إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

النفس و الروح

تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عبده النحال
    رد

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    ...........................يتبع................... .............

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    توضيح للمسلَّمة الخامسة:
    ـ قلنا إن المصنوع لا يمكن أن يماثل الصانع. ولو خلق الله من يماثله لصار إلهاً مثله، ولو وجد إله مثله سيحدث التنازع في الكون، كما يحدث في الممالك بين الأب والأبناء لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‌(الأنبياء/22). ما اتخذَ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهبَ كلُّ إله بما خلقَ ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون(المؤمنون/91). بمنطق العقل والحكمة ينفي الله ما قد يظنه بعض الناس، من وجود صاحبة أو ولد أو إله آخر أو مثيل لله، فهو الذي لا مثيل لـه والذي لا تحدّه الصفات ولا الأسماء وإن عرفنا بعض ما عرّفنا به، وكيف سنعرف الله حق المعرفة ونحن لا نكاد نعرف أنفسنا. لهذا قال الشيخ محيي الدين بن عربي في عبارة جامعة "لو علمته لم يكن هو، ولو جهلك لم تكن أنت"(2). فلا يعرف الله غير الله، ومثل هذه المعرفة لا سبيل إليها إلا على وجه التقريب لا الإحاطة. وكما قال أبو بكر الصديق "العجز عن درك الإدراك إدراك". فلنتوقف ولا نطلق العنان لعقولنا في المعروف الذي لا يعرف.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    توضيح للبديهية الرابعة:
    لقد استنتجنا بأن الصانع لابدَّ أن يملك كل العناصر اللازمة لما يريد أن يصنعه، لأن فاقد الشيء لا يستطيع أن يعطيه. وبما أن الإنسان، وهو من أكمل إبداعات الصانع، يتميّز إضافة لامتلاكه للحواس بامتلاكه للعقل، فإن من صنع الإنسان لابدَّ أن يملك عقلاً أكبر من عقله وحواساً أعظم من حواسه لكي يصنعه. وإذا كان الماديون يقولون بأن المادة صنعت الإنسان، أو هو نتيجة من نتائج تفاعلاتها، وليس الله، فإنهم سيكونون بذلك قد جعلوا للمادة عقلاً وحواساً. والعاقل لا يصنع ما لا يريد. ولا يصنع بالصدفة، ولا يصنع دون غاية. وإذا كانوا قد جعلوا للمادة كل هذه الصفات وقبلوا بها، فإنهم يكونون قد جعلوا المادة إلهاً، والخلاف معهم قد انتهى، وإن بقي على المسمى الله، لا على مضمون الاسم. فليعبدوا عقل المادة، الذي ليس هو المادة كما يقررون، وكما نقول. وكما قال الغزالي لهم "الطبيعة ما معناها فلا تخلو أن تكون جماداً أو حياً. فإن كان جماداً كان القول فيه ـ الجماد لا يوصف بالفاعل ـ وإن كان حياً قلنا هذا الحي لا يخلو أن يكون لـه فاعل أو لا فاعل له. فإن قيل لـه فاعل آخر، فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث. وإن كانت الطبيعة حية لا فاعل لها ولا علّة، فهي الإله، فأسقطوا لفظة الطبيعة وقولوا إله فهو الذي نريد بيانه، فإن حوادث لا أولية لها محال إلا إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف، فلابد من استناد الحوادث إلى مبدأ لا علة لـه وليس بمعلول أصلاً"(1). ولكن لماذا إذا كانت الطاقة والمادة أزليتان وهما وجهان لحقيقة واحدة، فلماذا تمَّ في الأديان تقديس العقل الكوني بينما أهملت المادة؟ في الحقيقة إن المادة لم تهمل كلياً في الأديان، فالتوجه نحو الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب في الأديان هو اعتراف رمزي بمكانة المادة من حيث إنها أم تقوم بدور الكشف عن إبداع العقل الكوني الساري في كل ذرات الوجود. فالعقل الكوني ليس لـه مكان محدّد، كما إن العقل الإنساني ليس لـه مكان محدد. والعقل لا يمكن أن يظهر إلا من خلال تأثيره في المادة وإبداعه فيها. ولهذا قال الرسول  لأصحابه حين سئل عن مكان الله [إن أهل السماء يطلبونه كما تطلبونه أنتم].
    فالعقل هو أنوار المعرفة، طاقة فاعلة غير مرئية لعالم المثال الكامن في الذات والذي لا يظهر إلا في المادة حين تلبس الأفكار ثوب الطبيعة، وتظهر للحواس بأزيائها المتنوعة، وأشكالها المذهلة. فالمادة ثوب للفكرة لابدَّ منه، ولكن دون الفكرة ستظل مادة لا قيمة لها. وقد تكررت إشارات القرآن إلى خلق الإنسان من طين، وإلى ما يسميه العلماء الانفجار الكوني، وهي إشارات إلى أزلية المادة الكونية، وإبداع الخالق فيها، وبأن الإبداع الإلهي لم يكن في العدم، وإنما في المادة القابلة للتشكل وفقاً لإرادة العقل الحاكم عليها. لقد قال الله تعالى مبيناً وفي بيانه القول الفصل ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(المؤمنون/12) وقال: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول لـه كن فيكون(النحل/40). والشيء هو وجود كما قال الشيخ محيي الدين بن عربي، أي مادة تسمع الأمر وإلا لن يكون الأمر مفيداً أو مؤثراً. ولكن كيف تسمع هل بالأذن، فهذا ما يجب أن نتأمله كلما تعمقنا في فهم آيات القرآن؟. لقد بيّن الله أن عملية إبداع الإنسان اقتضت عدّة مراحل إلى حين خلقه. وإن هذا يقتضي منا أن نفهم بأن الأمر التكويني للمادة يتطلب وقتاً مع الأخذ بالأسباب لإنجاز كل إبداع إلهي. والأمر التكويني هو استخدام للأسباب بالطريقة الملائمة. فنحن مثلاً نكلّم المصباح الكهربائي حين نريد إشعاله أو إطفاءه بالضغط على القاطع المخصص لهذا الغرض. ونكلّم باب منزلنا ليفتح بالمفتاح. وهكذا تسمع كل الصناعات البشرية أمر الإنسان وتطيعه. وهذا مثال لما يقتضيه توسيع مفاهيمنا ونحن نقرأ القرآن لكي نفهمه. وفي إشارة إلى أزلية المادة وإبداع الله فيها بالأسباب قال: أوَلم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون(الأنبياء/30). السموات والأرض، المادة، عناصر الخلق، كانتا في الأزل. ولكن الصانع هو العقل الكوني، الذي لابدَّ أن يكون مهيمناً على المادة الكونية حتّى لا يختل نظامها. وإن كل كائن حي يحتاج إلى عقل مواز لجسده للقيام بدوره في الحياة من البعوضة إلى الإنسان. وعندما يفقد هذا العقل القدرة على توجيه الجسد سيحدث الخلل والدمار للكائن. فكيف تسير آلاف المجرّات وملايين النجوم بنظام مذهل، ونحن نرفض أن نترك حركة سير السيارات لرغبة السائقين العقلاء لأن بعضهم قد يخالف القوانين ويسبب الحوادث. هذا يدلّنا بأن حركة الكون لا يمكن أن تكون عشوائية. وإذا نظرنا إلى أنفسنا وما فينا من القدرات سندرك بأننا لم نمنح ما منحنا من العقل والحواس من صانع لا يملك ما منحنا إياه. ولكن مشاهدة هذا العقل غير ممكنة كما قلنا، وما يشهد منه هو الآثار، الإبداع، المبدَعُ يدلُّ على المبدع، والصنعة تدلّ على الصانع. فبه عرفناه. ونحن الأقرب إليه، وإلا ما كان سخر لنا السموات والأرض، لأن الحكيم لا يسخر الأعلى للأدنى، وإنما يسخر الأدنى للأعلى، ولا يسخر الأقرب إليه للأبعد، بل الأبعد للأقرب، والإنسان هو الأعلى والأقرب، إلا من ابتعد وانحدر عن أصله بجهله وهوى نفسه.
    فنحن صورة صنعه الأكمل على الأرض، ومن أجلنا تتابعت الحوادث، وتم خلق السموات والأرض، فظهر نور الذات، وعالم المثال حين ظهر سر العقل المكنون مكتوباً على الطين. سأل أبو ذر الرسول  [هل رأيت ربك ـ قال: نور أنى أراه](مسلم ـ 178/ج3). فعرفناه بالآثار. قال الله ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير(لقمان/20). إن تسخير الكون للإنسان لابدَّ أن يكون لمكانة الإنسان العظيمة عند الله. وقد ورد في الحديث ما يؤكد هذه الحقيقة. قال: [لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وفي لفظ على صورة الرحمن](كنز العمال ـ 1148/ح1). فالإنسان هو الصورة الأكمل في الوجود والأقرب إلى الله من كل قريب ظاهراً وباطناً، بقابلية الإنسان لحمل الأسماء الإلهية، وتخلقه بها، ولهذا سماه خليفة، وأسجد لـه الملائكة، وهداه إلى طريق الشريعة، لكي يذوق طعم خلافة الله في الأرض، لا خلافة الأنصاب والأزلام والأموال. فحشد الله في الإنسان كنوز معرفته، وقال لـه إظهر باسمي لأن المخلوقات لا تطيق شهودي، ولا تعرفني إلا بالحواس، وأنت لن تعرفني إلا إذا نظرت إلي بقبضة نوري التي غرستها بيدي في جنّة قلبك، فابحث عنها حتّى تراني على حقيقتي، وتدرك بأنك عاجز عن رؤيتي. وحين ستصبح في حيرة من أمرك بما تشهد من كبريائي وعظمتي ستعرف سر قدرتي. وعندها ستعود إلي طالباً القرب في المكان، حتّى تجلس في مجلس ليس فيه قرب ولا بعد، إذ ستضيق بك السموات والأرض كما ضاقت بي، وسيسعك قلبي، كما وسعني قلب الإنسان العبد. وعندها لن تطلبني في السماء ولا في الأرض، لأنك ستعرف من أنت وستعرفني، فادخل إليّ من باب أسمائي، واشهد صفاتي، واعلم أن اسمك الأكمل هو مرآتي.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    حوار العقل ومسلماته
    لقد قلنا في البديهية الأولى "إن كل وجود محدث لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه" فالإنسان مثلاً كصانع لا يستطيع أن يصنع البيت والطائرة إلا من مواد الأرض السابقة على وجود البيت والطائرة. ولكن أليس كل وجود بالقياس إلى الوجود السابق عليه هو محدث وأين ينتهي تسلسل المحدثات في الوجود ليبدأ الوجود الأصيل أو الأصل. وأين كان الوجود الأصل؟.
    إن أمامنا ثلاث فرضيات لا يوجد سواها للاستدلال على حقيقة الأصل إذا كنا نقصد بالأصل العناصر المادية في المحدثات أو المادة.
