اللهب، بجميع مَنْ معنا، على الخيل المسومة العراب، يتسابقن الطعن والضراب، فلما رأونا، ووقعت أعينهم علينا، ظَنُّوا أن الدائرة فينا ولدينا، وأَنَّا طُعْم أسيافهم، ولقاء رماحهم، فكَبَّرْنَا وكَبَّر الكل معنا، مبتهلين لله وحده لا شريك له، ونهضنا للمنون الذي لا بُدَّ منه، ولا محيص لأحد عنه، وقلنا: هذا آخر يومنا من الدنيا، فلتموتوا شهداء.

                        فحملوا علينا كالسهام، فثَبَّتَ الله أقدامنا، وقوَّى أفئدتنا، والملائكة معنا، والله تعالى وليُّ النصر لنا، فَوَلَّوْا هاربين، وفَرُّوا ذاهبين، وتساقط أكثرهم بقدر الله تعالى دون طعنة تلحقه، ولا ضربة تُثخنه، وأضعف الرعب أيديهم، فطعَنَّاهم بالسمهرية[3] دون الوخز بالإبر، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، حتى إن هاربهم لا يرى غير شيء إلا ظنه رجلاً، وفتكت فيهم السيوف على رغم الأنوف، فوالله! لقد كانت تقع على الدروع فتفريها، وعلى البيضات فتبريها، وزرقوا الرجالة منا على خيلهم الرماحَ، فشَكُّوهم بها فرمحت بهم.

                        فما كنت ترى منهم فارسًا إلاَّ وفرسه واقف على رأسه لا يستطيع الفرار، الكلُّ يجرُّ عنانه، كأنه مُعْقَل بعقاله، ونحن راكبون على الجواد الميمون، العربي المصون، السابق اللاحق، المعدُّ للحقائق، وما منا إلاَّ مَنْ له جرناز[4] فيه سيفان، وبيدنا الثالث، عسى أن يحدث من حادث، فصاروا في الأرض مجدلين[5]، موتى معفَّرين[6]، وقد تراجع الناس بعد الفرار، وأمنوا من العثار، وتضافروا مع عسكرنا وغيرهم؛ يقطعون رءوسهم، وينقلون بإزاء المحلات، حتى علت كالجبال الراسيات، عدد لا يُقَدَّر، ومدد لا يُحْزَر، والتجريد فيهم، والأيدي متعاودة لبطونهم، واستأصلنا أكابرهم، وحللنا دون أماطيهم وأمانيهم، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

                        وانقطع من عسكرهم نحو ألفي رجل أو أقل، والأذفونش فيهم على ما أخبرنا، قد أُثخنوا جراحًا بإزاء محلاتهم، يرتادون الظلام للهروب في المقام، واللهِ! لقد كان الفرسان والرجَّالة يدخلون محلَّتهم، ويعثرون في أخبيتهم، وينتهبون أزودتهم، وهم ينظرون شزرًا نظر التيوس إلى شفار الجازرين، إلى أن جنَّ الليل وأرخى سدوله، وَلَّوْا هاربين، وأسلموا رحائلهم صاغرين، فكم من دلاص[7] على البقاع ساقطة، وخيول على البقاع رابضة، ولقد ارتبط كل فارس منا الخمسة الأفراس أو أزيد.

                        وأمَّا البغال والحمير فأكثر من ذلك، وأما الثياب والمتاع فناهيك، والأسرَّة بأوطية الحرير، والثياب والأوبار عدد ليلهم، ولا يكلُّون في الانتقال، ولا يسأمون من تشريط الأموال، ولحقوا قورية، ومنها إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم[8]، فصححنا ضمائرنا، وأخلصنا للمعتمد على الله نياتنا وسرائرنا، ورجعنا بحمد الله غانمين منصورين.

                        لم يستشهد منا إلاَّ الفرقة التي قَدَّر الله عليها بذلك، وقَدَّرنا أن الكل منهم هلك لقلَّة معرفتهم وجهالتهم بقتال النصارى، وتراميهم للشهادة، قدَّس الله أرواحهم، وكرَّم مثواهم وضريحهم، وجعل الجنة ميعادًا بيننا وبينهم، وفقدنا من أكابرنا نحو عشرين رجلاً ممن شُهدت نجدته في المغرب، وانقلبت خير منقلب. ولحقنا إشبيلية حضرته (المعتمد) عمرت ببقايه، وأقمنا عنده أيامًا، ورفعنا عنه مُوَدِّعين، لا تَوَدُّع قاطع...»[9].


