إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد بن تومرت .. مؤسس دولة الموحدين


    ابن تومرت (473-524 هـ= 1080-1130م)

    كانت دولة المرابطين تتَّجه بقوَّة نحو هاوية سحيقة وكارثة محقَّقة، وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ قام سنة (512هـ= 1118م) رجل من قبائل مصمودة الأمازيغية (البربرية) يُدعى محمد بن تومرت بثورة على المرابطين، وكان محمد بن تومرت صاحب منهج في التغيير والإصلاح مختلف بالكلية عن منهج الشيخ عبد الله بن ياسين -رحمه الله.

    وقد وُلِدَ محمد بن تومرت هذا سنة (473 هـ= 1080 م) [1]، ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة[2]، وقد نسب هو نفسه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب[3]، لكن غالبَ الأمر أنه من قبائل الأمازيغ (البربر) في هذه المنطقة، وقد ظلَّ محمد بن تومرت في هذا البيت إلى سنة (500هـ= 1107م)، وكان قد بلغ من العمر آنذاك 27 سنة، وكان شغوفًا بالعلم، وكانت عادة الطلاب في ذلك الزمن أن يتجوَّلوا في سائر البلاد الإسلامية؛ ليتعلموا من علماء المسلمين في مختلف الأقطار؛ ولهذا فقد سافر محمد بن تومرت في سنة (500هـ= 1107م) إلى قرطبة وتلقَّى العلم هناك، ولم يكتفِ بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الإسكندرية ثم إلى مكة، حيث أدَّى فريضة الحج، وهناك تتلمذ على أيدي علماء مكة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة؛ يتلقَّى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وكانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السُّنَّة والشيعة والمعتزلة.. وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقَّى على أيديهم العلم.

    وذهب محمد بن تومرت بعد ذلك إلى المشرق، وتَذْكُر بعض المصادر أنه تلقَّى العلم على الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إلا أن هذا غير صحيح بيقين[4]- وعاد بعدها إلى الإسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي[5]، ويصف ابنُ خلدون محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة (512 هـ= 1118م) وكان قد بلغ من العمر 39 سنة، فيقول: أصبح محمد بن تومرت «بحرًا متفجرًا من العلم، وشهابًا واريًا من الدين»[6]. يعني أنه جمع علومًا كثيرة وأفكارًا جمَّة من تيارات إسلامية مختلفة، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.

    منهج التغيير عند ابن تومرت

    في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الإسكندرية يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه -كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا، إلاَّ أنه كان شديدًا غاية الشِّدَّة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شِدَّة تصل إلى حدِّ التنفير، فكان يَنْفرُ عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، حتى إنه خرج من الإسكندرية مطرودًا منها، طرده واليها بعدما خشي منه، ثم ركب في سفينة متَّجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة -أيضًا- ظلَّ ابن تومرت على حِدَّته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فمنع الخمور على ظهر السفينة، وأمر بقراءة القرآن.

    واشتدَّ على الناس واختلف معهم كثيرًا، فألقوه في عُرض البحر، وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وهو يسبح بإزاء السفينة نصف يوم كامل، فلما رأوا ذلك اشفقوا عليه، وأنزلوا مَنْ أخذه من البحر وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب[7]، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تُسَمَّى المهدية، ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرًا من آلة الملاهي، أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع الناس به في البلد فجاءوا إليه وقرءوا عليه كتبًا من أصول الدين[8].


    كان ابن تومرت يُرِيد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًّا ودفعة واحدة، والحقُّ أن هذا أمر مخالف لسُنَن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول
    صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة لم يأمر بهذا التغيير الجذري المفاجئ ولا سعى إليه، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى بصورة متدرِّجَة؛ فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة، ومراعية للتدرُّج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل ذلك لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.

    تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين تولَّى الخلافة الأموية؛ فقد كانت هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- شديدًا في الحقِّ، فأراد أن يُغَيِّرَ كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلاَّ أنه وجد أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرِّجة فشقَّ ذلك عليه، فذهب إليه، وقال له: يا أبي؛ أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تُغَيِّرَ هذا المنكر كله، وتُقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام. فقال له عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: يا بُنَيَّ؛ لو حملتُ الناس على الحقِّ جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة[9].

    لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا المنحى، إنما يُريد أن يُغَيِّرَ كل شيء تغييرًا جذريًّا، بل وبأسلوب فظٍّ شديد، وقد قال جَلَّ شأنه يخاطب نبيَّه الكريم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]. خطابٌ لشخصه صلى الله عليه وسلم ؛ وهو المؤيَّد بالوحي، وأحكم الخلق، وأعلم البشر جميعًا: إن دعوتَ إلى الله تعالى بفظاظة وغلظة انفضَّ الناس عنك، فما البال بعموم الناس من دونه؟!

    ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي

    ولما كان ابن تومرت في بجاية قابل رجلاً، كان يُريد هو -أيضًا- ما كان يُريده ابن تومرت في أوَّل رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن علي، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاده وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فردَّ عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديَّ، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يُعَلِّمُه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلاَّ معًا في طريقهما لم يفترقَا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه[10].

    أخذ عبد المؤمن بن علي العلم من ابن تومرت مع الطريقة الفظَّة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله في بلاد المغرب العربي، وقد انضمَّ إليهما خمسة آخرون، وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه[11]، وعلى هذه الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثُرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشَّت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسَّسها يوسف بن تاشفين –رحمه الله- من قبل، وكانت ثغرًا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاةَ وقد بدءوا يظلمون الناس، ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد -أيضًا- ذاك السفور والاختلاط قد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس؛ حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير، وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة، علم أنها أخت أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأنكر ذلك عليها إنكارًا شديدًا؛ حتى إن بعض المصادر تثبت أنه وأصحابه كانوا يضربون وجوه مطاياها حتى أوقعوها من عليه[12].

    هذا هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو -بلا أدنى شكٍّ- مخالف تمامًا للنهج القويم، ونهج رسول الله في العمل ذاته على نحو ما رأينا.


    [1] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، فقد قال: «ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: خمسًا وخمسين سنة». وعلى هذا فهو إمَّا مولود في 469 أو 473هـ، وفي مولده اختلاف كبير غير هذا.
    [2] ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، 6/236.
    [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص245، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/236، ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، 19/539: «المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي».
    [4] يقول الأستاذ عبد الله عنان مفندًا هذه المقولة: «ونحن نقف قليلاً عند هذه الرواية، التي يُرَدِّدها كثير من مؤرِّخي المشرق والمغرب؛ إذ متى وأين كان هذا اللقاء؟ وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على إثر ذلك إلى بغداد، وإذًا فيكون من المرجَّح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 أو 505هـ، وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484، 488هـ=1091، 1095م، وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، وإذًا فيكون من المستحيل ماديًّا أن يكون ابن تومرت -الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ- قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي؛ ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور، حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية 505هـ= ديسمبر سنة 1112م.
    ويتضح من ذلك جليًّا بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية، وفضلاً عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة؛ ذلك أنها تُقرن بواقعة أخرى خُلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه إحياء علوم الدين بالمغرب والأندلس، تغيَّر وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يُؤَمِّنُون، فقال: «اللهم مزِّق ملكهم كما مزَّقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه». وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك.
    وينقض هذه الواقعة من أساسها أن قرار المرابطين بحرق كتاب الإحياء قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام، فأين إذًا ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نُسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
    هي أسطورة إذًا، نُسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت؛ لتغدو هالة تُحيط بشخصه وسيرته، وتُذكي عناصر الخفاء والقدسية حول شخصه وإمامته، وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوُّئِه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي... ومن ثمَّ فإنا نجد كثيرًا من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا: «والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به أي: بالغزالي». ويُبْدِي ابن خلدون ريبة فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يُعاملها لسان الدين بن الخطيب، وكذلك فإن البحث الحديث يُنكرها وينفيها، ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر... على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثَّر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته...». محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/161-163.
    [5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص245، وتاريخ ابن خلدون، 6/226، والسلاوي: الاستقصا، 2/78.
    [6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/226.
    [7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص246.
    [8] السلاوي: الاستقصا، 2/79.
    [9] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 6/419.
    [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص247، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 1/227، والسلاوي: الاستقصا، 2/80، ومنهم من قال: إنه لقيه بملالة على بعد فرسخ من بجاية. ومنهم من قال: بفنزارة من بلاد متيجة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص100.
    [11] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/49، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/543، والسلاوي: الاستقصا، 2/83.
    [12] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • ابن تومرت ومنهجه في التغيير

      بين علي بن يوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت

      سمع علي بن يوسف بن تاشفين بمحمد بن تومرت وبدعوته، وبمنطق سليم فكَّرَ الخليفة في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين، يكون مقرُّها قصر الخليفة نفسه، فقدم محمد بن تومرت على رأس أتباعه الستة، وأتى علماءُ دولة المرابطين، وكان على رأسهم كبير العلماء وقاضي القضاة مالك بن وهيب، وبدأ الفريقان في المناظرة.

      ونظرة أولية إلى فكرة عَقْد مثل هذه المناظرة يُوحي بأن علي بن يوسف بن تاشفين كان رجلاً ما زال يحمل من الخير الكثير، وإلاَّ فإنه -وعلى أقلِّ تقدير- كان من الممكن أن يفتعل مثل هذه المناظرة ويقوم بعدها بسجن محمد بن تومرت، أو قتله أو فعل أيِّ شيء آخر من هذا القبيل، خاصَّة وهو ذلك الثائر على الحاكم، والذي يُريد قلب وتغيير نظام الحُكم، وهذا ما سيزداد تأكيدًا في نهاية هذه المناظرة في صالح الأمير على نحو ما سيأتي.

      وفي هذه المناظرة تفوَّق محمد بن تومرت على علماء دولة المرابطين تفوُّقًا ملحوظًا؛ فقد كان -كما ذكرنا- من كبار العلماء المتشبِّعين بالعلم، وكان كما وصفه ابن خلدون بحرًا متفجِّرًا من العلم وشهابًا في الدين، وهو الذي أمضى عشر سنين في بغداد يتعلَّم علم المجادلة، وفنون المحاورة على يد العقليين من المعتزلة وغيرهم، فاستطاع ابن تومرت أن يحاجَّ علماء دولة المرابطين جميعًا في كل القضايا التي أُثيرت بينه وبينهم، حتى بكى علي بن يوسف بن تاشفين في مجلسه؛ لما رأى من كثرة المعاصي في دولته، وهو لا يدري عنها شيئًا، أو هو يدري عنها لكنه لم يُغَيِّرْها، بكى من الخشية لَمَّا سمع حجج وأقاويل ابن تومرت، لكن ذلك لم يشفع له عنده، وظلَّت الحِدَّة واضحة جلية في كلامه وحديثه مع الأمير.

      وكان علماء الدولة ووزراؤها يعلمون أنه يُحَرِّض الناس على الخروج على الحاكم، فأَسَرَّ مالك بن وهيب قاضي القضاة في أُذنِ علي بن يوسف بن تاشفين؛ بأنَّ عليه أن يعتقل هذا الرجل، ويُنفق عليه دينارًا كل يوم في السجن، وإلا ستمرُّ عليك الأيام فتُنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه؛ لكن الوزير أشار على علي بن يوسف بن تاشفين بعدم فعل ذلك؛ خاصَّة وأنه جلس في مجلسه وبكى من خشية الله حين سمع كلماته، فلا يُعقل أن تأتي بعد ذلك وتعتقله، فتَحْدُث بذلك بلبلة عند عموم الناس، كما أنه بمَنْ معه سبعة نفر فقط، أمَّا أنت فحاكم دولة ضخمة، وهي دولة المرابطين؛ فكيف تخشى من هذا الرجل؟!

      وازن عليُّ بن يوسف بن تاشفين بين رأي مالك بن وهيب قاضي القضاة وبين رأي الوزير، واستقرَّ أخيرًا على ترك محمد بن تومرت؛ خشية أن يأثم إن حبسه دون وجه حقٍّ؛ فالرجل ما زال به خير، وكان من الممكن أن يُصلح أمره إذا حاول معه محمد بن تومرت ومَنْ معه بالتي هي أحسن، لكنه لم يفعل[1].

      جماعة الموحدين

      ما أن خرج محمد بن تومرت من مجلس الأمير علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش حتى نزل على صديق له في بلد مجاور، وذهبوا بعدها إلى قرية في عمق الجبل اسمها تينملل، وهي التي ستكون عاصمة للدولة التي سوف يُؤَسِّسها محمد بن تومرت بعد ذلك[2].

      وكان محمد بن تومرت زاهدًا أشدَّ الزهد، وكان لا يحمل في يده إلا عصا وركوة[3]، ولا يأكل إلا القليل من الطعام، وكان -كما ذكرنا- صاحب علم غزير، فبدأ الناسُ في هذه القرية الصغيرة يلتفُّون حوله ويسمعون لكلامه، وبدأ يُؤَثِّر فيهم بشكل طبيعي؛ لِمَا كانوا عليه من المعاصي والمنكرات، تلك التي انتشرت في بلاد المرابطين، ثم بدأ يُكَوِّن حوله جماعة بدأت صغيرة، وقد سمَّاها جماعة الموحدين[4]، وهي تسمية خطيرة لما سنعلمه بعد قليل.

      دعوة ابن تومرت وطريقة تربيته



      يذكر عبد الواحد المراكشي مراحل دعوة ابن تومرت وتربيته الناس في تينملل، فيقول: «من هذا الموضع قامت دعوته وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير من غير أن يُظهر إمرة ولا طلبة ملك، وألَّف لهم عقيدة بلسانهم، وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان، فلمَّا فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته، فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه؛ أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء، ولم يأذن لهم فيها، وأقاموا على ذلك مدة، وأمر رجالاً منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل، وجعل يذكر المهدي ويُشَوِّق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه من المصنفات، فلمَّا قَرَّر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه، وقال: أنا محمد بن عبد الله. ورفع نسبه إلى النبي وصرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديث كثيرة؛ حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسط يده فبايعوه على ذلك، وقال: أبايعكم على ما بايع عليه أصحاب رسولِ الله رسولَ الله. ثم صنَّف لهم تصانيف في العلم منها: كتاب سماه (أعز ما يطلب)، وعقائد في أصول الدين، وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل، إلا في إثبات الصفات، فإنه وافق المعتزلة في نفيها، وفي مسائل قليلة غيرها، وكان يُبطن شيئًا من التشيُّع، غير أنه لم يَظهر منه إلى العامة شيء»[5].


      انحرافات ابن تومرت العقائدية والمنهجية

      قويت شوكة محمد بن تومرت، وبمجرَّد أن قويت شوكته ظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة؛ فقد كان لأخذه العلم من تيارات مختلفة تُمَثِّل سنةة وشيعة ومعتزلة، وغيرهم في بلاد الشام وبغداد ومكة ومصر وغيرها من البلاد، كان من جرَّاء ذلك أن ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة؛ والتي تمثَّلت فيما يلي:

      ادعى العصمة

      وعند أهل السنة والجماعة أن العصمة لم تَثْبُت إلاَّ للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يقولوا بها لغيرهم، حتى لكبار الصحابة الذين خَصَّهم الله بالفضل؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم[6]؛ فابن تومرت بهذا النهج قد وافق الرافضة الاثني عشرية، الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم؛ حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والنسيان، كما قالوا: إن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان[7].

      وهكذا نرى محمد بن تومرت قد اشتطَّ كثيرًا في القول بالعصمة لنفسه، وهذا -بلا شكٍّ- انحراف عقدي خطير؛ لأن الاعتراف بعصمته أو عصمة غيره يُوجب الإيمان بكل ما يقوله، فقد أعطاه ذلك معنى النبوة، وإن لم يُعطه لفظها.

      ادعى أن المرابطين من المجسمة

      كان المرابطون يُثبتون لله تعالى صفاته كما هي، لكن محمد بن تومرت أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله ، وهي قضية جدليَّة طويلة لا نُريد الخوض في تفصيلاتها، وخلاصة الأمر في ذلك أنه لما أثبت أنَّ المرابطين يُثبتون الصفات لله ، ادَّعى أنهم من المجسمة؛ وتبعًا لهذا الادعاء فقد قال بكفر المرابطين، وادَّعى أن علي بن يوسف بن تاشفين ومَنْ معه من الولاة والعلماء، ومَنْ يعمل تحت حكمهم ومَنْ يَرضى بحُكمهم، هو من الكافرين[8].

      وهذا منحى خطير؛ إذ إنه كفَّر حُكَّام الدولة التي كان يعيش فيها، وهي دولة المرابطين التي تشمل بلاد الأندلسبلاد المغرب في ذلك الوقت. و
      فكان يقول لأتباعه: «واشتغِلُوا بتعليم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق الشبيه والشريك والنقائص، والآفاق والحدود والجهات، ولا تجعلوه -سبحانه- في مكان أو جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة ومكان فقد جسَّمه، ومَنْ جسمه فقد جعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فهو كعابد وثن»[9].

      لقد تبنَّى ابن تومرت منهج المعتزلة في الأسماء والصفات؛ حيث نفى كل ما عساه أن يُوهم الشبه والمثلية لله سبحانه، حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسُّنَّة؛ ولهذا سَمَّى أصحابه بالموحدين؛ لأنهم في رأيه هم الذين يُوَحِّدُون الله لنفيهم الصفات عنه ، كما كان يُسَمِّي أتباعه بالمؤمنين، ويقول لهم: «ما على وجه الأرض مَنْ يُؤمن إيمانكم»[10].

      استحل دماء المرابطين

      وتبعًا لهذا التكفير السابق لغير الموحدين استحلَّ محمد بن تومرت دماء المرابطين؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أمر بالخروج عليهم وقتلهم، وأنه ليس هناك إثم في ذلك؛ بل إن في قتلهم إحرازًا لثواب عظيم[11]، وهنا يَبُرز أحد أخلاق محمد بن تومرت فقد كان متساهلاً في الدماء، وهي خاصية من خصائص الخوارج، الذين تَعَلَّم على أيدي بعضهم -كما ذكرنا- أثناء رحلته لطلب العلم.

      كان ابن تومرت يهدف إلى هدم دولة المرابطين من جذورها، وبناء دولة الموحدين على أنقاضها مهما كَلَّفه ذلك؛ وقد استباح في سبيل ذلك الدماء والأرواح والأموال، وكانت غايته تلك مبرِّرَة -من وجهة نظره- لكل وسيلة، فكان لا يتردَّد في قتل مَنْ يشكُّ في إيمانه بما يدَّعيه من مبادئ، حتى ولو كان من أتباعه؛ فقد قام ابن تومرت بما سمِّي التمييز؛ أي: تمييز أتباعه الصادقين من المداهنين والمنافقين والمخالفين، فيقتلهم على الفور ليظلَّ صَفُّه قويًّا[12].

      ومن المعلوم أنَّ من أهمِّ مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على النفس، وما فعله هذا الآثِم إنما هو اعتداء بغير حقِّ على أنفسٍ حرَّم الله إزهاقها، وفي فعله هذا انحراف واضحٌ عن الشرع، وارتكاب متعمَّد للكبائر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

      يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله؛ حيث يقول -سبحانه- في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى أن قال: { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا... منها: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ[13]»[14].

      إن أمر القتل في غاية الخطورة ولا يستحلُّه إلاَّ مَنْ تجرَّد من كل معاني الأخلاق والرحمة ومن كل المعاني الإنسانية.

      وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"[15].

      يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله: «إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حقٍّ- ولكنها -كذلك- جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها؛ ومن ثَمَّ قُرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النساء: 116].. فرجَا للقاتل التائب المغفرة.. وفسَّر الخلود بأنه الدهر الطويل. والذين تربَّوْا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يَرَوْنَ قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة، ولكنهم لا يُفَكِّرُون في قتلهم، لا يُفَكِّرُون مرَّة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشدِّ الحالات وجدًا ولذعًا ومرارة؛ بل إنهم لم يُفَكِّرُوا في إنقاصهم حقًّا واحدًا من حقوقهم، التي يُخَوِّلها لهم الإسلام»[16].

      كان لا بُدَّ لنا من هذا الوقفة مع هذا الأمر الخطير؛ أمر الدماء التي استحلَّها هذا الآثم المخادع، أمَّا عملية التمييز التي سبق الإشارة إليها فقد استعان فيها ابن تومرت برجل على شاكلته يُسَمَّى أبو عبد الله بن محسن الونشريشي، وكان يُلَقِّبه بالبشير؛ إمعانًا في خداع الناس وإضلالهم، وقد طلب ابن تومرت من هذا الفاسق أن يُخفي علمه وحفظه للقرآن، ويظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه.

      قال الذهبي: «فلمَّا كان عام تسعة عشر وخمسمائة (519 هـ) خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير -يُريد الونشريشي- رجل أُمِّيٌّ، ولا يثبت على دابَّة، فقد جعله الله مُبَشِّرًا لكم، مُطَّلِعًا على أسراركم، وهو آية لكم قد حفظ القرآن، وتعلَّم الركوب، وقال: اقرأ. فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانًا وساقه، فبُهِتُوا، وعَدُّوها آية لغباوتهم، فقام خطيبًا، وتلا: { لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فهذا البشير مُطَّلع على الأنفس مُلْهَم، ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ»[17].

