إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دولة الموحدين .. أسباب السقوط

    دولة الموحدين .. أسباب السقوط



    قد يُفاجأ البعض ويتعجَّب لهول هذا السقوط المريع لهذا الكيان الكبير بهذه الصورة السريعة المفاجئة، فيسعى للبحث عن علله وأسبابه، وحقيقةُ الأمر أن هذا السقوط لم يكن مفاجئًا؛ فدولة الموحدين كانت تحمل في طياتها بذور الضعف وعوامل الانهيار؛ وكانت كثيرة؛ نذكر منها ما يلي:


    الظلم والقتل مع دولة المرابطين

    تعاملها بالظلم مع دولة المرابطين، وقتلها الآلاف ممن لا يستحقُّون القتل؛ وإن طريق الدم لا يمكن أبدًا أن يُثمر عدلاً، يقول ابن تيمية: «إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»[1].

    إن عاقبة الظلم وخيمة، وربما تتأخَّر عقوبة الظلم؛ لكنها -بلا شكٍّ- تقع على الظالم؛ فالله تعالى يُمْهِلُ ولا يُهْمِل، وقد أسرف الموحدون كثيرًا في إراقة دماء مَنْ خالفهم من المسلمين، بل في سفك دماء مَنْ يشكُّون في ولائه لهم ممن كانوا معهم -كما رأينا في أمر التمييز الذي قام به ابن تومرت قبل وقعة البحيرة أو البستان، التي عجَّل الله لهم العقاب فيها وقتل منهم الكثير، فقد جعل ابن تومرت الأهل يقتلون أبناءهم، بعدما أقنعهم أنهم من أهل النار، وذلك بحيلة ماكرة شاركه فيها أحد الخبثاء ممَّنْ هو على شاكلته -وهذا أمر في غاية الخطورة- لقد حذَّر النبي كثيرًا من العداء بين المسلم وأخيه المسلم، ومن التدابر والتحاسد والتناجش والتباغض، روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»[2].

    العقيدة الفاسدة وتكفير المرابطين

    العقائد الفاسدة التي أدخلها ابن تومرت على منهج أهل السنة، وبالرغم من أن المأمون قاومها وأبطلها، إلاَّ أنَّ أشياخ الموحدين ظلُّوا يعتقدون في عصمة محمد بن تومرت وفي صدق أقواله، حتى ذلك العهد؛ وهو ما جعل هذا الإصلاح كأنه ترقيع في ثوب مهلهل عقائديًّا.
    وثمة أمر آخر لا يقل خطورة عن هذا الأمر، ألا وهو تكفير المرابطين، وقد بنى ابن تومرت على هذه الفكرة جواز قتلهم وحرقهم، وسبي نسائهم، وهدم دولتهم، وتقويض بنيانها من القواعد.

    إن تكفير المسلم قضية في منتهى الخطورة، لا ينبغي لعاقلٍ بحال من الأحوال أن يقع فيها، ففي البخاري بسنده عن أبي هريرة t أنَّ رسول الله قال: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا»[3]. وعند مسلم: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ»[4].
    وقال أبو حامد الغزالي: «والذي ينبغي أن يميل المسلم إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً؛ فإن استباحة الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلة، المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة (قارورة ) من دم مسلم»[5].

    وقال ابن تيمية: «مَنْ ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه بالشكِّ، بل لا يزول إلاَّ بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة»[6].

    الثورات الداخلية

    كان من عوامل سقوط دولة الموحدين -أيضًا- الثورات الداخلية الكثيرة التي قامت داخل دولة الموحدين، وكان أشهرها ثورة بني غانية، والتي كانت في جزر البليار، وفي تونس.

    همة النصارى وفتور المسلمين

    الإعداد الجيد من قِبَلِ النصارى في مقابل الإعداد غير المدروس من قِبَل الناصر لدين الله ومَنْ تبعه بعد ذلك.

    انفتاح الدنيا على دولة الموحدين

    وهو أمر مهمٌّ وجدُّ خطير، وهو انفتاح الدنيا على دولة الموحدين، وكثرة الأموال في أيديهم، وهذا ما أدى إلى الترف والبذخ الشديد ثم التصارع على الحُكم.

    بطانة السوء

    بطانة السوء المتمثِّلة في أبي سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله ومَنْ كان على شاكلته بعد ذلك.

    ويُعَلِّق على ذلك الدكتور شوقي أبو خليل بقوله: «لقد كان الناصر ألعوبة في يد وزيره ابن جامع، الذي لم يكن مسئولاً عن هزيمة العقاب فقط، بل عن مصير الموحدين بعد الناصر أيضًا، لقد وضع ابن جامع الأسباب القوية التي أدَّت إلى تصدُّع سلطان الموحدين من أساسه.

    لقد كُتب لأسرة ابن جامع التي تولَّى كثير منها الوزارة، وعلى رأسها أبو سعيد بن جامع أن تُؤَدِّي أخطر دور في تحطيم دولة الموحدين، بمشاركة الأعراب البدو، وأشياخ الموحدين.. لقد تصرف ابن جامع - الذي يمثِّل بطانة السوء - بدولة الموحدين، فكان له أثره الخطير، ليس في ميدان السياسية الداخلية والخارجية للدولة فحسب، بل على وجود دولة الموحدين نفسه[7].

    إهمال الشورى

    إهمال الشورى من قِبَلِ الناصر لدين الله ومَنْ بعده من الأمراء، وإنها لمخالفة صريحة للقرآن الكريم؛ فالله وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال الله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. قال الحافظ ابن كثير[8]. يقول: { -رحمه الله- في تفسيره: لا يُبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه؛ ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب، وما جرى مجراها

    فهذه العوامل وغيرها اجتمعت لتُسْقِط هذا الكيان الكبير، والذي لم يبقَ منه في بلاد الأندلس إلاَّ ولايتان فقط؛ هما غرناطة وإشبيلية، ومع ذلك ظلَّ الإسلام في بلاد الأندلس لأكثر من 250 سنة من هذا السقوط المروِّع لدولة الموحدين!

    وهذه قائمة بأسماء خلفاء دولة الموحدين:
    1 - عبد المؤمن بن علي (524-558هـ=1129-1163م).
    2 - أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي (558-580هـ=1163-1184م).
    3 - أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور (580-595هـ=1184-1199م).
    4 - أبو محمد عبد الله الناصر (595-610هـ=1199-1213م).
    5 - أبو يعقوب يوسف المستنصر (611-620هـ=1213-1224م).
    6 - عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن (620-621هـ=1224م).
    7 - أبو عبد الله بن يعقوب المنصور (العادل) (621-624هـ=1224-1227م).
    8 - يحيى بن الناصر (624-627هـ=1227-1230م).
    9 - المأمون بن المنصور (627-630هـ=1231-1232م).
    10 - الرشيد بن المأمون بن المنصور (630-640هـ=1232-1242م).
    11 - السعيد علي أبو الحسن (640-646هـ=1242-1248م).
    12 - أبو حفص عمر المرتضى (646-665هـ=1248-1266م).
    13 - أبو دبوس الواثق بالله (665-668هـ=1266-1269م).


    [1] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 28/146.
    ([2]) مسلم: كتاب الصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564)، وأحمد (7713)، والبيهقي: السنن الكبرى (11830).
    ([3]) البخاري: كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5752).
    ([4]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر (60).
    ([5]) أبو حامد الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص157.
    ([6]) ابن تيمية: الفتاوى 12/466.
    ([7]) شوقي أبو خليل: العقاب، ص59، 60.
    ([8]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 7/221.

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • مملكة غرناطة



      مملكة غرناطة



      كان الخلاف بين أبناء الأندلس في تلك الآونة العصيبة يذهب إلى حدِّ التضحية بأقدس المبادئ وأسمى الاعتبارات، وكانت وشائج القومية والدين والخطر المشترك كلها تغيض أمام الأطماع الشخصية الوضيعة، ففي العام نفسه الذي سقطت فيه جيان بعد حروب غير مؤثرة بين المسلمين والنصارى، وفي سنة (643هـ=1245م) وحماية لحقوق وواجبات مملكة قشتالة النصرانية وولاية غرناطة الإسلامية، يأتي فرناندو الثالث ملك قشتالة ويعاهد ابن الأحمر الذي يتزعم ولاية غرناطة، ويعقد معه معاهدة يضمن له فيها بعض الحقوق ويأخذ عليه بعض الشروط والواجبات[1].


      أبو عبد الله محمد بن الأحمر

      وقبل أن نتحدث عن بنود هذه الاتفاقية وتلك المعاهدة، نتعرف أولاً على أحد طرفي هذه المعاهدة وهو ابن الأحمر، فهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، والذي ينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله [2]، لكن شتَّان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر هذا، وبين سعد بن عبادة الخزرجي! وقد سُمِّي بابن الأحمر ولم يكن هذا اسمًا له، بل لقبًا له ولأبنائه من بعده حتى نهاية حكم المسلمين في غرناطة.

      معاهدة العار بين ابن الأحمر وملك قشتالة

      وكانت بنود المعاهدة التي تمت بين ملك قشتالة وبين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر هذا هي:
      دفع الجزية سنويا

      يدفع ابن الأحمر الجزية إلى ملك قشتالة، وكانت مائة وخمسين ألف دينار من الذهب سنويًّا[3]، وكان هذا تجسيدًا لحال الأمة الإسلامية، وتعبيرًا عن مدى التهاوي والسقوط الذريع بعد أفول نجم دولة الموحدين القوية المهيبة، والتي كانت قد فرضت سيطرتها على أطراف كثيرة من بلاد الأندلس وإفريقيا.


      تبعية غرناطة لقشتالة

      أن يحضر اجتماع مجلس قشتالة النيابي (الكورتيس)، باعتباره من الأمراء التابعين للعرش[4]، وفي هذا تكون غرناطة تابعة لقشتالة ضمنيًّا.

      تحكم غرناطة باسم ملك قشتالة

      أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علانية؛ وبهذا يكون ملك قشتالة قد أتم وضمن تبعية غرناطة له تمامًا[5].

      تسليم حصون جيان

      أن يسلمه ما بقي من حصون جيان- المدينة التي سقطت أخيرًا- وأرجونة وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وبذلك يكون ابن الأحمر قد سلم لفرناندو الثالث ملك قشتالة مواقع في غاية الأهمية تحيط بغرناطة نفسها[6].

      تبعية غرناطة لقشتالة عسكريا

      وهو أمر في غاية الخطورة، وهو أن يساعده في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج إلى ذلك؛ أي أن ابن الأحمر يشترك مع ملك قشتالة في حروب ملك قشتالة التي يخوضها أيًّا كانت الدولة التي يحاربها[7].



      غرناطة ولماذا يعاهدها ملك قشتالة؟


      لم تكن غرناطة -في سنة (646هـ= 1248م)- تمثل أكثر من 15٪ وهي تضم ثلاث ولايات متحدة؛ هي: ولاية غرناطة، وولاية مالقة، وولاية ألمرية، ثلاث ولايات تقع تحت حكم ابن الأحمر، وإن كان هناك شيء من الاستقلال داخل كل ولاية.
      ولنا أن نتساءل ونتعجب: لماذا يعقد فرناندو الثالث اتفاقية ومعاهدة مع هذه المملكة التي أصبح القضاء عليها ميسورًا؟! لماذا لم يأكل غرناطة كما أكل غيرها من بلاد المسلمين ودون عهود أو اتفاقيات؟!
      والواقع أن ذلك كان للأمور التالية:
      الكثافة السكانية في غرناطة

      كانت بغرناطة كثافة سكانية عالية؛ وهذا ما جعل من دخول جيوش النصارى إليها من الصعوبة بمكان، وقد كان من أسباب هذه الكثافة العالية أنه لما كانت تسقط مدينة من مدن المسلمين في أيدي النصارى كان النصارى -كما ذكرنا- ينتهجون نهجًا واحدًا، وهو إما القتل أو التشريد والطرد من البلاد.

      فكان كلما طُرد رجل من بلاده عمَّق واتجه ناحية الجنوب، فتجمَّع كل المسلمين الذين سقطت مدنهم في أيدي النصارى في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد[8]، فأصبحت ذات كثافة سكانية ضخمة، وهذا ما يصعب معه دخول قوات النصارى إليها.

      حصون غرناطة المنيعة

      كانت غرناطة ذات حصون كثيرة ومنيعة جدًّا، نشأت هذه الحصون كسبب طبيعي من جراء الحروب المتواصلة قديمًا، والتهديد المرتقب بالفناء على يد النصارى، هذه الحصون والأسوار هي نفسها التي جعلت غرناطة مملكة قوية، بل وقد نقول: إنها قد حددت حدودها، وكانت هذه الحصون تحيط بغرناطة وألمرية ومالقة[9].

      ومن هنا وافق فرناندو الثالث على عقد مثل هذه المعاهدة، وإن كانت كما رأينا معاهدة جائرة ومخزية، يدفع فيها ابن الأحمر الجزية، ويحارب بمقتضاها مع ملك قشتالة، ويتعهد فيها بألا يحاربه في يوم ما.


      [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/41، 42.
      [2] ابن الخطيب: الإحاطة، 2/92.
      [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
      [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/43. مع ملاحظة أن النظام السائد في الممالك النصرانية حتى ذلك الوقت هو النظام الإقطاعي الذي يتمتع فيه الأمراء أصحاب الإقطاعيات بنفوذ واستقلال كبير في حدود إقطاعياتهم على أن يكون من واجباتهم إمداد الدولة بالأموال والضرائب، وأن تكون أموالهم وقواتهم في خدمة العرش حال احتياج المملكة إليهم.
      [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
      [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص68، وتاريخ ابن خلدون، 7/190.
      [7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/42.
      [8] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/171.
      [9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/443، 444.

      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

      تعليق


      • سقوط إشبيلية

        خيانة ابن الأحمر

        أوفى ابن الأحمر بالتزاماته كاملة، تلك الالتزامات التي كانت ملئت بالخزي والعار عليه وعلى الأندلسيين جميعا، وكان الاختبار الأول لابن الأحمر مع فرناندو هو مساعدة ابن الأحمر لفرناندو على سقوط إشبيلية، فقد كان ابن الأحمر أكبر معين لفرناندو الثالث على سقوط إشبيلية في يده، وهي -يومئذٍ- أعظم القواعد الأندلسية قاطبة، وقد كانت العاصمة الثانية للأندلس بعد قرطبة، لا سيما في عصر الطوائف تحت حكم بني عباد.

