إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الدولة العثمانية مالها وما عليها بحيادية وموضوعية

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التركي
    رد
    ومما يزهدني في أرض أندلـسٍ *** أسمـاءُ معتمـدٍ فيها ومعتضـد
    ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
    لا تذكر الاندلس الا واستذكر هذين البيتين .. فهذه الالقاب هي من فرقتهم وجرت عليهم الماّسي والويلات ..
    اخي بالفعل موضوعك جميل واثناء القراءة في الكثير من الاحيان اندمج في الموضوع وحين اخرج احس بانني كنت في عالم وزمن اّخر .. ولولا مخافتي ان افسد الموضوع بكثرة التعليقات لكان لي على كل سطر تعليق ..

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مأساة الأندلس وموقف العثمانيين


    هناك أسئلة حائرة تجول في أذهان العديد من المثقفين في العالم العربي حول التاريخ العثماني ومن أهمها سؤال: “لماذا لم تقم الدولة العثمانية بمساعدة مسلمي الأندلس عندما داهمهم الخطر الإسباني الماحق؟ ألم يكن في وسع الدولة العثمانية -وهي في أوج قوتها- الحيلولة دون وقوع تلك المأساة المروعة لمسلمي الأندلس. لنتناول هذا الموضوع بإيجاز.

    من المعلوم لدى الجميع أن تفرق المسلمين في الأندلس إلى دول طوائف أضعفهم، وأن العديد من حكام هذه الدول الصغيرة بدؤوا يستعينون بالإسبان ضد الحكام الآخرين من المسلمين، وهكذا بدأت القصة الأليمة لأفول شمس الإسلام من سماء الأندلس. وبينما كان المسلمون غارقين في خضم الفرقة والشتات، خطا الإسبان خطوة مهمة في مضمار الوحدة عندما تزوّج “فرديناند” ملك أراغون من “إيزابيلا” ملكة قشتالة، وأصبح الهم الوحيد للأسبان القضاء على آخر دولة إسلامية في الأندلس وهي دولة بني الأحمر في غرناطة والتي كان يحكمها آنذاك أبو عبد الله محمد وامتدت مدة حكمه عشر سنوات (1482 – 1492م).

    العثمانيون والانتصار للأندلس
    والحقيقة أنه كان من المتوقع انتهاء حكم مسلمي الأندلس قبل هذا التاريخ بمئات الأعوام لولا المساعدات الخارجية التي كانت تأتيهم من الدول الإسلامية في شمالي أفريقيا. فقد قامت دولة “المرابطين” بنجدتهم ضد “ألفونصو” السادس ملك قشتالة، ثم جاءت مساعدات دولة “الموحدين” بعد ذلك وبقيت أسرة الموحدين في الأندلس حتى انتصار ألفونصو الثامن عليها في معركة “نافاس دي طولوسا”.


    ولكن الوضع تغير في أواخر عمر دولة بني الأحمر في غرناطة، فلم تكن هناك دول إسلامية قوية في شمالي أفريقيا، بل دول ضعيفة، وفي أحيان كثيرة دول متعاونة مع الإسبان والفرنسيين مثل دولة بني حفص في تونس والمرينيّين في المغرب. كما قام الأسبان بسد مضيق جبل طارق ليمنعوا وصول أي نجدة من مسلمي شمالي أفريقيا إلى الأندلس. فلم يبق أمام مسلمي الأندلس سوى الاستنجاد بأقوى دولتين إسلاميتين آنذاك وهما الدولة العثمانية في آسيا الصغرى، ودولة المماليك في مصر، فأرسلوا وفدا لكل منهما طلبا لنجدتهم.

    الوفد الأندلسي في إسطنبول

    وصل الوفد الأندلسي إلى “إسطنبول” عاصمة الدولة العثمانية التي كان على رأسها السلطان بايزيد الثاني ابن السلطان محمد الفاتح، وقام رئيس الوفد بتسليم رسالة استغاثة مؤثرة حفظها التاريخ من مسلمي الأندلس إلى السلطان، نُورِد هنا مقدّمتها:
    “الحضرة العلية وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهّد أقطارها، وأعزّ أنصارها، وأذلّ عُداتها. حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، وسلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام، مُحيي العدل، ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملِك العرب والعجم، والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرّين، وسلطان البحرين، حامي الذِّمار، وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكَهفنا وغيثنا، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقرونا بالانتصار، مخلّد المآثر والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثّرا من الحسنات بما يضاعف الأجر الجزيل، في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا برحت عزماته العليّة مختصة بفضائل الجهاد، ومجردة على أعداء الدين من بأسها، ما يروي صدور السفح والصفاح، وألسنة السلاح بَاذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخاير مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد”.


    وكان هناك مع هذه الرسالة أبيات طويلة من شعر مؤثر للشاعر أبي البقاء صالح بن شريف يصف مأساة المسلمين في الأندلس وغدر الأعداء بهم:
    سلام عليكم من عبيد تخلّفوا
    بأَندلسٍ بالغرب في أرض غربة
    أحاط بهم بحرٌ من الردم زاخر
    وبحر عميق ذو ظلام ولجة
    سلام عليكم من عبيد أصابهم
    مصاب عظيم يا لها من مصيبة
    سلام عليكم من شيوخ تمزّقت
    شيوخهمُ بالنتف من بعد عزة
    سلام عليكم من وجوهٍ تكشفت
    على جملة الأعلاج من بعد سُترة
    سلام عليكم من بنات عواتِق
    يسوقهم اللبّاط قَهرا لخلوة
    سلام عليكم من عجائز أُكرهت
    على أكل خنـزير ولحم جيفة
    وبعد هذه المقدمة المؤثرة تشرح القصيدة غدر الأعداء الإسبان وكيف يقومون بتنصير المسلمين قهرا وجبرا وكيف أن المسلمين جاهدوا ولكنهم قلة أمام جموع الأعداء:
    غُدرنا ونُصِّرنا وبُدّل ديننا
    ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة
    وكنا على دين النبي محمد
    نقاتل عمال الصليب بنية
    ونلقى أمورًا في الجهاد عظيمة
    بقتل وأسر ثم جوع وقلة
    فجاءت علينا الروم من كل جانب
    بجد وعزم من خيول وعدة
    فكنا بطول الدهر نلقى جموعهم
    فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
    وفرسانها تزداد في كل ساعة
    وفرساننا في حال نقص وقلة
    فلما ضعفنا خيموا في بلادنا
    ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
    وجاءوا بأنفاظ عظام كثيرة
    تهدم أسوار البلاد المنيعة
    وشدوا عليها الحصار بقوة
    شهورا وأياما بجد وعزمة
    فلما تفانت خيلنا ورجالنا
    ولم نر من إخوننا من إغاثة
    وقلت لنا الأقوات واشتد حالنا
    أحطناهمُ بالكره خوف الفضيحة
    وخوفا على أبنائنا وبناتنا
    من ان يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
    على أن نكون مثل من كان قبلنا
    من الدجن من أهل البلاد القديمة

    ثم يقول الشاعر بأنهم أصبحوا ضحية الغدر وعدم الوفاء بالوعود والبنود التي بلغت خمسة وخمسين بندا في عقود الصلح، من أنهم سيستمرون في إقامة شعائرهم الإسلامية بكل حرية، ولكنهم عندما دخلوا تحت حكمهم نسوا تلك الوعود والعهود وتركوا المسلمين أمام خيارين لا ثالث لهما فإما التنصر أو القتل.
    ثم يستغيث الشاعر بسلطان الدولة العثمانية، ويعقد آماله عليه:
    فها نحن يا مولاي نشكو إليكم
    فهذا الذي نلناه من شر فرقة
    عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا
    كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
    وإلا فيجلونا جميعًا عن أرضهم
    بأموالنا للغرب دار الأحبة
    فأنتم بحمد الله خير ملوكنا
    وعزتكم تعلو على كل عزة
    وثم سلام الله قلت ورحمة
    عليكم مدى الأيام في كل ساعة

    دعا السلطان بايزيد الثاني الصدر الأعظم والوزراء والقواد إلى مجلس اجتماع طارئ لبحث الموقف وما الذي تستطيع الدولة العثمانية تقديمه في تلك الظروف.
    بحث المشاركون في المجلس الظروف التي تمر بها الدولة العثمانية آنذاك، ونوع ومدى المساعدة التي تستطيع الدولة تقديمها لمسلمي الأندلس. ولسوء حظ مسلمي الأندلس فقد كانت الدولة العثمانية تمر بظروف قاسية جدًّا، كما كان بعد المسافة، وعدم وجود طريق برّي مباشر إليها يزيد من حدة المشكلة ويعقدها.


    الظروف الصعبة للدولة العثمانية
    نستعرض هنا باختصار شديد الظروف الصعبة التي كانت تعيشها الدولة العثمانية آنذاك:


    العثمانيون والمماليك
    كانت الدولة العثمانية آنذاك في حرب مع دولة المماليك في مصر، بسبب نزاعات بدأت من عهد السلطان محمد الفاتح (والد السلطان بايزيد الثاني). فقد عرض السلطان محمد الفاتح على أشرف سيف الدين حاكم دولة المماليك في مصر (الذي كانت مملكة الحجاز ونَجد تحت سيطرته) قيام الدولة العثمانية بتعمير وإصلاح قنوات الماء في الحجاز دون مقابل تيسيرا للحجاج، فقوبل برفض فظ من قبله. ومما زاد من التوتر بين الدولتين قيام المماليك بفرض ضريبة على الحجاج العثمانيين. وفي عهد السلطان بايزيد الثاني أبدى المماليك رغبتهم في ضم منطقة “جُوقُورْ أُوَه” العثمانية إلى الأراضي السورية التي كانت تحت حكمهم. كما حدثت مشاكل أخرى بين الدولتين لا نتطرق إليها هنا. والخلاصة أن الوفد عندما جاء إلى السلطان كانت الجيوش العثمانية في حرب مع جيوش المماليك التي تقدمت فعلا إلى منطقة “جوقور أوه”.


    مشكلة الأمير “جَمْ”
    كانت الدولة العثمانية تعيش مشكلة الأمير “جَمْ” (الأخ الأصغر للسلطان بايزيد) الذي شق عصا الطاعة على أخيه السلطان مطالبا بالعرش لنفسه. وحدثت معارك بين الأخوين انتهت بانتصار السلطان بايزيد وهرب الأمير جَمْ إلى مصر حيث استقبل من قبل حاكم مصر بحفاوة، وكان هذا عاملا مضافا لزيادة التوتر بين البلدين مما أدّى إلى إشعال فتيل الحرب بينهما. ولم تقف مشكلة الأمير جَمْ بإحداث التوتر بين هاتين الدولتين بل إن الأمير جم عندما أسر من قبل القراصنة وهو على ظهر سفينة وتمّ بيعه إلى البابا، أصبح ورقة تهديد في يد الدول الأوروبية والبابا ضد الدولة العثمانية، وأدى إلى توتر العلاقات بين الدول الأوروبية وبين الدولة العثمانية، وإلى تحالف صليبي جديد من البابا “جويلس الثاني” وفرنسا والمجر وجمهورية البندقية ضد الدولة العثمانية مما حدا بالدولة العثمانية إلى تركيز اهتمامها على الخطر القادم إليها من أوروبا.


    خطورة الدولة الصفوية
    كانت الدولة الصفوية تحاول نشر المذهب الشيعي في الأناضول وترسل المئات والآلاف من شباب التركمان الشيعة -بعد تدريبهم- إلى الأناضول لهذا الغرض. وكانت نتيجة هذه الجهود حدوث حركات عصيان مسلّحة قادها الشيخ جُنَيد أولا ومن بعده ابنه حيدر، أي كانت هناك قلاقل كبيرة في الأناضول، ولم تتخلص الدولة العثمانية من هذه القلاقل ومن خطر الدولة الصفوية إلا في عهد السلطان سليم (ابن السلطان بايزيد الثاني).


    إذن فالدولة العثمانية كانت في ضائقة شديدة وكانت في حرب فعلية مع المماليك من جهة، وفي مشاكل كبيرة مع الدول الأوروبية حيث نرى أنه بعد سنوات قليلة اضطرت الدولة العثمانية لإعلان الحرب على المجر وعلى بولندة. كما اتفقت بولندة والمجر وليتوانيا ضد الدولة العثمانية وأعلنت عليها الحرب، كما كانت تعاني من وجود قلاقل وحركات تمرد وعصيان في الداخل. لا نريد الخروج عن الموضوع وإيراد تفاصيل جانبية، ولكن كان من الضروري إلقاء نظرة على وضع الدولة العثمانية آنذاك.

    “بايزيد” يفعل ما يستطيع
    بعد دراسة لكافة الظروف الداخلية والخارجية قرر السلطان بايزيد إرسال قوة بحرية تحت قيادة “كمال رَئِيس” على وجه السرعة. كان ذلك في عام 892هـ/ 1487م. أي قبل سقوط غرناطة بخمس سنوات. وكانت الدولة العثمانية بعملها هذا تعلن الحرب على عدة دول مسيحية في أوروبا؛ كانت تعلن الحرب على قسطاليا وعلى آراغون وعلى نابولي وعلى صقلية وعلى البندقية؛ أي أن الدولة العثمانية على الرغم من مشاكلها الكثيرة -التي ذكرنا أهمها- كانت الدولة الإسلامية الوحيدة التي مدت يد العون لمسلمي الأندلس على قدر طاقتها، ودخلت من أجلهم في حالة حرب مع دول عدة؛ بينما توقّفت عن ذلك الدول الإسلامية الموجودة في شمالي أفريقيا والتي كان بإمكانها من الناحية الجغرافية مسلمي الأندلس كالدولة الحفصية في تونس والدولة الوطاسية في المغرب.


    قام “كمال رَئيس” بضرب سواحل جزر جاربا ومالطا وصقلية وساردونيا وكورسيكا، ثم ضرب سواحل إيطاليا ثم سواحل إسبانيا، وهدم العديد من القلاع والحصون المشرفة على البحر في هذه السواحل. وقام أحيانا بإنزال جنوده في بعض السواحل لهدم تلك القلاع. ولكنه لم يكن يستطيع البقاء طويلا، لأن الحرب البحرية لا تكفي للاستيلاء على المدن ولاسيما المدن الداخلية البعيدة عن البحر، فلا بد من مشاركة القوات البرية التي تستطيع التوغل في الداخل وتثبيت وإدامة السيطرة على المدن المفتوحة. ولم يكن هذا ممكنا آنذاك، لبُعد الشقة بين الأندلس وبين الدولة العثمانية وكذلك بين مصر والأندلس. ولو صرفت الدولة العثمانية كل طاقتها وحاولت الوصول بَرّا إلى الأندلس (وهذا ما لا يتوقعه عاقل) لكان عليها محاربة العديد من الدول الأوروبية لعشرات الأعوام. هذا علما بأن الدول الأوروبية كانت قد قطعت كل صلة لمسلمي الأندلس مع البحر الأبيض المتوسط، كما سدّوا مضيق جبل طارق ليمنعوا وصول أي نجدة إليهم من الدول الإسلامية. وقام “كمال رئيس” بقصف بعض سواحل تونس بسبب كون الدولة الحفصية الحاكمة في تونس في حلف مع الأسبان ومع فرنسا ضد إخوانهم من مسلمي الأندلس.
    وكم كان من المؤسف أن هذه القوة البحرية العثمانية اضطرت أخيرًا إلى مواجهة الدولة الحفصية في تونس لكونها تقوم بمساعدة الفرنسيين. ولكون الدولة العثمانية في حرب مع المماليك فقد وقعت هذه القوة البحرية بين نارين، لذا لم تؤد هجمات هذه القوة البحرية إلى نتائج ملموسة. وفي عام 897هـ/ 1492م استسلمت مدينة غرناطة وانتهى حكم المسلمين في الأندلس. ولكن هذه القوة البحرية قامت بنقل ما يقارب من 300 ألف من المسلمين التاركين بيوتهم والهائمين على وجوههم من الأندلس، إلى المغرب وإلى الجزائر.
    أما الوفد الأندلسي الثاني المرسل إلى دولة المماليك في مصر فلم يحصل على أي نتيجة أيضا حيث إن مصر بعيدة عن الأندلس، ويحتاج إنقاذ هؤلاء المسلمين إلى قوة برية. كما كانت في حرب مع الدولة العثمانية كما ذكرنا.
    كان الأشرف سيف الدين قايتباي (1468- 1496م) هو الذي يحكم دولة المماليك آنذاك، فلم يجد وسيلة لنصرة مسلمي الأندلس سوى إرسال وفود إلى البابا وإلى الأسبان ليقول لهم أن هناك العديد من المسيحيين يعيشون في مصر وفي سورية وأنهم يتمتعون بكامل حرياتهم الدينية ولا يتعرض لهم أحد، وليحذرهم بأنه سيقوم بقتل جميع المسيحيين وإجبارهم على اعتناق الإسلام إن قام الأسبان بقتل المسلمين أو إجبارهم على التنصر. ولم يهتم الأسبان ولا البابا بهذا التحذير الذي عدوه مجرد تخويف لأنهم يعلمون أن الدين الإسلامي يمنع إكراه أحد على ترك دينه. وقد ادعى الأسبان لوفد مصر أن المسلمين تنصروا بملء إرادتهم ولم يجبرهم أحد على هذا. وجاءوا بشهود زور تم تهديدهم وتخويفهم فشهدوا بذلك.
    وقد سجل أبو البقاء في شعره هذه الحادثة وذكر أسماء المدن التي عذب أو أحرق أهلها أو ذبحوا بالسيف قائلاً:
    فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا
    أسارى وقتلى تحت ذل ومِهنة
    وسل بلفيقا عن قضية أمرها
    لقد مُزقوا بالسيف من بعد حسرة
    وضيافة بالسيف مزق أهلها
    كذا فعلوا أيضا بأهل البشرة
    وأندرش بالنار أحرق أهلها
    بجامعهم صاروا جميعا كفحمة


    وهكذا بقي مسلمو الأندلس وحدهم في الميدان وتجرعوا الآلام وبادت دولتهم الزاهرة جزاء تفرقهم إلى طوائف عديدة. فجرّوا على أهاليهم وبلدهم تلك النهاية المروعة التي ستبقى من أكثر المآسي المروعة في التاريخ الإنساني.
    _____________
    أورخان محمد علي | كاتب وباحث تركي.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد

    رجل من صناع التاريخ، أورخان غازي




    هو “أورخان بن عثمان الغازي” ثاني أبناء الأمير “عثمان” مؤسس الدولة العثمانية، وهو ثاني سلاطين آل عثمان. وُلد في الأول من المحرم 687هـ، 6 من فبراير 1288م، وكان أبوه “عثمان” حريصا على إعداده لتولي المسؤولية ومهام الحكم. فكان كثيرا ما يعهد إليه بقيادة الجيوش التي يرسلها لفتح بلاد الروم، كما حدث في سنة (717هـ، 1217م) عندما أرسله لحصار مدينة “بورصة” (مدينة في آسيا الصغرى)، فحاصر أورخان القلاع المحيطة بها، وظل محاصرا لها قرابة عشر سنوات، ولما تأكد حاكمها أنها أصبحت في قبضة أورخان سلَّمها إليه، فدخلها دون قتال سنة (726هـ، 1325م)، ولم يتعرض أورخان لأهلها بسوء مما جعل حاكمها يعلن إسلامه، فمنحه أورخان لقب “بك”.
    ولم يكد أورخان يتمُّ فتح مدينة “بورصة” حتى استدعاه والده الذي كان على فراش الموت ولم يلبث أن فارق الحياة بعد أن أوصى له بالحكم من بعده في 2 من رمضان 726هـ، 2 من أغسطس 1325م وأوصاه وصيَّة تاريخية جاء فيها:
    “يا بني!.. أَحِط من أطاعك بالإعزاز، أنعم على الجنود.. لا يَغُرَّنك الشيطان بجندك ومالك.. إياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بني!.. إنك تعلم أن غايتنا الأسمى هي إرضاء رب العالمين..وبالجهاد يعلو نور ديننا الحنيف، وترفرف راياته في كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله. يا بني!.. اعلم أننا لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحرب شهوةً في الحكم أو سيطرة أفراد.. فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت.. وهذا يا ولدي ما أنت أهل له”.

    ولم يعارض “علاء الدين، الابن الأكبر لعثمان غازي هذه الوصية، بل قبلها مقدما الصالح العام على الصالح الخاص، بالإضافة إلى أنه كان يميل إلى العزلة ودراسة الفقه، في حين اتصف أورخان بالشجاعة والإقدام.
    ولقد نفذ السلطان أورخان وصية والده أحسن تنفيذ؛ أقام أول جامعة إسلامية في الدولة، وأول جيش نظامي. وعندما تولى السلطة نقل مقر الحكومة إلى مدينة “بورصة” الشهيرة لحسن موقعها، وجعلها عاصمة لدولته، وبنى بها جامعا ومدرسة وتكية يقدم فيها الطعام للفقراء والغرباء، كما ولى أخاه “علاء الدين” الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء). فاختص “علاء الدين” بتدبير الأمور الداخلية، وتفرغ أورخان للفتوحات الخارجية، وبهذا يُعد “علاء الدين” أول وزير في تاريخ الدولة العثمانية. فأمر بضرب النقود الفضية باسم أورخان، وكان أحد وجهي العملة يحمل عبارة “خلَّد الله ملكه”، والوجه الآخر يحمل اسم الأمير.
    وفيما يتعلق بتنظيم الجيش، فقد حرص السلطان أورخان في بادئ الأمر على تأليف جيش من الأتراك أنفسهم، وكانت الدولة تدفع لهم الرواتب، ولكن هذه الخدمة العسكرية -التي لم يكن للأتراك عهد بها من قبل- حملت الناس على المغالاة في مطالبهم، فاقترح “جاندرلي” –الذي يعرف بـ”قَرَهْ خليل”، وهو أحد قواد الجيش– إحياء التشريع الإسلامي الذي يقضي بأن يحتفظ بيت مال المسلمين بخمس الغنائم، وعزل الأولاد من أسرى الحرب، وتربيتهم تربية إسلامية خالصة تحثهم على الجهاد في سبيل الله. فوافق السلطان أورخان على هذا الاقتراح، وأعجب به، ودعا إلى تنفيذه، وإعداد هذا الجيش الجديد.
    وأما مدة حكم أورخان فتنقسم إلى فترتين؛ الأولى من سنة (726هـ، 1325م إلى سنة 743هـ، 1342م). وفيها اهتم بتوطيد دعائم الحكم العثماني في “آسيا الصغرى”، وإنشاء الجيش الجديد “الإنكشاري”، وتأسيس الدولة. والثانية من سنة (743هـ، 1342م إلى سنة وفاته 761هـ، 1359م). وكان يستعد فيها لتثبيت قدمه في “شبه جزيرة تراقيا”، و”مقدونيا”، ونشر سلطانه على أرض أوروبا. وقد تمكن أورخان أيضا من فتح “جزيرة بيثنيا”، وقلعتي “سمندرة” و”آيدوس”، وهما قلعتان إستراتيجيتان تحرسان الطريق الحربي الواصل بين “القسطنطينية” – عاصمة الإمبراطورية البيزنطية آنذاك و”نقومكيدية” التي فتحها أورخان في سنة (727هـ، 1326م). ثم تمكن من فتح بلاد “قره سي” في سنة (736هـ، 1335م)، وكانت معاملته الطيبة لأهل هذه المدن سببا في اعتناقهم الإسلام.
    ولمَّا اتسع ملك الدولة العثمانية، تفرَّغ أورخان لترتيب البلاد وتنظيمها، وسنَّ القوانين اللازمة لاستتباب الأمن، وانتشار العمران في أنحاء الدولة العثمانية كافة. وعندما زار الرحَّالة المعروف “ابن بطوطة” بلاد الأناضول في فترة حكم السلطان أورخان وقابله هناك، قال عنه: “إنه أكبر ملوك التركمان، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، وإن له من الحصون ما يقارب مائة حصن، يتفقدها ويقيم بكل حصن أياما لإصلاح شؤونه”.
    وبفتح إمارة “قره سي” اقترب أورخان من الإمارات الأوربية التابعة للإمبراطورية البيزنطية، فدخلت مدن الثغور البحرية في طاعته صيانة لتجارتها، كما استنجد الإمبراطور البيزنطي “جان باليولوج” بالسلطان أورخان، وأرسل إليه سنة (756هـ، 1355م) يطلب إليه الدعم والمساعدة لصد غارات ملك الصرب “إستيفان دوشان” الذي أصبح يهدد “القسطنطينية” نفسها. فأجاب أورخان طلبه، وأرسل إليه جيشا كبيرا. لكن “دوشان” ملك الصرب عاجلته المنية، فعاد العثمانيون من حيث أتوا دون قتال.
    ولمَّا تيقن العثمانيون -بعد عبورهم للشاطئ الأوربي- من حالة الضعف والانحلال التي حلَّت بالإمبراطورية البيزنطية، شرع أورخان في تجهيز الكتائب سرا، لاجتياز البحر وفتح بعض النقاط على الشاطئ الأوربي، لتكون مركزا لأعمال العثمانيين في أوروبا. وفي سنة (758هـ، 1357م) أمر السلطان أورخان ابنه سليمان بعبور مضيق “الدردنيل”، وكان معه أربعون من أشجع جنوده، فتمكنوا من الاستيلاء على ما كان بها من السفن والقوارب، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية، حيث حشدوا فيها 30 ألف جندي، تمكنوا من دخول مدينة “تزنب”. كما ساعدتهم الظروف على فتح مدينة “غاليبولى” -التي تبعد عن القسطنطينية بحوالي (86.5) ميلاً- إثر زلزال أصاب المدينة، فدخلها العثمانيون، وفتحوا عدة مدن أخرى، منها “أبسالا”، و”ردوستو”، وبنوا العديد من المساجد.
    وتوفي الأمير “سليمان” سنة (760هـ، 1359م)، وفي العام التالي (761هـ، 1360م) توفي السلطان أورخان، والذي يُعَدُّ أول سلطان عثماني امتد ملكه إلى داخل أوروبا. وكانت مدة ملكه خمسا وثلاثين سنة. وكان رحمه الله ملكا جليلا، ذا أخلاق حسنة وسيرة طيبة وكرم وافر… عمل على استقرار الدولة العثمانية بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وحرص كل الحرص على تنفيذ وصية والده عثمان مؤسس الدولة العثمانية. ودُفِن في مدينة “بورصة” عاصمة الدولة العثمانية، وتولَّى بعده ابنه السلطان مراد الأول.