                        [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/446. منقولة من المخطوط رقم 448 الغزيري بمكتبة الإسكوريال Fol. 49R. -53V. وهو مخطوط ناقص من أوله ولا عنوان له.
                        [2] استكَّت آذانهم: أي صُمَّت. ابن منظور: لسان العرب، مادة سكك 10/439.
                        [3] السمهرية: الرماح الصُّلبة. ابن منظور: لسان العرب، مادة سمهر 4/381.
                        [4] هكذا في المصدر.
                        [5] المجدَّل: الصريع، أو الملقى بالأرض. ابن منظور: لسان العرب، مادة جدل 11/103.
                        [6] معفَّر: أي تقلَّب في التراب.
                        [7] الدِّرع الدِلاص: البرَّاقة، الملساء، اللينة. ابن منظور: لسان العرب، مادة دلص 7/37.
                        [8] أم قشعم: الحرب، أو المنية. ابن منظور: لسان العرب، مادة قشعم 12/484.
                        [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/448، وما بعدها.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • دولة المرابطين في الأندلس

                          الصراع في الأندلس



                          ظلَّ الصراع بين المسلمين والنصارى قائمًا بعد الزلاقة، بل لقد كثر عيث النصارى في بلاد المسلمين، وتخريبهم لها، ولم يستطع حكام الطوائف فعل شيء، بل وصلت الأحوال إلى أن سقطت بلنسية –وهي حاضرة الشرق الأندلسي، ومن أبرز حواضر الأندلس كلها- في يد النصارى.


                          العبور الثاني ليوسف بن تاشفين

                          لم تنته الصراعات بين ملوك الطوائف وما نفَّذوا وصية يوسف بن تاشفين لهم بالاتحاد؛ فاستغاث الناس بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين للمرة الثانية، وكذلك فعل المعتمد بن عباد-أيضًا- فمن أجل ذلك كان الجواز الثاني ليوسف بن تاشفين إلى أرض الأندلس.

                          العبور الثالث ليوسف بن تاشفين

                          ويتكرر ما حدث في العبور الأول إذ يقوم المرابطون بنصرة الأندلسيين وهزيمة النصارى في أكثر من موقعة، إلا أنه وفي أثناء حصار حصن لبيط (Aledo) في سنة (481هـ=1088م)، رأى من خداع أمراء الطوائف وشهد عندئذٍ من تمردهم ونفاقهم، وجنوحهم إلى ممالأة النصارى ما أغضبه وأحفظه عليهم، ثم تكررت هذه الأحوال للمرة الثالثة، فعبر ابن تاشفين مرة ثالثة إلى الأندلس في عام (483هـ=1090م)، فجهز جيوشه ودخل إلى الأندلس.

                          والواقع يقول أن يوسف بن تاشفين لم يطمع في الأندلس، وتردَّد كثيرًا قبل العبور، وعفَّ عن الغنائم بعد ذلك وتركها للمعتمد ولأمراء الأندلس ولم يأخذ منها شيئًا، ثم يعود في الجواز الثاني بسبب اختلافات ملوك الطوائف، وتحالف بعضهم مع عدوِّ الإسلام، وكان الجواز الثالث لوضع حدٍّ لمهزلة ملوك الطوائف، لقد آن -وباسم الإسلام- لهذه الدويلات الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أن تنتهي[1].

                          منذ أن انتهى يوسف بن تاشفين من الجهاد في المرة الثانية، ثبت له بقاء حال أمراء الطوائف على ما هم عليه من تفرُّق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلَّف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين، بل لَمَّا قام بحصار النصارى -عَقِبَ جوازه الثاني في حصن لبيط- تخلَّف بعض رؤساء الشرق عن معاونته، وقالوا: إنَّ طاعته ليست بواجبة؛ لأنه ليس إمامًا شرعيًّا من قريش. وأبشع من ذلك وأشنع أن رسالة قد وقعت في يد يوسف وُجِّهت من بعض ملوك الطوائف إلى العدو، يُشَجِّعه على المقاومة والصمود، وكان جواب يوسف لأولئك الزعماء المتمرِّدِينَ، أنه خادم أمير المؤمنين المستظهر، وأن الخطبة تجري باسمه على أكثر من ألفي منبر، وتُضْرَب السكة باسمه[2].

                          فتوى الفقهاء لابن تاشفين

                          ورغم دلائل الولاء هذه للخليفة في بغداد، إلا أن مَنْ لا ولاء لهم ولا انتماء من ملوك الطوائف تمسَّحوا الآن في الشرع، الذي ينتهكونه منذ حكموا حتى أذلوا المسلمين وبلادهم، ووضعوها في يد النصارى، وبذلوا لهم الأموال والهدايا، وتحالفوا معهم على إخوانهم المسلمين.