        فرناندو يحاصر إشبيلية



        استطاع فرناندو الثالث أن يستولي على مدينة قرمونة حصن إشبيلية الأمامي بمعاونة ابن الأحمر، وفقًا للتحالف المعقود بينهما، ثم عمد بعد ذلك إلى افتتاح باقي الحصون القريبة من إشبيلية، واستطاع ابن الأحمر بنصحه وتدخله، أن يقنع معظم أصحابها بتسليمها لملك قشتالة، مقابل تعهده بأن يحقن دماء المسلمين، وأن يمنحهم شروطًا سخية، ولم تأتِ أواسط سنة 645هـ / 1247م حتى كان ملك قشتالة قد استولى على جميع الحصون الأمامية لإشبيلية، وانتسف سائر البسائط والضِياع القريبة منها، وبدأ النصارى حصارهم لإشبيلية في جمادى الأولى سنة 645هـ/ أغسطس 1247م[1].


        التزام صاغر، وانتهاك لتعاليم الإسلام وشرائعه، وضرب لرابطة النصرة والأخوة الإسلامية، وموالاة للنصارى وأعداء الإسلام على المسلمين، ما كان من ابن الأحمر إلاَّ أن سمع وأطاع، وبكامل عدته يتقدم فرسان المسلمين الذين يتقدمون بدورهم جيوش قشتالة نحو إشبيلية، ضاربين حصارًا طويلاً وشديدًا حولها.

        يتحرك الجيش الغرناطي مع الجيش القشتالي ويحاصرون المسلمين في إشبيلية، ليس لشهر أو شهرين، إنما طيلة سبعة عشر شهرًا كاملاً، يستغيث فيها أهل إشبيلية بكل مَنْ حولهم، لكن هل يسمع من به صمم؟!
        لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا

        وَلَكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
        وَلَوْ نَارٌ نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ

        وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ([2])
        فالمغرب الآن مشغول بالثورات الداخلية، وبنو مرين يصارعون الموحدين في داخل المغرب، والمملكة الوحيدة المسلمة في الأندلس غرناطة هي التي تحاصر إشبيلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

        سقوط إشبيلية



        وفي 27 من شهر رمضان سنة (646 هـ= 1248م) وبعد سبعة عشر شهرًا كاملة من الحصار الشديد، تسقط إشبيلية بأيدي المسلمين ومعاونتهم للنصارى، تسقط إشبيلية ثاني أكبر مدينة في الأندلس، تلك المدينة صاحبة التاريخ المجيد والعمران العظيم، تسقط إشبيلية أعظم ثغور الجنوب ومن أقوى حصون الأندلس، تسقط إشبيلية ويغادر أهلها البلاد، ويهجَّر ويشرَّد منها أربعمائة ألف مسلم، وواحسرتاه على المسلمين، تفتح حصونهم وتدمر قوتهم بأيديهم[3]: [الوافر]

        وَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّـى

        مَضَى بِالْمَجْدِ قَـوْمٌ آخَرُونَا
        وَأَصْبَحَ لا يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي

        وَقَدْ عَاشُـوا أَئِمَّتَهُ سِنِـينَا
        وَآلَمَنِـي وَآلَـمَ كـُلَّ حُـرٍّ

        سُؤَالُ الدَّهْرِ: أَيْنَ الْمُسْلِمُونَا؟[4]

        أين المسلمون؟! إنهم يحاصرون المسلمين! المسلمون يقتلون المسلمين! المسلمون يُشَرِّدون المسلمين!
        وعلى هذا تكون إشبيلية قد اختفت من الخارطة الإسلامية، وما زال إلى الآن مسجدها الكبير الذي أسَّسه يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصار الأرك الخالد، ما زال إلى اليوم كنيسة يُعَلَّق فيها الصليب، ويُعبد فيها المسيح بعد أن كانت من أعظم ثغور الإسلام، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!


        [1] المصدر السابق، 7/43، 44.
        [2] عمرو بن معدي كرب الزبيدي: شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ص113، والبيتان من بحر الوافر.
        [3] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص384، وابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص73، وتاريخ ابن خلدون، 4/171.
        [4] ديوان هاشم الرفاعي، ص383.

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • مملكة غرناطة وقشتالة .. صراع البقاء

          قشتالة تنقض العهد مع غرناطة



          كعادتهم ولطبيعة متأصلة في كينونتهم، ومع كون المعاهدة السابقة بين ابن الأحمر وملك قشتالة تقوم على أساس التعاون والتصالح والنصرة بين الفريقين، إلا أنه بين الحين والآخر كان النصارى القشتاليون بقيادة فرناندو الثالث ومَنْ تبعه من ملوك النصارى يخونون العهد مع ابن الأحمر، فكانوا يتهجمون على بعض المدن ويحتلونها، وقد يحاول ابن الأحمر أن يسترد هذه البلاد فلا يفلح، ولا حول ولا قوة إلا بالله!


          لم تؤسَّس مملكة غرناطة –آنذاك- على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هارٍ، معتمدًا على صليبيٍّ لا عهد له ولا أمان؛ { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 100].

          الصراع بين قشتالة وغرناطة

          فاتح النصارى ابن الأحمر وبدءوه بالعدوان، وغزوا أراضيه في سنة (660هـ=1261م)، واستطاع بمعاونة قوات من المتطوعة والمجاهدين الذين وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه[1]، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوها في ميدان الحرب لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين، ولما عبرت كتائب الدولة المرينية بعد ذلك بقليل (662هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر بن إدريس أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى، ولكن لمدى قصير فقط، وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة.

          دخول النصارى إستجة

          وما كان هذا التطور الخطير الذي يهدد «حرب الاسترداد» النصرانية ويضربها في مقتل، ويُعيد إلى الأندلسيين الأمل في استرجاع البلاد الذاهبة والمجد السليب -ما كان هذا التطور الخطير بالذي يسكت عليه ملك قشتالة ألفونسو العاشر، فشدَّد ضغطه على القواعد الأندلسية، حتى كانت أواخر سنة (662هـ=1263م)، وفيها نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى[2]، ودخلها دون خيل قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبى كثيرًا منهم، وذلك بالرغم من تسليمها بالأمان.

          استغاثة ابن الأحمر بالمرينيين



          وفي العام التالي (663هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة في العمل على افتتاح ما بقي من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحي الأندلس، وعادت الرسائل تترى على أمراء المغرب وزعمائه، بالمبادرة إلى إمداد الأندلس، وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خاصة وقد بدأ عدوان النصارى يُحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر في ذلك الوقت على يد دون نونيو دي لارى (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663هـ=1264م).

          وكتب الفقيه أبو القاسم العزفي صاحب سبتة رسالة طويلة إلى قبائل المغرب، يستنصرهم فيها ويحثهم على الجهاد في سبيل الأندلس، وفيها يقول: «ولا تخلدوا بركون إلى سكون، والدين يدعوكم لنصره، وصارخ الإسلام قد أسمع أهل عصره، والصليب قد أوعب في حشده، فالبدار البدار، بإرهاب الجد وإعمال الجهاد في نيل الجد... ». وتكرر مثل هذا الصريخ إلى سائر أمراء إفريقية، وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر بالله الحفصي صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر هدية ومالاً لمعاونته. ولكن هذه المساعي لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعوامًا أخرى تواجه عدوها القوي بمفردها، وتتوجَّس من سوء المصير.

          سقوط قواعد الأندلس من يد ابن الأحمر

          ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصًا من أن يخطو خطوة جديدة في مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له في أواخر سنة (665هـ=1267م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها في غرب الأندلس؛ وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى.

          وهكذا فقدت الأندلس معظم قواعدها التالدة في نحو ثلاثين عاما فقط (627هـ=655هـ) في وابل مروع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسي الذي كان قبل قرن فقط يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هي مملكة غرناطة.

          وفي تلك الآونة (سنة 668هـ وما بعدها) عاد النصارى إلى التحرك والتحرش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة ألفونسو العاشر إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها فسادًا وتخريبًا.

          استغاثة ابن الأحمر بالمنصور المريني

          وهنا وجد ابن الأحمر نفسه في مأزق، وحينها فقط علم أنه عاهد مَنْ لا عهد له، فماذا يفعل؟ ما كان منه إلا أن يمَّم وجهه شطر بلاد المغرب حيث بنو مرين، وحيث الدولة التي قامت على أنقاض دولة الموحدين، والتي كان عليها رجل يُسمّى يعقوب المنصور المريني، و«المريني» تمييزًا بينه وبين يعقوب المنصور الموحدي في دولة الموحدين، وكلاهما كانا على شاكلة واحدة، وكلاهما من عظماء المسلمين، وكلاهما من كبار القادة في تاريخ المسلمين.

          فبعث ابن الأحمر إلى أمير المسلمين السلطان أبي يوسف يعقوب المريني ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ونصرة إخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويخبره بما بدا من عدوان النصارى ونيتهم في القضاء على ما بقي من ديار الأندلس، ولكن ابن الأحمر لم يعشْ ليرى نتيجة هذه الدعوة؛ إذ توفي بعد ذلك بقليل[3].


          [1] مع أن الصراع بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بني مرين الناشئة، كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بني مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس. وعبر القائد أبو معروف محمد بن إدريس بن عبد الحق المريني وأخوه الفارس عامر- البحر في نحو ثلاثة آلاف مقاتل جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين. وكانت حوادث الأندلس المؤسية تُحدث وقعها العميق في المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم في الدين، وكان علماء المغرب وخطباؤه وشعراؤه يبثون دعوة الغوث والإنجاد. انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/47.
          [2] كانت قد سقطت قبل ذلك بربع قرن، ودخلت في حكم الصليبيين، ولكن ظلت تحكم بالأمير المسلم –تحت سلطان النصارى- حتى ذلك الوقت.
          [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/47-50.

          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

          تعليق


          • بنو مرين ..الدولة المرينية .. المرينيون

            بداية دولة بني مرين



            بنو مرين فرع من قبيلة زناتة الأمازيغية (البربرية) الشهيرة[1]، والتي ينتمي إليها عدد من القبائل التي لعبت أدوارًا مهمة في تاريخ المغرب العربي، مثل مغيلة ومديونة ومغراوة وعبد الواد وجراوة، وغيرهم، وكان بنو مرين في أول أمرهم من البدو الرحل، وفي سنة (601هـ) نشبت بينهم وبين بني عبد الواد وبني واسين حرب فارتحلوا بعيدًا وتوغلوا في هضاب المغرب، ونزلوا بوادي ملوية الواقع بين المغرب والصحراء، واستقروا هناك إلى سنة (610هـ)، وهي السنة التي مات فيها محمد الناصر الموحدي عقب موقعة العقاب، وتولى من بعده ابنه المستنصر، وكان صبيًّا لا علم له بالسياسة وتدبير الملك، فانشغل باللهو والعبث وترك تدبير الملك لأعمامه ولكبار رجال الموحدين، فأساءوا وتهاونوا في الأمور وخلدوا إلى الراحة والدعة، وكانت غزوة العقاب قد أضعفت قواهم، وقضت على كثير من رجالهم وشبابهم، ثم جاء بعدها وباء عظيم قضى على كثير من أهل هذه المناطق، وكان بنو مرين في ذلك الوقت يعيشون في الصحاري والقفار، وكانوا يرتحلون إلى الأرياف وأطراف المدن المغربية في الصيف والربيع للرعي فيها طوال الصيف والربيع، ولجلب الحبوب والأقوات التي يستعينون بها على الحياة في الصحاري المجدبة، فإذا أقبل الشتاء اجتمعوا كلهم ببلدة تسمى «أكرسيف» ثم شدُّوا الرحال إلى مواطنهم في الصحراء.


            فلما كانت سنة (610هـ) ذهبوا على عادتهم إلى المدن والأرياف، فوجدوا أحوال هذه البلاد قد تغيرت وتبدَّلت، ورأوا ما آلت إليه أحوال الموحدين من التهاون والخلود للراحة، وما آلت إليه أحوال الشعب بعد ضياع رجاله وشبابه في موقعة العقاب، وفي الوباء الذي عم بلاد المغرب والأندلس بعدها، ووجدوا هذه البلاد مع ذلك طيبة المنبت، خصيبة المرعى، غزيرة الماء، واسعة الأكناف، فسيحة المزارع، متوفرة العشب لقلة الرعي فيها، مخضرة التلول والربى، فدفعهم ذلك إلى ترك القفار والاستقرار في هذه البلاد، وأرسلوا إلى قومهم في الصحراء يخبرونهم بذلك كله، وأنهم عزموا على الاستقرار هناك، ويحضونهم على اللحاق بهم، فأسرع باقي بني مرين بالانتقال إلى هذه البلاد الخصبة وانتشروا فيها[2].

            الصراع بين بني مرين والموحدين



            ولأنهم كانوا قومًا من البدو لم يعتادوا الخضوع لغيرهم، فقد عملوا على بسط سيطرتهم على هذه البلاد، وشنوا الغارات على البلاد المحيطة بهم كعادة أهل الصحراء، فلما كثر عيثهم وزادت شكاية الناس منهم، أراد الخليفة المستنصر الموحدي أن يقضي عليهم، فأرسل لهم جيشًا عام (613هـ)، وكان أميرهم في ذلك الوقت أبو محمد عبد الحق بن محيو، فاشتبك الفريقان، ودارت بينهم حرب شديدة استمرت أيامًا، وانتهت بهزيمة الموحدين هزيمة شديدة وبانتصار بني مرين واستحواذهم على أموال الموحدين وسلاحهم، فزاد ذلك من قوة بني مرين، وسرت هيبتهم في بلاد المغرب[3].