    __________________
    أ.د. الصفصافي أحمد القطوري | جامعة عين شمس – مصر.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المعماري سنان والهندسة الصوتية


    عمل المعماري العثماني “سنان” على تطوير أنظمةٍ، تحقِّق له التجانس في توزيع الأمواج الصوتية وتمكّنه من الحصول على الرنين الأمثل في آثاره.
    فمن أجل الحصول على الطاقة الصوتية والرنين المطلوب، قام المعماري “سنان” باستخدام نظام “تجويف المِرْنان الصوتي” (Resonator)؛ حيث وضع جرّات صغيرة داخل القبة وزوايا المسجد، ووجه فُتَحَ هذه الجرّات نحو فضاء المسجد.

    هذا وقد تعود الدراسة الأولى في أوروبا في فهم نظام “مرنان”، إلى العالم الألماني “هيلمهولتز” في عام 1862، وقد تم تناول هذا النظام كظاهرة عام 1953 من قبَل الفيزيائي “إنغراند”، أي بعد 400 عام من “سنان”. أثبت “إنغراند” علميًّا، أن المرنان يعكس موجة معينة من الترددات الصوتية، ويمتص الأخرى، الأمر الذي يُكسب القبة ميزة توزيع الصوت بوضوح إلى كافة جنبات المنشأة. وهذا إن دل فإنما يدل على تعمّق المعماري “سنان” في علوم الأنظمة الصوتية وإدراكه لها.
    إن جامع “شاه زاده محمد” الذي بلغت مساحته الداخلية 50 ألف متر مكعب، هو أول مسجد ضخم بناه المعماري سنان، حيث تم إنتاج الطاقة الصوتية في هذا المسجد عبر مجموعة من المؤذنين في محفل مخصص لهم. وإذا ما أمعنا النظر في مخططات جامع السليمانية بإسطنبول -ثاني المساجد الكبرى التي بناها- الذي بلغت مساحته الداخلية 110 ألف متر مكعب، يتبيّن لنا أنه أدرك عدم كفاية الطاقة الصوتية في جامع “شاه زاده محمد” وحاول تقويتها بالطرق الطبيعية؛ حيث قام بتوسيع محفل المؤذنين، ووضعه بجوار قدم الفيل الكائن في الجهة الجنوبية الغربية للمسجد، بالإضافة إلى وضع شرفة للمؤذنين بجور كل قدم من أقدام الفيل الثلاثة المتبقية، وذلك من أجل الحصول على طاقة صوتية عالية. ولكنه وضع بالحسبان أن فروق الطَّور في الأمواج الصوتية الصادرة من المواقع المختلفة، ورنين الصوت الزائد، ربما يؤدي إلى صعوبة في فهم الصوت وتلقّي تردداته المنخفضة. لذلك عمل سنان في جامع السليمية على توضيح الصوت؛ حيث وحّد الأصوات فوضع محفل المؤذنين تحت القبة مباشرة، فاستطاع بذلك توصيل الطاقة الصوتية إلى فُتَح الجرّات الصغيرة الموضوعة في القبة، وتوزيعها بصفاء ووضوح إلى حرم المسجد، وبذلك تحقق المنال.

    _________________
    المصدر مجلة حراء / ابراهيم يوجه داغ


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الاحتلال الفرنسي لتونس واحتضان ليبيا لأكثر من 200 ألف مهاجر تونسي




    بعد ثورة الشّعب الليبي على نظام العقيد معمر القذافــــي سنة 2011 لجأت إلى تونس حشود كبيرة من المواطنين اللّيبيين فاق عددهم الـ500 ألف شخص ما بين رجال وأطفالونساء وشيوخ. وقدمت العائلات التّونسية جميع أنواع الدّعم لإخوانهم الليبيين، وآووهم في بيوتهم، واعتبروا ذلك واجبًا لا منّة. وقد أشادت المنظمات الدّولية بكرم الشّعب التّونسي وحسن استقباله لضيوفه. والحقيقة أن العلاقات بين الشعبين الليبي والتونسي ترجع إلى عقود طويلة من الزّمن، وهي راسخة عبر التّاريخ.
    وقد كشفت لنا إحدى الوثائق النادرة التي عثرنا عليها في الأرشيف العثماني التابع لرئاسة الوزراء باسطنبول (وثيقة رقم: BOA, Y. PRK. KOM, 3/42) حقائق مهمة عن الأعداد الهائلة من التونسيين الذين احتضنتهم ليبيا، والدّعم الذي قدمه لهم الشّعب الليبي على إثر الهجوم الفرنسي على البلاد التونسية واحتلالها في عام 1881م. فقد رفض عدد كبير من التّونسيّين الخضوع لإملاءات المحتل الفرنسي ما أجبرهم على اللّجوء إلى الأراضي الليبية. وهذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين تكشف في الوقت نفسه القسوة الهائلة التي تعامل بها المحتل الفرنسي مع الأهالي في تونس من جميع المناطق والقبائل.
    فقد بلغ عدد المهاجرين من قبيلة ورغمة وحدها 80 ألف شخص من بينهم 20 ألف مسلح، أما المهاجرون من قبيلة الهمامة فكان عددهم 52 ألف شخص، بينهم 15 ألف من المسلّحين. وبلغ عدد المهاجرين من قبيلة جلاص 20 ألف شخص من بينهم 5 آلاف مسلح، بينما بلغ عدد المهاجرين من قبائل سيدي تليل وماجر والمرازيق ونفات 10 آلاف شخص من كل قبيلة من بينهم عدد هام من المسلحين. وكان عدد المهاجرين من قبائل سيدي عبيد والفراشيش والسواسي 5 آلاف شخص من كل قبيلة. وتوزّع بقية المهاجرين بنسب متفاوتة بين قبائل دريد وبني يزيد والمثاليث وأولاد سعيد وأولاد عيار وغيرها من القبائل الأخرى. وبلغ العدد الجملي للمهاجرين أكثر من 230 ألف شخص، من بينهم نحو 50 ألف من المسلّحين.

    إذن فما قام به الشعب التونسي إبان الثّورة الليبية هو رد لجميل سابق يعود لأكثر من 130 عاما مضت. وهذا يجسد عمق العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين، وهناك وثائق أخرى كثيرة يزخر بها الأرشيف العثماني تبين الغضب والحسرة التي عمت الأهالي في ليبيا والعلماء هناك على إثر الغزو الفرنسي لتونس. والمطلوب اليوم من جامعاتنا في تونس وفي ليبيا كذلك ومن مراكز البحوث الاهتمام بهذه المصادر في تاريخ البلدين، وإلقاء الضوء على ما تحتوي عليه من حقائق غاية في الأهمية، وليس الاقتصار على مصادر فرنسية وإيطالية وغربية كثيرًا ما شوّهت تاريخنا ودسّت فيه كما هائلا من السّموم.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    بصمات عثمانية على الأقصى الشريف



    القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة. مسرح النبوات وزهرة المدائن وموضع أنظار البشر منذ أقدم العصور.
    تاريخ بناء القدس يعود إلى اسم بانيها وهو إيلياء بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام -إيلياء أحد أسماء القدس- وقيل إن “مليك صادق” أحد ملوك اليبوسيين -وهم أشهر قبائل الكنعانيين- أول من اختط وبنى مدينة القدس وذلك سنة (3000 ق.م) والتي سميت بـ”يبوس”. وقد عرف “مليك صادق” بالتقوى وحب السلام حتى أُطلق عليه “ملك السلام”، ومن هنا جاء اسم مدينة “سالم” أو “شالم” أو “أور شالم” بمعنى دع شالم يؤسس، أو مدينة سالم. وبالتالي فإن أورشليم كان اسماً معروفا وموجودا قبل أن يغتصب الإسرائيليون هذه المدينة من أيدي أصحابها اليبوسيين. وسماها الإسرائيليون أيضا “صهيون” نسبة لجبل في فلسطين، وقد غلب على المدينة اسم “القدس”.


    الدور التمهيدي في العمارة العثمانية
    وقسَّم العلماء تاريخ العمارة الإسلامية العثمانية إلى أدوار واضحة المعالم أعقبت الدور التمهيدي. أما الدور التمهيدي فيعُم الفترة الزمنية السابقة على أيام السلطان “أورخان” الذي تسلطن (1325م). ويشمل الدور التمهيدي المنشآت التي أنشأها الأمير “أَرطغرل بن سليمان شاه” (1198-1281)، حيث امتدت في زمنه رقعة الإمارة العثمانية بالفتوحات من مدينة “أَسْكِيشَهِر” إلى “كُوتَاهْيا”. وبعد وفاته حكم الإمارة ابنه عثمان الأول (1258-1326)، حيث اتخذ من المدينة الجديدة “يَنِي شَهِرْ” عاصمة للدولة العثمانية. وتطورت العمارة الإسلامية العثمانية في “يني شهر”، ثم مرّت بأدوار عدة فشكل عهد أرطغرل وخليفته عثمان الأول مرحلة الدور المعماري العثماني التمهيدي الذي استمر حتى نهاية عهد عثمان الأول.


    وبعد وفاة السلطان عثمان الأول خلفه ولده السلطان “أورخان”. فبدأ دور معماري جديد، فتطورت العمارة الإسلامية العثمانية حين فُتحت مدينة “بورصة”، فاتخذها السلطان أورخان عاصمة للدولة العثمانية بعد العاصمة الأولى في مدينة “يني شهر”. ثم فتح السلطان أورخان مدينة “إِزْنيك” المسماة “نيقيا المقدسة” عند الروم. واستطاع السيطرة على سواحل البحر الأسود وبحر مرمرة.
    ومع امتداد السلطنة العثمانية إلى المدن المفتوحة اتسع نطاق العمارة الإسلامية، وازدهرت فنونها، وأصبحت مدينة بورصة نموذجا رائعا للمدينة الإسلامية بكل مكوناتها المتطورة. وبعدما حقق السلطان أورخان انتصاراته في آسيا، قرر التوجه غربا نحو أوروبا لمتابعة الفتوحات، ونشر الحضارة الإسلامية بكل ما فيها من حسنات تحقق المصالح الإنسانية وتدفع المفاسد، حيث حقق آماله بفتح مدن الضفة الغربية لمضيق الدردنيل الذي يصل بين بحر مرمرة شمالا وبحر إيجة جنوبا.

    القدس في ظل الدولة العثمانية
    أبدى العثمانيون عناية فائقة بتطوير مدينة القدس، ابتداء بالتعميرات الضخمة التي أنجزها السلطان سليمان القانوني وانتهاء بالمباني التي شُيدت في عصر السلطان عبد الحميد الثاني. ورغم محاولات بعض المؤرخين طمس هذه الحقيقة فإنّ تلك المنشآت ما زالت قائمة حتى اليوم.


    إن أقدم معلم تاريخي في القدس الشريف هو أسوار المدينة التاريخية التي تم بناؤها من قبل السلطان سليمان القانوني عام (1526م)، ويليها الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي بنيت في أماكن مختلفة من القدس وأبرزها الوقف الخيري “خاصكي سلطان” أو “التكية”. وهي من أعظم المؤسسات الخيرية في القدس والتي قامت بإنشائها زوجة السلطان سليمان القانوني. والتكية تقدم الطعام لفقراء القدس والمحتاجين إلى يومنا هذا، حيث تقع على طريق الواد وفي الزقاق الممتد بين خان الزيت وعقبة التكية حيث تكية خاصكي سلطان كما عرفها أهالي فلسطين والقدس من مئات السنين.
    في أول شهر كانون الأول من عام (1517م) وصل السلطان العثماني سليم الأول أسوار القدس ولم تكن هناك مقاومة. وخرج العلماء للقاء السلطان وأهدوه مفاتيح الأقصى وقبة الصخرة، فقفز السلطان سليم من على فرسه وسجد سجدتين ثم قال: “الحمد لله الذي جعلني خادما لحرم أولى القبلتين”.

    وتعتبر فترة السلطان سليمان القانوني نجل السلطان سليم الأول، الفترة الذهبية بالنسبة لأسوار القدس، حيث أمر هذا السلطان بإعادة بناء أسوار المدينة من جديد. وكانت تلك خطة طموحة استلزمت مهارة عالية ونفقات باهظة. ولم يقم العثمانيون ببناء استحكامات معقدة كتلك سوى في أماكن قليلة أخرى. وبلغ طول السور الذي ما زال موجودا إلى الآن ميلين بارتفاع قرابة أربعين قدما. وأحاط المدينة إحاطة تامة وكان به أربعة وثلاثون برجا وسبع بوابات. وحينما انتهى بناء السور عام (1541م) أصبحت القدس محصنة لأول مرة منذ أكثر من ثلاثمائة عام.
    وأنفق سليمان القانوني أيضا مبالغ كبيرة في نظام المياه بالمدينة فبنيت ست نافورات جميلة وشقت القنوات والبحيرات، وتم تجديد بحيرة السلطان جنوب غربي المدينة وأصلحت قنواتها. وشهدت المدينة أزدهارا جديدا حيث تم تطوير الأسواق وتوسيعها.
    وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر تم تحويل القدس إداريا إلى متصرفية وضمت إليها “نابلس” و”غزة”، لزيادة عدد سكانها ولأهميتها الدينية. وكانت سلطة قاضي القدس ذات مدى متسع يشمل المناطق من غزة إلى حيفا.
    لم يهمل السلطان سليمان الحرم فرممه بالفسيفساء خاصة الجزء الأعلى من الحائط الخارجي لقبة الصخرة وغلف الجزء الأسفل بالرخام. وتمت تغطية قبة السلسلة بزخارف جميلة. كما بنى سليمان القانوني نافورة بديعة للوضوء في الفناء الأمامي للمسجد الأقصى وكما أيد بناء أوقاف الحرم وبعض المدارس. وتنازل السلطان عن حقه في رسوم دخول الحجاج لصالح تمويل قراءة القرآن في قبة الصخرة لمدة عام واحد. وأصبحت الأوقاف التي تم إصلاحها مصدر عمل ودخل للأعمال الخيرية. وأنشأت زوجة السلطان القانوني تكية في القدس عام (1551م)، ومجمعا كبيرا يشمل مسجدا ورباطا ومدرسة وخانا ومطبخا يخدم طلبة العلم والمتصوفين والفقراء ويقدم لهم وجبات طعام مجانية. وقد شملت أوقاف التكية عدة قرى حتى وصلت منطقة رام الله.
    فقد تم إعادة ترميم قبة الصخرة في عهد السلطان محمد الثالث والسلطان أحمد الأول والسلطان مصطفى الأول. وأصدر السلاطين فرمانات عديدة خاصة بالأماكن المقدسة. وكان الباشاوات ملزمين بحفظ النظام في منطقة الحرم والتأكد من سلامة الأماكن الدينية ونظافتها. وكانت الوقف تستغل في عائدات أعمال الصيانة وكانت الحكومة أيضا على استعداد لاقتسام النفقات إذا استدعى الأمر. وظلت المدينة في القرن السابع عشر تستحوذ على الإعجاب. وساد الأمن والسلام في كل أرجاء بلاد القدس الشريف. وقد زار الرحالة التركي “أوليا جلبي” القدس عام (1648م) ووجد -كما قال- أن هناك ثمانمائة إمام وواعظ يعملون في الحرم والمدارس المجاورة ويتقاضون مرتبات، وكان هناك أيضا خمسون مؤذنا وعدد كبير من مرتلي القرآن الكريم، كما وجد أن الزائرين المسلمين ما زالوا يسيرون مواكبهم حول الحرم ويؤدون الصلاة في المواقع المختلفة. وقال إن أروقة الحرم امتلأت بالدراويش من الهند وفارس وآسيا الصغرى، حيث كانوا يرتلون القرآن طوال الليل ويعقدون حلقات الذكر ويتغنون بأسماء الله الحسنى على ضوء مصابيح الزيت الوامضة المتواجدة على طول الممرات ذات الأعمدة. وبعد صلاة الفجر كانت تعقد حلقات الذكر مرة أخرى في مسجد المغاربة في الركن الجنوبي الغربي من الحرم. وكان هناك خمسمائة جندي تحت إمرة باشا القدس وكانت أهم مهامهم الرئيسية مرافقة قافلة الحج الذاهبة من دمشق إلى مكة المكرمة كل عام.
    وقد نصّبت الدولة العثمانية على القدس حكاما من أهلها مما زاد في الاهتمام بتعميرها وترميم ما تلف من مساجدها وخاصة المسجد الأقصى وقد تم تعيين أربعة مفتين.
    وخافظت القدس في العهد العثماني على مكانتها المرموقة وظلت مركز جذب للمتصوفين والعلماء. والجدير بالذكر أنه كان عدد العلماء في المدينة في القرن الثامن عشر أكبر من عددهم في القرن السابع عشر كما اقتنى بعض العلماء مكتبات خاصة مهمة.
    القدس وفن العمارة الإسلامية
    العمارة الإسلامية في القدس هي امتدادٌ للعمارة الإسلامية العثمانية، والعمارة العثمانية حلقة مهمة من حلقات العمارة الإسلامية عموما. نشأت العمارة الإسلامية -زمنيا- مع الهجرة النبوية وبناء المسجد النبوي في المدينة المنورة، وتمتد حتى العصر الراهن، كما أن للعمارة الإسلامية امتدادا جغرافيا واسعا يمتد من بلاد الملايو والبنغال وتايلاند والفيليبين شرقا إلى الأندلس غربا وهذا الامتداد قديم.
    وفي العصر الراهن تنتشر المنشآت الإسلامية في كافة أنحاء المعمورة. ولكن وجود بعض المنشآت لا ينمّ عن هوية إسلامية ما لم ترافقها العادات والأذواق والثقافات الإسلامية. بدأ نشوء المدن الإسلامية ببناء المسجد وما يحيط به من مساكن ومنشآت؛ كالقلعة وسبيل الماء والحمام والقناطر والجسور والمدارس والبيمارستانات والخانات والأسواق.


    أصبحت المدينة الإسلامية مميزة المعالم، واضحة الهوية بعد الهجرة النبوية، ثم تكاملت في عهود الخلفاء الراشدين، وازدهرت العمارة الإسلامية في عهد الأمويين حيث استفاد البناؤون المسلمون من التطور العمراني الرومي البيزنطي، وتجلى ذلك المزج بين الفنّ المعماري الإسلامي والفن المعماري البيزنطي في الجامع الأموي بمدينة دمشق، والجامع الأموي بمدينة حلب، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس. ثم تطورت الفنون المعمارية الإسلامية في عهد العباسيين حيث انتشرت المدارس النظامية التي شيدها الوزير نظام الملك السلجوقي، ثم شُيدت المدرسة المستنصرية في بغداد في بداية القرن السابع الهجري، فبلغت بغداد آنذاك درجة رفيعة معبرة عن محتويات العاصمة الإسلامية التي استفادت من المؤثرات المعمارية البيزنطية والساسانية والسلجوقية والهندية.

    وبعد ذلك انتقلت عاصمة الخلافة العباسية إلى القاهرة التي أصبحت رمز العاصمة الإسلامية، واستمرت على تلك الحال حتى فتحها السلطان سليم الأول ونقل عاصمة الخلافة الإسلامية إلى مدينة إسطنبول سنة (1517م). فتطور فن العمارة الإسلامية العثمانية حيث جمع بين فنون العمارة الإفريقية والآسيوية والأوروبية، وتطورت العمارة الإسلامية العثمانية في شكل متلازم مع تطور الدولة العثمانية واتسع نطاقها مع اتساع رقعة الدولة العثمانية.
    ____________
    المصدر مجلة حراء / أحمد مروات


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    دروس الحضرة السلطانية





    عندما كان السلاطين العثمانيون منذ قيام الدولة العثمانية ينتشرون في الأرض فاتحين، كانوا يولون اهتمامًا كبيرًا للأنشطة العلمية والثقافية، ففتحوا المدارس، واستقطبوا كبار علماء العصور المتتابعة إلى إسطنبول، وأنشأوا المكتبات، وهيأوا الأوساط التي تخرِّج العلماء وتنتج العلوم.


    رتب السلاطين العثمانيون في قصورهم مجالس العلم يتعرفون من خلالها إلى دنيا العلوم، ويظهرون بها احترامهم للعلماء… وبفضل هذه المجالس، تهيأت أرضية حوار جميل بين العلماء والسلاطين، وعلى هذه الأرضية قامت مشروعات إيجابية عظيمة على مستوى الدولة. فقد أمر السلطان محمد الفاتح -على سبيل المثال- بإنشاء مدارس “الصحن الثماني” -وهي ثمانية مدارس، أربعةٌ في شمال جامع الفاتح، وأربعةٌ في جنوبه- ينتسب إليه الطلاب بعد إتمامهم المراحل الابتدائية والمتوسطة والمرحلة التحضيرية. فهي بمثابة التعليم العالي والجامعات في يومنا الحالي. وقد استند السلطان الفاتح في ذلك، على أفكار علماء عصره المرموقين “مُلاّ خُسْرَوْ” و”علي قُوشْجُو” اللذين وضعا مفردات مناهجها التعليمية. وبقيت هذه المؤسسة (الصحن الثماني) من أشهر المراكز العلمية في عصر الفاتح وما تلاه من العصور العثمانية.

    التطور التاريخي لدروس الحضرة السلطانية
    كانت الدولة العثمانية تقوم بتنظيم فعاليات كثيرة خلال شهر رمضان المبارك، لاكتساب المزيد من فيوضات هذا الشهر وبركاته. والسلاطين بدورهم كانوا يستغلون أيام شهر رمضان وينظمون الدروس الخاصة بها للعلماء. ومن الأمور الطريفة والمثيرة للاهتمام “دروس الحضرة السلطانية” التي عُقِدتْ في شهر رمضان المبارك بشكل خاص بين العلماء والسلاطين. وهذه الدروس -وإن لم يحمل عنها تاريخُنا المعلومات المفصلة والكافية- سواء من حيث محتواها أو من حيث قيمتها المعنوية والروحية، فإنها كانت بلا شك صفحة مهمة في الحياة الثقافية العثمانية.


    استمرت دروس الحضرة السلطانية حتى منتصف القرن الثامن عشر عبر مراحل عدة، فلئن كانت هناك بعض المجالس العلمية التي كان يحضرها السلطان محمد الفاتح بنفسه، والدروس التي يحضرها السلطان محمد الرابع بين صلاتي المغرب والعشاء، ويلقيها شيخه “أحمد واني أفندي” وشيخ الإسلام “يحيى أفندي”، فإنها لم تكن مستمرة بانتظام ولم تكتسب البداية النموذجية المنتظمة لدروس الحضرة حتى عهد السلطان أحمد الثالث، حيث قام الصدر الأعظم “داماد إبراهيم باشا النَّوشَهِرْلي” عام 1724م بتنظيمها من جديد، إذ بدأ يدعو في شهر رمضان المبارك إلى قصره العلماء المشهورين لإلقاء الدروس في تفسير القرآن الكريم. وفي عام 1728م حضر إحدى هذه الدروس الرمضانية السلطانُ “أحمد الثالث” ونجله الشاهزادة “مصطفى الثالث”، ويروى أنه جرى
    إحداث دروس الحضرة بحضورهما وتأثرهما.


    وربما تَزامُن هذه الدروس التي رتبها “إبراهيم باشا” مع “عهد اللاّلة” له دلالته ومغزاه، فهذا العهد -كما تذكره كتبنا التاريخية- كان عهد ترف وبذخ، إذ بدأت تضعف فيه معنويات رجال الدولة التي كانت عند سابقيهم، ولذلك دخلت دروس الحضرة في بنية البرامج الرسمية للدولة بدءًا من شهر رمضان الثاني (28 نيسان 1759) بعد تولي السلطان مصطفى الثالث العرش (1757-1774). وكان السلطان مصطفى الثالث مشهورًا بالزهد والورع، كما كان يبدي حساسية شديدة في الأمور التي تخص الدين؛ فإذا أدرك قرارًا من القرارات التي اتخِذتْ أنه مخالفًا للشرع، فسرعان ما كان يسحبه ويعدّله وفقًا للأوامر الدينية، أو بعبارة أخرى كان حريصًا على تجسيد الصواب في الحياة. وتتحدث الوثيقة التي سجلها كاتب سرّه، أن السلطان مصطفى الثالث كان يحرص على صلوات الجماعة وعلى الأخص صلاة الفجر، وكان يحضر دروس التفسير التي تعقد بعدها في قصره بانتظام.

    مَن يحضر دروس الحضرة السلطانية؟
    العالم الذي يقدم الدرس في دروس الحضرة السلطانية كان يسمى بـ”المقرِّر”، أما العلماء الذين يستمعون الدرس ثم يوجِّهون الأسئلة فكانوا يسمّون بـ “المخاطَب”. انطلقتْ هذه الدروس في عهودها الأولى، بخمسة مخاطبين لكل مقرِّر، وبمرور الأيام والأزمنة بلغ عدد هؤلاء إلى خمسة عشر مخاطبًا. وفي أول درس من دروس الحضرة الذي تم عقده في عهد السلطان مصطفى الثالث في شهر رمضان من عام 1759م، كان المقرِّر هو أمين الفتوى “أبو بكر أفندي”، وكان “نبيل محمد أفندي” وشيخ القصر “حميدي محمد أفندي” ومفتش شيخ الإسلام “إدريس أفندي” و”مُزَلَّف محمد أفندي” و”إسماعيل أفندي القونوي” هم المخاطبون.