    الاحتمال الأول: العدم سبق المادة ثمَّ انبثقت منه، فظهرت المادة ولم تكن موجودة قبل ذلك.
    الاحتمال الثاني: إن المادة لم تكن، ثمَّ صنعها الصانع من لا شيء.
    الاحتمال الثالث: إن المادة موجودة أزلاً ولا بداية لوجودها كما أنه لا نهاية لوجودها. فهي أزلية أبدية.
    الاحتمال الأول: غير ممكن لأن ما لا وجود لـه لا يمكن أن يوجد. فكيف إذا كان العدم موجده. وهل يستطيع العدم أن يوجد نفسه ليوجد غيره. فلو سبق العدم والخلاء الوجود لما كان ثمَّة وجود، وما لم يكن أزلاً لن يكون، ولن يتكون. إذاً المادة قديمة وأزلية، والخلاء موجود أو العدم خارج حدود الوجود. والعقل يدلّنا بداهة بأن الوجود لا يصبح عدماً، وإن كل خبرات العلماء لا تستطيع أن تحول ذرة واحدة من ذرات الوجود إلى عدم، كما أنهم لا يستطيعون إيجاد ذرة واحدة من عدم. فما هو موجود في الأزل سيبقى موجوداً في الأبد، وما هو عدم في الأزل سيظل عدماً في الأبد.
    الاحتمال الثاني: لا يصح لأن الإيجاد من العدم هو إيجاد مما لا وجود لـه فهل يصح الإيجاد مما لا وجود له؟. وهذا يحيلنا إلى حوار الفلاسفة الذين طرحوا السؤال هل الفكر سبق المادة أم المادة سبقت الفكر، أو أيهما سبق الآخر في الوجود البيضة أم الدجاجة. وظل الفلاسفة في أخذ ورد إلى وقتنا الحاضر بين المثاليين الذين بدا لهم أن الفكر أو الصانع هو الذي أوجد المادة، بينما ردّ الماديون بأن المادة سبقت الفكر وإن الفكر انبثق منها. فجعلوا المادة صانعة للعقل وصانعة للإنسان. وقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء. وإذا كانت البداهة تدلّنا بأن الفكر هو أثر من آثار المادة فهذا لا يعني السبق في الوجود. إذ المادة والفكر متلازمان ولا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر، ولكن كما نعرف من حالتنا الإنسانية، ومن مراقبتنا لعالم الكائنات الحيّة كلها، ندرك بأن العقل هو الذي يحكم المادة، ويتحكّم بها. فعقلنا هو الذي يحكم أجسامنا ويتحكّم في تصرفاتنا، وهذا العقل كان كامناً منذ اللحظة الأولى في خليتنا الأولى، بل قبل ذلك. كما هو شأن حواسنا والباقي من أعضائنا. كما إن لمادة الجسد برنامجها الخاص الذي لا دور للعقل في السيطرة عليه أو التأثير فيه، فنبضات القلب وعمل أعضاء الجسم أثناء اليقظة والنوم ليس للعقل أي دور فيه أو سلطة عليه. إن العقل يقوم بدور المرشد والمسيطر على تصرفات الجسد ويرد على رسائل الغرائز ولكنه لا يملك التأثير إلا نسبياً في برنامج عمل الأعضاء. وهكذا يتبين أن المادة والعقل يتعاونان منذ اللحظة الأولى في وجود كل كائن حي. وسوف نبين دور العقل والغرائز أو المادة الجسدية في كل مرحلة في فصل خاص بالموضوع. ولكن ما نعرفه هو، أن المادة لم تخلق العقل، بمعنى أنها سابقة لـه في الوجود، إذ لا يمكن مشاهدة البيضة خالية من روح الدجاجة، ولا البذرة خالية من برنامج الشجرة وروحها، إذ هما متلازمان. كما لا يمكن رؤية الكون منفصلاً عن عقل المكوِّن. إذ كيف ستنشأ علاقة بين مادة ميتة وخالق لا علاقة لـه في الأصل بهذه المادة. وكيف سيكون بالإمكان صنع ما لا وجود لـه من عدم. والعدم لا وجود، فهل يمكن إيجاد الوجود من العدم. ما الذي نتوصل إليه من هذا البحث. هل الصانع هو المادة؟ إننا نطرح هذا السؤال لكي لا يضيع الباحث عن الحقيقة وراء أوهام صنعتها الفلسفات، وأحياناً المعتقدات. فالموجودات أزلاً هي مادة وطاقة، مادة وعقل لا ينفصلان ولم يسبق أحدهما الآخر في الوجود، لأنهما عبارة عن وجهين لحقيقة واحدة، وهي حقيقة العالم. وإن حقيقة المادة الكلية في الوجود تقتضي بالمقابل وجود عقل كلّي كوني على موازاتها للتحكّم بها، وإيجاد ما نراه، وهذا لا يتناقض مع وجود الكائنات. فالإنسان لـه حواس ولكل ذرة في جسمه عقلها الخاص بها الذي ترسل من خلاله الرسائل إلى العقل عندما تتألم أو تشتكي أو يجوع الجسم أو تتأثر العين أو الأذن، ومع ذلك العقول الجزئية لا تحول دون وجود العقل الإنساني المستقل بوجوده، والمتعالي بحقيقته على الجسد بما يملكه من خبرة ومعرفة وتقدير لمصلحة الجسد، وإن كان العقل في جسد الإنسان ويسير معه حيث سار. إنها صفاتنا المتعددة التي نحملها في طيّات نوعنا الواحد الملقب بالإنسان. إنه التنوع في الحقيقة الواحدة. هذا التنوع قد يوهم بالتعدد، نتيجة للحيرة التي يثيرها إبداع العقل في الكون، مع أن حقيقة المادة والروح والعقل مترابطان. وبما أن المادة لا تزيد ولا تنقص نظرياً لأنها لا تفني ولا يستطيع العدم أن يضيف إليها شيئاً، فإن من الطبيعي أن يكون العقل الكوني غير قابل للزيادة والنقصان. وبما أنهما أزليان فسيكونان بحكم النتيجة أبديين، لا نهاية لهما. وهكذا نستطيع أن نستنتج بأن الاحتمال الثالث الذي توصلنا إليه هو الصحيح.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    محاولة ثانية للمعرفة بالعقل
    علينا أن نعترف بأنه لا خيار أمامنا للدخول إلى بحر أسئلتنا الإنسانية إلا في سفينة العقل أولاً. فالعقل الذي يبدع ويعرف ويتعلم، ويصبح موضوعاً لمعرفة نفسه وغيره، لن يكون عاجزاً إلى هذا الحد، حتّى لو كانت الأجوبة ليست بحوزته، كما هي الأسئلة التي يثيرها. ولهذا سنحاول أن نتلمس الطريق لإيجاد الأجوبة الممكنة على الأسئلة المقلقة التي ستكون مؤثرة في تحديد سلوكنا ومصيرنا. والسؤال الحاسم الذي سنحاول أن نجد الجواب عليه هو من أين جاء العقل الذي سنعرف به ما نريد، والحواس التي تقوم بدور المساعد للعقل؟ إذا عرفنا الجواب بشكل يقيني فإننا سنتوصل إلى القرار الصائب في تقرير ما يجب علينا. وإذا فشلنا في إيجاد الجواب فسوف يستمر البحث عن معنى الحياة، لأن البحث عن المعنى ضرورة إنسانية، يثيرها العقل، وإن لم يطفئ لظاها دائماً. فمن نحن، ومن أين جئنا؟
    1 ـ إن البديهية الأولى التي لا خلاف عليها تدل بأننا أتينا من الوجود، لأن كل وجود محدث في تكوينه ومضمونه لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه.
    2 ـ البديهية الثانية هي: إن كل من لا يستطيع أن يصنع نفسه لابدَّ لـه من صانع، وبما أننا لم نصنع أنفسنا فلابد لنا من صانع.
    3 ـ إن كل صانع لابدَّ لـه من علم وإرادة ومواد لصنع المصنوع لكي يكون المصنوع مطابقاً لعلم الصانع فيما يريد صنعه. فلابد من الإرادة والعلم، لكي لا يخرج المصنوع عمَّا يريده الصانع، ولكي لا يكون مخالفاً لإرادته.
    4 ـ إن كل الصفات الموجودة فينا من عقل وحواس وألوان وعناصر لابدَّ أن تكون موجودة لدى الصانع. لأن الصانع إذا افتقر إلى أي عنصر من العناصر الموجودة في الإنسان لن يستطيع أن يعطيه للإنسان وإن أراد. فالمفتقر إلى شيء كيف سيعطيه لغيره. وقد حكمت الحكمة "أن فاقد الشيء لا يعطيه".
    5 ـ إن من البديهي أن نقرر بأن الصانع لا يمكن أن يماثل المصنوع، وكيف يماثله وهو صورة من صور إبداعه، وتجل من تجليات علمه. ولكن كل مصنوع لابدَّ أن يحمل صورة من علم صانعه. وإن تنوع الصناعات تدل على تنوع علم الصانع.
    6 ـ إن كل صانع لابدَّ أن تكون لـه غاية مما يصنع. والغاية إما أن تكون نفسية أو جسدية أو عقلية أو روحية.
    7 ـ إن كل صانع لكي يحقق الغاية مما يصنع لابدَّ لـه من السيطرة الدائمة على مصنوعاته بحيث لا تخرج عمَّا يريد دائماً وأبداً.
    8 ـ إن المصنوعات الكثيرة في الوجود وتسخيرها لمصلحة الإنسان تدل بأن الصانع هو واحد أحد. وما يكتشفه العلماء عن طبيعة النظام الكوني الواحد، يدل بأن المنظم واحد أيضاً، فلو وجد أكثر من خالق فإن نظام العالم لن يكون مترابطاً ولن يكون واحداً.
    9 ـ إن من صنع المصنوعات الظاهرة في الوجود لابدَّ أن يكون قد سبقها في الوجود. ولكن أين كان قبل أن يصنع ما صنع. هل كان في الوجود أم خارج الوجود؟ ولكن إذا قبلنا بأسبقية الصانع للمصنوع وجوداً. فكيف ستؤثر القدرة في صنع ما ليس لـه وجود أصلاً؟
    10 ـ بما أن الصانع قد سبق وجوده كل المحدثات في الوجود فلا يصح أن يكون لـه علم من غير ذاته. ولا يصح أن يتجدد لـه العلم أو يزداد أو ينقص وليس ثمَّة معلّم ولا عالم سواه، ولكن يصح أن نقول بأن علمه قديم وصنعه محدث في المحدث كما تدلنا الحوادث الكونية. فالمشيئة تتجدّد وتُجدد، والعلم قديم. فهو فعّال لما يريد بالإرادة وكما يريد بالعلم، والعلم مقرون بالأسباب والمسببات.
    11 ـ إن كل ما ظهر في المحدثات من صفات وعناصر وما سيظهر لابدَّ أن يوجد في القديم.