            واستمرت المعارك بعد ذلك بين بني مرين وبين دولة الموحدين، حتى كانت سنة (639هـ)، وفيها أرسل الخليفة الرشيد الموحدي جيشًا لقتال بني مرين فهُزم الموحدون هزيمة شديدة، واستولى بنو مرين على أموالهم وسلاحهم[4]، وتوفي الرشيد بعد ذلك بعام، فخلفه أخوه أبو الحسن السعيد، وهو الذي استنجد به أهل إشبيلية[5]، وصمم أبو الحسن السعيد هذا على القضاء على بني مرين فضاعف في ذلك جهوده، وسَيَّر لقتالهم سنة (642هـ) جيشًا ضخمًا، ونشبت بين الفريقين موقعة هائلة هُزم فيها بنو مرين، وقُتل فيها أميرهم في ذلك الوقت أبو معرِّف محمد بن عبد الحق.

            المنصور المريني

            وتولى إمارة المرينيين بعد مقتل أبي معرف أخوه أبو بكر بن عبد الحق الملقب بأبي يحيى، وفي عهده اشتدَّ ساعد بني مرين، وتغلبوا على مكناسة سنة (643هـ)[6]، ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد سنة (648هـ)، ثم استولوا على سجلماسة ودرعة سنة (655هـ)، وبعد ذلك بعام واحد توفي أبو يحيى، وصار الأمر بعده إلى أخيه أبي يوسف يعقوب المريني، وتلقب بالمنصور بالله، وجعل مدينة فاس عاصمة دولته[7]، وفي سنة (657هـ) نشبت الحرب بين بني مرين وبين الأمير يغمراس بن زيان ملك المغرب الأوسط، وزعيم بني عبد الواد، فانتصر يعقوب بن عبد الحق أو المنصور المريني، وارتد يغمراسن إلى تلمسان مهزومًا[8]، وفي سنة (658هـ) هاجم نصارى إسبانيا ثغر سلا من بلاد المغرب، وقتلوا وسبوا كثيرًا من أهله، فأسرع يعقوب المريني بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه[9].

            بنو مرين والقضاء على دولة الموحدين

            ثم جاءت سنة (667هـ)، وفيها كانت الموقعة الحاسمة بين المرينيين والموحدين ففي أواخر هذه السنة سار الخليفة الواثق بالله الموحدي لقتال بني مرين، والتقى الفريقان في وادي غفو بين فاس ومراكش، فانتصر بنو مرين، وقُتل من الموحدين عدد كبير، وكان على رأس القتلى الخليفة الموحدي نفسه، واستولى المرينيون على أموالهم وأسلحتهم[10]، ثم ساروا إلى مراكش، فدخلها يعقوب المنصور المريني بجيشه في التاسع من المحرم سنة (668هـ)، وتسمَّى بأمير المسلمين[11]، وبذلك انتهت دولة الموحدين بعد حوالي قرن ونصف من الزمان، وقامت بعدها دولة بني مرين الفتية التي سيطرت على المغرب الأقصى كله.


            [1] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، ص14، وتاريخ ابن خلدون، 7/166.
            [2] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص24- 27، وتاريخ ابن خلدون، 7/169، والسلاوي: الاستقصا، 3/4.
            [3] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص27، وتاريخ ابن خلدون، 7/169.
            [4] تاريخ ابن خلدون، 7/171.
            [5] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص380- 384.
            [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص63: 66، وتاريخ ابن خلدون، 7/171، 172.
            [7] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص58، 77، 78، 83.
            [8] تاريخ ابن خلدون، 7/177، 178.
            [9] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص93، 94، والسلاوي: الاستقصا، 3/21، 22.
            [10] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص117، 118، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 7/182.
            [11] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص118.


            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • يعقوب المنصور المريني .. جهاد دائم

              يعقوب بن عبد الحق المريني



              في وصف بليغ للسلطان يعقوب بن عبد الحق أو المنصور المريني يقول المؤرخون المعاصرون له: إنه كان صوَّامًا قوَّامًا، دائم الذكر، كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكرًا، وفي أكثر ليله قائمًا يصلي، مكرمًا للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعًا في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفًا في سفك الدماء، كريمًا جوَّادًا، وكان مظفرًا، منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغزُ عدوًّا إلا قهره، ولا لقي جيشًا إلا هزمه ودمَّره، ولا قصد بلدًا إلا فتحه[1].


              وإنها لصفات عظيمة لهؤلاء القادة المجاهدين الفاتحين، يجب أن يقف أمامها المسلمون كثيرًا، ويتمثلونها في قرارة أنفسهم، ويجعلون منها نبراسًا يضيء حياتهم.
              وفي تطبيق عملي لإحدى هذه الصفات وحين استعان محمد بن الأحمر الأول بيعقوب المنصور المريني ممثلاً في دولة بني مرين، ما كان منه إلا أن أعد العدة وأتى بالفعل، وقام بصدِّ هجوم النصارى على غرناطة.

              بلاد الأندلس واستيراد النصر

              لقد تعوَّدت بلاد الأندلس استيراد النصر من خارجها، كانت هذه مقولة ملموسة طيلة العهود السابقة؛ فلقد ظلت لأكثر من مائتي عام تستورد النصر من خارج أراضيها؛ فمرة من المرابطين، وأخرى من الموحدين، وثالثة كانت من بني مرين وهكذا، فلا تكاد تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها.

              ومن الطبيعي ألا يستقيم الأمر لتلك البلاد التي تقوم على أكتاف غيرها أبدًا، وأبدًا لا تستكمل النصر، وأبدًا لا تستحق الحياة، لا يستقيم أبدًا أن تنفق الأموال الضخمة في بناء القصور الضخمة الفارهة في غرناطة؛ مثل قصر الحمراء الذي يُعَدُّ من أعظم قصور الأندلس ليحكم منها ابن الأحمر أو غيره، وهو في هذه المحاصرة من جيوش النصارى، ثم يأتي غيره ومن خارج الأندلس ليدافع عن هذه البلاد وتلك القصور.

              وفاة محمد بن الأحمر وولاية محمد الفقيه

              في سنة (671هـ= 1273م) يموت محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، وقد استخلف على الحُكم ابنه وسميَّه، بل وسميَّ معظم أمراء بني الأحمر كان اسم ابنه هذا محمدًا، فكان هو محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر، وكانوا يلقبونه بالفقيه «لانتحاله طلب العلم أيام أبيه»[2].

              لما تولَّى محمد الفقيه الأمور في غرناطة نظر إلى حال البلاد فوجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لن تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة قوة النصارى، هذا بالإضافة إلى أن ألفونسو العاشر حين مات ابن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت، فما كان منه إلا أن أسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، ما كان -أيضًا- من محمد الفقيه إلا أن استعان بيعقوب المنصور المريني -رحمه الله، وكان أبوه قد وصاه عند موته بالتمسك بعروة أمير المسلمين في المغرب[3].

              وعلى كلٍّ فقد أتى بنو مرين، وكان العبور الأول للمنصور المريني -رحمه الله- في صفر سنة (674هـ)، وكان قد سبق ذلك بعام إرساله خمسة آلاف جندي بقيادة ابنه للجزيرة؛ حتى يفرغ من استعداده للجواز، وكان قبل ذلك بعدة أعوام سنة (663هـ) قد أرسل حوالي ثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة بعض أقاربه إلى الأندلس في حياة الشيخ ابن الأحمر فاستقروا بالأندلس -كما ذكرنا- واستطاعوا أن يردُّوا الهجوم عن غرناطة، وحفظها الله من السقوط المدوّي[4].

              معركة الدونونية

              هناك وفي مكان خارج غرناطة وبالقرب من قرطبة يلتقي المسلمون مع النصارى، وعلى رأسهم واحد من أكبر قواد مملكة قشتالة يدعى دون نونيو دي لارى ( الذي سميت الموقعة باسمه، فعُرفت بموقعة الدونونيّة)[5].

              ففي سنة (674هـ= 1276م) تقع موقعة الدونونية، وكان على رأس جيوش المسلمين المنصور المريني -رحمه الله-، وقد أخذ يحفز الناس بنفسه على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة في تحفيز جنده في هذه الموقعة:
              ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف؛ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمَنْ مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200][6].

              وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارًا باهرًا وعظيمًا، وقُتل من النصارى ستة آلاف مقاتل، وتم أسر سبعة آلاف وثمانمائة آخرين، وقُتل دون نونيو قائد قشتالة في هذه الموقعة[7]، وقد غنم المسلمون غنائم لا تحصى، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (591هـ= 1195م) كهذا النصر في الدونونية في سنة (674هـ= 1276م).

              المنصور المريني وحصار إشبيلية



              عاد المنصور -عقب غزوة الدونونية- إلى الجزيرة الخضراء، واستقرَّ بها خمسة وثلاثين يومًا، وزَّع خلالها الغنائم، وأرسل إلى العدوة بخبر الغزوة، وكذلك أرسل إلى ابن الأحمر، ثم عاد بعد ذلك، وقاد جيشه إلى أحواز إشبيلية، وحاصرها حصارًا شديدًا، قتل فيه وسبى، وضيق على إشبيلية تضييقًا شديدًا، ثم رحل بجيشه عنها محملاً بالغنائم إلى شريش، وحاصرها هي الأخرى فترة، ثم فضَّ الحصار وعاد إلى الجزيرة[8].


              وبعد ثلاث سنوات من هذه الموقعة في سنة (677هـ= 1279م) تنتقض إشبيلية، فيذهب إليها من جديد المنصور المريني -رحمه الله، ومن جديد وبعد حصار فترة من الزمن يصالحونه على الجزية، ثم يتجه بعد ذلك إلى قرطبة ويحاصرها، فترضخ له أيضًا على الجزية[9].
              كان النصارى معتصمين بمدنهم، يحتمون بأسوارها وقلاعها، أو قل: هي أسوار وقلاع بناها المسلمون من قبل. إلا أن ألفونسو العاشر لم يكن من المتخاذلين والضعفاء والجبناء الذين ابتلي بهم المسلمون في أيام السقوط فتركوا هذه المدن، أو سلموها، أو حتى عاونوا النصارى في إسقاطها.

              بل حتى في هذه الفترة لم تكن ما بقي من بلاد الأندلس متوحدة تحت سلطان ابن الأحمر، بل خرج عليه بنو أشقيلولة[10]، وسيطروا على مالقة وقمارش ووادي آش، وكثيرًا ما حاربهم هو وحاربهم أبوه من قبله، بل إن ابن الأحمر لم يشترك في موقعة الدونونية لهذا النزاع مع بني أشقيلولة[11].

              حاصر المسلمون إشبيلية، واستنزفوها قدر الإمكان، وكان فيها ألفونسو العاشر، وأرسل المنصور السرايا إلى مختلف النواحي لتؤدي العمل نفسه، واقتحمت سراياه عدة حصون، ثم عاد السلطان بالغنائم والسبي إلى الجزيرة، وأراح في الجزيرة بعض الوقت، ثم خرج إلى شريش فاشتد في التضييق عليها، وأرسل ولده إلى إشبيلية، فاكتسح ما استطاع من حصونها، ثم عاد إلى أبيه وعادا معًا بالجيوش وبالغنائم إلى الجزيرة، ثم دعا ابن الأحمر للغزو، فاستجاب له، وخرجا سويًّا إلى قرطبة، فضيقوا عليها قدر الإمكان، وخربوا ما استطاعوا من حصونها، وأرسلوا السرايا إلى المدن الأخرى للتضييق عليها كأرجونة وبركونة وجيان، وملك قشتالة لا يجرؤ على الخروج لهم، ثم إنه لم يجد أمامه بدًّا من مسالمتهم، وبالفعل أرسل إلى أمير المسلمين يطلب المسالمة والصلح، فترك أمير المسلمين القرار في ذلك لابن الأحمر إعلاءً لشأنه، فوافق ابن الأحمر بعد استئذان أمير المسلمين في ذلك، وعاد أمير المسلمين مع ابن الأحمر إلى غرناطة، وترك له غنائم هذه الغزوة، ثم عاد أمير المسلمين للجزيرة[12].


              [1] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص85، 86.
              [2] انظر: تاريخ ابن خلدون، 7/191.
              [3] تاريخ ابن خلدون، 7/191.
              [4] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص144-146، وتاريخ ابن خلدون، 7/191، 192.
              [5] انظر: ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص148.
              [6] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص149.
              [7] تاريخ ابن خلدون، 7/193.
              [8] ابن أبي زرع: الذخيرة السنية، ص158، وما بعدها، وتاريخ ابن خلدون، 7/193.
              [9] تاريخ ابن خلدون، 7/196، 197.
              [10] بنو أشقيلولة هم ابن أخت السلطان محمد بن الأحمر الفقيه، وكانت وقعت بينهم وبين السلطان خالهم محمد الفقيه حروب تسببت في مقتل فرج أحد الأخوة الأربعة بني أشقيلولة؛ فوقعت العداوة بين أمه أخت السلطان، وأخيها، وهي العداوة التي لم تنته ولم ينفع فيها صلح.
              [11] تاريخ ابن خلدون، 7/197، والسلاوي: الاستقصا، 3/45- 48.
              [12] تاريخ ابن خلدون، 7/196، 197.

              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • الصراع بين بني الأحمر وبني مرين

                المنصور المريني يدخل مالقة



                في أثناء رجوع يعقوب المريني -رحمه الله- يموت حاكم مالقة –وهو من بني أشقيلولة الذين كانوا يسيطرون عليها- فيتولى عليها ابنه من بعده، إلا أن هذا الابن شرع في النزول عن مالقة لأبي يعقوب المنصور المريني[1]؛ نكاية في خاله ابن الأحمر، بل إلى الحد الذي قال فيه للمنصور: إن لم تحزها أعطيتها للفرنج ولا يتملكها ابن الأحمر، وكان من الطبيعي –والحال هذا- أن يسارع المنصور لأخذها والاستجابة لبني أشقيلولة[2].


                ولا شكَّ أن موقفه كان في غاية الصعوبة؛ إذ هو الحريص دائمًا على طمأنة محمد الفقيه واسترضائه؛ فلقد كان هذا الأخير لديه من البطانة مثل ما كان للمعتمد بن عباد من قبله، وهم ممن يرضى بالنزول للنصارى ولا يرضى أن ينزل إلى الجزيرة، أمثال يوسف بن تاشفين ويعقوب المريني!

