إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    أسيد بن خضير

    بطل يوم السقيفة

    ورث المكارم كابرا عن كابر..
    فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء..
    وفيه يقول الشاعر:
    لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة
    لهبن خضيرا يوم غلّق واقما
    يطوف به، حتى إذا الليل جنّه
    تبوأ منه مقعدا متناغما

    وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ..
    فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه.
    وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم..
    ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا..
    فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.
    يومئذ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو اى دين جديد لا يعرفونه..
    وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..
    وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.
    وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير..
    وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..
    وقال له مصعب:
    " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، ون كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟
    كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
    فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
    لقد أنصفت: هات ما عندك..
    وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.
    ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
    " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..
    عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!
    لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:
    " ما أحسن هذا الكلام وأجمله..
    كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟
    قال له مصعب:
    " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي"..
    ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..
    ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!!
    كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..
    وعاد الى سعد..
    وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله:
    " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!
    أجل..
    لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي..
    وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!
    وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..
    انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره..
    ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..
    لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..
    اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..
    فكيف السبيل لهذا..؟
    كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..
    وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..
    هنالك قال أسيد لسعد:
    " لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..
    وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين..
    ولما اقترب من المجلس لو يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..
    هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.
    ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!
    كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..
    وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..
    وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
    " لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..
    أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..
    أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..
    سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:
    أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
    قال أسيد:
    وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
    قال الرسول:
    عبدالله بن أبيّ!!
    قال أسيد:
    وماذا قال..؟؟
    قال الرسول:
    زعم انه ان رجع الى المدينة لخرجنّ الأعز منها الأذل.
    قال أسيد:
    فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز..
    ثم قال أسيد:
    " يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكا"..
    بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..
    وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..
    وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:
    " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..
    فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..
    ولقد كنا أنصار رسول الله..
    وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..
    وكانت كلماته، بردا، وسلاما..
    ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:
    " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..
    ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا.
    وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..
    ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..
    وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد..
    وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..
    وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..
    وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:
    " نعم الرجل.. أسيد بن خضير"..

    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

    تعليق


    • #47

      أخي صباحو

      عزانا في هؤلاء الرجال العظام
      أن الله عز وجل رضي عنهم
      وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وهو راضي عنهم
      [B][CENTER][SIGPIC][/SIGPIC]

      [URL=http://www.mzaeen.net/][img]http://www.mzaeen.net/upfiles/31647662.gif[/img][/url]
      [URL=http://www.mzaeen.net/][img]http://www.mzaeen.net/upfiles/TWF16356.gif[/img][/url]
      [COLOR="darkslategray"][SIZE="5"]أخوكم في الله صاحب عدن[/SIZE][/COLOR][/CENTER][/B]

      تعليق


      • #48
        عبد الرحمن بن عوف

        ما يبكيك يا أبا محمد

        ذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.
        ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
        وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
        ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..
        وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
        سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟
        وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..
        قالت أم المؤمنين:
        قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
        أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!
        وهزت أم المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث سمعته..
        "أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
        رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..
        عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
        ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
        ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.
        وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته، حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..
        ثم قال:
        " أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..
        ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في نهرجان برّ عظيم..!!
        هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
        فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
        وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا..
        وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!
        متى وكيف دخل هذا الكريم الاسلام..؟
        لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
        بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..
        فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..
        عرض عليه أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.
        ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".
        وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..
        وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة، ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..
        وكان محظوظا في التجارة الى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
        " لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحته فضة وذهبا"..!!
        ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..
        بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..
        كلا..
        انما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس، ومزيدا من السعي..
        وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..
        فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن الشام، محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
        ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..
        لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر أنصاري من المدينة.
        وكانت هذه المؤاخات تم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فاذا كان تزوجا باثنين طلق احداهما، ليتزوجها أخوه..!!
        ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع..
        ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:
        " .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه!!
        وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها، وتتزوجها..!
        فقال له عبدالرحمن بن عوف:
        بارك الله لك في أهلك ومال..
        دلوني على السوق..
        وخرج الى السوق، فاشترى.. وباع.. وربح"..!!
        وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
        ومما جعل تجارته ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..
        كذلك مما زادها نجاحا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى، يصل به أهله، واخوانه، ويجهّز به جيوش الاسلام..

        واذا كانت الجارة والثروات، انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
        لقد سمع رسول الله يقول له يوما:
        " يا بن عوف انك من الأغنياء..
        وانك ستدخل الجنة حبوا..
        فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
        ومن سمع هذا النصح من رسول الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
        باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين.
        وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر الفا وخمسمائة راحلة.
        وعند موته، أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله، وأ،صى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو، وان الطعمة منه عافية وبركة".
        كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..
        وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
        بل هو يجمعه هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه كله.
        ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
        " أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.
        " ثلث يقرضهم..
        وثلث يقضي عنهم ديونهم..
        وثلث يصلهم ويعطيهم.."
        ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة اخوانه.
        أما بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
        جيء له يوما بطعام الافطار، وكان صائما..
        فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
        " استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة ان غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه بدا رأسه.
        واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يمفن فيه الا بردة.
        ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
        واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده.
        وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
        ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟
        قال:
        " لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
        ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
        كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
        حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أ، يميزه من بينهم..!!
        لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وان إحدى هذه الإصابات تركت عرجا دائما في إحدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..
        عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء إصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!
        رضي الله عنه وأرضاه..
        لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...
        أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..
        فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!
        حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
        كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..
        ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة، فقال:
        " والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها الى الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!
        وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..
        وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال علي كرم الله وجهه :
        " لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض"..
        واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون اختياره.
        هذه حقيقة رجل ثري في الإسلام..
        فهل رأيتم ما صنع الإسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
        وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة، يجود بأنفاسه..
        وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..
        ولكنه مسلم أحسن الإسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا الجوار...!!
        ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، اذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..
        وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمع ولسانه يتمتم ويقول:
        " اني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
        ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته، فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
        وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
        لعله آنئذ، كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:
        " عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..
        ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
        ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..