      وقد صَحِبَنَا أقوام أطلعه الله على سِرِّهم، ولا بُدَّ من النظر في أمرهم، وتَيَمُّمِ العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: مَنْ كان مطيعًا للإمام فليأت. فأقبلوا يهرعون، فكانوا يُعْرَضون على البشير، فيُخرج قومًا على يمينه، ويَعدُّهم من أهل الجنة، وقومًا على يساره، فيقول: هؤلاء شاكُّون في الأمر. وكان يُؤْتَى بالرجال منهم، فيقول: هذا تائب رُدُّوه على اليمين تاب البارحة. فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يُطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفرُّ منهم أحد، وإذا تجمَّع منهم عدَّة، قتلهم قراباتُهم حتى يقتل الأخ أخاه!» [18].

      وأورد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) هذا الأمر فقال: «وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السرِّ؛ بحيث لا يعلم أحدٌ ذلك منه، فلمَّا كان سنُّه تسع عشرة، وخاف المهدي -ابن تومرت- من أهل الجبل، خرج يومًا لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانًا حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: مَنْ هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي. فقال له المهدي: إن أمرك لعجبٌ! ثم صلَّى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إنَّ هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي فانظروه، وحقِّقُوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قِصَّتُك؟ قال: إنني أتاني الليلة مَلَكٌ من السماء، فغسل قلبي، وعَلَّمَنِي الله القرآن والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك. فقال: افعل.

      وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أيِّ موضع سُئِلَ، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعَجِبَ الناسُ من ذلك، واستعظموه، ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نورًا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.

      فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر، وصَلَّى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله؛ إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت.
      فقال مَنْ بها: صدق. وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلمَّا قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تُطَمَّ لئلاَّ يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز. فألقَوْا فيها من الحجارة والتراب ما طَمَّهَا -وبهذا يكون قد قتل الرجال الذين اتَّفق معهم على هذا القول؛ لئلاَّ يُفْتَضح أمره- ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار. فيُلْقَى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغرِّ ومَنْ لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة. فيُتْرَك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفًا، فلما فرغ من ذلك أَمِنَ على نفسه وأصحابه»[19].


      هذا فِعْلُ ابن تومرت بمَنْ معه، فكيف يكون فعله بالمرابطين؟!

      ولقد رُويت عنه كثير من الأخبار التي احتال فيها؛ حتى ظهر وكأنه يعلم الغيب، ولا نشك أن له عيونًا وأتباعًا، كما لا شك في أنه شخصية قوية ذات بصر وخبرة وفراسة، يروي المراكشي واقعة منها فيقول: «أخبرني مَنْ رآه -ممن أثق إليه- يضرب الناسَ على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخل؛ متشبِّهًا في ذلك بالصحابة. ولقد أخبرني بعض مَنْ شهده وقد أتى برجل سكران، فأمر بحدِّه، فقال: رجلٌ من وجوه أصحابه يُسَمَّى يوسف بن سليمان: لو شدَّدْنَا عليه حتى يُخبرنا من أين شربها لنَحْسم هذه العلةَ من أصلها. فأَعْرَض عنه، ثم أعاد عليه الحديث، فأعرض عنه، فلما كان في الثالثة قال له: أرأيت لو قال لنا: شربتُها في دار يوسف بن سليمان. ما نحن صانعون؟ فاستحيا الرجل وسكت، ثم كُشف على الأمر، فإذا عبيدُ ذلك الرجل سقَوه، فكان هذا من جملة ما زادهم به فتنة وتعظيمًا، إلى أشياءَ كان يُخبر بها فتقع كما يُخبر، ولم يزل كذلك وأحوالُه صالحة، وأصحابه ظاهرون، وأحوال المرابطين المذكورين تَخْتَلُّ، وانتقاض دولتهم يتزيد، إلى أن تُوُفِّيَ ابن تومرت... بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، ورسم لهم ما هم فاعلوه»[20].

      كذلك يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وقد بلغني فيما يُقال: أن ابنَ تُومرت أخفى رجالاً في قبور دَوَارِسَ[21]، وجاء في جماعة لِيُرِيهم آية، يعني فصاحَ: أيُّها الموتى أجيبوا. فأجابوه: أنتَ المهدي المعصومُ، وأنت وأنت.. ثم إنه خاف من انتشارِ الحيلة، فخسف فوقهم القبور فماتوا»[22].

      وقفة مع ابن تومرت وجماعته

      كان محمد بن تومرت في جماعته الجديدة يقتل العشرات من المخالفين له، حتى من فرقته وجماعته (الموحدين)، فالذي يُخَالِفُه في الرأي ليس له من دواء إلاَّ القتل، وهو أمر في غاية الغرابة؛ نظرًا لما عنده من العلم الغزير، وأغرب منه كان ادعاؤه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر!

      ولا شكَّ في أنْ يعتقدَ صِدْقَه وما يذهب إليه من أقواله تلك كثيرٌ من الناس؛ وذلك -كما ذكرنا- لانشغال علماء الدولة بالأمور الفرعية عن تعليم هؤلاء الناس أصول العقائد وأصول العبادات، فقد أقام العلماء جدارًا عازلاً بينهم وبين العامَّة، الذين لا يعرفون أين الحقُّ وأين الباطل، والذين لا يستطيعون أن يُمَيِّزُوا بين الغثِّ والسمين.

      ومن هنا حين رأى مثل هؤلاء الناس رجلاً مثل محمد بن تومرت في شخص العالم الكبير، وهو يروي من أحاديث رسول الله عن فلان وفلان، ثم هو يحفظ كتاب الله ، ويعلم سِيَرَ الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، حين رأوا ذلك ما كان منهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا لما يقوله، وما يمليه عليهم عالمهم ومعلمهم، وقد اعتقدوا جميعًا بعصمته، واعتقدوا جميعًا بِحلِّ قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على قتلهم.

      ولنا أن نتخيَّل مثل هذا الأمر في حقِّ المرابطين، الذين فتحوا البلاد، وأقاموا صرح الإسلام في بلاد المغرب والأندلس لسنوات وسنوات، الآن وبعد ظهور بعض المنكرات في بلادهم، وبعد انشغالهم بالجهاد عن التعليم، أصبحوا يُكَفَّرون وتُحَلُّ دماؤهم، ويُقَاتَلون من قِبَلِ جماعة الموحِّدِين، ذلك الاسم (الموحِّدين) الذي يُشير بقوَّة إلى أن غيرهم كفار وليسوا بموحدين أو مسلمين.


      [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص251، وابن كثير: البداية والنهاية، 12/231، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
      [2] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/50، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/455.
      [3] الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والدلو الصغيرة. المعجم الوسيط 1/371.
      [4] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/51.
      [5] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص254، وابن الأثير: الكامل 9/196.
      [6] انظر: ابن تيمية: منهاج أهل السنة، 7/59.
      [7] انظر: أبو حامد الغزالي: فضائح الباطنية، ص142، والخميني: الحكومة الإسلامية، ص52، ومن المفيد أن ننقل قول الخميني: «وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم والأئمة ع كانوا قبل هذا العالم أنوارًا، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله».
      [8] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/550، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/227.
      [9] ابن تومرت: أعز ما يُطلب، ص204، نقلاً عن الصلابي: دولة الموحدين، ص41.
      [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص255.
      [11] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
      [12] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/199، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
      [13] رواه الترمذي: كتاب الديات، باب في تشديد قتل المؤمن 1395 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والنسائي 3987، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع 5077.
      [14] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/376.
      [15] البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة: 45 6484، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومسلم: كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 1676 واللفظ له.
      [16] سيد قطب: في ظلال القرآن، 2/736.
      [17] والحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه 3486 واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل عمر رضي الله عنه 2398.
      [18] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/546.
      [19] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/198، 199.
      [20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
      [21] دوارس جمع دارس: وهو العافي وذهاب الأثر ومتقادم العهد. ابن منظور: لسان العرب، مادة درس 6/79، والمعجم الوسيط 1/279.
      [22] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/551.


      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • الصراع بين المرابطين والموحدين



        المواجهة بين المرابطين والموحدين

        حمل محمد بن تومرت على عاتقه وعاتق جماعته -الموحدين- أمر مقاتلة المرابطين وسفك دمهم.

        يقول ابن خلدون ملخصًا معارك المرابطين والموحدين: «ولما تمَّ له (ابن تومرت) خمسون من أصحابه سمَّاهم ايت الخمسين، وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل، فاجتمعوا إليه، وأوقعوا بعسكر لمتونة، فكانت هزمة الفتح، وكان الإمام (أي: ابن تومرت) يَعِدُهم بذلك، فاستبصروا في أمره (أي تأكدوا من صدق ابن تومرت)، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وتردَّدت عساكر لمتونة إليهم مرَّة بعد أخرى ففضُّوهم... وكانوا يُسَمّون لمتونة الحشم، فاعتزم على غزوهم، وجمع كافَّة أهل دعوته من المصامدة، وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات، فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن علي بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون...»[1].

        لقد استطاع ابن تومرت أن يتحصن في تينملل وأن يُخرج منها الجيوش التي تفتك بدولة المرابطين، ولقد استطاع بطبيعة الحال أن يُوَسِّع الأرض التي حوله والتي ينطلق منها، ولقد التقوا مع المرابطين في مواقع عديدة؛ كان منها تسع مواقع ضخمة، انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين.

        وأكبر هزائمهم كانت حين استفحل خطرهم فجهز لهم علي بن يوسف بن تاشفين جيشًا كبيرًا، ثم خرج من الموحدين جيش كبير على قيادته عبد المؤمن بن علي، يروي عبد الواحد المراكشي كيف سارت المعركة فيقول: «ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا من المصامدة، جُلُّهُم من أهل تينملل مع مَنِ انضاف إليهم من أهل سوس، وقال لهم: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدِّلِينَ، الذين تسمَّوْا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لكم ما لهم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم؛ فقد أباحت لكم السُّنَّة قتالهم. وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي وقال: أنتم المؤمنون، وهذا أميركم. فاستحقَّ عبد المؤمن من يومئذ اسم إمرة المؤمنين.

        وخرجوا قاصدين مدينة مراكش، فلقيهم المرابطون قريبًا منها بموضع يدعى البحيرة، بجيش ضخم من سراة لمتونة، أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فلمَّا تراءى الجمعان، أرسل إليهم المصامدة (من الموحدين) يدعونهم إلى ما أمرهم به ابن تومرت، فردُّوا عليهم أسوأ ردٍّ، وكتب عبد المؤمن إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بما عهد إليه محمد بن تومرت، فردَّ عليه أمير المسلمين يُحَذِّره عاقبة مفارقة الجماعة، ويُذَكِّرُه الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة، فلم يردع ذلك عبد المؤمن؛ بل زاده طمعًا في المرابطين، وَحَقَّق عنده ضعفهم، فالتقت الفئتان، فانهزم المصامدة وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونجا عبد المؤمن في نفر من أصحابه، فلمَّا جاء الخبر لابن تومرت، قال: أليس قد نجا عبد المؤمن؟ قالوا: نعم. قال: لم يُفقد أحد»[2].

        وقفة مع تاريخ ابن تومرت

        الحقيقة أن سيرة هذا الرجل فيها خلط كثير جدًّا، وتفاصيل كثيرة متشابكة في معظم الأحيان، وهي على تشابكها تتنافر وتتجاذب، فلا يدري المرء أي الأحداث أصدق، أو أيها أسبق، وبخاصة أن القدماء الذين كتبوا عن هذا الرجل لم يُؤَرِّخوا بدقَّة له أو للأحداث في عهده، اللهم إلا في القليل جدًّا، وهذا أمر يُعذرون فيه؛ إذ إن الظروف التي أحاطت بالرجل، أو التي أحاط نفسه بها -عن قصد أو غيرِه- تَحُولُ دون الدقَّة في الإخبار عنه؛ فلقد كان على غرابته ووحدته وصمته، دائم الترحال، ولم يستقرّ إلا في منطقة جبلية وعرة وحصينة؛ بل منهم مَن يقول: إنه استقر حينًا في منطقة وعرة، ثم ارتحل عنها بعد قليل (ثلاث سنوات تقريبًا) لمنطقة أخرى كانت أكثر حصانة منها ووعورة، وأشدَّ قسوة على أهلها ومَنْ راموهم بسوء، وهذا هو الأرجح، ولقد اعتمد على ساكني هذه المناطق في دعوته، ولنا أن نتوقَّع حال مَنْ يسكن هذه المناطق وعقلياتهم، بل يكفينا أن نتذكَّر أنهم ساروا خلفه رغم ادعائه الهدى والعصمة، ورغم ما فعله بهم يوم التمييز، ثم إنه قتل في يوم التمييز كلَّ مَنْ كان يخافه على نفسه ودعوته وأتباعه من أهل الفهم بين هؤلاء القوم، وقتلهم بأيدي أهليهم، بل إن مِن المصادر مَن يذكر أن هؤلاء الذين قُتلوا لم يحاولوا الهرب، وانتظروا حتى قتلهم أهلوهم، وإن كان ثمة مصادر أخرى ذكرت ما يختلف عن هذا؛ فمنهم مَن قال: إنه متى ذُكر أن فلانًا من أهل النار يُكَتَّف ثم يقتل. ومنهم من ذكر أنه كان يُلْقَى من أعلى الجبل في ساعتها، ومنهم.. ومنهم.. المهم أن أهل الفهم مِنْ هؤلاء لم يكونوا علماء، ولكنهم كانوا قومًا قد لا يصدقون كذبه وادعاءه، وينشرون ذلك بفطرتهم، فيُثَبِّطون به العزائم من حوله أو ما شابه؛ لهذا فإن المرء لا يَعْجَبُ إذا وجد أن كتاب (أخبار المهدي ابن تومرت) لأبي بكر بن علي الصنهاجي الشهير بالبيذق -وقد كان من أتباع ابن تومرت المقربين، وسابع مَنْ بايعوه في تينملل- لم يكن يذكر تواريخ كثير من الأحداث، بل ولا حتى عام حدوثها، حتى معارك ابن تومرت نفسها لم يكن الرجل يذكر تواريخها ولا سنة وقوعها، اللهم إلا ما ذكره على سبيل الإجمال في نهاية كتابه عن أهم ما حدث من سنة 518هـ إلى سنة 527هـ، فهذا رجل كان من كبار أتباع ابن تومرت، ولا يهتم أن يسوق الحدث ومعه تاريخ وقوعه؛ لذلك فإن المؤرخين معذورون في وقوع هذا الخلط.


        معركة البحيرة


        كانت معركة البحيرة أو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقُتِلَ فيها من الموحدين أربعون ألفًا، وهذه المعركة -البستان أو البحيرة- هي التي سُبقت بحادث التمييز؛ حيث قام ابن تومرت بقتل كلِّ مَنْ يشُكُّ في ولائه له، بل جعل أهلَهم وأقرباءهم هم الذين يقتلونهم، كما سبق الإشارة إلى هذا الأمر.

        قال ابن الأثير: «فجهَّز المهدي -ابن تومرت- جيشًا كثيفًا يبلغون أربعين ألفًا، أكثرهم رجَّالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسَيَّر معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيَّقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يومًا، فأرسل أمير المسلمين إلى متولِّي سِجِلْمَاسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشًا كثيرًا وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مَرَّاكُش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا واشتدَّ القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقُتِلَ الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرًا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامَّة النهار، وصَلَّى عبد المؤمن صلاة الخوف؛ الظهر والعصر، والحربُ قائمة، ولم تُصَلَّ بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوَّتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك -والبستان يُسَمَّى عندهم البحيرة؛ فلهذا قيل: وقعة البحيرة، وعام البحيرة- وصاروا يُقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قُتِلَ من المصامدة أكثرهم، وحين قُتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يَرَوْه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة. ولما جنَّهم الليل سار عبد المؤمن ومَنْ سلم من القتلى إلى الجبل»[3].

        لم تَفُتُّ هذه الهزيمة في عضد ابن تومرت، ولم يُصبه اليأس، وإن كان أصحابه قد بدءوا يَشُكُّون في مهديَّته المزعومة؛ فلجأ نتيجة لذلك إلى الحيلة والكذب؛ ليبعث الأمل من جديد في نفوس أصحابه، ويُوهمهم بأنهم على الحقِّ، وأن هؤلاء الملثَّمِينَ على الباطل، ولا بُدَّ أن يُهزموا.

        يقول المراكشي في المعجب: «ولما رجع القوم إلى ابن تومرت، جعل يُهَوِّن عليهم أمر الهزيمة، ويُقَرِّر عندهم أن قتلاهم شهداء؛ لأنهم ذابُّون عن دين الله، مُظهرون للسُّنَّة؛ فزادهم ذلك بصيرةً في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوِّهم، ومن حينئذٍ جعل المصامدة يشنُّون الغارات على نواحي مراكش، ويقطعون عنها موادَّ المعايش وموصول المرافق، ويقتلون ويَسْبُون، ولا يُبْقُون على أحد ممن قَدروا عليه؛ وكثر الداخلون في طاعتهم والمُنْحَاشون إليهم، وابن تومرت في ذلك كله يُكثر التزهُّد والتقلُّل، ويُظهر التشبُّه بالصالحين، والتشدُّد في إقامة الحدود؛ جاريًا في ذلك على السُّنَّة الأُولى»[4].

        لم يلبث ابن تومرت أن تُوُفِّيَ بعد معركة البحيرة هذه، تاركًا أصحابه بعد أن أمَّر عليهم عبد المؤمن بن علي، ولما مات كَفَّنه عبد المؤمن بن علي وصَلَّى عليه، ودفنه بمسجده[5].

        وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول؛ بسبب هذه الهزيمة الشديدة التي نزلت بأتباعه في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح مع ذلك في ترسيخ دعوته في قلوبهم، حتى صَدَّقُوه وآمنوا بمهديَّتِه، وأطاعوه ولو في قتل أبنائهم؛ كما حصل في حادثة التمييز التي تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلت كل قبيلة أبناءها دون أن يُصِيبها التردُّد أو الحيرة.

        البيعة لعبد المؤمن بن علي

        ومن عجيب ما ينقل المراكشي في (المعجب) أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة استدعى هؤلاء المسمَّيْنَ بالجماعة، وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرِّقة، لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلمَّا حضروا بين يديه قام -وكان متكئًا- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على محمد نبيه ، ثم أنشأ يترضَّى عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وذَكَر مِن حَدِّ عمر بن الخطاب -t- ابنَه في الخمر، وتصميمه على الحقِّ في أشباهٍ لهذه الفصول، ثم قال: فانقرضت هذه العصابة - نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أُمَّةِ نَبِيِّهَا- وخبطت الناس فتنةٌ تركت الحليم حيران، والعالم متجاهلاً مُداهنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قصدوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم... ثم إنَّ الله - سبحانه وله الحمد - مَنَّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخَصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض لكم من أَلْفَاكُم ضُلاَّلاً لا تهتدون، وعُمْيًا لا تُبصرون؛ لا تعرفون معروفًا، ولا تُنكرون منكرًا، قد فَشَتْ فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، وزَيَّنَ لكم الشيطان أضاليلَ وتُرَّهاتٍ أُنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَأُ بلفظي عن ذِكْرِهَا، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبَصَّركم بعد العمى، وجمعكم بعد الفُرقة، وأعزَّكم بعد الذِّلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كسبته أيديهم، وأضمرته قلوبهم، وما ربك بظلام للعبيد؛ فجدِّدوا لله -سبحانه- خالصَ نيَّاتكم، وأَروه من الشكر قولاً وفعلاً ما يُزَكِّي به سعيكم، ويتقَبَّلُ أعمالكم وينشر أمركم، واحذروا الفُرقة واختلاف الكلمة وشتاتَ الآراء، وكُونُوا يدًا واحدة على عدوِّكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحقَّ على أيديكم، وإلاَّ تفعلوا شَمِلَكم الذلُّ، وعَمَّكم الصَّغَارُ، واحتقرتكم العامَّة، فتَخَطَّفَتْكم الخاصَّة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يَصلح أمرُ آخرِ هذه الأُمَّة إلاَّ على الذي صلح عليه أمرُ أوَّلها، وقد اخترنا لكم رجلاً منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بَلَوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناهُ في ذلك كله ثَبْتًا في دينه، مُتَبَصِّرًا في أمره، وإني لأرجو ألاَّ يُخلف الظنَّ فيه، وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أَمْرِه ففي الموحِّدين -أعزَّهم الله- بركةٌ وخير كثير، والأَمْرُ أمرُ الله يُقَلِّده من شاء من عباده.

        فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم واحدًا واحدًا؛ فهذا سبب إمرة عبد المؤمن بن علي؛ ثم تُوُفِّيَ ابن تومرت بعد عهده هذا بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن[6].


        [1] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/228.
        [2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص259.
        [3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/200.
        [4] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص260-262.
        [5] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/229.
        [6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص262-264.


        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • عبد المؤمن بن علي

          عبد المؤمن بن علي

          وفي سنة (541هـ=1146م) بزغ نجم دولة الموحدين، وكان أوَّل حُكَّامها عبد المؤمن بن علي 487-558هـ=1094-1163م) صاحب محمد بن تومرت، والرجل الثاني بعد ابن تومرت المؤسِّس الحقيقي والفعلي لجماعة الموحدين.