                          عندئذٍ اعتزم يوسف بن تاشفين أمره في افتتاح ممالك الطوائف، وأخذ يستولي عليها تباعًا، وأرسل إلى بغداد طلبًا للخليفة ليحصل على كتاب منه بتوليته المغرب والأندلس، وكان يهمه -إلى جانب الحصول على المرسوم الخلافي- أن يحصل على سند شرعي يُبَرِّر تصرُّفه نحو أولئك الأمراء، فلما وصل الفقيه أبو محمد العربي وولده أبو بكر بن العربي إلى بغداد، لقي الإمام أبا حامد الغزالي قطب فقهاء المشرق يومئذٍ، وشرح له أحوال الأندلس، وخلال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وما اضطلع به من أعمال الجهاد وإعزاز الدين، وما كان عليه أمراء الطوائف من تفرُّق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلَّف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين. وشرحا له الحال، ثم طلب الفقيه ابن العربي إلى الإمام الغزالي أن يُزَوِّدَه فيما تقدَّم بفتوى تُبَيِّنُ حكم الشرع فيه، وأن يُزَوِّده بكتاب إلى أمير المسلمين، فأفتى الإمام الغزالي بحكم الشرع في موقف ملوك الطوائف، حسبما شرحه ابن العربي للإمام، وعن حقِّ يوسف في الحصول على المرسوم الخلافي بولايته على ما فتحه من الأقطار بسيفه، وقد عاد الإمام الغزالي بعد ذلك، فكتب إلى يوسف كتابًا يعرض فيه بالتفصيل إلى قصة ملوك الطوائف، حسبما رواها له ابن العربي، وإلى ما كانت عليه الأندلس في ظلِّ حكمهم، من التخاذل والذل... ثم يُشير بعد ذلك إلى ما أصدره من فتوى في شأن ملوك الطوائف، وإلى ما كان ابن العربي بصدده من السعي إلى استصدار المرسوم الخلافي بولاية يوسف على جميع بلاد المغرب، وتمكين طاعته، وإلى ما كان يبثُّه ابن العربي من دعاية واسعة للإشادة بحكم يوسف وخلاله؛ سواء في العراق أو في المشاهد الكريمة بأرض الحجاز.


                          وكذلك حصل ابن العربي من العلامة أبي بكر الطرطوشي -حين مروره على ثغر الإسكندرية، وهو في طريق العودة- على خطاب آخر برسم يوسف، ويُسدي الطرطوشي في كتابه النصح إلى يوسف بأن يحكم بالحق وفقًا لكتاب الله.

                          وقد توفي الفقيه ابن العربي بثغر الإسكندرية في فاتحة سنة (493هـ)، وعاد ابنه أبو بكر إلى الأندلس في العام نفسه، وهو يحمل الرسالتين- رسالة الغزالي ورسالة الطرطوشي- وكذلك مرسوم الخليفة المستظهر إلى عاهل المرابطين[3].

                          دولة المرابطين على المغرب والأندلس

                          لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلس أمرًا سهلاً، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد بن عباد، ذلك الرجل الذي لم يجد العزَّة إلاَّ تحت راية يوسف بن تاشفين –رحمه الله- قبل وبعد الزلاقة، قام المعتمد على الله بمحاربته وأنَّى له أن يحارب مثله!

                          استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف، وانتهت بضمِّ كل ممالك الأندلس إلى دولة المرابطين، واستطاع أن يضمَّها إلى بلاد المسلمين، وقد أصبح يوسف بن تاشفين الآن أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب من فرنسا وحتى وسط إفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين.

                          وفاة يوسف بن تاشفين

                          ولقد ظلَّ هذا الشيخ الكبير يحكم حتى سنة (500هـ=1106م)، وكان قد بلغ من الكبر عتيًّا، وتوفي –رحمه الله- بعد حياة حافلة بالجهاد، وقد وفَّى تمام المائة[4]؛ منها سبع وأربعون سنة في الحكم، وكان تمام ستين سنة على ميلاد دولة المرابطين، تلك التي أصبحت من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.


                          [1] شوقي أبو خليل: الزلاقة، ص64، 65.
                          [2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/41-44.
                          [3] انظر: ابن الأثير: الكامل، 8/447، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/187، 188، والمقري: نفح الطيب، 4/373، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/41-44.
                          [4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/45، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص156.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • جهاد المرابطين في الأندلس

                            جهاد المرابطين



                            حاول المرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية، التي أُخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة؛ فحاربوا في أكثر من جبهة، حتى اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا[1]. كما حاولوا كثيرًا تحرير طليطلة، (وكانت كما ذكرنا من قبلُ أنَّها من أكثر وأشدِّ مدن الأندلس حصانة على الإطلاق)؛ لكنهم فشلوا في هذا الأمر، وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن التي حولها.


                            معركة أقليش

                            بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفي سنة (501 هـ=1107م) وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدور واحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سُمِّيَت في التاريخ بموقعة أقليش، وقد تولَّى القيادة فيها على المسلمين تميم بن يوسف بن تاشفين، وكان هذا في عهد علي بن يوسف بن تاشفين الذي تولى دولة المرابطين خلفًا لأبيه، وتولَّى القيادة على الصليبيين سانشو بن ألفونسو السادس، وانتصر المسلمون -أيضًا- انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة، وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا من بينهم سانشو بن ألفونسو وقائد جيش النصارى[2]، وقيل عن هذه المعركة بأنها الزلاقة الثانية[3].