        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

        تعليق


        • #49
          تسلم يا ابو ابراهيم دايما في المقدمه
          sigpic

          تعليق


          • #50
            المشاركة الأصلية بواسطة emadhp مشاهدة المشاركة
            تسلم يا ابو ابراهيم دايما في المقدمه
            حياك الله اخي عماد ــــ بارك الله لك

            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

            تعليق


            • #51
              أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام

              ظليل الملائكة

              عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، كان عبدالله بن عمرو بن حرام، أبو جابر بن عبدالله أحد هؤلاء الأنصار..
              ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء، كان عبدالله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه من بني سلمة..
              ولما عاد الى المدينة وضع نفسه، وماله، وأهله في خدمة الاسلام..
              وبعد هجرة الرسول الى المدينة، كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة في مصاحبة النبي عليه السلام ليله ونهاره..
              وفي غزوة بدر خرج مجاهدا، وقاتل قتال الأبطال..
              وفي غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو..
              وغمره احساس صادق بأنه لن يعود، فكاد قلبه يطير من الفرح!!
              ودعا اليه ولد جابر بن عبدالله الصحابي الجليل، وقال له:
              " اني لا أراي الا مقتولا في هذه الغزوة..
              بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..
              واني والله، لا أدع أحدا بعدي أحبّ اليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
              وان عليّ دبنا، فاقض عني ديني، واستوص بإخوتك خيرا"..
              وفي صبيحة اليوم التالي، خرج المسلمون للقاء قريش..
              قريش التي جاءت في جيش لجب تغزو مدينتهم الآمنة..
              ودارت معركة رهيبة، أدرك المسلمون في بدايتها نصرا سريعا، كان يمكن أن يكون نصرا حاسما، لولا أن الرماة الذين أمرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف على القرشيين، فتركوا مواقعهم فوق الجبل، وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم..
              هذا الجيش الذي جمع فلوله وولى هاربا ، وحين رأى المشركين ظهر المسلمين قد انكشف تماما، فاجئوهم بهجوم خاطف من وراء، فتحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة..
              في خِضم هذا القتال المرير، قاتل عبدالله بن عمرو قتال مودّع شهيد..
              ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم.. ذهب جابر ابن عبدالله يبحث عن أبيه، حتى ألفاه بين الشهداء، وقد مثّل به المشركون، كما مثلوا يغيره من الأبطال..
              ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الاسلام عبدالله بن عمرو بم جرام، ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه، فقال:
              " ابكوه..
              أ،لا تبكوه..
              فان الملائكة لتظلله بأجنحتها"..!!
              كان إيمان أبو جابر متألقا ووثيقا..
              وكان حبّه بالموت في سبيل الله منتهى أطماحه وأمانيه..
              ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيم، يصوّر شغفه بالشهادة..
              قال عليه السلام لولده جابر يوما:
              " يا جابر..
              ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب..
              ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_
              فقال له: يا عبدي، سلني أعطك..
              فقال: يا رب، أسألك أن تردّني إلى الدنيا، لأقتل في سبيلك ثانية..
              قال له الله:
              انه قد سبق القول مني: أنهم اليها لا يرجعون.
              قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة..
              فأنزل الله تعالى:
              (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".
              وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار، بعد فراغ القتال في أحد..
              وعندما تعرف أهل عبدالله بن عمرو على جثمانه، حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا، وهمّت بهما راجعة الى المدينة لتدفنهما هناك، وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..
              بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله أن:
              " أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..
              فعاد كل منهم بشهيده..
              ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.
              ولما جاء دور عبدالله بن حرام ليدفن، نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم:
              " ادفنوا عبدالله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين، متصافين"..
              والآن..
              في خلال اللحظات التي يعدّ فيها القبر السعيد لاستقبال الشهيدين الكريمين، تعالوا نلقي نظرة محبّة على الشهيد الثاني عمرو بن الجموح...


              تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

              قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
              "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
              وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

              تعليق


              • #52



                عمرو بن الجموح

                أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة

                انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
                وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..
                سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..
                وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للإسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
                وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..
                وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
                فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
                ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
                ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
                ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
                فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
                حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
                فلما أصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
                واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.
                وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..
                وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأغلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
                وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
                وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
                قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟
                وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟
                ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
                لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
                وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
                أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
                أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الألباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
                ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
                أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه وإخوانه..
                سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
                من سيّدكم يا بني سلمة..؟
                قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..
                فقال عليه الصلاة والسلام:
                وأي داء أدوى من البخل!!
                بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..
                فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!
                وفي هذا قال شاعر الأنصار:

                فسوّد عمرو بن الجموح لجوده
                وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا

                إذا جاءه السؤال أذهب ماله
                وقال: خذوه، انه عائد غدا

                وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..
                ولكن كيف السبيل؟؟
                ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
                وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..
                ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..
                وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
                بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
                وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل إليه أن يأذن له وقال له:
                " يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد..
                ووالله إني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة"..
                وأمام إصراره أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:
                " اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي".
                والتقى الجمعان يوم أحد..
                وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
                كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
                كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..
                أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
                وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!
                وجاء ما كان ينتظر.
                ضربة سيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..
                زفاف شهيد مجيد إلى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!
                واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
                " انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فإنهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!
                ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
                وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:

                " ليّنة أجسادهم..
                تتثنى أطرافهم"..!

                وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
                فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
                أتعجبون..؟
                كلا، لا تعجبوا..
                فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب..