          وهو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان، أبو محمد الكومي، نسبته إلى كومية (من قبائل الأمازيغ البربر). ولو أنه -أيضًا- كان ينسب نفسه إلى العرب من مضر[1]. وُلِدَ في مدينة تاجرت بالمغرب قرب تلمسان، ونشأ فيها طالب علم، وأبوه صانع فخَّار[2].

          ويصف عبد الواحد المراكشي عبد المؤمن بن علي فيقول: وكان أبيض ذا جسمٍ عممٍ، تعلوه حمرة، شديدَ سواد الشعر، معتدل القامة، وضيءَ الوجه، جَهْوَرِيَّ الصوتِ، فصيح الألفاظ، جَزْل المنطق، وكان محبَّبًا إلى النفوس، لا يراه أحدٌ إلا أحبَّه بديهة؛ وبلغني أن ابن تومرت كان يُنشد كلما رآه: [البسيط]
          تَكَامَلَتْ فِيكَ أَخْلاقٌ خُصِصْتَ بِهَا

          فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ
          فَالسِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالْكَفُّ مَانِحَةٌ

          وَالصَّدْرُ مُنْشَرِحٌ وَالْوَجْهُ مُنْبَسِطُ[3]

          وذكر الذهبي في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب أنه كان ملكًا عادلاً، سائسًا، عظيم الهيبة، عالي الهمة، متين الديانة، كثير المحاسن، قليل المِثْل، وكان يقرأ كلَّ يوم سُبُعًا من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير -وهذا يعني أنَّ لبس الحرير كان عادة وإلفًا في زمانه- وكان يصوم الاثنين والخميس، ويهتمُّ بالجهاد والنظر في الْمُلْك كأنما خُلق له. ثم بعد هذه الأوصاف نجد هذه العبارة التي تحمل كثيرًا من علامات الاستفهام حيث يقول: وكان سفَّاكًا لدماء مَنْ خالفه![4]

          وقال عنه الزركلي في الأعلام: وكان عاقلاً حازمًا شجاعًا مُوَفَّقًا، كثير البذل للأموال، شديد العقاب على الجرم الصغير، عظيم الاهتمام بشئون الدين، محبًّا للغزو والفتوح، خضع له المَغْرِبَان (الأقصى والأوسط)، واستولى على إشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، والجزائر، والمهدية، وطرابلس الغرب، وسائر بلاد إفريقية، وأنشأ الأساطيل، وضرب الخراج على قبائل المغرب، وهو أول مَنْ فعل ذلك هنالك[5].

          ومثل هذه الأوصاف ذكرها ابن كثير-أيضًا- في البداية والنهاية، بقوله: «وكان مَنْ لا يحافظ على الصلوات في زمانه يُقتل، وكان إذا أَذَّن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد... ولكن كان سفاكًا للدماء، حتى على الذنب الصغير»[6]. وهذه بالطبع هي تعاليم محمد بن تومرت.

          وإضافة إلى هذا المنهج العقيم وتلك الصفة السابقة -التساهل في أمر الدماء- فقد كان محمد بن تومرت حين يعلم أن أتباعه ينظرون إلى الغنائم، التي حصَّلوها من دولة المرابطين في حربهم معهم، كان يأخذها كلها فيحرقها[7].. وكان يُعَذِّر بالضرب مَنْ يفوته قيام الليل من جماعته؛ فنشأت جماعة من الطائعين الزاهدين العابدين، لكن على غير نهج رسول الله ، الذي لم يكن يحرق الغنائم، أو يضرب المتباطئين أو المتثاقلين عن قيام الليل، أو يَتَّبع مثل هذا المنهج وتلك الرهبنة المتشدِّدَة.



          وعلى كلٍّ فقد كان عبد المؤمن بن علي -على ما يبدو- غير مقتنع بفكرتَيِ العصمة والمهديَّة، اللتين ادَّعاهما محمد بن تومرت واقتنع بهما أتباعه من بعده؛ ويدفعنا إلى ذلك أن رجلاً بعلم وعقل عبد المؤمن لا شك علم –على الأقل بعد وفاة ابن تومرت- أنه ليس المهدي الذي ذكرت الأحاديث أنه يملأ الأرض عدلاً، ثم يتبعه نزول المسيح ابن مريم وما إلى ذلك من الحوادث، لكنه على الجانب الآخر فإن عبد المؤمن بن عليٍّ لم ينفِ مثل هذه الأفكار الضالَّة صراحة؛ وذلك لأن غالبَ شيوخ الموحِّدين كانوا على هذا الفكر وذلك الاعتقاد، فخاف –على ما يظهر- إن هو أعلن أن أفكار محمد بن تومرت هذه مخالفة للشرع، أن ينفرط العِقد ويحدث التفكُّك في هذه الفترة الحرجة من دولة الموحدين.


          مشاهد من حياة عبد المؤمن بن علي

          نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الواحد المراكشي قوله: أخبرني غير واحد ممن أرضى نقله، أنه (عبد المؤمن بن علي) لما نزل مدينة سلا - مدينة بأقصى المغرب ...- عبر النهر، وضُربت له خيمة على الشاطئ، وجعلت العساكر تعبر قبيلة بعد قبيلة... فخرَّ ساجدًا، ثم رفع وقد بلَّ الدمع لحيته... فقال: أعرف ثلاثة أشخاص وَرَدُوا هذه المدينَة لا شيء لهم إلاَّ رغيف واحد، فراموا عُبور هذا النهر، فأتوا صاحب القارب، وبَذَلُوا له الرغيف على أن يعبروا ثلاثتهم، فقال: لا آخذه إلا على اثنين خاصة. فقال لهم أحدهم وكان شابًّا جلدًا: خذا ثيابي معكما وأعبر أنا سباحة... فجعل الشاب يسبح، فكلما أعيا دنا من القارب ووضع يده عليه ليستريح، فيضربه صاحبه بالمجداف الذي معه حتى يؤلمه؛ فما بلغ البرَّ إلاَّ بعد جهد شديد. فما شكَّ السامعون للحكاية أنه هو العابر سباحة، وأن الاثنين المذكورين هما: ابن تومرت، وعبد الواحد الشرقي[8].

          وكان لعبد المؤمن من الولد ستة عشر ذكرًا؛ وهم: محمد وهو أكبر ولده، ووليُّ عهده، وهو الذي خُلع بعد ذلك، وعلي، وعمر، ويوسف، وعثمان، وسليمان، ويحيى، وإسماعيل، والحسن، والحسين، وعبد الله، وعبد الرحمن، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب[9].


          [1] انظر: تاريخ ابن خلدون، 6/126، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص265، السلاوي: الاستقصا 2/99.
          [2] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص265، والسلاوي: الاستقصا، 2/99.
          [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص266.
          [4] ابن العماد: شذرات الذهب، 4/183، والذهبي: العبر 3/29.
          [5] الزركلي: الأعلام، 4/170.
          [6] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 12/306.
          [7] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 36/120.
          [8] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص296، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 20/373.
          [9] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص266.


          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • عبد المؤمن بن علي والصراع مع المرابطين



            صراع عبد المؤمن بن علي مع المرابطين

            عاد عبد المؤمن بن علي إلى تينملل بعد موقعة البحيرة أو موقعة البستان سنة (524هـ=1130م)، ثم مات ابن تومرت بعد ذلك بقليل، فبُويع من بعده عبد المؤمن بن علي، وأقام في تينملل فترة يتألَّف القلوب، ويُحسن إلى الناس، وكان جوادًا مقدامًا في الحروب، ثابتًا في الشدائد.

            وفي سنة (528هـ) جهَّز عبد المؤمن جيشًا كبيرًا، وقاده إلى مدينة تادلة، ودارت بينه وبين أهلها حرب، انتهت بانتصار عبد المؤمن بن علي، ودخول المدينَة عَنْوة، وسار بعدها في الجبال يفتح المدن التي تليها.

            وفي سنة (531هـ) تُوُفِّيَ وليُّ العهد سير بن علي بن يوسف، فاستدعى علي بن يوسف بن تاشفين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميرًا عليها، وجعله وليَّ عهده، ثم قلَّده أبوه بعد ذلك قيادة جيش قوي، وأرسله لمحاربة عبد المؤمن بن علي، فسار بالجيش في الصحراء قبالة جيش عبد المؤمن، الذي كان يسير في الجبال، وكانت تَحْدُث بينهما مناوشات من وقت لآخر، ولكن لم تَحْدُث بينهما حروب أو معارك كبيرة.

            وفي شتاء سنة (533هـ) وصل عبد المؤمن إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة بين شجر، ونزل تاشفين مقابل عبد المؤمن في سهل لا نبات فيه، وفي أثناء ذلك توالى هطول الأمطار أيامًا، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وَسَدَّت المياهُ الطرق؛ حتى انقطعت عن تاشفين وجيشه الإمدادات، فكانوا إذا أرادوا نارًا لم يجدوا إلاَّ رماحهم لِيُوقدوا بها النار، وأنهكهم الجوع والبرد وسوء الحال.

            وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يُبَالون بشيء، والإمدادات مُتَّصلة إليهم، فاستغلَّ ذلك عبد المؤمن وأرسل جيشًا في ذلك الوقت إلى وجرة من أعمال تِلِمْسَان، وقَدَّم عليهم أبا عبد الله محمد بن رقو، وهو من أهل الخمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا (والي تلمسان من قِبَل المرابطين)، فخرج في جيش من المرابطين، فالتقوا بموضع يُعْرَفُ بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقُتِلَ محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجَّه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعته قبائلها، وأقام عندهم مدَّة.

            وظلَّ يسير بجيشه في الجبال، وتاشفين يُحاذيه في الصحارى، حتى تُوُفِّيَ أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش، وخلفه ابنه تاشفين سنة (535هـ)، فزاد طمع عبد المؤمن في البلاد، إلاَّ أنه ظلَّ مع ذلك معتصمًا بالجبال، ولم ينزل إلى الصحراء.



            وفي سنة (538هـ) توجَّه عبد المؤمن بجيشه إلى تلمسان للاستيلاء عليها، فسارع تاشفين لنجدتها، وعسكر الفريقان هناك دون حرب، اللهم إلا مناوشات بسيطة، وظلاَّ كذلك حتى سنة (539هـ)، حتى رحل عبد المؤمن إلى جبل تَاجَرَة، ووجَّه جيشًا مع عمر الهِنْتَاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، واستولى عليها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران على البحر في شهر رمضان من السنة نفسها، وفي هذا الشهر قُتل تاشفين هناك، وصُلِبَتْ جُثَّتُه.


            وقيل في سبب موته: إنه قصد حصنًا هناك على رابية، وله فيه بستان كبير، فيه من كلِّ الثمار، فاتفق أن عمر الهِنْتَاتي، أرسل سرية إلى ذلك الحصن، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فأشعلوا النار في بابه، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأُخذ تاشفين فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال بسبب إصابته، ثم صلبوه، وقُتِلَ كُلُّ مَنْ معه، وتفرَّق عسكره ولم يَعُدْ لهم جماعة، فتولَّى بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.

            ولما قُتِلَ تاشفين أرسل عمر الهِنْتَاتي إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرَة في يومه بجميع جنوده، وتفرَّق عسكر تاشفين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلمَّا وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يُحصى، ثم سار عبد المؤمن إلى تاهَرْت وأقادير؛ فامتنعت أقادير وغَلَّقت أبوابها، وتأهَّب أهلها للقتال.

            وأمَّا تاهَرْت فكان فيها يحيى ابن الصحراوية، فهرب منها بجنوده إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فسارع إليه أهلها للدخول في طاعته، ولكنه لم يقبل منهم، وقتل أكثرهم، ودخلها ورتَّب أمرها، ورحل عنها تاركًا جيشًا يُحَاصِر أقادير.

            وسار إلى مدينة فاس سنة (540هـ) فحاصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى ابن الصحراوية، وعسكره الذين فَرُّوا من تاهَرْت، فلما طال حصار المدينَة عمد عبد المؤمن إلى نهر يدخلها، فسَدَّه فترة، حتى إذا اجتمع الكثير من الماء فتح المجرى فجأة، فهدم سورها، وكُلَّ ما بجوار النهر من مبانٍ وإنشاءات، فلما أراد دخولها خرج إليه أهلها، وقاتلوه خارجها؛ فلم يتمكَّن من دخولها.

            ثم عاد والي فاس وأعيانها فكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبوبها، فدخلها جيشه في أواخر (540هـ)، وهرب يحيى ابن الصحراوية، وسار إلى طنجة، ورتَّب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنُودِيَ في أهلها: مَنْ ترك عنده سلاحًا وعُدَّة قتال حلَّ دمه. فحمل كلُّ مَنْ في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم.

            ولما فرغ عبد المؤمن من فاس وتلك النواحي، سار إلى مراكش وهي عاصمة المرابطين، وكانت من أكبر المدن وأعظمها، وكان يحكمها حينئذٍ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وكان صبيًّا صغيرًا، فوصل مَرَّاكُش سنة (541هـ)، وعسكر على جبل صغير في غرب المدينَة، وبنى عليه مدينة له ولجنوده، وبنى بها جامعًا، وبنى له بناءً عاليًا يُشرف منه على المدينَة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وحاصرها أحد عشر شهرًا، قاتَلَ المدينةَ فيها قتالاً كثيرًا، كان المرابطون يخرجون فيه من المدينَة لقتال الموحدين، وأرهق الحصار عبد المؤمن، وقلَّ الطعام عنده، فعزم على أن ينصب كمينًا لأهل مَرَّاكُش ليُضعفهم به.

            فأمر جنوده فزحفوا يومًا إلى مراكش، فخرج إليهم جنود المرابطين كالعادة، فدارت بين الفريقين معركة شديدة، ثم انهزم الموحدون وفروا أمام المرابطين، فتبعهم المرابطون إلى المدينَة التي بناها عبد المؤمن له ولجنوده على الجبل، ودارت بين الفريقين معارك شديدة، وهُدمت أجزاء كبيرة من سور مدينة عبد المؤمن، وكان عبد المؤمن يُشاهد المعركة من أعلى البناء الموجود على الجبل، وكان قد اتَّفق مع رجاله أن ينهزموا أمام المرابطين، حتى إذا لحق بهم المرابطون أمر بضرب الطبول؛ فتخرج مجموعة أخرى من رجاله كانت مختبئة، لتُحيط بالمرابطين حتى تقضي عليهم، فلما اشتدَّت المعركة صاح الموحدون بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبول، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهل مراكش، أمر بضرب الطبول، فخرج الكمين عليهم، فقاتلوهم ودارت الدائرة على المرابطين، وقتلوا مقتلة عظيمة.

            وبهذا ضعفت قوات المرابطين داخل مراكش ضعفًا شديدًا، وكان إسحاق بن علي صبيًّا صغيرًا، وكان يُدير دولتَه مشايخُ المرابطين، فحدث أن أحدهم واسمه عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنًا، وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فزاد طمع عبد المؤمن فيهم، وشدَّد عليهم الحصار، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، حتى فنيت أقواتهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات من العامَّة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.

            وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسل الفرنج عبد المؤمن يسألونه الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له بابًا من أبواب البلد يقال له: باب أغمات. فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينَة عَنْوَة، وقتلوا مَنْ وَجَدُوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع مَنْ معه من أمراء المرابطين، فقُتِلُوا.

            وكان إسحاق هذا صغيرًا؛ فلما قُبِضَ عليه، وخاف أن يُقْتَل أخذ يبكي ويدعو لعبد المؤمن ويتوسَّل إليه، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان مُقَيَّدًا إلى جانبه فبصق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله، ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه -وكان من شجعان المرابطين، المعروفين بالإقدام- وقُدِّم إسحاق على صغر سنه، فضُربت عنقه سنة (542هـ)، وكان آخر ملوك المرابطين، وكانت مدَّة ملكهم سبعين سنة، وَلِيَ منهم أربعة: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق.

            ولما فتح عبد المؤمن مَرَّاكُش أقام بها، وجعلها عاصمة لدولة الموحدين، وكان عبد المؤمن لما دخل مَرَّاكُش قد أكثر القتل في أهلها؛ فاختفى كثيرٌ من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنُودِيَ بأمان مَنْ بَقِيَ من أهلها فخرجوا، فأراد أصحابُه قتلهم فمنعهم، وقال: هؤلاء صُنَّاع وأهل الأسواق مَنْ ننتفع به. فتُركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعًا كبيرًا، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين[1].

            وقال عبد الواحد المراكشي في المعجب: ولم يزل عبد المؤمن -بعد وفاة ابن تومرت- يطوي الممالك مملكة مملكة، ويَدُوخ البلاد[2] إلى أن ذَلَّت له البلاد وأطاعته العباد[3].

            وبنظرة إجمالية فإن عَدَدَ مَنْ قُتِلَ من المسلمين في المواقع التي دارت بين المرابطين والموحدين تجاوز عشرات الآلاف، وذلك في نحو ثمانٍ وعشرين سنة؛ من سنة (512هـ= 1118م) وحتى قيام دولة الموحدين في سنة (541هـ= 1146م)، وقامت دولة الموحدين كما قامت دولة المرابطين من قبل، لكن على أشلاء الآلاف من المسلمين، وكان هذا هو الطريق الذي سلكه محمد بن تومرت ومَنْ معه، وكان هذا نهجهم في التغيير.


            [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/201، وما بعدها بتصرف.
            [2] داخَ البلادَ يَدُوخُها: قهرها واستولى على أهلها. ابن منظور: لسان العرب، مادة دوخ 3/16.
            [3] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص270.


            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • دولة الموحدين في الأندلس

              سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين

              متابعةً للأحداث بصورة متسلسلة فقد كان لسقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين في عام (541هـ= 1146م) ومقتل ما يربو على الثمانين ألف مسلم في بلاد الأندلس؛ نتيجة الحروب بينهما - كان لهذه الأحداث العظام تداعيات خطيرة على كلِّ بلاد المغرب العربي والأندلس، وما يهمُّنَا هنا هو ما حدث في الأندلس، فكان كما يلي:

              سقوط ألمرية

              بعد قيام دولة الموحدين بعام واحد وفي سنة (542هـ= 1147م) سقطت ألمرية في أيدي النصارى، وهي تقع على ساحل البحر المتوسط في جنوب الأندلس؛ أي: هي بعيدة جدًّا عن ممالك النصارى، لكنها سقطت عن طريق البحر بمساعدة فرنسا.. وفي ألمرية استُشْهِدَ آلافٌ من المسلمين، وسُبِيَتْ أكثر من أربعة عشر ألف فتاة مسلمة[1]، وفي هذا يقول المقري التلمساني: «وأُحْصِيَ عدد من سُبِيَ من أبكارها فكان أربعة عشر ألفًا»[2].

              سقوط طرطوشة ولاردة

              بعد ذلك -أيضًا- بعام واحد وفي سنة (543هـ= 1148م) سقطت طرطوشة ثم لارِدَة في أيدي النصارى، وهما في مملكة سرقسطة التي تقع في الشمال الشرقي، والتي كان قد حَرَّرها المرابطون قبل ذلك[3].

              توسع مملكة البرتغال

              وفي العام نفسه -أيضًا- توسَّعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشدِّ الممالك ضراوة وحربًا على المسلمين[4].

              احتلال النصارى تونس

              بدأ النصارى يتخطَّوْن حدود الأندلس ويُهاجمون بلاد المغرب العربي، فاحْتُلَّت تونس في السنة ذاتها -أيضًا- من قِبل النصارى، وهي خارج بلاد الأندلس[5].

              ولقد كانت مثل هذه التداعيات شيئًا متوقَّعًا نتيجة الفتنة الكبيرة، والحروب التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.

              انجازات عبد المؤمن بن علي في المغرب



              كان عبد المؤمن بن علي صاحب شخصية قوية، وصاحب فكر سياسي عالٍ؛ فبدأ وبطريقة عملية منظمة وشديدة في تأسيس وبناء دولته الفتيَّة الناشئة؛ فعمل على ما يلي:


              إنشاء المساجد والمدارس

              أنشأ الكثير من المدارس والمساجد، واهتم غاية الاهتمام بالتعليم والتثقيف، وكان –كما يقول عبد الواحد المراكشي- «مُؤْثِرًا لأهل العلم محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده والجوار بحضرته، ويُجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظهر التنويه بهم، والإعظام لهم، وقسَّم الطلبة طائفتين طلبة الموحدين وطلبة الحضر، هذا بعد أن تسمَّى المصامدة بالموحدين؛ لتسمية ابن تومرت لهم بذلك؛ لأجل خوضهم في علم الاعتقاد، الذي لم يكن أحد من أهل ذلك الزمان في تلك الجهة يخوض في شيء منه»[6].

              إقران الخدمة العسكرية بالعلوم التثقيفية

              عمل عبد المؤمن بن عليٍّ على إقران الخدمة العسكريَّة بالعلوم التثقيفية، وأنشأ معسكرًا بقصره لتدريس وتعليم وتخريج رجال السياسة والحُكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأنشأ جيلاً فريدًا من قوَّاد الحروب والسياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يُدَرِّبهم على كل فنون الحرب؛ حتى إنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة في بلاد المغرب لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء، وكيف تكون الحروب البحرية، وكان -أيضًا- يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه[7].