    ـ إن هذه البديهيات التي تدلنا على بعض صفات الصانع مما نشهده، والتي نستقيها من عقولنا ومعرفتنا بنفوسنا وخبرتنا بأحوالنا، بقياسنا الحاضر على الغائب، والمصنوع على الصانع، والمتكوّن على المكوّن، والمحدث على القديم، ستساعدنا في معرفة الحقيقة. ولكن بعض هذه البديهيات تحتاج إلى توضيح.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    السؤال ومعه وعنده في الحيرة التي أغلقت كل الطرق أمامه وسرقت منه معنى الحياة. ولما ضاع المعنى غاب الطعم، لأن الإنسان لم يتمكن ولن يستطيع أن يكون بقرة، ولن يستطيع أن ينتمي إلى أسلافه الذين تقول الداروينية إنه منهم، ولن يستطيع أن يكون مجرّد ثعلب ماكر، أو أسد هصور يبحث عن الضحايا والدم. ولن يستطيع أن يكون نملة خبيرة بمواسم الحصاد وأسلوب العيش. إنه فوق كل هذا العالم الذي ينمو لكي ينمو، فلا أحد، ولا مخلوق يختار الموت طواعية من أجل المعنى، ولا مخلوق يملأ العالم شعراً وبلاغة مثل الإنسان، ولا أحد يخلق من توترات قلبه هذا الكم الهائل من الأصوات والأنغام والفنون غير الإنسان، فأين العلاقة بينه وبين غيره من المخلوقات؟ فكيف تزج به الحضارة المعاصرة في طريق الانحدار، وتسدّ عليه أبواب إنسانيته، أبواب انتسابه إلى مجد سامٍ أكبر من التراب، ومخلوقات التراب. أليس هو الكلمة والمعنى والجوهر والجمال، فهل يخدع نفسه، وإن خدعته الفلسفة؟ ولكن ما هو الحل؟ ولماذا لا يسعفه العقل، ولماذا لا يجيبه من خلقه كي يطمئن إلى أنه ليس صدفة من صدف الطبيعة؟... فهل سيتحطم الصمت، ويُكشف عن الحلم الجميل المتواري في أعماق الوجود؟ وهل سيتمكن العقل الذي اخترع هذه الأسئلة المجبولة بدمه ومصيره ومستقبله ومعنى وجوده من الإجابة عليها؟. هذه الأسئلة الحميمة التي لم توجد ولم تظهر إلا بوجود عقل الإنسان، هل ستكون طوق نجاته، أم ستكون كما اكتشف العقل العلمي المادي أداة قتله وتحطيمه ودافعه إلى الانتحار. وإذا كان لا يوجد أي سرٍ آخر غير الطبيعة والإنسان، فهل يوجد سر آخر وراء الطبيعة والإنسان؟ ـ وهل ستنجح مغامراتنا العقلية في الكشف عن هذا السر بعد فشل الآخرين؟.
    لقد فشل العقل في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى التي طرحها وشهد على فشله، كما تبيَّن لنا، الفلاسفة المعاصرون بشكل شبه جماعي. ولم يعد أمام الإنسان إذا كانت هذه كل أدواته المعرفية إلا أن يعترف بالعجز، وأن يقبل بالهزيمة، وأن لا يعود للتفكير بلغز وجوده المحيّر، وأن يقبل بتواضع مصيره، ومقارنته بأي حشرة، تسعى للبقاء، وتعرف كيف تدافع عن مصيرها، وتنعم بقدرها حتّى النهاية دون أن تطرح أي أسئلة. وسواء أثبت العلم أو عجز عن الإثبات بأن الإنسان انحدر من سلالة القرود، وسواء وافق الإنسان على هذا الانتساب أم لم يوافق، فعليه أن لا ينزعج من هذا الانتساب؛ ما دام لا يوجد أي فرق بين الإنسان والحيوانات إلا هذا العقل الذي يتيح لـه أكثر من غيره أن يبتكر طرقاً للبقاء والهرب من الموت لا تعرفها الحيوانات. فهو سيد في هذا المجال. وهو سيد حتّى على أسود الغابة، فهو يعرف فنون القتل أكثر منها. ويهاجم أبناء جنسه ويقتلهم ليسرق منهم ثرواتهم وطعامهم وعرق جبينهم رغبة في الثراء، وهذا ما لا تفعله الحيوانات إلا إذا جاعت. ولكن ليس مع أبناء جنسها، فهي أرحم بنوعها من الإنسان. وهو يستطيع أن ينصب الكمائن والفخاخ لأقوى الأسود، ويستطيع أن يقبض عليها، وأن يزج بها في حديقة الحيوانات كي يجعلها مجرّد لعبة من ألعابه. إنه الأقوى والأعظم على ساحة الحياة، وما عليه إلا أن يكون الأقوى بين أقرانه لكي يكون الأعظم. فلماذا القلق إذا كانت عناصر القوة التي يملكها قد توَّجته ملكاً على الأرض، وجعلته الوحش الأكبر في سلالة الحيوانات التي ينتمي إليها؟. لماذا لا يقنع بهذا المصير الذي يتمناه أخطر وحوش الغابة، ما دام هذا العقل قد هيّأ لنا أن نطلق النار من بعيد على ما نريد أن نصطاده دون أي تعب حقيقي؟. ترى لو أتيح للأسود أن تخترع سلاحاً للصيد مثل بندقيتنا، كم ستشعر بالزهو والراحة، فلماذا لا نرضى بكل وسائل الرفاهية التي ابتكرناها ونطفئ لهب الأسئلة المحرقة التي يثيرها العقل؟ فهل نحن من طبيعة مختلفة، بسبب هذه الأسئلة التي يطرحها العقل دون أن يجيب عليها؟ هل عند هذه الأفكار، والبحث عن المعنى انقسم الوجود إلى عالمين، العالم كله في جانب، والإنسان على الجانب الآخر,. هل عند هذه النقطة، الكلمة المعنى، حصل الفراق بين الطبيعة والإنسان، فلم يعد الإنسان طبيعة، وإن بقيت الطبيعة على حالها لم تتغيّر؟ ولكن ما هو المعنى؟... وكيف سنعرف المعنى؟.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    الطريق المسدود أمام المعرفة
    ولكن هل هذه هي أدوات المعرفة الوحيدة التي يملكها الإنسان؟ وكيف سنحدّد موقفنا من أفكار المثاليين والماديين إذا كانت سبل المعرفة مغلقة إلا عن طريق العقل والحواس والغرائز، وهي كما تبيّن لنا لم توصل الفلاسفة الذين سبقونا إلى الحقيقة، فكيف ستوصلنا نحن؟. ألا يصبح البحث عن الحقيقة إذا كنا لا نملك غير هذه الأدوات المعرفية عبثاً، وتضيِّيعاً للوقت والجهد؟. منذ القديم وصَّل بعض الناس إلى اليأس من الوصول إلى الحقيقة اليقينية، فكانت النتيجة أن "جاء السوفسطائيون فاحترفوا الجدل والخطابة، وجعلوا من الفلسفة ضرباً من التلاعب اللفظي الذي يعين صاحبه على تأييد القول الواحد ونقيضه على السواء. ولم تلبث النزعة الشكية أن تطرقت إلى الفلسفة على يد بروتاغوراس وجورجياس، فشاع القول بالنسبية، وفقد الكثيرون إيمانهم بالحقيقة المطلقة، وأصبح هدف الفلسفة هو الجدل لمجرّد الجدل، لا لطلب الحق أو إصابة اليقين"(1). وسوف يسعى سقراط ومن بعده تلميذه أفلاطون لتطهير الفلسفة مما أصابها من شبهات وانحراف. وسوف تصبح الفلسفة على يد أفلاطون موجهة لمعرفة "المثل" أو الماهيات "الفلسفة عند أفلاطون هي اكتساب العلم، وموضوع العلم هو الوجود الحقيقي الثابت الضروري، لا الأشياء المحسوسة التي لا تكف عن التغيُّر، ولا تنطوي على أية حقيقة أو ثبات"(2). ورغم أن الفلسفة ستستقطب مفكرين كباراً من أرسطو وهيغل وغيرهم، إلا أنها ستظل تعاني من العجز عن البرهان على صحة ما تقوله وتردده عمَّا وراء الطبيعة سواء بالنسبة للمثاليين أو الماديين. وسيدفع هذا الإحباط والعجز بعض الفلاسفة إلى الدعوة للتخلّي عن الخوض في مسائل ما وراء الطبيعة، والاعتراف بعجز العقل عن الوصول إلى المعرفة في هذا المجال. وسوف يقوم "كانت" (1724 – 1804م) بعد قرون بتوجيه ضربة لطموحات العقل، بتأكيده أن العقل يدرك ـ الظواهر لا الأشياء في ذاتها ـ ولهذا سيطالب "كانت" الفلاسفة بالتوجه لدراسة الواقع بدلاً من البحث فيما وراء الطبيعة. أي يجب أن يتغيّر موضوع البحث الفلسفي. وسيحدّده على الشكل التالي "موضوع الفلسفة في نظر كانت هو تحديد العناصر الأولية للمعرفة والعمل، أو تحديد الأسس العقلية التي تقوم عليها حياتنا النظرية والعملية. وإذن فإن الفلسفة نظرية وعملية معاً، والفلسفة النظرية هي التي تحدد الموضوع وتعين طبيعته وتبيّن قوانينه، بينما الفلسفة العملية هي التي "تحقق" هذا الموضوع بأن تنقله من مجال الفكر إلى مجال العمل. فالفلسفة النظرية هي علم "ما هو كائن" بينما الفلسفة العملية هي علم "ما ينبغي أن يكون". وتبعاً لذلك فإن الأولى هي علم المنطق: وموضوعه دراسة المعاني الكلية من حيث صورتها فقط، وعلم الميتافيزيقيا: وموضوعه دراسة تلك المعاني من حيث مادتها، أي في علاقاتها بالأشياء. وإذن فإن موضوع المنطق هو "الحق"، وموضوع الميتافيزيقيا هو "الواقع" أو الوجود الحقيقي، من حيث أن هذا الوجود خاضع لقوانين عقلية أولية سابقة على التجربة. وعلى ذلك فإن الميتافيزيقيا الوحيدة التي يتقبلها كانت هي ذلك العلم الذي يدرس القوانين الأولية للعقل، في علاقاتها بالأشياء. والعقل في نظر كانت إنما يدرك الظواهر، لا "الأشياء في ذاتها" فليس في استطاعة الميتافيزيقيا أن تصل إلى الفصل في حقيقة "المطلق" أو "المعقول" أو "الشيء في ذاته". ومن هنا فإن كانت يقول إن العقل النظري لا يستطيع أن يتوصل إلى إثبات وجود الله، أو حرية الإنسان، أو خلود النفس، ولو أنَّ هذه كلّها مصادرات ـ أو مسلمات ـ يستلزمها العقل العملي في مجال الأخلاق"(3). فهل اعتراف كانت بعجز العقل عن التوغل فيما وراء الطبيعة لرؤية الحقيقة سيضع حداً لطموحات الفلاسفة وخلافاتهم، وسيكون هذا الاعتراف بمثابة خاتمة لجهود أجيال من الفلاسفة ما زالت تتأرجح بين نظريتين دون أي نتيجة؟ ولكن كيف سيقبل الفلاسفة بهذا الماء البارد الذي صبّه "كانت" فوق نظرياتهم وخلافاتهم؟ سيأتي آخرون ويرفضون هذا التحديد الضيق لدور الفلسفة ولكن "كانت" لم يكن أول من صرّح بعجز العقل، إذ سبقته أصوات، وستستمر بعده كما سنشاهد. إن لوك حدَّد دور الفلسفة مستقبلاً بـ"دراسة العقل البشري" وعند هيوم وبركلي "دراسة الطبيعة البشرية"، وعند كوندياك "تحليل الإحساسات". وهكذا انصرف الفلاسفة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عن دراسة أصل الأشياء إلى دراسة أصل الأفكار، فأصبحت الفلسفة بمثابة "إيديولوجيا" أي مجرد علم يدرس الأفكار؛ نشأتها وطريقة تكونها ومدى ترابطها"(4). وسوف تأتي النظرية الماركسية مستفيدة من الديالكتيك الهيغلي لتنسف كل يقين بالأفكار ما دام قانون الديالكتيك هو الذي يقرر مصير كل حي وكل فكرة. وإن كان التطور عند هيغل باتجاه الروح المطلق، ففي الماركسية كل ما يحدث هو تطور في المادة والحياة. "إن جميع النظم الاجتماعية التي تتعاقب في التاريخ ليست سوى مراحل مؤقتة لتطور المجتمع الإنساني، الذي لا نهاية له، من درجة دنيا إلى درجة عليا. فكل درجة ضرورية، ويبررها بالتالي العصر والظروف التي ترجع إليها بنشأتها... فليس هناك، بالنسبة للفلسفة الديالكتية، شيء نهائي، مطلق، مقدّس. إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء"(5). إنه صراع الأضداد الذي يقود إلى الهدم والبناء من جديد. وسوف تأتي الفلسفة الوجودية مع سارتر (1905 – 1980م) لتقرر أن "مهمة الفلسفة إنما تنحصر في تحرير الإنسان مما هو متصور عقلياً؛ من أجل وضعه وجهاً لوجه أمام وجوده الخاص بوصفه كائناً حراً يتوقف مصيره على قراره الشخصي"(6). يقول سارتر "بمعنى ما، أنا أختار أن أولد. وهذا الاختيار نفسه متأثراً كلّه بالوقائعية، لأنني لا أملك إلا أن اختار، لكن هذه