إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الدولة العثمانية مالها وما عليها بحيادية وموضوعية

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صباحو
    رد

    إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين ..و الأكذوبة الكبرى



    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد.
    هذا مقال للرد على زعم إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين على النحو التالي:

    أولاً: تقدمة.
    ثانياً:
    محاور أساسية لفهم الصراع.
    ثالثا:
    ولاء الأرمن للروس وتمردهم على العثمانيين أمثلة ونماذج.
    رابعاً:
    شهادة مدفونة في أضابير قسم الوثائق الأمريكية.
    خامساً:
    صفوة القول.


    أولاً:
    تقدمة:

    لقد تبنى هذه الأكذوبة (إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين) من استخدم الأرمن في تحقيق مطامعه السياسية فهم أنفسهم أعني روسيا القيصرية هي التي صنعت الأرمن ومنحتهم بغير حق معظم الأراضي التي طردت المسلمين منها في خلال حروبها المستمرة لعدة قرون مع الدولة العثمانية! فقد كانت روسيا القيصرية تمارس إرهاباً منظماً ضد رعايا الدولة العثمانية حيث كانت تبيد مدائن وقرى كاملة كانت عامرة بالمسلمين، ومن تبقى على قيد الحياة منهم كانت تجبره على النزوح القسري مستولين على كل ممتلكات هؤلاء المسلمين المظلومين الذين تعرضوا لأبشع عملية استئصال جماعي في تاريخ البشر! وفي نفس الوقت كانت القوات الروسية بزعم الدفاع عن المسيحية! تقوم بعملية إحلال وتجديد من خلال توطين الأرمن الموالين لها في حروبها مع الدولة العثمانية أراضي المسلمين الذي هجروها قسراً أو قتلوا إبادة! وقد كانت روسيا القيصرية تمد المتمردين الأرمن بالمال والسلاح والعتاد بمجرد حدوث أدنى نزاع بين مسلم من رعايا الدولة العثمانية وأرمني موال لروسيا القيصرية فلم يكن مسموحاً للمسلم أن يرد عدوان عصابات الأرمن التي تغير على القرى وتنتهك الأعراض فإذا حاول المسلم أن يدافع عن عرضه وأرضه تقوم هذه العصابات المدعومة روسيا بإبادة القرية وحرق من فيها!
    لقد استخدمت روسيا المتمردين الأرمن لتوسيع مناطق نفوذها واحتلال البلاد الخاضعة للدولة العثمانية وهذا ما ساعد فيما بعد على تكوين الاتحاد السوفيتي منذ الثورة البلشفية عام 1917م!
    وأكد على ذلك لورانت شابري وآني شابري في كتابهما (سياسة وأقليات في الشرق الأدنى ترجمة د.ذوقان قرقوط ص311) رغم أنهما لم يكونا محايدين على الإطلاق في كتابهما المذكور! لكن على أية حال فقد ذكرا رغم تعصبهما للأرمن: “وقد أبصر الأرمن الباقون في أرمينيا، الخاضعون من جهة للأتراك ومن الجهة الأخرى للفرس، أملاً كبيراً في نهاية القرن الثامن عشر وهم يرون إلى القوة الروسية، القوة المسيحية تظهر على مسرح الشرق الأدنى. وتظهر الرغبة في الامتداد إلى ما وراء القوقاز، نحو الجنوب والجنوب الشرقي. قبل ذلك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حاولا الأرمن -عبثاً بلا جدوى-العثور على عون في الغرب المسيحي، متوقعين تدخلاً عسكرياً من الدول الغربية ينقذهم من النير التركي. ولم تثبط روسيا هذه الآمال الجديدة، واجدة في جيوش المتطوعين الأرمن التي شنت على الفرس، احتلال الأراضي التي تشكل اليوم صورة تقريبية أرمينيا السوفيتية” أهـ.
    لعل متسائلاً يقول متى ظهرت المسألة الأرمنية دولياً؟ ولماذا يصر الأرمن على أنهم قد تعرضوا للإبادة على أيدي العثمانيين؟
    للإجابة على هذا نحاول أن نسلط الضوء على المحاور التالية:
    ثانياً: محاور أساسية لفهم الصراع:
    المحور الأول
    :


    لقد تم تدويل المسألة الأرمينية لأول مرة بموجب معاهدة (سان ستيفانو): فعقب انتهاء الحرب الروسية التركية لعام 1877م – 1878م عقد الطرفان معاهدة سان ستيفانو وبرلين عام 1878م حيث مهد البند رقم 16 والبند رقم 61 بتدويل المسألة الأرمنية التي لا تزال تستخدم فزاعة لابتزاز الأتراك حتى وقتنا الحاضر.

    المحور الثاني
    :


    لا بد من دراسة الحقبة التاريخية التي يزعم الأرمن أنهم قد تعرضوا فيها للإبادة وهي تقريباً الفترة من (1821م إلى 1922م).. مع دراسة منطقة جغرافية كبرى كانت خاضعة للدولة العثمانية من قفقاسيا إلى الأناضول والبلقان بما في ذلك بلغاريا واليونان حيث كان معظم سكان هذه الأراضي الشاسعة يدينون بالإسلام!
    وهناك بالفعل دراسات جادة حول هذا الموضوع رغم ندرتها مثل الدراسة التي أعدها جستن مكارثي في كتابه (نفي وموت) حيث قامت بدعمه وتمويله (هيئة وقف الولايات المتحدة الأمريكية القومي للدراسات الثقافية للبحث في الحرب العالمية الأولى وآثارها، ومؤسسة الدراسات التركية للبحث في وفيات وهجرات الأتراك بالاشتراك مع بعض الجامعات الأمريكية والبريطانية.. ويعتبر هذا البحث من أفضل ما كتب في هذا الشأن رغم تحفظنا على بعض الملاحظات التي لا تقلل من قيمة البحث وجديته والجهد المبذول فيه وقد ترجم إلى اللغة العربية في الكتاب الموسوم (الطرد والإبادة) نشرته قدمس للنشر والتوزيع بدمشق وهو كتاب جيد في مجاله. وبالطبع فإن دراسة هذه المنقطة جغرافيا وتاريخيا وطبيعة الصراع القائم في تلكم الحقبة يحتاج إلى العديد من الأبحاث والدراسات الوثائقية ليستبين للمنصفين من ذوي العقول عظم الفرية التي يرددها الغرب حول ما يسمى (بإبادة الأرمن)! في الوقت الذي يتجاهل فيه الكتاب الغربيون مصير ملايين المسلمين الذي شردوا من أوطانهم وقتلوا على أيدي الروس والأرمن والبلغار واليونان والصرب في نفس الحقبة المذكورة حتى عام 1922م !
    وعلى حد تعبير مكارثي: “كانت هناك مجتمعات مسلمة في منطقة بحجم أوربا الغربية كاملة قُلصت أو أبيدت. تقلصت مجتمعات البلقان التركية العظيمة إلى جزء من أعدادها السابقة. في القفقاس طرد الجركس واللاز والأبخاز والأتراك وآخرون من جماعات مسلمة صغيرة. تغيرت الأناضول، وغربي الأناضول وشرقيها أقرب إلى الخرائب. أنجزت إحدى أكبر مآسي التاريخ” أهـ (مكارثي: ص327 بتصرف).

    المحور الثالث
    :


    دور جماعة الاتحاد والترقي في إسقاط الخلافة العثمانية وذلك عام 1908م وإجبار السلطان عبد الحميد الثاني على الاعتزال! وإدخال فقرة في الدستور الجديد تسمح لكل المواطنين العثمانيين بالتسلح مما وفر غطاءً قانونياً للأقليات بالتسلح! واستغل الأرمن هذا التشريع الجديد بجمع وتخزين الأسلحة التي حابوا بها المسلمين وقتلوهم! حيث بدأ العدوان الأرمني على المسلمين في مدينة أطنة Adana قبل منتصف عام 1909م بقيادة أسقف مدينة (أسفين) المدعو موستش!

    المحور الرابع:


    دور السفراء والقناصل الغربيين والمبشرين البروتستانت الأمريكيين في تضليل الرأي العام ونشر تقارير مبالغ فيها عن قتلى الأرمن وغض الطرف عن قتلى المسلمين بل وتعمد الكذب في أحايين كثيرة وقد كان للقنصل الأمريكي المتهم بالتعصب للأرمن دور في نشر هذه الأضاليل! ولم يكن القنصل الفرنسي أقل افتراءً من القنصل الأمريكي والروسي وغيرهم!
    وللأسف الشديد فإن السلطان عبد الحميد كان يثق في أن الحكومة البريطانية تريد الحفاظ على وحدة الممالك العثمانية! لكنه كان قد استفاق بعد فوات الأوان! يقول روبير مانتران في كتابه تاريخ الدولة العثمانية وهو كتاب فيه كثير من الآراء غير السديدة! يقول في الجزء الثاني من الكتاب المذكور: “ومنذ 1878 إلى 1879م يبدأ عبد الحميد في الاشتباه في أن إنجلترا تريد التخلي عن سياستها التقليدية الخاصة بالحفاظ على وحدة الأراضي العثمانية. وهذه الشكوك تغذيها الضغوط التي تمارسها الحكومة البريطانية على السلطان عبد الحميد حتى يضطلع بالإصلاحات الموعودة في الولايات الأرمنية؛ ويزيد من احتدادها تولي(جلادستون) زعيم حزب الأحرار لرئاسة الحكومة البريطانية في مايو عام 1880م، وهو عدو سافر للأتراك منذ مذابح بلغاريا. وتؤكدها بشكل ما هيمنة لندن على مصر عام 1882م. فمنذ ذلك الحين شهدت الديبلوماسية الإنجليزية، على نحو ما ينظر إليها في استنبول، انقلاباً كاملاً” أهـ (روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية/ترجمة بشير السباعي/دار الفكر للدراسات والتوزيع/القاهرة/ج2 ص165).


    المحور الخامس:


    الدعاية الغربية المضللة التي كانت تنشرها وسائل الإعلام من قلب للحقائق وتصوير المسلمين على أنهم همج وبرابرة متوحشون! وفي المقابل تصوير الأرمن على أنهم أتقياء بررة وعباقرة أذكياء متسامحون!

    المحور السادس:


    لقد ظهرت هذه المشاكل والقلاقل التي أثارتها القوى المعادية للدولة العثمانية في مناطق نفوذها في القفقاس والقرم والبلقان والأناضول وأثرت على مصير المسلمين في هذه المساحات الشاسعة بسبب عدة عوامل أساسية:
    (أ) ضعف الدولة العثمانية وشيخوختها حتى وصفت بعد ذلك بالرجل المريض.
    (ب)
    التحريض على الوعي القومي المسيحي بين الطوائف التي تعيش في كنف الدولة العثمانية فقد حرصت الدول الكبرى الطامعة في تقسيم أملاك الدولة العثمانية على تحريض الطوائف غير المسلمة على التمرد وإحياء النعرات القومية كما حدث مع الأرمن والبلغار واليونان والصرب!. وهذا ما أشار إليه روبير ما نتران: “والواقع أن الحركة القومية الأرمنية بعد عام 1878 يرتبط إلى حد بعيد بالتحليل الذي أجره المثقفون الأرمن للاستقلال البلغاري: فقد تم الحصول على هذا الاستقلال بفضل أوروبا، فعلاً، لكنه تم أساساً بفضل الأساليب العنيفة التي لجأت إليها (اللجان الثورية البلغارية). وهكذا فإن النموذج البلغاري يهيمن على تفكير المناضلين الأرمن، خاصة أولئك الذين سوف يتجهون إلى إنشاء المنظمات الأولى. والواقع أن الأحزاب الثورية الأولى تبدأ في الظهور في أواسط ثمانينيات القرن التاسع عشر: حزب (أرمينكان) الذي تأسس في (فان) عام 1885م على أيدي عدد من المربين، ثم الحزبان الكبيران اللذان، خلافاً للحزب الأول، سوف يجري تأسيسهما على أيدي أرمن من القوقاز ليس لهم مع أرمينيا التركية غير القليل من الروابط: الهينتشاق (الجرس) الذي تأسس في جنيف عام 1887م، والداشناق (الاتحاد الثوري الأرمني) الذي تأسس في عام 1890م في تفليس” أهـ (روبير مانتران: ج2 ص217).

    (ج) التوسع الاستعماري الروسي الذي ظل يبتلع أملاك الدولة العثمانية قطعة قطعة.
    هكذا نستطيع من خلال هذه المحاور فهم الملف الأرمني الذي يستخدمه الغرب ضد الدولة التركية الحديثة رغم ابتعادها عن الإسلام ومحاربتها له عن طريق علمنة كافة المناحي الحياتية في تركيا بغية إرضاء الغرب والدخول في جنة الاتحاد الأوروبي الموعودة! ذلك الاتحاد الذي لا ولن يرضي عن دخول تركيا حتى تلج تركيا (سم الخياط)! فقادة الغرب يعلمون جيداً أن كمال أتاتورك قد فعل ما لم يكن الأوروبيون أنفسهم يحلمون به! وفي نفس الوقت يعلمون أن الشعب التركي رغم ابتعاده كثيراً عن الإسلام الحقيقي غير أن روح الإسلام لا تزال تسري في جسده وأن هناك حنيناً لعودة عظمة الإسلام التليد أضحت تنتشر في الآونة الأخيرة رغم محاولات العسكر حصار هذه الروح وخنقها في مهدها! لذلك يتخوف القادة الأوروبيون بدخول تركيا الاتحاد الأوربي لأنهم يعتقدون أن هذا الاتحاد الأوروبي ناد مسيحي! لا يسمح للمسلمين بعضويته!
    ورغم تحالف تركيا مع أميركا إلا أن قادة الولايات المتحدة غير مطمئنين على مصالح بلادهم في المستقبل البعيد لذلك فإنهم سيتبنون في نهاية المطاف قراراً بإدانة تركيا في إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين! بغية ابتزاز تركيا واتخاذ هذا القرار تكأة لحصار تركيا اقتصادياً والتدخل عسكرياً إن خرجت تركيا عن علمنتها المتطرفة وغيرت بوصلتها إلى الحكم بالإسلام في المستقبل القريب أو البعيد! لأنه في هذه الحالة ستتحالف أوروبا وأمريكا في حرب ضروس أشبه بحرب عالمية ثالثة أو رابعة أو خامسة ضد تركيا لاستعادة القسطنطينية وضمها إلى الغرب!