              إنشاء مصانع للأسلحة

              أقام مصانع ومخازن ضخمة وكثيرة للأسلحة؛ ليستعدَّ بذلك لحرب الصليبيين في الأندلس[8].

              إعمال السيف في رقاب المخالفين

              لكن هذا لم يكن ليغضَّ الطرف عن كون عبد المؤمن بن عليٍّ ذا فرديَّة في نظام الحُكم والإدارة؛ أي أنه كان -بِلُغَة العصر- حاكمًا ديكتاتورِيًّا، فرديَّ الرأي لا يأخذ بالشورى، ولقد كان سَفَّاكًا للدماء، حتى أحصى له مؤرخ العهد الشهير بـ «البيذق» أكثر من ثلاثين ألف قتيل بدأ بها عهده لنشر الرعب وتثبيت أقدام الدولة بالسيف[9].

              بل لما سُرق من تاجر بعض ماله، جمع عبد المؤمن أشياخ القبيلة التي وقع فيها السرقة، فأخرج للتاجر ماله منهم، ثم أمر بقتل الجميع «فأقبلوا يتضرَّعون ويبكون، وقالوا: تؤاخذ -سيدنا- الصلحاء بالمفسدين؟ فقال: يُخرج كلُّ طائفة منكم مَنْ فيها من المفسدين. فصار الرجل يُخرج ولده، وأخاه، وابن عمه، إلى أن اجتمع نحو مائة نفسٍ، فأمر أهلهم أن يَتَوَلَّوْا قتلهم، ففعلوا. فخرجتُ (والكلام للتاجر) من المغرب إلى صقلِّية خوفًا على نفسي من أهل المقتولين»[10].

              وكان يتمثل ببيت الشعر الذي يقول: [البسيط]
              وَحَكِّمِ السَّيْفَ لا تَعْبَأْ بِعَاقِبَةٍ

              وَخَلِّهَا سِيرَةً تَبْقَى عَلَى الْحِقَبِ
              فَمَا تُنَالُ بِغَيْرِ السَّيْفِ مَنْزِلَةٌ

              وَلا تُرَدُّ صُدُورُ الْخَيْلِ بِالْكُتُبِ[11]

              هذا كله في بلاد المغرب العربي، ولم تكن بلاد الأندلس قد دخلت بعدُ في حسابات عبد المؤمن بن عليٍّ في ذلك الوقت، إلا ما كان منه في إرسال الجيوش إليها؛ لتحوزها بعد انتصاره على المرابطين، وكان ذلك بعد استيلائه على مراكش، وفي بعض المصادر بعد استيلائه على فاس وتلمسان؛ إلا أنه أولى اهتمامه أكثر للمغرب؛ لأنه كان يعمل على أن يستقرَّ له الأمر أولاً في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان، فلقد كانت المغرب حاضرة الدولة.

              عبد المؤمن بن علي في الأندلس

              بعد تساقط المرابطين في المغرب أمام الموحدين، تبعهم الموحدون في الأندلس، واستولوا على المدن الأندلسية التي كانت في يد المرابطين، وفي سنة (543هـ= 1148م) وبعد استيلاء الموحدين على كثير من البلاد الأندلسية، قدم القاضي ابن العربي إلى بلاد المغرب، وبايع عبد المؤمن بن علي، وطلب النجدة لأهل الأندلس، وإن مبايعة القاضي ابن العربي لعبد المؤمن بن علي قد تُعطي إشارة إلى أن عبد المؤمن بن علي لم يكن يعتقد أو يدعو إلى أفكار ضالَّة كما في الدعوة إلى العصمة أو المهديَّة، أو غيرها مما كان يَدِينُ به محمد بن تومرت وبعضٌ من أتباعه[12].

              قَبِلَ عبد المؤمن بن علي الدعوة من القاضي ابن العربي، وجَهَّزَ جيوشه، وانطلق إلى بلاد الأندلس، وهناك بدأ يحارب القوَّات الصليبية، حتى ضمَّ معظم بلاد الأندلس الإسلامية، التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وكان ممن قاتله هناك بعض أنصار دولة المرابطين، إلا أنه قاتلهم وانتصر عليهم وذلك في سنة (545هـ= 1150م)[13].

              وفي سنة (552هـ= 1157م) استطاع أن يستعيد ألمَرِيَّة[14]، وفي سنة (555هـ= 1160م) استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل - ولأول مرة - استطاع أن يضمَّ ليبيا إلى دولة الموحدين، وهي لم تكن ضمن حدود دولة المرابطين[15].

              وبهذا يكون قد وصل بحدود دولة الموحدين إلى ما كانت عليه دولة المرابطين، إضافة إلى ليبيا، وقد اقتربت حدود دولته من مصر كثيرًا، وكان يُفَكِّر في أن يُوَحِّد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.


              [1] انظر: ابن الأثير: الكامل، 9/347، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص279، والمقري: نفح الطيب، 4/463، والسلاوي: الاستقصا، 2/118.
              [2] المقري: نفح الطيب، 4/463.
              [3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/357، والسلاوي: الاستقصا، 2/118.
              [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 4/526، 527، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 1/257.
              [5] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/350، وتاريخ ابن خلدون، 5/203.
              [6] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص269، والسلاوي: الاستقصا، 2/145.
              [7] مجهول: الحلل الموشية، ص150.
              [8] السلاوي: الاستقصا، 2/143.
              [9] البيذق: أخبار المهدي ابن تومرت، ص69.
              [10] الذهبي: تاريخ الإسلام، 38/259.
              [11] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص297.
              [12] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/234، والحلل الموشية، ص147، والسلاوي: الاستقصا، 2/117.
              [13] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص265، والسلاوي: الاستقصا، 2/116.
              [14] ابن الأثير: الكامل، 9/416، والسلاوي: الاستقصا، 2/122.
              [15] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/237.


              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • يوسف بن عبد المؤمن بن علي

                يوسف بن عبد المؤمن بن علي (533-580هـ= 1138-1184م)

                في عام (558هـ= 1163م) تُوُفِّيَ عبد المؤمن بن علي في رباط سلا في طريقه للجهاد في الأندلس، ونُقل إلى تينملل فدُفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت، وخلفه على الحُكم ابنه محمد، ثم خُلع لفسقه وسوء خُلقه، وولي الأمر يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وكان يبلغ من العمر 22 عامًا، وقد كان مجاهدًا شهمًا كريمًا، إلاَّ أنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية[1].

                وقد وصفه الزركلي في الأعلام فقال: وكان حازمًا شجاعًا، عارفًا بسياسة رعيته، له علم بالفقه، كثيرَ الميل إلى الحكمة والفلسفة، استقدم إليه بعض علماء الأقطار؛ وفي جملتهم أبو الوليد بن رشد... وهو باني مسجد إشبيلية، أتمَّه سنة (567هـ)، وإليه تُنسب الدنانير (اليوسفية) في المغرب، وكانت علامته في المكاتبات وعلامة مَنْ بعده: «الحمد لله وحده»[2].

                وقد ظلَّ يوسف بن عبد المؤمن بن علي يحكم دولة الموحدين اثنين وعشرين عامًا مُتَّصلة، منذ سنة (558هـ= 1163م) وحتى سنة (580هـ= 1185م)، وقد نَظَّم الأمور وأحكمها في كل بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضدَّ النصارى، لكنه كان يعيبه شيء خطير؛ وهو أنه كان متفرِّد الرأي لا يأخذ بالشورى، وهذا -بالطبع- كان من تعليم وتربية أبيه عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت كما ذكرنا.

                وقد مات يوسف بن عبد المؤمن بن علي وهو في جهاد الصليبيين عند مدينة شنترين بغرب الأندلس نتيجة خطأ إداري قاتل، يرويه الذهبي هكذا: «وفي سنة 579هـ تجهَّز للغزو، واستنفر أهل السهل والجبل والعرب، فعبر بهم الأندلس فنزل إشبيلية، ثم قصد مدينة شنترين – أعادها الله إلى المسلمين - وهي بغرب الأندلس، أخذها ابن الريق -لعنه الله- فنازلها أبو يعقوب وضايقها، وقطع أشجارها، وحاصرها مدَّة، ثم خاف المسلمون البرد وزيادة النهر، فأشاروا على أبي يعقوب بالرجوع فوافقهم، وقال: غدًا نرحل. فكان أوَّل مَنْ قوَّض خباءَه أبو الحسن علي ابن القاضي عبد الله المالقيّ، وكان خطيبهم، فلمَّا رآه الناس قوَّضوا أخبيتهم ثقةً به لمكانه، فعبر تلك العشيَّة أكثرُ العسكر النهر، وتقدَّموا خوف الزحام، وبات الناس يعبرون الليل كلَّه، وأبو يعقوب لا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العساكر، وأخبرهم عيونهم بالأمر، انتهزوا الفرصة وخرجوا وحملوا على الناس، فانهزموا أمامهم حتى بلغوا إلى مخيَّم أبي يعقوب، فقُتِلَ على باب المخيَّم خَلْق من أعيان الجند، وخُلِصَ إلى أمير المؤمنين، فطُعن تحت سُرَّته طعنة مات منها بعد أيَّام يسيرة، وتدارك الناس، فانهزم الروم إلى البلد، وقد قضوا ما قضوا، وعبر الموحِّدون بأبي يعقوب جريحًا في محفَّة... ولم يسيروا بأبي يعقوب إلاَّ ليلتين أو ثلاثًا حتى مات»[3].

                علماء الأندلس في عهده

                ابن العوَّام الإشبيلي (ت580هـ=1185م)

                هو أبو زكريا يحيى بن محمد بن أحمد، الشهير بابن العوام الإشبيلي، وقد عاش في فترة قلقلة في بلاد الأندلس؛ هي فترة غروب الحضارة الإسلامية عنها، وعاش في إشبيلية في منطقة الوادي الكبير المزدهر بنباتاته المتنوِّعة، والمعروف بخصبه وازدهار الفنون الزراعية بين أهله.



                اهتمَّ ابن العوام بالفلاحة فأتقنها، وصنفها علمًا كاملاً، ولولا ابن العوام ومَنْ أتقن (علم الفلاحة) من علماء الأندلس المسلمين، لما وصل هذا العلم برُقِيِّه إلى أوربا بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي، وفي هذا العلم خاصة استفاد العلماء المسلمون وغيرهم من نتاج ابن العوام المتميز في التربة والأسمدة والحرث والسقي... وقد نُقِلَ إلى اللغات الأجنبية مبكرًا، ونتيجة لكثرة تجاربه وجُرأته عرف العرب -كما عرف الأوربيون فيما بعدُ- خواصَّ التربة، وكيفية تركيب السماد، وأساليب الغرس والزراعة والسقي.


                ولابن العوام كتاب في الفلاحة عظيم الشأن، ليس لاحتوائه على فنون الزراعة فقط؛ بل لكونه تتبَّع في الأندلس نظريات جديدة في الكيمياء والطبيعة، واختصر فيه علوم القدماء في الزراعة، وما زال هذا الكتاب -برغم أهميته النظرية والتطبيقية- لم يُحَقَّقْ بعدُ تحقيقًا جيدًا[4].

                وأَلَّف ابن العوام -أيضًا- رسالة في (تربية الكرم)، وقد عُثر له على مخطوط بعنوان: (عيون الحقائق وإيضاح الطرائق)، وقد توفي –رحمه الله- سنة (580هـ= 1185م)[5].

                ابن طفيل (494-581هـ= 1100-1185م)

                هو الفيلسوف الشهير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي من أهل وادي آش جنوب الأندلس، وهو صاحب المؤلف الفلسفي الشهير: رسالة حي بن يقظان.

                قال عنه لسان الدين بن الخطيب: كان عالمًا صدرًا، حكيمًا فيلسوفًا، عارفًا بالمقالات والآراء، كلفًا بالحكمة المشرقية، محقِّقًا، متصوفًا، طبيبًا ماهرًا، فقيهًا، بارع الأدب؛ ناظمًا، ناثرًا، مشاركًا في جملة من الفنون[6].

                وقال عنه المراكشي في (المعجب): صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونَبْذِ ما سواه، وكان حريصًا على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظِّمًا لأمر النُّبُوَّات ظاهرًا وباطنًا، هذا مع اتساعٍ في العلوم الإسلامية، وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الدهر في ذاته وأدواته[7].

                وقد أخذ ابن طفيل على عاتقه جمع العلماء وجلبهم من البلاد والأقطار إلى بلاط يوسف بن عبد المؤمن، وكان يحضُّه على إكرامهم والتنويه بهم، وكان ممن جلبهم إليه الفيلسوف الكبير والفقيه المالكي المعروف أبو الوليد بن رشد، فمن هنا عُرف ابن رشد وبلغ ما بلغ[8].

                وله شعر «غاية في الجودة»[9]؛ ومنه في الزهد: [البسيط]
                يَا بَاكِيًا فُرْقَةَ الأَحْبَابِ عَنْ شَحَطٍ[10]

                هَلاَّ بَكَيْتَ فِرَاقَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ؟!
                نُورٌ تَرَدَّدَ فِي طِـينٍ إِلَـى أَجَلٍ

                فَانْحَازَ عُلْوًا وَخَلَّى الطِّيـنَ لِلْكَفَنِ
                يَا شَدَّ مَا افْتَرَقَا مِنْ بَعْدَ مَا اعْتَلَقَا

                أَظُنُّهَا هُدْنَةً كَانَتْ عَلَى دَخَنِ[11]
                إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رِضَا اللهِ اجْتِمَاعُهُمَا

                فَيَا لَهَا صَفْقَةً تَمَّتْ عَلَى غَبَنِ[12]

                عاش ابن طفيل 87 سنة، وتُوُفِّيَ بمَرَّاكُش سنة (581هـ= 1185م)، وحضر الخليفة يعقوب المنصور[13]. جنازته


                [1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص306، والسلاوي: الاستقصا، 2/144.
                [2] الزركلي: الأعلام، 8/241.
                [3] الذهبي: تاريخ الإسلام، 40/323، وانظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص332.
                [4] انظر: محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام، 5/184، بتصرف.
                [5] انظر: الزركلي: الأعلام، 8/165، بتصرف.
                [6] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/479.
                [7] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص312.
                [8] المصدر السابق، ص314.
                [9] الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/463.
                [10] الشحط: البُعْد. ابن منظور: لسان العرب، مادة شحط 7/327.
                [11] هُدْنة على دَخَن: أي سكون لِعلَّة لا للصلح، وشبهها بدخان الحَطب الرَّطْب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصَّلاح الظاهر. ابن منظور: لسان العرب، مادة دخن 13/149.
                [12] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص313، 314.
                [13] الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/463.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • المنصور الموحدي

                  أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي (554-595هـ=1160-1199م)



                  بعد وفاة يوسف بن عبد المؤمن بن علي تولَّى من بعده ابنه يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وقد لُقب بالمنصور، وكان له ابن يُدعى يوسف، فعُرف بأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي.

                  يُعَرِّفه ابن خلكان فيقول: أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحب بلاد المغرب... كان صافي السمرة جدًّا، إلى الطول ما هو، جميل الوجه، أَفْوَه أَعْيَنَ شديد الكحل، ضخم الأعضاء، جَهْوَرِيَّ الصوت، جَزْلَ الألفاظ، من أصدق الناس لهجة، وأحسنهم حديثًا، وأكثرهم إصابة بالظنِّ، مجربًا للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثًا شافيًا، وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور، ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقدوا له الولاية، ودَعَوْهُ أمير المؤمنين كأبيه وجدِّه، ولَقَّبُوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.

                  ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتَّب قواعدُ بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرَّر المقاتلين في مراكزها، ومهَّد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الإسلام التي في مملكته، فأجاب قومٌ وامتنع آخرون[1].

                  وقد تولَّى المنصور الموحدي حُكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة متصلة؛ من سنة (580هـ= 1184م) وحتى سنة (595هـ= 1199م)، وكان أقوى شخصية في تاريخ دولة الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامَّة، وقد عُدَّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذهبي.

                  المنصور الموحدي الرجل الإنسان

                  مثل عبد الرحمن الداخل ومِنْ بعده عبد الرحمن الناصر، وغيرهم ممن فعلوا ما لم يفعله الشيوخ والكبار، تولَّى أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي وكان عمره ستًا وعشرين سنة فقط[2]، وقد قام بالأمر على أحسن ما يكون، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن.

                  واستطاع أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أن يُغَيِّر كثيرًا من أسلوب السابقين له؛ فكانت سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم؛ حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق[3]، وكان يَؤُمُّ الناس في الصلوات الخمس[4]، وكان زاهدًا؛ يلبس الصوف الخشن من الثياب، وقد أقام الحدود حتى في أهله وعشيرته؛ فاستقامت الأحوال في البلاد، وعظمت الفتوحات.

                  بَلَغَتْ أعمال أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الجليلة في دولته أوجها، فحارب الخمور[5]، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتمَّ بالطب والهندسة[6]، وألغى المناظرات العقيمة، التي كانت في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين[7]، وزاد كثيرًا في العطاء للعلماء، «وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل مَنْ يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة»[8]، ومال هو إلى مذهب ابن حزم الظاهري؛ وأحرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وعلى كتب السُّنَّة الصحيحة[9].

                  وفي دولته اهتمَّ -أيضًا- أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالعمران، وقد أكمل إنشاء مدينة الرباط التي كان قد اختطها ورسم حدودها أبوه يوسف، وسمَّاها رباط الفتح[10]، وأقام فيها المستشفى الكبير الذي يصفه عبد الواحد المراكشي مبهورًا بقوله: «وبنى بمدينة مراكش بيمارستانًا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخيَّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يُغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهًا كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادةً على أربع بِرَكٍ في وسطه، إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفُرُش النفيسة من أنواع الصوف والكَتَّان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم برسم الطعام، وما يُنْفَقُ عليه خاصة خارجًا عما جَلَب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدَّ فيه للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار... من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نَقَهَ المريض فإن كان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقلُّ، وإن كان غنيًّا دفع إليه ماله وتُرِكَ وسببه، ولم يَقْصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كلُّ مَنْ مرض بمَرَّاكُش من غريب حُمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعودُ المرضى ويسأل عن أهلِ بيتٍ أهل بيت، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القُوَمَةُ عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج، لم يزل مستمرًّا على هذا إلى أن مات –رحمه الله»[11].

                  وكان -أيضًا- يجمع الزكاة بنفسه ويُفَرِّقُها على أهلها، وكان كريمًا كثير الإنفاق؛ حتى إنه وزَّع في يوم عيدٍ أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء[12].

                  المنصور الموحدي يتبرأ من أباطيل ابن تومرت

                  ويتبدى هذا في خطاب ابنه المأمون[13] لما أبطل القول بالمهدية، وأزال رسومها فكان مما قال: «وقد كان سيدنا المنصور –رحمه الله- هَمَّ أن يصدع بما به الآن صَدَعْنَا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يُساعده لذلك أمله، ولا أجَّلَه إليه أجله، فقدم على ربِّه بصدق نية، وخالص طويَّة، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يَدْرِ بأي يدٍ يأخذ كتابه...»[14].

                  وكان مجلس المنصور الموحدي عامرًا بالعلماء وأهل الخير والصالحين، وقد ذكر الذهبي -رحمه الله- في السِّيرَ أنه كان يُجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلَّم في الفقه ويناظر، وكان فصيحًا مهيبًا، يرتدي زي الزهَّاد والعلماء، ومع ذلك عليه جلالة الملوك[15].

                  وعدم اعتراف المنصور الموحدي بأفكار ابن تومرت المخالفة للكتاب والسُّنَّة يجعله من أهل السُّنَّة والجماعة، ومن الفئة الصالحة المصلحة، التي يُحَقِّق الله بها النصر والتمكين لدينه والعزَّة والمنعة لأهله -تعالى- وقد أورد المراكشي ما يُفيد براءة المنصور الموحدي من أفكار ابن تومرت الضالَّة، فقال: أخبرني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري ونحن بحجر الكعبة، قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف: يا أبا العباس؛ اشهد لي بين يدي الله أَنِّي لا أقول بالعصمة. - يعني: عصمة ابن تومرت – قال (أبو العباس): وقال لي يومًا وقد استأذنتُه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس؛ أين الإمام؟ أين الإمام؟[16]

                  ويقول أيضًا: أخبرني شيخ ممن لقيته من أهل مدينة جَيَّان من جزيرة الأندلس يُسَمَّى أبا بكر بن هانئ مشهور البيت هناك، لقيته وقد عَلَتْ سِنُّه، فرويت عنه قال لي: لما رجع أمير المؤمنين - يعني: المنصور الموحدي - من غزوة الأرك، وهي التي أوقع فيها بالأذفنش وأصحابه، خرجنا نتلقَّاه فقدَّمني أهل البلد لتكليمه، فرفعت إليه، فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته، فلما فرغتُ من جوابه سألني كيف حالي في نفسي، فتشكَّرتُ له، ودعوتُ بطول بقائه، ثم قال لي: ما قرأتَ من العلم؟ قلتُ: قرأت تواليف الإمام. - أعني: ابن تومرت - فنظر إليَّ نظرة المغضب، وقال: ما هكذا يقول الطالب، إنما حكمك أن تقول: قرأتُ كتاب الله، وقرأتُ شيئًا من السُّنَّة. ثم بعد هذا قُلْ ما شئتَ[17].