الوقائعية بدورها لن تظهر إلا من حيث إنني، أتجاوزها إلى غاياتي"(7) الحضارة التي عجزت عن فهم الغائية الكونية بالعقل، ولم تتمكن من الاقتناع بما وصل إليه من نتائج لفهم رمزية ومغزى وجود المخلوقات ومعنى الإنسان، ستعلن موت الألوهية، وسوف تصل بنا إلى لا شيء، إلى العدمية. "حيث يتدحرج الإنسان إلى خارج المركز نحو المجهول"(8) لقد عبَّر نيتشه عن هذا المصير في كتابه "إرادة القوة". و"يمكن تلخيص مجمل القضية العدمية في موت الألوهة أو في ـ سقوط القيم العليا"(9). هذا هو المعنى بالنسبة لنيتشه (1844 – 1900م) ومن سيحمل هذا الاعتقاد معه. لأنه كما قال دستويفسكي ـ إذا مات الله فإن كل شيء سيكون مباحاً ـ هذه نتيجة لتدحرج الإنسان اللاعقلاني نحو المجهول ـ بل نحو الهاوية. لقد تحطم العقل في عجزه وعلى إيقاع "تحطيم العقل" الذي جعله "جورج لوكاكش" عنواناً لكتابه سيسير الإنسان نحو قتل نفسه أو قتل الآخر للإحساس بوجوده. إذ لم تعد مقولة ديكارت (1595 – 1650م) "أنا أفكر أنا موجود" تعني شيئاً بعد أن فشل العقل في إيجاد دلالة لمعنى وجود الإنسان. لماذا أفكر إذا كان لا يساعدني تفكيري على الخلاص من قلقي وأسئلتي الوجودية. هل هي الغابة التي لابدَّ فيها لكل إنسان أن يعيش ليأكل أو يؤكل "إنه في المرحلة النهائية للانهيار الذي بلغته حضارتنا لم تعد الفاعليات المناسبة الفاعليات الفنية للإبداع (الأعمال الفنية أو الأعمال الفكرية) بل فاعليات التنظيم التقني ـ العلمي ـ الاقتصادي للعالم، التي تبلغ ذروتها في إنشاء سيادة من نموذج عسكري في أعماقها. عند يونجر، تمجيد "حرب المعدات"، بوصفها حتمية الجوانب "الميكانيكية للواقع"(10). سيبشر شبنغلر (1880 – 1936) بتدهور الحضارة المادية وسقوطها "إن الرومان كانوا برابرة، ولم يأتوا في أعقاب اليونان ليدفعوا بتقدم عظيم إلى الأمام بل إنما جاؤوا ليختموه" لماذا؟ "إن الرومان المجرّدين من الروح والفلسفة والفن، والذين تبلغ بهم العصبية العرقية حد الوحشية، هؤلاء المركزون لكل جهودهم ومجهوداتهم على تحقيق انتصارات محسوسة، يحتلون مرتبة تقع بين الحضارة الإغريقية والعدم. أما خيالهم فكان مركزاً بكليّته على أهداف عملية (مع أنه كان لهم قوانين دينية تنتظم علاقاتهم بالآلهة وقوانين أخرى تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض، لكنه لم يكن هناك أساطير رومانية خاصة عن الآلهة) ومثل هذا الخيال لم يكن أبداً موجوداً في مخيّلة سكان أثينا، وبكلمة واحدة، الروح اليونانية مقابل الفكر الروماني، وهذا النقيض يمثل الفرق بين الحضارة والمدنية. ومرّة تلو أخرى، يظهر طراز من الناس قوي الفكر، معدوم الحس الميتافيزيقي تماماً،
    وعلى أيدي هذا الطراز يتقرر المصيران الفكري والمادي، لكل مرحلة متأخرة زمنياً"(11). سيحذر كولن ولسون من تقوقع الإنسان في البعد المادي بسبب تحطيمه لحلم المعرفة فيقول "يتيح طبع الإنسان لـه أن يكون "أكثر حياة" أو "أقل حياة"، فهو يستطيع أن يضبط نفسه ويمارس ذكاءه فيرفع نفسه إلى شكل أعلى من أشكال الحياة، وهكذا يعتبره البشر الآخرون، بصوره أتوماتيكية، زعيماً. وأما طبع البقرة فإنه لا يتيح لها أن تغيّر نفسها"(12). وسيلاحظ بصورة مأساوية ماذا تعني ادعاءات الإنسان لانتشال نفسه من كومة الشكوك التي تحاصره بالإبحار على قشة في بحر صاخب، مستنداً إلى رواية دوستويفسكي الشياطين حيث يوضح كيريلوف المشكلة بقوله "إذا قال الإنسان إن الله غير موجود فيجب عليه أن يواجه ما يعنيه ذلك، إنه لابدَّ أن يكون هو الله"(13). ولكن هل يستطيع؟! ستسعى الفلسفات الحديثة لأن تخلق أهدافاً بعد أن تحطّم العقل بالعجز عن الإجابة على أسئلة الوجود الكبرى، كي لا يصبح الإنسان بقرة، أو زعيماً على أبقار، ستكون كل مهمته قيادتها إلى المراعي الأكثر خضرة. ستحاول. ولكن بحطام العقل، ولهذا ستفشل. وستكون البشارة أو المأساة بسقوط الحضارة حقيقة لا يمكن تجنبها، لأنه لا فائدة من استمرار الجدال بين المثاليين والماديين إذا حسمت القضية في نصف الكرة الغربي لصالح الماديين. لقد سقط الحلم، وصار كل شيء مباحاً، ونجحت "حرب المعدات" في قيادة القطعان إلى المراعي الخضراء. بسبب الإعلان عن عجز العقل. سيعترف جورج مونو بالمأساة التي صنعتها الفلسفة الحديثة، مع أنه من أنصار المدرسة الداروينية في نظرية الخلق. إنه يقول "الجماعات الحديثة التي نسجها العلم، والتي تعيش على منتجاته، أصبحت تابعة له، كالمدمن على الحشيش بحشيشه. إنها مدينة بقوتها المادية لهذه الأخلاق التي أنشأت العلم، كما هي مدينة بضعفها الأخلاقي لمنظومات القيم، التي هدمتها المعرفة نفسها، والتي ما تزال تحاول أن تستند إليها. ولكن هذا التناقض قاتل. إنه هو الذي يحفر الهوة التي نراها تنفتح تحت أقدامنا"(14). ما هو السبب الذي أدّى إلى فرح كل سيد بأبقاره، وإلى اختيار الأبقار لسادتها عبر وعود الرفاهية والحرية الشخصية ـ الانحراف والشذوذ ـ إذ إن مهمة السيد أن يكون مقنعاً للناخبين، وعلى كل إنسان بمفرده أن يبحث عن هدفه الشخصي في كومة الجدوى التي جعلتها الحضارة طعاماً وجنساً. لقد غاب الهدف وما بقي للحيوانات المعاصرة غير هذه الكومة التي تبحث فيها عن معنى وجودها "ما من مجتمع، قبل مجتمعنا، عرف مثل هذا التمزق، فلقد كانت مصادر المعرفة ومصادر القيم في الثقافات البدائية، كما هو الأمر، في الثقافات الكلاسيكية، مختلطاً بعضها ببعض بحكم التقاليد الإحيائية. ولأول مرّة في التاريخ، تحاول مدنية ما أن تنشأ وترسّخ جذورها، وهي متعلقة تعلّق اليائس بالتقاليد الإحيائية، تسويغاً لقيمها، على الرغم من أنها تهملها كمصدر للمعرفة والحقيقة. فالمجتمعات "الحرة" في الغرب ما تزال تعلِّم، من رأس شفتها، خليطاً بائساً من الديانة اليهودية والمسيحية، والتقدمية العلمية، والإيمان بحقوق الإنسان "الطبيعية" والذرائعية النفعية، كأساس لأخلاقها. أما المجتمعات الماركسية فهي تظل تعلِّم الديانة المادية والجدلية في التاريخ، وهذا إطار أخلاقي، أقوى ظاهرياً من إطار المجتمعات الحرة، ولكن ربَّما كان أسرع عطباً، بحكم ما فيه من صلابة هي التي أعطته ما فيه من قوة، حتّى الآن. ومهما يكن من أمر، فإن كل هذه المنظومات الراسخة الجذور في الإحيائية، بعيدة عن المعرفة العلمية، وبعيدة عن الحقيقة، وغريبة ـ ولنقل آخر الأمر ـ عدوة للعلم الذي تريد استخدامه، دون أن تحترمه أو تخدمه... إن مرض النفس المعاصرة، هو هذا الكذب المتأصل في الكيان الخلقي والاجتماعي. إن هذا المرض، المشخص بكثير أو بقليل من الغموض، هو الذي يثير مشاعر الخوف، إن لم نقل مشاعر البغضاء، ويثير على كل حال مشاعر الضياع التي تخالج قلوب عدد كبير من الناس تجاه الثقافة العلمية الحديثة"(15). أين سيجد المرضى الدواء لعلاج ما سببته الحضارة المعاصرة من أمراض نفسية. كما يعترف جورج مونو، وكما سيؤكد فرويد "إن أعراض العصاب والانسدادات قد أصبحت إلى حد ما عامة بين جميع الكائنات البشرية المتحضرة"(16). ولكن أين سيجد المريض الدواء، إذا كانت الأمراض النفسية قد أصابت كل البشر على السواء بما فيهم الطبيب، وإذا كان تلاميذ فرويد اللامعون سينتحرون كما فعل فيكتور تاوسك عام 1918. (ولد عام 1879)، الذي ظل متابعاً لفرويد ومعالجاً منذ عام 1908. وسيتبعه على نفس الطريق بول فيدرن الذي "انضم إلى مجموعة فرويد في عام 1903، فهو واحد من أقدم أتباع فرويد، كما كان أحد أقرب الأصدقاء إلى تاوسك"(17). وفي الوقت نفسه "بقي فيدرن حتّى النهاية حواري فرويد المخلص"(18). ولكن هذا الحواري سيطلق النار على نفسه وهو في التاسعة والسبعين للتخلّص من الحياة. وسيقوم تلميذ ثالث هو هربرت سيلبرر بالانتحار أيضاً. هؤلاء الذين تعلموا من فرويد كيف سيعالجون المرضى النفسيين أصابهم المرض رغم أنهم قلّة، إلا أنهم يشكلون نسبة عالية بالقياس لعدد أعضاء جمعية التحليل النفسي التي أسسها فرويد "فإن عدد أعضاء جمعية فينا للتحليل النفسي لم يكن يتجاوز ثمانية وعشرين عضواً في عام 1909، ونادراً ما تجاوز حضور الاجتماعات ثمانية أو عشرة أعضاء"(19). ولكن بسبب الأنا، والخلافات على العظام بدلاً من العشب، لأن السادة لا يكونون نباتيين فقط، ستنتشر طريقة الانتحار للتخلّص من الأنا التي تلوثت بنفايات الحضارة المعاصرة. وسيقول فرويد عن كل من خالفه "إن تلاميذه مثلهم كمثل الكلاب، يأخذون عَظْمة عن الطاولة ثمَّ يلوكونها بمفردهم في إحدى الزوايا، ولكن تلك العَظْمة لي أنا"(20). لماذا لم يتركوا لـه عظامه، ليعالج بها المرضى، الذين تعاونت الفلسفة والعلوم بما فيه التحليل النفسي على تحطيم أحلامهم، وانتزاع الأمل من قلوبهم بزجّهم في دوامة الضياع، بعد الإعلان عن موت العقل، أو عجزه، ودفنه في ضريح، ثمَّ إعلان قدسيته وحث الناس على زيارته والاستفادة من حكمته، كشهيد مقدّس على دروب المعرفة. لقد ارتبك العقل أمام الأسئلة التي كان عليه أن يجيب عليها، ولم يتمكن طوال قرون من الوصول إلى الإجابة، فأراد لـه الفلاسفة المعاصرون أن يتخلّص من هذه الأسئلة بنسيانها، وأعطوه كل لعب الحضارة ومنتجاتها، وأباحوا لـه الحرية لكي يعلو أو ينحدر، ولكنهم جرّدوه من الهدف، وحين سأل لماذا سأعلو إذا كانت قد انتهت الغايات والأهداف؟ قيل لـه لا فرق، عليك أن تختار مصيرك. ووقف الإنسان طويلاً، أيعلو أم ينحدر؟ وقف يتأمل في السؤال الباقي ـ لماذا ـ الذي لا جواب عليه بالعقل، وهو معلّق مثل