    “اختيار أعضاء دروس الحضرة السلطانية


    قبل شهر رمضان المبارك كان يجري حصر أسماء العلماء المرشحين للدروس وتوزيعهم في مجموعات، ويتشكل لكل درسٍ هيئة خاصة. وقد كان عدد العلماء المختارين لدروس الحضرة في عام 1775م سبعين عالمًا، بينما وصل هذا العدد في 1767م إلى 126 عالمًا. يتم اختيار هذه الهيئات من قبل شيوخ الإسلام، حيث يتم اختيار المقررِّين والمخاطَبين بعناية فائقة، ثم تظهر في الأوامر والمذكرات السلطانية المرسلة إلى المشيخة الإسلامية، فيتم التأكيد على اللياقة والمراتب العلمية والمميزات الشخصية. ولا يستطيع السلطان أو شيخ الإسلام أن يعيّن شخصًا مقرِّرًا أو مخاطَبًا ما لم يكن متمتعًا بهذه الأوصاف. وبعد اختيار هذه الهيئات يتم تقديمها إلى السلطان من أجل التصديق.
    “أوقات دروس الحضرة السلطانية وأماكنها


    كان السلطان يعيِّن بنفسه الأماكن التي ستقام فيها دروس الحضرة. وقد عُقدت هذه الدروس لفترة طويلة في “طوب قابي” في أقسام؛ قصر سَبَتْجِيلار، وقصر صوفا، وقصر روان، وقصر إِنْجِيلي، قصر يالي، وقاعة الختان. وفيما بعد انتقلت دروس الحضرة السلطانية في عهود السلاطين عبد العزيز، ومحمد رشاد، وعبد المجيد إلى قصر “دولمه بقجه” وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، إلى قصر “يِلْدِز”.
    أما أوقات الدروس في شهر رمضان المبارك، فقد اختلفت تبعًا لاختلاف السلاطين؛ فكانت تجري في بعض الأحيان بين الظهر والعصر، وفي بعض الأحيان بين العصر والمغرب، وكانت على العموم تمتد لساعتين، ولا تتوقف إلا يوم الجمعة من العشر الأول.

    محتوى دروس الحضرة السلطانية
    تحضر الهيئة المختارة إلى الدرس يتقدمهم المقرِّر، ثم المخاطبون حسب القدم. يتم استقبال الهيئة والسلطان مع مرافقيه وقوفًا، وهذا السلوك يبيّن مدى الاحترام والتقدير لأهل العلم في الدولة العثمانية، ويندر رؤيته في دول أخرى. بعد مراسم الاستقبال، يجلس السلطان والحضور جميعًا، كلٌّ في مجلسه المحدد له. يجلس المقرِّر والمخاطَبون والحضور لفرشٍ أعدت لهم خصيصًا، كما يجلس السلاطين كالمستمعين الآخرين على ركبهم لا على عروشهم، وينصتون وأيديهم على ركبهم.


    تتم العناية بإعداد دروس الحضرة السلطانية بشكل خاص باعتبارها جزءًا من تقاليد القصر، فالفرش المخيطة من أقمشة خاصة، ومناضد القراءة المحفورة، والألبسة الخاصة للحضور، وكل التفاصيل الدقيقة، يتم الوقوف عندها في عرض رائع للمدنية العثمانية بكل صفائها.
    تبدأ دروس الحضرة بدرس التفسير؛ فيبدأ المقرِّر بتلاوة الآيات، ثم يتم تفسير الآيات من قبل المقرِّر، ثم يتناوب المخاطبون بعرض أفكارهم حول الآيات. ويجتنبون الجدال والاستطرادات غير الضرورية في هذه المجالس العلمية والدروس التي تجري في حضرة السلطان. ومن جانب آخر تتركز العناية لتأمين الوسط الذي يبدي فيه المشاركون آراءهم في راحة تامة، حيث كان في عهد السلطان سليم الثالث (1807م) كان يتكلم بنفسه مع العلماء المشاركين، ويطلب منهم أن يعبّروا عن آرائهم في راحة تامة. يبلغ الدرس نهايته بإشارة من السلطان، فيتلو المقرِّر دعاء الختام. هذا وقد جرت العادة أن يمنح السلطان عطية للمقرِّر والمخاطبين.
    كانت دروس التفسير تقرأ عادة من كتاب “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” لـ”القاضي البيضاوي” (توفي عام 1285م)، وتدريس هذا الكتاب الموجز المتوسط في حجمه لأعوام طويلة في المدارس العثمانية، يدل على قيمة هذا الكتاب.

    كان تفسير قوله تعالى من سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ الدرس الأول في عهد السلطان مصطفى الثالث.
    لم تكن دروس الحضرة السلطانية تلتزم في التفسير ترتيبًا معينًا لآيات القرآن الكريم حتى إذا كان شهر رمضان عام 1785م، بدأ التفسير بسورة الفاتحة واستمر وفق ترتيب السور في القرآن الكريم. فعلى سبيل المثال، بدأ تفسير سورة الإسراء المكونة من 111 آية في شهر رمضان المبارك عام 1755م واستمر حتى عام 1778م، وسورة الفتح المكونة من 29 آية اكتمل تفسيرها ما بين عامي (1779-1784م)، وسورة الفاتحة في عامي (1785م) و(1786م)، وابتدأ تفسير سورة البقرة من عام 1787م واستمر تفسير 30 آية منها طيلة خمس سنوات حتى رمضان 1791م. واستمرت دروس التفسير المرتبة حتى شهر رمضان من 1923م، وتوقفت عند تفسير الآية 31 من سورة النحل في الجزء الرابع عشر: ﴿
    جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ﴾، وبتفسير هذه الآية توقفت دروس الحضرة السلطانية الرمضانية تمامًا.

    لم تقتصر الدروس في المجتمعات العثمانية على قصور السلاطين، فقد استلهم وجهاء المجتمع العثماني دروس الحضرة السلطانية التي يعقدها السلطان في قصره، فنظموا أمثال هذه الدروس في قصورهم وبيوتهم، بل وفي المقاهي أيضًا، وأقيمت دروس الفقه، يتعلم الناس فيها أمور دينهم.
    وكان الخليفة السلطان عبد المجيد، آخر من نظم دروس الحضرة السلطانية في قصره في “دولمه بقجه” في شهر رمضان عام 1923م، وبإزالة الخلافة في 3 آذار 1924م اختفت دروس الحضرة السلطانية وغابت عن مسرح التاريخ.
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    المصدر مجلة حراء
    (*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    السلطان سليم.. الخادم الأمين






    قبل سفره إلى الشرق زار السلطان سليم الأول (1512-1520) مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري في إسطنبول… صلى ركعتين ثم دعا ربه راجيًا النصر وجمعَ شمل الأمة… وبعد ذلك ولّى وجهه نحو منطقة أسكدار لقيادة الجيش… تحرك الجيش العثماني في 5 يونيو/حزيران 1516 من أسكدار… كان يمر من الأراضي الغنية بالحدائق والبساتين، والزاخرة بشتى أنواع الفواكه والثمرات… ولما وصل الجيش إلى منطقة “كَبْزة” -التي تبعد عن إسطنبول بستين (60) كيلومتر تقريبًا- وحط رحاله واستقر، هجس في قلب السلطان سليم هَمٌّ ووقع في خلده أمرٌ… فدعا آغا الإنكشاريين على الفور وأمره بأن يفتش خروجَ وأكياسَ الجنود كافة ليتحقق من أمرٍ هو: هل جنى الجنود فاكهة من هذه البساتين دون إذن أصحابها أم لا!؟ فذهب الآغا على الفور وشرع مع أعوانه بتفتيش الجنود واحدًا واحدًا، ثم بتفتيش الأشجار كذلك واحدة واحدة… ولكنه لم يعثر على شيء قط. وعندما أخبر السلطان بالأمر، افترّ ثغره عن ابتسامة، رفع يديه إلى السماء وراح يدعو قائلاً: “أحمدك اللهم أنْ وهبتني جيشًا يبتغي مرضاتك، لا يأكل الحرام ولا يغتصب الأموال”.
    ثم التفت إلى آغا الإنكشاريين وقال: “يا آغا! لو أني وجدتُ جنديًّا واحدًا قام بقطف ثمرة دون رضى صاحبها، لما ترددتُ في العدول عن سفري هذا، ولما تأخَّرتُ لحظة واحدة بالعودة إلى حيث أتيتُ”.
    ثم أردف قائلاً: “يا آغا! إنه من المستحيل أن تُفتح البلاد بجيش يأكل الحرام ويغتصب أموال الناس”.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    “قرية التّوانسة” في تركيا: شاهد على عُمق العلاقات بين البَلدين

    العلاقات التّركية التّونسية علاقات ضاربة في أعماق التّاريخ، وممتدة في واقعنا اليوم. فقد فتح الأتراك العثمانيون تونس عام 1574م، وظلت تونس ولاية عثمانية إلى حدود عام 1881م تاريخ الاستيلاء الفرنسي على تونس. ويمكن القول إن الكثير، إذا لم نقل إن أغلب التونسيين لا يعرفون إلا النّزر القليل من المعلومات عن الوُجود التّونسي في تركيا، وعن دور التّونسيين في الحركة العلمية والدّعوية والنضالية مع إخوانهم الأتراك ضد القوى الاستعماريّة في أحقاب مختلفة.
    “قرية التوانسة” تقف اليوم شاهدا حيّا على عمق هذه العلاقات وعلى الدّور الكبير والفعال الذي قام به التّونسيون أثناء الحرب العثمانيّة الرّوسية المعروفة بحرب القِرِمْ سنة 1854م. فما هي هذه القرية؟ ولماذا سمّيت بهذا الاسم؟ وما هي قصتها؟
    توجد قرية التّوانسة، أو (Tunuslar köyü) حسب ما تنطق تُنطق باللّغة التّركية في ولاية قَسْطَمُوني في شمال وسط تركيا الواقعة على سواحل البحر الأسود. وتبعد عن مركز الولاية مسافة 59 كلم. ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 1150 م. ويسكن بها نحو 50 شخصًا حسب إحصائية صادرة في عام 2012م.
    وسكّان هذه القرية هم من بين التّونسيين الذين شاركوا في حرب القرم، وهي الحرب التي اندلعت بين روسيا والسّلطنة العثمانية بتاريخ 28 مارس عام 1853 م، واستمرت حتى 1856 م. ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدّولة العثمانية في 1854 م التي كان قد أصابها الضّعف، ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا. والسّبب الرئيس في إشعالها هي الأطماع الإقليمية لرُوسيا على حساب الدّولة العثمانية، وخاصة في شبه جزيرة القِرِم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات. وانتهت الحرب في 30 مارس 1856 م بتوقيع اتفاقية باريس, وهزيمة الرّوس هزيمة فادحة.
    كانت تونس قد ساهمت في الحرب بنحو 20 ألف جندي يقودهم الجنرال رشيد، إحساسا منها بأهمية هذه الحرب التي تستهدف المسلمين وأراضيهم والقضاء على دولتهم. وشارك إلى جانب التونسيين متطوعون من طرابلس الغرب (ليبيا) ومن المغرب الأقصى، ومن مصر ومن الجزيرة العربية و الشّام، ومن مناطق مختلفة من الدّولة. وقد سَقط في الحرب من الجانب العثماني نحو 400 ألف ما بين قتيل وجريح. واستشهد من الجنود التونسيين عدد كبير، ومن نجا منهم رجع قسم منهم إلى تونس، وقسم آخر فضّل البقاء فمنحهم السّلطان العثماني قطعة أرض في ولاية قسطموني ليسكنوا فيها، فسميت القرية باسمهم، وهي إلى اليوم بهذا الاسم. وما يزال التونسيون القاطنون في هذه القرية يحافظون على العادات التّونسية في المأكل والملبس، وسيمَا وُجوههم تتحدّث عن هويّتهم العربيّة التّونسية. ومن بين القادة التونسيين قائد يسمّى محمد التّونسي، استشهد أثناء الحرب ودُفن في هذا المكان. والنّاس في هذه القرية يعرفونه باسم محمّد التونسي. وبالقرب من هذه القرية تم في عام 2003 إنشاء شِشْمة (سبيل) الصّداقة التّونسية التّركية” بحضور عدد كبير من التّونسيين والأتراك.
    هذا نموذج واحد من بين عشرات النّماذج والشواهد على صلابة الروابط بين الشعبين التونسي والتركي. ويمكننا أن نذكر مثل هذا في المجالات السياسية والعلمية والتجارية وغيرها. فللتونسي حضور كبير في الذاكرة التّركية القديمة والمعاصرة. فعندما أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة تأثّر به بورقيبة واعتبره الأب الرّوحي، وسار على طريقه في كثير من الإصلاحات التي أنجزها بعد الاستقلال. وتونس اليوم أصبحت أشهر من نار على علم في تركيا بعد الثورة التي غيرت وجه تونس ووجه المنطقة ككلّ.
    لكن ما يُؤسف له أن هناك بعض الأطراف في تونس، عن قصد أو عن قصد تسعى إلى تخريب هذه العلاقات الطيبة بين البلدين، وبين الشّعبين من أجل تحقيق أهداف سياسية ضيّقة لا تراعي المصالح العليا للبلاد. والمفترض أن هذه الحسابات لا يمكن أن تحجب عنا حقيقة أن الشّعبين التّونسي والتّركي تربطهما قواسم كثيرة مشتركة ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    عندما منع الاحتلال الفرنسي الجزائريين والتونسيين من الحج



    علاقة التونسيين بالجزائريين علاقة متجذرة ومتشابكة لها أبعاد كثيرة، تتمثل في العروبة والإسلام والجيرة والتاريخ المشترك. فعندما ابتليت الجزائر بالاحتلال الفرنسي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1830 م امتد هذا البلاء ليصل إلى تونس بعد 50 عاما. وما عانى منه الجزائريون من ويلات عانى منه التونسيون كذلك، وقد مست هذه الممارسات الاستعمارية أقدس ما لدى الشعبين التونسي والجزائري وهي الشعائر الدينية ، ومن بينها منع الناس من الذهاب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
    وما يظهر اليوم إلى النور من وثائق يكشف لنا هذه الصفحات السوداء من تاريخ الاحتلال الفرنسي للمنطقة.

    لقد كشفت لنا إحدى الشكاوى التي عثرنا عليها في الأرشيف العثماني باسطنبول مؤرخة بتاريخ 20 جوان سنة 1892م مرسلة من قبل أهالي الجزائر وقعها عنهم بالنيابة الحاج محمد بن منصور، وتم رفعها إلى الباب العالي في اسطنبول حجم التضييق على كل ما له علاقة بالإسلام في الجزائر. فقد جاء في الشكوى “أنه بعد الاستيلاء على الجزائر من قبل الحكومة الفرنسية تم منع الأهالي المسلمين من عقد الزواج على الطريقة الإسلامية، ومُنع الطلاق، وأُغلقت المدارس الإسلامية، ومُنع تحصيل العلوم الإسلامية، وتم تحويل التعليم ليصبح باللغة الفرنسية، وأجبر الناس على إضافة لقب إلى الأسماء الإسلامية على طريقة المسيحيين،. ومع أن الأهالي معفيّون من الخدمة العسكرية فقد تم تكوين قوات عسكرية تتكون من 300 ألف من الأهالي الجزائريين قسرًا وجبرًا. هذا بالإضافة إلى مُعاملات وتكاليف أخرى مخالفة للديانة الإسلامية”. وهذه المعلومات أكدها وزير الخارجية العثماني في تقريره المقدم إلى رئاسة الوزراء في الباب العالي بتاريخ 22 شعبان سنة 1314هـ الموافق لـ 22 جانفي 1897م (الأرشيف العثماني، وثيقة رقم Y. A. HUS , 365/29).
    فقد شملت التضييقات جميع مناحي الحياة ، والهدف منها على ما يبدو هو طمس الهوية للمسلمين في بلاد الجزائر، إلى الحد الذي يتم فيه تغيير اللغة والدين والعادات والتقاليد وتغيير الأسماء. إنها عملية قاسية تسعى إلى فرنسة المجتمع الجزائري. وهذا يتنافي تماما مع ما تعلنه السلطات الفرنسية من شعارات عند دخولها إلى الجزائر وتونس وهو إدخال أنوار حرية ونشر الحضارة والقضاء على الجهل.
    ولم تكتف السلطات الفرنسية بهذه الممارسات بل إنها أصدرت قرارا بمنع المسلمين في الجزائر وتونس والسنغال والمناطق الخاضعة لسلطاتها من الذهاب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، بل وعملت على إقناع الدول الأخرى التي يوجد فيها رعايا مسلمون لتنفيذ الإجراءات نفسها.
    إننا اليوم ونحن نعرض هذه المعلومات نحاول إلقاء الضوء على فترة مهمة من التاريخ المشترك للشعبين الجزائري والتونسي في مواجهتمهما لاحتلال ترك جروحه الغائرة في الذاكرة المشتركة حتى اليوم؛ قتل مئات الآلاف من الأبرياء في البلدين ولانزال نرى تدخلات هذا البلد نفسه في شؤوت البلدين ومحاولة إحباط محاولات التحرر الحقيقية من نير التخلف والاستبداد، وإجهاض تجارب الثورة والديمقراطية. وإلى حد اليوم لم نسمع من فرنسا اعتذارا واحدا عما ارتكبته في حق هذه الشعوب من مظالم. وما لم يحدث ذلك فالأكيد أن هذه الشعوب سوف تبقى تنظر إليها بعين الريبة والشك، ولن تصدق كثيرا ما يقوله السياسيون الفرنسيون من أنها تدعم الحرية والديمقراطية في هذه البلدان، خصوصا عندما ترى أن الأحداث القريبة لا تؤيد هذا الكلام. فبالأمس القريب رأينا كيف وقفت فرنسا بقوة إلى جانب النظام التونسي المنهار قبل لحظات من سقوطه في جانفي 2011، وعبرت عن دعمها له ووقوفها إلى جانبه. إننا من هذا المنطلق نريد أن تبقى الذاكرة حية لدى الأجيال الجديدة لتدرك أن الحرية أغلى مكسب وأن التفريط فيها يمكن أن يقود إلى المهانة والذل والمعاناة تماما كما عانى أجدادنا الأولون.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    خير الدين التونسي … رئيسا للوزراء في حكومة السّلطنة العثمانية




    يجدر بالشّعوب المخلصة لأبنائها أن تتذكر في كل فترة أمجاد كبار رجالها ومبدعيها ومصلحيها ومفكريها وغيرهم. هذا التذكر يُعد اعترافًا بالجميل لهؤلاء العظام الذين تركوا بصماتهم جلية في جانب من جوانب الحياة أو في كثير من مجالات الحياة. وخير الدّين باشا التونسي، وإن كان شركسي الأصل حسب أكثر الأقوال إلا أن نشأته في تونس والفترة الطويلة التي قضاها في خدمة البلاد جعلت منه تونسيّا أكثر من كثير ممن يزعمون الانتساب إليها بينما لم تر منهم البلاد سوى البلاء.
    أغلب التّونسيين يعرفون منجزات خير الدين باشا وإصلاحاته العسكرية والعلمية والسياسية في مرحلة وجوده في تونس، لكن القليل منهم فقط ربما يعرف أنه ترقى في المناصب السّياسية حتى اختاره السلطان عبد الحميد الثاني رئيسا للوزراء (صدر أعظم) على رأس الحكومة العثمانية في أحلك الظّروف وأصعب الأوقات بالنسبة إلى الدولة.
    ترجح أغلب الروايات أن مولد خير الدين التونسي كان ما بين عامي 1820 و 1825 م. وتشير أغلب المصادر التركية إلى أن أصله شركسي، وخير الدين نفسه يذكر أنه شركسي. اشتراه والي تونس أحمد باي، وسرعان ما اكتسب ثقته وثقة الوزير الأكبر مصطفى خزندار. أنشأ المدرسة الحربية في باردو، وأدخل تعليم اللغة الفرنسية للاطلاع على المؤلفات والتقنيات العسكرية الحديثة. ثم ارتقى خير الدين بسرعة في الرتب العسكرية، وتم اختياره لمرافة أحمد باي في زيارته لفرنسا في عام 1846م. وبين سنتي 1873 و 1877 عين وزيرا أكبر في الحكومة التونسية. وبعد أن دخلت البلاد التونسية في أزمات اقتصادية وسياسية متفاقمة وكثرت ضده المؤامرات خصوصا من مصطفى بن إسماعيل المقرب من الباي، فضل الاستقالة من وظائفه السياسية في تونس. وفي هذه الأثناء وصلته دعوة من السلطان عبد الحميد الثاني للإقامة في اسطنبول. استقبل خير الدين باشا من قبل رئيس الديوان حمدي باشا ومدير مكتب الديوان علي فؤاد بك، وخصص له جناح في قصر دولمه باغجه لإقامته.
    لم يمض وقت طويل حتى تم تعيينه بتاريخ 30 سبتمبر سنة 1878م وزيرا وعضوا في مجلس الأعيان في الوقت نفسه. وخصص له راتب بالعملة المجيدية ما مقداره 10 آلاف ريال تونسي. وفي مقابلة مع الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) صفوت باشا نقل إليه قلقه من وجوده في اسطنبول بينما أسرته لا تزال في تونس، وتخوفه كذلك من ثقل المهمة التي كُلّف بها بينما لا يزال غير مطلع على دواليب الحكم في الباب العالي. إلا أنّ السلطان عبد الحميد تمسك بتعيينه في وظائف عليا في الدولة. وفي خطاب رسمي صادر عن الصدارة إلى والي تونس جاء فيه ما يلي “نظرا إلى الخبرة الإدارية والمعلومات الواسعة التي يتمتع بها حضرة صاحب السّعادة خير الدين، أحد أهم رجالات الإدارة في الحكومة التونسية، فقد صدرت الإرادة السلطانية بالاستفادة من إمكانياته ويتم نقله من إدارة الولاية إلى الخدمة في دار السعادة باسطنبول” (الأرشيف العثماني، Y.EE 33/1241).
    وفي تلك الأثناء تم تشكيل “لجنة الإصلاحات المالية” بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1878م، وعين خير الدين رئيسا لها، إلى جانب وجود فرنسيين وبريطانيين إضافة إلى بعض الموظفين من الإدارة العثمانية معه في هذه اللجنة. ومهمة هذه اللجنة هي إعداد خطة للإصلاحات في المجال المالي. واستمر في عمله في رئاسة اللجنة لمدة شهر واحد، ليعين رئيسا للوزراء بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1878م.
    ومن أجل جلب أفراد عائلته من تونس إلى اسطنبول أمر السلطان عبد الحميد بتخصيص سفينة تابعة للدولة لهذا الغرض، ووهب السلطان خير الدين باشا وعائلته منتجعا ساحيا يقع على ضفاف البوسفور تم شراؤه من ممتلكات الخزينة الخاصة.
    بعد مجيء عائلته من تونس بيوم واحد تم استدعاؤه من قبل السلطان إلى القصر حيث تم إخباره بعزل صفوت باشا من منصبه وتعيينه في منصب الصدارة العظمى، فأبدى خير الدين التماسا بإعفائه من هذه المسؤولية إلا أن طلبه لم يُقابل بالموافقة.
    لم يكن خير الدين يجيد التركية عندما قدم إلى اسطنبول، ولا توجد معلومات حول معرفته بالتركية في تونس، ولذلك كان يكتب اللوائح والمكاتبات باللغة العربية ويعرضها على القصر وعلى الديوان بالعربية كذلك، أما حديثه مع السياسيين فكان إما بالعربية أو بالفرنسية.
    عند شروع خير الدين في ممارسة مهمته في رئاسة الوزراء كان السلطان عبد الحميد الثاني قد أكمل سنتين على العرش، ولكن في هذه الفترة القصيرة وقعت أحداث جسام مثل الحرب ضد صربيا والجبل الأسود، وأحداث البوسنة والهرسك إضافة إلى عقد مؤتمر اسطنبول وصدور أول دستور عثماني وافتتاح أول مجلس نيابي وكذلك اندلاع الحرب الروسية – العثمانية، ثم إلغاء المجلس النيابي. كما تم في هذه الفترة عقد اتفاقية مع انكلترا ضمت بموجبها قبرص إلى ممتلكاتها بتاريخ 4 جوان 1878م، وعقد اتفاقيتي استيفانوس (3 مارس 1878) وبرلين (13 جويلية 1878). وبموجب هذه الاتفاقيات فقدت الدولة العثمانية أجزاء شاسعة من أراض كانت تحت سيطرتها. وكانت فترة خير الدين باشا مليئة بالمشاكل والمسؤوليات الناجمة عن عقد معاهدة برلين، هذه المعاهدة التي وقعت فيها تفاهمات سرية لاقتسام أجزاء واسعة من الدولة العثمانية. حيث تبين في فترات لاحقة أن فرنسا خططت للسيطرة على تونس، وانكلترا وضعت عينها على مصر، في حين بدأت إيطاليا في البحث عن الطرق المناسبة لاحتلال طرابلس الغرب. بينما لم تبد ألمانيا أية معارضة لهذا المخطط الذي بدأ تنفيذه بعد سنوات قليلة فقط.
    قابل خير الدين التونسي عددا من السفراء، وقد أبدى السفير الفرنسي باسطنبول “فورنيي” استياءه وعدم ارتياحه لتعيين خير الدين باشا رئيسا للوزراء لأن هذه الخطوة سوف تعرقل مخططات فرنسا في الاستيلاء على تونس والتي بدأت منذ مؤتمر برلين، فقد كان يعرف ميول خير الدين العثمانية ودفاعه عن بقاء تونس ولاية عثمانية.
    اقترح خير الدين إنشاء مؤسسة تراقب مؤسسة الخلافة وتحاسبها، فقوبل اقتراحه بالرفض من قبل السلطان عبد الحميد، كما رفض السلطان فكرة إصدار دستور ثان وإنشاء مجلس نيابي لأن الظروف لم تكن تسمح بذلك حسب نظره. كل هذه الاعتبارات وغيرها حالت دون تنفيذ خير الدين لأفكاره الإصلاحية ووجد نفسه في طريق مسدود.
    لقد بذل خير الدين ما في وسعه خلال الثمانية شهور التي شغل فيها منصب الصدر الأعظم، وحاول تحقيق النجاح في هذه المهمة المحاطة بالأشواك في ظروف قاسية واستثنائية بكل معاني الكلمة. وكان من أهم ميزاته عدم الانقياد التام لإرادة السلطان والحفاظ على هيبة منصب الصدر الأعظم.
    بعد عزله من منصب الصدر الأعظم لم يتم إبعاده من اسطنبول كما فُعل بكثير ممن قبله، وشاع كلام بقرب تعيينه واليا على طرابلس الغرب (ليبيا) أو سفيرا في باريس. ولكن ذلك لم يحدث، فالمؤكد أن السلطان عبد الحميد رغب في بقائه في اسطنبول كي لا يفتح على نفسه بابا للمشاكل من ناحية ولكي يستفيد من خبراته مستقبلا عند الحاجة. واستمر صرف راتبه, وبالفعل قدم خير الدين باشا للسلطان الكثير من اللوائح الإصلاحية وغيرها من الاستشارات إلى أن توفي في عام 1890م.
    لقد اهتم كثير من الباحثين الأتراك اليوم بخير الدين باشا التونسي، ومنحوه المكانة التي يستحقها كسياسي ومفكر وعسكريّ محنك، وأُلفت بشأنه الكثير من الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية من أهمها كتاب للبروفيسور المتخصص في تاريخ شمال أفريقيا “أتيلا جتين”. وهو اليوم يمثل همزة وصل حقيقية بين الشّعب التونسي والتّــركي ففضله على البلدين كان كبيرًا وهو حيّ، وفضله لا يزالا كبيرًا وجسده تحت الثّرى.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    “حريم السلطان”… والسّلطان المُفترى عليه




    مسلسل “حريم السّلطان” يــروي قصة السّلطان العثماني سليمان القانوني الذي حكم بين سنتي 1520 و1566م. ويتحدث عن التّأثير الطاغي لإحدى الجواري واسمها “خرم” على السّلطان. وفي النسخة العربية من المسلسل تظهر الجارية باسم “هُيام”، وبسببها حدثت كوارث كبيرة من بينها قتله لابنه مصطفى بدون وجه حقّ. هذا المسلسل دخل كلّ بيت عربي تقريبًا، وشدّ إليه أنظار ملايين المشاهدين، وتميز ببراعة عالية في التّمثيل والتّصوير. وقدّم المسلسلُ سليمان القانوني محبّا للشّهوات والنّساء الملّذات، أكثر أوقاته بين الحريم في القصر. وترك تأثيرًا واضحا على المشاهد، فلم يعد يرى فيه سوى شخص محب للّهو منقطع عن هموم شعبه، وضاعت صورته الحقيقية التي يعرفها عنه المؤرخون وكثير من المستشرقين من الشّجاعة والعدل والتّقوى. هذه الصورة شوهت جانبا كبيرا من حياة هذا السّلطان الذي كان يسميه العالم الغربي “السلطان العظيم” و”الفخم” و”الكبير” Grand Le ، Le magnifique.