                            وسانشو هذا هو ابن ألفونسو السادس من زوجته التي كانت قبل ذلك جارية –واسمها زائدة- أعجبت المأمون بن المعتمد بن عباد الذي كان واليًا على قرطبة، فلما انهزم المأمون وفتح المرابطون قرطبة فرَّت هي ومعها ولداها –حفيدا المعتمد بن عباد- إلى ألفونسو فتنصرت وتزوجها، وأنجب منها ولده سانشو هذا، فهذه عاقبة الطغاة المستبدين!

                            كان سانشو في الحادية عشرة من عمره، وأرسله أبوه ألفونسو لإثارة حماسة الجند، بعدما أوهنته الشيخوخة ولم يعد قادرًا على قيادة الجيش بنفسه؛ إذ كان قد بلغ الثمانين في ذلك الوقت.

                            فتح جزر البليار

                            وتوالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذه المعركة؛ ففي عام (509هـ=1115م) استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار، تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمون يُسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين[4].

                            سياسة المرابطين في الأندلس

                            ولقد مرَّت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
                            1 - مرحلة التدخُّل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.

                            2 - مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعد أن ظلَّ وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض بينهم، ولم يُفَكِّرُوا في الاندماج في دولة واحدة، بل فَضَّل بعضهم التقرُّب إلى الأعداء للكيد بالآخرين.

                            3 - مرحلة ضمِّ الأندلس إلى المغرب؛ فوضعوا حدًّا لمهزلة ملوك الطوائف[5].

                            مصير ألفونسو السادس



                            حزن ألفونسو على وحيده سانشو حزنًا شديدًا، حتى مات بعدها بعشرين يومًا[6]، وذلك في 29 يونيه سنة 1109م (ذي الحجة من عام اثنين وخمسمائة[7])، فحزن القشتاليون قاطبة لوفاته، وقد أسس ألفونسو خلال أربعة وأربعين عامًا من حكم قوي مستنير مجد قشتالة إلى قرون، وكان يلقب بـ «نور إسبانيا ودرعها»، وبلغت قشتالة في عهده من القوة ما لم توهنه بعدئذٍ حرب أهلية ولا تقسيم[8].



                            [1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/54، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
                            [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص160.
                            [3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث ص253.
                            [4] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص162.
                            [5] شوقي أبو خليل: الزلاقة، ص72، والصلابي: دولة المرابطين، ص136، 137.
                            [6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص159.
                            [7] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/50.
                            [8] يوسف أشياخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 1/142.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • علماء الأندلس في عهد المرابطين


                              علي بن يوسف بن تاشفين



                              نتناول في هذا المقال أشهر علماء الأندلس في عهد المرابطين وخاصة في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، فقد تولى علي بن يوسف بن تاشفين البلاد بعد وفاة والده سنة 500هـ، وسار على نفس درب أبيه، فتابع الجهاد ونشر العدل، وقرب العلماء، وكان حسن السيرة، جيد الطوية، عادلاً، نزهاً، حتى كان إلى أن يعد من الزهاد المتبتلين أقرب، وأدخل من أن يعد من الملوك، واشتد إيثاره لأهل العلم والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورتهم، وكان إذا ولى أحداً من قضاته، كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمراً دون أن يكون بمحضر أربعةٍ من أعيان الفقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإن صغر، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً، ونفقت في زمانه كتب الفقه في مذهب مالك، وعمل بمقتضاها[1].

                              ومن أشهر العلماء الذين برزوا في عهد علي بن يوسف ما يلي:

                              القاضي أبو بكر ابن العربي (468-543هـ=1076-1148م)

                              هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري الإشبيلي الأندلسي المالكي، وُلِدَ في إِشْبِيلِيَة سنة 468هـ، تعلَّم في الأندلس ثم ارتحل مع أبيه، فتعلَّم في بغداد ثم في دمشق ثم في بيت المقدس ثم في مكة ثم في مصر، وفي الإسكندرية مات أبوه فدفن هناك، ثم رجع إلى الأندلس في سنة (491هـ).

                              ومن أشهر شيوخه الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، والفقيه أبو بكر الشاشي، والعلامة الأديب أبو زكريا التبريزي، والطرطوشي وجماعة آخرين[2].

                              وقد نقل إلى الأندلس علمًا كثيرًا وإسنادًا عاليًا، وتخرج على يديه أئمة كثيرون، من أشهرهم القاضي عياض، وأبو جعفر بن الباذش[3].

                              وله مؤلفات كثيرة من أشهرها: العواصم من القواصم، وأحكام القرآن، وأنوار الفجر في التفسير، أتمَّه في ثمانين ألف ورقة، والناسخ والمنسوخ، والقبس، شرح موطأ مالك بن أنس، وعارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي[4].