                ولا شكَّ -أيضًا- في أن المنصور المريني لم يشأ أن تضيع جهوده في الجهاد سدى، ولا بُدَّ أنه فكر في ضرورة أن يكون لبني مرين قوات في أرض الأندلس يمكنها ردع المحاولات النصرانية، كما يمكنها شلَّ الأفكار التي قد تجول في رأس ابن الأحمر حول التحالف مع النصارى، أو النزول لهم عن مزيد من الأراضي.
                ولقد كان للمنصور المريني قوات في جزيرة طريف على الساحل الجنوبي لبلاد الأندلس، اشترط نزول ابن الأحمر عنها لدى استدعائه له للغوث والإنجاد؛ وذلك حتى تكون هذه القوات مددًا قريبًا لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليهم في حربهم ضد النصارى، وسبيلاً سهلاً للعبور المغربي إلى الأندلس.

                ابن الأحمر والخيانة العظمى

                وهنا كرر ابن الأحمر (محمد بن الأحمر الفقيه) سيرة المعتمد بن عباد، وخشي أن تتكرر قصة يوسف بن تاشفين حينما ساعد ملوك الطوائف ثم حاز الأندلس بعدئذٍ وأدخلها في حكم المرابطين[3]، ففكر عازمًا على أن يقف حائلاً وسدًّا منيعًا حتى لا تُضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين.

                ويا لهول! هذا الفكر الذي كان عليه ذلك الرجل الذي لُقب بالفقيه الذي ما هو بفقيه! فماذا يفعل إذًا لكي يمنع ما تكرر في الماضي، ويمنع ما جال بخاطره؟ بنظرة واقعية وجد أنه ليست له طاقة بيعقوب المنصور المريني، فماذا يفعل؟!

                كرر سيرة الخيانة ذاتها؛ ومثلما أرسل المعتمد بن عباد من قبل إلى ألفونسو السادس، فعل محمد بن الأحمر الفقيه (!!) مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة، واستعان به في طرد يعقوب المريني من جزيرة طريف[4].

                ولم يكتفِ بهذا، بل سارع ابن الأحمر «الفقيه» (!!) في مراسلة الأمير المغربي يغمراسن بن زيان -ملك المغرب الأوسط، والعدو اللدود للسلطان يعقوب المريني[5]- للمحالفة على المنصور المريني.

                ابن الأحمر يدخل مالقة على حراب الصليبيين

                وعلى موعد مع الزمن يأتي ملك قشتالة بجيشه وأساطيله ويحاصر جزيرة طريف، وما أن يسمع بذلك يعقوب المنصور المريني -رحمه الله- حتى يُريد أن يعبر من توه إلى الأندلس، إلا أن حوادث المغرب ومضايقات يغمراسن تمنعه وتعوقه، حتى لقد بلغ الحال بالمسلمين المحاصرين في الأندلس أنهم «قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر»[6]، فأغمه هذا، فأرسل ابنه الأمير أبا يعقوب على رأس أسطول ضخم في أوائل سنة (678هـ=1279م)، وتُحَدِّثنا مصادر التاريخ عن فقيه من سبتة اسمه أبو حاتم العزفي أبلى البلاء الحَسن في حشد الناس، واستنفارهم للجهاد؛ حتى ركب أهل سبتة جميعًا للجهاد من الفتى الذي بلغ الحلم فما فوقه، وتوفرت همم المسلمين على الجهاد وصدقت عزائمهم على الموت[7].

                واستطاع ابن الأحمر في ظل هذه الكوارث التي أثارها للمارينيين بالمغرب والأندلس أن يأخذ مالقة ويستولي عليها ويُدخلها في حكمه، وعندئذٍ تكون الأمور قد عادت إلى ما كان يحب ويرغب من إخراج المرينيين من مالقة.

                يبن الأسطول الإسلامي والأسطول النصراني

                ثم بدا لابن الأحمر -مما وصل إليه حال المسلمين المحاصرين من جيوش النصارى- أن النصارى يستعدون لأخذها، وليس فقط إخراج المرينيين منها، وأنها على وشك أن تقع بأيديهم بالفعل، فندم على ما صنع ونبذ عهده وأعد أساطيله وجعلها مددًا للمسلمين، واجتمعت الأساطيل بميناء سبتة تناهز السبعين، فنشبت بين الأسطول الإسلامي وبين الأسطول النصراني معركة هائلة هُزم فيها النصارى، واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة، ففرَّ منها النصارى في الحال.

                أَمَا كان ابن الأحمر يعتبر بالتاريخ حتى نهايته، فيُبصر فيه نصر يوسف بن تاشفين على المعتمد بن عباد ومعه الفرنج، ولو فعل ذلك لاكتملت له مسيرة القصة فيعتبر بها كلها، بدل أن يخشى من أحد فصولها فيكرر سيرة الخيانة!! إنه نموذج للحاكم الذي تضيع على يديه الممالك والبلاد، وتُمْحَى بسيرته أمجاد سطرها العظماء والفاتحون والمجاهدون الكبار.

                وللنقمة التي ملأت قلب الأمير أبي يعقوب –ابن المنصور المريني، وقائد النصر البحري- على ابن الأحمر، فَكَّر في أن يتحالف مع النصارى ضد ابن الأحمر حتى يُذهب ملكه في غرناطة، وأرسل بهذا إلى أبيه في المغرب، فأنكر عليه المنصور ذلك ورفضه تمامًا.

                وفي هذا الوقت نفسه ينقلب النصارى على ابن الأحمر، ويتحالفون مع بني أشقيلولة ويهاجمون غرناطة، إلا أن ابن الأحمر استطاع ردهم عنها.

                المنصور المريني يعرض الصلح ثانية

                ورغم خطورة الموقف الذي أوقع ابن الأحمر نفسه فيه؛ إذ جعل الكل أعداءه، فتحالف على نصيره الوحيد وهم بنو مرين، فجعلهم عدوًّا جديدًا يضاف إلى النصارى وإلى بني أشقيلولة رغم خطورة هذا الموقف ودقته إذا به يستقبل الرسالة التي تنزل على قلبه بردًا وسلامًا، وهي رسالة من السلطان يعقوب المنصور المريني، يُجَدِّد فيه الرغبة في الصلح والتحالف، ويحذر من خطورة انفصام هذا التحالف على المسلمين في الأندلس ومصيرهم.

                وما كان أمام ابن الأحمر الفقيه إلا أن يقبل ويستجيب أمام هذا الخلق الإسلامي الكريم، فيكسب قومًا طالما جاهدوا معه، ونصروه وأعزوه، وعاداهم هو بحماقته، فلم يلبث إلا أن دارت عليه الدوائر[8].

                المنصور المريني والصلح مع النصارى

                هدأت العلاقات وصَفَت بين المنصور وبين ابن الأحمر لفترة من الزمن، ثم انقلب الحال في قشتالة نفسها؛ إذ ثار سانشو بن ألفونسو العاشر على أبيه، فلجأ ألفونسو العاشر إلى المنصور المريني، الذي جاز إلى الأندلس معاونةً لألفونسو، واستغلالاً لهذه الفرصة في ضرب بعضهم ببعض، ثم جاز مرة ثانية بعد أن مات ألفونسو العاشر، فصالحه النصارى وعقدوا معه عقدًا للهدنة والموادعة[9].

                ثم وَفَد سانشو بعد ذلك على أمير المسلمين، وفيها سأل المنصور سانشو أن يرسل إليه من الكتب التي أخذوها من بلاد المسلمين في الأندلس، فأرسل إليه بعد عودته إلى بلاده 13 حملاً[10].

                تكرار الخيانة من ابن الأحمر

                بعد الموقعة السابقة بعام واحد وفي سنة (685هـ= 1286م) يموت المنصور المريني -رحمه الله- ويخلفه على إمارة بني مرين ابنه يوسف بن المنصور[11]، ومن حينها يذهب ابن الأحمر (الفقيه) إليه ويعرض عليه الولاء والطاعة، وكان قد تم اتفاق بينهما فيما مضى حينما نزل الجيش المغربي إلى الأندلس وهزم الأساطيل النصرانية، وفيه أن ينزل الأمير يوسف بن يعقوب لابن الأحمر عن كل الثغور الأندلسية التابعة لبلاد العدوة المغربية، عدا الجزيرة وطريف، وتفرق الملكان وهما على أكمل حالات المصافاة، ثم كذلك نزل السلطان يوسف المريني لابن الأحمر عن وادي آش بعد ذلك سنة (686هـ) [12].

                في هذه الأثناء وبعدها نقض سانشو المعاهدة التي كان أبرمها مع المرينيين؛ مستغلاً انشغال السلطان المغربي بشئون المغرب واضطراباته، فهاجموا البلاد الإسلامية، فعبر إليه السلطان، وغزا بلاده وهزمه، وهنا أرسل سانشو إلى ابن الأحمر يُخَوِّفه السلطان المريني على ملكه، ويسأله محالفته حتى يتمكنوا من منع بني مرين من العبور إلى الأندلس ثانية، وأن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يستولوا على جزيرة طريف.

                سقوط جزيرة طريف بيد النصارى



                ومن جديد اعتملت الوساوس في قلب ابن الأحمر، ووقع في الفخ النصراني القاتل، وما درى المسكين أنه يخنق نفسه بيده، فوافق على التحالف مع النصارى شريطة أن يأخذ هو طريف إن استُولي عليها، أما ملك قشتالة فإنه يحصل على ستة حصون من ابن الأحمر، وبالفعل حاصر ملك قشتالة طريف، وكان ابن الأحمر يمده بالمؤن والأقوات، واستمرَّ الحصار حتى أنهك أهلها تمامًا، وسلموا لملك قشتالة على شروط.


                وكسابقة وعلى موعد أيضًا مع الزمن يأتي بالفعل جيش النصارى ويحاصر طريف كما فعل في السابق، لكن في هذه المرة يستطيعون أن يسقطوا طريف.

                لكن النصارى بعد أن استولوا عليها لم يُعيدوها إليه، وإنما أخذوها لأنفسهم؛ وبذلك يكونون قد خانوا العهد معه، وتكون قد حدثت الجريمة الكبرى والخيانة العظمى وسقطت طريف[13].

                وكان موقع طريف هذه في غاية الخطورة؛ فهي تطل على مضيق جبل طارق، ومعنى ذلك أن سقوطها يعني انقطاع بلاد المغرب عن بلاد الأندلس، وانقطاع العون والمدد من بلاد المغرب إلى الأندلس تمامًا.

                أبو عبد الله بن الحكيم وأمور يندى لها الجبين

                في سنة (701هـ= 1302م) يموت ابن الأحمر الفقيه[14] ويتولى من بعده محمد الثالث، والذي كان يلقب بالأعمش[15]، ويُعرف بالمخلوع، وكان رجلاً ضعيفًا جدًّا، وقد تولى الأمور في عهده الوزير أبو عبد الله بن الحكيم -الذي ما هو بحكيم- حيث كانت له السيطرة على الأمور في بلاد غرناطة([16])، و«انصرف عن موالاة سلطان المغرب إلى موالاة ملك قشتالة»[17].

                لم يكتفِ أبو عبد الله بن الحكيم بذلك، لكنه زاد على السابقين له في هذه المحالفات وغيرها بأن فعل أفعالاً يندى لها الجبين، فأوعز أبو عبد الله المخلوع إلى ابن عمه حاكم مالقة بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان يوسف المريني، والدخول في طاعة ابن الأحمر، ثم جهَّز جيشًا وذهب ليقاتل، تُرى من يقاتل؟! أيقاتل النصارى الذين هم على حدود ولايته، أم من يقاتل؟!

                كانت الإجابة المخزية أنه ذهب بجيشه واحتلَّ سبتة في بلاد المغرب، ذهب إلى دولة بني مرين واحتلّ مدينة سبتة حتى يقوي شأنه في مضيق جبل طارق، وتم احتلال سبتة بالفعل وأعلن أبو عبد الله بن الحكيم الأمان لأهل سبتة، وإرساله حكام سبتة المخلوعين إلى غرناطة[18].

                وفي سبيل لزعزعة الحُكم في بني مرين، انطلق رجل مغربي كان من المرينيين الذين يقيمون في الأندلس ويُدعى عثمان بن أبي العلاء، انطلق من سبتة إلى البلاد المغربية المحيطة في محاولة للسيطرة عليها؛ أملاً في أن يتمكن من السيطرة على المغرب، وساعده على ذلك مشاكل المغرب الداخلية، ثم ما كان من مقتل السلطان يوسف المريني، وما أدى إليه من فتنة بين ولديه أبي سالمٍ وأبي ثابت، انتهت بانتصار أبي ثابت واستيلائه على العرش، ثم مات أبو ثابت بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه أبو الربيع سليمان، وهو الذي هزم عثمان بن أبي العلاء بعد ذلك فارتد إلى الأندلس من جديد[19].

                وإنه -بلا شكٍّ- غباء منقطع النظير، أمر لا يقرُّه عقل ولا دين، لكن هذا ما حدث، فكانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة استغل النصارى الثورة التي قامت على أبي عبد الله المخلوع وتولية أخيه أبي الجيوش نصر بدلاً منه، فزحفوا بجيوشهم نحو جبل طارق حتى سقط في أيديهم في سنة (709هـ= 1309م)، فعُزلت –بهذا- بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وتركت غرناطة لمصيرها المحتوم[20].