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    أدوات المعرفة
    إننا في مواجهة مشاكل المعرفة المتاحة للإنسان لابدَّ لنا من تحديد مصادر المعرفة التي نعتمد عليها لمعرفة ما نريد أن نعرف، المصادر الخاصة بنا، والمنطوية في أعماقنا. وعلينا أن نحدد إضافة إلى ذلك دور كل مصدر في أجسامنا وقدراته، ومستوى المعرفة التي يستطيع أن يقدمها لنا وحدودها، حتّى لا يختلط علينا الأمر فنطلب من العين أن تسمع، وحتى نعرف من أين صدر كل حكم ومن الذي أصدره، ليتاح لنا التمييز بين كل الإشارات والأفكار والمواقف التي سيتلقاها العقل، والخواطر التي ستصدر عنه. ولهذا السبب لابدَّ لنا لفهم حقيقة الأفكار والمشاعر من تحديد الجهة التي صدرت عنها، لأن ما يفكر فيه الإنسان ويشعر به يعود في أصله إلى ثلاثة مصادر كما هو معروف:
    1 ـ علوم عقلية. وهي كل ما يفكر فيه العقل بشكل مجرد عن حاجات الجسم، بهدف العلم.
    2 ـ معلومات حسية تأتي على شكل رسائل إلى العقل من الأذن والعين والأنف واللسان والجلد. وهذه تقوم بدور الشهود بين يدي العقل.
    3 ـ معلومات غريزية تتعلّق بحاجات الإنسان الحياتية، وأهمها وأخطرها المعدة والجنس.
    ربما إننا بحاجة لبعض التوضيح حول علاقة الحواس والغرائز بالعقل. فالعقل هو في سدّة القيادة. ومنه ستصدر الأعمال الفكرية والمعرفية والإبداعية، وكذلك هو الذي ستصدر منه الأحكام الأخلاقية على السلوك وحاجات الجسم. أما الحواس كما نعرفها فإن الأذن ستنقل لنا الأصوات والكلام وهي من أرقى الحواس وأهمها لأنها أقرب إلى عالم الطاقة من عالم المادة، إذ الأصوات ليست شيئاً مادياً يمكن أن نلمسه بحواسنا الأخرى، بل هي نوع من الطاقة يأتينا على شكل موجات وذبذبات. أما العين فإنها أكثر قرباً إلى عالم المواد، وإن كانت في موقع تدرك فيه عالم النور كطاقة، كما تدرك الكرسي والطاولة وهي مواد يمكن أن يشارك اللمس في إدراكها. أما الأنف فهو وسيلتنا لإدراك الروائح والتأكد من سلامة ما نأكله ونشربه. فهو كالمخبَر بين أيدينا، وهو على أهميته أكثر ارتباطاً بالمادة. أما اللسان فهو لا يدرك إلا المواد ولا يستطيع أن يتعامل إلا معها فهو مخبر تجريبي يُفرز لنا طعم المواد ويخبر العقل بها ليرفضها أو يقبلها. أما حاسة اللمس فهي خط دفاع الجسم الأول، كما إن اليدين تملكان الخبرة للتمييز بين الأشكال وإبلاغ العقل بما لمسته مما يتعرّض لـه الجسم، وتستطيع أن تقوم في الظلام بدور العين، وكل هذه الحواس كما هو معروف تبعث بالرسائل إلى العقل ليقرر على ضوء المعلومات التي تقدمها الخطوة التالية، والتصرف المناسب. والحواس كما نعرف هي شهود العقل إذ بواسطتها نستطيع أن نشاهد مثلاً تمدّد المعادن بالحرارة بقياسنا لها ورؤية هذا التمدّد مما يساعدنا على إصدار حكمنا، بأن جميع المعادن تتمدّد بالحرارة. فالحواس هي مخبرنا التجريبي الجاهز دائماً لتقديم كل المعلومات التي يطلبها العقل، ويسعى للتأكد من صحتها، فالحواس تقوم بتحليل المعلومات وتقدمها إلى العقل ليحكم عليها. ولهذا فإن أي نقص في الحواس سيؤدي حكماً إلى نقص في معلومات العقل، فالأعمى لا يستطيع أن ينقل إلى عقله أي معلومات عن الألوان وصور الجمال، وإن كان العقل قادراً على إدراكها كمعانٍ مجرّدة عن المواد. فالحواس كما إنها بمنزلة الرسل التي تنقل المعلومات إلى العقل، فإنها أيضاً أدوات البرهان على ما يفكر فيه العقل، فهم الشهود على الحقائق، التي لا يستطيع العقل دونها أن يتأكد من صحة ما حكم به. إنها محكمة الإنسان القاضي وشهود الحق، لأنهم لا يشهدون إلا بالحق، وعلى القاضي ـ العقل ـ أن يستخلص النتائج.
    ولكن هل هذه هي الحواس الإنسانية، أم إن الغرائز هي من جملة الحواس التي تقوم بإبلاغ العقل عن حاجات الجسم ورغباته. فإذا كانت الحواس تقف في منطقة وسطى بيننا وبين العالم الخارجي، فإن الغرائز تقف في المنطقة الوسطى بين العقل وعالمنا الداخلي، فتنقل إليه حاجاتنا إلى الطعام والجنس، وكل الحاجات البيولوجية والرغبات التي تساعد الجسم على العمل، أو تحقق لـه الراحة والسعادة. ولكن الغرائز ليست كالحواس التي تكتفي بنقل المعلومات للعقل، فهذه تضغط لتحقيق رغباتها كما في حالة الجوع والجنس، ولا يهمها من أين سيُقدّم لها العقل ما ترغب فيه من حلال أو حرام، لأنها لا تدرك إلا الرغبة. إلا أن العقل هو الذي سيختار الطرق المناسبة لتحقيق رغبات الغرائز. فهو الحاكم المطلق عليها، والذي لا ينازعه في حكمه منازع.
    إننا بهذا العرض المبسَّط لعالم الإنسان. سنكون قد عرفنا مصدر كل معرفة عقلية إنسانية، ولمن يجب أن تنسب. لعالم العقل المجرّد، أم لعالم العقل المبرهن عليه بشهادة الحواس، أم لحاجة الغرائز. وعلى ضوء هذا الفهم فإننا نستطيع أن نستنتج بأن للإنسان ثلاث مرجعيات تصدر عنها جميع أحكامه وتصرفاته. وهي:
    1 ـ مرجعية عقلية نظرية، نفكر بواسطتها، ونتأمّل ونحكم بالعقل على تصرفاتنا وأفكارنا.
    2 ـ مرجعية عقلية برهانية بشهادة الحواس. هي من أفضل سبل المعرفة.
    3 ـ مرجعية غريزية نفسية. وهي تشمل كل تدبير عقلي لتلبية طلبات الغرائز.
    إن هذا التحديد ضروري لكي نكشف عن العلاقة بين الفكر وسلوك الإنسان، ولكي نحدّد المرجعية التي استندت إليها كل عقيدة ومذهب، لأننا عندما ننسب الأفكار والسلوك إلى الأصل والنبع، لن نخلط بين ما هو فكري بدليل أو دون دليل، وبين ما هو غريزي. وسيكون بإمكاننا أن نحكم على كل نظرية وإن كانت ترتدي طابع الفكر من أهدافها، وسيتاح لنا دراسة أهداف الناس ومرجعياتهم إن كانت عقلية تأملية، أو عقلية تجريبية، أو غريزية، من سلوكهم. فالفكر سيرشدنا إلى السلوك والسلوك سيرشدنا إلى الفكر. إنه الإنسان في النظرية، والإنسان في الممارسة. وقد يكون بينهما فرق وتزييف. فالحقائق تعبر عن نفسها بالثمار، والثمار تدل على حقيقة الإنسان الباطنية. الظاهر والباطن اللذين يتكوّن منهما الإنسان، وبمعرفتهما سيزول اللبس والغموض عن الجوهر الحقيقي لكل إنسان.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    مشكلة العقل
    لقد تبيّن لنا أن العقل الذي اعتقد بصحة قضية هنا، اعتقد بصحة نقيضها هناك. وهذه التناقضات بين فلاسفة وعلماء، من المفترض أنهم على قدر عال من المعرفة، بحيث يستطيعون أن يقدموا لنا الحقيقة، أدّت بنا اختلافاتهم وتناقضاتهم إلى الشكوك والقلق، فنشأ من ذلك علم اللاحقيقة، الذي ترجم إلى النسبية في العلوم الإنسانية كما في العلوم الطبيعية المستقاة من نظرية أنشتاين. ومعنى النسبية في أي علم هو غياب الحقيقة. فهل الحقائق غائبة فعلاً، أم أن عجزنا الإنساني هو الذي أملى علينا أن نزعم بأن ما يحكم الطبيعة والمخلوقات هو قانون النسبية؟. ولكن هل النسبية يجب أن تعني، أو هل هي تعني في علومنا الإنسانية غياب الحقيقة وقبول المتناقضات، أم إنها تعني نسبية أحكامنا وعلومنا بالقياس إلى الحقيقة المطلقة التي لم نتمكن من إدراكها؟. إننا قد ندرك حداً معيناً من الحقائق وهذا لا يعني أننا أدركنا كل الحقائق، كما أنه لا يعني أننا لم ندرك شيئاً. لقد تأكّد لنا أن الأرض تدور حول الشمس ولكننا قد لا ندرك الحقيقة الباقية عن سبب دوران الشمس وحول من تدور هي أيضاً. ولكن ما عرفناه عندما نتأكد منه بالتجربة، وتشهد الحواس على صحة ما توصل إليه العقل، سنكون قد وصلنا إلى جزء من حقيقة المسألة التي نبحث فيها. إذاً لابد في كل علم للتأكد من صحة ما توقعه العقل من شهادة الحواس. إن العلماء عندما يكتشفون دواء يجربونه على المرضى، وبواسطة النتائج يحكمون إن كان مفيداً أم لا، لأن العقل وحده لا يستطيع أن يحكم بصحة ما أعتقد بفائدته، ولا حاجة لكي نبرهن على أخطاء العباقرة في كثير من الأمور البسيطة أحياناً، وفي مجالات سببت للبشرية الكثير من الكوارث والمآسي. وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن العقل البشري لا يصلح لاكتشاف كل الحقائق التي يريد أن يعرفها، وسيظل في علمه مرتبطاً بالحواس للتأكد من صحة استنتاجاته كلما تعلّق الأمر بالطبيعة، أو ما وراء الطبيعة. وكل ما لا يمكن البرهان عليه سيبقى احتمالاً يقبل الخطأ والصواب، لأن الأسس التي تقوم عليها العلوم العقلية لابدَّ من البرهان عليها بشهادة الحواس. من هنا نشأت وستنشأ دائماً أحكام العقل المتناقضة بين المثاليين والماديين في قضية الخلق والخالق لأن مثل هذه المعرفة لا تقبل التجريب، ولا تُشهد بالحواس. ولهذا ستبقى عقائد الفريقين مجرد احتمالات. ولكنها احتمالات سترجح في النهاية موقف أحد الفريقين المثالي أو المادي، لأنَّه لا يوجد احتمال آخر للحكم في مسألة الخلق. ولكن كيف سنرجح موقف أحد الفريقين، وما هي السبل التي يمكن أن نعتمد عليها للحكم في قضية غامضة كل هذا الغموض، وعجزت أساطين العقول أن تبت فيها بشكل حاسم. هل لدينا أداة للمعرفة غير العقل والحواس نستطيع أن نستخدمها للاطلاع على ما لم يدركه العقل إلا نظرياً؟ هذا يضعنا بالأحرى أمام مشكلة المعرفة، والقدرات التي يملكها الإنسان لكي يعرف ويعمّق معرفته، فهل هناك أداة غير العقل والحواس؟