    ثالثا: ولاء الأرمن للروس وتمردهم على العثمانيين:
    لقد كان للولاء الديني الدور الأبرز في الصراع بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية حيث لم يكن مفهوم الجنسية قد ظهر في تلك الحقبة وقد أكد على هذا مبدأ الولاء الديني مكارثي في كتابه المذكور آنفاً: “من الواضح أن الأرمن في ظل الحكم الروسي والعثماني كانوا يرون بعضهم إخوة، مهما كانت جنسياتهم والأمر نفسه صحيح عند المسلمين. من غير المؤكد إذا كان مفهوم الجنسية، بالمقارنة بالانتماء الديني، توطد على نحو كبير في أي من القفقاس أو شرقي الأناضول قبل عشرينيات القرن العشرين. في الشرق شعر المسلم القفقاسي بأنه أقرب إلى مسلم أناضولي منه إلى أرمني قفقاسي تماماً كما نسب الأرمني الأناضولي الشرقي نفسه إلى أرمن القفقاس، وليس إلى المسلمين الأناضوليين. إن انتماءهم الرئيس لجماعاتهم الدينية برهنت عليه حروب القفقاس وشرقي الأناضول المرة تلو الأخرى” (جستن مكارثي: الطرد والإبادة ص49 بتصرف).
    أقول إن مبدأ الولاء الديني ليس مستغرباً في تاريخ الأمم، لكن المستغرب أن يتم إقصاء هذا المبدأ في تقويم طبيعة الصراع عبر التاريخ. وللتدليل على أهمية الولاء الديني أن روسيا القيصرية كانت تضطهد الكنيسة الأرمينية ثم غيرت معاملتها لهم في عهد بطرس الأكبر! للاستعانة بهم في حروبهم التوسعية ضد الدولة العثمانية وقد تفهم ذلك الأرمن على أساس أنهم والروس ينتمون في النهاية إلى الديانة النصرانية وأن عدوهم واحد (الدولة الإسلامية العثمانية)! والحقيقة أن الأرمن تعاملوا بنفس المنطق مع الفرنسيين وشكلوا فيلقاً يتبع الجيش الفرنسي في قليقلية عاث في الأرض فساداً على أساس أن الفرنسيين أيضاً إخوانهم في العقيدة وعدوهم مشترك! وكان للمبشرين البروتستانت الأمريكان دور بارز في تأجيج الصراع وكانت الأخوة الدينية هي التي تربطهم مع الأرمن بل وتحجب حقيقة المجازر التي كانت يرتكبها الأرمن في حق المسلمين! وليس هذا تعصباً مني ومغالاة في فهم طبيعة الصراع فجميع الشواهد التاريخية تؤيد ذلك والواقع المعاصر يعضد هذا الرأي! راجع مناطق الصراع في العالم: فلسطين/العراق/ كشمير/أفغانستان/بورما/تايلاند/البوسنة والهرسك/الجبل الأسود/الصومال/دار فور/التضييق على المسلمين في الغرب)!! هل كل ذلك مصادفة وبدون قصد ولا دخل للولاء الديني في هذا الصراع وشن هذه الحروب الظالمة؟!

    أمثلة على ولاء الأرمن للروس وتمردهم على الدولة العثمانية:
    لقد ذكر مكارثي في دراسته العديد من الشواهد التاريخية على ولاء الأرمن لروسيا ونحن بدورنا نلخص أهم هذه الشواهد عبر النقاط التالية:
    الأول: في عهد القيصر بطرس الأكبر بدأ يقوى اتكال الأرمن على روسيا وأملهم في مساعدات من هذا الجانب منذ غارات الروس الأولى على القفقاس منذ حكم بطرس المذكور حين أسسوا قوة عسكرية ليساعدوا غزو القياصرة المنطقة، تعهد الأرمن القفقاس بالولاء والدعم للقياصرة الروس.
    الثاني: في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر دعم الأرمن (رؤساء كنائس/علمانيون/وبقية طوائف الشعب) الغزو الروسي لولايات المسلمين في القفقاس والإطاحة بحكامها المسلمين.
    الثالث: علم الأرمن جواسيس للروس ضد حكامهم المسلمين سواء العثمانيين أو الأرمن الذين كانوا رعايا الدولة الفارسية.
    الرابع: حين كانت مدينة دربند Derbend تحت الحصار الروسي عام 1796م أرسل سكانها الأرمن إلى الغزاة معلومات عن مصادر الإمداد المائي للمدينة، ما أتاح للروس أن يهزموا أهل (خان دربند).
    الخامس: صرح رئيس أساقفة أرمني (أرغوتنسكي – دولغوروكوف) علانية في تسعينات القرن الثامن عشر، بأمله وإيمانه أن الروس سيحررون الأرمن من حكم المسلمين.
    السادس: الرعايا الأرمن للإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية، وكذلك الأرمن الذين يعيشون في الإمبراطورية الروسية قاتلوا إلى جانب الروس ضد بلاد فارس والإمبراطورية العثمانية في حروب أعوام (1827م إلى 1829م) وحرب القرم.
    السابع: أبدى الأرمن في الأناضول العثمانية ولاءهم للقضية الروسية بعملهم جواسيس بعملهم للروس.
    الثامن: كان الأرمن يعبرون من الأناضول الحدود ويقدمون تقارير عن تحركات القوات العثمانية في جميع حروب شرق الأناضول.
    التاسع: لقد ساعد الأرمن الأناضوليون الجيوش الروسية الغازية في عام 1827م وعندما غادر الجيش الروسي اتبع آلاف الأرمن هذا الجيش خارج الأناضول.
    العاشر: خلال حرب القرم، قدم الأرمن معلومات استخباراتية من مدينة قارص Kars المحاصرة للروس.
    الحادي عشر: مهد المرشدون الأرمن من الأناضول العثمانية الطريق للغزاة الروس في عام 1877م.
    الثاني عشر: رحب أرمن وادي الشكرد Elsekirt بالجيوش الروسية الغازية في عام 1877م، وعندما انسحب الروس غادر الجميع معهم.
    الثالث عشر: كان الأرمن في الأناضول والقفقاس حلفاء للروس في الحرب العالمية الأولى. لقد بدأ اتكال المتمردين الأرمن في الأناضول على الروس واضحاً بحلول منتصف القرن بالثورة في زيتون Zeyton عندما كانت هناك حاجة إلى موارد مالية لتقوية دفاعات زيتون ضد العثمانيين في عام 1854م بينما كان العثمانيون يقاتلون الروس في حرب القرم، حاول الثوار الأرمن الحصول على مساعدات مالية من الروس.
    الرابع عشر: في عام 1872م كتب سكان أرمن وان Van كونهم جالية إلى نائب الإمبراطور الروسي للقفقاس يطلبون المساعدة ضد حكومتهم؛ فقد طالبوا أن يصبحوا من الرعايا الروس وعلى نحو محدد بدأوا يجمعون أسلحة!.
    الخامس عشر: توالت الاتصالات بين الأرمن العثمانيين والإمبراطورية الروسية ضمن نشاطات الجماعات الثورية الأرمنية الرئيس، خصوصاً الطاشناق. وكانت أرمينية الروسية مركزاً لتجميع الأسلحة والتنظيم الثوري الموجهين ضد العثمانيين.
    السادس عشر: حول رئيس دير للراهبات (باغرات فاردابيت تافاكليان أو آكي) دير ديرك Derik على الجانب الفارسي للحدود العثمانية الفارسية، إلى مستودع أسلحة ونقطة تسلل المتمردين الأرمن في الإمبراطورية العثمانية.
    السابع عشر: استمر أرمن وجورجيون خصوصاً أولئك الذين كان لهم أقارب في إيران أو كانوا متورطين في أعمال هناك، في أن يكونوا مصادر مهمة للمعلومات عند المسؤولين الروس لذلك، كان لهم تأثير في القرارات السياسية والتكتيكية الروسية. أمر القيصر ألكسندر تسيتسيانوف أن يقصد البطريك دانييال وأتباعه
    الثامن عشر: قدم دانييال Daniel المرشح المدعوم من الروس لمنصب بطريرك الكنيسة الأرمنية (بعد وفاة أرغوتنسكي-دولغوروكوف) المعلومات للروس.
    التاسع عشر: في عام 1808م كافأ ألكسندر دانييل برهبنة (سان آن) من الدرجة الأولى، لخدماته في تقديم معلومات للروس. على مدى السنوات التالية، بينما كان الروس يقاتلون لتوسيع جبهتهم إلى الكور Kur والآراس Aras استمر الأرمن في إرسال رسائل إلى المسؤولين الروس يشجعونهم فيها على الاستيلاء على المناطق التي يحكمها المسلمون وإنقاذ الأرمن من اضطهاد المسلمين.
    العشرون: لقد سهلت علاقة المتمردين بالكنيسة الأرمينية نشاطاتهم إلى حد بعيد، كونها هيئة استطاعت أن تجتاز الحدود بسهولة وفي استنبول نفسها كان لرجال الكنيسة من أساقفة وكهنة حرية التنقل ولم يكن يتعرض لهم الأرمن العثماني رغم أنه قد ثبت أن هؤلاء الأساقفة والكهنة كان يتنقلون الرسائل والتقارير والأموال إلى المتمردين وكانت بعض الأديرة والكنائس مستودعاً للأسلحة التي تسرب وتهرب إلى المتمردين الأرمن نظراً لعدم خضوع هذه الكنائس والأديرة للتفتيش الأمني!!
    هكذا قد استعرضنا نماذج وأمثلة لولاء الأرمن للروس في زمن الحرب والسلم مما ينسف مرثيتهم الملفقة (إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين)! ولمزيد من التأكيد على صحة ما ذكرناه نورد هذه الشهادة.


    رابعاً: شهادة مدفونة في أضابير قسم الوثائق الأمريكية:
    هذه الشهادة عبارة عن تقرير لرجلين لم يكونا متعاطفين مع العثمانيين المسلمين بل كانا متعصبين للأرمن وجاءا إلى المنطقة على خلفية جاهزة سلفاً أن الأرمن شعب مستضعف ارتكب المسلمون مجازر جماعية بحقه حسب المعلومات المستقاة من وسائل الإعلام الغربية المضللة!، ومن المبشرين البروتستانت الأمريكيين الذين لم يكونوا جديرين بالثقة كلياً كشهود على معاناة المسلمين حيث كانوا بارعين في تدوين أعمال ضد الأرمن بتفصيل كبير، ولم يكونوا كذلك في تدوين أعمال عنف ضد المسلمين كما ذكر ذلك بعض المؤرخين! فمن هما هذان الشاهدان اللذان رجع إلى أميركا بغير الوجه الذي ذهبا به إلى شرقي الأناضول؟
    إنهما النقيب إموري نيلز Emory Noles، وآرثر سذرلاند Arthur Sutherland حيث أمرتهما حكومة الولايات المتحدة الأمريكية باستقصاء الوضع في شرقي الأناضول. ونزل منطقة الأناضول وتجولا في جميع أنحاء المنطقة وسمعا شهادة الطرفين وفوجئا بحجم التزوير والتلفيق الذي اقترفه الأرمن وصعقا من هول معاناة المسلمين ومن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين! ولما لم يرق التقرير الحكومة الأمريكية تم استبعاده، ولهذا السبب لم يضمن تقريرهما وثائق لجنة التحقيق الأمريكية ومن فضل الله تعالى أنها لم تتلف بل كانت مخبأة ومدفونة في مواضيع لها صلة بملف الحرب العالمية الأولى في شرقي الأناضول! وقد قام كارثي بنشر هذا التقرير عام 1994م ثم نشره في كتابه (المسلمون والأقليات)! وأعاد نشره في كتابه (الطرد والإبادة) ولله الحمد والمنة!
    أما عن تقرير (نايلز وسذرلاند):
    جاء في تقريرهما: “المنطقة الممتدة من (بتليس) عبر (وان) إلى (بايزيد) أُخبرنا بأن الضرر والتدمير في كل هذه المنطقة كانا من فعل الأرمن الذين استمروا في احتلال البلد بعد أن انسحب الروس، والذين دمروا كل شئ يخص المسلمين مع تقدم الجيش التركي. علاوة على ذلك، اتُهم الأرمن بارتكاب أعمال قتل واغتصاب وإحراق عمد للممتلكات وأعمال وحشية رهيبة من كل وصف ضد السكان الأصليين. كنا في البداية في ريب كبير بشأن تلك الروايات، لكننا توصلنا في النهاية إلى تصديقها، لأن الشهادات كانت بالإجماع بكل ما في الكلمة من معنى وجرى تأييدها بالأدلة المادية. على سبيل المثال كانت الأحياء الوحيدة التي ظلت سليمة في مدينتي بتليس ووان أحياءً أرمينية، كما كان جلياً من الكنائس والكتابات على البيوت، بينما كانت الأحياء المسلمة مدمرة على نحو كامل. لا تزال القرى التي قيل إنها كانت أرمينية قائمة، بينما كانت القرى المسلمة مدمرة كاملة” أهـ (مكارثي: الطرد والإبادة ص250).
    وجاء في تقريرهما أيضاً:
    “إن الوضع العرقي في هذه المنطقة [بايزيد-أرضروم] متفاقم بشدة بسبب قرب جبهة أرمينية التي يأتي اللاجئون منها بروايات عن مجازر ووحشية وفظاعات ترتكبها الحكومة الأرمينية والجيش والشعب ضد السكان المسلمين. ومع أن بضع مئات من الأرمن يعيشون فعلاً في إقليم (وان)، إلا أنه من المستحيل أن يستطيع الأرمن العيش في المناطق الريفية لإقليم أرضروم، حيث يبدي الجميع ذروة الكراهية لهم. وهنا أيضاً خرب الأرمن القرى قبل أن ينسحبوا وارتكبوا المجازر وكل أنواع الأعمال الوحشية ضد المسلمين، وأعمال الأرمن هذه على الجانب الآخر من الجبهة تُبقي الكراهية للأرمن حية ومؤثرة، كراهية تبدو أنها على الأقل تُرغي وتُزبد في منطقة (وان). أكّد على وجود فوضى وجرائم في أرمينية لاجئون من جميع مناطق أرمينية وضباط بريطانيون في أرضروم” أهـ (مكارثي: ص251).