                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                تعليق


                • #53

                  حبيب بن زيد

                  أسطورة فداء وحب

                  في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا، والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة، كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..
                  وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                  أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!
                  هو اذن مؤمن عريق جرى الايمان في أصلابه وترائبه..
                  ولقد عاش الى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته الى المدينة لا يتخلف عن غزوة، ولا يقعد عن واجب..
                  وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس الى الضلال..
                  خرج أحدهما بصنعاء، وهو الأسود بن كعب العنسي..
                  وخرج الثاني باليمامة، وهو مسيلمة الكذاب..
                  وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله، وللرسول في قبائلهما، ويحرّضان على مبعوثي رسول الله الى تلك الديار..
                  وأكثر من هذا، راحا يشوّشان على النبوة نفسها، ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..
                  وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله، الى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد، فاني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!
                  ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين، وأملى عليه ردّه على مسيلمة:
                  " بسم الله الرحمن الرحيم..
                  من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب.
                  السلام على من اتبع الهدى..
                  أما بعد، فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"..!!
                  وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا، فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!
                  وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام إلى مسيلمة الذي ازداد ضلالا وإضلالا..
                  ومضى الكذب ينشر إفكه وبهتانه، وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم، فرأى الرسول أن يبعث اليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..
                  ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..
                  وسافر حبيب يغذّ الخطى، مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي إلى الحق، قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.
                  وبلغ المسافر غايته..
                  وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أعشاه نورها، فازداد إمعانا في ضلاله وغروره..
                  ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ، فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!
                  وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!
                  وأراد قدر هذا الدين العظيم، الاسلام، أن يضيف إلى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها، درسا جديدا موضوعه هذه المرة، وأستاذه أيضا، حبيب بن زيد..!!
                  جمع الكذاب مسيلمة قومه، وناداهم إلى يوم من أيامه المشهودة..
                  وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبيب بن زيد، يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون، مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه، فيبدو أمام الجميع متخاذلا مستسلما، مسارعا إلى الإيمان بمسيلمة حين يدعى إلى هذا الإيمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..
                  قال مسيلمة لـ حبيب:
                  " أتشهد أن محمدا رسول الله..؟
                  وقال حبيب:
                  نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
                  وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسأله:
                  وتشهد أني رسول الله..؟؟
                  وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:
                  إني لا أسمع شيئا..!!
                  وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة إلى سواد حاقد مخبول..
                  لقد فشلت خطته، ولم يجده تعذيبه، وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أشقطت هيبته الكاذبة في الوحل..
                  هنالك هاج كالثور المذبوح، ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..
                  ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة، وبضعة بضعة، وعضوا عضوا..
                  والبطل لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد إسلامه:
                  " لا اله إلا الله محمد رسول الله"..
                  لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المسايرة الظاهرة لمسيلمة، طاويا على الإيمان صدره، لما نقض إيمانه شيئا، ولا أصاب إسلامه سوء..
                  ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه، وأمه، وخالته، وأخيه بيعة العقبة، والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وإيمانه كاملة غير منقوصة، ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..
                  ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة إيمانه كلها.. ثبات، وعظمة، وبطولة، وتضحية، واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته، وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!
                  وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم، واصطبر لحكم ربه، فهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة، ويكاد يرى مصرعه رأي العين..
                  أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا، ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته، ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..
                  وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها، يبدي إعجابا كبيرا بها، ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!
                  ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة، موقعة اليمامة..
                  وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الاسلام الذاهب إلى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..
                  وخرجت نسيبة مع الجيش..
                  وألقت بنفسها في خضمّ المعركة، في يمناها سيف، وفي يسراها رمح، ولسانها لا يكفّ عن الصياح:
                  " أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟
                  ولما قتل مسيلمة، وسقط أتباعه كالعهن المنفوش، وارتفعت رايات الاسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملىء جسدها الجليل، القوي بالجراح وطعنات الرمح..
                  وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب، الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!
                  أجل..
                  ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة إلا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا..

                  تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                  قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                  "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                  وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                  تعليق


                  • #54

                    أبيّ بن كعب

                    ليهنك العلم، أبا المنذر

                    سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:
                    " يا أبا المنذر..؟
                    أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟
                    فأجاب قائلا:
                    الله ورسوله أعلم..
                    وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:
                    أبا المنذر..؟؟
                    أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟
                    وأجاب أبيّ:
                    الله لا اله إلا هو الحيّ القيّوم..
                    فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده، وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:
                    ليهنك العلم أبا المنذر"...
                    إن أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..
                    هو أنصاري من الخزرج، شهد العقبة، وبدرا، وبقية المشاهد..
                    وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، ومكانا عاليا، حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:
                    " أبيّ سيّد المسلمين"..
                    وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي، ويكتبون الرسائل..
                    وكان في حفظه القرآن الكريم، وترتيله اياه، وفهمه آياته،من المتفوقين..
                    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:
                    " يا أبيّ بن كعب..
                    إني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..
                    وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يتلقى أوامره من الوحي..
                    هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:
                    " يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذُكِرت لك بإسمي"..؟؟
                    فأجاب الرسول:
                    " نعم..
                    باسمك، ونسبك، في الملأ الأعلى"..!!
                    وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..
                    وطوال سنوات الصحبة، وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..
                    وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته، وفي قوة دينه، وخلقه..
                    وكان دائما نذيرا في قومه..
                    يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عليه من عهد، وسلوك وزهد..
                    ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:
                    " لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..
                    فلما فارقنا، اختلفت وجوهنا يمينا وشمالا"..
                    ولقد ظل مستمسكا بالتقوى، معتصما بالزهد، فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..
                    ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..
                    فمهما يعيش المرء، ومهما يتقلب في المناعم والطيبات، فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك إلى هباء، ولا يجد بين يديه إلا ما عمل من خير، أو ما عمل من سوء..
                    وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:
                    " إن طعام بني آدم، قد ضرب للدنيا مثلا..
                    فان ملّحه، وقذحه، فانظر إلى ماذا يصير"..؟؟
                    وكان أبيّ إذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق وإصغاء..
                    ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..
                    وحين اتسعت بلاد الاسلام، ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق، وقف يرسل كلماته المنذرة:
                    " هلكوا ورب الكعبة..
                    هلكوا وأهلكوا..
                    أما إني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".
                    وكان على كثرة ورعه وتقاه، يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.
                    وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها، أيسمعها، تهز وتهز كل كيانه..
                    وعلى أي آية من تلك الآيات الكريمة، كان إذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..
                    تلك هي:
                    ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..
                    كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمة أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..
                    وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..
                    ولقي ربه مؤمنا، وآمنا ومثابا..