                [1] ابن الخطيب: اللمحة البدرية ص45، وتاريخ ابن خلدون 7/197.
                [2] ابن الخطيب: الإحاطة،1/564، وأعمال الأعلام، القسم الثالث، ص288، والسلاوي: الاستقصا، 3/48.
                [3] تاريخ ابن خلدون، 7/198.
                [4] انظر: لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام، ص289، وتاريخ ابن خلدون، 7/200.
                [5] بل إن يغمراسن هو الأمير الذي منعت معاركه المرينيين من سرعة الاستجابة لغوث الأندلسيين من قبل؛ حتى إنه رفض رسالة المنصور المريني بعقد هدنة بينهما لأنه سيتوجه إلى الأندلس التي تستغيث من بلاد النصارى، فما أمكن المنصور المريني أن يتوجه للجهاد مع الأندلسيين إلا بعد أن انتصر على يغمراسن هذا في معارك قوية، وبعد وقت ثمين ذهبت فيه من المسلمين الأندلسيين بلاد وأرواح وسبايا.. نسي ابن الأحمر هذا وأرسل ليغمراسن ليحالفه ضد المنصور المريني.
                [6] تاريخ ابن خلدون 7/202.
                [7] المصدر السابق.
                [8] تاريخ ابن خلدون، 7/201-204، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص289، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/102، 103.
                [9] تاريخ ابن خلدون، 7/205، 206.
                [10] المصدر السابق، 7/209.
                [11] ابن الخطيب: رقم الحلل، ص89، 90، وتاريخ ابن خلدون، 7/210.
                [12] تاريخ ابن خلدون 7/211.
                [13] المصدر السابق، 7/216، والسلاوي: الاستقصا، 3/71.
                [14] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/566، واللمحة البدرية، ص45، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
                [15] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/544، 545، واللمحة البدرية، ص48، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
                [16] ابن الخطيب: الإحاطة، 1/549، واللمحة البدرية، ص51، وتاريخ ابن خلدون، 7/228.
                [17] تاريخ ابن خلدون، 7/228.
                [18] المصدر السابق، 7/228، 229.
                [19] تاريخ ابن خلدون، 7/236-238.
                [20] ابن الخطيب: الإحاطة، 3/339، واللمحة البدرية، ص62، وتاريخ ابن خلدون، 7/240.

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • حضارة غرناطة .. عظمة الحضارة الإسلامية

                  الصراع بين قشتالة وأراغون


                  طيلة ما يقرب من مائتي عام، منذ سنة (709هـ= 1309م) وحتى سنة (897هـ= 1492م) ظلَّ الحال كما هو عليه في بلاد غرناطة، ولم تسقط.

                  وكان السر في ذلك والسبب الرئيس، والذي من أجله حُفظت هذه البلاد هو وجود خلاف كبير وصراع طويل كان قد دار بين مملكة قشتالة ومملكة أراجون، (المملكتان النصرانيّتان في الشمال)؛ حيث تصارعتا معًا بعد أن صارت كل مملكة منهم ضخمة قوية، وكانتا قد قامتا على أنقاض الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس.

                  الموكب الحضاري لمملكة غرناطة [1]



                  كانت غرناطة تتردَّد بين القوة والضعف وبين الهزيمة والثبات وبين الأمن والقلق وبين الهدوء والاضطراب، رغم ذلك في الدَّاخل كانت -خلال عمرها البالغ حوالي قرنين ونصف- تمتلئ بالإنتاج، كما تطفح بالخير والرفاه، توفرت لها أيام مشهودة في الانتصار والغلبة، مع قلة الإمكانيات وقسوة الظروف وكثافة الأعداء.

                  في هذه الظروف -وحتى مع الأيام العصيبة والانشغال- استطاعت أن تسير في الموكب الحضاري، على قدر ما أوتيت من إمكانيات، وأن تُقَدِّم ألوانًا عديدة من الإنجاز؛ مما يدل على حيوية هذه الأمة المسلمة واستعدادها للعمل والإنتاج، بقدر ما لديها من معاني الإسلام، وما تمتلك من رسوخ عقيدته، إن الذي أصاب المسلمين بتقصيرهم وتخاذلهم حين الهبوط عن المستوى الكريم الذي أراده الإسلام كان أكثر مما أصابهم من عدوهم[2]. مع اعتبار أهمية هذا الأخير في الإشغال والاستنزاف والإطباق من كل جهة، ينتقص من أطرافها ويأكل وجودها ويطحن حضارتها، ترابًا تذروه رياحها العاصفة.

                  المحافظة على ما تبقى للأندلس من أرض

                  أول إنجاز هو الاستعداد - في تلك الظروف - المحافظة على ما تبقى للأندلس من أرض، تأوي إليها البقية الباقية، والسير في الوجهة القويمة على قدر؛ بعض هذه الإنجازات كانت موجودة واستمرت، وبعضها الآخر وجد أيام غرناطة؛ وجدت أيامها «مشيخة الغزاة»، التي خلَّفت تلك البطولات بجانب الانتصارات الأخرى[3].

                  الحفاظ على التكوين والبناء الاجتماعي

                  أمكن الحفاظ على التكوين والبناء الاجتماعي في عدد من الجوانب، ولو بحدود تضيق أو تتسع، وهو الذي ساعد على الوقوف في هذا الخضم الصعب لعدة أجيال، كما أن الآفاق والقيم التي رعاها وحافظ عليها أنتجت بناء حضاريًّا كبيرًا في مختلف الميادين، قد تغور أحيانًا بعد أن كانت تفور.

                  التقدم العلمي والثقافي

                  وفي العلوم المتعددة الحقول قدمت التآليف الكثيرة والإنتاج الضخم، كما حافظت على ما خطته يد العلماء الذين سبقوا وانتفعت به.

                  نجد ثَبْتًا طويلاً من أسماء اللامعين بعضها في الإحاطة لابن الخطيب وفي نفح الطيب للمقري، كما أُنشئت المدارس ومعاهد العلم الأخرى في كل ناحية، وتوفرت الاختراعات؛ من مثل: المدافع التي ترمي نوعًا من المحروقات، وتحويل البارود إلى طاقة قاذفة، وانتقلت عنهم إلى أوربا [4]، وما يزال متحف مدريد الحربي يحفظ حاليًا البنادق التي استعلمها المسلمون في دفاعهم عن غرناطة.

                  التقدم الصناعي والزراعي

                  وفي الصناعات ازدهرت أنواع كثيرة؛ فقد كانت هناك صناعة السفن، ثم الأنسجة، وصناعة الورق والفخار المذهب العجيب[5]، وأنتجت الكثير في ميدان الأصباغ والدباغة والجلود، وصناعة الحلي، والصناعات الفنية الدقيقة.

                  كذلك برزت بالزراعة ووسائل الري والعناية بها وأنواع المزروعات.

                  التقدم العمراني



                  ثم الجانب العمراني المتمثل في المباني المختلفة؛ كالمساجد، والقصور، والدور، والقناطر، وقصر الحمراء الذي ما زال باقيًا، مزينًا بالنقوش التي تدل على فنية ماهرة رائعة، كذلك المباني الحربية المتعددة.

                  وكان للتنظيمات المختلفة في المجتمع والدولة دورها وأهميتها، فقد غدت مدينة غرناطة في وقتها من أجمل مدن العالم بشوارعها وميادينها وحدائقها ومبانيها ومرافقها المتنوعة، وكانت تضم حوالي مليون نفسٍ، وتُصَدِّر كثيرًا من الصناعات إلى عدة بلدان؛ منها الأوربية.

                  وظهرت آثارها على هذه البلدان الأوربية في بعض المسائل الأخرى المعنوية، فانتفعت - إلى حدٍّ - بالفروسية التي كانت لها الحفلات الرائعة المتفننة، بما تحتويه من ضروب البراعة والرشاقة والأعراف.


                  [1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي، ص559- 562.
                  [2] انظر: المقري: نفح الطيب، 4/509، 510، وأزهار الرياض، 1/53- 55.
                  [3] انظر في أصل «مشيخة الغزاة» ودورها: تاريخ ابن خلدون، 7/366، 367، والمقري: نفح الطيب، 1/452- 454.
                  [4] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/211، وما بعدها.
                  [5] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة، 4/218.



                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • إسبانيا .. الاتحاد بين قشتالة وأراغون

                    الاتحاد للقضاء على المسلمين




                    قبل الحديث عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ مملكة غرناطة الإسلامية، لا بُدَّ أن نقف سريعًا أمام هذا العامل المهم الذي كان سببًا في الاحتضار السريع لآخر دول المسلمين في الأندلس، وهذا العامل هو اتحاد المملكتين النصرانيتين قشتالة وأراغون، بعد أن كانتا مملكتين مختلفتين متخاصمتين؛ تحارب كل منهما الأخرى وتعمل على القضاء عليها، بالرغم مما كان يربطهما من وحدة الدين والجنس، واشتراكهما -أيضًا- في عدد من الأهداف، والتي كان أهمها على الإطلاق هو القضاء على الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ خوفًا من أن يستحوذ على شبه الجزيرة ثانية كما حدث من قبل، فيقضي بذلك على سلطانهما، الذي يعملان على توطيده، ولو على حساب بعضهما البعض.


                    انشقاق في مملكة قشتالة

                    وقد ظهرت بوادر هذا الاتحاد سنة (879هـ= 1474م) عندما توفي هنري الرابع ملك قشتالة، فثارت بذلك حول تولي العرش مشكلة دقيقة، وهي أن هذا الملك لم يترك سوى ابنة صغيرة هي خوانا (ﭼنة)، ولكنَّ نَسَبَها إليه مع ذلك كان موضع شكٍّ، وكانت تُنسب إلى صديقه وصفيه الدوق بلتران دي لاكوﻳﭬا؛ ولذلك كان اسمها الشائع خوانا بلترانيخا، وكان يناصرها فريق صغير من النبلاء، في حين كانت الأميرة إيزابيلا أخت الملك هنري على العكس من ذلك، فكانت تتمتع بعطف الشعب القشتالي، ويناصر وراثتها للعرش فريق كبير من النبلاء؛ حتى إن أخاها الملك هنري قد اعترف بحقها في العرش، وأيد الكورتيس (مجلس النواب القشتالي) أحقيتها بالعرش عقب وفاة أخيها ألفونسو سنة (1468م)؛ ولذلك لم يكن ثمة لبس في أحقية هذه الأميرة في تولي عرش قشتالة خلفًا لأخيها.

                    زواج إيزابيلا وفرناندو

                    وكانت إيزابيلا قد تزوجت قبل وفاة أخيها ببضعة أعوام بابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني ابن الملك خوان الثاني ملك أراغون، وقصة هذا الزواج أن الأنظار كانت تتطمح إلى إيزابيلا مذ كبرت؛ للاحتمالات القوية التي كانت تؤهلها لعرش قشتالة، وكان خوان الثاني ملك أراجون يتوق إلى خطبتها لابنه فرناندو؛ لما كان بين العائلتين المالكتين من أواصر القربى الوثيقة، ولأن ذلك سيقرب بالطبع سبل الاتحاد بين المملكتين؛ ولذلك كان فرناندو أول المتقدمين لخطبة إيزابيلا، ولكن أخاها الملك لم يرضَ عن اقتران فرناندو بأخته، وكان ينافس فرناندو في خطبة إيزابيلا عدد من الأمراء والنبلاء الطامعين في عرش قشتالة، مثل الأمير فرناندو الأرجوني؛ وكان من هؤلاء ألفونسو ملك البرتغال وكبير فرسان قلعة رباح، وقد وافق الملك هنري على أن ترتبط أخته بكبير فرسان قلعة رباح، إلا أن الأميرة كان لها رأي آخر؛ إذ إنها آثرت بعد إمعان النظر أن تقبل خطبة ابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني؛ للبواعث نفسها التي جعلت أباه يحرص على هذه الزيجة، ولأنه يجمع بينهما من الجد بيت ملكي واحد، ووضعت شروط هذا الزواج بين الفريقين سرًّا؛ نظرًا لمعارضة الملك هنري لهذه الزيجة، فكان من هذه الشروط أن يتعهد فرناندو باحترام قوانين قشتالة وتقاليدها، وأن يجعل مقرَّ إقامته في قشتالة، وألا يغادرها دون إذن إيزابيلا، وألا يتخذ أية قرارات أو تعيينات في المملكة دون إذنها. وتعهد بالأخص بمتابعة الحرب ضد المسلمين.

                    وفي أكتوبر سنة (1469م) الموافقة سنة (874 هـ) عُقد الزواج في مدينة بلد الوليد -حيث كانت تقيم إيزابيلا في ذلك الوقت- في حفل خاص لم يشهده سوى قليل من الأصدقاء، ثم أخطرت الأميرة أخاها بعقد الزواج برسالة تشرح فيها بواعث إقدامها على ذلك.

                    إيزابيلا ملكة قشتالة

                    أُعلنت إيزابيلا في ديسمبر (1474م) عقب وفاة أخيها هنري ملكة لقشتالة وليون في بلدة شقوبية؛ حيث كانت تُقيم آنذاك، ودخلت مدن أخرى في طاعتها، ولكن الأمر لم يكن سهلاً؛ لأن ثمة فريق من النبلاء كان يناصر الأميرة خوانا ابنة الملك المتوفي، كما كان زوج إيزابيلا الأمير فرناندو الأرجوني يطمع هو الآخر في انتزاع العرش لنفسه؛ باعتباره آخر الأبناء من الذكور لعائلة قشتالة المالكة، ولكن إيزابيلا تمسكت بحقها، واتفقت مع زوجها على مزاولة الملك المشترك؛ فتكون إيزابيلا ملكة أصلية لقشتالة لها الرأي الأول في الأمور الجليلة، في حين يجري القضاء وتُسك العملة باسميهما.

                    وكان خصوم إيزابيلا في ذلك الحين وعلى رأسهم مطران طليطلة قد تفاهموا مع ملك البرتغال ألفونسو الخامس على تأييد سعيهم في تنصيب خوانا ملكة لقشتالة، وهي ابنة أخت ألفونسو الخامس، فغزا ملك البرتغال في مايو سنة (1475م) أراضي قشتالة، واخترق هضابها الشمالية حتى مدينة سمورة، وبادر فرناندو وإيزابيلا بالسير في قواتهما إلى لقائه، واشتبك الفريقان على مقربة من تورو بجوار سمورة، فهُزم القشتاليون في البداية، ولكن ألفونسو لم يبادر إلى الاستفادة من تفوقه، وطال الصراع بين الفريقين بضعة أشهر، وانتهى بانتصار القشتاليين.

                    الاتحاد بين قشتالة وأراغون

                    هكذا استقر الملكان على العرش بلا منازع، وفي سنة (1479م) توفي خوان الثاني ملك أراغون، فتولى ابنه العرش من بعده، وبذلك اتحدت المملكتان الإسبانيتان في ظلِّ عرش واحد بعد أن فرَّقت بينهما المنافسات والصراعات أحقابًا.

                    وكان فرناندو الخامس أو فرناندو الكاثوليكي -إلى جوار تمتعه بالقدرة الفائقة في الإدارة والسياسة والحرب- أميرًا لا وازع له، يجنح في سياسته إلى الغدر ومجانبة الوفاء، وكان رجل الفرصة السانحة، يلتمس إلى تحقيق أطماعه الكبيرة أيَّ الوسائل؛ مهما ابتعدت عن المبادئ الأخلاقية المقررة ومقتضيات الفروسية والوفاء، كما ظهر ذلك من قبل في سيرته، وكما سيظهر من بعد في تصرفاته ومعاملته للأمة الأندلسية المغلوبة.