    وقدم نايلز وسذرلاند في تقريرهما إحصائية؛ تعداد القرى والبيوت المسلمة الناجية من جحيم الحرب حول مدينتي (وان) و (بتليس) فقط وعلى سبيل المثال حيث أثبت أن الأرمن دمروا أكثر بيوت المسلمين ولم يبق أي أثر لجميع المباني والمنشآت الدينية الإسلامية! كما هو موضح:
    الدمار في مدينتي وان وبتليس

    مدينة وان قبل الحرب بعد الحرب 1919
    منازل المسلمين 3400 3
    منازل الأرمن 3100 1170

    مدينة بتليس قبل الحرب بعد الحرب 1919
    منازل المسلمين 6500 لا شيء
    منازل الأرمن 1500 1000

    أما عن القرى في إقليم وان وسنجق وبايزيد قبل الحرب والاحتلال الأرمني وبعدهما فجاء في إحصائية نايلز وسذرلاند: أن تعداد منازل المسلمين قبل الحرب في قرى إقليم وان كان (1373) منزلاً وانخفض بعد الحرب في 1919م إلى 350 منزلاً!! بينما كانت منازل الأرمن 112 منزلاً قبل الحرب فزادت بعد الحرب إلى 200 منزلاً! وفي قرى إقليم بايزيد كان عدد منازل المسلمين قبل الحرب 448 منزلاً صارت بعد الحرب في عام 1919م 243 منزلاً! بينما منازل الأرمن كانت قبل الحرب 33 منزلاً ظلت كما هي بعد الحرب 33 منزلاً!
    وقد لخص نايلز وسذرلاند تاريخ مسلمي شرق الأناضول بدقة في ختام تقريرهما:
    “ومع أنها لا تقع ضمن مجال تحقيقنا تماماً، إلا أن إحدى أبرز الحقائق التي أثرت فينا في كل بقعة من بتليس إلى طربزون هي أن الأرمن ارتكبوا ضد الأتراك في المنطقة التي اجتزناها كل أنواع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الأتراك في مناطق أخرى ضد الأرمن. كنا نشك في البداية إلى حد بعيد بالروايات التي أخبرنا بها، لكن إجماع الشهود جميعهم، واللهفة الجلية التي تحدثوا بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبها الأتراك في مناطق أخرى ضد الأرمن. كنا نشك في البداية إلى حد بعيد بالروايات التي أخبرنا بها، لكن إجماع الشهود جميعهم، واللهفة الجلية التي تحدثوا بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبت بحقهم، وكراهيتهم الواضحة للأرمن، والأقوى من ذلك كله الأدلة المادية على الأرض نفسها، جعلنا نقتنع بصحة الحقائق على نحو عام، أولاً إن الأرمن قتلوا مسلمين على نطاق واسع وبتفنن كثير في أسلوب الوحشية، وثانياً إن الأرمن مسؤولون عن أكثر التدمير للمدن والقرى. احتل الروس والأرمن البلاد فترة طويلة في عام 1915م وعام 1916م ويبدو أنه خلال تلك الفترة كانت الفوضى محدودة، مع أن الروس من غير ريب تسببوا بأضرار.
    في عام 1917م انحل الجيش الروسي تاركاً السلطة في أيدي الأرمن وحدهم. في تلك الفترة طافت على البلاد عصابات من الجيش الأرمني فنهبت وقتلت السكان المدنيين المسلمين. حين زحف الجيش التركي إلى أرزجان وأرضروم ووان، تفكك الجيش الأرمني وارتكب جميع الجنود النظاميين وغير النظاميين على تدمير ممتلكات المسلمين وارتكاب الأعمال الوحشية ضد السكان المسلمين. كانت النتيجة بلداً مدمراً كاملاً يحتوي على ربع عدد سكانه السابقين وثُمن مبانيه السابقة، وكراهية مريرة إلى حد بعيد من المسلمين للأرمن، ما يجعل عيش هذين العنصرين معاً مستحيلاً في الوقت الحاضر. أعلن المسلمون أنهم إذا أجبروا على العيش في ظل حكومة أرمينية فإنهم سيقاتلون، ويبدو لنا أنهم ربما ينفذون هذا التهديد. يشاركنا في هذا الرأي الضباط الأتراك والبريطانيون والأمريكيون الذين قابلناهم” أهـ (مكارثي: ص253، ص254).
    هذه مجرد شهادة عن المجازر التي ارتكبها الأرمن ضد المسلمين خلال الحرب العالمية الأولى من 1914م إلى 1918م في إقليمي (وان) و(بتليس) شرق الأناضول فما بالنا لو تكلمنا عن نقصان عدد السكان المسلمين في الأقاليم العثمانية الشرقية مجتمعة مثل أرضروم وبتليس وديار بكر ومعمورة العزيز وسيواس وحلب وأطنة طرابزون من عام 1912م إلى عام 1922م سنجد أن أكثر 62% من مسلمي إقليم (وان) قد فقدوا! وفقد 42% من مسلمي بتليس، وفقد 31% من مسلمي أرضروم!! وأكثر من 60% قد فقدوا من مسلمي القفقاس!! أما في أقاليم غربي الأناضول مثل آيدين، وخداوندكار، وبيغا، وإذميد.. حيث قام الحلفاء بطرد اللاجئين الأتراك من البلقان التي كانوا يقيمون فيها وأعطوا ممتلكاتهم إلى اليونانيين! وتركوهم من دون مأوى! في أكبر سرقة جماعية علانية في التاريخ!! لقد كانت جريمة قتل عمد جماعي مع سبق الإصرار والترصد ضد المسلمين في القفقاس والأناضول والبلقان بمباركة قوى الاستكبار العالمي في تلك الحقبة الكئيبة والنهاية المأساوية للخلافة العثمانية التي ظلت شمسها تشرق في سماء العالم على مدار ستة قرون!!

    خامساً: صفوت القول

    هكذا استبان لنا بجلاء هشاشة هذه الفرية (إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين)! التي يرددها الأرمن ومن يؤيدهم ويحرضهم !! لقد قتل ملايين المسلمين على أيدي الأرمن والروس واليونان والبلغار والصرب وغيرهم من القوى المعادية للدولة العثمانية المسلمة التي عاش في كنفها مختلف الطوائف في أمن وأمان!! ولم يطالب أحد بمعاقبة الجناة المجرمين الذين ارتكبوا هذه المجازر الجماعية! المسلمون الذين كانوا ولا يزالون ضحايا هذه المجازر البشرية البشعة يقدمون على أنهم جناة متوحشون!
    المشكلة الحقيقة في هذه الأنظمة المنتسبة إلى العالم الإسلامي في عدم مطالبتها ولو على استحياء بمعاقبة مرتكبي الجرائم المتكررة في حق المسلمين في القفقاس والشيشان التي انقرض سكانها! والشعوب التي أبيدت في البلقان والمقابر الجماعية في البوسنة والهرسك! وأكثر من ملوني مسلم في العراق لوحدها! واختفاء قرى ومدائن كاملة في أفغانستان خلال العدوان البربري من البريطانيين والروس والأمريكان والحبل على الجرار! هذه الأنظمة الجاثمة على أنفاس أمتنا لم تتخذ قراراً صائباً في حياتها لإنصاف شعوبها والمطالبة الجدية من الفرنسيس والإنجليز والأسبان والطليان والهولنديين والروس والأمريكان بتعويض ملايين الضحايا في الجزائر والمغرب وليبيا وتونس ومصر وإندونيسيا وماليزيا وكشمير وتايلاند والصومال والسودان!!
    لقد نكأ الأرمن جراحاً لم تلتئم بعد! وجددوا أحزاناً لم تهدأ بعد! وأثاروا شجوناً لن تهدأ حتى تُعوض أجنة المسلمين في رحم المستقبل! إن العالم الغربي مدين بالاعتذار الصريح للمسلمين والتعويض اللائق جراء الجرائم التي ارتكبها في الحروب الصليبيبة قديماً وحديثاً ! نعم مطالب بالاعتذار والتعويض عن الإبادات الجماعية للمسلمين خلال عدة قرون!
    أما أن نستجديهم ونسترحمهم في كل قضية ملفقة يثيرونها ونظل هكذا ندافع ونقدم قرابين الذل والهوان على عتبات مجلس الأمن والاتحاد الأوربي.. فهذا الهلاك بعينه! وخير لهذه الأمة أن تبتلعها الأرض من أن تعيش في ذل وانكسار!!

    العيب في فينا كأمة رضيت بالدنية فصفقت لجلاديها ولم تطالب بمعاقبة قاتليها!




    بقلم د. هاني السباعي – مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد

    أيها المؤرخون: لا تظلموا العثمانيين المسلمين




    قبل أن يدخل الأتراك العثمانيون في الإسلام، لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، فلم يردْ ذكرهم إلا من خلال إشارات عابرة.
    وحين دخل الأتراك العثمانيون في الإسلام انقلبت الصورة وأصبحوا محط أنظار المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، بيد أن المؤرخين من غير المسلمين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدراسة تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين.
    ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين في دراسة تاريخ العثمانيين المسلمين كان ينطلق من منطلق علمي سليم، هدفه تتبع العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة، ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين من غير المسلمين من دراسات عن تاريخ العثمانيين المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا، وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف، بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة، لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين.
    ولئن كنا لا نستغرب أن تصدر مثل تلك الافتراءات عن أقوام فضح الله عز وجل نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين في قوله تعالى جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدتِ البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآياتِ إن كنتم تعقلونَ) [آل عمران: 118].

    ***

    ولئن كنا لا نستغرب أن يحمل الحقد الأسود أولئك المؤرخين على تجاهل وتناسي أبسط قواعد مقتضيات الأمانة العلمية في عملية التاريخ للأتراك العثمانيين المسلمين، فإن الذي نستغربه أشد الاستغراب، بل ونستهجنه بشدة أن ينزلق الكثير من المؤرخين المسلمين، في حمأة عملية التزوير والتشويه والبهتان التي ألصقت بتاريخ العثمانيين المسلمين..
    من ذلك مثلاً، تلك الفرية اللئيمة التي لا يكاد يخلو منها إلا النذر اليسير من الكتب التي تؤرخ للعثمانيين المسلمين، والتي تزعم أن السلاطين العثمانيين كانوا يملكون الحق، بموجب فتوى شرعية إسلامية، في قتل من يشاؤون من إخوانهم أو بني رحمهم، أو أقاربهم، بحجة الحفاظ على وحدة المسلمين، ولقطع الطريق على أية فتنة يمكن أن تبرز إذا حاول أحدهم المطالبة بالسلطة لنفسه.
    وكان آخر ما وقع عليه نظري من ترديد لهذه الفرية ما جاء في مقال للأستاذ إبراهيم محمد الفحام في عدد المحرم 1402 هـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م من مجلة العربي التي تصدر في الكويت، حيث ذهب إلى القول بأن السلاطين العثمانيين الجدد اعتادوا عند توليهم مقاليد السلطة أن يقتلوا إخوانهم جميعاً، ليأمنوا محاولات اغتصاب الملك، وأن هذه الظاهرة تكررت مراراً في تاريخ الدولة العثمانية حتى شمل القتل الإخوة الأصاغر سناً.
    وإن كنتُ لا أنفي ولا أنكر وقوع العديد من حوادث التصارع بين بعض السلاطين العثمانيين وبين بعض إخوانهم، بل وأحياناً بينهم وبين أبنائهم، وأن بعض هذه الصراعات كانت تنتهي بمقتل أحد الأطراف المتصارعة، إلا أنني أنفي، وبكل شدة، وبإصرار، ما يزعمه الزاعمون من وجود فتوى شرعية إسلامية تبيح لكل سلطان عثماني جديد أن يقتل من يشاء من إخوانه، أو بني رحمه، بحجة المحافظة على وحدة المسلمين منعاً لوقوع الفتنة.



    أقول هذا.. وأتساءل:

    أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي أن يقدَّم بين يدي أية رواية تاريخية بالبينات التي تدعم صحتها، من تحديد للأسماء والأمكنة والأزمنة، وتبيين سلسلة الرواة الذين تناقلوا الرواية، إلى أن وصلت إلى راويها الأخير؟
    ثم أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي، أن لا يُكتَفى بالتعميم المبهم، بعبارات مبهمة، في رواية تحمل تهمة خطيرة لشعب بأسره هو الشعب التركي المسلم، بل الأمة بأسرها، هي أمة الإسلام، بل للإسلام ذاته الذي كان العثمانيون يحملون لواءة ويمثلونه آنذاك..؟

    أين نص الفتوى الشرعية التي يزعم الزاعمون أنها تبيح للسلاطين العثمانيين قتْل بني رحمهم من غير أي مسوغ شرعي؟

    أين أسماء العلماء المسلمين الذين أفتوا الفتوى المزعومة هذه؟

    وفي زمن أي من سلاطين بني عثمان على التحديد صدرت؟
    لقد قرأت بضعة وعشرين مرجعاً، عربياً وتركياً وإنجليزياً، تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعاً واحداً يذكر نص الفتوى المزعومة، أو يذكر اسماً لعالم واحد تنسب الفتوى إليه، بل لقد اكتفى كل مرجع عند ذكر هذه الفرية بسردها وكأنها يقين لا يرقى إليه شك، فلا يحتاج إلى توثيق.
    وقبل أن أتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الأحداث التي تشبث بها الزاعمون ليرفدوا بها فريتهم، يجدر بي أن أؤكد أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً هذا الهراء، ولا يقبل مطلقاً أن تهون حياة المسلم، أي مسلم، إلى درجة تباح فيها حياته لمجرد شبهة، أو من أجل وساوس وأوهام تتستر وراء الزعم بالغيرة على جماعة المسلمين من أن تقع فتنة مزعومة لم يقم على وقوعها، أو على مجرد الشك بوقوعها دليل شرعي.
    إن طبيعة الإسلام، وأخلاق الإسلام، وإنسانية الإسلام، ترفض رفضاً قاطعاً أن تصدر باسم الإسلام فتوى تبيح لأي إنسان مهما بلغ شأنه، أن يقتل مسلماً إلا في الحالات التي نصّ عليها الشرع : الثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة (المرتد)، والقاتل عمداً (النفس بالنفس).
    ألا، وإن كل مسلم مهما كان مستوى علم، يعلم أن قتل النفس، أي نفس، محرّم في شرع الله عز وجل إلا ضمن الحدود التي حددها الله عز وجل.
    ولقد ندد الله عز وجل أيما تنديد، بتلك الجريمة التي اقترفها قابيل ابن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، يوم طوّعت له نفسُه قتلَ أخيه هابيل فقتله:

    ( واتل عليهم نبأَ ابنيْ آدمَ إذْ قرّبا قرباناً فتقبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنكَ قال إنما يتقبّلُ اللهُ من المتقين * لئنْ بسطتَ يديَ لأقتلكَ ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار وذلك جزاء الظالمين * فطوّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأواريَ سوأةَ أخي فأصبح من النادمين) [المائدة: 27-31].