                    تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                    قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                    "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                    وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                    تعليق


                    • #55
                      سعد بن معاذ

                      هنيئا لك يا أبا عمرو

                      في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..
                      وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
                      وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..
                      انظروا..
                      أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟
                      انه هو..
                      يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة ليرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والإسلام..
                      أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!
                      ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..
                      ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..
                      وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
                      وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!
                      أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..
                      وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!
                      وتجيء غزوة بدر..
                      ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.
                      وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:
                      " أشيروا عليّ أيها الناس.."
                      ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:
                      " يا رسول الله..
                      لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..
                      فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..
                      ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..
                      انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..
                      ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...
                      فسر بنا على بركة الله"...
                      أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:
                      " سيروا وأبشروا، فان الله وعدني إحدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر إلى مصرع القوم"..
                      وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..
                      لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..
                      وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..
                      وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..
                      فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة إلى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..
                      واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..
                      وفي طريقهم وهم راجعون إلى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..
                      وضعت خطة الحرب، ووضعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..
                      واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..
                      ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.
                      وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..
                      فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:
                      " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!
                      عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..
                      وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..
                      واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..
                      قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..
                      وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:
                      " يا رسول الله..
                      أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟
                      قال الرسول:
                      " بل أمر أختاره لكم..
                      والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..
                      وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..
                      هنالك قال:
                      " يا رسول الله..
                      قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا..
                      أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟
                      والله ما لنا بهذا من حاجة..
                      ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!
                      وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..
                      وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..
                      والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..
                      ولبس المسلمون لباس الحرب.
                      وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:

                      لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل
                      ما أجمل الموت إذا حان الأجل

                      وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..
                      وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا إسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..
                      وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..
                      ورفع سعد بصره الى السماء وقال:
                      " اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..
                      وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..
                      ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!

                      لك الله يا سعد بن معاذ..!
                      فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟
                      ولقد استجاب الله دعاءه..
                      فكانت إصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..
                      ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..
                      ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..
                      ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..
                      هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.
                      وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..
                      ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..
                      أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ
                      من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..
                      جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الإعياء والمرض..
                      وقال له الرسول:
                      " يا سعد احكم في بني قريظة".
                      وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها..
                      وقال سعد:
                      " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..
                      وتسبى ذراريهم..
                      وتقسّم أموالهم.."
                      وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..
                      كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..
                      وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:
                      " اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!
                      وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..
                      فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:
                      " السلام عليك يا رسول الله..
                      أما اني لأشهد أنك رسول الله"..
                      وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:
                      " هنيئا لك يا أبا عمرو".
                      يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
                      " كنت ممن حفروا لسعد قبره..
                      وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..
                      وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..
                      ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:
                      " لقد اهتز عرش الرحمن لموت يعد بن معاذ"..

                      تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                      قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                      "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                      وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                      تعليق


                      • #56



                        سعد بن عبادة

                        حامل راية الأنصار

                        لا يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..
                        فالاثنان زعيما أهل المدينة..
                        سعد بن معاذ زعيم الأوس..
                        وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
                        وكلاهما أسلم مبكرا، وشهد بيعة العقبة، وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا، ومؤمنا صدوقا..
                        ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!
                        لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها، ويقطنون مكة..
                        أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها، فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..
                        وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا، وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر، علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..
                        وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون، وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة، حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!
                        أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟
                        زعيم المدينة، الذي طالما أجار مستجيرهم، وحمى تجارتهم، وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟
                        لقد كان الذين اعتقلوه، والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..
                        ولكن، أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟
                        ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟
                        ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة، ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق، فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..
                        أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..
                        ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:
                        ".. فوالله إني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء، أبيض، شعشاع من الجرال..
                        فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا.
                        فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..
                        فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير..!!
                        فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، أما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟
                        قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..
                        قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت..
                        وخرج الرجل اليهما، فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..
                        فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..
                        فقالا: صدقا والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم".
                        غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل، يدعون الى الخير، والحق والسلام..
                        ولقد شحذ هذا العدوان، وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصحاب والإسلام..
                        ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..
                        وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..
                        كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..
                        فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..
                        ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات إيمانه القوي الوثيق..
                        قال الرواة عن جوده هذا:
                        " كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..
                        وقالوا:
                        " كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره، بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة.
                        وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!
                        من أجل هذا، كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خره ورزقه..
                        وكان يقول:
                        " اللهم انه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه"..!!
                        ون\من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:
                        " اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..
                        ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف، بل وضع قوته ومهارته..
                        فقد كان يجيد الرمي إجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.
                        يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
                        " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..
                        مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..
                        ومع سعد بن عبادة، راية الأنصار"..
                        ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..
                        فهو شديد في الحق..
                        وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..
                        وإذا اقتنع بأمر نهض لإعلانه في صراحة لا تعرف المداراة، وتصميم لا يعرف المسايرة..
                        وهذه الشدة، أ، هذا التطرّف، هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..
                        فيوم فتح مكة، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..
                        ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:
                        " اليوم يوم الملحمة..
                        اليوم تستحل الحرمة"..
                        وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
                        " يا رسول الله..
                        اسمع ما قال سعد بن عبادة..
                        ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..
                        فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا رضي اللع عنه أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمّر مكانه..
                        ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين، وعليه هو ذات يوم..
                        وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله إلا الله، فدفعته شدّته إلى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..
                        وهذه الشدة نفسها،أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..
                        فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، التف حوله جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..
                        كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..
                        ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..
                        ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه، وفهم الصحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر.. ثاني اثنين اذ هما في الغار..
                        نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..
                        وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه، الرأي الآخر واستمسك به، مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..
                        ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا، كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..
                        فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه، وممعن في الإصرار على صراحته ووضوحه..
                        ويدلنا على هذه السجيّة فيه، موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..
                        فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين، راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.
                        وأما أولو الاسلام المكين، فقد وكلهم إلى إسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..
                        كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرّد عطائه، شرفا يحرص عليه جميع الناس..
                        وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..
                        وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟
                        وقال شاعرهم حسان بن ثابت:

                        وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن
                        للمؤمنين اذا ما عدّد البشر
                        علام تدعى سليم، وهي نازحة
                        قدّام قوم، هموا آووا وهم نصروا
                        سمّاهم الله الأنصار بنصرهم
                        دين الهدى، وعوان الحرب تستعير
                        وسارعوا في سبيل الله واعترفوا
                        للنائبات، وما جاموا وما ضجروا

                        ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار، اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولم يعطهم شيئا.
                        ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة، وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
                        " يا رسول الله..
                        ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..
                        قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..
                        هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه، وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..
                        وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                        " وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟
                        أي اذا كان هذا رأي قومك، فما رايك أنت..؟؟
                        فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:
                        " ما أنا الا من قومي"..
                        هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..
                        ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها، فان لها روعة لا تقاوم..!
                        جمع سعد قومه من الأنصار..
                        وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..
                        ثم قال:
                        " يا معشر الأنصار..
                        مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟
                        ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟
                        وعالة، فأغناكم الله..؟
                        وأعداء، فألف الله بين قلوبكم..؟؟"
                        قالوا:
                        " بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..
                        قال الرسول:
                        ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟
                        قالوا:
                        بم نجيبك يا رسول الله..؟؟
                        لله ولرسوله المن والفضل..
                        قال الرسول:
                        أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم:
                        أتيتنا مكذوبا، فصدّقناك..
                        ومخذولا، فنصرناك...
                        وعائلا، فآسيناك..
                        وطريدا، فآويناك..
                        أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم الى اسلامكم..؟؟
                        ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟
                        فو الذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..
                        ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..
                        اللهم ارحم الأنصار..
                        وأبناء الأنصار..
                        وأبناء أبناء الأنصار"...!!
                        هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.
                        فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما، وأرواحهم ثراء، وأنفسهم عافية..
                        وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:
                        " رضينا برسول الله قسما وحظا"..
                        وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد الى أمير المؤمنين، وبنفس صراحته المتطرفة قال له:
                        " كان صاحبك أبو بكر،والله، أحب الينا منك..
                        وقد ،والله، أصبحت كارها لجوارك"..!!
                        وفي هدوء أجابه عمر:
                        " ان من كره جوار جاره، تحوّل عنه"..
                        وعاد سعد فقال:
                        " اني متحوّل الى جوار من هو خير منك"..!!
                        ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ، أو يعبّر عن كراهية..
                        فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر، طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..
                        انما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..
                        ألا ينتظر ظروفا، قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين، خلاف لا يريده، ولا يرضاه..
                        وشدّ رحاله الى الشام..
                        وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله، وأفضى الى جوار ربه الرحيم..

                        تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                        قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                        "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                        وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                        تعليق