                  وكان يقعد للناس عامَّة، لا يحجب عنه أحد من صغير ولا كبير، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما، وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربًا خفيفًا؛ تأديبًا لهما، وقال لهما: أما كان في البلد حُكَّام قد نُصبوا لمثل هذا. فكان هذا -أيضًا- مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا يُنفذها غيره.

                  وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين؛ يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم، وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرًا؛ قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولنَّ امرؤ منكم إلا حقًّا. وربما تلا في بعض المجالس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135][18].

                  المنصور الموحدي وبلاد الأندلس

                  إضافة إلى أعماله السابقة في دولة الموحدين -بصفة عامَّة- فقد وَطَّد أبو يوسف يعقوب المنصور الأوضاع كثيرًا في بلاد الأندلس، وقَوَّى الثغور هناك، وكان يُقاتل فيها بنفسه، وقد كانت أشدُّ الممالك ضراوة عليه مملكة البرتغال، ثم مِنْ بعدها مملكة قشتالة، وقد كان له في الأندلس ما يلي:
                  الموحدون و بنو غانية



                  وبنو غانية: هم أبناء محمد بن علي من قبيلة مسوفة، وكان علي بن يوسف بن تاشفين قد أرسل محمدَ بن علي وأخاه يحيى إلى الأندلس قبل ظهور ابن تومرت، و«غانية» هو اسم أمِّ هذين الرجلين (يحيى ومحمد ابني علي)، دُعيا به جريًا على عادة أهل هذه البلاد من نسبة الرجال في أحايين كثيرة لأمهم[19]، وبعدما مات يحيى أخو محمد بن علي (ابن غانية) وظهرت دعوة الموحدين، وبدأت تنتشر على حساب دولة المرابطين، انتقل محمد ابن غانية إلى جزر البليار، وأقام فيها دولة له ولأبنائه من بعده، وساعده على ذلك قيام ابن مردنيش في شرق الأندلس؛ وهذا ما حمى جانب بني غانية من سطوة الموحدين، فلما دان شرق الأندلس للموحدين، بدأ إسحاق بن محمد ابن غانية، يُلاطف الموحدين، ويُرسل لهم من وقت لآخر بهدايا من غنائمه وسبيه من النصارى، وكان الموحدون-في أول الأمر- لا يعبئون بهذه الجزر، ولكنهم مع مرور الوقت سَعَوْا لإدخالها في طاعتهم، فأرسلوا إلى إسحاق بذلك، فماطل قدر استطاعته، ثم استُشهد في إحدى غزواته قبل أن يَرُدَّ عليهم، فخلفه ابنه عليٌّ على الحُكم، ثم مات بعد قليل يوسف بن عبد المؤمن في غزوة شنترين، فقويت نفوس بني غانية، وأعلنوا صراحة رفضهم الدخول في طاعة الموحدين، ثم زادوا فسعوا لاستغلال موت الأمير الموحدي على هذا النحو، واتصلوا ببعض أعيان بجاية (في شمال دولة الجزائر الآن)، واتفقوا معهم على نصرتهم، ثم خرجوا بأساطيلهم في أوائل عهد المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي سنة (580هـ) واستولوا عليها، وبدأ بينهم وبين الموحدين في الأندلس وإفريقيا صراع طويل.


                  وفي سنة (585هـ= 1189م) حاربهم المنصور أبو يعقوب، واستطاع أن يسيطر على جزيرتين من جزر البليار الثلاث، ثم واجه تمردهم كذلك في المغرب، وكان من جرَّاء ذلك أن ضعفت كثيرًا قوَّة الموحدين في الأندلس.

                  استغلَّ ملك البرتغال انشغال المنصور الموحدي في هذه المواجهات، واستغلَّ الضعف الذي كان نتيجة طبيعية لذلك، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرِّيَّة والبحريَّة، ثم حاصر إحدى مدن المسلمين هناك، واستطاع أن يحتلَّها ويُخْرِجَ المسلمين منها، وقد فعل فيها من الموبقات ما فعل، ثم استطاع أن يُوَاصل تقدُّمَه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس[20]، وهنا أضحى الوضع في غاية الخطورة.

                  سياسة المنصور الموحدي في الحروب

                  تُعتبر السنوات 15 التي حكمها المنصور الموحدي -ثالث الخلفاء الموحدين- العصر الذهبي للدولة الموحدية، والذروة التي وصل إليها التطوُّر السياسي في المغرب نحو التوحيد وإقامة الدولة الموحدية، ولقد كان العصر الذهبي قصيرًا، لا يتناسب مع دولة ضخمة مترامية الأطراف، غزيرة الثروة والموارد مثل دولة الموحدين؛ فإن خلفاء الموحدين حكموا بلادًا تُضاهي ما حكمه العباسيون في أوج قوَّتهم، وكان تحت إمارتهم حشود من الجند القوي القادر على كسب المعارك، لم يتيسر للكثير من الدول في التاريخ الإسلامي؛ فقد كانت جيوش الموحدين تعجُّ بحشود من أبناء القبائل المغربية من المصامدة أولاً، ثم من بقية الصنهاجيين والزناتيين ممن استمالتهم الدولة الموحدية بقوتها وهيبتها، ثم أُضيفت إلى هؤلاء حشود من العرب الهلاليين، الذين انضووا تحت لواء الدولة الكبيرة، ولم يَخْلُ الأمر من قوات أندلسية ذات قدرة ومهارة. ورغم وجود هذه القوَّات، إلاَّ أن هذه القوة العسكرية الموحدية كانت دائمًا مُفَكَّكة، تنقصها القيادة الحازمة، التي تقبض على الجيش قبضة محكمة، وتُوَجِّه الأعمال وَفق خطة واحدة مرسومة، وكان أبو يوسف يعقوب المنصور من زعماء الموحدين القلائل الذين استطاعوا قيادة جيوشهم قيادة سليمة حكيمة، وكان الرجل في نفسه كذلك رجلاً حازمًا موهوبًا في شئون الإدارة والقيادة، وكان شديد الإيمان؛ فانتقل إيمانه إلى رجاله، وأصبحت جيوش الموحدين في أيامه قوَّة ضاربة كبرى[21].


                  [1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/3، 4.
                  [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص170، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص217، وفي روايات أخرى أن سنه كانت اثنتين وثلاثين سنة. انظر: عبد الواحد المراكشي: المعحب، ص336، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/312، وتاريخ الإسلام، 42/213.
                  [3] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 42/225، والسلاوي: الاستقصا، 2/199.
                  [4] ثم انقطع عن ذلك بعد أن «أبطأ يومًا عن صلاة العصر إبطاءً كاد وقتها يفوت، وقعد الناس ينتظرونه، فخرج عليهم فصلى، ثم أوسعهم لومًا وتأنيبًا، وقال: ما أرى صلاتكم إلاَّ لنا، وإلاَّ فما منعكم عن أن تُقَدِّموا رجلاً منكم فيصلِّي بكم، أليس قد قَدَّم أصحاب رسول الله عبد الرحمن بن عوف حين دخل وقت الصلاة وهو غائب، أما لكم بهم أسوة وهم الأئمة المتَّبَعُون، والهداة المهتدون. فكان ذلك سببًا لقطعه الإمامة». انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص361، والذهبي: تاريخ الإسلام، 42/219.
                  [5] انظر: ابن عذاري، قسم الموحدين، ص173.
                  [6] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص385، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/317،.
                  [7] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص354.
                  [8] المصدر السابق، ص354.
                  [9] المصدر السابق، ص355.
                  [10] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص341، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/313.
                  [11] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص364.
                  [12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/317.
                  [13] أعلن المأمون –الخليفة الموحدي فيما بعد- وهو ابن المنصور بطلان المهدية في عام 626 هـ، وأصدر مرسومه يقول فيه: «ولتعلموا أَنَّا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحقَّ، وأن لا مهدي إلاَّ عيسى ابن مريم، وما سُمِّيَ مهديًّا إلا أنه تَكَلَّم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يُعيننا على القلادة التي تقلدناها، وقد أزلنا لفظ العصمة عمن لا تثبت له عصمة؛ فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتُبَتُّ، وتُمْحَى ولا تثبت، وقد كان سيدنا المنصور ~ هَمَّ أن يصدع بما به الآن صَدَعْنَا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يُساعده لذلك أمله، ولا أجَّلَه إليه أجله، فقدم على ربِّه بصدق نية، وخالص طويَّة، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يَدْرِ بأي يدٍ يأخذ كتابه...». أمر بقطع ذِكْرِ إمامهم المهدي من الخطبة في جميع بلاده، ومحا اسمه من المخاطبات ومن النقش في السَّكَّة، وقطع النداء بعد الصلاة... وما أشبه ذلك مما كان العمل عليه من أول دولة الموحدين.
                  [14] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص286، 287.
                  [15] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/316.
                  [16] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص369.
                  [17] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص369.
                  [18] المصدر السابق، ص361-363.
                  [19] وقد رأينا هذا في أسماء كبار قادة المرابطين كداود ابن عائشة.
                  [20] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص356، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد الموحدين، ص79.
                  [21] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص223، 224.

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • الأرك .. المعركة الخالدة

                    المنصور الموحدي وملك قشتالة



                    بعد القضاء على ثورات بني غانية أخذ المنصور الموحدي يُفَكِّر في كيفية إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وإيقاف أطماع النصارى في بلاد الأندلس، علم أوَّلاً أن أشدَّ قوَّتين عليه هما قوَّة قشتالة وقوة البرتغال، لكنه استقبل رسالة من ملك قشتالة يسعى فيها إلى الصلح والمهادنة، بل ويعرض عليه أن يُحالفه ضدَّ مَنْ يشاء من أعداء أبي يوسف وأبناء ملَّة ملك قشتالة، وذكر أبو يوسف في رسالته أنه بعد أن روَّى في الأمر واستخار عزم على إجابة مطلب ملك قشتالة فقَبِلَ مسالمته، بما لا يتعارض مع عزَّة الإسلام والمسلمين[1].


                    المنصور الموحدي وملك البرتغال

                    وفي سنة (585هـ)، جاء عدوانُ ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز؛ يروي عبد الواحد المراكشي فيقول: «قَصَدَ بطرو بن الريق[2] -لعنه الله- مدينة شلب من جزيرة الأندلس فنزل عليها بعساكره، وأعانه من البحر الإفرنج بالبطس[3] والشواني[4]، وكان قد وَجَّه إليهم يستدعيهم إلى أن يُعِينُوه على أن يجعل لهم سبي البلد، وله هو المدينة خاصة، ففعلوا ذلك ونزلوا عليها من البر والبحر فملكوها، وسبوا أهلها، وملك ابن الريق -لعنه الله- البلد، وتجهَّز أمير المؤمنين في جيوش عظيمة، وسار حتى عبر البحر، ولم يكن له هَمٌّ إلا مدينة شلب المذكورة، فنزل عليها، فلم تطق الروم دفاعه، وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها، ولم يكفِهِ ذلك حتى أخذ حصنًا من حصونهم عظيمًا يقال له: طرش»[5].



                    ثم عاد يعقوب المنصور إلى عاصمته مراكش في المغرب العربي بعد هذا النصر المؤزر على البرتغال، والهدنة مع قشتالة، وبقيت طائفة أخرى لم تصالح المنصور، وهي التي ستكون السبب في الحرب القادمة.


                    هجمات الممالك النصرانية

                    بعد أقل من خمس سنوات «جمعت تلك الطائفة (التي لم تصالح) جمعًا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا، وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا»[6]، ثم ما لبث أن اجتمع معهم ألفونسو الثامن بعد انقضاء مدة الهدنة التي كانت بينه وبين المنصور الموحدي، فبعث إلى جميع الثغور الإسلامية يُنذر بانتهاء الهدنة -وكان المنصور منشغلاً بمعاركه في المغرب ضد الخارجين عليه من بني غانية وغيرها- ثم بعث بقادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يُغيرون عليها ويُثخنون فيها، وقد مال المنصور إلى الانتهاء من أمر المتمردين أولاً، لولا أن توالت كتب أهل الأندلس عليه تُشير باشتداد وطأة العدو إلى ما لا يطاق، فعدل عن عزمه وبدأ في التفكير صوب العبور إلى الأندلس[7].

                    إعلان الجهاد في الأندلس

                    وقبل هذا الوقت بسنوات قلائل كان المسلمون في كل مكانٍ يعيشون نشوة النصر الكبير الذي حقَّقه صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (583هـ= 1187م)؛ أي: قبل هذه الأحداث بسبع سنوات فقط، وما زال المسلمون في المغرب يعيشون هذا الحدث الإسلامي الكبير، ويتمنَّوْنَ ويُريدون أن يُكَرِّرُوا ما حدث في المشرق؛ خاصَّة بعد أن قام المنصور الموحدي بتحفيزهم في الخروج إلى الجهاد، فتنافسوا في ذلك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المططفين: 26].

                    كان ثمة جيش جاهز لمواجهة المتمردين على المنصور، ولكن لما تغيرت الوجهة أقبل المجاهدون المتطوعة، وقد بدأ هذا الاستنفار في سنة (590هـ=1194م)، وبعدها بعام واحد وفي سنة (591هـ=1195م) انطلقت الجيوش الإسلامية من المغرب العربي والصحراء وعبرت مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ لتلتقي مع قوَّات الصليبيين الرابضة هناك في موقعة ما برح التاريخ يذكرها ويُجِلُّها[8].

                    معركة الأرك

                    الأرك: حصن على بُعْدِ عشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من قلعة رباح، على أحد فروع نهر وادي آنة، ومحلُّها اليوم: (Sta Maria de Alarcos) غرب المدينة الإسبانية الحديثة (giadad real) «المدينة الملكية»، والأرك نقطة الحدود بين قشتالة والأندلس في حينه[9].




                    وفي التاسع من شهر شعبان سنة (591هـ=1195م) وعند هذا الحصن الكبير الذي يقع في جنوب طليطلة على الحدود بين قشتالة ودولة الأندلس، في ذلك الوقت التقت الجيوش الإسلامية مع جيوش النصارى هناك[10]، وكان ألفونسو الثامن قد أعدَّ جيشه بعد أن استعان بمملكتي ليون ونافار، في قوَّة يبلغ قوامها خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف نصراني، وقد أحضروا معهم بعض جماعات من اليهود لشراء أسرى المسلمين بعد انتهاء المعركة لصالحهم؛ ليتمَّ بيعهم بعد ذلك في أوربا [11].


                    وعلى الجانب الآخر فقد أعدَّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي جيشًا كبيرًا، بلغ قِوَامه مائتي ألف مسلم([12]) من جرَّاء تلك الحمية، التي كانت في قلوب أهل المغرب العربي وأهل الأندلس على السواء؛ خاصة بعد انتصارات المسلمين في حطين (583هـ= 1187م) في الشرق.

                    المجلس الاستشاري

                    في منطقة الأرك وفي أول عمل له عقد المنصور الموحدي مجلسًا استشاريًّا يستوضح فيه الآراء والخطط المقترحة في هذا الشأن، ولقد كان هذا على غير نسق كل القادة الموحدين السابقين له، والذين غلب عليهم التفرُّد في الرأي، فسار على منهج رسول الله في ذلك الأمر، وفي هذا المجلس الاستشاري استرشد أبو يوسف يعقوب المنصور بكل الآراء؛ حتى إنه استعان برأي أبي عبد الله بن صناديد في وضع خطَّة الحرب، وهو من الزعماء الأندلسيين وليس من قبائل المغرب البربرية، وكان هذا -أيضًا- أمرًا جديدًا على دولة الموحدين، التي كانت تعتمد على جيوش المغرب العربي فقط، فضمَّ أبو يوسف يعقوب المنصور قوَّة الأندلسيين إلى قوَّة المغاربة والبربر القادمين من الصحراء[13].

                    الاستعداد ووضع الخطط

                    في خُطَّة شبيهة جدًّا بخطَّة معركة الزلاقة قَسَّم المنصور الموحدي الجيش إلى نصفين، فجعل جزءًا في المقدمة، وأخفى الآخر خلف التلال، وكان هو على رأسه، ثم اختار أميرًا عامًّا للجيش، هو كبير وزرائه أبو يحيى بن أبي حفص، وقد ولَّى قيادة الأندلسيين لأبي عبد الله بن صناديد؛ وذلك حتى لا يُوغر صدور الأندلسيين وتضعف حماستهم حين يتولَّى عليهم مغربي أو بربري[14].

                    وإتمامًا لهذه الخطة فقد جعل الجزء الأول من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، «فجعل (أميرُ الجيش أبو يحيى) عسكر الأندلس في الميمنة، وجعل زناتة والمصامدة والعرب وسائر قبائل المغرب في الميسرة، وجعل المتطوعة والأغزاز (المماليك المصريون) والرماة في المقدمة، وبقي هو في القلب في قبيلة هنتاتة»[15].

                    وعند اكتمال الحشد وانتهاء الاستعداد للقتال أرسل الأميرُ الموحدي رسالة إلى كل المسلمين، يقول فيها: إن الأمير يقول لكم: اغفروا له؛ فإنَّ هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطَيِّبُوا نفوسكم، وأخلصوا لله نيَّاتكم. فبكى الناس جميعهم، وأعظموا ما سمعوه من أميرهم المؤمن المخلص، وعلموا أنه موقفُ وداعٍ، ثم قام الخطباء يخطبون عن الجهاد ويُذَكِّرون بفضله وشرفه ومكانته ويُحَمِّسون الجند له[16]، «فنشط الناس، وطابت النفوس، ومن الغد صدع بالنداء، وبأخذ السلاح والبروز إلى اللقاء»[17].

                    اللقاء المرتقب

                    في تلك الموقعة كان موقع النصارى في أعلى تلٍّ كبير، وكان على المسلمين أن يُقَاتِلوا من أسفل ذلك التلِّ، لكن ذلك لم يَرُدّ المسلمين عن القتال، وقد بدأ اللقاء ونزل القشتاليون كالسيل الجارف..

                    ولنترك ابن أبي زرع يروي قصة المعركة، يقول:
                    «تحرَّك من جيش العدوِّ - دمَّره الله تعالى- عقدة كبيرة من سبعة آلاف فارس إلى ثمانية آلاف فارس، كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزَّرَد[18] النظيف النضيد، فدُفعت نحو عسكر المسلمين... فوصلت تلك العقدة التي دفعت بأجمعها حتى لطمت أطرافُ رماح المسلمين في صدور خيلهم أو كادت، ثم تقهقروا قليلاً، ثم عادوا بالحملة. فعلوا ذلك مرتين، ثم تهيئوا للدفعة الثالثة، والقائد ابن صناديد والزعيم العربي يناديان برفع أصواتهما: اثبتوا معشر المسلمين؛ ثَبَّت الله أقدامكم بالعزمة الصادقة.

                    فدفع النصارى على القلب الذي فيه أبو يحيى؛ قاصدين إليه يظنون أنه أمير المؤمنين، فقاتل –رحمه الله- قتالاً شديدًا وصبر صبرًا جميلاً، حتى استشهد واستشهد معه جماعة من المسلمين من هنتاتة والمطوعة، وغيرهم ممن ختم الله تعالى له بالشهادة، وسبقت له من الله تعالى السعادة.

                    وصبر المسلمون صبرًا جميلاً، ورجع النهار بالغبار ليلاً، وأقبلت قبائل المطوعة والعرب والأغزاز والرماة، وأحاطوا بالنصارى الذين دفعوا من كل جانب، ودفع القائد ابن صناديد بجيوش الأندلس وحشودها، وزحفت معه قبائل زناتة والمصامدة وغمارة وسائر البربر إلى الربوة التي فيها ألفونسو الثامن -لعنه الله- يُقاتلون مَنْ فيها من جيش الروم.

                    وكان ألفونسو -لعنه الله- فيها مع جيوش الروم وجميع عساكره وأجناده فيما يزيد على ثلاثمائة ألف، ما بين فارس وراجل، فتعلَّق المسلمون بالربوة وأخذوا في قتال مَنْ بها فاشتدَّ القتال، وعظمت الأهوال، وكثر القتل في النصارى الذين دفعوا في الحملة الأولى، وكانوا نحو العشرة آلاف زعيم، انتخبهم اللعين ألفونسو الذميم، وصَلَّتْ عليه الأقسة([19]) صلاة النصر، ورَشُّوا عليهم ماء المعمودية في الطهر، وتحالفوا بالصلبان ألاَّ يفروا حتى لا يتركوا من المسلمين إنسانًا، فصدق الله U وعده، ونصر جنده.

                    فلمَّا اشتد القتال على الكفار، وأيقنوا بالفناء والبوار، وَلَّوُا الأدبار، وأخذوا في الفرار، إلى الربوة التي فيها ألفونسو ليعتصموا بها، فوجدوا عساكر المسلمين قد حالوا بينهم وبينها، فرجعوا على أعقابهم ناكصين في الوطا، فرجعت عليهم العرب والمطوعة وهنتاتة والأغزاز والرماة فطحنوهم طحنًا، وأَفْنَوْهم عن آخرهم، وانكسرت شوكة ألفونسو بفنائهم؛ إذ كان اعتماده عليهم، وأسرعت خيل من العرب إلى أمير المؤمنين، وأطلقوا أَعِنَّتهم نحوه، وقالوا له: قد هزم الله تعالى العدو.