    كاتبة السّيناريو : كتابات المُسْتشرقين مصدرُنا

    بعد بثّ عدد من حلقات هذا المسلسل في “قناة”D التّركية قُدّمت نحو 30 ألف شكوى من مواطنين ومثقفين إلى المحاكم التّركية تطالب بوقف بث المسلسل لأنّه يشوّه جانبا كبيرًا من تاريخهم، وانتقده رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وقال “إنّ السّلطان سليمان القانوني قد أمضى 30 عاما على صهوة الخيل، وأنا أدين مُنتجي هذا المسلسل وأصحاب التّلفزيون الذي يبثّه”.


    سلط المسلسل الضوء على علاقة الحبّ التي جمعت السّلطان وإحدى جواريه التي تصبح لاحقا زوجته، وذات نفوذ واسع في حياته والدولة العثمانية بأكملها. وقد أرادت روكسلان الروسية في المراجع الغربية، أو خُرّم في المراجع التّركية و هُيام في المسلسل التّركي المدبلج إلى العربية “حريم السلطان” تمهيد الطريق لابنها سليم ليتولى وراثة أبيه في الحكم فيما بعد، فاشتغلت بالدّسائس وساعدها الصدر الأعظم رستم باشا على ذلك ، فانتهز الأخير فرصة سفر ابن السلطان مصطفى في إحدى الحملات العسكرية إلى بلاد فارس، وكاتب السّلطان سليمان يخبره أن ابنه يريد أن يثور عليه، فانطلت الحيلة على الخليفة الذي سافر من فوره إلى معسكر الجيش في بلاد فارس متظاهرًا بقيادة الجيش بنفسه واستدعى ابنه إلى خيمته وقتله فور دخوله إليها. وكان للسّلطان ابن آخر يُدعى جهانكير توفّي بعد مقتل أخيه مصطفى بوقت قليل حزنا كمدًا.
    في أثناء تصوير هذه الأحداث يظهر السّلطان سليمان ضعيفا أمام النّساء، غير قادر على التّحكم في دواليب الدولة. ويركز المسلسل على الحياة الخاصّة داخل قصر السلطان، وتظهر النساء في ملابس فاخرة وغير محتشمة. ويتساءل المرء ما هي المصادر التي اعتمدت عليها مِرال أوكاي كاتبة السيناريو لكي يتم تصوير حياة السلطان الخاصة بهذه الدقة وبهذا التفصيل؟ وما هو الهدف من تركيز المنتجين على هذا الجزء من حياة السّلطان؟
    تقول كاتبة السيناريو بخصوص رأيها في المسلسل “في تلك الفترة، أي فترة حكم السلطان سليمان، كانت هناك سفارتان رسميّتان لدولتين كبيرتين في اسطنبول هما سفارة البندقية وسفارة مملكة بولنْدا. وكانت هناك علاقات بين السّفراء والقصر العثماني، وهي بمثابة ويكيليكس اليوم. وفي تلك الفترة كانت التّقارير تُرسل إلى البندقية وقصر الملك حول القصر والحياة اليومية للسّلطان. ثم إنّ هذه التقارير تم نشرها خارج الدّولة العثمانية. وتوجد لها ترجمات إلى اللغة التركية، وانطلاقا من هذه التّقارير نقرأ التّاريخ. وبما أنّ التاريخ لا يكتبه إلا الرجال فإن المعلومات الموجودة تتركز أكثر حول الرجل، أما المرأة فهي توجد داخل صندوق مغلق، ولا نطلّ عن عالمها إلا عبر ما يقولُه عنها المستشرقون”.
    وفي ضوء هذه التوضيحات يمكن أن نبدي الملاحظات التالية:
    - كاتبة السيناريو مِرال أوكاي بِعملها هذا تدّعي أنّها تُنير النّاس بما هو مجهول من تاريخ الدّولة العثمانية، وتُلقي الضوء على المناطق التي لم يصل إليها المؤرخون والكتاب، وتُخرج إلى العلن ما كان مستورا على طريقة ويكيليكس.

    - تجعل ما كتبه المستشرقون والغربيون الذين كانوا يتربصون بالدولة الدائر ويبحثون لها عن كل فرصة للنيل منها والإيقاع بها مصدرها في ما أنتجته من عمل.
    - لم تجد ضمن كبار مؤرخي تركيا وعلماء التاريخ فيها المشهورين سوى دنيز أسَمانْلي وأورخان أفينجو العلمانيّيْن المغموريْن ليكونَا مُستشاريْن لها في هذا العمل التلفزيوني الخطير. فلماذا لم تستعن بأساتذة مرموقين عالميا مثل خليل إينالجيك، ومباهات كوتوك أوغلو، و إدريس بوسطان، وإلبار أرطايلي، وفريدون أمجان وغيرهم؟ أم أنّ هؤلاء لا يقبلون أن يكونوا مستشارين لعمل يُزيف التّاريخ ويشوّه سيرة أجدادهم العظام؟

    - الواضح أن مرال أوكاي قد أنتجت هذا المسلسل لا من وجهة نظر تركيّ يعتزّ بتاريخه وأمجاده بل من وجهة نظر استشراقية، ثم قدمت علمها هذا لملايين المشاهدين من الأتراك والعرب وهي تزعم أنها تكشف الغطاء عن حقائق تاريخية كانت مستورة.
    - كاتبة السيناريو ومنتجو الفلم والقناة التي بثّت المسلسل مسكونون بهاجس الرّبح التّجاري والمكاسب المادّية، ومدى قدرة المسلسل على جذب أكبر قدر من شريحة المجتمع والمتمثلة أساسا في الشباب، هؤلاء الشباب الذين تستهويهم المشاهد الجذّابة والوجوه الحسنة وقصص الهوى، والمغامرات الدراميّة. وتحت وطأة هذه الهواجس دِيست بالأقدام مناقب هذا السّلطان العظيم وامتلأ المسلسل بوقائع وأحداث لا تعدو أن تكون كذبًا وبهتانًا.
    حقيقة شخصية السّلطان سليمان:
    السلطان سليمان القانوني هو عاشر السلاطين العثمانيين ومن أكثرهم شهرةً، توسعت الدولة في عهده لتُصبح مساحتُها ضعف ما كانت عليه في عهد من كان قبله. و يقول عنه المستشرق أورطالون “لو قمنا بترتيب ما قام به السّلطان سليمان القانوني حسب أهميته، وضعنا في الأسفل حُروبه وفوقها الآثار التي خلفها، أمّا في الأعلى فنضع المؤسسات العلمية والحقوقية التي أسّسها”. فلم يكن السّلطان سليمان متميزا بين السّلاطين فحسب بل كان من أمجد الحكام في العالم بأسره، لذا نرى العالم الغربي يلقبه بأعظم الألقاب تقديرا له. كان شاعرا يكتب الشعر باسم مستعار هو “محبي”. ولكونه اشترك في 13 حملة حربية كبيرة فقد لقب بـ”الغازي” .


    وكان يُدعى “سليمان شاه”. ارتقى عرش السّلطنة وعمره 26 عاما، وبقي سلطانا لمدة 46 عاما أي حتى عام 1566م. كانت مساحة الدّولة العثمانية في عهد والده سليم 6.5 كلم مربع، أنا في عهده فقد وصلت إلى 15 مليون كلم مربع. وكان عهده عهدا زاهرًا، توسعت فيه حدود الدولة العثمانية. كما شمل الازدهار جميع مناحي الحياة السّياسية والعلمية والثقافية والقانونية والمالية حتى بلغت في زمنه ذروتها. وأظهر السّلطان سليمان مقدرة فائقة عندما قام بتوسيع قوانين التشكيلات الإدارية الموضوعة في عهد السّلطان الفاتح وإجراء بعض التغييرات فيها. فقد وصلت جميع البُنى السّياسية والاجتماعية والاقتصادية والعدلية للدولة إلى الذروة في هذا العهد، والشيء نفسه من ناحية التشكيلات الإدارية للمقاطعات والأقاليم، فقد بلغت درجة عالية من الدقة والتنظيم. ومن بين رجال الدّولة الذين ساهموا في الوصول بالدّولة إلى الذّروة في هذا العهد نذكر الصدور العظام (رؤساء الحكومة)؛ بيري محمد باشا و لطفي باشا وصوكللو محمد باشا، ومن بين شيوخ الإسلام المعروفين نذكر ؛ زنبيللي علي أفندي وكمال باشا زاده و جوي زاده وبالأخص شيخ الإسلام أبو السعود أفندي. وكان السّلطان سليمان تقيا ورعًا لا ينفذ أمرا إلا باستشارة العلماء وأخذ الفتوى منهم. ولعل هذه القصة القصيرة تكشف لنا عن هذا الجانب المُشرق في شخصيّة هذا السلطان وتكذّب ما يُلصقه به المُغرضون من صفات لا تليق به:
    أخبر موظفو القصر السّلطان سليمان القانوني باستيلاء النّمل على جذوع الأشجار في قصر طوب قابي، وبعد استشارة أهل الخبرة خلص الأمر إلى دَهن جذوعِها بالجِير.. ولكن لم يكن من عادة السّلطان أن يُقدم على أمرٍ دون الحصول على فتوى من شيخ الإسلام.. فذهب إلى أبي السّعود أفندي بنفسه يطلب منه الفتوى، فلم يجده في مقامه فكتَب له رسالة شعرية يقول فيها:
    إذا دبّ النمل على الشجرِ
    فهل في قتله من ضررِ؟
    فأجابه الشيخ حال رؤيته الرّسالة بنفس الأسلوب قائلاً: إذا نُصِب ميزانُ العدل غدًا
    يأخذ النمل حقه بلا خجلِ.

    وهكذا كان دأب السّلطان سليمان، إذ لم ينفّذ أمرًا إلا بفتوى من شيخ الإسلام أو من الهيئة العليا للعلماء في الدولة العثمانية. تُوفي السّلطان في معركة “زيكتور” أثناء سفره إلى فيينا، فعادوا بجثمانه إلى إسطنبول، وأثناء التّشييع وجدوا أنه قد أوصى بوضع صندوق معه في القبر، فتحيّر العلماء وظنوا أنه مليء بالمال فلم يجيزوا إتلافه تحت التراب وقرروا فتحه، أخذتهم الدّهشة عندما رأوا أن الصّندوق كان ممتلئًا بفتاوى العلماء، فراح الشيخ أبو السعود يبكي قائلاً: لقد أنقذتَ نفسك يا سُليمان، فأيّ سماء تظلنا وأي أرض تُقِلّنا إن كنا مخطئين في ما أصدرنا من فتاوى؟!

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    “إرهاب” عشار خمير …. ذريعة فرنسا لاحتلال تونس





    لقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية حديثا باحتلال العراق وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من النّاس بحجة البحث عن الأسلحة الكيمياوية ، ولكنها دمرت العراق ولم تعثر علي شيء. وقامت كذلك بغزو أفغانستان بحجة ملاحقة الإرهابيين، وقامت فرنسا بإرسال أعداد كبيرة من جنودها إلى مالي بذريعة التصدي للإرهاب وحماية أمن فرنسا، والذريعة نفسها استخدمتها في غزو البلاد التونسية واحتلالها قبل 130 عاما.
    وبالرغم من تأكيد فرنسا أنها لا تنوي على الإطلاق البقاء في تونس بل ستكتفي بـ”تأديب المخرّبين” من عشار خمير فقد مكثت في التراب التونسي أكثر من 80 عاما.
    منذ وقت طويل كانت المناوشات لا تتوقف بين القبائل الجزائرية والقبائل التونسية القاطنة في المناطق الحدودية في جهة الشمال الغربي من البلاد التونسية بشكل خاص. وكانت المنازعات التي تنشب بين الطرفين تُحل بطرق سلمية من خلال تدخل وجهاء القبائل وكبرائها أو من خلال تدخل السلطات المركزية في تونس. ولم يكن الأمر خطيرًا بحيث يستدعي تدخلا عسكريا بآلاف الجنود وعشرات المركبات والبواخر.

    كانت فرنسا تنتظر الفرصة المناسبة لكي يكون تدخلها في تونس مقبولا محلّيا ودوليّا، فلقد كانت الخطة قد وُضعت منذ مؤتمر برلين (13 جوان-13 جويلية 1878م ) واتفقت فيه الدول الكبرى على اقتسام أراضي الدولة العثمانية، وتوزيع الكعكة فيما بينها. وفي هذا المؤتمر أعطيت الوعود لفرنسا بأن الطريق أصبح سالكا إلى باردو، وأن “تفّاحة تونس قد نضجت وحان قطافها” على حد قول أحد المسؤولين الألمان في ذلك الوقت.
    “فساد”، “تعصب”، “شغب” أو “إرهاب” بالتعبير المستخدم اليوم هي الذريعة التي رأتها فرنسا مناسبة لكي تبدأ في أخذ نصيبها من الكعكة المتفق عليها.
    ظلت الحكومة الفرنسية تردد بأن الأعمال التي تمارسها عشائر خمير الواقعة على الحدود التونسية الجزائرية لا يمكن السكوت عليها، ولابد من معاقبة هذه العشائر. وفي هذا السياق قال رئيس الحكومة الفرنسية “جُول فـري” أمام مجلس النواب “نحن عازمون على معاقبة المجرمين ومنع تكرار ما يقومون به من أعمال، وحكومة الجمهورية لا نية لها في الاحتلال، لكننا سوف نمضي إلى النهاية في حفظ أمن الجزائر، ونفعل كل ما يلزم لتحقيق ذلك”.

    وبتاريخ 30 و 31 من شهر مارس سنة 1881م وقعت مصادمات بين عشائر خمير وبعض القوات الفرنسية، وسقط قتلى وجرحى من القوات الفرنسية، وهو ما اعتبرته فرنسا إهانة لها ومسّا من كبريائها. وقد اعترف رئيس الحكومة الفرنسية بذلك أمام السياسيين الفرنسيين في أحد الاجتماعات وقال” في الـ30 و الـ31 من شهر مارس وقعت مواجهات على الحدود التونسية الجزائرية بين العساكر الفرنسيين ومجموعات من هذه العشيرة، وقُتل من جانبنا خمسة أفراد وجُرح خمسة آخرون. كما حدثت خسائر بين أنصارنا من العشائر الجزائرية. وهذا وضع لا يمكن تحمله على الإطلاق. ومن أجل معاقبة هؤلاء الباغين تم تجهيز قوات كافية لذلك”. وبين رئيس الحكومة الفرنسية أن الهجوم الذي وقع يوم 30 من مارس تم التصدي له ، لكن الهجوم الذي وقع يوم 31 من مارس كان عنيفا وشارك فيه ما بين 400 و 500 شخص، وقد كان بمثابة حرب حقيقية، واستمرت المعركة نحو 11 ساعة.
    وقد كشفت لنا التقارير التي كانت تنشرها الصحف الأوروبية وتقوم الصحف العثمانية بترجمتها بكل تفصيل كيف تسارعت الأحداث وبدأت القوات الفرنسية في الهجوم على البلاد التونسية من أربع جهات رئيسة هي طبرقة وبنزرت والكاف ووادي مجردة أي جهة غارالدّماء حاليا والتي كانت تسمّى قبل ذلك “الرّقبة”.
    وقد ذكرت التلغرافات التي كانت تصل من الجزائر إلى فرنسا واسطنبول تفاصيل الهجوم. ففي تلغراف بتاريخ 26 أفريل سنة 1881م أوردته صحيفة “وقت” العثمانية الصادرة في اسطنبول بالتاريخ نفسه جاء فيه “بالأمس قصف الفرنسيون طبرقة بالمدافع، وقد هُدمت القلعة الموجودة هناك بالكامل. ويُنتظر أن يتمّ إنزال عساكر هناك هذا الصباح إلى الجزيرة المذكورة، كما أنّ العساكر الذين يقودهم الجنرال لوجيرو قاموا بمحاصرة مدينة الكاف داخل التّراب التونسي”. من جهة الكاف وطبرقة لم تواجه القوات الفرنسية أية صعوبات أو مقاومة بينما كانت المقاومة شرسة مع القبائل الواقعة في جهة وادي مجردة ، وقد ذكر ذلك التلغراف الوارد من عنابة الجزائرية بتاريخ 27 أفريل س1881م حيث جاء فيه” إن الفيلق الثالث التابع للقوات الفرنسية استولى على الميناء الواقع قبالة طبرقة ، ولقد شوهد أن أتباع عشائر خمير مدعومين بعناصر من الجيش التونسي تصدوا بقوة لقوات الجيش الفرنسي، أما القوات التي يقودها الجنرال لوجيرو فقد دخلت مدينة الكاف دون أية مقاومة”. وبتاريخ السادس من شهر ماي نزلت في بنزرت حشود عسكرية فرنسية قوامها عشرة آلاف جندي. وتوالى إرسال الحشود يوما بعد يوم، ليتضح بعد ذلك أن الهدف هو قصر باردو وليس ردع عشائر خمير كما زُعم من قبل. وبدأت القوات الفرنسية في التقدم إلى أن وصلت إلى تونس العاصمة. وبتاريخ 12 ماي كان قصر الباي بباردو محاصرا من كل الجهات، ودُخل على والي تونس محمد الصادق باي في قصره لتُعرض عليه من القائد العسكري الفرنسي والقنصل الفرنسي بتونس روسْطان اتفاقية جاهزة تقضي بإدخال تونس تحت الاحتلال الفرنسي، وزُعم أنها حماية. وأُمهل الباي بضع ساعات لكي يطلع ثم يوقع عليها دون نقاش.
    وواصلت القوات الفرنسية بعد هذا التاريخ التهام ما تبقى من أراضي البلاد التونسية، ووُوجهت بمقاومة متفاونة بين منطقة وأخرى لكن أعنفها كان في القيروان وصفاقس وقابس وغيرها من المناطق.
    لم تكن التأكيدات التي سبقت الاحتلال بأن الهدف يقتصر على ردع عشائر خمير سوى ذريعة لكي يبدأ المخطط الكبير الذي تم رسمه مع الدول الكبرى.
    هذا السيناريو هو نفسه أو ما يشبهه ينفذ اليوم في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي من قبل قوى استعمارية تظهر بمظهر من يُدافع عن حقوق الإنسان وعن الحريّة والديمقراطية. فحتى يكون الاستعمار مقبولا لابد أن يُلبس لباسا براقا خادعا للناظرين. أما الأهداف الحقيقية فتبقى طي الكتمان ولا تُعرف إلا من قبل فئة محدودة من ذوي الوعي والنباهة، أو بعد مضيّ وقت كاف تترسخ فيه أقدام الغزاة على الأرض، وحينئذ لا ينفع حذر. وما غزو مالي منّا ببعيد.



    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الصـــرّة الهمايونية

    الصـــرّة الهمايونية

    مُساعدات التّونسيين إلى الحرَمين الشّريفين







    ربما يعرف النّاس اليوم أنّ “الصّرة الهمايونية”، وهي المسَاعدات التي تُرسل إلى الحرمين الشريفين مع كل موسم حجّ كانت تذهب بشكل منتظم من المدن الكبرى؛ مثل اسطنبول وبغداد ودمشق والقاهرة إلى مكة والمدينة، لكنّ القليل منهم يعرف أن تونس كذلك كانت تُرسل مُساعدات سنويّة بمناسبة الحجّ لتوزع على الأشراف والسّادة وغيرهم من الفقراء المجاورين في مكة المكرمة والمدينة المنورة . وقد أنشئ لذلك في تونس وقفٌ خاص سميّ باسم “وقف الحرمين الشريفين”. وقبل موسم الحج بأشهر ينطلق موكب الصّرة من المغرب الأقصى عبر تونس ثم القاهرة ليلتقي في الشام بالمواكب الأخرى القادمة من بقاع العالم الإسلامي الأخرى في موكب بهيج.
    فقد أثبت التاريخ أن الصُّرة كانت موجودة في عهد الدولة الحفصيّة وأكثر من اهتم بها السلطان أبو فارس عبد العزيز الذي تولى ملك تونس سنة 796 هـ/1394م. فقد بلغ من أمره أنه كان يُوشّحها ويزينها بالحليّ تقربا لآل البيت وإكراما لجيران النبي عليه الصلاة والسلام. وتواصل إرسال الصرّة مع الدولة المراديّة، وكان من أكرمهم وأسبقهم في ذلك الميدان الأمير حمودة باشا المرادي صاحب الجامع المشهور باسمه المسمى بـ”جامع الأفراح”لكثرة ما كان يُعقد فيه من عقود الزّواج. وقد نسج ملوك البيت الحسيني على منوال من تقدّمهم من الحفصيين والمراديين. فكان حمودة باشا بن علي يتولى بنفسه حفظ مال الوقف الرّاجع للحرمين الشريفين ويرى في ذلك خدمة لحرم الله ورسوله.
    يُروى أن أحد وزرائه وهو يوسف خوجه اضطر لصرف مبلغ من المال في مصلحة الدّولة، فطلب منه سُلفةً من مال الحرمين الشريفين لمدة عشرة أيام، فرد عليه بالقول: “سألتك بالله أن تُزيل هذا الخاطر من فكرك، وارجعْ في هذه المصلحةِ التي أقْدَمتْكَ على مدّ عينيْك إلى مال الحرمين الشريفين، وذلك أهوَنُ عليّ من مسّ أرزاق أهل مكة والمدينة”، فكفَّ الوزيرُ عن ذلك.
    وكانوا يختارون أفضل أهل العلم لتوزيعه على مستحقيه، كالشيخ العالم إبراهيم الرّياحي أو من أعيان أهل البلاد المعروفين بالثروة والعفة والدين. وممن حمل الصرة إلى الحجاز العلامة الشيخ محمد النّيفر في عام 1851م م، وفي العصور المتأخرة تشرّف بحملها المدرس الشيخ أحمد جمال الدين في سنة 1885م. كما نيطَ بتبليغها الفقيه الشيخ أحمد زروق . وفي عام 1892م م، أي بعد الاحتلال الفرنسي بقليل وقع إرسالها بحوالة تجارية يقع تصريفها نقودا ذهبية بمرسى جدة على يد قنصل فرنسا. ثم بعد ذلك تمّ ترتيب إرسال الصرة من جديد بواسطة أحد العلماء مثلما كان من قبل . وفي عام 1916م م أي أثناء الحرب العالمية الأولى تم إرسالها بواسطة الشاذلي العُقبي ومفتي الرّكب الفقيه محمد الجودي مفتي القيروان، وكان يومئذ أمير مكة هو الشريف حسين بن علي.
    وكان مقدار الصّرة في القديم يختلف بالزّيادة والنّقص حسب مداخيل أوقاف الحرمين الشريفين. وفي عهد الوزير المصلح خير الدين باشا جعل لها مبلغا قارا قيمته ثمانون ألف ريال، أي خمسُون ألف فرنك فرنسي في السنة، تقسّم قسمين نصفها للحرم المكي والنصف الآخر لأهالي الحرم المدني. وعلى هذا النظام سرى العمل حتى سنة 1935مم، ثم في سنة 1936م ارتفعت قيمتها بمقدار الخمس.
    ويُودّع ركب الصّرة بموكب فخم يحضره الباي والوزراء ورجال الدولة وكبار موظفي الأوقاف، ومن ضمنهم وكيل الحرمين الشريفين، وبيده صندوق المال المقصود توجيهه للحجاز، فيأذن الباي بإحضار الرّسول المكلف بتبليغ الأمانة، ويدفعها له بنفسه مصحوبة بمكتوب خطي من الباي إلى ملك البلاد العربية قائلا له: “هذه أمانة الله ورسوله تُبلّغ لأهلها إن شاء الله بواسطتك” ، فيتسلمها الرّسول في ذلك المشهد العظيم، ويشكر الله على تلك النعمة، ويدعو للباي وينطلق في رحلته.
    وكانت أركاب الحج في القديم بالشّمال الإفريقي تنضمّ لبعضها بعضا، وتقصد الحجاز على طريق البرّ، وكان غُدوّها عام ورواحُها عام حسب ما يُروى. فيخرج الركب من طنجة فالصّحراء الجزائرية، ثم واد ريغ ثم نفزاوة. ومن هناك يسير الركب إلى قابس، وهنالك يلتحق به حجاج الدّيار التّونسية. ومن قابس يقصدون طرابلس فبرقة فالاسكندرية فمصر فالشام، وهناك تنضم لها الأركاب القادمة من اسطنبول وبغداد ثم تتوجه نحو الحجاز في موكب مهيب.
    والجدير بالذكر أن الدولة العثمانية لم تتخلَّ عن إرسال الصرة السلطانية حتى في أصعب أيامها اقتصاديا وسياسيا. فخلال الحرب العالمية الأولى في عام 1915 تم إرسال 107 حقائب تحتوي على 24 ألف ليرة و847 قرشا إلى أهل مكة، إلى جانب 197 حقيبة تشتمل على 32 ألف ليرة و882 قرشا مع حقيبة أخرى إلى أهل المدينة المنورة.
    وعندما قام “الشريف حسين” بثورة في العام التالي انفصلت الأراضي المقدسة عن الدولة العثمانية، ورغم ذلك أصدر السلطان “وحيد الدين” مرسوما بإرسال “صرة كالماضي تُنفق على أهل مكة والمدينة وعربان الحجاز”. وكانت آخر صرة في عام 1917 حيث أرسلت عبر الشام في أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكن عندما انتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية عادت القافلة أدراجها إلى إستانبول، ومن ثم كانت نهاية قوافل المحمل الشريف أو ما عرف بمواكب الصرة.