                    وكانت زوجه الملكة إيزابيلا تتمتع بكثير من الذكاء والعزم، وكانت تُثير برقتها وتواضعها واحتشامها حب الشعب القشتالي وإعجابه؛ بيد أنها كانت تجيش بنزعة صليبية عميقة تذهب كثيرًا مذهب التعصب الأعمى، وكانت تقع تحت تأثير الأحبار المتعصبين وتنزل عند تحريضهم وتوجيههم، وكان مشروع القضاء على الإسلام في الأندلس يُذكي في نفس هذه الملكة الصليبية (التي تُنعت -أيضًا- بالكاثوليكية) أشنع ضروب التعصب، ويحملها على مؤازرة ديوان التحقيق الإسباني، أو ما عُرف خطأ بمحاكم التفتيش، فكانت تقرُّ كل ما جنح إلى ارتكابه هذا الديوان من الجرائم باسم النصرانية.

                    وفي الوقت الذي استقر الملك فيه للملكين الكاثوليكيين تحت راية إسبانيا الموحدة القوية، كانت مملكة غرناطة تدخل بعد سلسلة من الحروب الأهلية، وإهمال أميرها أبو الحسن علي بن سعد بن الأحمر لشئون دولته، وركونه إلى الراحة والدعة، وسعيه خلف ملاذِّه -إلى مرحلة خطيرة من الضعف والتمزق؛ لذلك فما أن استقر الأمر للملكين الكاثوليكيين حتى أشهرا الحرب على المملكة الإسلامية؛ ليبدأ هذا الفصل المؤسِّي من حياة المسلمين في الأندلس [1].


                    [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/180- 185، بتصرف.

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • الصراع في غرناطة

                      غرناطة قبل النهاية



                      قبل السقوط بست وعشرين سنة تقريبًا، وفي سنة (871هـ= 1467م) كان يحكم غرناطة في ذلك الوقت رجل يُدعى علي بن سعد بن محمد بن الأحمر، والذي كان يُلَقّب بالغالب بالله على عادة ملوك الغرناطيين[1]، وكان له أحد الإخوة يُعرف بأبي عبد الله محمد الملقب بالزغل (الزغل يعني الشجاع) ، فكان الأول غالب بالله، وكان الثاني زغلاً أو شجاعًا[2].


                      وكما حدث في عهد ملوك الطوائف اختلف هذان الأخَوان على الحُكم، وبدآ يتصارعان على مملكة غرناطة الهزيلة الضعيفة، والمحاطة في الشمال بمملكتي قشتالة وأراجون النصرانيتين.

                      وكالعادة -أيضًا- استعان أبو عبد الله محمد الزغل بملك قشتالة في حرب أخيه الغالب بالله، وقامت على إثر ذلك حرب بينهما، إلا أنها قد انتهت بالصلح، لكنهما -ويا للأسف- قد اصطلحا على تقسيم غرناطة إلى جزء شمالي على رأسه الغالب بالله وهي الولاية الرئيسة، وجزء جنوبي وهي مالقة ومعها بعض الولايات الأخرى، وعلى رأسها أبو عبد الله محمد الزغل[3].

                      وبعد هذا التقسيم بثلاثة أعوام، وفي سنة (874هـ= 1469م) يحدث أمر غاية في الخطورة في بلاد الأندلس، فقد تزوَّج فرناندو الخامس ملك أراغون من إيزابيلا وريثة عرش قشتالة؛ وبذلك تكون الدولتان قد اصطلحتا معًا، وأنهتا صراعًا كان قد طال أمده، ولم يأتِ عام (1479م) إلاَّ وكانت المملكتان قد توحدتا معًا في مملكة واحدة هي مملكة إسبانيا، وكانت هذه بداية النهاية لغرناطة.

                      صراع داخل بلاط غرناطة



                      كانت غرناطة سنة (879هـ= 1474م) منقسمة إلى شطرين؛ شطر مع الزغل، والآخر مع الغالب بالله، وفي هذه الأثناء حدث سيل عظيم في غرناطة، «ومن وقت هذا السيل العظيم بدأ ملك الأمير أبي الحسن في التقهقر والانتكاس والانتقاض؛ وذلك أنه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان، وثقّل المغارم وكثّر الضرائب في البلدان، ومكّس الأسواق ونهب الأموال، وشحّ بالعطاء إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها الملك، وكان للأمير أبي الحسن وزير يُوافقه على ذلك، ويظهر للناس الصلاح والعفاف، وهو بعكس ذلك...


                      فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه... فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم ويثقلها، ويجمع الأموال ويأتيه بها، ويعطيها لمن لا يستحقها، ويمنعها عمن يستحقها، ويهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان، ويقطع عنهم المعروف والإحسان، حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم، وأكلوا أثمانها وقتل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص، والملك في ضعف، إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى، فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحمة...» [4].

                      كان السلطان الغرناطي قد ركن إلى الخلافات التي نشبت بين رؤساء النصاري، وما وقع بينهم من حروب؛ «فبعضهم استقل بملك قرطبة وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن الى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد، والنظر في الملك ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان -أيضًا- قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعدُ البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد، واتُّفق أن صاحب قشتالة تَغَلَّب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد»[5].

                      عائشة الحرة

                      كان الغالب بالله الذي يحكم غرناطة متزوجًا من امرأة تُدعى عائشة، وقد عرفت في التاريخ بعائشة الحرة، وكانت له جارية نصرانية تُسمى ثريا قد فُتن بها وغرق في عشقها[6]، «فمن جملة انهماكه أنه اصطفى على زوجته روميَّة اسمها ثريا، وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير، وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما، وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة؛ فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة، والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات... وفي هذا اليوم (27 جمادى الأولى 887هـ) بلغ الخبر لمن كان في لوشة أن ابني الأمير أبي الحسن محمدًا ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما، ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثريا من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما، فاحتالت عليهما بالليل، وأخرجتهما إليهم، وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش بدعوتهما، ثم قامت غرناطة -أيضًا- بدعوتهما، واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب وكوائن أعرضنا عن ذكرها لقبحها؛ لأن الآمر آل بينهم إلى أن قتل الوالد ولده، ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس والعدو -دمره الله- مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس، إلى أن ساعده الزمان ووافقته الأقدار»[7].

                      ويعرض لنا الأستاذ محمد عبد الله عنان هذا الأمر في أسلوب قصصي شائق مستعينًا فيه بالروايات العربية والقشتالية، فيقول: «تحتل شخصية عائشة الحرة في حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة، وليس ثمة -في تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية- شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التي تذكرنا خلالها البديعة ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة بما نقرأه في أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف...كانت عائشة الحرة ملكة غرناطة في ظلِّ مُلك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض.... وكانت عائشة ترى من الطبيعي أن يئول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع؛ ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحُسن، تعرفها الرواية الإسلامية باسم «ثريا» الرومية، وتقول الرواية الإسبانية: إن ثريا هذه واسمها النصراني إيسابيلا... فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التي عُرفت عندئذ بـ«الحرة»؛ تمييزًا لها عن الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها...

                      وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذٍ، وأثقلثه السنون، وغدا أداة سهلة في يد زوجه الفتية الحسناء، وكانت ثريا فضلاً عن حسنها الرائع فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية في قصر غرناطة، واستئثارها بالسلطان والنفوذ في هذه الظروف العصيبة، التي تجوزها المملكة الإسلامية عاملاً جديدًا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا في الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ؛ ذلك أنها أنجبت من الأمير أبي الحسن كخصيمتها عائشة ولدين؛ هما: سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما، وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك على عقب الجارية النصرانية، ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبي الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش أمنع أبراج الحمراء، وشدد في الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة.

                      فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء، الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف في المجتمع الغرناطي، وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين؛ فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته، واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتدَّ السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا في طغيانها إلى أبعد حدٍّ، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبي عبد الله عثرة آمالها.

                      وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم... بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تُدَبِّر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط. ويقال: إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبي الحسن، قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة، وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة (887هـ=1482م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف...

                      وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجريء تثير أيما عطف وإعجاب، وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمد في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيدًا عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة»[8].


                      [1] كان محمد بن يوسف بن نصر مؤسس هذه الدولة بغرناطة يلقب أيضًا بـ «الغالب بالله»، وهكذا كان أبو عبد الله محمد بن علي آخر ملوك غرناطة، والذي عُرف في التاريخ الإسباني من بعد بـ« الملك الصغير»، وكان يُلقب بـ « الغالب بالله»، ويُعلق الأستاذ محمد عبد الله عنان على ذلك بقوله، 7/288: «وهي شعار سائر ملوك غرناطة».
                      [2] ينبغي أن نسجل هنا شكرًا بالغًا للمجهود الرائع الذي بذله الأستاذ محمد عبد الله عنان في التأريخ لهذه الفترة، وهو يُعَدُّ مصدرًا رئيسًا لها، فهذه الفترة تعاني ندرة في المصادر العربية، وقد بذل الأستاذ عنان جهدًا مبكرًا في جمع وتحليل الروايات القشتالية والإفرنجية المتاحة، كما قد عثر على وثائق كثيرة في شكل مخطوطات عربية وإفرنجية في رحلاته لإسبانيا والمغرب، وغيرها من المدن الأندلسية القديمة والمغاربية أيضًا، ولا يكاد يخلو كتاب -أرَّخ لهذه الفترة بعدَه- من الاعتماد على ما أتى به.
                      [3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/194.
                      [4] مجهول: نبذة العصر، ص45- 50.
                      [5] المقري: نفح الطيب، 4/511، 512.
                      [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/200.
                      [7] مجهول: نبذة العصر، ص46-62، وانظر أيضًا: المقري: نفح الطيب، 4/512- 514.
                      [8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/196- 201.

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • حصار غرناطة

                        فرناندو الخامس واستغلال النزاع والفرقة



                        حيال هذا الوضع الذي آل إليه حال المسلمين في الأندلس استغل فرناندو الخامس هذا الموقف جيدًا لصالحه، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ حيث كان يعلم أن هناك خلافًا وشقاقًا كبيرًا داخل البلد، فدارت المعارك بين المسلمين والقشتاليين على أكثر من جبهة، استطاع المسلمون الانتصار في بعضها، وانهزموا في البعض الآخر، وهذه الهزائم لم تكن لقوة عدوهم بقدر ما كانت للضعف الذي كان قد وصلت إليه مملكتهم، نتيجة لاستمراء أميرهم لحياة الدعة والراحة، أما الشعب فإنه كان متحفزًا للدفاع عن نفسه تحفزًا كبيرًا، ثم تتابعت الأحداث، إذ قامت ثورة وضعت أبا عبد الله محمدًا في السلطة، وفرَّ أبوه إلى الزغل في مالقة، وهناك ومن مالقة كان الزغل يدفع النصارى عنها أشد دفاع، واستطاع –بعون الله- رد النصارى بعد هزائم شديدة مريرة، فقدوا فيها الكثير ومنهم بعض زعمائهم، كما فقدوا فيها الكثير من العُدد والآلات، فنشط أبو عبد الله هو الآخر لغزو النصارى، وغزاهم بالفعل واستطاع أن ينتصر عليهم... وأن يتوغل في بلادهم، وأثناء عودته من هناك محملاً بالغنائم، قطع عليه النصارى طريق عودته، ودارت بين الفريقين معركة قرب إلياسنة هُزم فيها المسلمون، وأُسر ملكهم أبو عبد الله محمد الصغير[1].


                        وبعد أَسْر الصغير عاد أبوه الزغل لحكم غرناطة، فأصبحت من جديد إمارة واحدة تحت حكم الزغل، غير أن المرض كان قد هدَّه وذهب ببصره؛ إذ أُصيب بمرض شبه الصرع، وأصيب في بصره، وأصابه خدر في جسده، وعاقبه الله تعالى بأنواع من البلاء؛ فتنازل عن الملك لأخيه محمد بن سعد، وحُمل إلى مدينة المنكب فأقام بها حتى مات[2].

                        وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يُطلق عددًا من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو، وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهودًا آخر لإنقاذ ولدها، بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة؛ ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه إيزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يُفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك كل عام سبعين أسيرًا لمدة خمسة أعوام، وأن يُقَدِّم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضمانًا بحسن وفائه. وتعهَّد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فورًا، وألا يكلف في حكمه بأي أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه في مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير»[3].

                        فرناندو واحتلال مالقة ووادي آش

                        كان على الساحة الآن «الصغير» ومعه ولاية غرناطة، والزغل ومعه وادي آش، ثم ملك إسبانيا وتحت قبضته مالقة، واستكمالاً لآمال كان قد عقدها قديمًا، وفي سنة (895هـ= 1490م) انطلق ملك إسبانيا من مالقة إلى ألمرية على ساحل البحر المتوسط، واستولى على كل ما في طريقه إليها من مدن وحصون، ثم تمَّ تسليم ألمرية له بعد ذلك، وقد دافع المسلمون عن مدنهم أشد دفاع وأسناه، ولكن فارق الإمكانيات لم يساعدهم، ولم يحل شيء دون وقوع المصير المحتوم[4].

                        ثم منها توجه إلى وادي آش (التي هي في يد الزغل) فاستولى عليها، بعد أن رأى الزغل أنه قد أحيط به، وأنه ما عاد يستطيع الدفع عن بلاده، وبعد أن استنجد بمن استطاع الاستنجاد به من ملوك المسلمين[5].

                        حصار غرناطة

                        كان الوضع الآن أن حوصرت مدينة غرناطة وكل قراها ومزارعها من كل مكان بجيوش النصارى، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن. قال: « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »[6].

                        فقد تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جدًّا في ذلك الوقت، واستولى ملك إسبانيا (قشتالة وأرجون متحدتين) على برجين: برج ملاحة غرناطة، وبرج قرية همدان، وكانا برجين كبيرين حصينين، فزادهما تحصينًا وشحنهما بالرجال، وما يحتاج إليه من آلة الحرب؛ ليضيق على أهل غرناطة؛ لأنهم كانوا قريبين منهما، فضيَّق بذلك عليهم أشدَّ الضيق.