                              يذكره ابن بشكوال فيقول: «الإمام العالم الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها... كان من أهل التفنُّن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدِّمًا في المعارف كلها، متكلِّمًا في أنواعها، نافذًا في جميعها، حريصًا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحُسن العهد، وثبات الوعد، واستقضى ببلده فنفع الله به أهله لصرامته وشدَّته، ونفوذ أحكامه، وكان له في الظالمين سَوْرة مرهوبة، ثم صُرِفَ عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثِّه.

                              وتوفي أبو بكر ابن العربي بالعدوة ودُفِنَ بمدينة فاس في ربيع الآخر سنة 543هـ[5].

                              القاضي عياض (476-544هـ= 1083-1149م)



                              هو القاضي الإمام المجتهد اليحصبي، سبتي الدار والميلاد، أندلسي الأصل، وُلِدَ بسبتة في النصف من شعبان عام (476هـ).

                              وقد ألف ابنه القاضي أبو عبد الله محمد كتابًا يَذكر فيه مآثر أبيه، سماه: (التعريف بالقاضي عياض)، وقد نَقل عنه الكثير من المؤرخين والعلماء، وكان عمرون (أبو جد القاضي عياض) رجلاً خيارًا من أهل القرآن، وحجَّ إحدى عشرة حجة، وغزا مع المنصور بن أبي عامر غزوات كثيرة، ثم انتقل إلى سَبْتَة ووُلد له ابنه عياض، ثم وُلِدَ لعياض ابنه موسى، ثم ولد لموسى القاضي أبو الفضل عياض.

                              وكان أبوه حافظًا لكتاب الله، مع الحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه، وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليًّا متكلمًا، فقيهًا حافظًا للمسائل، نحويًّا أديبًا شاعرًا خطيبًا.

                              رحل القاضي عياض إلى الأندلس، فدرس بقرطبة ومرسية وغيرهما، ثم عاد إلى سبتة، فكان من علمائها وهو ابن ثلاثين سنة أو أكثر بقليل، ثم جلس للشورى، ثم ولي القضاء، فسار في ذلك حسن السيرة مشكور الطريقة، ثم انتقل إلى غرناطة في أول صفر سنة 531هـ، فتولى القضاء بها، ثم قضاء تادَلة.

                              وله من المؤلفات كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وإكمال المعلم في شرح مُسلم، والمستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة، وترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، والإعلام بحدود قواعد الإسلام، والإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.. وغيرها كثير.

                              قال ابن بشكوال: جمع من الحديث كثيرًا، وله عنايةٌ كثيرة به واهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنُّن في العلم والذكاء واليقظة والفهم[6].

                              وقال الفقيه محمد بن حمادة السبتي: جلس القاضي -يعني القاضي عياضًا- للمناظرة وله نحو من ثمانٍ وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هَيِّنًا من غير ضعف، صلبًا في الحقِّ... ولم يكن أحدٌ بسَبْتَة في عصره أكثر تواليف منه... وحاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلاَّ تواضعًا وخشية لله تعالى[7].

                              وقال عنه القاضي ابن خلكان في (وفيات الأعيان): كان إمام وقته في الحديث وعلومه، والنحو واللغة، وكلام العرب، وأيامهم وأنسابهم[8].

                              وقال أبو عبد الله محمد الأمين في كتابه (المجد الطارف والتالد)، يصف مكانة القاضي عياض العلمية، وقدره الرفيع بين علماء الإسلام: «مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة... وانظر إلى عياض فلا ترى تأليفًا معتبرًا من تواليف أهل الحديث، ولا أصحاب السير والفقهاء إلاَّ وجدته مشحونًا بكلامه، مع أنه لم يرتحل إلى المشرق»[9].

                              وقد توفي القاضي عياض بمراكش ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة من سنة (544هـ)، ودفن في باب إيلان من داخل السور[10].


                              [1] الذهبي: تاريخ الإسلام 36/445.
                              [2] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/297.
                              [3] انظر: المقري: نفح الطيب، 2/30.
                              [4] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 20/197، وما بعدها بتصرف.
                              [5] ابن بشكوال: الصلة، 2/856.
                              [6] ابن بشكوال: الصلة، 2/660، 661.
                              [7] انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ، 4/68.
                              [8] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/483.
                              [9] انظر: عبد الحي الكتاني: فهرس الفهارس، 2/804.
                              [10] انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 4/222-230، بتصرف.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • دولة المرابطين .. الضعف ثم الانهيار

                                ثورات المغرب ضد المرابطين

                                في سنة (512هـ=1118م) تحدث في داخل بلاد المغرب وفي عقر دار المرابطين ثورة تؤدي بأثر سلبي إلى هزيمتين متتاليتين لهم في بلاد الأندلس، كانت الأولى هزيمة كتندة في 24 ربيع الأول 514هـ ـ يونية 1120م، والثانية هزيمة القليعة.