                        • #57

                          أسامة بن زيد

                          الحبّ بن الحبّ

                          جلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقسّم أموال بيت المال على المسلمين..
                          وجاء دور عبدالله بن عمر، فأعطاه عمر نصيبه.
                          ثم جاء دور أسامة بن زيد، فأعطاه عمر ضعف ما أعطى ولده عبدالله..
                          وذا كان عمر يعطي الناس وفق فضلهم، وبلائهم في الاسلام، فقد خشي عبدالله بن عمر أن يكون مكانه في الاسلام آخرا، وهو الذي يرجو بطاعته، وبجهاده، وبزهده، وبورعه،أن يكون عند الله من السابقين..
                          هنالك سأل أباه قائلا:" لقد فضّلت عليّ أسامة، وقد شهدت مع رسول الله ما لم يشهد"..؟
                          فأجابه عمر:
                          " ان أسامة كان أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك..
                          وأبوه كان أحب الى رسول الله من أبيك"..!
                          فمن هذا الذي بلغ هو وأبوه من قلب الرسول وحبه ما لم يبلغه ابن عمر، وما لم يبلغه عمر بذاته..؟؟
                          انه أسامة بن زيد.
                          كان لقبه بين الصحابة: الحبّ بن الحبّ..
                          أبوه زيد بن حارثة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آثر الرسول على أبيه وأمه وأهله، والذي وقف به النبي على جموع أصحابه يقول:
                          " أشهدكم أن زيدا هذا ابني، يرثني وأرثه"..
                          وظل اسمه بين المسلمين زيد بن محمد حتى أبطل القرآن الكريم عادة التبنّي..
                          أسامة هذا ابنه..
                          وأمه هي أم أيمن، مولاة رسول الله وحاضنته،
                          لم يكن شكله الخارجي يؤهله لشيء.. أي شيء..
                          فهو كما يصفه الرواة والمؤرخون: أسود، أفطس..
                          أجل.. بهاتين الكلمتين، لا أكثر يلخص التاريخ حديثه عن شكل أسامة..!!
                          ولكن، متى كان الاسلام يعبأ بالأشكال الظاهرة للناس..؟
                          متى.. ورسوله هو الذي يقول:
                          " ألا رُبّ أشعث، أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه"..
                          فلندع الشكل الخارجي لأسامة إذن..
                          لندع بشرته السوداء، وأنفه الأفطس، فما هذا كله في ميزان الاسلام مكان..
                          ولننظر ماذا كان في ولائه..؟ ماذا كان في افتدائه..؟ في عظمة نفسه، وامتلاء حياته..؟!
                          لقد بلغ من ذلك كله المدى الذي هيأه لهذا الفيض من حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقديره:
                          " إن أسامة بن زيد لمن أحبّ الناس إليّ، واني لأرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا".
                          كان أسامة رضي الله عنه مالكا لكل الصفات العظيمة التي تجعله قريبا من قلب الرسول.. وكبيرا في عينيه..
                          فهو ابن مسلمين كريمين من أوائل المسلمين سبقا إلى الاسلام، ومن أكثرهم ولاء للرسول وقربا منه.
                          وهو من أبناء الاسلام الحنفاء الذين ولدوا فيه، وتلقوا رضعاتهم الأولى من فطرته النقية، دون أن يدركهم من غبار الجاهلية المظلمة شيء..
                          وهو رضي الله عنه على حداثة سنه، مؤمن، صلب، ومسلم قوي، يحمل كل تبعات إيمانه ودينه، في ولاء مكين، وعزيمة قاهرة..
                          وهو مفرط في ذكائه، مفرط في تواضعه، ليس لتفانيه في سبيل الله ورسوله حدود..
                          ثم هو بعد هذا، يمثل في الدين الجديد، ضحايا الألوان الذين جاء الاسلام ليضع عنهم أوزار التفرقة وأوضارها..
                          فهذا الأسود الأفطس يأخذ في قلب النبي، وفي صفوف المسلمين مكانا عليّا، لأن الدين الذي ارتضاه الله لعباده قد صحح معايير الآدمية والأفضلية بين الناس فقال:
                          ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم)..
                          وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة يوم الفتح العظيم ورديفه هذا الأسود الأفطس أسامة بن زيد..
                          ثم رأيناه يدخل الكعبة في أكثر ساعات الاسلام روعة، وفوزا، وعن يمينه ويساره بلال، وأسامة.. رجلان تكسوهما البشرة السوداء الداكنة، ولكن كلمة الله التي يحملانها في قلبيهما الكبيرين قد أسبغت عليهما كل الشرف وكل الرفعة..
                          وفي سن مبكرة، لم تجاوز العشرين، أمر رسول الله أسامة بن زيد على جيش، بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر..!!
                          وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر، واستكثروا على الفتى الشاب، أسامة بن زيد، امارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين..
                          وبلغ همسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
                          " ان بعض الناس يطعنون في إمارة أسامة بن زيد..
                          ولقد طعنوا في إمارة أبيه من قبل..
                          وان كان أبوه لخليفا للإمارة..
                          وان أسامة لخليق لها..
                          وانه لمن أحبّ الناس اليّ بعد أبيه..
                          واني لأرجو أن يكون من صالحيكم..
                          فاستوصوا به خيرا"..
                          وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحرّك الجيش الى غايته ولكنه كان قد ترك وصيته الحكيمة لأصحابه:
                          " أنفذوا بعث أسامة..
                          أنفذوا بعث أسامة.."
                          وهكذا قدّس الخليفة أبو بكر هذه الوصاة، وعلى الرغم من الظروف الجديدة التي خلفتها وفاة الرسول، فان الصدّيق أصرّ على انجاز وصيته وأمره، فتحرّك جيش أسامة الى غايته، بعد أن استأذنه الخليفة في أن يدع عمر ليبقى الى جواره في المدينة.
                          وبينما كان امبراطور الروم هرقل، يتلقى خبر وفاة الرسول، تلقى في نفس الوقت خبر الجيش الذي يغير على تخوم الشام بقيادة أسامة بن زيد، فحيّره أن يكون المسلمون من القوة بحيث لا يؤثر موت رسولهم في خططهم ومقدرتهم.
                          وهكذا انكمش الروم، ولم يعودوا يتخذون من حدود الشام نقط وثوب على مهد الاسلام في الجزيرة العربية.
                          وعاد الجيش بلا ضحايا.. وقال عنه المسلمون يومئذ:
                          " ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة"..!!
                          وذات يوم تلقى أسامة من رسول الله درس حياته.. درسا بليغا، عاشه أسامة، وعاشته حياته كلها منذ غادرهم الرسول الى الرفيق الأعلى الى أن لقي أسامة ربه في أواخر خلافة معاوية.
                          قبل وفاة الرسول بعامين بعثه عليه السلام أميرا على سريّة خرجت للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الاسلام والمسلمين.
                          وكانت تلك أول إمارة يتولاها أسامة..
                          ولقد أحرز في مهمته النجاح والفوز، وسبقته أنباء فوزه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح بها وسر.
                          ولنستمع الى أسامة يروي لنا بقية النبأ:
                          ".. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أتاه البشير بالفتح، فإذا هو متهلل وجهه.. فأدناني منه ثم قال:
                          حدّثني..
                          فجعلت أحدّثه.. وذكرت أنه لما انهزم القوم أدركت رجلا وأهويت إليه بالرمح، فقال لا اله إلا الله فطعنته وقتلته.
                          فتغيّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
                          ويحك يا أسامة..!
                          فكيف لك بلا اله إلا الله..؟
                          ويحك يا أسامة..
                          فكيف لك بلا اله إلا الله..؟
                          فلم يزل يرددها عليّ حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته. واستقبلت الاسلام يومئذ من جديد.
                          فلا والله لا أقاتل أحدا قال لا اله إلا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم".
                          هذا هو الدرس العظيم الذي وجّه حياة أسامة الحبيب بن الحبيب منذ سمعه من رسول الله إلى أن رحل عن الدنيا راضيا مرضيّا.
                          وانه لدرس بليغ.
                          درس يكشف عن إنسانية الرسول، وعدله، وسموّ مبادئه، وعظمة دينه وخلقه..
                          فهذا الرجل الذي أسف النبي لمقتله، وأنكر على أسامة قتله، كان مشركا ومحاربا..
                          وهو حين قال: لا اله الا الله.. قالها والسيف في يمينه، تتعلق به مزغ اللحم التي نهشها من أجساد المسلمين.. قالها لينجو بها من ضربة قاتلة، أو ليهيء لنفسه فرصة يغير فيها اتجاهه ثم يعاود القتال من جديد..
                          ومع هذا، فلأنه قالها، وتحرّك بها لسانه، يصير دمه حراما وحياته آمنة، في نفس اللحظة، ولنفس السبب..!
                          ووعى أسامة الدرس الى منتهاه..
                          فاذا كان هذا الرجل، في هذا الموقف، ينهى الرسول عن قتله لمجرّد أنه قل: لا اله الا الله.. فكيف بالذين هم مؤمنون حقا، ومسلمون حقا..؟
                          وهكذا رأيناه عندما نشبت الفتنة الكبرى بين الامام علي وأنصاره من جانب، ومعاوية وأنصاره من جانب آخر، يلتزم حيادا مطلقا.
                          كان يحبّ عليّا أكثر الحب، وكان يبصر الحق الى جانبه.. ولكن كيف يقتل بسيفه مسلما يؤمن بالله وبرسله، وهو لذي لامه الرسول لقتله مشركا محاربا قال في لحظة انكساره وهروبه: لا اله الا الله..؟؟!!
                          هنالك أرسل إلى علي رضي الله عنه رسالة قال فيها:
                          " انك لو كنت في شدق الأسد،
                          لأحببت أن أدخل معك فيه.
                          ولكن هذا أمر لم أره"..!!
                          ولزم داره طوال هذا النزاع وتلك الحروب..
                          وحين حاءه بعض أصحابه يناقشونه في موقفه قال لهم:
                          " لا أقاتل أحدا يقول لا اله الا الله أبدا".
                          قال أحدهم له: ألم بقل الله: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)..؟؟
                          فأجابهم أسامة قائلا:
                          " أولئك هم المشركون، ولقد قاتلناهم حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله"..
                          وفي العام الرابع والخمسين من الهجرة.. اشتاق أسامة للقاء الله، وتلملمت روحه بين جوانحه، تريد أن ترجع الى وطنها الأول..
                          وتفتحت أبواب الجنان، لتستقبل واحدا من الأبرار المتقين.