    أما في تونس، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية توقّف إرسال الصرة ، ودام ذلك 15 عاما حتى كاد يُنسى ذكرُها بين التونسيين، إلا أن المستحقين لها بالحجاز لم ينسوها وكرّروا طلبها من الحكومة التونسية، فتدخل في الأمر ملك البلاد العربية عبد العزيز بن سعود فاستجابت له تونس. ورغم الضائقة المالية المحيطة بجمعية الأوقاف فقد حصل الاتفاق بين الجانبين على توجيه الصرة على قاعدتها الأصلية، أي إرسال مبلغ سنوي قيمته خمسون ألف ريال في العام. وقد أكبر الملك هذه الخطوة في باي تونس وأهدى له حزاما مصنوعا من الذّهب من أستار الكعبة الشّريفة.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    التحدي والاستجابة

    الأثر الاقتصادي للتغريب الرأسمالي على المجتمع العثماني: التحدي والاستجابة





    كان شعور المسلمين بالتفوق على المجتمعات الأوروبية مانعاً إياهم من الحاجة إلى اقتباس شيء من أنماط حياتها،وقد استمر هذا الشعور مادامت الدولة الإسلامية في موقع القوة في ميزان القوى العالمية،وقد احتفظت الدولة العثمانية بهذا التفوق بطريقة ملحوظة إلى نهاية القرن السابع عشر،ورغم إحساس المسلمين بالحاجة إلى الإصلاح بعد تغير ميزان القوى لغير صالحهم في الوقت الذي شهد صعود أوروبا ودولها المختلفة على التتابع،فقد ظل إيمان المسلمين بتفوق ثقافتهم وعدم الحاجة إلى اقتباس خارجي إلا في المجالات العسكرية لغرض تعديل الميزان وإلحاق الهزيمة بأوروبا التي كانت تركع على أعتاب السلطان العثماني الذي لم يكن يشعر بالحاجة إلى إقامة تبادل دبلوماسي أو إرسال مبعوثيه إلى دولها التي هي أدنى منه[1]ويكتفي باستقبال مبعوثيها ويخاطب ملوكها بألقاب الولاة عنده،ثم تحول الأمر إلى الاعتراف بمساواة هذه الدول للدولة العثمانية ثم صار إلى التراجع والهزيمة أمامها.


    وتقول دائرة المعارف الإسلامية إنه على الرغم من العلاقات السياسية والاقتصادية التي ربطت المجتمع العثماني بأوروبا لمدة قرون،فقد ظل هذا المجتمع ضمن دائرة الحضارة الإسلامية،وعلى الرغم من توالي الهزائم العسكرية والتراجعات الاقتصادية التي أصابته ونبهته إلى التفوق المادي والفني للغرب الأوروبي،فإنه وجد من الصعب أن يسلم بالتفوق الثقافي لأوروبا واقتصر اقتباسه منها على الاستعانة بمهرة أوروبيين في تنظيم الجيش والأسطول منذ القرن الثامن عشر الذي ما إن أشرف على نهايته حتى كان هنالك في الدولة العثمانية من يسلم بالتفوق الثقافي الأوروبي[2].
    بدأ إحساس المجتمع العثماني بالـتأثير الغربي عن طريق التجارة التي بدأ ميزانها يميل لصالح البضائع الأوروبية نتيجة التطور التقني وبخاصة بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر بالإضافة إلى الحماية الجمركية التي فرضتها دول أوروبا على الواردات إليها للحفاظ على صناعاتها،وقد سهلت الامتيازات الأجنبية التي كانت الدولة العثمانية قد منحتها لدول أوروبا هذا التغلغل الاقتصادي،فقد مُنح التجار الأوروبيون بموجبها الأمان وحرية التجارة داخل أراضي الدولة كما خفضت الضرائب التي كان عليهم أداؤها مما أعطاهم ميزة على التاجر المحلي،هذا في الوقت الذي تحولت فيه الصادرات العثمانية من الصناعات إلى منتجات الزراعة التجارية التي أصبحت تزود الأسواق الأوروبية باحتياجاتها من المواد الأولية.
    وكان من مصادر التأثير الغربي على المجتمع العثماني أيضا تطور وسائل المواصلات وتغلغل رأس المال الأوروبي في الدولة[3]،ثم جاءت حقبة التنظيمات،وهي عملية إصلاح شامل وفق النموذج الغربي قصد منها إعادة صياغة المجتمع العثماني لوقف التدهور الذي ينحدر فيه،وقد سهلت هذه العملية التغلغل الاقتصادي الغربي الذي ترك آثاراً واضحة على هذا المجتمع وهو ما أحاول البحث فيه في هذا العرض الذي لن يحصر جميع الآثار بالطبع في هذه المساحة المحدودة ولكنه سيلقي الضوء على نماذج دالة منها.

    تعريف التغريب الاقتصادي
    ما أريده من مصطلح التغريب الرأسمالي هو اتباع النموذج الاقتصادي الأوروبي نتيجة إرادة غربية،سلمية أو حربية،متفقة مع النموذج الرأسمالي الذي يطبق في دول المركز، أم مختلفة ومناقضة إياه،وسواء كان الاتباع طوعاً أو كرهاً،والآثار هي ما نتج عن هذا النهج،ويدخل في هذا التعريف التجارة الحرة سواء قبلت طوعاً كما في الحالة العثمانية أو فرضت بالقوة العسكرية كما حدث في الاستعمار أو الحروب التي شنت على الصين لنشر استعمال الأفيون فيها،وإن كان البحث في هذه الدراسة لن يتطرق لآثار الاستعمار القسرية،كما يدخل في التعريف أيضاً الاستثمارات الأجنبية التي بنت كثيراً من وسائل المواصلات والبنية التحتية،هذا بالإضافة إلى الديون الأجنبية التي كان لها أثر واضح في البنية الاقتصادية العثمانية.


    الاختلاف بين معاملة الداخل ومعاملة الخارج سمة رئيسة للحضارة الغربية لا تستثني الكوارث الناتجة عن العدوان الغربي من التغريب
    إن مخالفة النهج الذي اتبعته أوروبا خارج أوطانها لما مارسته في الداخل الأوروبي هو جزء رئيس في عملية التغريب،فلا يمكننا أن ندعي مثلا أن حروب الأفيون مثلا ليست جزءاً من الحضارة الغربية لأنها لم تمارس في الداخل الأوروبي،أو أنها مجرد انحراف عن مسار التنوير الغربي،وذلك لأن مجموع الممارسات في الداخل والخارج هي التي تبين الموقف الحقيقي لحضارة شملت العالم كله بنفوذها بل يمكننا القول إن الموقف من الآخر هو الكاشف عن حقيقة هذه الحضارة التي تميزت بهذا الانتشار فلم يعد جوارها محدوداً، ومن هنا أهمية حكم الآخرين عليها،كما تميزت بالهوة السحيقة بين ما حدث في الداخل وما منح للخارج،بين الشعار المرفوع والواقع المنظور فلم يكن التناقض مجرد أحداث هامشية بل كان السمة الغالبة على السياسات المتبعة،وعندما تكون تصرفات الإنسان متناقضة يُحكم عليه بمجموع أعماله وليس بالصالح منها فقط وبخاصة إذا اختص نفسه بالحسن وعامل الآخرين بالإساءة،فلا تُلغى حينئذ الإساءة من أعماله بل يُحكم بأنه منافق أو أناني مثلا.

    ولقد كان الاستئثار من طبيعة دافع المنفعة والربح الذي حفز الغرب في علاقاته الخارجية وفي كل نواحي حياته،ولهذا فإن التناقض بين الداخل والخارج،النفس والآخر،هو جزء لا يتجزأ من مبادئ الغرب وسلوكه وليس مجرد انحرافات نادرة،وهذا لا يعني مطالبته بأن تكون المبادئ وحدها هي مسيرة السلوك بعيداً عن المصالح،ولكن ما حدث تاريخياً لم يكن مجرد تبادل منافع بين الغرب والكتل الحضارية الأخرى بل كان سعياً محموماً نحو التفرد بالمنفعة وحصرها في الذات وحرمان الأطراف الأخرى منها وعدم التردد في استخدام أحط الوسائل للوصول إليها والرضا للنفس بارتكاب ما يحرّم فعله على الغير،وكان من الطبيعي في هذه الأحوال أن تتبدل المواقف السياسية بسرعة لهثاً خلف المصالح مما عبر عنه قادة غربيون عندما قالوا إنه لا وجود لصداقات أو عداوات دائمة بل المصالح وحدها هي الدائمة فقط.

    نظرة العثمانيين إلى أوروبا في بدايات التغريب
    اتسمت نظرة المجتمع الإسلامي لأوروبا في القرن التاسع عشر بالتغير وفق تضاريس المواقف السياسية،ورغم حالة المواجهة التي سادت العلاقات العثمانية الأوروبية في القرون السابقة،فقد تغيرت النظرة إلى الأوروبيين عندما بدأ العثمانيون يشعرون-نتيجة الضعف-بالحاجة إلى الاقتباس من التطور الأوروبي[4]،وأيضا عندما بدأ تدخل بعضهم في المواجهات إلى جانب الدولة العثمانية في الزمن نفسه تقريبا[5]،وذلك ابتداء من الحرب مع روسيا(1787-1792)ثم الحملة الفرنسية 1798 حين عجز العثمانيون عن صدها بمفردهم ووقفت بريطانيا إلى جانبهم ثم انقلبت عليهم ليقف الفرنسيون إلى جانبهم في انقلاب واضح في المواقف والمواقع،ثم تدخلت الدول الكبرى-بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وفرنسا-في الأزمة المصرية (1831-1840) ثم ساندت بريطانيا وفرنسا الدولة ضد روسيا في حرب القرم (1853-1856)،وقد انتشرت حالة من اليأس والتسليم في بداية ذلك القرن بالتفوق الغربي كما مر ذكره،وأدى هذا إلى الاعتقاد بأن استرضاء أوروبا-التي زاد تدخلها في الشئون العثمانية-بالأخذ بالنهج الأوروبي سيؤدي إلى ازدهار الدولة وزيادة الثقة بحكومتها[6](ستظهر الأيام أن ازدهار الدولة لم يكن هدف أوروبا من التدخل)،وقد ساد النفوذ الروسي-الذي ساند الدولة ضد محمد علي باشا في الأزمة المصرية-إلى اندلاع حرب القرم(1853)حين ساندت كل من بريطانيا وفرنسا العثمانيين ضد روسيا ومن ثم ساد نفوذهما في الدولة إلى بداية الثمانينات[7]حين احتلت فرنسا تونس (1881) واحتلت بريطانيا قبرص (1878) ومصر (1882) مما نفّر العثمانيين منهما ومن مجمل السياسة التغريبية الاسترضائية وجعلهم يتجهون صوب ألمانيا بحذر في عملية تحول في وجهة الإصلاح نحو الأصول الإسلامية ومواجهة التغريب الثقافي مع الإفادة من التقنية الغربية[8]،وأصبح الخلاف الداخلي في الدولة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ليس على مبدأ التحديث بين أنصاره وبين المحافظين من العلماء والأعيان،فقد أجمع الكل على وجوبه ولكن وقع خلاف على هويته بين أنصار التحديث المستقل والمحافظ على الهوية العثمانية وأنصار التحديث الذي يهمل الاستقلال والهوية ويقلد الغرب دون تحفظ ويخدم مصالحه الاستعمارية في المنطقة[9].



    إجراءات التغريببدأت عملية التأثر بالغرب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر واتخذت صفة رسمية مع صدور فرمان كلخانة في سنة 1839 أثناء احتدام الأزمة المصرية في الدولة العثمانية،وكان القضاء على الجيش الإنكشاري سنة 1826 هو الخطوة التي أزالت المعارضة للإصلاح العسكري كما كانت الخطوة الأولى التي مهدت الطريق لسيادة الليبرالية الاقتصادية بعد زوال الدعم عن دعاة الحماية الاقتصادية من الحرفيين وأرباب الطوائف الحرفية المنتمين لهذا الجيش الذي كان حاميهم الأكثر تنظيماً ونفوذاً بعد تحولهم من الاحتراف العسكري إلى الحياة المدنية[10]،كما عقدت في أثناء الأزمة المصرية أيضا معاهدات التجارة الحرة مع عدد من الدول الغربية بين 1838-1841 وكانت معاهدة بلطة ليمان مع بريطانيا في سنة 1838 هي الأبرز من بينها حين أراد العثمانيون الحصول على التأييد البريطاني لمواجهة الخطر الروسي بالإضافة إلى خطر محمد علي باشا،ثم تأكدت هذه التوجهات في الفرمان الهمايوني بعد حرب القرم(1856)الذي اتخذ صفة الالتزام الدولي في معاهدة باريس في تلك السنة بعد تأييد الإنجليز والفرنسيين للعثمانيين في تلك الحرب التي نتج عنها بالإضافة إلى ذلك تورط الدولة العثمانية لأول مرة في تاريخها بالديون الأجنبية التي فتحت أبواب الجحيم على استقلالها وسيادتها وساهمت في إحكام الإجراءات التغريبية حولها،كما سهل الفرمان المذكور تسلل رأس المال الأجنبي[11]إذ بدأت في تلك الفترة عملية تحديث البنية التحتية للمواصلات في الدولة العثمانية ببناء السكك الحديدية أساساً بأموال الاستثمار الأجنبي الذي هدف من إنشائها إلى تحفيز تجارته بالوصول إلى مواقع المواد الأولية وتسويق بضائعه في نفس الوقت،وصدر قانون الأراضي سنة 1858 تبعه قانون يسمح بتملك الأجانب العقارات سنة 1867 بعدما كان ذلك من المحظورات عليهم.

    أكدت التنظيمات على الإصلاحات السياسية أكثر من غيرها،ولم تحفل فرمانات الإصلاح الرسمية بإجراءات اقتصادية تفصيلية للنهوض بمالية الدولة[12]،واكتفى طابعها الاسترضائي بتسهيل منح الامتيازات للاستثمار الأجنبي والسماح بتملك الأجانب العقارات في الدولة[13]،ولم يكن من العجيب أن تساند أوروبا هذه الإجراءات التي صاحبها أمل فيها لدى رجال الدولة العثمانيين أن تؤدي إلى نهايات سعيدة،فأصبحت هناك “مودة واضحة بين السفارات الأوروبية والبيروقراطية الإصلاحية”وتنامى نفوذ الحكومات الأوروبية في الإدارة اليومية للدولة العثمانية[14]،ولكن لم تتحقق آمال المصلحين رغم كل ذلك وكانت النتيجة الفعلية لهذا الارتباط هو أن”دفع جهاز الدولة المركزية ثمن التأييد الأوروبي”كما يقول المؤرخ دونالد كواترت[15]،كما أدت سياسة الاسترضاء إلى زيادة التوحش الإمبريالي الغربي كما يقول الباحث أحمد صلاح الملا[16]،ونتائج هذا الارتباط بالغرب هو ما يبحثه هذا المقال.
    الخيار التغريبي بدأ طوعاًيقول المؤرخ دانيال غوفمان إنه خلافا لحال المستعمرات الخاضعة للهيمنة البريطانية المباشرة “لم يتمكن الإنجليز من فرض مسار سياسي على الإمبراطورية العثمانية يلزمها بالأهداف الاقتصادية لتلك الدولة”،فكان على الحكومة البريطانية مفاوضة الحكم العثماني من أجل تحقيق أهدافها،ولم تكن الإصلاحات العثمانية التي تكاثرت في القرن التاسع عشر إلا “انعكاساً لمطامع ومطامح كل من لندن وإسطنبول على حد سواء”[17]،فإلي أين قادتنا أوهام تطابق المصالح مع الغرب آنذاك والتي مازلنا نحلم بها إلى اليوم رغم سلبية النتائج التي عصفت بنا منذ البداية؟

    أهداف السياسات الغربيةرغم ادعاءات الغرب برفع ألوية الحضارة ونشر أعلام المدنية بين الأمم المتخلفة،فإن هدف السياسات الغربية كان تحقيق الأرباح ولو على حساب الآخرين الذين يفترض أن ينشر التقدم بينهم،ووسيلة ذلك التي تحولت إلى هدف دائم هي تحطيم المقومات الاقتصادية المستقلة بحجة تخلفها وربط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد الغربي ليصبح تابعاً له بحجة تحديثه[18]،وعند الحديث عن أهداف السياسة البريطانية في الدولة العثمانية يقول المؤرخ كواترت إن بريطانيا كانت “تحتاج بالدرجة الأولى إلى الاقتصاد العثماني للحصول على المواد الخام المستوردة وأسواق التصدير لصناعاتها التي كانت تنمو بسرعة كبيرة،وهي حاجة صارت ملحة بسبب انتشار نزعة الحماية بين زبائنها الأوروبيين وكانت تتصاعد في ذلك الوقت”[19].

    بالإضافة إلى ذلك فقد حل زمن تعارضت فيه أهداف السياسة البريطانية في الشرق العثماني حيث كانت بريطانيا تعمل في الوقت نفسه على الحفاظ على الدولة العثمانية بصفتها سداً في وجه التمدد الروسي من جهة،ومن جهة أخرى تعمل للحفاظ على مصالحها التجارية في الدولة بصفتها سوقاً للبضائع البريطانية،ففضلت بريطانيا مصالحها التجارية على حساب سلامة الدولة العثمانية[20]التي أصبحت هدفاً لأطماعها الاستعمارية بعد مؤتمر برلين حين احتل الإنجليز جزيرة قبرص(1878)ثم مصر(1882)وتاجروا بولايات عثمانية أخرى مع شركائهم الأوروبيين،وهو ما يدل على طبيعة الأهداف الربحية التي ناقضت الشعارات الحضارية التي رُفعت.
    ويلاحظ المؤرخون الاقتصاديون أن الاستثمار الذي قامت به رؤوس الأموال الأجنبية في الدولة العثمانية كان يتركز في المال(منح القروض)وبناء البنية التحتية لتسهيل التجارة بالحصول على المواد المحلية الأولية وتسويق البضائع الأجنبية المصنعة،أما المجالات الصناعية والزراعية والتعدينية فقد عانت من الإهمال[21]،ويلاحظ المؤرخان شو أن القوى الكبرى لم تقم بحفز الصناعة العثمانية بالاستثمارات التي اهتمت فقط بشبكة المواصلات والمواد الأولية التي تعود بالفائدة على هذه القوى،بل إنها استخدمت الامتيازات الأجنبية لكبح تقدم العثماني وإبقائه حيث هو بلا تقدم[22].
    ويفصل المؤرخ شارل عيساوي التباين بين المصالح المحلية والأجنبية بالقول إن هدف الأجانب كان التحكم بالاقتصاد ومحاولة صياغته لخدمة المصالح الأوروبية،أما الحكومات الشرقية فأرادت إصلاح بنيانها لصيانة استقلالها وتحديث مجتمعاتها،ولهذا اهتم الأجانب بتحقيق ما يخدم أهدافهم وهو الحصانة ضد الحكومات المحلية والتي حققتها الامتيازات التي أعطتهم مزايا على المواطنين المحليين واستثنتهم من دفع ضرائب عالية،كما اهتموا بتطبيق حرية التجارة وشبكة المواصلات والبنية التحتية التي تسهل التجارة بالإضافة إلى استقرار العملة واسترداد ديونهم[23].
    ولا حاجة للتأكيد على أن هذه الاهتمامات كانت أسباباً في تراجع المجتمعات الشرقية لا تقدمها،فالتجارة الحرة والامتيازات والديون كلها كانت معاول تهدم البنيان الاجتماعي وهو أمر لم يكن يهم حَمَلة عبء الحضارة الذين كانوا يسعون للتميز عن “المتخلفين” وليس دمجهم في بنيان الغرب الحضاري كما مر،وأمام العدوان الغربي الذي شن حروباً كثيرة على الشرق كان هم الحكومات المحلية الرئيس تحديث جيوشها وكادر موظفيها لضمان سيادتها على كامل أراضيها لتحقيق الأمن اللازم للتقدم[24].
    وبهذا نرى تباعد الأهداف بل تناقضها في ظل اختلال ميزان القوى وعدوان طرف على آخر عدواناً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً،وإن تحققت بعض الفوائد،فإنها كانت جانبية ولا أثر لها في مسيرة التطور كما سيرد،ولا نطالب الغرب أو غيره برعاية مصالحنا أو تحقيق تقدمنا بالطبع،ولكن ما حدث في التاريخ يتعدى عدم تحقيق الشعارات التي رفعها الغربيون عن حمل ألوية الحضارة إلى العالم ليصل إلى حد محاربة تقدم الآخرين لأنه يصطدم بالمصالح الغربية كما شخصها أصحابها بل العمل على إبقاء هؤلاء الآخرين متخلفين لو اقتضت المصالح أيضا كما سنرى في الأمثلة اللاحقة.
    التنظيمات العثمانية امتداد للامتيازات الأجنبيةوقبل الدخول في نتائج الإجراءات التغريبية التي حدثت في القرن التاسع عشر لابد من الإشارة إلى أن التنظيمات العثمانية التي سميت التنظيمات الخيرية،فتحت الأبواب لعملية التغريب وما رافقها من معاهدات جاءت نتيجة لالتزامات الدولة في زمن ضعفها تجاه معاهدات الامتيازات الأجنبية التي توسع العثمانيون في عقدها ابتداء من القرن السادس عشر بناء على ممارسات تاريخية لمن سبقهم وكانوا يمنحون بها التجار الأوروبيين القادمين لأراضي السلطان مزايا كتحديد الضرائب الواجبة عليهم ومنحهم الأمان في تجوالهم وتحكيم قناصلهم في مشاكلهم وفق قوانينهم وغير ذلك من منح كان السلطان في زمن القوة يتصدق بها عليهم لتحقيق أهداف عثمانية سياسية كتفتيت الجبهة الأوروبية ومنعها من الاتحاد ضد العثمانيين تحت لواء امبراطورية الهابسبيرغ النمساوية،واقتصادية كتشجيع التجارة خلال الطرق القديمة بعد تحول طرقها عن الشرق العثماني إلى رأس الرجاء الصالح[25].

    لم تكن هذه الامتيازات في البداية ثقلا على الدولة بل حققت لها أهدافا حيوية في زمنها وما كان من الممكن آنذاك التنبؤ بمآل الأحوال بعد قرون[26]حين ضعفت الدولة العثمانية وقويت دول أوروبا وأصبحت هذه الامتيازات قيوداً على سيادة العثمانيين واستقلالهم وجاءت إجراءات التغريب لتسير على منوالها في منح المزايا لهم ولذلك لم يكن من المبالغة القول أن التغريب عموماً والتنظيمات خصوصاً جاءت امتداداً لسياسة الضعف تجاه الامتيازات وقامت بدورها بتعزيز هذه الامتيازات[27].
    حرية التجارة:فشل القبول الطوعي بالحلول المستوردة في تحقيق الازدهاركانت التجارة الحرة هي البند الأول الذي كسبه الغرب من السياسة العثمانية وذلك ضمن المعاهدات آنفة الذكر التي حددت فيها الدولة العثمانية الضرائب على الواردات وتعهدت بعدم زيادتها إلا بموافقة الطرف الأوروبي،وكانت الفلسفة السياسية والاقتصادية الليبرالية التي اعتنقها أنصار التغريب والنقل عن أوروبا في القرن التاسع عشر تطالب بإزالة الحواجز الجمركية وتوسيع النشاط الاقتصادي[28]بصفة ذلك طريقا لازدهار جميع الدول التي يتخصص كل منها في إنتاج زراعي أو صناعي محدد حسب تقسيم العمل الدولي،وقد تبنى الغربيون حرية التجارة بعد زمن من ممارسة الحماية الجمركية لحماية صناعاتهم عندما كانت ناشئة،وبعد أن وصلت هذه الصناعات إلى مستوى فني عال من القدرة على المنافسة،وفي الوقت الذي فرضوا فيه الحماية لصناعاتهم ولم يتمكنوا من فرض التحرير على بعضهم بعضاً[29]،فرضوا تحرير التجارة على بقية العالم بالضغوط السياسة أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى[30]،إلا أن الإصلاحيين العثمانيين تبنوا هذه السياسة “طوعاً”ضمن خططهم التغريبية القائمة على استرضاء أوروبا لنيل تأييدها ضد محمد علي باشا[31]،وفي الوقت الذي لم يفكر فيه قادة الإصلاح بفرض سياسات حمائية لصالح الصناعة المحلية[32]،كان الأوروبيون يعلمون تمام العلم الأثر التدميري لسياستهم على اقتصاد الآخرين وصناعاتهم رغم كل الحديث الطويل عن المزايا المتبادلة للتجارة الحرة،”ففي مواجهة هذا الطوفان من المنسوجات الأوروبية الرخيصة،التي لم يكن يُفرض عليها سوى الحد الأدنى للغاية من التعريفات الجمركية،لا يكون مفاجئاً أن يضطر الكثيرون من العاملين في حقل الغزل والنسيج والصباغة في الشرق الأوسط إلى الخروج من هذا المجال؛علماً أن آخرين قد قاسوا بدرجة كبيرة من جراء أنه صار من الأصعب العثور على إمدادات محلية من القطن والحرير،سواء نتيجة لانخفاض الإنتاج أو لمنافسة المشترين الأجانب في شرائها.لكل هذه الأسباب،فإن معظم المراقبين الأوروبيين الذين كانوا يكتبون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر كانوا يتنبئون مبتهجين بالدمار الشامل لصناعة النسيج في الشرق الأوسط”[33]،هذا في الوقت الذي كانت فيه تجارة المنسوجات تؤلف البند الرئيس في التجارة العالمية في القرن التاسع عشر وأكثر من نصف الصادرات البريطانية[34]،وقد تمكنت المنسوجات القطنية البريطانية لغاية سنة 1910 من الاستيلاء على ثلاثة أرباع السوق العثماني.