                        معاهدة تسليم غرناطة

                        وفي أول عام (985هـ= ديسمبر 1489م) وحسبما تُشير بعض الوثائق، تم صلح جديد، «حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه يُنَوِّه أبو عبد الله بهذا (الصلح السعيد) المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه... وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصَّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يُسَلِّم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تمَّ تسليم بسطة وألمرية ووادي آش. وعلى أي حال ففي فاتحة سنة 1490م ( أوائل صفر 895هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة لتخاطبه في موضوع التسليم... ولم يطلب (ملك قشتالة) تسليم غرناطة ذاتها، ولكن طلب تسليم مدينة الحمراء مقر الملك والحكم.

                        فماذا كان جواب أبي عبد الله؟

                        لقد كان في سابق مواقفه ما يحمل الملكين الكاثوليكيين على توقُّع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان؛ إذ أرسل إليهما القائد أبا القاسم المليح برسالة (بتاريخ 29 صفر سنة 895هـ= 22 يناير سنة 1490م)؛ وبالرغم من اللهجة المهذبة المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان فحواها هو الرفض. لكن الملكان الكاثوليكيان أصرَّا على طلبهما، فاعتزم أبو عبد الله أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. فأرسل وزيره يوسف بن كُماشة ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية؛ لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى.

                        وهنا نقف قليلاً لنتأمل هذا الموقف الجديد من جانب أبي عبد الله؛ أجل كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعًا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلَّص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائيًّا من أملاك مملكة قشتالة، وعيّن لها حكام من النصارى، وتدجن مَن بقي من أهلها، أو غدوا مدجَّنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصًا على أوطانهم ومصالحهم، أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيرًا منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم جازوا البحر إلى المغرب.

                        وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي؛ حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضمُّ بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس، وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنبًا أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته تلقى استنكارًا عامًّا، ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك -وربما لأول مرة- فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعونته على بني وطنه ودينه، ولما أصرَّ فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يَعُدْ له القول والفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويُصَمِّم على المقاومة والدفاع. هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف -بعزم شعبه- من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة»[7].

                        وما أن علم ملك قشتالة بامتناع أبي عبد الله عن التسليم ذهب إلى غرناطة، وحاصرها، فحاربه المسلمون وبرز إليه الأمير أبو عبد الله محمد، وصمد المسلمون في وجه الطاغية صمودًا بطوليًّا رده –بفضل الله- خائبًا خاسرًا إلى بلاده، وما أن ذهب حتى بدأ المسلمون بقيادة أبي عبد الله يغزون البلاد النصرانية المحيطة، ويساعدون الثوار المسلمين في البلاد التي استولى عليها النصارى قريبًا، وقد استطاعوا بالفعل الاستيلاء على عدد من الحصون والمدن القريبة والمهمة، ثم عاد الطاغية لمحاصرة غرناطة، ورده الله دون أن ينال منها شيئًا، ورجع المسلمون لغزواتهم، وهكذا حتى جاءهم الطاغية محاصرًا للمرة الثالثة، وكله تصميم على ألا يرحل هذه المرة عن غرناطة إلا بعد فتحها، ولعل أحد أسباب تصميمه هذا هو خوفه من هذا النشاط الذي ظهرت به غرناطة في فترتها الأخيرة، على أن غرناطة لم تستسلم لهذا الحصار، وعملت على كسره ضاربة بذلك أروع أمثلة البطولة والفروسية، بل كانت سرايا المسلمين تخرج للعيث في البلاد النصرانية القريبة[8].


                        [1] مجهول: نبذة العصر، ص50-67، والمقري: نفح الطيب، 4/512-515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/201- 203، ومحمود علي مكي: التاريخ السياسي للأندلس ص134، منشور في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي.
                        [2] مجهول: نبذة العصر ص67، 68، والمقري: نفح الطيب، 4/515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/204.
                        [3] محمد عبد الله عنان في دولة الإسلام في الأندلس، 7/204، 205.
                        [4] مجهول: نبذة العصر، ص98، والمقري: نفح الطيب، 4/522، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/226، 227.
                        [5] مجهول: نبذة العصر، ص99- 101، والمقري: نفح الطيب، 4/522، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/227، 228.
                        [6] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام 4297، وقال الألباني: صحيح.
                        [7] مجهول: نبذة العصر، ص102، 103، والمقري: نفح الطيب، 4/523. ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/229- 232، ونقلنا عن هذا المصدر الأخير باختصار.
                        [8] مجهول: نبذة العصر، ص103- 117، والمقري: نفح الطيب، 4/ 523، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/232-236.

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • موسى بن أبي غسان .. آخر مجاهدي الأندلس

                          غرناطة .. حصار حتى الموت



                          برز في هذا الحصار الأخير داخل غرناطة حركة جهادية بارزة على رأسها رجل يُسمى موسى بن أبي غسان، فكان أن حرَّك الجهاد في قلوب الناس، وبدأ يُحَمِّسهم على الموت في سبيل الله، وعلى الدفاع عن بلدهم وهويتهم، فاستجاب له الشعب وتحرك للدفاع عن غرناطة[1].


                          وطيلة سبعة أشهر كاملة ظل أصحاب الانتفاضة في دفاعهم عن حصون غرناطة ضد الهجمات النصرانية الشرسة، وإليك طرفًا من هذا الصمود يحكيه الفارس المعاصر صاحب كتاب نبذة العصر:
                          «رجع ملك قشتالة إلى فحص غرناطة، ونزل بمحلته بقرية عتقة، ثم شرع في البناء، فبنى هنالك سورًا كبيرًا في أيام قلائل، وصار يهدم القرى، ويأخذ ما فيها من آلة البناء، ويجعله على العجل، ويحمله إلى ذلك البلد الذي بناه، ويبني به، وهو مع ذلك يقاتل المسلمين ويقاتلونه قتالاً شديدًا، وحارب ملك الروم -أيضًا- أبراج القرى الدائرة بغرناطة وأخذها، ولم يبق إلا قرية الفخار، فلم يزل يُلِحُّ عليها ويجلب عليها بخيله ورجله، ويطمع أن يجد فرصة فلم يقدر على شيء، حتى قتل له عليها خلق كثير من الروم، ووقعت عليها ملاحم كثيرة بين المسلمين والنصارى؛ لأن المسلمين كانوا يُلِحُّون على حمايتها خوفًا من أن يملكها الروم؛ فتكون سببًا في إخلاء قرى الجبل وحصار البلد، فلم يزالوا يدافعون عنها ويقاتلون مَنْ قصدها؛ حتى قصر عنها العدو؛ لكثرة ما قُتل له عليها من خيل ورجال.

                          ولم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى كل يوم؛ تارة في أرض الفخار، وتارة في أرض بليانة، وتارة في أرض رسانة، وتارة في أرض طفير، وتارة في أرض يعمور، وتارة في أرض الجدوى، وتارة في أرض رملة أفلوم، وتارة في أرض الربيط، وتارة وادي منتثيل، وغير ذلك من المواضع التي على غرناطة، وفي كل ملحمة من هذه الملاحم يثخن كثير من أنجاد الفرسان بالجراحات من المسلمين، ويستشهد آخرون، ومن النصارى أضعاف ذلك، والمسلمون فوق ذلك صابرون محتسبون، واثقون بنصر الله تعالى، يقاتلون عدوهم بنية صادقة وقلوب صافية، ومع ذلك يمشي منهم الرجال في ظلام الليل لمحلة النصارى، ويتعرضون لهم في الطرقات، فيغنمون ما وجدوا من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم ورجال، وغير ذلك حتى صار اللحم بالبلد من كثرته: رطل بدرهم.

                          ومع ذلك لم تزل الحرب متصلة بين المسلمين والنصارى، والقتل والجراحات فاشيان في الفريقين سبعة أشهر، إلى أن فنيت خيل المسلمين بالقتل، ولم يبقَ منها إلا القليل، وفني -أيضًا- كثير من نجدة الرجال بالقتل والجراحات»[2].

                          إلاَّ أن البسالة وحدها لا تكفي في ظلِّ وضع كهذا؛ إذ المسلمون محاصرون داخل المدينة ولا يمكنهم الحصول على الإمدادات، فيما النصاري يحاصرونهم من الخارج، وخطوط الإمدادات مفتوحة من بلادهم، ولا سيما أن الحرب دفعت بكثير من الغرناطيين إلى الخروج من البلدة، بما انتهبها من الخوف والفزع، وتبعات الحرب المتواصلة، فظلت غرناطة تضعف شيئًا فشيئًا، ثم لما دخل فصل الشتاء ونزلت الثلوج أصابت طريق البشرة -الذي كانت الأطعمة تأتي عبره إلى غرناطة- فقل الطعام عند ذلك في أسواق المسلمين في غرناطة، واشتد الغلاء وأدرك الجوع كثيرًا من الناس وكثر السؤال.

                          تسليم غرناطة

                          وهنا لم يكن أمام الغرناطيين إلا التسليم بالأمان، فذهب جمع منهم إلى ملكهم محمد؛ طالبين منه أن يفاوض ملك قشتالة على التسليم بالأمان، وقد أورد صاحب نبذة العصر ما يُفيد بأن التسليم كان رغبة قائمة في نفس محمد الصغير من قبل، إلاَّ أنه خاف من العامة، فكان يُراسل ملك قشتالة سرًّا، ولهذا قطع ملك قشتالة الحرب فترة، وبقي على ما هو فيه من الحصار والتشديد، منتظرًا جهود محمد الصغير في إقناع العامة بالتسليم بالأمان، فلما أثمرت جهوده مع العامة، وذهب وفدهم إليه، سارع مستجيبًا لهم، ثم سارع مرسلاً وزراءه إلى ملك قشتالة، الذي سارع بدوره بالقبول[3].

                          ونحن نذهب إلى قبول هذه الرواية وترجيحها، لا سيما وأن سيرة ملك غرناطة وطبيعة وزرائه تدفعنا لإسائة الظن بهم، ثم وجدنا الأستاذ محمد عبد الله عنان يوافق هذه الرواية –بعدما كان يرتاب فيها- لما ظهر من وثائق فيما بعدُ؛ أفادت بأن مساعي كانت تُبْذَل في الخفاء لتحقيق ما يمكن من الضمانات والمغانم الخاصة لأبي عبد الله وأسرته ووزرائه، فعُقدت معاهدة سرية مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها، هذا بخلاف الأملاك التي كانوا يملكونها وتصرفوا فيها بالبيع، منذ بدأت الحوادث تتجهم في غرناطة[4].



                          واستقرَّ الأمر على تسليم غرناطة بالأمان، يروي المقري فيقول: «ثم عددوا مطالب وشروطًا، أرادوها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش؛ منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود... وكانت الشروط سبعة وستين؛ منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها: إقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم، ولا يغصبوا أحدًا، وأن لا يولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم... وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصًا أعيانًا نصَّ عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان، لا يلزمهم إلا الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن مَنْ تَنَصَّر من المسلمين يوقف أيامًا حتى يظهر حاله، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على مَنْ قَتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى، ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره»[5].


                          موسى بن أبي غسان

                          في رد فعل طبيعي وصريح له حيال ما حدث وقف موسى بن أبي غسان -رحمه الله- في قصر الحمراء وقال: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى (يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت)؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراه[6].

                          يُريد موسى بن أبي غسان أنه لن يرى كل هذا الذُّل، الذي سيحل بالبلاد جراء هذا التخاذل والتقاعس، وأنه اختار الموت الشريف، ثم غادر المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وامتطى جواده.

                          وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، وبمفرده يقابل موسى بن أبي غسان خمس عشرة رجلاً من النصارى، فيقتل معظمهم، ثم يُقتل هو في سبيل الله .[7]


                          [1] يقول الأستاذ عنان: «لم نعثر في المصادر العربية التي بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا في ذلك هو المؤرخ الإسباني كوندي، الذي يقول: إنه نقل روايته عن مصادر عربية. ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر، وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني -في رحلته- إلى من يُدعى موسى أخا السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة رحلة الوزير المنشورة بعناية معهد فرانكو ص13... وقصة موسى تشغل حيزًا كبيرًا في الروايات الإسبانية... ونحن ننقل هنا أقوال الرواية القشتالية عن موسى وفروسيته لا على أنها محققة من الناحية التاريخية، ولكن لأنها تقدم لنا صورًا رائعة لدفاع المسلمين عن دينهم ووطنهم وآخر قواعدهم». انتهى كلام الأستاذ عنان دولة الإسلام في الأندلس هامش 7/237، 238. والحقيقة أننا لا نتوقع أن تؤلف المصادر الإسبانية شخصية إسلامية تقود دفاعًا رائعًا عن غرناطة، بل الأقرب إلى التوقع أن توجد حركة صحوة ودفاع وجهاد قبيل فترة السقوط، وهي الحركة التي تُعَدُّ من طبائع الناس جميعًا، ولا شك أن ندرة المصادر العربية عن هذه الفترة تمثل عنصرًا سلبيًّا في مثل هذه اللحظات التاريخية، فلا نجد –لملء الفراغ- إلا أن نستنطق الرويات الأخرى ونستخدم التوقع والترجيح.
                          [2] مجهول: نبذة العصر ص117 وما بعدها.
                          [3] مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها.
                          [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242.
                          [5] المقري: نفح الطيب، 4/524- 527، وانظر: مجهول نبذة العصر ص119 وما بعدها، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/245 وما بعدها.
                          [6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/254، 255.
                          [7] المصدر السابق، 7/255، 256، وتنهي المصادر القشتالية حياة موسى بأنه انتحر، ونحن نستبعد هذا الاحتمال في سيرة مجاهد كهذه السيرة.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • سقوط غرناطة

                            سقوط غرناطة


                            كان مقتل موسى بن أبي غسان وتسليم أبو عبد الله محمد الثاني عشر غرناطة إيذانًا بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في غرناطة.