    بل إن الله عز وجل لم يكتفِ بالتنديد بجريمة قابيل، بل جعلها منطلقاً لحكم رباني يؤكد حرمة النفس البشرية تأكيداً قاطعاً لا لبس فيه ولا غموض:

    (من أجل ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعاً) [المائدة: 32].

    تلك هي الحقيقة، حقيقة تؤكد براءة الإسلام من تلك الفتوى المزعومة، وتؤكد رفض الإسلام لهذا الهراء.

    فمن أين جاءت هذه الفرية إذن؟

    وما هي دوافعها، وماذا يقصد مروجوها من ورائها..؟
    أما الدوافع التي تكمن وراء ترويج هذه الفريةة، فلا أملك إلا أن أقول: إنها نابعة من الحقد الأسود الذي تمتلئ به قلوب العديد من المؤرخين الصليبيين من أعداء الإسلام، ضد الإسلام والمسلمين..
    فلقد انتهز بعض المؤرخين الصليبيين الحاقدين، وقلدهم في ذلك عن قصد أو عن غير قصد، بعضُ المؤرخين الذي يحملون أسماء إسلامية، وقوع بعض حوادث الصراع الدموي على السلطة في الدولة العثمانية، وهو أمر لم تسلم منه أمة ن الأمم على مدار التاريخ، فوجدوا في تلك الأحداث متنفساً لينفثوا من خلاله أحقادهم الدفينة ضد الإسلام والمسلمين، فوجهوا سهام افتراءاتهم ضد العثمانيين المسلمين، وهم في حقيقة الأمر يوجهونها إلى الإسلام الذي كان العثمانيون يمثلونه آنذاك.

    أقول هذا، وبين يدي أكثر من دليل.

    أبدأ بحادثة مقتل الأمير «دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وزعم فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.
    ولئن كانت هذه الرواية بنصها هذا من الضعف بحيث خلت منها معظم المراجع التي تؤرخ لعثمان بن أرطغرل، ولئن كان من أجلة ضعفها أن إسماعيل حامي دنشمند لم يؤثق روايته لهذه الحادثة بإيراد اسم المرجع، أو اسم المؤرخ الذي نقل عنه الرواية، فإن الحاقدين على العثمانيين المسلمين، بل على الإسلام الذي يمثله العثمانيون، تلقفوا هذه الحادثة، ونسجوا من حولها من سواد حقدهم ما لا تحتمل، فزعموا، وبئس ما زعموا، أن عثمان قتل عمه دوندار بناءً على فتوى شرعية تبيح له قتله خشية أن يزاحمه على السلطنة، مما قد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين المسلمين.
    ولئن كان من الإنصاف أن نشير إلى أن ما نقلته معظم المراجع الموثوقة التي أرّخت لعثمان بن أرطغرل، عن شدة تعلّق عثمان بأحكام الشريعة الإسلامية، وعن التزامه الصادق بالإسلام، عبادةً، وخلقاً، وتواضعاً، وما نقلته عن توقيره الشديد لعمه الشيخ الكبير دوندار، يجلعنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا على يقين أنه ما فعل ذلك إلا لسبب جلل، أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي.
    ويرسخ قناعتنا ما أورده المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو في كتابه «مأساة بني عثمان» المطبوع في إستانبول عام 1979م، في وقت كانت المشاعر الإسلامية في تركيا تشهد فيه شيئاً من أشكال الحرية التي تستطيع معها أن تعبر عن حقيقة رفضها لمشاعر العداء التي حاولت الردة الأتاتوركية ترسيخها ضد العثمانيين المسلمين في نفوس الأتراك.
    ففي كتابه ذلك ينقل قادر مصر أوغلو، عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامةخلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص علىتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء افترافه لجريمةموالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.
    وتلك لعمري نقطة بيضاء ووقفة شماء شامخة تسجَّل في حسنات عثمان بن أرطغرل، إذ أكّد من خلال حرصه على تطبيق شرع الله في عمه على صدق التزامه بالإسلام، وصدق خضوعه لحكمه، وصدق تفضيله لوشيجة العقيدة وارتباطه بها فوق وشيجة الدم والقرابة.
    تلك هي حقيقة السلطان عثمان بن أرطغرل مع عمه دوندار تتهاوى أمامها أباطيل الحاقدين وأراجيف المرجفين.
    أما قصة السطان مراد بن أورخان مع ولده الأمير «ساجي» فهي أيضاً علامة بارزة تؤكد صدق التزام مراد بالإسلام، وصدق خضوعه لأحكام شريعته.
    ففي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه أشرس الحملات المتلاحقة التي تمثلت في العديد من الأحلاف الصليبية التي تجمع تحت ألويتها ملوك وأمراء المجر والصرب والبلغار والأرناؤوط (ألبانيا)، بمباركة من بابا روما أوربيان الخامس، وبتحريض سافر منه [766هـ/1365م].
    وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد يواجه فيه خطراً تمثل في قيام الأمير الإيطالي آميديو بتجميع جيش من الإيطاليين تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين [770هـ/1368م].
    وفي الوقت الذي ازداد فيه الخطر ضد الدولة العثمانية المسلمة، بقيام إمبراطور بيزنطة يوانيس الخامس بزيارة روما عام [771هـ/1369م] مستنجداً بالبابا ضد العثمانيين المسلمين، ومعلناً تحوله عن مذهبه الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي في محاولة لاسترضاء بابا روما لإقناعه بعده بالنجدة التي يطلبها ضد العثمانيين المسلمين.
    وفي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه خطراً داهماً جديداً تمثّل في نجاح البابا بتجنيد أكثر من ستين ألف مقاتل صليبي بقيادة ملك بلاد الصرب الجديد ووقاشتين [773هـ/1370م].
    وفي الوقت الذي كان السلطان مراد لا يكاد ينجح في التغلب على إحدى مكائد الأعداء، حتى يواجه مكيدة أخرى، كان ولده الأمير ساوجي يتآمر سراً مع الأمير البيزنطي أندرونيقوس، الابن الثاني للإمبراطور يوانيس، لتدبير مؤامرة للإطاحة بالسلطان مراد، وتسليم السلطة للأمير ساوجي، وسرعان ما انتقلت المؤامرة من مرحلة التدبير إلى مرحلة التنفيذ، فسار الأميران ساوجي وأندرونيقوس على رأس جيش كانت غالبية جنوده من البيزنطيين، وتمركزا بجيشهما في منطقة لا تبعد كثيراً عن القسطنطينية، فسارع السلطان مراد لملاقاتهما، فما كاد يقترب منهما حتى خارت معنويات المتآمرين ففر الجنود البيزنطيون من أنصار أندرونيقوس، ولجأ الجنود العثمانيون من أنصار الأمير ساوجي إلى جيش أبيه السلطان مراد، فأصبح ساوجي وأندرونيقوس من غير جيش، فلم يجدا أمامهما مفراً من الهرب، ففرا إلى مدينة »ديمومة«، فلحق بهما السلطان مراد واضطرهما إلى الاستسلام.
    وجمع السلطان نخبة من القادة والعلماء والقضاة لمحاكمة ولده ساوجي، فحكوا عليه بالموت جزاء خروجه على طاعة ولي الأمر وجزاء موالاته للكفار أعداء الإسلام والتحالف معهم قولاً وفعلاً في محاربة المسلمين.
    وأمر السلطان مراد بتنفيذ حكم الشرع في ولده مسجلاً في ذلك صدق ولائه لحكم الشريعة، وصدق التزامه بالإسلام، ولكأني به وهو يفعل ذلك، كان يستشعر قوله تعالى عز وجل: (لا تجدُ قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئكَ كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إنّ حزبَ الله هم الغالبون) [المجادلة: 22].

    ولقد كان من الطبيعي أن يستغل الحاقدون حادثة مقتل ساوجي، فتلقفوها وطفقوا ينسجون من حولها الأقاويل والافتراءات ليرفدوا من خلالها فريتهم عن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسطان العثماني المسلم قتل من يشاء من بني رحمه.
    وكان من الطبيعي أن يشتط الحقد بأعداء الإسلام، فينفثوا حقدهم ضد السلطان مراد ويتهمونه بالوحشية، وتحجُّر عاطفة الأبوة في قلبه، وما دروا أن صدق الالتزام بالإسلام يجعل وشيجة العقيدة فوق كل وشيجة. وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي علّم المسلمين هذه الحقيقة الإيمانية حين قال: »واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.«
    وأنتقلُ إلى حادثة قتل السلطان بايزيد بن مراد (الصاعقة) لأخيه الصغير يعقوب، فلا أجد غضاضة في تأكيد وقوعها، ولا أجد حاجة إلى محاولة تبريرها. فقد استهل يايزيد عهده فعلاً بارتكاب جريمة بشعة حيث أقدم على قتل أخيه الصغير يعقوب بتحريض من بعض أنصاره الذين طفقوا يوغرون صدره ضد أخيه، الذي كان شجاعاً، قوي الشخصية، ووجدتْ وشايةُ المغرضين هوى في نفس بايزيد الذي خشي أن يزاحمه يعقوب على السلطنة، واشتطت به وساوسه حين أخذ الوشاةُ يذكرونه بأن جده أورخان بن عثمان ولي السلطنة رغم كونه الأصغر سناً من أخيه الأمير علاء الدين.
    ولئن كنت أنكر أن بايزيد قد ارتكب جريمته البشعة فعلاً، بعد أن غلبه هواه، وزينت له وساوسه أن يقترف تلك الجريمة، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فالجريمة يتحمل وزرها بايزيد وحده، وليس من العدل ولا من المنطق أن يزجّ بالإسلام في عملية تبريرها.
    وينبغي أن أشير هنا إلى أن الجفاء كان مستحكماً بين العلماء والسلطان بايزيد، لدرجة أستبعد معها أن يجد بايزيد عالماً واحداً يستجيب له فيصدر تلك الفتوى التي ينسب استصدارها في بعض المراجع إلى بايزيد.
    ولقد بلغ من حدة ذلك الجفاء أن العالم المؤمن القاضي شمس الدين محمد حمزة الفناري ردّ شهادة السلطان بايزيد في إحدى القضايا، فلما راجعه بايزيد في ذلك، أجابه القاضي المؤمن بأنه ردّ شهادته لأنه تارك لصلاة الجماعة.
    بل لقد بلغ الجفاء بين العلماء والسلطان بايزيد إلى حد أقرب ما يكون إلى القطيعة بسبب استنكارهم لوقوعه تحت سيطرة وتأثير زوجته النصرانية الأميرة أوليفيرا شقيقة ملك الصرب لازار، ونماديه بتحريض منه على إدمان شرب الخمر، وإقامة حفلات اللهو، ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه »موسوعة التاريخ العثماني« أن بايزيد ذهب ليتفقد العمل في بناء مسجد »أولو جامع« في بورصة، وكان قد أوشك بناؤه على الانتهاء، فالتقى خلال تجواله في المسجد بالعالم المؤمن محمد شمس الدين البخاري، فسأله على مسمع من الناس عن رأيه في نابء المسجد، وهل يرى في البناء أي نقص..؟ فأجابه العالم المؤمن بجواب ساخر يحمل بين طياته مشاعر عدم الرضى عن سيرة بايزيد المنافية للإسلام، فقال له: بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا لا نجد أي نقص في بناء المسجد، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب.
    أفيعقل بعد هذا أن يجد بايزيد عالماً واحداً يفتي بقتل أخيه من غير مسوّغ شرعي؟
    ولقد وجد الحاقدون رافداً جديداً يدعمون به فريتهم فيما وقع من صراع دموي بين أبناء بايزيد الصاعقة، حين قتل محمد بن بايزيد إخوته عيسى ثم سليمان ثم موسى ليتفرد بحكم السلطنة.
    ولئن اشتط المغرضون في حقدهم فزعموا أن محمد بن بايزيد قد قتل إخوته بموجب تلك الفتوى الشرعية المزعومة، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن ما جرى بين أبناء بايزيد من اقتتال دموي كان اقتتالاً مصلحياً من أجل الطموحات الشخصية بكل واحد منهم للجلوس على عرش السلطنة، وليس من العدل والإنصاف إن يزج بالإسلام في هذا المقام.
    وينبغي أن أشير إلى أن شهوة الجلوس على عرش السلطنة قد اشتطت بأبناء بايزيد لدرجة لم يجدوا معها غضاضة في الاستعانة بأعداء الإسلام من البيزنطيين ضد بعضهم بعضاً، كما فعل سليمان بن بايزيد حين تنازل لملك الروم »إيمانويل الثاني« عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود مقابل الوقوف إلى جانبه ضد أخويه الآخرين عيسى ومحمد.
    هذا، وينبغي أن أشير إلى أن بعض المؤرخين المغرضي زعموا أن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسلطان قتل بني رحمه من غير مسوغ شرعي هي تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني، والتي ورد نصّها على النحو التالي: »من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جمعكم، فاقتلوه.«
    والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام [823هـ/1420م] كما يورد المؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه »التاريخ العثماني المصوّر« ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعم حركة تنادي بإلغاء التفرقة بين الأديان، وبتوزيع الأموال سواسية بين الناس، وقد اندس في حركة الشيخ بدر الين، كما يروي الأستاذ محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»عدد من اليهود والنصارى، وعندما وقع بدر الدين في الأسر بعد معركة حامية الوطيس، حوكم أمام هيئة من كبار العلماء والقضاة، فصدرت بحقه الفتوى بنصها الذي أوردته آنفاً، وبتوقيع الشيخ شعيد، ويروي المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» أن الشيخ بدر الدين قد وقع بنفسه أيضاً على الفتوى اعترافاً بذنبه، وتم إعدامه شنقاً على ملأ من الناس في السوق الرئيسي في مدينة سراز.
    ولقد وجد المغرضون مبرراً آخر لرفد بهتانهم بخصوص الفتوى المزعومة في حادثة إعدام السلطان مراد الثاني لعمه مصطفى بن بايزيد.
    وحقيقة الأمر أن مصطفى بن بايزيد كان قد اختفى وانقطعت أخباره بعد هزيمة بايزيد (الصاعقة) في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، ثم ظهر فجأة في زمن أخيه السلطان محمد جلبي بن بايزيد مطالباً بالسلطنة لنفسه، واستنجد بأعداء الإسلام من البيزنطيين فأمدوه المساعدات، وأوعزوا لأمير بلاد الفلاخ بإمداده بجيش كبير، ولكن مصطفى فشل في تحقيق أي نجاح، واضطر إلى اللجوء إلى سلانيك التي كان الأمير سليمان بن بايزيد قد أعادها إلى السيطرة البيزنطية مقابل وعدهم له بمساعدته ضد إخوته، كما أسلفت قبل قليل، واتفق السلطان محمد جلبي مع إمبراطور بيزنطة على إبقاء أخيه مصطفى في سلانيك تحت مراقبة الإمبراطور، مقابل مبلغ من المالن استمر الأمر على هذا النحو إلى أن ولي السلطنةمراد الثاني بن جلبي فتحرش به الإمبراطور «إيمانويل الثاني» في محاولة منه لإعادة هيبة الإمبراطورية، وطلب منه عقد معاهدة يتعهد مراد بموجبها بعدم القيام بأية محاولة لغزو القسطنطينية، فلما وقف السلطان مراد موقفاً حازماً في وجه إيمانويل ورفض مطالبه عمد عمانويل إلى استدعاء الأمير مصطفى وأمده بعشر سفن حربية مدججة بالجنود والسلاح، فتمكن مصطفى من الإستيلاء على مدينة وميناء غاليبولي، ثم تمكن من التغلب على الجيش العثماني الذي أرسله السلطان مراد لمحاربته بقيادة وزيره بايزيد باشا، فسار السلطان مراد الثاني بنفسه لملاقاة عمه مصطفى الذي لم يلبث أن وقع في أسر مراد، ليواجه عقوبة الإعدام شنقاً، جزاء خيانته لله ولرسوله وللمؤمنين، وهل من خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أعظم من موالاة في جماعة المسلمين، ينبري هؤلاء ليزعموا أن الإسلام يبيح للسلطان قتل بني رحمه كيفما يشاء..؟
    فرية باطلة … وبهتان عظيم..