    ولم تقتصر معاهدات التجارة الحرة على تحديد قيمة الضرائب،إذ أدت أيضا إلى إلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية والحق في فرض القيود والضرائب على الصادرات الذي كان محمد علي باشا قد أقام عليه نهضته الصناعية والعسكرية في مصر،وأدى هذا الإلغاء باسم حرية التجارة إلى تدمير الأساس الاقتصادي لهذه النهضة ثم حرمان الحكومة المركزية من موارد مالية هي في أمس الحاجة إليها مما جرها فيما بعد إلى فتح أبواب جحيم الاقتراض زمن حرب القرم(1854)[35]،وقد حاول محمد علي أن يتجاهل متطلبات معاهدة التجارة الحرة ولكن النفوذ الأجنبي أجبره على إلغاء احتكاراته فأغلقت المشاريع الصناعية التي كانت بدورها قد حطمت الصناعات التقليدية فأدى التدخل الغربي إلى محو الصناعة نهائياً[36]،والغريب أن دول أوروبا التي استخدمت الوالي ضد السلطان أولاً ثم السلطان ضد الوالي ثانياً عادت فيما بعد محمد علي لتشجع استقلال مصر عن السلطان تمهيداً لوقوعها في براثن الاحتلال البريطاني.
    كما نصت معاهدات التجارة الحرة على منح التجار الأجانب حرية الحركة داخل الدولة العثمانية ومنحهم حقوق الرعايا المفضلين للدولة فيما يتعلق بالتجارة الداخلية مما أفشل المحاولات العثمانية لعزل هذه التجارة عن مساوئ الامتيازات الأجنبية[37].
    وبهذا نرى أن استيراد الحلول التي نجحت في الغرب وإسقاطها على واقعنا دون مراعاة التسلسل التاريخي الذي أوصل الغرب لهذه الحلول أو اختلاف الظروف بين ظروفنا وظروفه ليس تجربة ناجحة ولا تؤدي إلى الازدهار الذي حاول تحقيقه من كان قبلنا.
    التجارة مع الغرب تعمل على تحطيم الاكتفاء الذاتي للمجتمع الشرقيأدى نمو التجارة مع أوروبا بعد الثورة الصناعية إلى تحول القطاع الزراعي العثماني من زراعة القوت التي تكفي حاجات المجتمع من الغذاء وترتبط بها صناعات حرفية تكفي حاجاته من السلع المصنعة،إلى الزراعة التجارية التي تستهدف تزويد الغرب الأوروبي بحاجته من الغذاء والمواد الأولية[38]كالقطن مثلاً لتتخصص المراكز الصناعية الغربية في إنتاج البضائع المصنعة التي تصدر بدورها إلى الشرق والعالم فيما يعرف بالتقسيم الدولي للعمل(أي أن تكون زراعة الغذاء والمواد الأولية من نصيب الأطراف المتخلفة والصناعة من نصيب المركز الأوروبي المتطور)،وهو ما أدى إلى سير المجتمعات الشرقية في طريق فقدان الاكتفاء الذاتي.


    الديون والرقابة المالية الأجنبية:فشل الإشراف الأجنبي والقبول المكره على الحلول المستوردة في تحقيق الازدهار
    إذا كان رجال الإصلاح العثماني قد قبلوا بحرية التجارة وتبعاتها طوعاً انطلاقاً من ظروف داخلية،فإن الأمر مختلف مع الديون الخارجية وتبعاتها التي ترددت الدولة كثيرا قبل الإقدام عليها رغم التشجيع الأوروبي على وقوعها في هذا الفخ[39]،ومن الملفت أنها لم تقبل الاستدانة إلا في أواخر أيامها،أي بعد مرور زمن على القرن الأخير من حياتها وذلك نتيجة الأعباء الكبيرة التي ألقتها عليها حرب القرم(1853-1856)ضد روسيا،وظلت الأعباء العسكرية-التي تطلبها صد العدوان الغربي المستمر-والديون التي تطلبتها هذه الأعباء تستهلك معظم الميزانية العثمانية إلى آخر أيام الدولة،فكانت هذه بوابة واسعة للإضرار باستقلالها وسيادتها،وجرّت هذه الديون الهيمنة الأجنبية على المالية العثمانية بل وعلى القرار السياسي أيضاً بحجة حفظ حقوق الدائنين في البداية بالمبعوثين والمستشارين والممثلين عن حملة السندات الذين كوّنوا المجلس الأعلى للمالية(1860)الذي أصبح “المشرف الرئيس على الإصلاحات المالية في الدولة العثمانية”[40]،ثم بعدما أعلنت الدولة إفلاسها سنة 1875تكونت خلفاً للمجلس المذكور إدارة الديون العمومية سنة 1881 من ممثلين عن الدائنين ووضع تحت إشرافها ما بين 20%-30% من الإيرادات العثمانية لإنفاقها على خدمة الديون،أي الفوائد بالإضافة إلى الأقساط،وإذا كانت الإدارة قد أدت عملها بكفاءة،لصالح أصحاب الأموال الأجانب بالطبع،فإن أداءها لم يؤد إلى تغيير في مكانة الدولة العثمانية ضمن تقسيم العمل الدولي بين أجزاء الاقتصاد العالمي،إذ ظلت مورداً للمواد الأولية وسوقاً للبضائع الغربية ولم يؤد الإشراف الأجنبي على ماليتها إلى تحسين وضعها الاقتصادي[41]،بل كانت مع بقية دول الأطراف عاملاً في زيادة التراكم الرأسمالي الإمبريالي لدول المركز[42]وذلك بفعل الأداء الفعال لتلك الإدارة، ومع ذلك فقد عد المؤرخان شو أن نصيب إدارة الديون كان ضئيلاً من إجمالي الزيادة الكبيرة في الإيرادات العثمانية (43%) التي حققها البرنامج الاقتصادي الإصلاحي الذي طبقه السلطان عبد الحميد في أثناء ربع قرن إلى سنة 1907،وتلك المساهمة المتواضعة غير كافية لتبرير فرض الرقابة الأجنبية على المالية العثمانية (ص 225).

    نعم لقد شجعت إدارة الديون العمومية المستثمرين الأجانب على الاستثمار داخل الدولة العثمانية في السكك الحديدية والموانئ والمرافق العامة،”لكن ثمن ذلك كان هيمنة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد العثماني”،كما أدت القروض والاستثمارات الأجنبية إلى إحداث تغيرات ضرورية في البنية التحتية للدولة،”لكن الثمن كان باهظاً”[43]أيضا،فإضافة إلى عبء الديون الثقيل والانتقاص من سيادة الدولة واستقلالها،فإن المنطق التنموي لهذه الهيمنة لم يؤت أكله فظلت الأرباح-كما مر- تصب في جيوب المنتفعين الأجانب الذين وقفوا بكل قوة لعرقلة أي تقدم ذاتي متكامل يخرج زبائنهم من تحت سيطرتهم كما سيأتي،ولهذا لم يكن لنا أمل بالتطور في ظل هذه السيطرة.
    الديون مقدمة الاحتلالهذا فيما يتعلق بالديون العثمانية،أما الدول الصغيرة التي احتفت بفكرة الاستقلال والابتعاد عن المجال العثماني الموحد فقد دخلت بوابة الاستدانة لأجل الإسراع في عملية التحديث وبناء الكيانات المستقلة،واندفعت في سبيل الفرنجة للوصول إلى التماثل مع أوروبا[44]حتى في مظاهر الترف السفيه الذي لا تقدر عليه مجتمعاتنا البسيطة خلافاً لأوروبا الغنية،ولأن هذا الإنجاز يتطلب زمناً طويلاً حتى بالمعيار الغربي، وذلك لكي تتمكن المجتمعات التقليدية من استيعاب التقنيات الحديثة التي لم تحصل على الوقت الكافي للتوطن في هذه المجتمعات،فقد أثقل التغريب-السفيه أحياناً كثيرة- كاهل هذه الكيانات ودفعها نحو المزيد من التبعية لمصادر التقنية الحديثة ولمزيد من الديون للإسراع في تحقيق أهدافها[45]،فكانت الهيمنة على مواردها بعد إفلاسها أشد من الهيمنة على الدولة العثمانية التي استفادت من ثقلها الدولي في الحفاظ على استقلالها عن الأجانب[46]،أما الصغار فقد أدت ديونهم إلى السيطرة الأجنبية عليهم في النهاية بالحكم الأجنبي متمثلاً في مستشارين ثم وزراء ثم الوقوع تحت الاحتلال المباشر بذريعة الحفاظ على أموال الدائنين كما حدث لتونس(1881)ومصر(1882)والمغرب(1912).


    الاستثمارات الغربية في السكك الحديدية:فشل “التقاء المصالح”في تحقيق الازدهاركان استثمار رؤوس الأموال الأجنبية في إنشاء السكك الحديدية العثمانية مثلاً نموذجياً لما سمي “التقاء المصالح” بين التنمية الشرقية والمصالح الغربية،وفي الوقت الذي احتاجت فيه الدولة العثمانية إلى إنشاء هذه الخطوط الحديدية حين بدأت تنتشر في أنحاء العالم،كانت إمكاناتها المالية قد نقصت إلى حد لم يعد فيه من المتيسر الاعتماد على النفس في بناء هذه المشاريع الحيوية،ولهذا عهد بها إلى أصحاب رءوس الأموال البريطانية والفرنسية الذين اقتضت مصالحهم تحفيز التجارة مع العالم العثماني باستيراد مواده الأولية منه وتسويق السلع الأوروبية فيه وجاء اختراع القطارات ليهيئ وسيلة أكثر فعاليه في نقل البضائع والمسافرين من طرق النقل القديمة،وقد استفاد الشرق العثماني من إنشاء الخطوط الحديدية فوائد جمة أتت استجابة لحاجته الذاتية التي أملت عليه المبادرة بطلبها،ومن هذه الفوائد:

    فوائد اقتصادية:كتطوير الكفاءة الإدارية في جمع الضرائب وتشجيع الزراعة بربط أراضيها بمصارف التسويق كالمدن والموانئ وهو ما سيخفض نفقات النقل ويمكّن المزروعات المحلية من منافسة المزروعات الواردة التي تباع بأسعار منخفضة وفقاً لمعاهدات التجارة الحرة،كما ستؤدي زيادة المحاصيل إلى زيادة العائد الضريبي في الدولة،وستخفض القطارات من أجور نقل المسافرين فيزيد التنقل الداخلي المصحوب بانتشار العمران في المناطق التي تمر بها القطارات فزاد عدد السكان وظهرت صناعات متعلقة بالحديد والصلب.
    وفوائد سياسية:بتقوية سلطة الدولة في الأقاليم البعيدة التي سيصبح نقل الجند إليها أكثر سهولة.
    وفوائد عسكرية:بسرعة نقل الجيوش إلى جبهات القتال كما حدث في حروب اليونان(1897)والبلقان(1912)والحرب الكبرى(العالمية 1914)[47].
    ولكن الآثار لم تقتصر على الفوائد لأن الأطراف التي موّلت هذه الخطوط الحديدية كان لها نصيبها من الإفادة،وليست المشكلة هنا بل في أن فائدة الغربيين كانت على حساب العثمانيين وأدت إلى الإضرار بهم:فمن ذلك تقسيم الدولة إلى مناطق نفوذ بين الدول الكبرى حسب هوية الاستثمارات الغالبة في كل منطقة وهو ما تطور بعد الحرب الكبرى الأولى إلى تقسيم الدولة نفسها بين الإنجليز والفرنسيين وفق ما حازه كل طرف فيما سبق،كما ساهم انتشار البضائع الغربية الرخيصة في تدمير صناعات محلية وتغير توجه التجارة العثمانية التي كان معظمها داخلياً نحو التجارة مع الخارج لاستيعاب بضائعه وتزويده بالمواد الأولية[48].
    ومن السلبيات الظاهرة التي أشار إليها المؤرخون الاقتصاديون الضمانات الكيلومترية التي منحتها الدولة العثمانية لأصحاب الامتيازات الذين أنشئوا السكك وضمنت لهم بها حداً أدنى من الأرباح عن كل كيلومتر يتم بناؤه،ومن المؤرخين من رأى ثمن هذه الضمانات مرتفعاً جداً ومنهم من رآها وسيلة رئيسة لنهب الدولة نهبا ربويا على يد رأس المال الأجنبي[49]،وهناك أيضا من رأى أن التقدم الذي أحرزته القطارات في الدولة العثمانية وصل إلى نقطة استيعاب الأضرار التي نتجت عن هذه الضمانات وأن المستقبل كان سيشهد مزيدا من التقدم[50]،ويجمل هرشلاغ الرأي بالقول إن تعهد الحكومة العثمانية بحماية المستثمرين له مبرر اقتصادي خصوصاً إذا كان المشروع حيوياً،ولكنه يلوم المستثمرين الأجانب الذين جاوزوا المعقول حين طالبوا في نفس الوقت بالنقيضين:حرية الحركة لرءوس أموالهم من ناحية،والتدخل الحكومي لصالحهم من ناحية أخرى،وهو اعتراض يتضاعف في بلد متخلف يعاني النقص في رؤوس الأموال وحالته المالية توقعه بصورة متزايدة ومستمرة في أنياب الدائنين واستعبادهم[51]،ويرى شارل عيساوي أنه رغم السلبيات التي صاحبت إنشاء القطارات فلم يكن لها بديل[52].
    ويلاحظ أن قسماً من الفوائد التي عادت على الدولة العثمانية من بناء السكك الحديدية كان لها نتائج سلبية على المدى البعيد لأنها كانت جزءاً من عملية اندماج بالسوق الغربي واقتصاده وليست تطوراً ذاتياً يؤدي إلى نهضة اقتصادية مستقلة كالتي حدثت في أوروبا نفسها،ويرى الدكتور جورج قرم أن تحويل أرباح الاستثمارات الأجنبية إلى الغرب عطل أثر التنشيط التحديثي المتوقع من هذه الاستثمارات[53]،وقد كانت المبالغ التي خرجت من الدولة إلى المستثمرين والمقرضين بين سنتي 1854-1914 أكبر من المبالغ التي دخلتها[54].
    ومن تلك النتائج السلبية التي ترتبت على المزايا العاجلة للسكك انتشار الزراعة التجارية[55]،أي زراعة محاصيل لأجل التصدير،مع الابتعاد التدريجي عن زراعة القوت التي تكفي السكان ذاتياً،وكان تطبيق التنظيمات جعل زيادة الإنتاج الزراعي ممكناً بتركيز السلطة وتحسن الأمن وتسجيل الأراضي وفق قانون 1858 وزيادة المساحات المستصلحة[56]،في الوقت الذي جعل تغلغل الاقتصاد الغربي بوسائل المواصلات الحديثة عملية الارتباط به أكثر احتمالاً،وقد حولت الزراعة التجارية في ذلك الوقت أقاليم أخرى في العالم من الاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد الكلي على الأسواق الغربية في تصريف المادة الأولية التي يتخصص بها إقليم ما وفي التزود بالغذاء الذي لم يعد يُزرع في هذا الإقليم كما فعل الاحتلال البريطاني في مصر فيما بعد،ومع أن الزراعة التجارية وفرت للدولة العثمانية موارد مالية إضافية على المدى القصير،فإنها كانت جزءاً من اندماج في السوق الغربية التي اجتاحت العالم ولو تحقق مرادها لتحولت الدولة إلى الإنتاج الزراعي الأحادي الذي يفقدها اكتفاءها ويجعلها ملحقاً بالاقتصاديات الغربية لتتفرد أوروبا بالإنتاج الصناعي الذي يزيد قوتها وهيمنتها على العالم،ولهذا فقد ترافق التحول نحو زراعة التصدير مع زيادة الطلب على الصناعات الخارجية مما ترك آثاراً سلبية على الصناعات المحلية التي كانت تتكامل في السابق مع الزراعة المحلية وتكفي حاجات المجتمع من البضائع المصنعة وتجعله مستقلاً بنفسه ومكتفياً بذاته.
    ومن هذه الفوائد التي تحولت إلى أضرار بعيدة المدى أن التوسع التجاري مع الغرب الأوروبي أثّر سلبا على التجارة الداخلية بين أجزاء الدولة العثمانية والتي كانت تحتل المكانة الأولى بلا منازع إلى زمن التغريب،فكانت السكك الحديدية تنقل 75% من صادراتها إلى الأسواق الأوروبية مما أدى إلى تراجع التجارة البينية داخل الدولة[57].
    وكانت نتيجة الاختلاف بين ظروف السكك الحديدية في مواطنها الأولى الأوروبية والأمريكية وظروفها في الدولة العثمانية أنها لم تؤد للعثمانيين ما أدته للغرب الأوروبي من نهضة صناعية ويعزو شارل عيساوي ذلك إلى التباين في مجمل البنية الاقتصادية في الحالتين[58]،إذ كانت السكك الحديدية الغربية جزءاً عضوياً من نهضة عامة أدت دورها فيها،أما في الحالة العثمانية فكانت امتداداً لاقتصاد إمبريالي تلاقى مع بعض الحاجات المحلية وحاول استنزافها لصالحه مما جعل السكك هنا عائقا في بعض الأحيان أمام النهضة المحلية نتيجة التسهيلات التي قدمتها للتغلغل الإمبريالي في التجارة والصناعة والزراعة التي لم يتح لها مجال النمو الذاتي كما لو كانت متفردة بالساحة الوطنية،والفقرة التالية تؤكد التضارب بين مصالح الداخل والخارج.

    بناة السكك الحديدية يعارضون بناءها خارج سيطرتهمولم يقتصر الأذى الغربي على ما سبق وبدا فيه التباين بين ممارسات الغربيين داخل مجتمعاتهم وأفعالهم مع غيرهم،بل ظهر تعمد الأذى واضحاً في معارضة دول أوروبا الكبرى وبخاصة بريطانيا مشاريع سكك حديدية عثمانية كان الغرض منها إعادة إيقاظ هذه المنطقة وبث الحيوية فيها وإشاعة الازدهار الذي كانت تنعم فيه في الماضي،وأبرز هذه المشاريع سكة حديد الحجاز التي كان من المخطط أن تربط العاصمة استانبول باليمن وسكة حديد بغداد التي تربط بين برلين والكويت عبر استانبول وقد رأت بريطانيا على وجه الخصوص وبقية أوروبا في هذه المشاريع ما يناقض مصالح هيمنتها فعملت بكل طاقتها لتعطلها وتعرقل إنشاءها مما يؤكد مرة أخرى أن إقدام رءوس الأموال الأجنبية على إنشاء بعض الخطوط الحديدية داخل الدولة بالإضافة إلى مشاريع أخرى في البنية التحتية لم يكن المقصود منها “نشر الحضارة” أو”تمدين الشعوب المتخلفة”،أو حتى تبادل المنافع مع الآخرين،بل كان المقصود منها هو تحصيل المنافع تحصيلاً حصرياً ومنع الفائدة عن الغير في أية لحظة تصطدم مع خطط الهيمنة والسيطرة وحب الاستئثار بجميع الخيرات،أي أن الغرب لا يقدم “مساعدة” دون أن يكون عائدها راجعاً إليه وبشرط ألا تساعد غيره على مزاحمة أطماعه.


    مجمل نتائج “الإصلاحات” التغريبيةليس من العجيب بعد كل هذا أن تأتي الإصلاحات التغريبية بعكس ما قصد منها في البداية،ويقول المؤرخ الاقتصادي البريطاني روجر أوين إن هدف الإصلاحات كان تمكين العثمانيين من الصمود في وجه الخطر السياسي والعسكري المتزايد من جانب بريطانيا وأوروبا بالتدخل في شئونهم،ولكن بعد تطبيق هذه الإصلاحات “جاء تأثيرها الرئيس عكسياً تماماً لما كان مستهدفاً في الأصل”،إذ بدلاً من الحصول على مزيد من الاستقلال عن بريطانيا وفرنسا وروسيا،أصبحت الدولة العثمانية ومصر أكثر تبعية،وبدلاً من السيطرة على التغلغل الاقتصادي الغربي،”أصبحت عملية التغلغل برمتها أكثر سهولة بما لا يقاس”[59]،وقد كانت الإصلاحات “هي ذاتها تنازلات للدول الأجنبية وللأقليات القومية”،ولهذا فإن الفوائد الناتجة عن المصالح الأجنبية التي أنتجت هذا التغريب “كان إسهامها في تقدم السكان المحليين عارضاً تماماً”،لأن طبيعة التغلغل-كما ظهر في مجال السكك الحديدية-غير متناسقة ولا تؤدي دوراً داخلياً متكاملاً لأن هدفها التكامل مع الاقتصادات الخارجية ذات الاحتياجات المختلفة عن احتياجات الداخل،ولهذا فقد تحطمت بنية المجتمع الشرقي القديمة ولكن دون أن تحل محلها بنية جديدة قادرة على البقاء[60]،وهو نفس ما يحدث في يومنا هذا حين تكون الآثار الإيجابية للتغريب الاقتصادي الذي تمارسه المؤسسات المالية الدولية يعود بعضها “للصدفة أكثر من كونها نتيجة لرغبة حدت بمن قاموا بها،فقد كان هدفها الأول ولعله الوحيد تسديد الديون ورفع العقبات التي تعيق فتح الاقتصاديات الوطنية بالكامل”[61]،فالقصة إذن هي نفسها منذ بداية الاختراق الغربي للعالم ولم تؤثر فيها آلية التصحيح الذاتي المزعومة في الحضارة الغربية الديمقراطية.

    ولو وضعنا الحوادث في سياقها التاريخي في ذلك الوقت الذي كان فيه مفكر بارز مثل كارل ماركس يسعى لإزالة الرأسمالية من جذورها ومع ذلك كان مقتنعاً بدورها الحضاري المؤقت ولم يكن مطلعاً بعد على التناقضات التي ظهرت منها في هذا المجال[62]فما بالنا بغيره؟فإننا حينئذ ربما خففنا الحكم على طائفة المتغربين الأوائل،أو من ظهر فيما بعد أنهم كانوا من العملاء،إذ كما يقول المؤرخ المعروف إريك هوبزباوم”ربما كانوا يرون أن الأجانب،بقوتهم التي لا تقهر،سيساعدونهم على تحطيم أغلال التقاليد،بما يتيح لهم أن يقيموا في ما بعد مجتمعاً قادراً على الوقوف في وجه الغرب”[63]،وبالفعل فإنه حتى رجال الدولة العثمانية من المتغربين،فضلاً عن المعادين للغرب الذين عرفوا حقيقته قبل غيرهم،كانوا يرون أن مكان دولتهم بين القوى العظمى ولذلك لا بد من تقويتها لتحقيق هذا الهدف[64]،وذلك على عكس ساسة دول الاستقلال الوهمي والتجزئة المجهرية التي نشأت على أنقاض العثمانيين وكان الضعف والتبعية من صفاتها البنيوية ولهذا كان أولئك الساسة يستمرئون الذل والمهانة علي أيدي الغربيين والتبعية لهم دون أي طموح أو تطلع لمناوأتهم أو منافستهم أو رد عدوانهم.
    ولقد حققت الدولة العثمانية كثيراً من الإنجازات في هذه المرحلة في القرن التاسع عشر،فقد استخدمت نصف مليون موظف مدني مع نهاية القرن تمكنوا من إدارة أموال الدولة،وقاموا بوظائف تتصل بواجبات الحكومات الحديثة،إذ أداروا المستشفيات ومراكز الحجر الصحي،ومئات المدارس،ومزارع وحقول نموذجية بالإضافة إلى مدارس زراعية،كما بنوا طرقاً سريعة وخطوط البرق الكهربائي(التلغراف)،وسككاً حديدية مع صيانتها[65]،ومن المفارقات أن دفعة التحديث الكبرى تمت في عصر السلطان عبد الحميد الثاني الذي اتبع سياسة إسلامية وناهض التغريب الثقافي كما مر،ولكن “في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تكافح لإصلاح ذاتها والحفاظ على وجودها دولة حديثة،اضطرت في البداية إلى أن تستنزف مواردها المحدودة لتحمي شعبها من القتل على يد أعدائها ثم إلى أن تحاول أن تقدم الرعاية للاجئين الذين تدفقوا إلى الإمبراطورية عندما انتصر هؤلاء الأعداء…لم يكن للدولة العثمانية “فسحة للتنفس” لترتيب بيتها من الداخل،كانت هناك حاجة إلى الوقت لبناء دولة وجيش حديثين.كانت هناك حاجة إلى الوقت لخلق الاقتصاد الصناعي الذي كان أساس الدولة القوية.لم يتح أعداء العثمانيين،خصوصاً روسيا،لهم هذا الوقت” كما يقول المؤرخ الأمريكي جستن مكارثي[66]،ولهذا تمنى السلطان عبد الحميد أن تتاح له عشر سنوات من السلام وعدم التآمر الغربي ليتفرغ للبناء كما تفعل اليابان البعيدة عن وكر الوحوش الأوروبية[67]، ،ويكفي أن تتحدث الأرقام عن حجم الاستنزاف الغربي الذي كان يمتص ثلث الموارد العثمانية لخدمة الديون ويضطرها إلى إنفاق أكثر من 60% من إيراداتها على الجيش ومستلزماته حسب إحصاء سنة 1907-1908 وفقاً للمؤرخيْن شو،فماذا تبقى للتنمية؟ومع ذلك فقد تمكن برنامج السلطان عبد الحميد للإصلاح الاقتصادي من تحقيق ما وصفه المؤرخان شو بأنه “زيادة ضخمة” في مجمل إيرادات الدولة وصلت إلى 43% في نهاية عهده (ص 225)،ولا نستطيع الرجم بالغيب في مستقبل بلادنا آنذاك لو تحققت هذه الأمنية،فتدخل المصالح الغربية التي هي جزء لا ينفصل عن الفلسفة الغربية قطع علينا هذا الطريق كما قطعه على كثير من الأمم الأخرى،ولم يكن بإمكان العثمانيين أن يحققوا في أجيال قليلة ما احتاجت أوروبا لتحقيقه خمسة قرون[68]حتى لو ساروا على نهجها،ويلاحظ المؤرخ هوبزباوم أن سياسات التغريب منيت بالإخفاق ويدلل على ذلك بمصير البلاد التي اختارت هذا الخيار كمصر والصين،ويتساءل:هل حققت البلاد التي اختارت التبعية للغرب أي منافع تعوض هذا الخضوع؟ويجيب بالقول إن”أغلب الشعوب في العالم الثالث لم تكن،على ما يبدو،قد حققت أية فائدة ذات شأن من التقدم غير المسبوق الذي حققه الغرب”[69].
    المقاومة الاقتصادية العثمانيةرغم كل العوائق السابقة التي وضعها التغريب،ووضعتها الدول الكبرى أمام الدولة العثمانية لابتزازها ومنع نهوضها فقد امتلكت هذه الدولة مجالاً موحداً ذا إمكانات واسعة مكنها رغم الضعف والتراجع من مقاومة عوامل الهزيمة فتمكنت حتى آخر لحظاتها من تحقيق إنجازات تبين حجمها بعد سقوطها وقيام دول الاستقلال والتجزئة مكانها حين لم تستطع هذه الدويلات حتى الرجوع إلى النقطة التي تسلمتها من الدولة العثمانية وانطلقت منها في مسيرتها الوطنية، فاستمر تراجعها بالاستسلام المطلق للغرب المستعمر رغم الإمكانات التي امتلكتها ورغم الاستقلال الذي نالته بكفاح شعوبها ولكن مجالاتها الضيقة والمتناحرة لم تترك لها إلا حيز الهزيمة والخنوع.