                                المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية



                                على إثر قيام ثورة في المغرب في عقر دار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبل النصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولة المرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!


                                وفي تحليلٍ موضوعيٍّ لهذه الأحداث نعود بالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، فمنذ عام (440هـ=1048م) ولمدة سبعين عامًا تقريبًا، وحتى عام (509هـ= 1115م) حيث الانتصارات المتتالية، وحيث العلو والارتفاع، وحيث الأموال والغنائم، والدنيا التي فُتِحَتْ على المسلمين، والتي وصلوا فيها إلى درجة عالية من العزِّ والسلطان والتمكين، فما المتوقَّع بعد ذلك، وما الأحداث الطبيعية التي من الممكن أن تحدث كما سبق ورأينا؟!

                                لا شكَّ أن الشيء الطبيعي والمتوقَّع حدوثه هو حصول انكسار من جديد للمسلمين، وحدوث فتنة من هذه الدنيا التي فُتحت على المسلمين، وفتنة من هذه الأموال التي كثرت في أيديهم.

                                وقد يتساءل البعض: هل من المعقول بعد انتصارات أبو بكر بن عمر اللمتوني، وانتصارات يوسف بن تاشفين وأعماله، وبعد الزلاقة، هل من المعقول بعد كل هذا أن يحدث انكسار للمسلمين؟!
                                وفي معرض الردِّ على هذا نقول: كيف نتعجَّبُ من حدوث هذا الانكسار الذي حدث بعد وفاة يوسف بن تاشفين، ولا نستغربه وقت أن حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجسدًا في الردة الكبيرة التي حدثت بين المسلمين؟! وهو -بلا شكٍّ- أعظم تربية وأقوى أثرًا من يوسف بن تاشفين ومَنْ على شاكلته؛ وخاصة إذا كانت هناك شواهد بَيِّنَة لهذا الانكسار وتلك الرجعة.

                                عوامل سقوط دولة المرابطين



                                كدورة طبيعية من دورات التاريخ، ومما لا يُعَدُّ أمرًا غريبًا أو غير متوقَّع، كانت هناك شواهد بَيِّنَة لانكسار وتراجع دولة المرابطين عما كانت عليه قبل ذلك؛ نستطيع أن نُجملها فيما يلي:


                                فتنة الدنيا وإن ظل أمر الجهاد قائما

                                بالرغم من عدم توقُّف الجهاد، وبالرغم من صولات وجولات علي بن يوسف بن تاشفين، التي كانت له مع النصارى وفي أكثر من موقعة، إلاَّ أن المرابطين كانوا قد فُتنوا بالدنيا، وهو يُعَدُّ شيئًا غريبًا جدًّا، وفي تحليل لمنشأ هذا الشاهد وُجد أن سببه خطأ كبير كان قد ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين، وهم عنه غافلون، وليتنا نأخذ العظة والعبرة منه؛ فقد جعلوا جُلَّ اهتمامهم التركيز على جانب واحد من جوانب الإسلام، وتركوا أو أهملوا الجوانب الأخرى، كما نرى من إغفال هذه الجوانب في كتب التاريخ؛ فقد انشغل المرابطون -في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها من البلاد- بالجهاد في سبيل الله عن إدارة الحُكم وعن السياسة داخل البلاد، شُغلوا بالأمور الخارجية عن الأمور الداخلية، والإسلام بطبيعته دين متوازن، ونظام شامل لا يُغَلِّب جانبًا على جانب، وقد رأينا مثالاً واضحًا لهذا الأمر في تلك الدولة المتوازنة التي أقامها عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، في نواحي العلم والجهاد، والاقتصاد والقانون، والعمران والعبادة.. وكل شيء؛ حيث الدولة التي تسدُّ حاجات الروح والجسد، فسادت وتمكَّنَتْ وظلَّت حينًا من الدهر.

                                ومثلها -أيضًا- كانت بداية دولة المرابطين وإقامة الجماعة المتوازنة على يد الشيخ عبد الله بن ياسين، تلك التي اهتم في قيامها بكل جوانب الحياة وعوامل ومقومات الدولة المتكاملة، التي تعطي كل جانب من مقوِّماتها قدرًا مناسبًا من الجهد والوقت والعمل، فتعلَّمُوا أن يكونوا فرسانًا مجاهدين، ورهبانًا عابدين، كما تعلَّمُوا أن يكونوا سياسيين بارعين، ومتعاونين على منهج صحيح من الإسلام وأصوله، لكن أن يُوَجِّه المسلمون كل طاقاتهم إلى الجهاد في سبيل الله في سَنَة 500هـ وما بعدها، ثم يتركون أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمور دينهم، فتلك هي قاصمة الظهر.