    وأجدني هنا مضطراً للتوقف وقفة أردّ بها فرية خبيثة ألصقت بالسلطان محمد الفاتح، فقد درج بعض المؤرخين، وهم يؤرخون لحياته، على الزعم بأنه قام بقتل أخيه الرضيع أحمد جلبي بعد أيام قليلة من تسلمه مسؤولية السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان مراد، خشية أن يزاحمه على السلطنة، ومن المؤسف أن هذا الزعم لم يقتصر على المؤرخين غير المسلمين، وإنما وقع في أحبولته عدد من المؤرخين المسلمين.
    ولئن كانت هذه الفرية التي ألصقت بالسلطان محمد الفاتح تكون أوهمن من بيت العنكبوت، إلا أنني أجد من الواجب التوقف عندما وتفنيدها، لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأي مؤرخ يحترم نفسه، ويحترم شرف الكلمة التي يؤرخ بها، أن يستمر في ترديد هذا البهتان العظيم ضد السلطان محمد الفاتح.
    هل يعقل أن سلطاناً ولي السلطنة في عهد أبيه، وتحت كنفه، ثم وليها من بعد وفاة أبيه، وقد اشتدّ ساعده، ونضجت خبرته، والتفت الأمة من حوله تحوطه بالحب والطاعة، هل يعقل أن هذا السلطان يغار من أخ له رضيع، فيخشى أن ينازعه على السلطة..؟ وكيف يتسنّى لطفل رضيع، وأنى له، أن ينازع على السلطنة، وهو الرضيع الذي إن تأخرت أمه عليه بالحليب يوماً مات جوعاً.
    ثم هل يصدق إنسان عاقل، أن محمداً الفاتح، الذي تربى على مائدة القرآن، على يد خيرة علماء عصره، أمثال الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان الفاتح يسميه «أبا حنيفة زمانه»، والشيخ تمجيد أوغلو، والشيخ محمد جلبي زاده، والشيخ مولا إياش، والشيخ الغوراني، والشيخ سراج الدين الحلبي، والشيخ آق شمس الدين، ويمكن أن يفكر بمثل هذا الأمر الفظيع..؟
    بل، لنفرض جدلاً أن محمداً الفاتح كان يوجس خيفة أن ينازعه أخوه الرضيع على السلطنة، أفما كان يستطيع أن يحتويه تحت كنفه، ويربيه على الإخلاص له، بدل أن يقتله؟
    ولماذ يستبق محمد الفاتح الأمور فيقتل أخاه الرضيع، وقد كان بإمكانه أن ينتظر وهو مطمئن البال بضعة عشر عاماً حتى يكبر أخوه، فيتحقق من نوازعه ونواياه؟
    من هنا نستطيع أن نتبين انتفاء المصلحة الشخصية للسلطان محمد الفاتح من قتل أخيه الرضيع.

    ولننتقل الآن إلى مناقشة الطريقة التي تمت بها عملية القتل المزعومة، فقد زعم مروّجو هذه الفرية أن السلطان محمداً الفاتح أرسل أحد قواده، واسمه علي بك، إلى جناح النساء لقتل أخيه الرضيع، فلما علم علي بك أن الطفل موجود في حمام النساء حيث تقوم مربيته بغسله، اقتحم الحمام وأمسك بالطفل الرضيع وغطسه تحت الماء حتى مات مختنقاً غرقاً..
    هل يصدق عاقل أن محمد الفاتح، وهو الذكي المحنك، يقدم على قتل أخيه الرضيع بهذه الصورة المكشوفة الساذجة؟ وهل كان عاجزاً عن تكليف إحدى النساء، كزوجته، أو إحدى خادماتها، بتنفيذ عملية القتل دون إثارة انتباه أحد، بدل من أن يرسل رجلاً إلى جناح النساء، وهو أمر غير مألوف، بله أن يسمح له بأن يقتحم هذا الرجل حمام النساء، حيث يكنّ فيه متحللات من حجابهن، ومتخففات من كثير من ملابسهن، وفي ذلك ما فيه من خروج مستهجن عن المألوف، من شأنه لو تحقق فعلاً أن يثير من هياج النساء، وضجيجهن، وصخبهن، ما يضطر ذلك الرجل إلى الفرار قبل أن ينفذ مأربه، مهما بلغت به الجرأة والنذالة؟

    إذن، ما هي حقيقة هذه الفرية؟

    الحقيقة أن المربية التي كان موكلاً إليها أمر العناية بالطفل الرضيع أحمد، انشغلت عنه لبعض شأنها بينما كانت تغسله، فوقع في حوض الماء، فمات مختنقاً غرقاً قبل أن تتداركه الأيدي التي امتدت لإنقاذه بعد فوات الأوان.
    وتصادف بعد غرق الطفل بأيام قليلة أن أحد ضباط الجيش، واسمه علي بك، ارتكب جريمة عقابها الإعدام، فلما أعدم، وجد الحاقدون مادة جديدة خيّل إليهم أنهاتدعم بهتانهم، فطفقوا يزعمون أن علي بك هو الذي أغرق الطفل الرضيع أحمد، وأن السلطان محمد الفاتح خشي أن يفشي هذا الرجل سره فقتله، ومن هنا جاءت الفرية على النحو الذي أشرت إليه، وينبغي الإشارة إلى أن «إدوارد سي كريسي» يتبنى هذا الزعم في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» المطبوع بالإنجليزية في بيروت في عام 1961م، ويدّعي أن السطان الفاتح أقدم على قتل الضابط علي بك متهماً إياه بقتل أخيه الرضيع دون أن يكون للسلطان علم بذلك.
    ولو أنهم توقفوا عند هذه الفرية وحدها لهانَ الأمر، ولكنهم ما برحوا أن بدأوا ينسجون من حولها المزيد من الافتراءات، فزعموا أن محمداً الفاتح، لم يكتف بقتل أخيه، بل أصدر قانوناً أعطى للسلطان الحق في قتل من يشاء من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وخؤولته، لقطع الطريق على أي منهم أن ينافسه على السلطة.
    ولقد أوضح المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» الدافع الذي جعل السلطان محمد الفاتح يصدر هذا القانون فقال:
    «حين وجد السلطان محمد الفاتح أن أكبر خطر يهدد الدولة العثمانية في الفترة التي سبقت توليه مقاليد السلطنة، نجم عن تكرار حوادث الانشقاق التي كانت تقع بين الأمراء العثمانيين، والتي كانت تصل في أكثر الأحيان إلى درجة الاقتتال، وتؤدي إلى انقسام الدولة إلى فريقين أو أكثر، مما كان يؤثر على وحدة الدولة، ويغري خصوم الإسلام بها، فقد رأى السلطان محمد الفاتح أن يضع قانوناً أسماه «قانون حفظ النظام للرعية» أكد بموجبه أن الموت سيكون مصير كل من يعلن العصيان المسلح ضد السلطان، ويتعاون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين.»
    ويردف إسماعيل حامي دنشمند أن هذا القانون كان سبباً في انحسار، أو على الأقل، في تقليص حوادث العصيان المسلح، التي كادت أن تصبح أمراً شائعاً في الدولة العثمانية قبل صدور هذا القانون.
    وإن المرء لتتملكه الدهشة، حين يرى أن كل دول الدنيا، قديمها وحديثها، لا تخلو قوانينها من مثل هذا القانون، ومع ذلك لا تجد أحداً يعترض عليها أو يشوه مقاصدها، كما كان يفعل المغرضون تجاه الدولة العثمانية!
    وبعد:
    فإني أحسب أن القارئ الفطن، يدرك من خلال ما أوردتُ من حقائق، أن الحاقدين إنما يهدفون من وراء التركيز على تحريف تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام ذاته، ومن خلال الإساءة إلى الأتراك العثمانيين المسلمين، حين يظهرونهم بمظهر القوم المتوحشين الذين انعدمت الرحمة من قلوبهم، ومن خلال الإيحاء بأن مسألة قتل السلاطين لإخوانهم كانت أمراً عادياً مألوفاً عندهم.
    أقول هذا، ولا أنفي أن يكون في تاريخ بني عثمان، وخاصة في عصورهم المتأخرة، بعض الأمور التي لا تنسجم مع الإسلام، وتتعارض مع أحكامه، وليس الذنب في ذلك ذنب الإسلام، وإنما ذنب المسيء نفسه.