                    فضربت الطبول، ونشرت الرايات، وارتفعت الأصوات بالشهادة، وخفقت البنود، وتسابقت لقتال أعداء الله الأبطالُ والجنودُ، وزحف أمير المؤمنين بجيوش الموحدين، قاصدًا لقتال أعداء الله الكافرين، فتسابقت الخيل وأسرعت الرجال، وقصدوا نحو الكفرة، للطعان والنزال، فبينما ألفونسو الثامن -لعنه الله- قد همَّ وعزم أن يحمل على المسلمين بجميع جيوشه، ويصدهم بجنوده وحشوده؛ إذ سمع الطبول عن يمينه قد ملأت الأرض، والأبواق قد طبقت الرُّبَا والبطاح، فرفع رأسه لينظر فيها، فرأى رايات الموحدين قد أقبلت، واللواء الأبيض المنصور في أولها عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالبَ إلى الله. وأبطال المسلمين قد تسابقت وجيوشهم قد تناسقت وتتابعت، وأصواتهم بالشهادة ارتفعت، فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين قد أقبل، وما قاتلك اليوم كله إلاَّ طلائع جيوشه، ومُقَدِّمات عساكره، فقذف الله الرعب في قلوب الكافرين، ووَلَّوُا الأدبار منهزمين، وعلى أعقابهم ناكصين.

                    وتلاحقت به فرسان المجاهدين، يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقتفون آثارهم، ويُحكمون فيهم رماحهم وشفارهم، ويروون من دمائهم السيوف، ويُذيقونهم مرارة الحتوف، وأحاط المسلمون بحصن الأراك، وهم يظنون أن ألفونسو -لعنه الله- قد تحصَّن فيه، وكان عدو الله قد دخل فيه من باب، وخرج من الناحية الأخرى، فدخل المسلمون الحصن بالسيف عَنوة، وأضرموا النيران في أبوابه، واحتووا على جميع ما كان فيه وفي محلة النصارى من الأموال والذخائر والأرزاق، والأسلحة والعدد، والأمتعة والدواب، والنساء والذرية، وقُتل في هذه الغزاة من الكفرة ألوف لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ولا يَعلم لها أحدٌ عددًا إلاَّ الله تعالى.

                    وأخذ في حصن الأراك من زعماء الروم أربعة وعشرون ألف فارس أسارى، فامتنَّ عليهم أمير المؤمنين، وأطلقهم بعدما ملكهم؛ ليكون له بذلك يد الامتنان ويدٌ عُلْيَا عليهم، فعزَّ فعله ذلك على الموحدين وعلى كافَّة المسلمين، وحُسِبَتْ له تلك الفعلة سقطة من سقطات الملوك»[20].



                    طارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة؛ بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإسلامي، وكانت سعادةً لا تُوصف؛ خاصَّة وأنها بعد ثمانية أعوام فقط من انتصار حطين العظيم.


                    قال المقري: وكان عدة مَنْ قُتِل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستَّة وأربعين ألفًا، وعدة الأسارى ثلاثين ألفًا، وعدة الخيام مائة ألف وستَّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثمانين ألفًا، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفَّار لحمل أثقالهم؛ لأنَّهم لا إبل لهم، وأمَّا الجواهر والأموال فلا تُحصى، وبِيع الأسير بدرهم[21]، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقَسَّم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا ألفونسو ملكُ النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرسًا ولا دابَّة؛ حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدُّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه، وسار خلفه إلى طُلَيْطِلَة وحاصره، ورمى عليها بالمجانيق، وضيَّق عليها، ولم يبقَ إلا فتحُها، فخرجت إليه والدة ألفونسو وبناته ونساؤه وبَكَيْنَ بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقَّ لهن ومَنَّ عليهن بها، ووهب لهنَّ من الأموال والجواهر ما جَلَّ، وردَّهُنَّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قُرْطُبَة، فأقام شهرًا يُقَسِّم الغنائم[22].

                    نتائج انتصار الأرك

                    تمخَّض عن انتصار الأرك الكبير آثار ونتائج عظيمة؛ أهمُّها ما يلي:

                    الهزيمة الساحقة لقوات النصارى

                    كان من أهمِّ آثار انتصار الأرك تَبَدُّدُ جيش النصارى بين القتل والأسر؛ فقد قُتِلَ منهم في اليوم الأول فقط -على أقل تقدير- ثلاثون ألفًا، وقد جاء في نفح الطيب للمقري أن عدد قتلى النصارى وصل إلى ستة وأربعين ألفًا ومائة ألف قتيل، من أصل خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف مقاتل، وكان عدد الأسرى بين عشرين وثلاثين ألف أسير[23]، وقد مَنَّ عليهم المنصور الموحدي بغير فداء؛ إظهارًا لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوَّة النصارى[24].

                    النصر المادي

                    رغم الكسب المادي الكبير جدًّا، إلاَّ أنه كان أقلَّ النتائج المترتبة على انتصار المسلمين في موقعة الأرك؛ فقد حصد المسلمون من الغنائم ما لا يُحصى، وقد بلغت -كما جاء في نفح الطيب- ثمانين ألفًا من الخيول، ومائة ألفٍ من البغال، وما لا يُحصى من الخيام[25].

                    وقد وزَّع المنصور الموحدي –رحمه الله- هذه الأموال الضخمة وهذه الغنائم كما كان يفعل رسول الله ؛ فوزَّع على الجيش أربعة أخماسها، واستغلَّ الخمس الباقي في بناء مسجد جامع كبير في إشبيلية؛ تخليدًا لذكرى الأرك، وقد أنشأ له مئذنة سامقة يبلغ طولها مائتي متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، إلاَّ أنها - وسبحان الله! - حين سقطت إشبيلية بعد ذلك في أيدي النصارى تحوَّلت هذه المئذنة -والتي كانت رمزًا للسيادة الإسلامية- إلى برج نواقيس للكنيسة، التي حَلَّت مكان المسجد الجامع[26]، وهي موجودة إلى الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

                    النصر المعنوي

                    كان من نتائج موقعة الأرك -أيضًا- ذلك النصر المعنوي الكبير الذي ملأ قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فقد ارتفع نجم دولة الموحدين كثيرًا، وارتفعت معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوَّة النصارى، وارتفعت -أيضًا- معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي؛ حتى راحوا يعتقون الرقاب، ويُخْرِجُون الصدقات فرحًا بهذا الانتصار.

                    وكان من جرَّاء ذلك -أيضًا- أن استمرَّت حركة الفتوح الإسلامية، واستطاع المسلمون فتح بعض الحصون الأخرى، وحاصروا طليطلة إلاَّ أنها -كما ذكرنا من قبل- كانت من أحصن المدن الأندلسية؛ فلم يستطيعوا فتحها[27].

                    صراعات شتى بين ممالك النصارى

                    نتيجةً لموقعة الأرك -أيضًا- حدثت صراعات شتَّى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى.. فقد ألقى عليهم ألفونسو الثامن (ملك قشتالة) مسئولية الهزيمة[28]، وكان من نتائج ذلك -أيضًا- أن وقعت لهم الهزيمة النفسية، وترتَّب على هذا -أيضًا- أن أتت السفارات تطلب العهد والمصالحة مع المنصور الموحدي.

                    معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين

                    أيضًا كان من نتائج موقعة الأرك أن تمت معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين على الهدنة ووقف القتال مدَّة عشر سنوات، أراد المنصور أن يُرَتِّبَ فيها الأمور من جديد في بلاد الموحدين[29].


                    [1] ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية: الرسالة الرابعة والثلاثون، ص222.
                    [2] أمير البرتغال ألفونسو هنريكيز كما كان يسميه العرب وقتها.
                    [3] البطس: مفردها بطسة، وهي من أنواع المراكب البحرية الكبيرة، عرفها العرب المسلمون منذ بداية العصر الإسلامي، واستعملوها في الحروب البحرية والأعمال التجارية، عدد أشرعتها أربعون شراعًا، تحمل على متنها ما يزيد عن ألفين وخمسمائة شخص. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص81.
                    [4] الشواني: جمع شونة، وهي طراز من السفن المستخدمة للأغراض الحربية عرفها اليونان والرومان واستعملها العرب في العصر الإسلامي، تسير بالشراع، يصل عدد مجاديفها إلى 100، وهي مزودة بأبراج خاصة، وتحمل على متنها حوالي 150 من المقاتلين المزودين بأسلحتهم. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص287.
                    [5] عبد الواحد المراكشي: المعجب ص356، وابن عذاري: البيان المغرب، ص204-212، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/244.
                    [6] ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/8.
                    [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/197.
                    [8] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص358، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص217، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245.
                    [9] شوقي أبو خليل: الأرك، ص54.
                    [10] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/237، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226.
                    [11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/237، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/245، 4/182، 183، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 5/213، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 2/84.
                    [12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/319.
                    [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص223، والسلاوي: الاستقصا، 2/187.
                    [14] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص224.
                    [15] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226، والسلاوي: الاستقصا، 2/189.
                    [16] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص219
                    [17] ابن الخطيب: رقم الحلل، ص59.
                    [18] الزرد: حلق المغفر والدرع. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرد 3/194، والمعجم الوسيط 1/391.
                    [19] الأقسة: جمع قسيس.
                    [20] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص225 وما بعدها. وانظر حوادث المعركة مختصرة في: ابن عذاري في البيان المغرب – قسم الموحدين- ص214-220، وابن الخطيب: رقم الحلل ص59.
                    [21] أَمْرُ بيع الأسير بدرهم –كما عند المقري- مما يتنافى مع روايات المعاصرين للمعركة من امتنان المنصور عليهم بإطلاقهم بغير فداء.
                    [22] المقري: نفح الطيب، 1/443.
                    [23] المصدر السابق، 1/443.
                    [24] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص228.
                    [25] المقري: نفح الطيب، 1/443.
                    [26] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص229.
                    [27] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245، والمقري: نفح الطيب، 2/192، وانظر تفاصيل غزو المنصور لأراضي قشتالة في مجموع رسائل موحدية، الرسالة الخامسة والثلاثون، ص231.
                    [28] انظر: يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/95، وليفي بروفنسال: مجموعة رسائل موحدية ص238.
                    [29] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، وقالت بعض المصادر: إن مدة الهدنة كانت خمس سنين. انظر: ابن الأثير: الكامل، 10/238، والسلاوي: الاستقصا، 2/193.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • ابن رشد .. أشهر علماء الموحدين

                      نستطرد في المقالات التالية لنلقي الضوء على علماء الأندلس في ظل دولة الموحدين وخاصة في عهد المنصور الموحدي، والذين كان لهم دور ليس بالقليل في نماء الدولة فكريا وفلسفيا وعلميا، ومن هؤلاء ابن رشد الحفيد وابن زرقون والإمام الشاطبي صاحب متن الشاطبية.

                      وفي هذا المقال نلقي الضوء على حياة ابن رشد.

                      نشأة ابن رشد

                      هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، كان مولده سنة (520هـ=1126م)، وقد نشأ في بيتٍ من بيوت العلم؛ فقد كان جدُّه ابن رشد -كما قال عنه ابن بشكوال في الصلة - فقيهًا عالمًا، حافظًا للفقه، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرئاسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن والهدي الصالح[1].

                      نشأ ابن رشد الحفيد في هذا البيت، ومع أنه لم يُدرك جدَّه العظيم هذا -حيث تُوُفِّيَ جدُّه وعُمر الحفيد شهر واحد- إلاَّ أنه ورث العلم الغزير، خاصَّة في الفقه عن أبيه الذي تربَّى وتَعَلَّم على يد جدِّه وعن غيره من فقهاء عصره، وقيل: إنه تلقَّى علوم الفلسفة على ابن باجة[2].

                      مؤلفات ابن رشد



                      ذكر الذهبي أن ابن رشد ما ترك الاشتغال مذ عَقَل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وأنه سوَّد فيما ألَّف وقيَّد نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة، وله من التصانيف: بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، والكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وشرح أرجوزة ابن سينا في الطب، والمقدمات في الفقه، وكتاب الحيوان، وكتاب جوامع كتب أرسطوطاليس، وشرح كتاب النفس، وكتاب في المنطق، وكتاب تلخيص الإلاهيات لنيقولاوس، وكتاب تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، وكتاب تلخيص الاستقصات لجالينوس، ولخصَّ له كتاب المزاج، وكتاب القوى، وكتاب العلل، وكتاب التعريف، وكتاب الحميات، وكتاب حيلة البرء، ولخص كتاب السماع الطبيعي، وكتاب تهافت التهافت، وكتاب منهاج الأدلة، وكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، وكتاب شرح القياس لأرسطو، ومقالة في العقل، ومقالة في القياس، وكتاب الفحص في أمر العقل، والفحص عن مسائل في الشفاء، ومسألة في الزمان، ومقالة فيما يعتقده المشَّاءون وما يعتقده المتكلمون في كيفية وجود العالم، ومقالة في نظر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو، ومقالة في اتصال العقل المفارق للإنسان، ومقالة في وجود المادَّة الأولى، ومقالة في الردِّ على ابن سينا، ومقالة في المزاج، ومسائل حكمية، ومقالة في حركة الفلك، وكتاب ما خالف فيه الفارابي أرسطو[3].


                      أثر فلسفة ابن رشد على الغرب

                      كان لابن رشد فضل كبير على روجر بيكون الفيلسوف الشهير؛ فقد استفاد هذا الأخير من مؤلفاته وحيًا، واستنزل من حكمته إلهامًا، وذكره في كتابه اللاتيني (أبوس ماجوس)، وأثنى عليه وعلى مواهبه وسعة علمه، فقال: «إنه فيلسوف متين متعمق، صحَّح كثيرًا من أغلاط الفكر الإنساني، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة لا يُستغنى عنها بسواها، وأدرك كثيرًا مما لم يكن قبله معلومًا لأحد، وأزال الغموض عن كثير من الكتب التي تناولها ببحثه».

                      وأمَّا توماس الأكويني الذي أصبح قديسًا؛ لأنه كان أعظم لاهوتي في كنائس الغرب، وأكبر فلاسفة القرون الوسطى، فقد سطع نجمه وعلا بكتابه إجمال اللاهوت (سوماتيولوجيا)، وقد ذكر توماس أسباب اتصاله بالأفكار الدنيوية، ودلَّ على أن الفضل في وضع كتابه شكلاً ومادة يعود إلى طريقة ابن رشد وفلسفته.



                      على أن فيلسوف قرطبة - ابن رشد - لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله[4].


                      ومن ثناء العلماء عليه ما نقله الذهبي عن ابن أبي أصيبعة من قوله: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب[5]، وقول الذهبي نفسه: «وكان يُفزع إلى فتياه في الطب، كما يُفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي[6].

                      محنة ابن رشد

                      كان الخليفة أبو يعقوب يستعين بابن رشد إذا احتاج الأمر للقيام بمهام رسمية عديدة، ولأجلها طاف في رحلات متتابعة في مختلف أصقاع المغرب؛ فتنقَّل بين مراكش وإشبيلية وقرطبة، ثم دعاه أبو يعقوب في سنة (578هـ) إلى مراكش فجعله طبيبه الخاص، ثم ولاَّه منصب القضاء في قرطبة، فلما مات أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي زادت مكانة ابن رشد في عهده مكنة ورفعة، وقرَّبه الأمير إليه، ولكن كاد له بعض المقرَّبين من الأمير، فأمر الأمير بنفيه إلى قرية كانت لليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة[7].

                      وقد مات ابن رشد محبوسًا في داره بمراكش، وذلك سنة (595هـ=1198م)[8].


                      [1] ابن بشكوال: الصلة، 3/839 1278.
                      [2] رحاب عكاوي: ابن رشد، ص9.
                      [3] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، 309.
                      [4] محمد لطفي جمعة: تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، ص223.
                      [5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308، وانظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/319.
                      [6] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/308.
                      [7] رحاب عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام، 2/249.
                      [8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/309.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • ابن زرقون .. شيخ المالكية

                        نشأته

                        أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد الأنصاري الإشبيلي المالكي، المعروف بابن زرقون... وزرقون هو لقب جدهم سعيد.



                        وُلِدَ سنة (502هـ/1109م) في شريش بالأندلس وتُسمى الآن هريز في جنوب إسبانيا، تلقَّى العلم على شيوخها، ثم انتقل مع أبيه إلى مَرَّاكُش، وبعد ذلك إلى الأندلس وتجوَّل فيها.


                        القاضي

                        لازم ابن زرقون القاضي عياضا (ت 544هـ)، وتلقَّى العلم بمراكش وبسبتة، وتولَّى ابن زرقون القضاء في إشبيلية وشلب.

                        المسند

                        وكان مسند الأندلس في وقته، وقد وصفه الذهبي في السير- المسند الفقيه، وله مؤلَّف جَمَعَ بين الجامع الكبير للترمذي وسنن أبي داود في الحديث.

                        وفاته

                        وقد تُوُفِّيَ بإشبيلية في نصف رجب (586هـ=1190م) عن أربع وثمانين سنة[1].

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • الشاطبي .. عالم القراءات


                          الإمام الشاطبي



                          هو كما يصفه الذهبي في السير: الشيخ الإمام، العالم العامل، القدوة، سيد القرَّاء، أبو محمد، وأبو القاسم القاسم بن فِيرُّه بن خلف بن أحمد الرعيني، الأندلسي الشاطبي، الضرير، وُلِدَ في شاطبة من بلاد الأندلس[1].
                          سنة (538هـ=1144م)

                          قرأ ببلده القراءات (أي علم قراءات القرآن الكريم) وأتقنها، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده وسمع الحديث، ثم رحل للحج فأخذ العلم -أيضًا- بالإسكندرية[2].

                          مؤلفات الشاطبي

                          ومن أشهر مؤلفات الإمام الشاطبي قصيدته الرائعة العظيمة الفائدة، الجمَّة النفع، المسماة: (حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع)، والتي عُرفت بـ «متن الشاطبية»، وقد أبدع الشاطبي فيها غاية الإبداع، ورزقه الله من التوفيق في هذا المتن ما لا يُوصف إلاَّ بأنه نور من الله وَّر به عقله وقلبه، فأطلق لسانه بهذا المتن العظيم (متن الشاطبية)؛ ويقع هذا المتن في أبيات تزيد على الألف، وقد قال الشاطبي في خاتمته: [الطويل]
                          وَأَبْيَاتُهَا أَلْفٌ تَزِيدُ ثَلاَثَةً


                          وَمَعْ مِائَةٍ سَبْعِينَ زُهْرًا وَكُمَّلاَ


                          قال الشارح: زُهْرًا وَكُمَّلاً: حالان من الضمير في تزيد الراجع إلى الأبيات؛ أي: هي زاهرة كاملة، يعني: مضيئة كاملة الأوصاف. ثم قال الشاطبي:
                          وَقَدْ كُسِيَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي عِنَايَةً


                          كَمَا عَرِيَتْ عَنْ كُلِّ عَوْرَاءَ مِفْصَلا


                          قال الشارح: أثنى في هذا البيت على معانيها وألفاظها؛ فنصب (عناية) على أنه مفعولي كُسيت؛ أي أنه اعتنى بها فجاءت شريفة المعاني، حسنة المباني، وقابل بين الكسوة والعري، فقال: كُسيت معانيها عناية، وعَرِيت في التعبير عنها عن كل جملة عورًا؛ أي لا تُنْبِئُ عن المعنى المقصود فهي ناقصة[3].

                          ونَظَم -أيضًا- قصيدته الرائية المسمَّاة: (عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد)، وهي في علم الرسم[4]، و(ناظمة الزهر) وهي في علم عدد الآي، وله -أيضًا- قصيدة دالية تقع في خمسمائة بيت لخَّص فيها التمهيد لابن عبد البر[5].

                          وتتلمذ عليه كثيرون، فقد كان شيخَ القراء بلا منازع، وقد بارك الله له في تصنيفه وأصحابه، فلا نعلم أحدًا أخذ عنه إلا قد نجب[6].

                          ثناء العلماء عليه

                          قال عنه الإمام ابن الجزري: وكان إمامًا كبيرًا أُعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، إمامًا في اللغة، رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظبًا على السُّنَّة، بلغنا أنه وُلِدَ أعمى، ولقد حكى عنه أصحابه ومَنْ كان يجتمع به عجائب، وعَظَّمُوه تعظيمًا بالغًا؛ حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي-رحمه الله- من نظمه في ذلك: [الوافر]
                          رَأَيْتُ جَمَاعَةً فُضَلاءَ فَازُوا


                          بِرُؤْيَةِ شَيْخِ مِصْرَ الشَّاطِبِيِّ
                          وَكُلُّهُمُ يُعَظِّمُهُ وَيُثْنِي


                          كَتَعْظِيـمِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ[7]


                          وقال عنه المقري في نفح الطيب: وكان إمامًا علاَّمة ذكيًّا، كثير الفنون، منقطع القرين، رأسًا في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، واسع العلم، وقد سارت الركبان بقصيدتيه: (حرز الأماني) و(عقيلة أتراب الفضائل) اللتين في القراءات والرسم، وحَفِظَهما خلقٌ لا يُحْصَوْنَ، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحُذَّاق القرَّاء، ولقد أوجز وسهَّل الصعب[8].