                            أعطى أبو عبد الله محمد الثاني عشر أو محمد الصغير الموافقة بالتسليم للملكين فرناندو الخامس وإيزابيلا، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضًا من الهدايا الخاصة[1]، وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين[2]، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس.[3]


                            خروج آخر ملوك المسلمين من الأندلس

                            وفي نكسة كبيرة وفي ظلِّ الذل والصغار يخرج أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير آخر ملوك المسلمين في غرناطة من القصر الملكي، ويسير بعيدًا في اتجاه بلدة أندرش[4]، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدَّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه «عائشة الحرة»: أجل؛ فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال[5].

                            وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل -الذي وقف عليه أبو عبد الله محمد الصغير- موجودًا في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكًا أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه[6].

                            وقد تم ذلك في الثاني من شهر ربيع الأول، سنة 897هـ= 2 من يناير سنة 1492م[7].

                            وقد هاجر بعدها أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب، ويذكر المقري أنه استقر بفاس، وبنى بها قصورًا على طراز الأندلس، وأن المقري نفسه قد تجوَّل في هذه القصور، ورأى ذريته في فاس سنة (1027م) يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين[8].

                            فلعنة الله على هذا الذُلِّ! ولعنة الله على هذا التَرْك للجهاد! اللذَيْن يوصلان إلى هذا المثوى وتلك المنزلة.

                            وما كان من أمر، فقد اندثرت حضارة ما عرفت أوربا مثلها من قبل؛ إنها حضارة الدنيا والدين، وقد انطوت صفحة عريضة خسر العالم أجمع بسببها الكثير والكثير، وقد ارتفع علم النصرانية فوق صرح الإسلام المغلوب، وأفل وإلى الآن نجم دولة الإسلام في بلاد الأندلس.

                            وليت شعري، أين موسى بن نصير؟!
                            أين طارق بن زياد؟!
                            أين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر؟!
                            أين المنصور بن أبي عامر؟!
                            أين يوسف بن تاشفين؟!
                            أين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟!
                            أين يعقوب المنصور الموحدي؟!
                            أين يعقوب المنصور المريني؟!
                            أين كل هؤلاء؟!
                            غابوا وانقطعت آثارهم وإمداداتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!

                            أسباب سقوط غرناطة

                            كانت عوامل انحدار وسقوط وضياع الأمم قد تشابهت إلى حدٍّ كبير في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، وهذه العوامل نفسها قد زادت وبشدَّة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسمًا؛ وكان من هذه العوامل ما يلي:
                            حب الدنيا والإغراق في الترف

                            كان الإغراق في الترف، والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها، والخنوع والدعة والميوعة، هي أولى العوامل التي أدَّت إلى تلك النهاية المؤلمة، وقد ارتبطت كثيرًا فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف؛ قال تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 11- 13].

                            وهكذا يا أهل غرناطة، أين ستذهبون؟ وإلى أين ستركضون؟ ارجعوا إلى قصر الحمراء، وارجعوا إلى مساكنكم وما أترفتم فيه، وسلموا هذه البلاد إلى النصارى، وتذوقوا الذُلَّ كما لم تعملوا للعزة وللكرامة!

                            ترك الجهاد في سبيل الله

                            وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف؛ فالجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة، وقد شرعه الله ليعيش المسلمون في عزَّة ويموتون في عزَّة، ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويُخلَّدون فيها.

                            وإن الناظر إلى عهد الأندلس ليتساءل: أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل عام، وبصفة مستمرة ودائمة؟! أين يوسف بن تاشفين، وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ وأين الحاجب المنصور؟ وأين عبد الرحمن الناصر وغيرهم؟

                            وإنها لعبرة وعظة حين ننظر إلى ملوك غرناطة، ومَنْ كان على شاكلتهم حين ذُلُّوا وأُهينو لَمَّا تركوا الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التوبة: 38- 39].

                            وقد يظن البعض أنه يجب على الملتزمين بالمنهج الإسلامي أن يضحوا بأرواحهم، ويظلوا يعيشون حياة الضنك والتعب والألم في الدنيا؛ وذلك حتى يصلوا إلى الآخرة، وإن حقيقة الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ لو عاش المسلمون الملتزمون بمنهج الإسلام على الجهاد لعاشوا في عزة ومجد، وفي سلطان ومُلك من الدنيا عريض، ثم لهم في الآخرة الجنة خالدين فيها بإذن الله.

                            الإسراف في المعاصي

                            يتبع العاملَيْن السابقين عامل الإسراف في المعاصي؛ فجيش المسلمين لا يُنصَر بالقوة ولا بالعدد والسلاح، لكنه يُنصر بالتقوى.

                            فإذا بعُد المسلمون عن دين ربهم، وإذا هجروا نهج رسولهم صلى الله عليه وسلم كُتب عليهم الهلكة والذلّة والصغار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ »[9].

                            وإذا كان هذا حال محقّرات الذنوب، تلك التي يستحقرها العبد من فرط هوانها، فلا تزال تجتمع عليه حتى تهلكه، فما البال وما الخطب بكبائر الذنوب من ترك الصلاة، والزنا، والتعامل بالربا، وشرب الخمور، والسب واللعن، وأكل المال الحرام، فأي نصر يُرجى ويُتَوقّع بعد هذا؟!

                            كانت هذه هي أهم عوامل السقوط في دولة الأندلس، وهناك غيرها الكثير مثل:
                            الفرقة والتشرذم


                            موالاة النصارى واليهود والمشركين

                            وقد قال تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120].

                            وقال تعالى: { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [التوبة: 10].

                            وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 51]. وآيات غيرها كثير.

                            توسيد الأمر لغير أهله

                            وكان ذلك واضحًا جدًّا خاصة في ولاية هشام بن الحكم، وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضًا ولاية جميع أبناء الأحمر في ولاية غرناطة.

                            الجهل بالدين

                            وقد وضح جيدًا قيمة العلم والعلماء في زمن عبد الله بن ياسين، وزمن الحَكم بن عبد الرحمن الناصر، وما حدث في عهدهما من قوَّة بعد هذا العلم، ووضح -أيضًا- أثر الجهل في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، حيث انتشر الجهل بين الناس، وسادت بينهم آراء ومعتقدات غريبة وعجيبة، كان من ذلك -أيضًا- ما حدث من الجهل بأمر الشورى، وهو أصل من الأصول التي يجب أن يحكم بها المسلمون، وكيف اعتدُّوا بآرائهم، وكيف قبل الناس ذلك منهم؟!

                            ومثل ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لإشبيلية، وقد تبعه الناس في ذلك؛ ظنًا منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة، وأيُّ جهل بالدين أكثر من هذا؟!


                            [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/257.
                            [2] المصدر السابق، 7/260.
                            [3]
                            [4] وهي البلدة التي كان قد قرر الإقامة فيها، أو أراد له فرناندو ذلك، انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/264.
                            [5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/267.
                            [6] المصدر السابق، 7/267.
                            [7] نبذة العصر، ص 125، والمقري: نفح الطيب، 4/525، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/258- 267.
                            [8] المقري: نفح الطيب، 4/529.
                            [9] أحمد 3818، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والطبراني: المعجم الكبير 5/449، والبيهقي: شعب الإيمان 7017، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع 2687.


                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة

                              مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة

                              كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها -بعد أن ترك أبو عبد الله محمد الثاني عشر البلاد- لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكَّروا لكلامهم والتزامهم بالحفاظ على الحريات الدينية في غرناطة، وحماية الأماكن المقدسة للمسلمين، وما إلى ذلك مما ورد في شروط تسليم المدينة، فقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم؛ وكان ذلك مصداق قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 8].

                              وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة (1501م) أصدر الملكان فرناندو الخامس وإيزابيلا أمرًا كان خلاصته أنه لَمَّا كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة (المسلمين)، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم؛ خوفًا من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين تنصروا لئلاَّ يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو بمصادرة الأموال[1].

                              ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور؛ كان منها:
                              التنصير



                              ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الإسبان، تَنَصَّر من المسلمين بعضهم[2]، وهؤلاء لم يرتضِ لهم النصارى الإسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمَّوْهم بالمورسكيين؛ احتقارًا لهم، وتصغيرًا من شأنهم، فلم يكن المورسكي نصرانيًّا من الدرجة الأولى؛ لكنه كان تصغيرًا لهذا النصراني الأصيل[3].


                              وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرِّخ ديوان التحقيق الإسباني وثيقة من أغرب الوثائق القضائية؛ تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين في تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد في تلك الوثيقة الغريبة:

                              « يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام: إذا امتدح دين محمد، أو قال: إن يسوع المسيح ليس إلهًا، وليس إلا رسولاً. أو أنَّ صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يُبَلِّغَ عن ذلك، ويجب عليه -أيضًا- أن يُبَلِّغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحدًا من الموريسكيين يُباشر بعض العادات الإسلامية؛ ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثيابًا أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يُعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان، ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر -السحور- أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة؛ بأن يُوَجِّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد، ويتلو سورًا من القرآن، أو أن يتزوج طبقًا لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يُقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب - الحناء - في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيده على رءوس أولاده أو غيرهم؛ تنفيذًا لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكرٍ، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة واصفًا إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصَّر إيمانًا بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله؛ لأنهم ماتوا مسلمين... إلخ[4].

                              التهجير



                              لم تخل البلاد الإسلامية من ثورات شعبية ومواجهات محدودة الإمكانيات بمنطق «حرب العصابات»، وكان المجاهدون يختبئون في الجبال والأودية والمناطق البعيدة، ثم يشنُّون غاراتهم على القوات الإسبانية، وقد نجحوا كثيرًا في إنزال خسائر مؤثرة بالإسبان، وقد اشتدت هذه الحركات لا سيما بعد قرار التنصير الذي اعتمدته إسبانيا، فزاد عدد الثائرين والمنحازين للمجاهدين، وقد عزم الإسبان في البداية على القضاء على الثوار، إلا أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، فلما يئسوا من القضاء عليهم، أصدروا عفوا عامًّا عنهم، وسمحوا لهم بالهجرة إلى بلاد المغرب، دون أن يأخذوا معهم غير الثياب التي كانت عليهم، أما الباقون فقد كان ثمة أمر ملكي بمنع الهجرة، ثم صدر الأمر بعد ذلك عام (1609م) -أي بعد مائة سنة تقريبًا- بنفي الموريسكيين[5].



                              [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/324.
                              [2] انظر: نبذة العصر، ص130، والمقري: نفح الطيب، 4/527.
                              [3] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/322، 326، 345.
                              [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/346.
                              [5] مجهول: نبذة العصر، ص132، والمقري: نفح الطيب، 4/527، 528، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/345.

                              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                              تعليق


                              • محاكم التفتيش

                                محاكم التفتيش


                                هدف الإسبان إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأشد وسائل العنف، ولم تكن العهود التي قُطعت للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية، التي أسبغت على السياسة الإسبانية الغادرة ثوب الدين والورع، ولما رفض المسلمون عقائد النصارى ودينهم المنحرف، وامتنعوا عنه وكافحوه، اعتبرهم نصارى الإسبان ثوارًا وعملاء لجهات خارجية في المغرب والقاهرة والقسطنطينية، وبدأ القتل فيهم، وجاهد المسلمون ببسالة في غرناطة والبيازين والبشرات، فمُزِّقُوا بلا رأفة ولا شفقة ولا رحمة[1].

                                لم يقف الأمر عند حدِّ التهجير والتنصير، وإنما أعقب ذلك أن قام الكردينال الإسباني كمينس -وكان صليبيًّا حاقدًا- بحرق ثمانين ألف كتاب جُمعت من غرناطة وأرباضها في يوم واحد[2].
                                ثم أنشأ الإسبان بعد ذلك ما سُمِّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادَّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام.

                                إبادة ا لمسلمين في الأندلس



                                كان الصليبيون الحاقدون إذا وجدوا رجلاً يدَّعي النصرانية ويُخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفًا، أو يجدوه يُصَلِّي، أو كان لا يشرب خمرًا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابًا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخًا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل، ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيًا، وأيضًا أحواض يُقَيَّد فيها الرجل، ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت، وكانوا -أيضًا- يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.


                                كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا إسبانيا بعد ذلك، وقد صوَّروها في كتاباتهم، وعبَّروا عن شناعتها بأنهم كانوا يُصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذَّب بها بشر، وقد كان يُعذَّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله! [3].

                                ومما يُذكر.. أن هناك عذابًا اختص به النساء العنيدات اللائي كن يشتمن رجال المحكمة؛ وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويُجلسونها على قبر من القبور، يضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها، وهي على هذه الحالة السيئة، ولا يمكنها الحراك، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية، ويرخون شعرها فيجللها، وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنِّـيَّة، لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتُترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجنَّ، أو تموت جوعًا ورعبًا[4].

                                لقد قام النصارى بإجبار المسلمين على الدخول في دينهم، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ فيها من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. إلا مَنْ يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعذورين! لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل نارًا، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرًا، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ومَنْ فعل ذلك عوقب بأشدِّ العقاب، فيا لها من فجيعة ما أمرَّها! ومصيبة ما أعظمها! وطامة ما أكبرها![5].



                                لقد كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب، كانت تلك المحاكم والدواوين تلاحق المسلمين؛ حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان، فإذا عُلم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكم بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابسًا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام، لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين؛ حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم فإذا وجدوه مختونًا، أو كان أحد عائلته كذلك؛ فيعلم أنه الموت ونهايته هو وأسرته[6].


                                وكان دستور ديوان التحقيق (الاسم الرسمي لمحاكم التفتيش) يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو نبش قبورهم وتستخرج رفاتهم؛ لتحرق في موكب «الأوتودافي»، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولي الوظائف العامة وامتهان بعض المهن الخاصة[7].

                                وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى إسبانيا وأصدر مرسومًا سنة (1808م) بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية.


                                [1] على الصلابي: دولة الموحدين، ص209.
                                [2] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص98، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/316.
                                [3] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص109-113.
                                [4] علي مظهر: محاكم التفتيش، ص98.
                                [5] مجهول: نبذة العصر، ص130، 131.
                                [6] الصلابي: دولة الموحدين، ص211.
                                [7] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/338.

                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X