    مجلة الأمة، العدد 53، جمادى الأولى، 1405 هـ

    بقلم: زياد محمود أبو غنيمة

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    آخر حرّاس الأقصى



    - نعم، هنا رأيتُه… وامتلأت عيناه بالدموع…
    بدأ حفيده محمد ينظر إليه وينظر إلى المجسّم بغرابة دون أن يجد معنى لذلك… كان جده يبكي، وكانت دموعه تسيل وكأنها ينبوع يتسلل من بين الصخور وينحدر بهدوء على لحيته البيضاء الناصعة. كان يشير إلى المكان وهو شارد في تفكيره وغارق في تأملاته…
    سأل محمد ببراءة:
    - ماذا حدث لك يا جدي؟!
    لم يكن جده يسمعه، إذ كان مستغرقاً في عالم الماضي… انتظر محمد برهة ثم هز يد جده برفق وقال:
    - هل أنت بخير يا جدي! ما بك؟ ماذا حدث لك فجأة؟!
    تنفّس الجد الصعداء وعيناه على المجسم… وبعد فترة التفت إلى حفيده وحاول أن يبتسم رغم الدموع التي تملأ عينيه، ولكنه لم يفلح… تنهد من الأعماق مرة أخرى ثم قال:
    - هذا المجسّم، أعادني خمساً وثلاثين سنة إلى الوراء يا بني…
    لم يفهم الحفيد الواعي ما يقصد جدُّه من هذه الكلمات… تمتم العجوز وهو يمسح دموعه:
    - نعم… سنوات طويلة قد مضت كلمْح البصر…
    سأل الحفيد محاولاً فهم ما يقول جده…
    - ماذا تقصد يا جدي، أيّ سنوات؟!
    ركع الجد بهدوء متكئاً على عصاه، ثم جلس مقابل مجسّم المسجد الأقصى وقال بحرقة قلب:
    - قبل اثنتين وثلاثين سنة، في عام 1972… كنت صحفياً شاباً، وكان أبوك في ذلك الوقت مثلكَ في الحادية عشرة من العمر… في تلك السنة كان بعض السياسيين ورجال الأعمال قد قاموا بزيارة رسمية للأراضي الشريفة، وكانت مهمتنا نحن كصحفيين، مراقبة التطورات والأحداث. تركتُ أباك وعمك وجدتك عند أبي، حتى إن أبي رحمه الله كان يقول دائماً: “هذا الولد لم يجد عملاً مناسباً حتى الآن، سيُشقي نفسه وسيُشقي عياله معه”… كانت الزيارة ستستغرق أربعة أيام… وصلنا القدس مساء يوم حار من شهر أيار… جرت اتصالات رسمية…
    وفي اليوم الرابع نظموا لنا جولة إلى الأماكن التاريخية والسياحية في هذه الأراضي… كنت متلهفاً لرؤية القدس والمسجد الأقصى… كان الجو حارقاً وكان جسمي يتصبب عرقاً… وصلنا إلى المسجد الأقصى ضمن قافلة… كنتُ منفعلاً غاية الانفعال… حتى إني عندما رفعتُ الكاميرا لأصوّر شعرتُ بأن يدي ترتجف… صعدنا الدرجات التي تراها هنا… هذا الفناء العلوي يسمونه فناء الاثني عشر ألف شمعة، لأن السلطان سليم الأول عندما فتح القدس كان قد أشعل في هذا الفناء اثني عشر ألف شمعة، وصلّى الجيش العثماني صلاة العشاء في ضوء تلك الشموع…
    فقاطعه الحفيد وقال بحماس:
    - كان أستاذنا يقول لنا إن العثمانيين فتحوا بيت المقدس عام 1516 للميلاد.
    - نعم… هذا صحيح يا بني…
    - وماذا حدث معكم في المسجد الأقصى يا جدي؟!
    تابع الجد بأسى:
    - بعد ذلك لفت نظري رجل في زاوية من زوايا الفناء… رجل في التسعينات من العمر… وعليه بذلة عسكرية قديمة جداً ومليئة بالرقع… حتى إن بعض هذه الرقع قد أعيد ترقيعها مرة أخرى… وكان يضع على رأسه أنورية… كان واقفاً هناك بشموخ وإباء… عرتني الدهشة…
    - إيه يا جدي، ومَن كان ذلك الرجل؟!
    - وأنا أيضاً أصابني الفضول لمعرفته… قلت في نفسي: لماذا يقف هذا الرجل تحت الشمس الحارقة هكذا… ثم سألت الدليل عنه، فقال إنه منذ أن وعى وهو يرى هذا الرجل في هذا المكان يقف كالتمثال حتى المساء كل يوم… لا يتكلم مع أحد ولا يردّ على أحد… يقف منتصباً فقط، ولعله مجنون… كان يصمه بالجنون، أما أنا فقد ازدادت لهفتي لمعرفة هذا الرجل والسبب الذي يجعله يقف تحت الحر الشديد ها هنا… اقتربتُ منه بدافع الفضول الصحفي… كان لباسه قديماً جداً، باهت اللون، ولكنه كان نظيفاً…
    - إيه يا جدي وماذا حدث بعد ذلك!؟
    - كنتُ متردداً هل أحادثه أم لا… ثم اقتربت منه جيداً… لاحظ اقترابي، ولكنه لم يبدِ أية ردة فعل… قلتُ: السلام عليكم يا عمّ… أدار وجهه نحوي قليلاً… تفحصني بطرف عينيه ثم قال بصوت خافت مرتجف: وعليكم السلام… اقشعرتْ أناملي فجأة، قلتُ في نفسي: يا إلهي، إن نبْرتَه تركية… أَيعقل أن يكون رجلاً تركياً!.. ولكن ما الذي جاء به إلى هنا!؟ إلى هذه الديار البعيدة عن بلاده!؟ فسألتُه بفضولٍ شديد:
    - من أنت وماذا تفعل هنا يا عم!؟ ردّ بصوت خافت مرتجف:
    - أنا… أنا العريف حسن، رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الكتيبة الثامنة، الطابور السادس والثلاثين، من الفرقة العشرين في الجيش العثماني…
    كانت الرجفة قد اختفت من صوته أثناء تقديم نفسه. ولكنه أعاد تعريف نفسه مرة أخرى وبصوت أقوى من ذي قبل وكأنه يريد إثبات وجوده ومتانته:
    - أنا العريف حسن، رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الكتيبة الثامنة، الطابور السادس والثلاثين، من الفرقة العشرين في الجيش العثماني…
    فأصبتُ بالدهش الشديد مرة أخرى، وانطلقت الكلمات من بين شفتيّ دون إرادة:
    - ماذا؟.. أنتَ عثماني؟!.
    قال بكل فخر: “نعم”…
    - وماذا تفعل هنا؟!.
    عندها بدأ قصته الحزينة التي لن أنساها مدى حياتي:
    - لقد هاجم الإنكليز كتيبتنا في الحرب العالمية الأولى من جبهة القناة… حيث كان الجيش العثماني العظيم يحارب في جبهات عديدة رغم قلة المعدات الحربية لديه وإمكاناته الضيقة. وفي نهاية المطاف غُلب جيشُنا في القناة واضطر إلى الانسحاب… كانت بلاد أجدادنا الأمجاد تسقط واحدة تلو الأخرى… وعندما احتل الإنكليز القدس، ظلّتْ وحْدتُنا في القدس كقوة “حرس مؤخرة الانسحاب”…
    فقاطعتُه بالسؤال:
    - وماذا تعني وحدة حرس مؤخرة الانسحاب؟
    - ترك العثمانيون حرساً لحماية هذه البلدة المباركة من السلب والنهب إلى حين دخول الإنكليز إليها؛ حيث كانت الدول قديماً عندما تحتل مدينةً، تطلب من الدولة المهزومة أن تبقي حرساً مؤخرة لئلا يثور الناس ضدها.. ومن هذا القبيل، طلب الإنكليز عند احتلالهم القدس، أن تُبقي الدولة العثمانية قوة لهذا الغرض.. وهذه القوات التي تبقى في مؤخرة الجيش يقال لها قوات “حرس مؤخرة الانسحاب”…
    - ثم ماذا حدث بعد ذلك يا جدي؟
    - ثم استطرد يحدث قائلاً: نحن بقينا في القدس وكنا ثلاثاً وخمسين شخصاً كحرس مؤخرة… وأثناء ذلك وصلَنا خبرُ تسريحِ جيشِ الدولة العثمانية العلية باتفاقية “موندروس”… عندها قال لنا اليوزباشي (النقيب): “أيها الأسود، إن الدولة العثمانية العلية في ضيق كبير… جيشنا المجيد يُسَرَّح… والقيادة تستدعيني إلى إسطنبول… يجب أن أذهب وألبّي الأوامر، وإلا أكن قد خالفتُ شروط الهدنة ورفضتُ الطاعة، فمن أراد منكم العودة إلى بلاده فليفعل… ولكن أقول لكم إن القدس أمانة السلطان سليم خان في أعناقنا، فلا يجوز أن نخون هذه الأمانة أو نتخلى عنها… فنصيحتي لكم أن تبقوا هنا حراساً، كي لا يقول الناس: “إن الدولة العثمانية تخلت عنّا وغادرت”… وإن الدولة العثمانية إذا تخلّت عن القدس -أول قبلة لفخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك سيكون انتصاراً حقيقياً لأعدائنا… فلا تضعوا عزّة الإسلام وكرامة الدولة العثمانية تحت الأقدام”…
    فبقيتْ وحدتُنا كلها في القدس… لأننا ما رضينا أن يقول الناس “تخلت الدولة العثمانية عنا”… أردنا ألا يبكي المسجد الأقصى بعد أربعة قرون… أردنا ألا يتألم سلطان الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم… لم نرض أن يستغرق العالم الإسلامي في مأتم وحزن… ثم تعاقبت السنون الطويلة ومضت كلمح البصر… ورفاقي كلهم انتقلوا إلى رحمة الله تعالى واحداً واحداً… لم يستطع الأعداء أن يقضوا علينا، وإنما القدر والموت… وها أنا ذا العريف حسن لا زلتُ على وظيفتي حارساً على القدس الشريف… حارساً على المسجد الأقصى…
    امتلأتْ عيناه واختلطت دموعه بعَرَقِه الذي كان يتصبب من جبينه، إذ كانت تجاعيد وجهه تحتضن هذا المزيج الطاهر وكأنها لا تريد أن تُسقِط حتى قطرة واحدة منها على الأرض احتراماً لهذا البطل وتقديراً لصموده… ثم نظر إليّ نظرة رجاء وقال:
    - عندي طلب منك يا بني… احتفظتُ بهذه الأمانة منذ سنوات طويلة… هل توصلها إلى أهلها؟.. أجبتُه:
    - بكل تأكيد، طلبُك أوامر يا عم حسن… قال:
    - يا بني… عندما تعود إلى الأناضول اذهب إلى قرية “سنجق توكات”، فهناك ضابطي النقيب مصطفى الذي أودعني هنا حارساً على المسجد الأقصى، ووضعه أمانة في عنقي… فقبِّل يديه نيابة عني وقل له: “سيدي الضابط، إن العريف “حسن الإغْدِرلي” رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الحارس في المسجد الأقصى، ما زال قائماً على حراسته في المكان الذي تركته منذ ذلك اليوم، ولم يترك نوبته أبداً… وإنه لَيرجو دعواتكم المباركة”…
    - فقلت: “أمراً وطاعة يا عم، سأحملُ سلامكَ بكل سرور”. كنتُ أحاول إخفاء دموعي تارة، وكنت أكتب ما يقوله تارة أخرى…
    ثم سألني عن المدينة التي قدمتُ منها. فقلت: “من إسطنبول”… فأشرقتْ على وجهه ابتسامة ثم قال لي: “إسطنبول، إذن إنك قادم من دار السعادة… قل لي، ما أحوال الدولة العثمانية؟.. سكتُّ ولم أستطع أن أخبره أن الدولة العثمانية قد انهارت ولم يبق من أراضيها المديدة التي تشهد شروق الشمس وغروبها إلا بقعة صغيرة وهي تركيا… لم أستطع أن أخبره بما فعله الإنكليز والأرمن والروم وفرنسا… ولم أستطع أن أقول له إننا لم نقدر على الصمود أمام أعدائنا مثلكم… لم أستطع أن أقول له إن الذين كانوا بالأمس يتلقون الأخلاق والفضيلة والعلوم منا، أصبحوا اليوم هم يعلّموننا… ولكن استطعتُ أن أقول له فقط: “بخير… دولتنا بخير”…
    عندها سألني بفضول:
    - إنْ كانت دولتنا بخير لِمَ لا تأتي وتخلّص القدس من هؤلاء الكفرة؟!
    فلم أجد ماذا أقول… إنما كل ما استطعت قوله: ستعود إن شاء الله ستعود يوماً… ثم أقبلتُ على يديه الخشنتين الطاهرتين وقبّلتهما بحرارة… ثم قلتُ: اسمح لي يا عم حسن، عليّ أن أذهب، أرجوك لا تنسانا من دعائك، اعتن بنفسك جيداً، أستودعك الله… فقال: رضي الله عنكَ يا بني، بلّغ سلامي الأناضول… وسلّم على الدولة العلية…
    - وماذا حدث بعد ذلك يا جدي؟!
    عدتُ إلى القافلة وما زالت الدهشة تغمرني… بدا وكأن تاريخ أجدادنا المجيد عاد حياً وانتصب واقفاً أمامي… كانت الفرص الضائعة، والأعمال التي لم تؤدَّ، وعدم الشعور بالمسؤولية، تنـزل على رأسي كالصاعقة… ما زال جنديٌ من جنود الدولة الغالية على قلبي، يقوم بحراسة القدس، وما زال منتصباً هناك بوقارِ ومهابةِ الدولة العثمانية!..
    شرحتُ للدليل خطْب العريف حسن، ثم أعطيتُه عنواني وطلبتُ منه أن يخبرني عن أحواله ما استطاع إليه سبيلا…
    - وماذا حدث بعد عودتكَ إلى تركيا يا جدي؟!
    - كان عليَّ أن أوفي بالعهد… فذهبتُ إلى مدينة “توكات”… وبعد جهد جهيد عثرتُ على عنوان النقيب مصطفى… إلا أنه كان قد توفي منذ سنوات طويلة… لم أستطع أوفي بعهدي…
    تعاقبت السنوات… وفي يوم من الأيام في عام 1982 وأنا أعمل في وكالة الأنباء، جاءتني برقية من القدس الشريف، فقلتُ في نفسي: “غريب، ومِن مَن؟! فوجدتُ أنها قد أُرسلتْ من قبَل ذلك الدليل… فيها بضعة كلمات، لكنها تلخّص تاريخاً مجيداً فيه شهامة وشجاعة وعز وكرامة: “لقد توفي اليوم آخر حُرّاس الأقصى”…
    ــــ
    (*) الترجمة عن التركية: محمد ماهر قفص. وهي قصة حقيقية وقعت في القدس الشريف مع الصحفي التركي “إلهان بردكجي” رحمه الله.
    (**) مجسّم المسجد الأقصى؛ يوجد في متحف المصغرات بإسطنبول، حيث يُعرَض في هذا المتحف مصغرات معالم تركيا والعالم أجمع، وتبلغ مساحته 60 ألف متر مربع.




    المصدر مجلة حراء / صالح كولن





    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    لماذا سليمان القانوني؟ ولماذا الحريم؟





    مشهد من التاريخ يختصر القصة كلها
    في سنة 1923 وهي سنة سقوط الخلافة العثمانية التي كانت آخر خلافة إسلامية، قررت أوروبا النصرانية أن تقيم حفل انتصارها المبين على الإسلام والخلافة بطريقة جديدة وموجعة، حيث عقدت مسابقة لاختيار ملكة جمال أوروبا في عاصمة الخلافة ـ أنقرة ـ وكان من ضمن المتسابقات فتاة تركية وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد، وتقدمت الفتاة التركية واسمها “كريمان خالص” ممثلة لتركيا العلمانية وقد استعرضت مفاتنها بلباس البحر على خشبة المسرح، وعندها قال رئيس لجنة التحكيم في المسابقة وقتها كلمات تقطر بالتشفي والشماتة وتكشف عن كم الكراهية الدينية المتجذرة في نفوس الأوروبيين تجاه دولة الخلافة العثمانية، إذ قال معلقا: “أيها السادة، أعضاء اللجنة، إن أوروبا كلها تحتفل اليوم بانتصار النصرانية، لقد انتهى الإسلام الذي ظل يسيطر على العالم منذ 1400م، إن “كريمان خالص” ملكة جمال تركيا تمثل أمامنا المرأة المسلمة، ها هي “كريمان خالص” حفيدة المرأة المسلمة المحافظة تخرج الآن أمامنا “بالمايوه”، ولابد لنا من الاعتراف أن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا، ذات يوم من أيام التاريخ انزعج السلطان العثماني “سليمان القانوني” من فن الرقص الذي ظهر في فرنسا، عندما جاورت الدولة العثمانية حدود فرنسا، فتدخل لإيقافه خشية أن يسري في بلاده، ها هي حفيدة السلطان المسلم، تقف بيننا، ولا ترتدي غير “المايوه”، وتطلب منا أن نُعجب بها، ونحن نعلن لها بالتالي: إننا أُعجبنا بها مع كل تمنياتنا بأن يكون مستقبل الفتيات المسلمات يسير حسب ما نريد، فلتُرفع الأقداح تكريمًا لانتصار أوربا”.