                                كثرة الذنوب رغم وجود العلماء

                                كثرت الذنوب والمعاصي في دولة المرابطين؛ سواء أكان ذلك في الأندلس أو في أرض المغرب، وهذا مع وجود العلماء الكثيرين في ذلك الوقت، وكثرة الذنوب كان أمرًا طبيعيًّا خاصَّة بعد أن فُتحت البلاد وكثرت الأموال؛ وذلك لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال لاقترافها، وأصحاب النفوس الضعيفة، الذين كانوا يقطنون في دولة المرابطين (في المغرب) وكانوا يفكرون في الذنوب لكن لا يقدرون عليها، أما الآن وقد فُتحت الدنيا عليهم وكثرت الأموال في أيديهم، فتحرَّكت هذه النفوس الضعيفة ناحية الذنوب، وبدأت ترتكب من الذنوب والكبائر ألوانًا وأشكالاً.

                                ولا شكَّ أنه كان هناك الغني الشاكر، لكن الحق أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة، والأصل أن الناس جميعًا يُفتنون بالدنيا، ويقعون في الذنوب إذا كثر المال في أيديهم، يقول الله تعالى في معرض قصة نوحٍ عليه السلام: { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]. والأراذل هم ضعاف الناس وبسطاء القوم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحًا عليه السلام، واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة إلى يوم القيامة؛ ومن هنا فإنَّ كثرة الذنوب أمر طبيعي ومتوقَّع كنتيجة مباشرة لكثرة الأموال، لكن أين العلماء الكثيرون المنتشرون في بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي في ذلك الوقت؟!

                                كيف يفتن الناس بالدنيا وراية الجهاد خفاقة، وكيف تكثر الذنوب رغم وجود العلماء الأجلاء؟!

                                واقع الأمر أن العلماء هم الذين يقع على عاتقهم العبء الأكبر من هذا التدني وذاك الانحدار؛ إذ نراهم وقد انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها؛ لقد طرقوا أمورًا وتركوا أمورًا أولى وأهمَّ منها، أخذوا يُؤَلِّفون المؤلفات، ويعقدون المناظرات، ويُقَسِّمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، ولا كثير جدوى؛ بينما أغفلوا أمورًا ما يصحُّ لهم أبدًا أن يتركوها أو يُغفلوها، يقول عبد الواحد المراكشي: «ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلاَّ مَنْ عَلِمَ الفروع -أعني فروع مذهب مالك- فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعُمِلَ بمقتضاها، ونُبِذَ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسِيَ النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل مَنْ ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم مَنْ ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدَّى أكثره إلى اختلال في العقائد في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعُّد مَنْ وُجِدَ عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي -رحمه الله- المغرب أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدَّم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى مَنْ وُجِدَ عنده شيء منها، واشتد الأمر في ذلك»[1].

                                لقد أحرق علي بن يوسف بن تاشفين بالفعل كتب أبي حامد الغزالي، باعتبارها تخالف الإسلام الصحيح، وهو الإمام الذي لقب بحجة الإسلام، وكان سيد فقهاء المشرق، وهو الذي أفتى ليوسف بن تاشفين بحكم الشرع في ملوك الطوائف، فكانت فتواه أقوى ما استند إليه يوسف في إزالة ممالك الطوائف وتوسيع دولة المرابطين!

                                النتائج التي ترتبت على تعمق العلماء في الفروع دون الأصول

                                كان اتِّجَاه العلماء في ذلك الوقت إلى التعمُّق في الفروع وإهمال الأصول، كمَنْ ترك لُجَّة البحر واتجه إلى القنوات الفرعية، فأنَّى له الوصول؟! وأنَّى لعمله الفائدة المرجوَّة منه؟! فكان -ونتيجة طبيعية لذلك- أن نتج عن هذا القلب الخاطئ، وذاك التعمق في الفروع تلك الأمور الخطيرة التالية:

                                جدال عظيم عقيم بين العلماء والعامة

                                وذلك أن العلماء لم يفهموا أو لم يستطيعوا أن يتفهموا حاجة العامة، كما لم تعرف العامة ما يتنطَّع به العلماء، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم البشر، وأحكم الخلق- يتكلَّم بالكلمة فيفهمه علماء الصحابة ويفهمه الأعرابي البسيط، كما كان يفهمه الرجل وتفهمه المرأة، والكبير والصغير، كلٌّ على حدٍّ سواء.