    وكان لاحتفاظ العثمانيين باستقلالهم السياسي وقوة عسكرية لابأس بها دور كبير في تمكينهم من مقاومة المشاريع الاقتصادية الغربية خلافا لحال المستعمرات وأشباهها حيث كانت الهيمنة لطرف استعماري واحد،في الوقت الذي لم تتمكن دولة استعمارية واحدة من السيطرة على الدولة العثمانية وظلت دول أوروبا تتنافس فيما بينها للحصول على المكاسب من النخبة العثمانية الحاكمة التي تمتعت بهامش واسع للمناورة والتفضيل بين هذه القوى،وظل تغلغل رأس المال الأجنبي في المجال العثماني أقل من المستعمرات الرسمية وأشباهها،كما ظلت هناك حدود لمدى التنازلات الممنوحة لرجال المال والأعمال الأجانب[70]،وكل هذه الصفات انعدمت في المستعمرات وأشباهها التي امتدت على رقعة الكرة الأرضية في القرن التاسع عشر بسبب السيطرة الاستعمارية الشاملة على معظم أرجاء العالم.
    وقد تنوعت وسائل المقاومة العثمانية حسب الموقف،سواء كان الطرف الأجنبي دائناً أو مستثمراً أو تاجراً أو حتى حكومة دولة كبرى،ويصف المؤرخ كواترت السياسة الاقتصادية العثمانية بأنها كانت “مرنة وخلاقة،تعطي فقط الحد الأدنى لتحقيق الأهداف المطلوبة”،كما أن المخاطر التي تواجه الشركات الأوروبية كانت”تزيد بفعل الاستقلال السياسي الذي يمارسه النظام العثماني”[71]،ويقول أيضا إن الحكومة العثمانية احتفظت باستقلالها وحمت الجماعات المقاومة والمتمردة من كثير من تبعات التدخل الأوروبي المباشر[72].
    1- المقاومة التجارية:
    أ-الحماية الجمركية:
    ففي مجال الحماية الجمركية تمكنت الدولة العثمانية من انتزاع موافقة الدول الكبرى على زيادة الضرائب ثلاث مرات، بين عقد معاهدات التجارة الحرة(1838)التي وُقعت في ظروف الهزيمة واقتضت موافقة الأطراف الأوروبية على زيادة الضرائب على بضائعها،وإلغاء الامتيازات(1914)حين انتهت كل القيود السياسية والاقتصادية الغربية على الدولة العثمانية،ويصف كواترت سياسة الجمارك العثمانية بأنها لم تكن مجرد استجابة للضغوط الخارجية بل كانت أيضا “جهداً لحفز الاقتصاد بتقوية الصادرات وحماية الصناعيين المحليين”[73]،ولهذا فقد قامت الدولة بإلغاء معظم الرسوم على التجارة الداخلية بحلول سنة 1874[74]،وفي السنة التالية تجاوزت القوانين في تخفيض الضرائب على الصادرات وذلك لصالح التجار المحليين[75]،وقد كانت السياسة الحمائية العثمانية “أحد التصدعات المبكرة في الهيمنة العالمية البريطانية”[76]،وكان هذا “الانقضاض العثماني على التجارة الحرة” تحدياً استبق “قبل عقد من الزمن الهجمات العالمية على التجارة الحرة البريطانية التي ميزت الربع الأخير من القرن التاسع عشر”[77]،وقد حارب أنصار الحماية الجمركية العثمانيون ضد مواطنيهم الليبراليين، والأوروبيين “بكل قوة” إلى أن “ساد في النهاية دعاة الاقتصاد الوطني المحمي على حساب المدافعين عن التجارة الحرة”[78]،واللافت للنظر أن هذا حدث بعد ثورة جمعية الاتحاد والترقي سنة 1908 مما يدل على أن توجه التغريب العثماني لم يكن تابعاً للغرب وذلك بحكم سيطرة منطق الدولة العظمى على رجال الدولة العثمانيين بطريقة لا يقبلون معها وضع التبعية الذي قبِل به فيما بعد ساسة الاستقلال الوهمي والتجزئة المجهرية.
    ب-الاستيراد والتصدير:
    وفي مجال الاستيراد والتصدير ظلت التجارة بين أجزاء الدولة العثمانية حتى آخر أيامها تتفوق كثيراً على تجارتها الخارجية[79]وذلك رغم معاهدات التجارة الحرة التي سهلت التجارة مع أوروبا، “وظلت الأجزاء الباقية من الامبراطورية تكوّن وحدة تجارية واحدة لا تؤثر فيها الحدود أو الحواجز الجمركية والقيود التي ستقوم بينها بعد تحطيم الإمبراطورية في الحرب،وكان هذا التدفق الداخلي الحر للسلع ذا أهمية كبيرة لتركيا وللأقاليم التابعة لها على السواء”[80]،وذلك في زمن الهيمنة الأوروبية على العالم حين كانت التجارة الخارجية هي وسيلة النهب الاستعماري للمستعمرات مما جعلها تطغى على التجارة المحلية في أجزاء العالم المختلفة[81]،وظل قطاع التجارة الخارجية العثمانية قطاعاً محدوداً،وهذا من دلائل استقلالها[82]،ويشبه الاستيراد فيه في العقد الثاني من القرن العشرين استيراد دولة صغيرة[83]،أي أن الدولة العثمانية لم تكن معتمدة على الاستيراد لتلبية حاجاتها مع أنها كانت في أضعف حالاتها وهي تلفظ آخر أنفاسها، أما التصدير فلا يعتمد على سلعة واحدة بل على مكوّنات عديدة[84]،وهذه الحقائق تناقض ما حدث زمن الاستقلال والتجزئة،فحجم التصدير العثماني عشية الحرب الكبرى(1914)وصل إلى14% من الناتج الإجمالي،أما الاستيراد فوصل إلى 19%،أما عند ولاية مصر، التي حاول حكامها الاستقلال عن الخلافة فوقعوا في براثن الاحتلال الأجنبي، في نفس الزمن فوصلت الأرقام إلى 34% و28% [85]أي ما يقارب الضعف،وعند الحديث عن عهد دولة الاستقلال نجد التجارة الخارجية قد وصلت إلى73% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية و87% للدول النفطية في سنة 1975 مثلاً[86]،والتصدير العربي يعتمد على منتج واحد هو النفط( 90% سنة 1979)ولولاه لما غطى الناتج المحلي الإجمالي قيمة التجارة الخارجية مما يشير إلى شدة الاعتماد على تصدير المنتج الواحد[87]وهو ما يؤكد ارتفاع مؤشر التبعية[88]،أما التجارة البينية بين دول الاستقلال والتجزئة العربية فمازالت ضآلتها “أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاديات العربية” كما جاء في تقرير لمجلس الوحدة الاقتصادية والاجتماعية العربية في سنة 2007،إذ لا تكوّن هذه التجارة أكثر من 8% من تجارة البلاد العربية الإجمالية وهو رقم يراوح مكانه منذ عشرات السنين(مقارنة بأرقام الدكتور صايغ في بداية الثمانينات مثلاً[89])،ويعزو الدكتور عبد الوهاب الأمين فشل جهود التكامل العربية إلى هيمنة اعتبارات السيادة الوطنية[90].
    ج-اختيار العلاقات التجارية:
    وكانت الدولة العثمانية قادرة على الاختيار في علاقاتها الاقتصادية كما في علاقاتها السياسية التي مر ذكرها في وقت خضع معظم العالم للسيطرة الاستعمارية وشبهها،وهذا من دلائل الاستقلال الحقيقي[91]رغم الضعف والتراجع،فبعدما كانت بريطانيا تهيمن على التجارة والاستثمار والديون في الدولة العثمانية،هبط نصيبها من الدين العثماني بنسبة الثلثين بين 1881و1914 في الوقت الذي زادت المساهمة الألمانية ثلاثة أضعاف[92]،كما تدهورت أهميتها التجارية بالاشتراك مع فرنسا[93]،وتضاءلت أهميتها الاستثمارية كذلك بعدما كانت أكبر مصدر لرأس المال الأجنبي في الدولة العثمانية[94].
    د-استهلاك البضائع:
    يذكر المؤرخ شوكت باموك إنه رغم جهود ممثلي وزارة الخارجية البريطانية وممثلي مصانع نسيج لانكشاير في بريطانيا، لم تتمكن هذه المصانع من إنتاج النوعية التي يفضلها سكان الشرق من الأقمشة القطنية، وأن هذه الاستمرارية للتفضيلات الشرقية جعلت من الأفضل أن يتم نسيج الخيوط المستوردة في البيوت القروية أو في المؤسسات الصناعية التي تستجيب لهذه الأذواق في المدن، وأن بقاء هذه المؤسسات إلى الحرب الكبرى الأولى يجب أن يُعزى إلى هذه الميزة التي حافظت على ذوقها في سوق النسيج العثماني، وأن هذه المؤسسات الإنتاجية التي تركزت في حلب وجوارها لم تكن تنتج للاستهلاك المحلي فقط بل كانت تصدر للأناضول ومصر (ص 124)، وقد فشلت المنتجات الأوروبية كذلك في الاستحواذ على سوق الأنسجة الصوفية التي حافظت على خياراتها المحلية أكثر من المنتجات القطنية (ص 197).
    2- المقاومة الزراعية
    وتمكن العثمانيون من مقاومة التغريب الاقتصادي في حقل الزراعة أيضا والذي برز فيه أكثر من غيره قوة السلطة المركزية العثمانية،إذ استخدمت الحكومة المركزية قوتها النسبية في وضع حد للتدخلات الأجنبية التي أرادت تحويل الدولة العثمانية إلى الإنتاج الزراعي الأحادي ليتلاءم مع حاجة السوق الغربية،ورغم ازدياد الارتباط بالصناعات الأجنبية التي استوردت المواد الأولية من العثمانيين،ظل الإنتاج الزراعي متنوعاً لأن الزراعة العثمانية أظهرت “ميلاً ضعيفاً نحو زراعة المحصول الواحد،بل على العكس،فبمرور الوقت لم يكن الإنتاج الزراعي والصادرات إلى الخارج أكبر حجماً وحسب،بل أكثر تنوعاً أيضاً”[95]،وهو ما نتج عنه تنوع الصادرات في ميدان التجارة كما مر[96]،وظلت ملكية الأرض الصغيرة والمتوسطة هي السائدة في الدولة لأنها تلائم مصالحها الضريبية[97]على عكس المصالح الأجنبية التي تستفيد من الملكيات الواسعة كما سيأتي[98]،كما كانت الدولة في سنواتها الأخيرة متوازنة بين استيراد وتصدير الحبوب[99]استمراراً لتاريخ طويل من الاعتماد على الاقتصاد الزراعي الذي يولي اهتمامه بما سماه هرشلاغ زراعة القوت،تحولت بعدها الدول التي نشأت على المساحة العثمانية إلى الاعتماد على الاستيراد بعدما حولتها السلطات الاستعمارية إلى الزراعة الأحادية لتلبية الحاجات الغربية،فتحولت بلد مثل مصر من “سلة الخبز العظيمة للامبراطوريات على مدى آلاف السنين”[100]إلى أن أصبحت في ظل حكم البريطانيين “تعتمد بصورة خطيرة على محصول واحد(هو القطن)،بحيث أنها فقدت أية سيطرة كانت تتمتع بها على مصيرها الاقتصادي”[101]،وقد عزز الإنجليز نمط زراعة القطن في مزارع كبيرة “ممهدين بذلك لجملة المشكلات التي كانت مصر ستبتلى بها في القرن العشرين”[102]،وذلك حين أصبحت أسيرة المعونات الغذائية الأمريكية،أما فلسطين فقد “كانت تصدر،قبل الحرب العالمية الأولى،القمح والشعير إلى البلدان الأوروبية وإلى مصر وتركيا،باتت في عهد الانتداب،تحتاج إلى استيراد القمح والطحين حتى في السنين التي تكون جودة الغلال فيها فوق المعدل”[103]،وذلك بعدما حولها الانتداب إلى زراعة الحمضيات وحدها.
    وقد استمر العجز الغذائي عند دول الاستقلال والتجزئة التي تستورد أكثر من نصف حاجاتها من الحبوب والزيوت النباتية والسكر ونسب عالية من البقوليات ومنتجات الألبان حسب أرقام سنة 2009[104]حين دفعت البلدان العربية أكثر من 27 مليار دولار ثمنا لغذائها المستورد وهو ضعف رقم سنة 2000[105]،وقد لجأت دول الغرب إلى الرد على زيادة أسعار النفط بزيادة أسعار الغذاء[106]وهددت باستخدام “سلاح الغذاء”[107]في مقابل سلاح النفط كي لا يستفيد العرب من ثرواتهم في دعم قضاياهم،وهو مؤشر على عمق أزمة دول الاستقلال والتجزئة التي فقدت أمنها الغذائي.
    3- المقاومة المالية
    بعد إعلان الإفلاس العثماني(1875)والحرب العثمانية الروسية(1877-1878)التي زادت عبء الديون العثمانية،استغل السلطان عبد الحميد الخلاف بين الدول الكبرى في مؤتمر برلين(1878)ليعلن للدائنين أن عليهم دمج هذه الديون وتخفيض قيمة خدمتها “وإلا فلن ينال أحد منهم شيئاً”من أمواله مما سيسبب كارثة مالية تعم أوروبا حين يفقد الآلاف من حملة السندات كل ما يملكون[108]،وبالفعل تم التوصل إلى تسوية جنبت الدولة مصير ولايتيها المصرية والتونسية اللتين حرصتا على”الاستقلال”عنها بدعم أجنبي فسقطتا بعد الإفلاس في فخ الاحتلال الأوروبي الذي كان يسره استغلال فكرة الاستقلال عند الولاة لينفرد بهم، كل على حدة،ومن طريف المفارقات أن الشخص الذي تولى حكم مصر حكماً مطلقاً باسم الاحتلال البريطاني،وهو اللورد كرومر،حاولت بريطانيا أن تفرضه وزير مالية على الدولة العثمانية قبل ذلك كما فرضت على مصر المراقبين ثم الوزراء الأجانب وكان كرومر نفسه من ضمنهم فيما سبق تعيينه مندوباً سامياً،ورغم أنه قبِل الترشيح الجديد للوزارة في استانبول،فإنه “تبين أن الحكومة العثمانية ليس لها رغبة في طرح هذا الموضوع”[109]،وهو حدث يتجلى فيه الفرق الكبير بين مصير الدولة الجامعة ومصير ولايتها “المستقلة” التي رزحت تحت عبء هذا المستبد ربع قرن بعد ذلك(1883-1907)،واستطاع الباب العالي “أن يخرج من عراكه مع دائنيه فائزاً منتصراً واضطر حملة السندات التركية وهم صاغرون أن يقنعوا بالقليل الذي قسم لهم”[110]،فقد خفضت قيمة الديون القديمة إلى 15% فقط من قيمتها الإسمية والديون الحديثة إلى50%،وحاول القيصر الروسي استغلال حاجة السلطان الذي طلب إليه تخفيض تعويضات الحرب بالاشتراط عليه الحصول على تأييد عثماني للسياسة الروسية،فرفض السلطان رفضاً قاطعاً بيع مواقف بلاده وفضّل دفع تعويضات لمئة سنة-كما تم الاتفاق فعلاً على ذلك-على قبول إملاءات أجنبية مهما كان الثمن المدفوع[111]،ويمكننا هنا أن نعقد مقارنة مع دول الاستقلال والتجزئة التي أصبحت تبيع مواقفها وفق المعروض من الأثمان كما اتضح ذلك في أكثر من أزمة مرت ببلادنا.
    وقاومت الدولة العثمانية كذلك هيمنة الدائنين على مواردها التي كرست لسداد الديون،ومن أوضح الأمثلة على ذلك موقفها السلبي من احتكار الريجي للتبغ الذي تفرع عن إدارة الديون العمومية سنة 1883 وكان مختصاً بالتحكم بإنتاج واستهلاك التبغ داخل الدولة لصالح استيفاء الدائنين الأوروبيين أموالهم،ورغم وجود نتائج إيجابية لمهمة هذا الاحتكار فإن الأثر السلبي الذي نتج عن وضع قسم من رعية الدولة تحت سلطة أجنبية تحدد لهم أنظمة الزراعة والإنتاج وما يتبعها وضع الدولة ومواطنيها أمام تحديات فرضتها أوضاع الإفلاس والضعف،ولكن ذلك لم يؤد إلى الاستسلام وقاد إلى أشكال من المقاومة أبرزها عملية تهريب التبغ الذي فتح فرصاً أمام المزارع العثماني للبيع وجنبه سلبيات أنظمة الاحتكار،وقد دعمت الدولة عمليات التهريب بالتغاضي عنها وعدم التعاون مع إدارة الاحتكار على قمعها واتخاذ إجراءات تحد من سلطته وقد اشترك الموظفون الرسميون في عمليات التهريب لأن مناوأة الاحتكار كانت من دلائل الولاء للدولة مما سبب له خسائر جمة ودفعه لاتهام الحكومة بسوء النية لتفضيلها مصالح رعيتها وأن سياستها هي السبب في خسائر الاحتكار وأن ذلك نابع من “التعصب الإسلامي العنيد” ضد التجديد الغربي،ويؤكد المؤرخ كواترت أن سياسة الحكومة هي السبب في نجاح المقاومة[112]،وتذكر دائرة المعارف الإسلامية أن جميع الأوساط العثمانية قاومت إدارة الديون العمومية[113]،وهي الأصل الذي تفرع منه احتكار الريجي.
    هذه الصورة تناقض ما حدث في ولاية مصر”المستقلة” التي هيمن عليها الدائنون زمن ولاية الخديو إسماعيل وانتزعوا أموالهم بكل وحشية من الفلاح المصري رغم المجاعة التي أصابت الصعيد سنة 1878 ومات فيه ما لا يقل عن عشرة آلاف نسمة غير من قتلته الأمراض،ومع ذلك أصرت الحكومة البريطانية المتحضرة على وجوب سداد أقساط الديون في موعدها لأن الدائنين يجب ألا يتحملوا آثار “الحال المحزنة التي لم يكونوا السبب فيها”!،وترك مؤلف تاريخ المسألة المصرية لخيال القارئ تصور الطرق التي جمعت فيها الأموال من الفلاحين في هذه الظروف[114]،وذكّر السير جوليان جولد سميد في مقال كتبه في صحيفة التيمس في 23/8/1879 الدائنين بأنه لو اقتدى الخديو اسماعيل بما فعله السلطان عبد الحميد مع الدائنين من إلغاء ديونهم بدل دفع ربح باهظ لظل الخديو جالساً على عرشه ولكان المصريون أسعد حالاً بكثير مما وصلوا إليه[115].
    4- المقاومة ضد المستثمرين
    رغم أن المستثمرين كانوا يخدمون برامجهم الخاصة عند إنشاء استثماراتهم وبهذه الطريقة قاموا بتشويه الهياكل الاقتصادية المستقلة والمكتفية ذاتياً في المستعمرات وإلحاقها باحتياجات الاقتصادات الغربية،فإن الدولة العثمانية تمكنت في كثير من الأحيان من فرض مصالحها على هؤلاء المستثمرين الذين كان عليهم أخذها بالحسبان عند تنفيذ مشاريعهم،وقد أشار هرشلاغ إلى أن نمط الاستثمار في الدولة لم يتحدد بدوافع الربح والتخطيط الأجنبي فقط بل أيضا باهتمامات السلطان العثماني والباب العالي[116]،كما تمكنت الدولة من تنفيذ مشاريع قطارات ضخمة وقفت الدول الكبرى ضدها وبخاصة بريطانيا التي فعلت كل ما تستطيع لعرقلة مد سكة حديد الحجاز ومع ذلك بنيت بأموال المسلمين من كل بقاع العالم[117]،وكذلك فعلت مع سكة حديد بغداد التي مد قسم كبير منها بأموال ألمانية وسيطرة عثمانية، وليست ألمانية،على المشروع[118]،وكانت الدولة تلغي المشروع الاستثماري الأجنبي أحياناً إذا لم يلتزم بشروطها بغض النظر عن تدخلات القناصل، كما حدث في مشروع سكة حديد حيفا-دمشق البريطاني الذي فضلت عليه مشروع سكة حديد بيروت-دمشق الفرنسي ولما اتبع هذا الأخير سياسة لم تلائم العثمانيين بنوا بموازاته خطاً آخر ليكون جزءاً من مشروع الحجاز الكبير وينافس المشروع الفرنسي.
    ولم يتمكن رأس المال الأجنبي من الهيمنة على عمليات الاستثمار في الدولة العثمانية،إذ ظل إلى ما قبل اندلاع الحرب الكبرى الأولى لا يتجاوز 10% من مجموع الاستثمار الداخلي[119]،وقد أشار الدكتور إبراهيم العيسوي إلى أن انخفاض نسبة الاستثمار الخارجي إلى الاستثمار الداخلي من صفات استقلالية الدولة[120].
    5- المقاومة العقارية
    رغم صدور قانون الأراضي سنة 1858 الذي كان من نتائجه تحويل الملكيات العامة إلى إقطاعات كبيرة لفئة محدودة من الملاك،فقد ظلت الملكية الصغيرة والمتوسطة هي الغالبة على أراضي الدولة إلى أواخر أيامها كما مر وذلك نتيجة جهود الدولة في دعم هذه الملكيات ومناوءة تكوّن الضياع الكبيرة التي لم تصبح ظاهرة إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين[121]،ومع أن ظهور الملكيات الكبيرة كان نتيجة لإجراءات التغريب،وهو من صفات أنماط الملكية في زمن السيطرة الانتدابية على البلاد العربية[122]،فقد قام كثير من المؤرخين المتغربين بوصم الدولة العثمانية بصفة الإقطاع بأثر رجعي ينسحب على كل تاريخها[123]،وذلك رغم الاختلاف الجذري بين ما سمي إقطاعاً عثمانياً والإقطاع الأوروبي بسماته المعروفة[124]،وأصبحت صورة الإقطاعيات الكبرى بما فيها من استغلال طبقي كبير ومظالم فادحة ضد الفلاحين مرتبطة في الإعلام السينمائي العربي بالباشا التركي، وهذا ظلم كبير لحقيقة الدولة العثمانية.
    ورغم السماح للأجانب بتملك العقارات وفق الفرمان الهمايوني سنة 1856 وقانون 1867،فإن الملكية الفعلية لهم لم تكن ذات شأن”على الرغم من اهتمام القناصل المعاصرين باستحواذ الأوروبيين على الأرض العثمانية…وقد تحطمت الآمال الأوروبية بالحصول على مزارع شاسعة فيها عمالة مطيعة على صخرة عداء الموظفين العثمانيين وندرة العمالة الزراعية…كما كانت المحاكم العثمانية تعارض امتلاك الأرض من قبل الأجانب،بحسبما كان القناصل يشكون بلا كلل”[125]،ويذكر المؤرخ كواترت في مكان آخر أن امتلاك الأجانب الأرض في الدولة العثمانية لم يكن أمراً سهلاً نظراً “للمعارضة الداخلية لهذا الأمر من قبل بعض شرائح المجتمع العثماني”[126]،وقد أدت المقاومة العثمانية إلى إفشال جميع خطط الاستيطان الأوروبي فيها رغم معاناة الدولة العثمانية من قلة السكان التي كانت تغري أوروبا المتحفزة آنذاك لاستعمار العالم وتصدير مشاكلها السكانية إلى أطرافه،ولكن لم تتمكن دولة من دول الغرب،سواء بريطانيا[127]أو فرنسا[128]أو الولايات المتحدة[129]أو حتى ألمانيا حليفة العثمانيين[130]،من تحقيق مآربها بعدما رفض العثمانيون ذلك رفضاً قاطعاً ليبقى في بلادهم متسع للمضطهدين من المسلمين[131]الذين كانوا يعانون في تلك الأيام من العدوان الروسي والبلقاني بتشجيع من الدول الكبرى والذين هاجروا إلى الدولة العثمانية بأعداد كبرى قدرت بمدى يتراوح بين 5-7 ملايين نسمة في القرن والنصف الأخير من حياتها[132].
    كما أن الدولة عندما قدمت هذا التنازل الذي يسمح للأجانب بالتملك العقاري اشترطت عليهم الخضوع للقوانين المالية ولوائح الضرائب العقارية العثمانية بالإضافة إلى خضوعهم للمحاكم العثمانية في المنازعات العقارية،وهو ما قاد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي إلى عقد مقارنة بين”حدود الامتيازات الأجنبية في تركيا”و”اتساع حدود الامتيازات في مصر” حيث طغى سلطان الأجانب وأصبح المصريون تحت سلطة المحاكم الأجنبية في خلافاتهم مع هؤلاء الأجانب،وسبب كل هذا الضعف هو مجاملة الخديو اسماعيل للقناصل الأجانب ليحصل على تأييد دولهم في خلافه مع الدولة العثمانية مما جعل الرافعي يعجب من شعور الخديو بالخطر منها مع ضعفها ولا يشعر بالخطر من الاستعمار الأوروبي مصدر الخطر الحقيقي على مصر وقد كان هذا الخلل بسبب نزعة الخديو الأوروبية[133]،وفي هذا المثل أوضح دليل على نتائج النزعات التغريبية التي تؤدي دائما إلى الاستغلال ثم الاحتلال.
    6- المقاومة الصناعي:
    أ-الصناعات التقليدية:
    ظلت الصناعة العثمانية تضاهي مثيلاتها العسكرية في أوروبا كما كانت بعض جماعات الحرفيين العثمانيين تنتج سلعاً في غاية الجودة إلى بداية القرن التاسع عشر[134]حين أعطت الثورة الصناعية ميزة للأوروبيين على غيرهم في تطوير قدراتهم،وفي الربع الأول من القرن التاسع عشر تضاءل تصدير الصناعات العثمانية،ولكن الدولة قامت ببناء صناعات حديثة في نصف القرن التالي رغم الآثار السلبية التي تركتها معاهدات التجارة الحرة ابتداء من سنة 1838،ويصف المؤرخ كواترت الوضع الجديد بالقول إن “تاريخ الصناعة العثمانية في القرن التاسع عشر أكثر تعقيدا وإبهارا”مما توحي به روايات الاضمحلال،وإن انبعاثاً صناعياً تم بعد الصدمة الأولى التي نتجت عن منتجات الثورة الصناعية في النصف الأول من ذلك القرن و”إن التكيف الناشط والمستمر مع الظروف المتغيرة،وليس الانهيار،هو الخاصية المميزة للصناعة العثمانية في القرن التاسع عشر،بل إن الإنتاج في بعض القطاعات وصل إلى مستويات قياسية عالية في أوائل القرن العشرين”[135]،وينتقد الاتجاه التاريخي الذي يقصر مفهوم الصناعة على الصناعة الآلية على الطريقة الغربية،ويدعو إلى إنصاف المنظور الداخلي ويلفت النظر إلى أهمية الصناعة في المنازل والورش حيث جرت “أهم التغيرات في إنتاج النسيج العثماني”[136]،ويدعو شارل عيساوي إلى عدم المبالغة في تصوير تراجع هذه الصناعات التي كانت تزود السكان بمعظم متطلباتهم من السلع المصنعة[137]،ويلاحظ شوكت باموك أن صناعة النسيج العثمانية،سواء التقليدية أم الحديثة تطورت في الفترة1880-1914 وساهمت في كبح الاعتماد المتزايد على الخارج،وأن النسيج اليدوي توقف في هذه الفترة عن الاضمحلال بل تضاعف إنتاجه[138]،وينقل روجر أوين عن أحد المؤرخين المعاصرين أن صناعة النسيج السورية “أظهرت مقاومة ملحوظة،وظلت تجد من الوسائل ما تدافع به عن نفسها ضد منافسيها من الأجانب”وأن أي تراجع “كان يعقبه على الفور تقريباً انبعاث جديد”وأن “معظم من كتبوا عن مصر والأناضول يعترفون بأن إنتاج الأقمشة في القرى ظل مستمرا طوال القرن التاسع عشر”،ويعزو ذلك الصمود إلى عدم قدرة الآلات الأوروبية على محاكاة الأقمشة المصنوعة من الحرير والخيوط الفضية والذهبية وغيرها من الأنماط المحلية التي يفضلها الشرقيون،بالإضافة إلى قدرة المنتجين المحليين على تطوير أدواتهم والتكيف مع الإختراعات المحدثة في مجال عملهم[139].
    ب-الصناعة الحديثة:
    وفي أواسط القرن ظهر الحي الصناعي في استانبول واحتوى على مصانع آلية ومصانع لسبك المعادن وأخرى للغزل والنسيج والطباعة بالإضافة إلى حوض لبناء السفن ومصانع بارود،وامتد بناء المصانع خارج العاصمة وخطط لبناء المزيد منها[140]، ويرى المؤرخان شو أنه من المدهش جداً تمكن العثمانيين من تطوير صناعاتهم الوليدة رغم عوائق الامتيازات الأجنبية وتقدم الصناعات الأوروبية المنافسة[141]،وقد دعمت الدولة التوجهات الصناعية بتأليف لجنة الإصلاح الصناعي في الستينات وزيادة الضرائب على الواردات كما مر في سنة 1861-1862 ثم في سنة 1907،كما قدمت منذ سنة 1874 إعفاءات ضريبية للوازم المصانع وتخفيضات ضريبية على التجارة الداخلية لحساب المنتجات المحلية[142].
    وفي الربع الأخير من القرن إلى قيام الحرب الأولى(1914)”زاد عدد المصانع العثمانية بسرعة كبيرة بفضل رأس المال الخاص”[143]،إذ لم يقبل الساسة والمفكرون العثمانيون أن تظل بلادهم متخلفة عن غيرها تزود الأجانب بالمواد الأولية وتشتري بضائعهم الجاهزة(منطق الدولة العظمى رغم التراجع)،وقامت في زمن السلطان عبد الحميد تطورات عديدة في عدة صناعات منها صناعة السلاح والقماش والخزف الصيني والآجر والقرميد والزجاج والجلود والورق والخيوط والسجاد والحرير[144]،ويصف كواترت وضع الصناعة منذ سنة 1870 بعودة الازدهار الصناعي[145]،وأن هذا “الانبعاث العظيم”حدث إلى جوار استيراد البضائع الأجنبية[146]الذي يفترض أن يكون كابحا للتطور الصناعي،وكانت المراكز الصناعية الرئيسة هي استانبول العاصمة وأضنة وبورصة في الأناضول وسالونيك في القسم الأوروبي من الدولة وبيروت وجبل لبنان ودمشق وحلب في القسم العربي[147].
    وكانت الدولة العثمانية رغم الضعف الشامل الذي سرى في أوصالها في آخر أيامها تحاول مجاراة آخر الاختراعات الحديثة كي لا تكون مجرد مستهلك تابع،فقامت مثلا في سنة 1868 بإنشاء مصنع لأجهزة البرق الكهربائي(التلغراف)أثبتت منتجاته جودتها وتفوقها على الأجهزة الغربية في ملاءمة البيئة العثمانية[148]،بل إننا نجد تجارب لبناء الغواصات في بداية ظهورها[149]، وخططاً وضعت لصناعة الطائرات لما ظهر اختراعها[150]وهو أمر لو ظل مستمرا إلى اليوم ولم يقطع الغرب طريقنا لأصبحنا اليوم في مكان آخر،ولكن لم تتم هذه المحاولات لأن الدولة العثمانية كانت في النهاية ودول التجزئة التي خلفتها كانت عاجزة،المهم أن منطق الاستقلال عن الغرب كان يحكم مسيرة العثمانيين حتى اللحظة الأخيرة ولهذا وجه إليهم اللوم لعدم قيامهم بتصنيع الطائرات مثلا في حينها،فمن الآن يوجه اللوم لدول الاستقلال والتجزئة المجهرية لو تخلفت قروناً عن عصرها وهي ضعيفة ومهزومة وتابعة؟؟
    الاستنتاج
    عندما ظهر الضعف بوضوح في المجتمع الإسلامي زمن الدولة العثمانية ،استخدم الغرب لواء الإصلاح وفق نموذجه حجة لتبرير تدخلاته وتحقيق الربح على حساب هذا المجتمع الشرقي،وقد تمكن بهذه الأداة من القيام بعمليات هدم في البناء الاقتصادي لهذا المجتمع الذي تراجعت قوته الاقتصادية باتباع هذه الوصفة الخارجية،وحين كانت المبادئ لا تحقق الهدف المنشود كان الغرب يعامل الآخرين بغير ما يعامل ذاته ويطلب منهم ما لا يرضاه لنفسه بكل صفاقة وعدم حياء،ولهذا وجد أنصار التغريب في المجتمع الإسلامي أنفسهم بين خيارين:إما الخضوع لحاضر الغرب الذي يتضمن القبول بما لا يقبله الغربيون لأنفسهم،وهؤلاء كان مصيرهم الدخول في قفص الاحتلال الأجنبي المباشر مثل خديوات مصر،أما الخيار الثاني فهو الإصرار على تحقيق ما حققه الغرب لنفسه وفق نموذجه وهذا ما لم يكن مقبولاً عند الغربيين أنفسهم الذين تأمرهم مبادئهم بالربح والمنفعة وليس بمساعدة الآخرين لينافسوهم،ولهذا وصل الأمر بأصحاب هذا الخيار بالانتقال من الارتباط الفكري والسياسي الوثيق بالغرب الأوروبي إلى الانفصال السياسي الحاسم عنه وإعلان الحرب على أطماعه كما حدث لأتباع جمعية الاتحاد والترقي زمن الحرب الكبرى الأولى(1914-1918)بعدما نشئوا في الحضن الغربي.
    وقد توفرت لمجتمعاتنا في ظل المجال العثماني الواسع والموحد قدرة كبيرة على مقاومة معاول الهدم الاقتصادي الخارجي،لأن أي مجال واسع كهذا يفرض على ولاة أمره وسكانه منطق الدولة العظمى التي لا تقبل بالتبعية،ولهذا بذلت الدولة العثمانية جهوداً كبرى كي لا تكون أقل من بقية الدول العظمى وتمكنت بواسطة أشكال المقاومة الاقتصادية المختلفة-رغم الضعف والتراجع-من تحقيق ما لا تجرؤ على التفكير فيه دول الاستقلال والتجزئة التي قامت على أنقاضها ومنها تركيا الحديثة أيضاً التي لم يتمكن ثوارها المتغربون من إعادة شيء من عظمتها العثمانية على الرغم من سيرهم الحثيث في طريق التغريب وقبلوا بموقع الذيل للغرب كبقية دول التجزئة، والتي يحكمها جميعا منطق الضعف والاستكانة والتبعية الذيلية لمن هم أقوى منها نتيجة التزام هذه الدول جميعها بالقيود الاستعمارية التي فرضت عليها حدود الهويات الإقليمية بعجزها الظاهر عن القيام بواجبات الاستقلال الحقيقي كإطعام أنفسها أو حماية وجودها أو كفاية حاجات مواطنيها نتيجة محدودية إمكاناتها الجغرافية أو السكانية أو الاقتصادية، وذلك لابتعادها عن الهوية الحضارية الإسلامية بامتدادها الجامع الذي يوفر كل هذه الموارد لأتباعه دون الحاجة إلى الاعتماد على الآخرين لاسيما الأعداء منهم.
    ولا أمل لبلادنا بمقاومة معاول الهدم الاقتصادي والإفادة الحقيقية من إمكاناتها المهدرة إلا بالعودة إلى تكوين مجال موحد جامع يتمكن من الوقوف في زمرة الأقوياء ويتصدى لأطماعهم في نفس الوقت.