    التاريخ الإسلامي تعرض عبر مراحله لحملات عاتية من التشويه والتزييف لأهداف سياسية أو مذهبية، ولكن في كل مراحله كان التشويه والتحريف يتم بأيدي تنتسب للإسلام بصورة من الصور، إلا التاريخ العثماني فقد نال هذا التاريخ حظه الأوفر من التشويه على يد الأوربيين الذين يحملون قدرًا مهولاً من الحقد والعداء للدولة العثمانية التي أذاقت أوروبا والأوربيين طعم الهزيمة والذل والانكسار لقرون، مما جعل الأوربيين يجتهدون أيما اجتهاد من أجل تشويه تاريخ الدولة العثمانية العلية، وسجلوا عن العثمانيين كل سلبية، وجالت بها أقلامهم، وحلقت بها أفكارهم، وتجاهلوا كل إيجابية، ونظروا إلى تاريخ العثمانيين بعين البغض التي تبدي المساوي. التاريخ العثماني كتبه الأوربيون أو من افتتن بهم وسار على منهجهم، لذلك نادرًا ما نجد كتابًا تاريخيًّا يتناول الدولة العثمانية بإنصاف وحيادية، فصورة الدولة العثمانية في المراجع الأوروبية والعربية على حد السواء؛ صورة نمطية شديدة السلبية تتجاهل كل فضيلة وتبرز كل نقيصة، فهي في نظر الكثيرين دولة احتلال للعرب وإبادة ودموية وسلب ونهب، كرست التخلف والجهل ونهبت خيرات البلاد، وفي نظر الأوربيين في دولة إرهاب وغزو وإغارة وطغيان، دولة تسترق الأطفال وتغتصب النساء وتحتل البلاد وتنهب الخيرات.
    فالذاكرة الأوروبية لم تنس يومًا ما قام بها العثمانيون في القارة الأوروبية، لم ينس الأوروبيون أبدًا فتح القسطنطينية عاصمة العالم النصراني وقتها سنة857 على يد محمد الفاتح وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، في أكبر إشارة على ظفر الإسلام على النصرانية، وكيف أن العثمانيين قد وسعوا رقعة الأراضي الإسلامية لتشمل معظم يوغسلافيا والمجر وبولندا ونصف روسيا وبلغاريا ومقدونيا ورومانيا واليونان وامتدت ولاياتها عبر ثلاث قارات.

    الذاكرة الأوروبية لم تنس كيف وقف العثمانيون في وجه الصليبيين على مختلف الجهات، فقد هاجموا شرق أوروبا لتخفيف الضغط الواقع على مسلمي الأندلس، وواجهوا البرتغاليين في جنوب الخليج العربي، وواجهوا الإسبان في شمال أفريقيا وسواحل البحر المتوسط، وواجهوا الروس القياصرة في وسط آسيا، وواجهوا البرتغاليين في شرق أفريقيا. ولم يستطع الأوربيون احتلال المنطقة الإسلامية إلا قبيل سقوط الدولة العثمانية، في حين أن البلاد التي لم تخضع للدولة العثمانية مثل الهند وأندونيسيا وماليزيا وقعت مبكرًا بيد الاحتلال الأوروبي وعانت منه لما بعد الحرب العالمية الثانية، ولم ينس الأوربيون أن العثمانيين قد قاموا بنشر الإسلام في العديد من أجزاء أوروبا، وأن مسلمي أوروبا عامة وشرقها خاصة يدين بالفضل للدولة العثمانية في دخول الإسلام، حتى أصبح للمسلمين جاليات كبرى في أوروبا، كانت مجهولة لكثير من المسلمين حتى وقعت مجازر البوسنة والهرسك في أواسط التسعينيات.
    الذاكرة الأوروبية متخمة بالكثير من المشاهد المؤلمة والمهينة والتي كان العثمانيون سببًا مباشرًا فيها، فالأوروبيون لم ينسوا معارك كوسوفو الأولى والثانية وموهاكس وحصار فيينا وبلجراد ونيكوبولس وفارنا والقسطنطينية وغيرها كثير ،كما لم ينس الأوربيون كيف أن العثمانيين قد أخذوا الأطفال اليتامى من البلاد المفتوحة في أوروبا وربوهم تربية إسلامية خالصة وشكلوا بهم نواة الجيش العثماني الشهير بالإنكشارية والذي ظل مصدر قوة وفخر للعثمانيين لفترة طويلة.
    الأوروبيون ـ ومن سار على دربهم من العلمانيين والمفتونين في بلادنا ـ كانوا وما زالوا يحقدون على الدولة العثمانية ويكرهونها بشدة، ورغم كل ما جرى للدولة العثمانية والأتراك على يد الأوروبيين إلا أنهم مازالوا يعتبرون العثمانيين المسلمين الخصم التاريخي اللدود الذي لا تنمحي عداوته ولا تفنى كراهيته، لذلك فهم لا يدخرون وسعًا في قطع الطريق على أي فكرة أو مشروع للحديث عن أمجاد الدولة العثمانية وتذكير الناس بمآثرها.
    من هذه الزاوية، ولكل هذه الأسباب كان المسلسل التركي الشهير “حريم السلطان” الذي تولى سيرة أعظم سلطان عثماني ظهر في أوائل الحقبة المعاصرة وهو السلطان “سليمان القانوني” الذي يعتبر عصره هو ذروة النفوذ والاتساع والقوة في الدولة العثمانية، فقد كانت الدولة في أقصى اتساعها الجغرافي ونفوذها السياسي وتقدمها العلمي واستقرارها الاجتماعي وثباتها المؤسسي وثرائها الاقتصادي وتفوقها العسكري وذكائها الدبلوماسي، حتى أن الأوروبيين قد أطلقوا على سليمان لقب “الفخم”، وهو السلطان العثماني الوحيد الذي قهر الإمبراطور شارلكان عاهل الإمبراطورية الرومانية الشهيرة، وحاصر عاصمته فيينا وكاد أن يفتحها.
    منتجو ومؤلفو ومخرجو هذا المسلسل – وبالمناسبة مؤلفة المسلسل قد توفيت بالسرطان منذ فترة وجيزة – أرادوا تقديم الدولة العثمانية على أسوأ مثال وبأسوأ صورة، بصورة الدولة التي ينغمس سلطانها ووزراؤه وقادة دولته في الخمر والنساء والحريم، وهي نفس الصورة المترسخة في العقلية الأوروبية عن المسلم عامة والمسلم العثماني خاصة، صورة الرجل الذي لا يفكر إلا في شهوته وملذاته، صورة السلطان العثماني في العقلية والثقافة الأوروبية ليس له هدف سوى الجلوس مع الحريم والتنقل بين أفخاذ الجواري والاستماع لنميمة هذه وتلك، على الرغم من أن السلطان سليمان ظل في جهاد مستمر على عدة جبهات لأكثر من ثلاثين سنة، ولم يعرف الراحة إلا في أواخر أيامه بعد أن تقدمت به السن.
    بضاعة أوروبا اليوم ترد إليها عبر هذه الأفلام والمسلسلات التي ينتجها العلمانيون والكارهون لتاريخ الأمة المجيد، مسلسلات وأفلام تشوه التاريخ وتطمس الأمجاد وتبرز السلبيات وتضخم الأخطاء وتتجافى الحقائق، وترسخ في عقول الناشئة هذه الصورة السيئة والمعيبة عن التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره، بصورة سينمائية مبهرة تخلب الألباب وتجذب الأنظار، أوروبا اليوم تصفي حساباتها مع الإسلام والمسلمين، وتحاول الأخذ بثأرها ليس من الدولة العثمانية كما يظن الكثيرون، ولكن من الإسلام نفسه وتاريخه العظيم.


    المصدر مفكرة الإسلام / شريف عبد العزيز الزهيري

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد

    الوثائق المتعلقة بتونس في الأرشيف العثماني وآفة الجهل

    يزخر الأرشيف العثماني باسطنبول بآلاف الوثائق المتعلقة بتونس، وحسب التقديرات الأخيرة فقد يتجاوز عددها الـ50 ألف وثيقة, ويرجع تاريخها إلى فترات مختلفة من تاريخ البلاد. ومنذ دخول العثمانيين إلى تونس في عام 1574م كانت هناك مراسلات وتقارير مستمرة بين المسؤولين في تونس وعاصمة الخلافة في اسطنبول. وللأسف الشديد لم تهتم الجهات الرسمية ولا العلمية ولا الجامعية في تونس طوال الفترات السابقة بهذه الوثائق، بينما كان من الضروري إرسال فريق من الباحثين المتخصصين من أجل جمعها ونقلها إلى الأرشيف الوطني في تونس خاصة وأن سبل الحصول عليها متاح وبكل يسر. المسؤولون في الأرشيف العثماني عبروا عن استعدادهم الكامل للتعاون مع تونس في هذا الخصوص، بل إن هناك اتفاقية بين تونس وتركيا تقضي بنقل جميع الوثائق التونسية إلى الأرشيف الوطني التونسي لكنها لم تفعّل واكتنفها النسيان. ومما يؤسف له أن أحد الطلاب التونسيين في جامعة اسطنبول اقترح على أحد المسؤولين في السفارة التونسية في العهد السابق أن يقوم بمهمة جمع هذه الوثائق مقابل دعم مادي بسيط فرد عليه المسؤول: “لماذا تضيعون أوقاتكم في دراسة أشياء لا تجلب عليكم إلاّ الفقر”. آن الأوان لكي يفهم المسؤولون الجدد في تونس بأن تاريخ تونس لا ما تقوله الكتب والوثائق الفرنسية فقط بل هناك مصادر أخرى ربما تكون أكثر ثراء وأكثر حيادا وموضوعية.

    اترك تعليق:


  • التركي
    رد
    نرى أن كبار السياسيين في أوروبا في ذلك الوقت لم يجدوا بدا ًمن أخذ الحساسية العثمانية المفرطة على محمل الجد
    اما الان فهم لا يقيمون لنا وزنا ..
    التيمار؛ وهو نظام يتم من خلاله استخدام الأراضي من قبل الرعايا مقابل الوفاء ببعض الالتزامات كتوريد عُشْر المحصول لصاحب التيمار، ودفع الضرائب المقررة
    ما احوجنا لمثل هذا النظام فهو قوة للفرد وقوة للدولة ..

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    قوافل الحج في العصر العثماني


    لقد كانت السمة الدينية من أهم السمات التي اتسمت بها تشريعات الدولة العثمانية؛ فقد كان للهيئة الإِسلامية وضع معترف به، وكان يطلق على رئيسها لقب المفتي أو مفتي إستانبول، ثم تَغير هذا اللقب إلى “شيخ الإِسلام” الذي كان يشرف على الهيئات القضائية والهيئات ذات الطابع والنشاط الديني. وكان السلاطين أنفسهم حريصين على تدعيم سلطته، فقد كان شيخ الإِسلام يصدر فتوى تجيز الحرب، دفاعا، أو هجوما، وعقد الصلح، وغير ذلك من الأحداث الجسام.
    وقد كان من مظاهر اهتمام الدولة العثمانية بالدين والعالم الإِسلامي اهتمامها بمنصب نقيب الأشراف.

    الحجاز في العهد العثماني
    كما كان الاهتمام الكبير بالحجاز من السمات التي حافظ عليها كل السلاطين العثمانيين؛ فقد كان الحجاز وما يحويه من أماكن إسلامية مقدسة تابعا للدولة العثمانية، مما أضفى عليه مركزا دينيا مرموقا في جميع أرجاء العالم الإِسلامي. وقد أعفت الدولة العثمانية منطقة الحجاز من أداء الضرائب، بل أقر لها سليم الأول ثلث ما كان يجبى من مصر. كما أوقف خراج اليونان عند فتحه على الحرمين الشريفين. ولم يكن الاهتمام وقفا على الأماكن، بل تعدّاها إلى المواطن، فقد أُعفِي سكان الحجاز من التجنيد، وأبقت الدولة على الحكم الذاتي المتمثل في نظام الشرافة؛ وكل ما كانت تفعله أن ترسل فرمانا تحدد فيه إمكانات واختصاصات وواجبات الشريف الجديد عند تعيينه، وتوصيته ببعض الوصايا التي كانت تنصب في أغلبها على حماية الحجاج في أموالهم وأرواحهم، وأن يقسم بالعدل الصرة الهمايونية بين الأهالي، وكذلك المؤن القادمة من مصر، وأن يسعى لبسط الأمن على الطرق. وكان أمير مكة المكرمة يتمتع -في التشريفات- بأسمى مقام في صف الصدر الأعظم في الآسِتانة والخديوي في مصر وترتب له العطايا من قبل السلطان.

    ولكن الشيء الذي أولته الدولة العثمانية جل اهتمامها، هو قوافل الحج والإشراف المباشر والفعلي على الحج، واعتبرت هذا العمل واجبا يقع على عاتقها، باعتباره الركن الخامس من أركان الإِسلام، وأن عليها تيسير الحج أمام الراغبين فيه، فأنشأت قوافل الحج، واهتمت بالطرق؛ فأقامت الحصون، وحفرت الآبار على طول طرق الحج، وشجعت على إقامة الخانات، وأقامت المخافر، وكانت تشرف على قوافل الحج الرئيسية التي كانت تخرج من أنحاء الدولة كافة في مواعيد محددة كل عام، وتضع لها قوة تحرسها، يقودها أحد كبار العسكريين، الذي كان يسمى “سَرْدَارُ الحج”. وكان على رأس كل قافلة أمير للحج، وكثيرا ما كان أمير الحج يتولى قيادة الجيش المرافق للقافلة، وخاصة قافلة الحج الشامي.

    أهم قوافل الحج
    وكانت أهم قوافل الحج في العهد العثماني:


    أ. قافلة الحج الشامي: وتضم حجاج بلاد الشام والجزيرة وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان، وحجاج إستانبول نفسها، وكان عددها يتراوح ما بين ثلاثين وخمسين ألفا.

    وقد كان السلطان العثماني يشرف بنفسه على ترتيب وإعداد هذه القافلة وخروجها من مدينة إستانبول. وكانت القافلة تقطع الطريق التجاري حتى تصل إلى دمشق، ومنها إلى أراضي الموآبيين القدماء، ومن بلاد معن عبر صحراء مزريب إلى مدائن صالح حتى تصل القافلة إلى المدينة المنورة.
    وكان السلطان العثماني يصدر أوامره إلى الولاة لتسهيل مهمة مرور القافلة، وأن يتولوا مهام حراستها حتى تصل إلى حدود الولاية المجاورة، فيتولى الوالي الجديد استقبالها وتأمين مسيرتها عبر ولايته، حتى تصل سالمة إلى نهاية ولايته وهكذا.