                          وقال السبكي في حقِّ الإمام الشاطبي: إنَّه كان قويَّ الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون، فقيهًا، مقرئًا، محدِّثًا، نحويًّا، زاهدًا، عابدًا، ناسكًا، يتوقَّد ذكاءً. وقال السخاوي: أقطع أنَّه كان مكاشفًا، وأنَّه سأل الله كتمان حاله، ما كان أحدٌ يعلم أي شيء هو[9].



                          وقال ابن خلّكان: ولقد أبدع كل الإبداع في حرز الأماني، وهي عمدة قرَّاء هذا الزمان في نقلهم، فقلَّ مَنْ يشتغل بالقراءات إلاَّ ويُقَدِّم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها، وقد رُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلاَّ وينفعه الله؛ لأنني نظمتها لله[10].


                          وقال عنه الذهبي: كان يتوقَّد ذكاء، له الباع الأطول في فنِّ القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث، وله النظم الرائق مع الورع والتقوى، والتألُّه والوقار... وكان إذا قُرِئَ عليه (الموطأ) و(الصحيحان)، يُصَحِّحُ النسخ من حفظه، حتى كان يقال: إنه يحفظ وِقْر بعير من العلوم[11].

                          من كراماته

                          ومن عجيب ما يُروى له من الكرامات، ما أورده الإمام ابن الجزري، قال: أخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم أن الشاطبي كان يُصَلِّي الصبح بغلس بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السُّرَى([12]) إليه ليلاً، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق، فاتُّفِقَ في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولاً، فلما استوى الشيخ قاعدًا، قال: مَنْ جاء ثانيًا فليقرأ. فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله، وأخذ يتفكَّر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له، ففطن أنه أَجْنَبَ تلك الليلة، ولشدَّة حرصه على النوبَة نسي ذلك لَمَّا انتبه، فبادر إلى الشيخ، فأُطْلِع الشيخ على ذلك، فأشار للثاني بالقراءة، ثم إنَّ ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ قاعد أعمى على حاله، فلما فرغ الثاني قال الشيخ: مَنْ جاء أولاً فليقرأ. فقرأ، وهذا من أحسن ما نعلمه وقع لشيوخ هذه الطائفة، بل لا أعلم مثله وقع في الدنيا[13].

                          وفاته

                          توفي الشاطبي –رحمه الله- بعد حياة حافلة بالعلم الواسع الغزير والجهاد في نشره- بالقاهرة في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة (590هـ= 19/6/1194م) ودُفِنَ بالقرافة بين مصر والقاهرة بمقبرة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، وقبره مشهور معروف[14].


                          [1] انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/261، 262.
                          [2] انظر: ابن الجزري: غاية النهاية، 2/20-22.
                          [3] أبو شامة: إبراز المعاني من حرز الأماني، ص756.
                          [4] أي رسم المصحف وهو كتابة القرآن الكريم.
                          [5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/263، 264.
                          [6] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/22.
                          [7] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/20، 21.
                          [8] المقري: نفح الطيب، 2/24.
                          [9] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 7/273، والمقري: نفح الطيب، 2/24.
                          [10] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/71.
                          [11] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/262، 264.
                          [12] السُّرَى: سَيرُ عامة الليل. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل السين 6/2376، وابن منظور: لسان العرب، مادة سرا 14/377، والمعجم الوسيط 1/428.
                          [13] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/221.
                          [14] ابن الجزري: غاية النهاية، 2/22.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • الناصر لدين الله الموحدي


                            الناصر لدين الله

                            لقي المنصور الموحدي ربه في سنة (595هـ= 1199م) عن عُمر لم يتعدَّى الأربعين سنة، تمَّ له فيه حُكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة؛ من سنة (580هـ=1185م) وحتى وفاته في سنة (595هـ=1199م)، ثم تولَّى من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله، وعمره آنذاك سبعة عشرة سنة وأشهر[1]، ورغم أن صِغَر السنِّ ليس به ما يشوبه في ولاية الحُكم خاصة وقد رأينا من ذلك الكثير، إلاَّ أنَّ الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في أمور القيادة.

                            وكان المنصور الموحدي قد استخلف ابنه الناصر لدين الله قبل وفاته على أمل أن يُمِدَّ الله في عمره؛ فيستطيع الناصر لدين الله أن يكتسب من الخبرات ما يُؤَهِّله لأن يُصبح بعد ذلك قائدًا فذًّا على شاكلة أبيه، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي عن عُمر لم يتجاوز الأربعين عامًا وضع الناصر لدين الله على رئاسة البلاد وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره[2].

                            عقبات في طريق الناصر

                            بنو غانية



                            كان الناصر لدين الله شابًّا طموحًا قويًّا مجاهدًا[3]، لكنه لم يكن في كفاءة أبيه، وفضلاً عن هذا فقد كانت البلاد محاطة بالأعداء من كل جانب، والنصارى بعدُ لم ينسوا هزيمتهم في معركة الأرك، التي كانت قبل سنوات قلائل، ويُريدون أن يُعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين.


                            لكن المشكلة التي ما فتئت تؤرق الموحدين، وتمثل شوكة في ظهر المسلمين، هم بنو غانية، والحقيقة أن بني غانية قاموا بأسوأ دور يمكن أن يقوموا به، ولقد كان المنصور قد عزم على أن يواصل الجهاد حتى يقضي على التهديد النصراني الإسباني نهائيًّا؛ لولا أن استغل هؤلاء انشغاله بالجهاد في الأندلس فنشطوا حركتهم في إفريقية مرة أخرى؛ حتى كان تمردهم هذا من أسباب قبوله بمهادنة النصارى، فلما مات المنصور زاد نشاطهم وتكثف، فبدأت الخلخلة والاضطرابات تتزايد داخل الدولة الإسلامية الكبيرة، وفي سبيل استعادة الوضع إلى ما كان عليه وجَّه الناصر لدين الله جُلَّ طاقته للقضاء على ثورات بني غانية داخل دولة الموحدين، فخاض معهم معارك وحروب كثيرة، حتى استطاع في نهاية الأمر إخمادها تمامًا، وكان على محمد الناصر أن يبدأ عهده بالعمل على استئصال شوكتهم، فوجَّه الحملات، وتوجَّه هو بنفسه إلى إفريقية لحرب بني غانية فيها، وعاد سنة (604هـ) بعدما تمكَّن من الاستيلاء على المدن التي استولوا عليها من قبل في إفريقية[4].

                            هجمات ألفونسو الثامن على الموحدين

                            في هذه الأثناء التي كان يسعى فيها الناصر لدين الله للقضاء على ثورات بني غانية، كان قد تجدَّد الأمل عند ألفونسو الثامن، فعمل على تجهيز العُدَّة لرَدِّ الاعتبار، وقبل انتهاء الهدنة ومخالفةً للمعاهدة التي كان قد عقدها مع المنصور الموحدي قبل موته، هجم ألفونسو الثامن على بلاد المسلمين، فنهب القرى وأحرق الزروع، وقتل العُزَّل من المسلمين، وكانت هذه بداية حرب جديدة ضد المسلمين[5].

                            اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى

                            إضافة إلى ضعف كفاءة القيادة في دولة الموحدين المتمثِّلة في الناصر لدين الله، والتي لم تكن بكفاءة السابقين، فقد كان ثمة عيب خطير آخر في القيادة، كان متأصلاً في أجداده من قبله، وهو اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى[6]، ذلك العيب الذي تفاداه أبوه من قبله، فأفلح وساد وتمكَّن، ونصره الله ، وفوق هذا وذاك فكان المسلمون قد أُنْهِكُوا في رَدِّ الثورات المتتالية لبني غانية داخل دولة الموحدين.

                            وزاد من ذلك أمر آخر كان في غاية الخطورة، وهو أن الناصر لدين الله كان قد استعان ببطانة سوء، ووزير ذميم الخلُق وسيئ التدبير والسياسة يُدْعَى أبا سعيد بن جامع، والذي شكَّ كثير من المؤرخين في نياته، وشكَّ كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته[7].

                            وقد كان لتلك العيوب أثرها الكبير في هزيمة الموحدين في موقعة العقاب، والتي سوف نفصَّل أحداثها في المقال القادم إن شاء الله.

                            أشهر علماء الأندلس في عهد الناصر

                            ابن جبير (540-614هـ=1145-1217م)

                            هو العلامة أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أديب رحَّالة، وُلِدَ سنة (540هـ) ببَلَنْسِيَة، تعلم القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدَّم في صناعة الشعر والكتابة[8]، من أشهر مؤلفاته (رحلة ابن جبير)، و(نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان)، وهو ديوان شعره، و(نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح) وهو مجموع ما رثى به زوجته (أم المجد)[9].
                            ومن شعره: [المنسرح]
                            تَأَنَّ فِي الأَمْرِ لا تَكُنْ عَجِلاً

                            فَمَنْ تَأَنَّى أَصَابَ أَوْ كَادَا
                            وَكُنْ بِحَبْـلِ الإِلَـهِ مُعْتَصِمًا

                            تَأْمَنُ مَنْ بَغْيِ كَيْدِ مَنْ كَادَا
                            فَكَمْ رَجَاهُ فَنَالَ بُغْيَتَهُ

                            عَبْدٌ مُسِيءٌ لِنَفْسِهِ كَـادَا
                            وَمَنْ تَطُلْ صُحْبَةُ الزَّمَانِ لَهُ

                            يَلْقَ خُطُوبًا بِهِ وَأَنْكَادَا[10]

                            ومن شعره -أيضًا- قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنًا نضيرًا من أحد بساتينها فذوى[11] في يده: [مجزوء الرجز]
                            لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ

                            وَاذْكُرْ تَصَارِيفَ النَّوَى
                            أَمَا تَرَى الْغُصْنَ إِذَا

                            مَا فَارَقَ الأَصْلَ ذَوَى[12]

                            ومن إبداعابن جبير في النثر ما أورده صاحب نفح الطيب أن ابن جبير قال في رحلته في حقِّ دمشق: جنَّة المشرق، ومطلع حسنه المُونِق المشرق، هي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تَحَلَّت بأزاهير الرياحين، وتجلَّت في حلل سندسية من البساتين، وحلَّت من موضع الحُسن بمكان مكين، وتزيَّنت في منصَّتها أجمل تزيين، وتشرَّفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى رَبْوَةٍ ذات قَرَار ومَعِين، وظلٍّ ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مَذانبه انسيابَ الأراقم بكل سبيل، ورياض يُحيي النفوسَ نَسِيمُها العليل، تتبرَّج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلمُّوا إلى مُعَرَّس للحُسن ومَقيل، قد سئمتْ أرضها كثرة الما، حتى اشتاقت إلى الظَّما، فتكاد تناديك بها الصُّمُّ الصلاب، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، قد أحدقَتْ بها البساتينُ إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهَر، وامتدَّتْ بشرقيها غُوطَتُها الخضراء امتداد البصر، فكلُّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قَيْدُ النظر، وللهِ صِدْقُ القائلين فيها: إن كانت الجنَّة في الأرض فدمشق لا شكَّ فيها، وإن كانت في السماء؛ فهي بحيث تُسامتها وتحاذيها! [13].

                            ومن ثناء العلماء عليه قول لسان الدين بن الخطيب في حقِّه: إنَّه من علماء الأندلس بالفقه والحديث، والمشاركة في الآداب. وقول المقري في نفح الطيب: وكان أبو الحسين بن جبير المترجم قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها[14].

                            تُوُفِّيَ ابن جبير بالإسكندرية في 29 من شعبان سنة (614هـ) [15].

                            ابن القرطبي (556-611هـ=1161-1214م)

                            هو عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري مالقي، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويُعرف بالقرطبي، ولد بمالقة لثمانٍ بقين من ذي القعدة سنة (565هـ)، الموافق لشهر نوفمبر 1161م[16].

                            كان -كما يوصف- كاملَ المعارف، صدرًا في المقرئين والمجوِّدين، رئيس المحدِّثين وإمامهم، واسع المعرفة، مُكْثِرًا، ثقةً، عدلاً، أمينًا، مَكِينَ الرواية، رائق الخطِّ، نبيل التقييد والضبط، ناقدًا، ذاكرًا أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حُلُّوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النظر، متيقِّظًا، متوقِّد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دَمِثًا، متواضعًا، حسن الخلق، مُحَبَّبًا إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقورًا، مُعَظَّمًا عند الخاصَّة والعامَّة، دَيِّنًا، زاهدًا، ورعًا، فاضلاً، نحويًّا ماهرًا، ريَّان من الأدب[17].
                            قال تلميذه الأثير جعفر بن زعرور: بِتُّ معه ليلة في دُوَيْرَتِه التي كانت له بجبل فَارَه[18] للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنتُ فيها يقظانًا، وهو ضاحك مسرور، يَشِدُّ يده كأنَّه ظفر بشيء نفيس، فسألتُه، فقال: رأيت كأن الناس قد حُشروا في العَرْضِ على الله، وأُتِيَ بالمحدِّثين، وكنتُ أرى أبا عبد الله النميري يُؤْتى به، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيُعطى براءته من النار، ثم يُؤْتَى بي، فأُوقِفت بين يدي ربِّي، فأعطاني براءَتي من النار، فاستيقظتُ، وأنا أشدُّ عليها يدي اغتباطًا بها وفرحًا، والحمد لله[19].

                            وقد ألف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع، ولخَّص أسانيد الموطأ، وله كتاب (المُبْدِي لخطأ الرُّندي)، وألف في القراءات أيضًا.

                            وقد تُوُفِّيَ ابن القرطبي في السابع من ربيع الآخر سنة (611هـ)[20].


                            [1] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص386.
                            [2] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص230.
                            [3] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص386.
                            [4] عبد الواحد المراكشي المعجب، ص398، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249.
                            [5] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص398، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص233، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
                            [6] انظر ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
                            [7] انظر: السلاوي: الاستقصا، 2/221.
                            [8] المقري: نفح الطيب، 2/382.
                            [9] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/234.
                            [10] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 22/46، 47.
                            [11] ذوى: ذبل ويبس. ابن منظور: لسان العرب، مادة ذوي 14/290، والمعجم الوسيط 1/318.
                            [12] المقري: نفح الطيب، 2/382.
                            [13] المقري: نفح الطيب، 2/386، 387.
                            [14] المصدر السابق، 2/487.
                            [15] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 2/239.
                            [16] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/408.
                            [17] المصدر السابق، 3/405.
                            [18] جبل فاره: جبل يشرف على مدينة مالقة من ناحية الجنوب الشرقي. انظر: لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 1/506، حاشية رقم 4.
                            [19]ابن خلدون:، 3/406، 407.
                            [20] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/408.

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • موقعة العقاب

                              البابا والحرب الصليبية

                              في الوقت الذي كان فيه الناصر لدين الله مشغولا في القضاء على ثورات بني غانية كانت هناك تعبئة روحية عالية في جيش النصارى، يقودها البابا في روما بنفسه، وقد أعلنوها حربًا صليبية، وراحوا يُضْفُون عليها ألوانًا من القداسة[1].

                              وقد زاد الأمر تعقيدًا إرسالُ البابا رسالة إلى مملكة نافار - وكانت قد وَقَّعت معاهدة مع المنصور الموحدي قبل وفاته - يحضُّها فيها على نبذ المعاهدة التي مع الموحدين، وعلى استعادة العلاقة مع القشتاليين، وكان القشتاليون - كما ذكرنا - قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، لكن البابا الآن يُريد منهم التوحد في مواجهة الصفِّ المسلم، فخاطب ملك نافار بنقض عهده مع المسلمين ومحالفة ملك قشتالة، فما كان منه إلاَّ أن أبدى السمع والطاعة[2].

                              تكون دول أوربا بذلك قد توحَّدت، وبلغ عدد جيوشها مائتي ألف نصراني، يَتَقَدَّمُهم الملوك والرهبان نحو موقعة فاصلة بينهم وبين المسلمين.

                              الناصر يعلن الجهاد

                              في مقابل جيوش النصارى تلك كان الناصر لدين الله قد أعلن الجهاد، وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس وقد بلغ الجيش عددًا عظيمًا أوصلته بعض الروايات إلى نصف مليون، وإن كنا نرى في هذا العدد مبالغة كبيرة بالقياس للظروف التاريخية لهذه الفترة[3].

                              الطريق نحو العقاب

                              انطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق، ثم توجَّه إلى ذهب إلى إشبيلية، ثم إلى سلبطرة، ثم عاد إلى إشبيلية، ثم ذهب إلى العقاب، وفي طريقه إلى العقاب بقي فترة في ظاهر جيان، وعُرفت منطقة العقاب بهذا الاسم لوجود قصر قديم كان يحمل هذا الاسم في تلك المنطقة- وهي تلك المنطقة التي دارت فيها الموقعة، وقد كانت -وسبحان الله- اسمًا على مسمى، فكانت بحقٍّ عقابًا للمسلمين على مخالفات كثيرة، ظهر بعضها سابقًا وسيظهر الباقي تباعًا[4].


                              دخل الناصر لدين الله أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وفي أول عمل حربي له حاصر قلعة سلبطرة، وكانت قلعة كبيرة وحصينة جدًّا، وبها عدد قليل من النصارى، وكانت تقع في الجبل جنوب طليطلة، لكنَّ حصانة القلعة أعجزت المسلمين عن فتحها، حتى كاد الناصر أن يتجاوزها؛ إلا أن الوزير ابن جامع أصر على ضرورة فتح القلعة فبقيت الجيوش تحاصر القلعة[5].


                              الاستبداد وبداية الهزيمة

                              كان من جرَّاء هذا العمل الذي قام به الناصر لدين الله أن حدث ما يلي:
                              أولاً: إضاعة الوقت في حصار قلعة سلبطرة، وقد كان من الممكن أن يُهاجَم النصارى بهذا الجيش الكثيف قبل أن يتجمَّعُوا في كامل عُدَّتهم.

                              ثانيًا: أكمل النصارى استعداداتهم خلال هذه الفترة الطويلة، واستطاعوا أن يستجلبوا أعدادًا أخرى كثيرة من أوربا.

                              ثالثًا: أصاب الضرر الآلاف من المسلمين من صقيع جبال الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث كان الناصر لدين الله قد دخل بلاد الأندلس في شهر مايو، وكان مناسبًا جدًّا للقتال، إلاَّ أنه ظلَّ يُحَاصر سَلْبَطْرَة حتى قَدِم الشتاء القارس، وبدأ المسلمون يهلكون من شدَّة البرد، وشدَّة الإنهاك في هذا الحصار الطويل[6].

                              أبو الحجاج يوسف بن قادس

                              انسحابه وانحيازه إلى الناصر

                              في بدايةٍ لحربٍ فاصلة قُسِّم الجيش النصراني القادم من الشمال إلى ثلاثة جيوش كبيرة، فالجيش الأول: هو الجيش الأوربي، والجيش الثاني: هو جيش إمارة أراجون، والجيش الثالث: هو جيش قشتالة والبرتغال وليون ونافار، وهو أضخم الجيوش جميعها[7].

                              قامت هذه الجيوش الثلاث بحصار قلعة رباح، وهي قلعة إسلامية كان قد تملكها المسلمون بعد موقعة الأرك، وكان على رأسها القائد البارع الأندلسي الشهير أبو الحجاج يوسف بن قادس -رحمه الله- وهو من قادة الأندلس المشهورين، حوصرت قلعة رباح حصارًا طويلاً من قِبَل الجيوش النصرانية، وقد طال أمد الحصار حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يفلت منه، كما بدأت بعض الحوائط في هذه القلعة تتهاوى أمام جيش مملكة أراجون.
                              أراد أبو الحجاج يوسف بن قادس أن يُحَقِّقَ الأمن والأمان لمَنْ في الحصن من المسلمين، وأراد أن يتحيَّز إلى فئة المؤمنين وينضمَّ إلى جيش المسلمين، فعرض على النصارى معاهدة تقضي بأن يترك لهم القلعة بكامل المؤن وكامل السلاح، على أن يخرج هو ومَنْ معه من المسلمين سالمين؛ ليتجهوا جنوبًا فيلتقوا بجيش الموحدين هناك ودون مؤن أو سلاح، فوافق ألفونسو الثامن على هذا العرض، وبدأ بالفعل انسحاب أبي الحجاج يوسف بن قادس من الحصن ومَنْ معه من المسلمين، وقد اتجهوا إلى جيش الناصر لدين الله.

                              ولأن الوليمة ليست قصرًا على ألفونسو الثامن، فقد اعترض على هذا الانسحاب جيش النصارى الأوربي المتحد مع جيش قشتالة.. فقد كانوا يَرَوْنَ أنهم ما أتوا من أبعد بلاد أوربا ومن إنجلترا وفرنسا والقسطنطينية إلاَّ لقتل المسلمين؛ فلا يجب أبدًا أن يُتركوا ليخرجوا سالمين.