    الهوامش
    ________________________________________

    [1]-دونالد كواترت،الدولة العثمانية 1700-1922 م،مكتبة العبيكان،الرياض،2004،ترجمة:أيمن أرمنازي،ص155-157.
    [2]-مجموعة من المستشرقين،دائرة المعارف الإسلامية،دار الشعب،القاهرة،1969،ج2ص162-163 و195.
    [3]-Charles Issawi, An Economic History of the Middle East and North Africa, Routledge, London, 2010, p. 1.
    Sevket Pamuk, The Ottoman Empire and European capitalism, 1820-1913, Cambridge University Press, 1987, p. 199.
    [4]-د.خالد زيادة،تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا،معهد الإنماء العربي،بيروت،1983،ص80.
    [5]-عادل مناع،تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918،مؤسسة الدراسات الفلسطينية،بيروت،1999،ص165 و168.
    [6]-دائرة المعارف الإسلامية،ج10ص79.
    [7]-ز.ي.هرشلاغ،مدخل إلى التاريخ الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط،دار الحقيقة،بيروت،1973،ترجمة:مصطفى الحسيني،ص71.
    [8]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت(تحرير)،التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية،دار المدار الإسلامي،بيروت،ترجمة:د.قاسم عبده قاسم،ج2ص497.
    [9] -عادل مناع،ص206.
    [10]-نفس المرجع،ص494-495.
    [11]-لوتسكي،تاريخ الأقطار العربية الحديث،دار الفارابي،بيروت،2007،ص345-346.وأيضا:
    -هرشلاغ،ص45.
    [12]-دائرة المعارف الإسلامية،ج10ص83.
    [13]-قيس جواد العزاوي،الدولة العثمانية:قراءة جديدة لعوامل الانحطاط،الدار العربية للعلوم،بيروت،ومركز دراسات الإسلام والعالم،فلوريدا،1994،ص70.
    [14]-Resat Kasaba, The Ottoman Empire and the World Economy: The Nineteenth Century, State University of New York, Albany, 1988, p.56.
    [15]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ص493.
    [16]-أحمد صلاح الملا،جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة:رشيد رضا ومجلة المنار 1898-1935،دار الكتب والوثائق القومية،القاهرة،2008،ص20.
    [17]-إدهم إلدم ودانيال غوفمان وبروس ماسترز،المدينة العثمانية بين الشرق والغرب:حلب-إزمير-إسطنبول،مكتبة العبيكان،الرياض،2004،ترجمة:د. رلى ذبيان،ص381-382.
    [18]-منير شفيق،الإسلام وتحديات الإنحطاط المعاصر،دار طه للنشر،لندن،1983،ص72.
    [19]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص580.
    [20]-Resat Kasaba, pp. 54-56.
    [21]-Charles Issawi, p.62.
    وأيضا:
    -Sevket Pamuk, pp. 67-68.
    وأيضا:
    -Resat Kasaba, p. 6.
    [22]-Stanford J. Shaw & Ezel Kural Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Cambridge University Press, 2002, Vol. 2, p. 236.
    [23]-Charles Issawi, pp. 176-177.
    [24]-نفس المرجع،ص178.
    [25]-إدريس الناصر رانسي،العلاقات العثمانية-الأوروبية في القرن السادس عشر،دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،2007،ص265.
    [26]-نفس المرجع،ص261 و357.
    [27]-قيس جواد العزاوي،ص65 و69.
    [28]-ز.ي.هرشلاغ،ص53.
    [29]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص580. وأيضا
    Sevket Pamuk,p. 11.
    [30]-Resat Kasaba, p. 41.
    [31]-نفس المرجع،ص52.
    [32]-نفس المرجع،ص52.
    [33]-روجر أوين،الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي1800-1914،مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت،1990،ترجمة:سامي الرزاز،ص134.
    [34]-Charles Issawi, p. 35.
    [35]-Sevket Pamuk, p. 20.
    [36]-ز.ي.هرشلاغ،ص119.
    [37]-Encyclopedia Britannica, 15th Edition,1987, Vol. 2, p. 832, (capitulation).
    [38] -Sevket Pamuk, pp. 18,131.
    [39] -نفس المرجع،ص57.
    [40]-Resat Kasaba, p. 53.
    [41]-نفس المرجع،ص111.
    [42]-نفس المرجع،ص112.
    [43]-دونالد كواترت،ص144-145.
    [44]-د.جورج قرم،التبعية الاقتصادية:مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظار التاريخي،دار الطليعة،بيروت،1982،ص54.
    [45]-نفس المرجع،ص51-53.
    [46]-Charles Issawi, p.66.
    [47]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص562.
    [48]-Sevket Pamuk, pp. 68-69.
    [49]-لوتسكي،ص347.
    [50]-شارل عيساوي،التاريخ الإقتصادي للهلال الخصيب 1800-1914،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1990،ترجمة:د.رءوف عباس حامد،ص346-347. وأيضا:
    ز.ي.هرشلاغ،ص100. وأيضا:
    خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص561. وأيضا:
    Charles Issawi, p. 55.
    [51]-ز.ي.هرشلاغ،ص68.
    [52]-Charles Issawi, p. 60.
    [53]-د.جورج قرم،ص54.
    [54] -Sevket Pamuk, p.71.
    [55]-نفس المرجع،ص69.
    [56]-عادل مناع،ص194-195.
    [57]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص566.
    [58]-Charles Issawi, p. 60.
    [59]-روجر أوين،ص89-90.وأيضا:
    -ز.ي.هرشلاغ،ص53.
    [60]-ز.ي.هرشلاغ،ص53.
    [61]-صوفي بيسيس،الغرب والآخرون:قصة هيمنة،دار العالم الثالث،القاهرة،2002،ترجمة:نبيل سعد،ص196.
    [62]-جيرار بن سوسان وجورج لابيكا(تحرير)،معجم الماركسية النقدي،دار محمد علي للنشر،صفاقس،ودار الفارابي،بيروت،2003،ترجمة جماعية،ص62.
    [63]-إريك هوبزباوم،عصر رأس المال(1848-1875)،المنظمة العربية للترجمة،بيروت،2008،ترجمة:د.فايز الصياغ،ص239.
    [64]- Resat Kasaba, p. 56.
    [65]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص496-497.
    [66]-جستن مكارثي،الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين(1821-1922)،قدمس للنشر والتوزيع،دمشق،2005،ترجمة:فريد الغزي،ص23-28.
    [67]-السلطان عبد الحميد الثاني،مذكراتي السياسية،مؤسسة الرسالة،بيروت،1979،ص96.
    [68]-جستن مكارثي،ص27.
    [69]-إريك هوبزباوم،ص239 و243.
    [70]-Sevket Pamuk, pp. 4-7, 102, 132-133, 142.
    [71]- Donald Quataert, Social Disintegration and Popular Resistance in Ottoman Empire, 1881-1908, New York University Press, 1983, pp. 150-151.
    [72]-نفس المرجع،ص11.
    [73]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص583.
    [74]-شارل عيساوي،ص204.
    [75]-Donald Quataert, Ottoman manufacturing in the age of the Industrial Revolution, Cambridge University Press, 2002, p.4.
    [76]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص582.
    [77]-نفس المرجع،ص493.
    [78]-نفس المرجع،ص493-494.
    [79]-دونالد كواترت،ص231-238.
    [80]-ز.ي.هرشلاغ،ص104.
    [81]-دونالد كواترت،ص234.
    [82]-درجة الانكشاف التجاري وهي نسبة الصادرات والواردت إلى مجموع الناتج المحلي الإجمال من مؤشرات الاستقلال والتبعية،راجع:الدكتور إبراهيم العيسوي،قياس التبعية في الوطن العربي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1989،ص43-44 و176.
    [83]-Sevket Pamuk, p. 52.
    [84]-نفس المرجع،ص52 و85.
    [85]-Charles Issawi, p. 241.
    [86]-الدكتور نادر فرجاني،هدر الإمكانية:بحث في مدى تقدم الشعب العربي نحو غاياته،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1980،ص82.
    [87]-الدكتور يوسف عبد الله صايغ،الاقتصاد العربي:إنجازات الماضي واحتمالات المستقبل،دار الطليعة،بيروت،1983،ص116 و121.
    [88]-ابراهيم العيسوي،ص22.
    [89]-الدكتور يوسف عبد الله صايغ،ص117.
    [90]-الياس توما،التطورات الاقتصادية والسياسية في الوطن العربي منذ سنة 1950،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي،الكويت،1987،تعريب وتحرير:عبد الوهاب الأمين،ص17.
    [91]-إبراهيم العيسوي،ص21.
    [92]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص507.
    [93]-نفس المرجع،ص591.
    [94]-Donald Quataert, 1983, p. 8.
    [95]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص614-615.
    [96]- Sevket Pamuk, p. 144.
    [97]-نفس المرجع،ص135.
    [98]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ص639.
    [99]-Sevket Pamuk, p.152.
    [100]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ص499.
    [101]-روجر أوين،ص136.
    [102]-إريك وولف،أوروبا ومن لا تاريخ لهم،المنظمة العربية للترجمة،بيروت،2004،ترجمة:فاضل جتكر،ص406.
    [103]-الدكتور ماهر الشريف،تاريخ فلسطين الاقتصادي-الاجتماعي،دار ابن خلدون،بيروت،1985،ص124.
    [104]-الدكتور سالم توفيق النجفي،الأمن الغذائي العربي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،2011،ص23-24.
    [105]-نفس المرجع،ص24.
    [106]-الدكتور رمزي زكي،الاقتصاد العربي تحت الحصار،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1989،ص30.
    [107]-د.محمود عبد الفضيل،النفط والمشكلات المعاصرة للتنمية العربية،عدد 16 من سلسلة عالم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،الكويت،إبريل 1979،ص176(نسخة على القرص المدمج).
    [108]-Shaw& Shaw, p. 223.
    [109]-روجر أوين،اللورد كرومر:الإمبريالي والحاكم الاستعماري،المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة،2005،ترجمة:رءوف عباس،ص169.
    [110]-تيودور رتشتين،تاريخ المسألة المصرية1875-1910،لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة،1950،ترجمة:عبد الحميد العبادي ومحمد بدران،ص11.
    [111]-Shaw& Shaw, p. 222.
    [112]-Donald Quataert, 1983, pp. 13-40.
    [113]-دائرة المعارف الإسلامية،ج2ص201.
    [114]-تيودور رتشتين،ص54-55.
    [115]-نفس المرجع،ص104.
    [116]-ز.ي.هرشلاغ،ص69.
    [117]-لوتسكي،ص397.
    [118]-Jonathan S. McMurray, Distant Ties: Germany, the Ottoman Empire, and the Construction of the Baghdad Railway, Praeger, London, 2001, p. 1.
    [119]-Sevket Pamuk, p. 71.
    [120]-إبراهيم العيسوي،ص195.
    [121]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص642-648.
    [122]-نفس المرجع،ص638.
    [123]-منير شفيق،ص72.
    [124]-بيري أندرسون،دولة الشرق الإستبدادية،مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت،1983،ترجمة:بديع عمر نظمي،ص13-22.وأيضا:
    -Charles Issawi, pp. 136-137.
    [125]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص 641-642.
    [126]-دونالد كواترت،ص247.
    [127] -Sevket Pamuk, p. 102.
    وأيضا:
    -Resat Kasaba, p. 72.
    [128] -Donald Quataert, 1983, p. 59.
    [129] -مايكل أورين،القوة والإيمان والخيال:أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى اليوم،كلمة،أبو ظبي،وكلمات عربية للترجمة والنشر،القاهرة،2008،ترجمة:آسر حطيبة،ص227.
    [130]-Jonathan S. McMurray, pp. 10, 67.
    [131] -السلطان عبد الحميد الثاني،ص130.
    [132] -دونالد كواترت،ص217.
    [133]-عبد الرحمن الرافعي،عصر إسماعيل،دار المعارف،القاهرة،1987،ج2ص263-265.
    [134]-روجر أوين،1990،ص69.
    [135]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص668.
    [136]-نفس المرجع،ص689 و719.
    [137]-Charles Issawi, pp. 151-152.
    [138]-Sevket Pamuk, p. 13.
    وأيضا:
    -روجر أوين،1990،ص293.
    [139] -روجر أوين،1990،ص135-137.
    [140]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص681.
    [141]-Shaw& Shaw, p. 122.
    [142]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص684.
    [143]-نفس المرجع،ص684.
    [144]-Shaw& Shaw, p. 236.
    [145]-خليل إينالجيك ودونالد كواترت،ج2ص698.
    [146]-نفس المرجع،ص699.
    [147]-نفس المرجع،ص685.
    [148]-Bahri Ata, The Transfer of Telegraph Technology to the Ottoman Empire in the 19thCentury, Bogazici University, 1997, pp. 109-112.
    (نسخة من شبكة الإنترنت)
    [149]-الدكتور محمد حرب(تقديم وترجمة)،مذكرات السلطان عبد الحميد،دار القلم،دمشق،1991،ص165.وأيضا:
    -عمر فاروق يلماز،السلطان عبد الحميد خان الثاني بالوثائق،دار نشر عثمانلي،استانبول،1999،ترجمة:طارق عبد الجليل السيد،ص183.
    [150]-أكمل الدين إحسان أوغلي(إشراف)،الدولة العثمانية تاريخ وحضارة،مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية،استانبول،1999،ترجمة:صالح سعداوي،ج1ص429(الأستاذ الدكتورعبد القادر أوزجان،الباب الرابع:النظم العسكرية العثمانية،الفصل الثالث:بداية الملاحة الجوية عند العثمانيين).

    اترك تعليق:

يعمل...
X