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    مشكلة المعرفة
    يجب أن نعترف قبل البحث في مشكلة المعرفة بأننا إزاء حالة لا يملك فيها الفريقان، المثالي والمادي، الدليل العلمي على أسباب الخلق، فلا أحد شاهد الله وإنما شاهد الأسباب، ولا أحد شاهد الصدفة، وإنما شاهد الأسباب. ولذلك بقي وسيبقى الجدل نظرياً، وستقوم حجة كل فريق على مستوى من البلاغة اللغوية ما داما يعتمدان في تبرير معتقداتهما على العقل الذي هو واحد عند الطرفين من حيث قدراته ومؤهلاته وتركيبه. وهذا ما سيدخلنا في قضايا السفسطة والسفسطائيين حيث ستكون الحجة تابعة للبرهان. فالأكفأ سيبرهن على صحة قضيته في مسألة كلها غيب، وليس هناك أي مجال للتجريب فيها. وبذلك سيصبح العلم تابعاً للبلاغة، مما سيؤدي إلى ضياع الحقيقة. ولدى كل فريق كما هو معروف من أهل البلاغة والفلاسفة والمناطقة ما يكفي لدحض حجج الخصم وتحطيمها والكشف عن نقاط الخلل فيها. وقد استطاع تلميذ كما هو معروف بأن يستنتج عكس ما استنتجه أستاذه من قضية واحدة. فهذا الأستاذ كان قد وقع اتفاقاً مع تلميذه بأن يعلمه المحاماة لقاء أجر معين، ولكن هذا الأجر لا يستحق للأستاذ إلا بعد أن يعمل التلميذ في المحاماة ويربح القضية الأولى. وقد قام الأستاذ بتدريب تلميذه حتّى اكتمل تعليمه. وراح ينتظر أجره. إلا أن التلميذ لم يعمل بالمحاماة. وحين طالبه الأستاذ بالأجر. أجابه وفقاً للعقد، لا تستحق الأجر حتّى أربح أول قضية، وأنا لم أربح أي قضية كي تطالبني. فهدده برفع دعوى عليه، فقال التلميذ: إذا رفعت الدعوى ستكون أنت الخاسر، لأنك إذا ربحت الدعوى فسأكون أنا قد خسرت وبذلك لا يحق لك أن تطالبني بالأجر. وإذا ربحت الدعوى عليك، فسأكون قد أعفيت من دفع الأجر بحكم القانون. فأجاب الأستاذ: أنت مخطئ لأنني إذا ربحت الدعوى عليك فسيكون عليك أن تدفع لي أجري بحكم القانون. وإذا خسرت الدعوى وربحتها عليّ فسيكون عليك أن تدفع أجوري طبقاً لاتفاقنا الذي يلزمك بدفع أجري عندما تربح أول دعوى. إنها بلاغة السفسطة، لا بلاغة الحق. وفي مثل هذه البلاغة يجد كل فريق لنفسه كل الحق. وإننا في الحوار بين المثالية والمادية لا يتاح لنا اكتشاف الحقيقة لأننا إذا كنا سنحكم بموجب العقد لا الحق، فإن الفريقين يجب أن يربحا القضية، أما إذا كنا سنحكم بموجب الحق فإن الأستاذ يجب أن يربح القضية. ولكن السفسطة في الكلام تقودنا إلى مثل هذه النتائج. ونحن لا نتهم أي فريق بعدم الإخلاص والجد في بحثه عن الحقيقة، ومع ذلك فإن الحقيقة ظلّت وستظل، الآن وغداً وفي المستقبل، غامضة، لأننا نبحث عنها بأدوات لا تلائم مثل هذا البحث كما يتبيّن لكل مجادل إذا ما دقق في طبيعة البحث الذي يتعامل معه. إن المادي يعتمد على حواسه في معرفة مسبب الأسباب فلا يشاهد إلا الطبيعة، والمثالي يريد أن يقنعه بالأدلة العقلية على الله كفاعل من وراء الأسباب. المادي يعتمد على حواسه، وعلى التجربة المباشرة لرؤية الأسباب، والمثالي يريد أن يدلّه على سبب لا يراه، ولكن يستنتجه عقلياً. كلاهما مثل الأستاذ وتلميذه يملكان الأدلة على ما يقولان، ولكنها غير مقنعة. وأين الحقيقة هل هي في "الماء" كما رأى طاليس (أواخر القرن السابع ـ منتصف القرن السادس ق.م) أم في "الهواء" كما قال أنكسمانس (588 – 528 ق.م). أم في المادة التي ليس لها كيف معين ولا كم محدد لكونها مزيجاً من الأضداد الحار والبارد والرطب واليابس، كما قالت مدرسة ملطية وأستاذها أنا كسمندر (ولد حوالي 610 ق.م)، وكذلك أنباذ وقليس (حوالي 443 ق.م) الذي كان قد قال ـ إن كل شيء في الكون مؤلف من العناصر الأربعة بنسب مختلفة ـ وهي النار والماء والهواء والتراب. أم هيراقليطس (530 – 470 ق.م) الذي رأى أن "النار" هي أصل الوجود، أم مبدأ الذرات التي لا ترى بالعين ولا تنقسم كما رأى ديمقريطس (حوالي 460 ق.م) ولوقيبوس قبله. أم في "الله" كما رأى أفلاطون (427 ـ 347 ق.م)، أم في "الهيولى" المادة الأولى كما رأى أرسطو (384 – 322 ق.م) لأنه لا شيء ينشأ من لا شيء. ما قدمه لنا الجميع إذا دققنا هو تصورات عقلية ليس لها أي دليل إلا الأفكار والمبادئ التي استند إليها كل فيلسوف. فما رآه العقل هنا، رأى نفس العقل الإنساني غيره. وسوف تأتي تجارب العلماء المعاصرين، لتساهم في إبقاء خلافات المثاليين والماديين استناداً إلى نفس الاكتشافات التي نجحت العلوم المعاصرة في التأكد من صحتها تجريبياً. وبدلاً من التخفيف من حدّة الصراع، فإن معسكر المادية قام بشن الحرب على كافة الجبهات يؤازره في ذلك ما حققته الرأسمالية المنتصرة من نجاحات في نشر الفساد والانحلال الخلقي، وهشاشة المعسكر المثالي، الذي تأكد أنه في غالبيته مثالي من فوق ومادي من تحت، بقبوله الشراكة مع الظلم والعدوان، بما ينافي القيم الخلقية التي تأمر بها المثالية. وإن هزيمة المعسكر المثالي وفشله في مجابهة المعسكر المادي أدّت إلى إدخال البشرية في نفق مظلم، وساهمت في إباحة الدم البشري، وإبادة شعوب على الهوية، لأنها لا تملك نفس الانتماء، كما ساهمت في رفع الرحمة من القلوب بين أبناء الجنس الواحد، والتلاعب بعواطفهم وإرسالهم إلى الموت من أجل مصالح اقتصادية، وتحت رايات أخلاقية لا يؤمن بها الذين رفعوها ودعوا إليها، وكتبوا عنها. بل إن البعض أصبح لا يخاف من التصريح علناً بأنه على استعداد لتدمير شعب كامل بالأسلحة النووية أو البيولوجية إذا ما اقتضت مصالحه التوسعية خارج أرضه القيام بمثل هذا التدمير. وهكذا أصبح كل شيء مباحاً بعد أن أخذ الإنسان مصيره على عاتقه، وانغمست أفكاره في متاهات الصدفة التي اعتقد أنه ابنها، وأنها كما خلقته، فإنها ستذهب به، وعليه لذلك أن يغتنم فرصة الحياة التي لن تتكرر ليمارس فيها جميع ما تدعوه الغرائز لممارسته. أليس لأن الإنسان قد تعلّم أن عقله هو الحكم الوحيد لتقدير ما ينفعه ويضرّه. وأن كل إنسان ما دام يملك عقلاً فإن من حقه أن يتصرف على هواه؟. لقد عادت المشكلة كما بدأت إلى العقل ومعه. فهل كل ما يراه العقل صحيحاً؟.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    الفصل الأول
    حدود المعرفة بالعقل