                          تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                          قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                          "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                          وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                          تعليق


                          • #58


                            عبدالرحمن بن أبي بكر

                            بطل حتى النهاية

                            هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده..
                            فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.!!
                            وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين..
                            وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..
                            وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة..
                            ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه..
                            ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.
                            ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..
                            اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع.
                            فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.
                            ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.
                            وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..
                            والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..
                            فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير.
                            ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..
                            لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين..!
                            ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق.
                            وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.
                            لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.
                            وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين...
                            في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع..
                            ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثياته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..
                            وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا..
                            فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة...
                            كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد الشيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد..
                            وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:
                            " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!
                            لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا، وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها، الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!
                            لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع، حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر..
                            ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..
                            لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم، يريد أن يتألفه بها، فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:
                            " ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..
                            ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة..
                            وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..
                            فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه،، وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..
                            وشهدت إسلامه..!!
                            وكان إسلام رجل صادق، حرّ شجاع...

                            تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                            قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                            "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                            وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                            تعليق


                            • #59
                              بارك الله فيك ونفع بعلمك موضوع من اجمل المواضيع
                              [IMG]http://www5.0zz0.com/2014/03/21/16/548167010.jpg[/IMG]

                              تعليق


                              • #60

                                عبدالله بن عمرو بن العاص

                                القانت الأوّاب

                                القانت، التائب، العابد، الأواب، الذي نستها الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..
                                بقدر ما كان أبوه أستاذا في الذكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين، الواضحين..
                                لقد أعطى العبادة وقته كله، وحياته ملها..
                                وثمل بحلاوة الإيمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..
                                ولقد سبق أباه الى الاسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..
                                عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان لجميعه حافظا..
                                ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..
                                بل كان يحفظه ليعمر به قلبه، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ، ويحرّم ما يحرّم، ويتجنب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته، وتدبّره وترتيله، متأنقا في روضاته اليانعات، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة، باكي العين بما تثيره من خشية..!!
                                كان عبدالله قد خلق ليكون قد
                                قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له، وهدي اليه..
                                اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب، والحاح عاشق..!!