                              وقد فعل ألفونسو الثامن ذلك حتى إذا حاصر مدينة أخرى من مدن المسلمين يفتحون له كما فعل سابقوهم؛ لأنه لو قاتلهم بعد العهد الذي أبرمه معهم فلن يفتح له المسلمون بعد ذلك مدنهم، فاختلف الأوربيون مع ألفونسو الثامن، وعليه فقد انسحبوا من الموقعة[8].

                              وبذلك يكون قد انسحب من موقعة العقاب وقبل خوضها مباشرة خمسون ألفًا من النصارى، وبالطبع فقد كان هذا نصرًا معنويًّا وماديًّا كبيرًا للمسلمين، وهزيمة نفسية وهزَّة كبيرة في جيش النصارى، وقد أصبح جيش المسلمين بعد هذا الانسحاب أضعاف جيش النصارى[9].

                              بطانة السوء وقتل أبي الحجاج يوسف بن قادس

                              عندما عاد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر لدين الله، وعندما علم منه أنه قد ترك قلعة رباح وسَلَّمَها بالمؤن والسلاح إلى النصارى، أشار عليه وزير السوء أبو سعيد بن جامع بقتله؛ بتهمة التقاعس عن حماية القلعة، ولم يتردَّد الناصر لدين الله، في تنفيذ هذا القتل بحق القائد المجاهد أبي الحجاج يوسف بن قادس[10].

                              وإن هذا - وبلا شكٍّ - ليُعَدُّ خطأ كبيرًا من الناصر لدين الله، وعملاً غير مُبَرَّر، ويُضاف إلى جملة أخطائه السابقة؛ وذلك للآتي:
                              أولاً: أن أبا الحجاج يوسف بن قادس لم يُخطئ بانسحابه هذا؛ بل كان متحرِّفًا لقتال، ومتحيِّزًا إلى الجيش المتأهِّب للحرب، كما أنه لو مكث لهلك، ولو لم يهلك لكانت قد حُيِّدَت قواته عن الاشتراك في الموقعة؛ بسب الحصار المفروض عليها.

                              ثانيًا: وعلى فرض أن أبا الحجاج يوسف بن قادس قد أخطأ، فلم يكن - على الإطلاق - عقاب هذا الخطأ القتل؛ خاصة وأنه لم يتعمَّده، بل كان اجتهادًا منه.

                              وإن مثل ذلك قد حدث في حروب الردَّة حينما أخطأ عكرمة بن أبي جهلt في إحدى المعارك، وكان خليفة المسلمين حينئذٍ أبا بكر الصديق t، فما كان من أبي بكر في معالجة خطأ عكرمة إلاَّ أن عَنَّفَه باللسان وأوضح له خطأه، ثُمَّ أعاده مع جيشه من جديد إلى القتال؛ لمساعدة جيش آخر من جيوش المسلمين، بل أرسل إلى قائد هذا الجيش الآخر -يرفع من رُوح عكرمة وجيشه - بأن يستعين برأي عكرمة بن أبي جهل فإنَّ له رأيًّا[11].

                              ومن هنا وبهذه الطريقة وبجانب فَقْدِ قوَّة كبيرة جدًّا (بفقد هذا القائد البارع)، فقد فقَدَ الجيش الإسلامي -أيضًا- قوَّة الأندلسيين، الذين شعروا أن هناك فارقًا بينهم وبين المغاربة؛ مما كان له أثر سلبي كبير على واقع المعركة، على نحو ما سيأتي بيانه.

                              وفي ذلك يقول المقري في نفح الطيب: وهذه الوقعة - العقاب - هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعًا، وما ذاك إلاَّ لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخفَّ بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيَّات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، ولم تقم بعدها -أي: بعد موقعة العقاب- للمسلمين قائمة تحمد[12].

                              خطة الناصر لدين الله ومتابعة الأخطاء

                              تكملة للأخطاء السابقة فقد وضع الناصر لدين الله خطة شاذَّة في ترتيب جيشه وتقسيمه، حيث لم يَسِر فيه على نهج السابقين، ولم يقرأ التاريخ كما قرأه المنصور الموحدي ويوسف بن تاشفين.. فقد قَسَّم جيشه إلى فرقة أمامية وفرقه خلفية، لكنه جعل الفرقة الأمامية من المتطوِّعين، وعددهم ستون ألفًا ومائة ألف متطوِّع، وضعهم في مقدمة الجيش ومِنْ خلفهم الجيش النظامي الموحدي[13].
                              وإنْ كان هؤلاء المتطوعة الذين في المقدمة متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فليست لهم الخبرة والدراية بالقتال، كما هو الحال بالنسبة لتلك الفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي النصارى، والتي هي في مقدمة جيشهم.

                              فكان من المفترض أن يضع الناصر لدين الله في مقدمة الجيش القادرين على صدِّ الهجمة الأولى للنصارى؛ وذلك حتى يتملَّك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع بذلك من معنويات المسلمين ويحطَّ من معنويات النصارى، لكن العكس هو الذي حدث؛ حيث وضع المتطوعة في المقدمة.

                              ولقد زاد من ذلك -أيضًا- فجعل الأندلسيين في ميمنة الجيش، وما زال الألم والحرقة تكمن في قلوبهم من جرَّاء قتل قائدهم الأندلسي المجاهد المغوار أبي الحجاج يوسف بن قادس، فكان خطأ كبيرًا -أيضًا- أن جعلهم يتلقَّوْنَ الصدمة الأولى من النصارى[14].

                              فنستطيع الآن حصر أخطاء الناصر لدين الله وهو في طريقه نحو العقاب على النحو التالي:

                              أولاً: إطالة الحصار لقلعة سلبطرة حتى تمكَّن النصارى من الاستعداد والتجهز.
                              ثانيًا: الاستعانة ببطانة السوء، الممثِّلة في وزير السوء أبي سعيد بن جامع.
                              ثالثًا: قتل القائد الأندلسي المشهور أبي الحجاج يوسف بن قادس.
                              رابعًا: تنظيم الجيش وتقسيمه الخاطئ في أرض الموقعة.
                              خامسًا: أمر في غاية الخطورة وهو الاعتقاد في قوَّة العدد والعدَّة، فقد دخل الناصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنه لا محالة منتصر[15]؛ فجيشه أضعاف الجيش المقابل، ومن هنا تتبدَّى في الأفق سحائب حنين جديدة، يخبر عنها بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
                              موقعة العقاب.. والعقاب المر



                              تمامًا وكما تكرَّرت غزوة حنين في أرض الأندلس قبل ذلك في بلاط الشهداء، وفي موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر وهو في أعظم قوَّته، تتكرَّر حُنين -أيضًا- مع الناصر لدين الله في موقعة العقاب وهو في أعظم قوَّة للموحدين، وفي أكبر جيش للموحدين على الإطلاق، بل وفي أكبر جيوش المسلمين في بلاد الأندلس منذ أن فُتحت في سنة (92هـ=711م)، ولتوالي الأخطاء السابقة كان طبيعيًّا جدًّا أن تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة النصارى، لكنهم ارتطموا ارتطامًا شديدًا بقلب القشتاليين المدرَّب على القتال، فصدُّوهم بكل قوَّة ومزَّقوا مقدِّمة المسلمين، وقتلوا منهم الآلاف في الضربة الأولى لهم.


                              واستطاعت مُقَدِّمة النصارى أن تخترق فرقة المتطوِّعة بكاملها، والبالغ عددهم - كما ذكرنا- ستين ألفًا ومائة ألف مقاتل، وقد وصلوا إلى قلب الجيش الموحدي النظامي، الذي استطاع أن يصدَّ تلك الهجمة، لكن كانت قد هبطت وبشدَّة معنويات الجيش الإسلامي؛ نتيجة قتل الآلاف منهم، وارتفعت كثيرًا معنويات الجيش النصارى للنتيجة نفسها.

                              وحين رأى ألفونسو الثامن ذلك أطلق قوات المدد المدرَّبة لإنقاذ مقدمة النصارى، وبالفعل كان لها أثر كبير، وعادت من جديد الكرَّة للنصارى.

                              وفي هذه الأثناء حدث حادث خطير في جيش المسلمين، فحين رأى الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين، واستشهاد الآلاف منهم، إضافة إلى كونهم يُقاتلون مرغمين مع الموحدين -كما ذكرنا قبل ذلك- وأيضًا كونهم يعتقدون بالعدد وليس في الثقة بالله ، كل هذه الأمور اعتملت في قلوبهم، ففرُّوا من أرض القتال.

                              وحين فَرَّت ميمنة المسلمين من أرض الموقعة التفَّ النصارى حول جيش المسلمين، وبدأت الهلكة فيهم، فقُتل الآلاف من المسلمين بسيوف النصارى في ذلك اليوم، والذي سُمِّي بيوم العقاب أو معركة العقاب[16].

                              هُزم المسلمون هزيمة قاسية، وفرَّ الناصر لدين الله من أرض الموقعة، ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر، والمصاب في كل أجزاء جسده الكبير.

                              وقد قال الناصر لدين الله وهو يفرُّ: صدق الرحمن وكذب الشيطان([17]). حيث دخل الموقعة وهو يعلم أنه منصور بعدده، فعلم أن هذا من إلقاء الشيطان وكذبه، وصدق الرحمن: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فولَّى الناصر لدين الله مدبرًا.

                              ومما زاد من مرارة الهزيمة أنه ارتكب خطأً آخر لا يقلُّ بحالٍ من الأحوال عن هزيمته المنكرة السابقة وفراره من أرض المعركة، وهو أنه لم يمكث بعد موقعة العقاب في المدينَة التي تلي مباشرة مدينة العقاب، وهي مدينة بياسة، بل فرَّ وترك بَيَّاسَة، ثم ترك أبذة، ترك كلتيهما بلا حامية وانطلق إلى مدينة إشبيلية[18]، وما زالت قوَّة النصارى في عظمها، وما زالت في بأسها الشديد.


                              مآسي المسلمين بعد العقاب

                              مأساة بياسة

                              انطلقت قوَّة النصارى بعد عقاب المسلمين وهزيمتهم تلك في موقعة العقاب فاقتحمت بياسة، وكان أهلها قد هجروها خوفًا على أنفسهم، ولم يبقَ فيها إلاَّ الضعفاء والمرضى، وكانوا قد اجتمعوا بالمسجد الجامع الكبير في المدينة للاحتماء به، فقام النصارى بقتلهم جميعًا بالسيف.. قال المراكشي في المعجب: «فأما بياسة فوجدها - أي ألفونسو - أو أكثرها خالية فحرق أدؤرها وخرب مسجدها الأعظم»[19].

                              مأساة أبذة

                              قال صاحب الروض المعطار: أبذة مدينة بالأندلس بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جدًّا، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب، وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها، كما فعل جيرانها أهل بَيَّاسَة، ولم ترفع تلك الجموع يدًا عن قتالها حتى ملكتها بالسيف، وقُتل فيها كثير، وأسروا كثيرًا[20].

                              وقال المراكشي في المعجب: ونزل -أي ألفونسو- على أُبَّذة، وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كبير من المنهزمة وأهل بَيَّاسَة وأهل البلد نفسه، فأقام عليها ثلاثة عشر يومًا، ثم دخلها عَنْوة، فقتل وسبى وغنم، وفصل هو وأصحابه من السبي من النساء والصبيان بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشدَّ على المسلمين من الهزيمة![21]

                              وقد تدهور حال المسلمين كثيرًا في كل بلاد المغرب والأندلس على السواء، حتى قطع المؤرخون بأنه بعد موقعة العقاب ما كنتَ تجد شابًّا صالحًا للقتال لا في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس، فكانت موقعة واحدة قد بَدَّدت وأضاعت دولة في حجم وعِظَم دولة الموحدين[22].

                              ثم إنَّ الناصر لدين الله قد انسحب أكثر مما كان عليه، فانسحب من إشبيلية إلى بلاد المغرب العربي، ثم اعتكف في قصره، واستخلف ابنه وليًّا للعهد من بعده، وهو بعدُ لم يتجاوز خمس عشرة من السنين.

                              وفاة الناصر لدين الله

                              ثم تُوُفِّيَ الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد في سنة (610هـ=1214م) عن عمرٍلم يتجاوز الرابعة والثلاثين، وتروي بعض المصادر أنه مات وهو عازم على الجهاد في الأندلس «عزمًا لم يُعرف عن ملك قبله»[23]. وتولَّى حكم البلاد من بعده وليُّ عهده وابنه المستنصر بالله، وعمره آنذاك ست عشرة سنة فقط[24].

                              ومن جديد وكما حدث في عهد ملوك الطوائف تضيع الأمانة، ويُوَسَّد الأمر لغير أهله، وتتوالى الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة من العلو والسيادة والتمكين لدولة الموحدين.


                              [1] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص263، 264، والحميري: الروض المعطار، ص416، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/109، وما بعدها.
                              [2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص264.
                              [3] المقري: نفح الطيب، 1/446 والسلاوي: الاستقصا، 2/220، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عصر المرابطين والموحدين 2/108.
                              [4] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260 – 265، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/249.
                              [5] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص236، والسلاوي: الاستقصا، 2/221، وثمة رواية أخرى ولها دلائل كثيرة تقول بأن فتح هذه القلعة كان في غزوة مستقلة، انظر: الحميري: الروض المعطار ص344، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399.
                              [6] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/108.
                              [7] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/112.
                              [8] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص401، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، والسلاوي: الاستقصا، 2/222، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
                              [9] شوقي أبو خليل: العقاب، ص34، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
                              [10] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249.
                              [11] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/275.
                              [12] المقري: نفح الطيب، 4/383.
                              [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص239، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
                              [14] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
                              [15] انظر: المقري: نفح الطيب، 4/383، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
                              [16] انظر: شوقي أبو خليل: العقاب، ص45، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/119.
                              [17] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص239، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
                              [18] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص240، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
                              [19] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
                              [20] الحميري: الروض المعطار، ص6.
                              [21] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
                              [22] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/446.
                              [23] مجهول: الحلل الموشية، ص161،وابن الخطيب: رقم الحلل، ص60،والسلاوي: الاستقصا، 2/225.
                              [24] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص404، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 22/340، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/250، والسلاوي: الاستقصا، 2/226.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • سقوط قرطبة .. نهاية دولة الموحدين

                                الأندلس بعد موقعة العقاب



                                في موقف مدَّ في عُمر الإسلام في بلاد الأندلس بضع سنوات ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية، وهذا الذي اضطرهم إلى العودة إلى داخل حدودهم[1].


                                ظهور دولة بني مرين

                                وفي سنة (613هـ=1217م) وبعد موقعة العقاب بأربع سنوات، ونظرًا لتردِّي الأوضاع في بلاد المغرب العربي، وتولِّي المستنصر بالله أمور الحُكم، وهو بعدُ طفل لم يبلغ الرشد، ظهرت حركة جديدة من قبيلة زناتة في بلاد المغرب واستقلَّت عن حكم دولة الموحديندولة بني مرين، والتي سيكون لها شأن كبير فيما بعدُ في بلاد الأندلس[2]. هناك، وأنشأت دولة سنية هي

                                سقوط ميورقة وبياسة

                                وفي سنة (626هـ) سقطت جزيرة ميورقة، أكبر وأفضل جزر البليار، وبعد قليل تبعها سقوط بياسة، وهي صغرى جزر البليار، وبقيت الجزيرة الوسطى (جزيرة منورقة) دهرًا تحت حكم المسلمين لكن تحت طاعة النصارى وفي حكمهم[3].

                                ظهور دولة الحفصييين

                                وفي العام التالي (627هـ) استقلَّ بنو حفص بتونس، وانفصلوا بها عن دولة الموحدين[4].

                                الصراع داخل الموحدين

                                وقد دار صراع شديد على السلطة بعد وفاة المستنصر بالله؛ حيث لم يكن قد استخلف بعدُ، فتولَّى عمُّ أبيه عبد الواحد من بعده، إلاَّ أنه خُلع وقُتل، ثم تولَّى من بعده عبد الله العادل، وعلى هذا الحال ظلَّ الصراع، وأصبح الرجل يتولَّى الحُكم مدَّة أربع أو خمس سنوات فقط ثم يُخلع أو يُقتل، ويأتي غيره وغيره، حتى سارت الدولة نحو هاوية سحيقة.

                                استقلال ابن هود

                                وفي سنة (625هـ=1228م) استقلَّ رجل يُسَمَّى ابن هود بشرق وجنوب الأندلس، وكان كما يصفه المؤرخون: مفرطًا في الجهل، ضعيف الرأي، لم يُنصر له على النصارى جيش[5].

                                وفي سنة (633هـ=1236م) حدث حادث خطير ومروع، إنه حادث سقوط قرطبة حاضرة الإسلام[6].

                                سقوط قرطبة

                                في موقف لا نملك حياله إلاَّ التأسُّف والندم، في سنة (633هـ=1236م) وبعد حصار طال عدَّة شهور، وبعد استغاثة بابن هود الذي كان قد استقلَّ بدولته جنوب وشرق الأندلس، والذي لم يُعِرِ اهتمامًا لهذه الاستغاثات؛ بسبب كونه منشغلاً بحرب ابن الأحمر، ذلك الأخير الذي كان قد استقلَّ -أيضًا- بجزء آخر من بلاد الأندلس، في كل هذه الظروف سقطت قرطبة، سقطت حاضرة الإسلام في بلاد الأندلس.



                                وكان أمرًا غاية في القسوة حين لم يجد أهل قرطبة بُدًّا من الإذعان والتسليم والخروج من قُرْطُبَة، وكان الرهبان مصرِّين على قتلهم جميعهم، لكن فرناندو الثالث ملك قشتالة رفض ذلك؛ خشية أن يُدَمِّرَ أهلُ المدينة كنوزها وآثارها الفاخرة، وبالفعل خرج أهلها متَّجِهين جنوبًا تاركين كل شيء، وتاركين حضارة ومنارة ومجدًا عظيمًا كانوا قد خَلَّفوه[7].


                                سقطت قرطبة التي أفاضت على العالم أجمع خيرًا وبركة، وعلمًا ونورًا، سقطت قرطبة صاحبة ثلاثة آلاف مسجد، وصاحبة ثلاثة عشر ألف دار، سقطت قرطبة عاصمة الخلافة لأكثر من خمسمائة عام، سقطت قرطبة صاحبة أكبر مسجد في العالم، سقطت جوهرة العالم قرطبة.

                                سقطت قرطبة في 23 من شهر شوال لسنة 633هـ.. سقطت وفي يوم سقوط قرطبة تحوَّل مسجدها الجامع الكبير إلى كنيسة، وما زال كنيسة إلى اليوم، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله!

                                سقوط ممالك الأندلس

                                موقعة أنيشة وسقوط بلنسية

                                بعد سقوط قرطبة وفي سنة (635هـ=1237م) استقلَّ بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود في السنة نفسها، وسيكون لهم شأن كبير في بلاد الأندلس على نحو ما سنُبَيِّنه، وفي سنة (636هـ=1237م) وبعد استقلال ابن الأحمر بغرناطة بسنة واحدة، وبعد حصار دام خمس سنوات متصلة سقطت بلنسية على يد ملك أراجون بمساعدة فرنسا، وكان حصارًا شديدًا كاد الناس أن يهلكوا جوعًا، وكان خلاله عدَّة مواقع؛ أشهرها موقعة أنيشة سنة (634هـ=1237م) التي هلك فيها الكثير من المسلمين من بينهم الكثير من العلماء.

                                وكان بنو حفص في تونس قد حاولوا مساعدة بلنسية بالمؤن والسلاح، لكن الحصار كان شديدًا، حتى اضطروا لترك البلد تمامًا في سنة (636هـ=1239م) وهُجِّر خمسون ألفًا من المسلمين إلى تونس، وتحوَّلت للتَّوِّ كلُّ مساجد المسلمين إلى كنائس، وكانت هذه سياسة مُتَّبَعة ومشهورة للنصارى في كل البلاد الإسلامية التي يُسيطرون عليها، إمَّا القتل وإمَّا التهجير[8].

                                سقوط دانية وجيان



                                وفي سنة (641هـ=1243م) سقطت دانية بالقرب من بلنسية[9]، وفي سنة (643هـ=1245م) سقطت جيان[10]، وهكذا لم يبقَ في بلاد الأندلس إلاَّ ولايتان فقط؛ ولاية غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، وولاية إشبيلية في الجنوب الغربي، تمثلان حوالي ربع بلاد الأندلس[11].


                                هذا مع الأخذ في الاعتبار أن كل ولايات إفريقيا قد استقلَّت عن دولة الموحدين، فسقطت بذلك الدولة العظيمة المهيبة المتسعة البلاد المترامية الأطراف.


                                [1] الحميري: الروض المعطار، ص6، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/124.
                                [2] تاريخ ابن خلدون، 6/251.
                                [3] حتى سقطت سنة 686هـ.
                                [4] السلاوي: الاستقصا، 2/240.
                                [5] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص278، وتاريخ ابن خلدون، 4/168، والمقري: نفح الطيب، 1/215، 4/464.
                                [6] تاريخ ابن خلدون، 4/169، والحميري: الروض المعطار، ص459، والمقري: نفح الطيب، 1/448.
                                [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 6/424.
                                [8] تاريخ ابن خلدون، 4/176، والمقري: نفح الطيب، 4/460.
                                [9] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص61.
                                [10] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 6/468.
                                [11] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/206

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X