    أسئلة ما زلنا نبحث عن أجوبة لها
    إن كل إنسان يريد أن يعرف الحقيقة عن نفسه. من هو، ولماذا جاء إلى هذا العالم، وما هو دوره فيه، وما هي مكانته، وما هو مصيره بعد الموت؟. إن هذه الأسئلة التي طرحها الإنسان دائماً، ودخلت كل الثقافات في حوار للبحث عن أجوبة لها، ما زالت على قدمها تتجدد وتفرض نفسها، وتدخل مسارات حياتنا، وتوجّه سياساتنا، وتحدّد سلوكنا، مع أننا لم نصل إلى نتيجة حاسمة في مراحل التاريخ المختلفة. ولم ترتق معرفتنا بما قدمه العلم بعد تحطيم الذرة، ودخول عصر الفضاء عمَّا كانت عليه في هذه المسائل، إذ ظلّت الأجوبة على حالها، وما زال الانقسام قائماً بين مدارس المثاليين الذين يؤمنون بإله يحكم العالم ويعتني به، ويخلق لغاية، وبين الماديين الذين أنكروا الألوهية والغائية الكونية، وقبلوا بمبدأ الصدفة كسبب لوجود الحوادث الكونية ومنها ظهور الإنسان، مع تأكيدهم على قدم الطبيعة. وليس المهم الآن حجم ونوع الأدلة التي قدمها كل فريق في هذا المجال، إنَّما المهم هو مصدر إيمان كل فريق وحججه. فإذا كانت المصادر المعرفية لكل فريق واحدة، وهي العقل كما نعرف، فلماذا اختلفت الأجوبة وأنكر كل فريق ما آمن به الآخر؟ أليس من الواجب إذا كنا نستخدم نفس الأدوات في قياس أمر ما أو الحكم عليه، أن يكون حكمنا متشابهاً إن لم يكُ واحداً؟. ولكن أن يكون متناقضاً فهذه هي المشكلة.
    فمن أين جاء هذا التناقض؟ هل العلة في العقل؟. هل الصانع الذي صنع عقولنا أعطى للفيلسوف المؤمن ما لم يعطه للفيلسوف غير المؤمن؟ إذا كان الصانع قد خلقنا لغاية كما يقول المؤمن، فمن المفترض أن يدلّنا جميعاً على هذه الغاية، وأن يساعدنا على إدراكها ومعرفتها بعقولنا، وأن يكون قد وضع في عقولنا ما وضعه في عقل الآخر لكي نعرفه معرفة متساوية. ولكن الواقع يدل بأن أحكامنا العقلية ليست واحدة، فما هو السبب؟ هل هذا راجع لتنوع عقولنا، أم لمصادر معلوماتنا؟ لاشك أن مصادر المعلومات ذات تأثير كبير، ولكن حينما يقع الخلاف بين علماء وفلاسفة، يعرف كل واحد فيهم حجج الفريق الآخر ومعلوماته، ويمحصها، ويجتهد في فهمها، ويسعى بكل ما أوتي من العلم لمعرفة الحقيقة، فلماذا استمر الخلاف الإنساني إذا كان الله قد خلقنا، ومن المفترض أنه أعطاناً عقولاً واحدة لكي نفهم ما يريد، ما دام قد طالبنا بالإيمان؟ وإذا كانت الطبيعة والصدفة قد صنعتنا، فلابدَّ أن يكون صنعها أكثر تشابهاً، لأن الإنتاج الآلي وقوانين الصدفة الثابتة لن تسمح بأي تنوع حتّى في عقولنا، ولأنها لو تغيرت العلل لظهر نوع جديد؟. فكيف استمر الخلاف إذا كانت عقولنا واحدة كما نتوقع بفعل الغائية الكونية أو القوانين الطبيعية؟.
    إن علينا أن نعرف سر هذا الاختلاف وأسبابه، قبل أن نعرف مظاهر هذا الاختلاف ونتائجه وأدلة كل فريق، فإنه من تحصيل الحاصل أن يجد الناس أدلة على كل ما يعتقدون، والمشكلة أن الذين يؤمنون بإله وغايات لديهم أدلتهم التي يستندون إليها، وهي نفس أدلة الذين لا يؤمنون. إذ الجميع يعترفون بوجود قوانين تحكم مسار الطبيعة والمخلوقات، ولعل عصرنا حافل بمثل هذه الأدلة، ولكن المعسكر المثالي يقول إن الله هو من وضع هذه القوانين، بينما يقول المعسكر المادي إن الصدف هي التي صنعتها. إذاً نحن أمام مشكلة (مَن الصانع) ومن أين جاء كل فريق بأحكامه المتناقضة، مع أنه لا الفريق المؤمن شاهد الله، ولا الفريق المادي شاهد الصدف التي فعلت في الطبيعة، لأن الإنسان ظهر بعد أن نضجت الأسباب التي أدّت لوجوده، فكيف سيعرف أسباب وجوده التي لم يشهدها؟. إننا أمام مشكلة من أصعب المشاكل التي يواجهها الإنسان، عندما يصبح نفس الدليل سبباً لظهور موقفين متناقضين. فما هو السبب يا ترى؟. هل المشكلة في المعرفة أم في العقل، أم في الأمرين معاً؟.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    إذا تجلّى حَبيبي
    بأيَّ عَينٍ تراهُ؟