                                عزلة العلماء عن مجتمعاتهم

                                باتجاه العلماء إلى دقائق الأمور من الفروع لم يَعُدْ يشغلهم حال مجتمعاتهم، ولم يعودوا هم يعرفون شيئًا عمَّا يدور فيها، وما يحلُّ بها من مصائب وذنوب، فتوسَّعت الهوَّة كثيرًا بينهم وبين مجتمعاتهم، وحدثت بذلك عزلة خطيرة لهم في العهد الأخير للمرابطين؛ فكانت الخمور تُباع وتُشترى، بل وتُصنَّع في البلاد ولا يتكلَّم أحد، وكانت الضرائب الباهظة تُفرض على الناس غير الزكاة وبغير وجه حقٍّ، ولا يتكلَّم من العلماء أحد، وكان الظلم من الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم من العلماء أحد، وكانت هناك ملاهي الرقص لا تُستر، بل تُعْلِن عن نفسها في سفور ولا يتكلم من العلماء أحد، وإنه لعجب والله! أن تحدث مثل هذه الأمور في هذا الزمن (من بعد سنة خمسمائة من الهجرة) وتلك الدولة المرابطية، فقد كانت النساء تخرج سافرات بلا حجاب، والعلماء لاهون بالحديث عن المرجئة والمعطِّلة، وغيرها من أمور الجدال العقيمة والفُرْقَة المقيتة، ويعتقدون أن مثل هذه الأمور هي التي يجب أن يُشغَل بها المسلمون، وغيرها هي الأقل أهمية من وجهة نظرهم[2].

                                أزمة اقتصادية حادة

                                كان من بين شواهد الانكسار الأخرى في نهاية دولة المرابطين، وبعد فتنة الدنيا والمال، وغياب الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء وانعزالهم عن المجتمع، كان فوق كل هذه الأمور أن حدثت أزمة اقتصادية حادة في دولة المرابطين؛ ففي سنة (532هـ) وقع السيل العظيم بطنجة، حمل الديار والجدر، ومات فيه خلق عظيم من الناس والدواب[3]. وكذلك فتك الجراد بحقول الأندلس من سنة (526هـ) وحتى سنة (531هـ)، فاشتدت المجاعة وانتشر الوباء في سنة (526هـ) بأهل قرطبة، فكثر الموتى وبلغ مُدُّ القمح 15 دينارًا[4]، وكان قد وقع قبل ذلك بسنة (525هـ)، حريق ضخم في سوق الكتانين بقرطبة، واتصالها بسوق البز، كذلك حدث في سنة (535هـ) حريق ضخم آخر في سوق مدينة فاس، فاحترقت سوق الثياب والقراقين وغير ذلك من الأسواق إلا البقالون، وأن ذلك كان في أول الليل فتلفت أموال جليلة، وافتقر فيه خلق كثير[5].

                                وبعض المصادر تتحدث -أيضًا- عن القحط الذي حلَّ بالبلاد، فيبست الأرض وجفَّ الزرع وهلكت الدواب[6].

                                وقد يرى البعض أن هذا من قبيل المصادفة البحتة والعجيبة في الوقت نفسه، لكنها والله! ليست مصادفة؛ بل هي في كتاب الله تعالى ومن سُنَنِه الثوابت، يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

                                وهذا كلام نوحٍ عليه وعلى رسولنا السلام في حديثه لقومه؛ حيث يقول: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح: 10- 13].

                                فالله تعالى يبتلي المؤمنين دائمًا بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، وعن نهجه القويم الذي رسَمَهُ لهم، ومن هنا فلو لوحظ تدهور في الحالة الاقتصادية لأحد البلدان أو المجتمعات، وبدأت الأموال تقلُّ في أيدي الناس، وبدءوا يعملون لساعات وساعات ولا يحصل لهم ما يكفي لسدِّ رمقهم، أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وربهم I، وأن هناك ابتعادًا عن منهجه وطريقه المستقيم؛ إذ لو كانوا يُطيعونه لبارك لهم في أقواتهم وأرزاقهم.

                                هزائم المرابطين

                                هزيمة كتندة والقليعة

                                وبالطبع سبق وأعقب هذه الأحداث التي وقعت في بلاد المرابطين هزائم متعدِّدَة من قِبل النصارى، فكانت -كما ذكرنا- موقعة كتندة أو قتندة في سنة (514هـ=1120م)، والتي هُزم فيها المسلمون هزيمة منكرة[7]، ومثلها وبعدها -أيضًا- كانت موقعة القليعة في سنة (523هـ=1129م)، والتي مُني فيها المسلمون -أيضًا- بالهزيمة المنكرة[8].


                                [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص236، وما بعدها.
                                [2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص241، وانظر وثائق مرابطية نشرها حسين مؤنس في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد – العدد 2 سنة 1954م.
                                [3] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/96.
                                [4] ابن القطان المراكشي: نظم الجمان، ص226، 228، 230، 235، 242، 250، 252.
                                [5] المصدر السابق، ص222، 268.
                                [6] انظر: مراجع الغناي: سقوط دولة الموحدين، نقلاً عن الصلابي: دولة المرابطين، ص229.
                                [7] انظر في خبر هذه الموقعة: ابن الأثير: الكامل، 9/206.
                                [8] انظر خبر هذه الموقعة: ابن القطان: نظم الجمان، ص152، وما بعدها.

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X