                                فاذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟
                                هناك في المسجد الجامع، أو في مسجد داره، صائم نهاره، قائم ليله، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، انما هو رطب دائما بذكر الله، تاليا قرآنه، أو مسبّحا بحمده، أو مستغفرا لذنبه..
                                وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد عبدالله في العبادة..!!
                                وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو، الكشف عما تزخر به النفس الإنسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..
                                وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!
                                لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..
                                وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..
                                فاستدعاه النبي اليه، وراح يدعوه الى القصد في عبادته..
                                قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
                                " ألم اخبر أنك تصوم الناهر، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟
                                فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
                                قال عبدالله:
                                اني أطيق أكثر من ذلك..
                                قال النبي صلى الله عليه وسلم:
                                فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
                                قال عبدالله:
                                فاني أطيق أكثر من ذلك..
                                قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                                فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..
                                وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
                                وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
                                واني أخشى أن يطول بك العمر
                                وأن تملّ قراءته..!!
                                اقرأه في كل شهر مرّة..
                                اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
                                اقرأه في كل ثلاث مرّة..
                                ثم قال له:
                                اني أصوم وأفطر..
                                وأصلي وأنام.
                                وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي
                                فليس مني".
                                ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:
                                " يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
                                ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.
                                فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع علي كرم الله وجهه..؟
                                الحق أن موقف عبدالله هذا، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والإجلال..

                                رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما، فيشكوه الى رسول الله كثيرا.
                                وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:
                                " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
                                وعلى الرغم من أن عبدالله، كان بدينه وبخلق، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.
                                وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.
                                " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
                                وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام
                                ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..
                                ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.
                                وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.
                                كان عمر بن العاص قد اختار طريقه إلى جوار معاوية وكان يدرك مدى إجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه، فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا..
                                كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله إلى جواره في القتال، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام، ويوم اليرموك.
                                فحين همّ بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:
                                يا عبدالله تهيأ للخروج، فانك ستقاتل معنا..
                                وأجابه عبدالله:
                                " كيف وقد عهد اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟
                                وحاول عمرو بدهائه إقناعه بأنهم إنما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.
                                ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:
                                " أتذكر يا عبدالله، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..
                                فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".
                                وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه، وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما..
                                ولكن كيف يتم له هذا..؟؟
                                حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعة إذ أمرا يقضيه..!
                                ونشب القتال حاميا ضاريا..
                                ويختلف المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..
                                ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا، حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب، وضدّ معاوية..
                                وذلك ان عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع إجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.
                                كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم إليها..
                                وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته وتشوته، راح يحمل حجرين حجرين، وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:
                                " ويح ابن سميّة، تقتله الفئة الباغية".
                                سمع كل أصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة، ولا يزالون لها ذاكرين.
                                وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.
                                وفد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية، كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح.
                                " اليوم نلقى الأحبة، محمدا وصحبه".
                                وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية، فسددوا نحوه رمية آثمة، نقلته إلى عالم الشهداء الأبرار.
                                وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..
                                وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:
                                أوقد قتل عمار..؟
                                وأنتم قاتلوه..؟
                                إذن انتم الفئة الباغية.
                                أنتم المقاتلون على ضلالة..!!
                                وانطلق في جيش معاوية كالنذير، يثبط عزائمهم، ويهتف فيهم أنهم بغاة، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..
                                وحملت مقالة عبدالله إلى معاوية، ودعا عمرا وولده عبدالله، وقال لعمرو:
                                " ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟
                                قال عبدالله:
                                ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.
                                فقال له معاوية:
                                فلم خرجت معنا:؟
                                قال عبدالله:
                                لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي، وقد أطعته في الخروج، ولكني لا أقاتل معكم.
                                واذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول، فصاح عبدالله بن عمرو:
                                ائذن له وبشره بالنار.
                                وأفلتت مغايظ معوية على الرغم من طول أناته، وسعة حلمه، وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..
                                وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم، يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق، وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..
                                والتفت صوب أبيه وقال:
                                لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.
                                وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:
                                تقتلك الفئة الباغية.
                                وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..
                                قالا:
                                نعم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:
                                تقتلك الفئة الباغية..
                                ونبوءة الرسول حق..
                                وها هو ذا عمار قد قتل..
                                فمن قتله..؟؟
                                انما قتله الذين خرجوا به، وحملوه معهم الى القتال"..!!
                                وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج، وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..
                                واستأنف الفريقان القتال..
                                وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده، وعبادته..
                                وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..
                                غير أن خروجه الى صفين مجرّد خروجه، ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي ويقول:
                                " مالي ولصفين..؟؟
                                مالي ولقتال المسلمين"..؟
                                وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما، وتبادلا السلام..
                                ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:
                                " أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء..؟
                                انه هذا الذي مرّ بنا الآن.ز الحسين بن علي..
                                وانه ما كلمني منذ صفين..
                                ولأن يرضى عني أحب اليّ من حمر النعم"..!!
                                واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..
                                وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..
                                وبدأ عبدالله بن عمرو الحديث، فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:
                                " ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟
                                قال عبدالله:
                                " ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
                                " ان عبدالله يصوم النهار كله، ويقوم الليل كله.
                                فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                                يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..
                                ولما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم، فخرجت..
                                ولكن والله ما اخترطت سيفا، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم"..!!
                                وبينما هو يتوسط الثانية والسبعين من عمره المبارك..
                                واذ هو في مصلاه، يتضرّع الى ربه، ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد، فلبى الدعاء في شوق عظيم..
                                والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى، ذهبت روحه تسعى وتطير..
                                والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:
                                ( يا أيتها النفس المطمئنة..
                                ارجعي الى ربك راضية مرضية
                                فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..


                                تعريف بأسماء مشايخ هيئة كبار العلماء بالسعودية وطرق التواصل معهم

                                قَالَ الشَيْخْ الأَلَبْانِيِ رَحِمَهُ الله:
                                "طَالِبُ الَحَقِ يَكْفيِهِ دَلِيلْ، وَ صَاحِبُ الَهوَى لا يَكْفِيهِ ألَفَ دَلِيلْ ،الجَاهِلً يُعَلّْمْ وَ صَاحِبُ الهَوَى لَيْسَ لنَا عَلَيهِ سَبِيلْ"
                                وقال :التحدث والتخاطب مع الجن بدعة عصرية

                                تعليق

                                يعمل...
                                X