    بِعَيْنِهِ لا بِعَيني
    فَما يَراهُ سِوَهُ!


    هذا هو كنز الإنسان الكامل ومملكته، وهي "ليست من هذا العالم" كما قال المسيح عليه السلام. إنها في نهاية الطريق لمن يؤثر الخالد على الفاني.

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    لقد حدّد الله صفات الإنسان الحيوان، ومن هو دون ذلك بقوله: أرأيتَ من اتخذَ إلههُ هواهً أفأنتَ تكونُ عليه وكيلاً. أم تَحسبُ أنَّ أكثرهُم يسمعونَ أو يعقلونَ إن همْ إلا كالأنعام بلْ هم أضلُّ سبيلاً(الفرقان 43/44). فهذا هو الفرقان بين الإنسان وغير الإنسان، وبين حضارة وحضارة. الخضوع لحكم الروح أو العقل، أو ما تهواه النفوس والغرائز. وقال الرسول [من عرف نفسه عرف ربه]. فلا شيء أعظم من معرفة دور النفس ولمن يجب أن تخضع لكي تهتدي بنور العقل أولاً ثمَّ بنور الروح ثانياً، لكي تقوم بخلافة الله في الأرض، ولا شيء أخطر من النفس لجر الإنسان إلى مواقع الإنسان الحيوان، أو من هم أضلَّ سبيلاً.
    إنها محاولة لكي يعرف كل إنسان نفسه، ويحدد موقعه في الحياة تبعاً لاختياره. وهي محاولة أيضاً لكي يعرف غيره ولا ينخدع بما يراه من بهارج الحضارات القديمة والمعاصرة. فهذا هو الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل... إما روح، وإما عقل، وإما نفس، وإما غريزة. وباختصار إما إنسان أو حيوان ودون ذلك، إذ ليست العبرة في الصورة ولكن بمضمون الصورة. وإنه الاختيار الذي يصنع به البشر أفرداً أو شعوباً ودولاً ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم دائماً.
    فاعرف من أنت، واعرف نفسك، واعرف غيرك، لكي تختار بين الذين يعقلون، والذي يأكلون. ولكي تسير إذا شئت بخطى ثابتة من عالم الجسد والنفس إلى عالم العقل الذي تستطيع أن تشهد به ظاهر العالم المادي... أما إذا كنت تطمح لشهود باطن العالم، فلن تشهده إلا بشوق النفس للخروج من الجسد، وعشق العقل للمعرفة... وعندها سيصبح للروح أجنحة تخرج بها من ضيق الجسد إلى سعة العالم، وتطير بها من ظاهر المادة إلى نور الوجود، ومن الكون والتكوين إلى المكوّن، لأن الحب الذي تبحث عنه الروح لا يُشهد إلا بعين الحبيب كما علمنا الرسول الخاتم ، بالتقرّب إليه بالنوافل. أو كما قال سلطان العارفين الشيخ محيي الدين بن عربي:

    اترك تعليق:


  • أبو القعقاع
    رد
    مقدمة


    لقد حاولت في هذا الكتاب أن أبيّن استناداً إلى النصوص الدينية والفلسفية والفكرية حقيقة الروح والعقل والنفس، ودور كل واحدة من هذه القوى التي يملكها الإنسان في القرارات التي يتخذها، والسلوك الذي يسلكه، سواء كان يشعر بذلك أو لا يشعر به. وسوف يتبيّن لنا من خلال البحث أن البشر هم كما وصفهم الله، ينقسمون إلى أربع فئات تبعاً للمصدر الذي يستمدون منه سلوكهم، ويبنون عليه تصرفاتهم وشرائعهم وهم:
    1 ـ الإنسان الخليفة. وهم الرسل والأنبياء والأولياء الذين يستمدون سلوكهم وشريعتهم من عالم الروح.
    2 ـ الإنسان العاقل. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من عقله الذي يهديه، للإيمان.
    3 ـ الإنسان الحيوان. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من غرائزه، وخاصة غريزة المعدة، وغريزة الجنس. ولكنه لا يقتل ولا يؤذي إلا عندما لا يجد وسيلة مشروعة لتلبية غرائزه. فهو مثلاً كالحيوان الذي لا يقتل إلا إذا جاع ولم يجد ما يأكله.
    4 ـ الإنسان الذي هو دون الحيوان. وهو الذي يستمد شريعته وسلوكه من غرائزه، كما هو الإنسان الثالث، ولكنه يبيح لنفسه كل شيء لإرضاء غرائزه، ويفعل ما لا تفعله الحيوانات. فهو لا يتورع عن القتل لزيادة ثروته وإن كان يملك الملايين، ولا يوجد أي رادع لديه يمنعه من سلوك أي مسلك لتحقيق رغباته الجنسية. إنه الإنسان الذي وضع عورته ومعدته فوق رأسه فقلب صورته الإنسانية التي خلقه الله عليها. فقد جعل الله العالي في الأعلى بترتيب يكشف عن مكانة كل عضو في الإنسان، ومكانة الإنسان بالقياس للعضو الذي يستمد منه قراراته بترتيب حكيم خبير. فجعل الله الرأس في الأعلى، وهو مصدر أحكام العقلاء والمعلمين. ثم الأذن وهي للمتعلمين، ثم البصر للناظرين، ثم الشم الموضوع فوق الفم مباشرة ليقوم بدور المخبر للتأكد من سلامة الطعام والشراب الذي نتناوله، ثم حاسة الذوق للتأكد من طعم ما نذوقه وبرودته أو حرارته، ثمَّ الإحساس الذي يقوم الجلد بكامله من خلاله بإنذار العقل عن كل ما يصيب الجسد. وإذا نزلنا إلى ما هو أدنى فسوف نجد المعدة التي تقوم باستقبال الأرزاق وتوزيعها على الجسم، وبعد ذلك العورة التي جعلها الله في نهاية الجسم بسبب دورها المتواضع في حياة الإنسان. ولكن ماذا فعل الإنسان الحيوان لتنطبق عليه هذه التسمية؟ لقد قلب النظام الذي خلقه الله عليه، ووضع عورته في الأعلى بدلاً من رأسه حين جعل تلبية رغباته الجنسية هدف حياته، أو إذا جعل الطعام غايته الرئيسية. والإنسان الحيوان غالباً ما يجمع بين الرغبتين ويجعل من عقله خادماً لمعدته وعورته. وإذا أخذنا هذا المقياس للحكم على الأنظمة والدول والحضارات، فسوف يتبيّن لنا، أن دولاً ومجتمعات ثرية تسلك سلوك الإنسان الحيوان، فهي تقتل وتدمّر وتوظف كل علوم العقل للنهب والسلب والاعتداء على البشر الضعفاء، ليس لأنها محتاجة أو جائعة كما تفعل الوحوش في الغابة إذا جاعت، ولكن لكي تزيد من ثرائها وتمارس شهواتها، وتؤازرها في ذلك شعوبها بالتصفيق لمن سيزيد لها كميات الطعام، ولمن سيفتح لها أبواب حريّة الانحراف والشذوذ على مصاريعها، لكي يمارس كل شخص هواجسه الجنسية دون حياء أو خوف. إنها حضارات كما يقال ولكن ما هو الاسم اللائق بمثل هذه الحضارات إن كانوا أفراداً أو شعوباً أو دولاً. هل يليق بهم اسم الإنسان الذي هو دون الحيوان في السلوك لأنه أضلّ من الحيوان في الغايات والأهداف؟.

    اترك تعليق:

يعمل...
X