    وقد كانت القافلة وعلى رأسها أمير الحج تعبر هذه الولايات وسط حفاوة واهتمام بالغ، ويتسلم أمير الحج بصك شرعي أموال الأوقاف والهدايا المرسلة إلى أهالي الحرمين الشريفين، وإلى الحرمين الشريفين ذاتهما، من بسط وتحَف ومصابيح وشمعدانات ومواد غذائية وما شابه ذلك.

    ب. قافلة الحج المصري: وتضم حجيج مصر وشمال أفريقيا، وكانت من أهم القوافل خلال العصر العثماني، حيث كانت تضم المحمل المصري وكسوة الكعبة المشرفة الجديدة. وكانت تتحرك من القاهرة خلال الأسبوع الأخير من شوال من كل عام، وسط احتفالات عظيمة تتم تحت إشراف الوالي نفسه. وتقطع المسافة في 37 يوما، سالكة طريق السويس وسيناء والعقبة ثم تلتقي في بعض الطرق مع قوافل الحج الشامي، وفي بعض السنوات كانت تستقل السفن من السويس إلى جدة، أو من الموانيء المصرية الأخرى المواجهة لجدة.

    ج. قافلة الحج العراقي: وتضم حجاج العراق وفارس، وتسلك الطريق الذي يعبر جزيرة العرب نفسها. وكان كثير من حجاج فارس والخليج العربي واليمن يفضلون طريق البحر والسفن البحرية.

    د. قافلة الحج اليمني: وتضم حجيج اليمن والهند وماليزيا وأندونيسيا، وينضم إليهم حجاج الحبشة والصومال والأفارقة الذين يصلون إلى مصوع وسواكن وموانيء اليمن.

    كانت القوافل تضم عناصر مختلفة؛ ففيها الأمراء، والأثرياء، والتجار ومعهم تجاراتهم، والفقراء والمعدمون. وكان كلٌّ حسب قدرته يرافق القافلة، ففيها الهودج وفيها الجمال والخيول، وفيها الرجالة من البدو والفقراء.
    وقد كان الولاة يقومون باستئجار الجمال والخيول لحمل مهمات القافلة، ويتعاقدون على ذلك قبل موسم الحج بوقت كافٍ، ويتفقون على ذلك مع مشايخ الأعراب والبدو الذين يعيشون في المناطق التي تسلكها القوافل.

    أهم طرق القوافل
    وأهم الطرق التي كانت تسلكها القوافل بين الحرمين الشريفين هي:


    1. الطريق السلطاني: أي الطريق الرئيسي، وكان على حجاج القافلة التي تسلك هذا الطريق أن يتجمعوا عند وادي فاطمة بالقرب من مكة المكرمة للاتجاه إلى المدينة المنورة. ويتزود الحجاج فيها بما يلزمهم، ثم يتجهون إلى بئر عسفان، وتسلك طريقها حتى تصل إلى رابغ التي تفترق عندها الطرق، وإن كان أكثرها استعمالا هو الطريق السلطاني.

    كان الحمّالة هم الذين يحددون أماكن التوقف، وكانوا يفضلون تلك التي تضم آبارا للتزود بالمياه. وتعودت القوافل أن تدخل المدينة في اليوم السادس من خروجها من رابغ. وهذا الطريق السلطاني كان هو الطريق المعتاد بالنسبة لقوافل الحج وقوافل المحامل. وبالرغم من قلة مياهه فإن مطالعه ومنازله الوعرة كانت شبه معدومة، ولكن كانت تبعد عنه بعض الشيء سلاسل جبلية مكنت بعض عربان البدو من مهاجمة هذه القوافل، مما دفع قوافل الحجاج المسلمين ومواكب التجار إلى أن يسلكوا الطرق المسماة بالطرق الفرعية لعمرانها وعدم خطورتها.

    2. الطريق الفرعي: هو الطريق المؤدي من رابغ إلى المدينة المنورة عن طريق “بريدة”. والذين يودون السفر عن طريق “الطريق الفرعي” يتجمعون عند “المرحلة”، التي تسمى آنذاك “بئر رضوان”، وهي تبعد مسيرة ثنتي عشرة ساعة من رابغ، ويتزودون بالمياه والمؤن، ثم يسلكون الطريق مارين بقرية “أبي ضياعة” و”ريان” و”أم العيال” و”مضيق” و”صمد”، ثم تمر القوافل من المنطقة المنخفضة التي تسمى الغدير التي تتجمع فيها مياه الأمطار فتحولها إلى ما يشبه البحيرة.
    الطريق الفرعي الثاني المؤدي إلى المدينة المنورة هو طريق غابر، وبالرغم من أن المسافة عبر هذا الطريق كانت تقطع في خمسة أيام من مكة إلى المدينة، فإنه طريق جبلي، كثير المطالع والمنازل، مما جعله صعب المنال بالنسبة للجمال التي غالبا ما تكون محملة بأشياء ثقيلة، وتجعل قطع الطريق مرهقا، كما أن كثرة الجبال تجعله مرتعا لقطاع الطرق والأشقياء، مما يدفع الجمالة إلى الابتعاد عنه وعدم سلوكه، إلا أن قِصَرَه بالنسبة للطريق السلطاني والطريق الفرعي تجعل منه معبرا مطروقا من قبل المشاة، أو من يمتطون صهوة الخيول، أو من قبل فرسان الخيالة والهجانة التابعين لقوة الدولة العثمانية، والمنوط بها حفظ الأمن وحماية مكة المكرمة والمدينة المنورة. وتورد بعض كتب التاريخ أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا الطريق عند هجرته الميمونة إلى المدينة المنورة.


    وهناك أيضا الطريق الشرقي الذي يربط المدينة المنورة ومكة المكرمة، وهو طريق كبير ومتسع إلى حد ما، وكثيرا ما تسلكه القوافل المترددة بين المدينتين المقدستين، وهو الطريق المفضل عند قوافل المحمل، والقوافل التي كانت تحمل الصرة، وخاصة في المواسم التي كانت تشتد فيها الحرارة، وتزداد فيها حملات الخارجين على القانون، وتسلطهم على الطرق الأخرى.
    وعرف بهذا الاسم لوقوعه على الطرف الشرقي من بلاد الحجاز، وتصل القوافل التي تقطع هذا الطريق إلى مرحلة بئر الليمون بعد مسيرة أربع عشرة ساعة، ثم بئر برود الذي تفضل القوافل الاستراحة عنده، والتزود من مياهه العذبة. وبعد المرور من بضع آبار ومراحل أخرى تصل القوافل إلى “بركة زبيدة”، وهي البركة التي أمرت السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد بتشييدها لتجمع فيها مياه السيول في هذه المنطقة.
    ومن الطرق الفرعية التي تسلكها القوافل بين المدينة المنورة ومكة المكرمة أيضا طريق ينبع البحر. فينبع البحر تعد مرفأ المدينة المنورة. والقوافل المتجهة إلى البلدة الطيبة تصل أولا إلى “بئر سعيد” ثم قرية “صفراء”، وعند هذه القرية يلتقي طريق ينبع البحر مع الطريق السلطاني؛ ومن ينبع حتى طيبة الطيبة خمس مراحل سيرا بقوافل الجمال. والمعروف أن المرحلة هي مسيرة يوم واحد بالجمال، أي مسيرة سبعة وعشرين ميلا. وتمر القوافل التي تسلك هذا الطريق بقرية بدر المباركة، ويقرأون الفاتحة على أرواح شهداء بدر الكبرى، وهذا الطريق سهل ومستوٍ مما يشجع القوافل على عبوره.

    أشهر الطرق إلى مكة المكرمة
    أما أشهر الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة، وكانت تسلكها قوافل الحج القادمة من بلدان العالم الإسلامي فكانت سبعة طرق، وبيانها كالتالي:


    1. طريق الشام
    هو الطريق الذي كانت تسلكه قوافل الحج القادمة من الشام وكذلك قافلة محمل الشام. وكانت قافلة الشام تتحرك في أغلب المواسم في الخامس عشر من شوال تحت رئاسة أمير الحج، وكان يتولاها في العادة والي سوريا. وقبل التحرك يجري احتفال كبير ينظمه قائد الجيش الخامس، وبعد القيام بالتشريفات المعهودة في مثل هذه الأمور تخرج القافلة من الشام من “قبة الحاج”، التي كانت تعد نقطة البدء للقافلة، ومنها إلى الكسوة حيث ينضم إليها الحجاج الذين تجمعوا في “مزريب”، ثم تتجه مجتمعة إلى المراحل التالية.


    ومن المناطق التي تمر بها القافلة عبر هذا الطريق منتزه مزريب في حوران، وبجوار عين مزريب أمر السلطان سليم الأول ببناء قلعة -مازالت أطلالها باقية حتى الآن- لحماية قافلة الحج، ثم الزرقاء فالبلقاء، ثم القطرنة حيث القلعة التي شيدها سليمان القانوني بجوار البركة التي أمر بإعادة تطهيرها بعد أن كانت قد تساوت مع الأرض. ومن القطرنة تتابع القافلة سيرها حتى الكرك، ثم عنيزة، فقلعة معان. وهذه المنطقة تسجل كتب التاريخ أنها كانت مقر إقامة بني أمية، وأمر السلطان سليمان القانوني بإقامة قلعة وحفر بئر فيها. ومن معان إلى ظهر العقبة نحو »ذات الحج«، وفي ذات الحج أو حجر هذه أمر القانوني بإقامة قلعة لحماية القوافل من غارات البدو والأعراب، وتشتهر بتمورها وثمارها الجيدة. ومنها إلى »قاع البسيط« فتبوك ثم أخيضر التي تقع في منتصف المسافة بين مكة والشام.
    وقد كلف السلطان سليمان القانوني عند جلوسه على العرش سنة 926هـ – 1520م واليه على الشام مصطفى باشا ببناء قلعة أخيضر، وبعدها تصل القوافل إلى بركة المعظم، ثم جبل الطاق الذي عقرت فيه ناقة النبي صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم مبرك الناقة، ثم قرى صالح، ثم ديار ثمود، وهي تلك المنازل التي نحتت في الجبال، وفيها مسجد النبي صالح عليه السلام، ومنها إلى العلا التي تبعد عن المدينة المنورة بست مراحل، وهي من ملحقات المدينة المنورة؛ وأمر السلطان القانوني بتجديد قلعتها وحصنها لحمايتها من غارات الأعراب. ومنها إلى شعب النعام ومنزل فحلتين، ثم وادي القرى الذي تكثر فيه المياه والغابات، وأبيار علي رضى الله عنه، وفيها يحرم الحجيج جميعًا. ومنها تمر القوافل بقبور الشهداء، ثم الجديدة وقاع البرو وبلاد طارق وعقبة السويق؛ ومنها إلى عسفان حيث الآبار النبوية المأثورة، وبعدها تدخل القوافل إلى مكة المكرمة في أوائل ذي الحجة من كل عام، بعد أن تكون قد قطعت المسافة من المدينة في مائة وست ساعات.

    2. طريق مصر
    وقد جرت العادة منذ القدم أن يصحب أمير الحج المصري المحمل وسط احتفال كبير من القاهرة متجها إلى بركة الحاج. وهناك يلتقي بجموع قافلة الحج المصرية، حيث يتجهون سويا إلى هدف البويب، ثم يتجه الموكب بعد ذلك إلى الحمرا، حيث أقامت السلطات المعنية آنذاك عدة أبنية وسقاية ماء ليتزود منها الحجاج؛ ومنها إلى بركة عجرود التي تقع تجاه السويس وتسمى أيضا “عيون موسى”، وكان بها خان كبير منذ زمن قانصوه الغوري. ثم تتحرك القافلة إلى منصرف، وفيها بعض المنخفضات التي يظن أن ملوكا سابقين قد حفروها في العصور الغابرة للربط بين البحرين الأبيض والأحمر، وهي التي حفرت مكانها قناة السويس. ومنها إلى قبيبات، ثم أول التيه حيث على الجانب الأيمن جبل الطور والجانب الأيسر جبل العريش. وفي وادي النعمان قام والي مصر علي باشا بتوسيع الحصن والسقاية لخدمة الحجاج، ويقوم الحراس بملء حوض الفسقية قبل وصول الحجاج، وبعدها تتابع القافلة سيرها حتى مغارة شعيب وعيون القصب وشرم ومويلحة، وفيها دار قايتباي، ثم بطن كبريت فأزلم فالوجه فجبل الزيت حتى ينبع، وتستمر القوافل من العقبة حتى رابغ، ثم تواصل سيرها في الطريق المعروف حتى مكة.


    3. طريق عدن
    تخرج القافلة وسط احتفال مشهود من لحج إلى يكرد، ثم تعز، ثم وادي الحسنا، ثم تنزل القوافل إلى »حيس«. وكان المحمل اليمني يخرج من عدن عندما كانت تحت الإدارة العثمانية، ومنذ سنة 963هـ بدأ الوزير مصطفى باشا والي اليمن في تنظيم موكب المحمل الشريف باسم محمل صنعاء اليمن على إثر صدور فرمان له بهذا الصدد.


    يتحرك الموكب من حيس إلى زبيد فرفع، ومنها إلى بيت العقبة الصغير، ومنها إلى قطيع، ثم المنصورية، ثم يتابع الموكب سيره في الطريق المعهود.
    أما حجاج شحر فإنهم يتجهون إلى حضرموت برا، ثم إلى صنعاء، ثم ينضمون هناك إلى قافلة صنعاء، ويتجهون سويّاً إلى مكة المكرمة، ومن شَحر إلى حضر موت خمسة منازل، ومنها إلى صنعاء أربعة منازل. وعلى حجاج ظفار الذين يودون الاتجاه إلى صنعاء برّاً أن يقطعوا خمس عشرة مرحلة سيرا، ثم ينضمون إلى جموع الحجيج التي احتشدت هناك لمواصلة السير سويا.

    4. طريق عمان
    يمثل طريق عمان الطريق الرابع بين الطرق التي تسلكها قوافل الحج الإِسلامية. ويتجه حجاج عمان بعد أن يخرجوا من حصن المدينة إلى “تروى”، ثم إلى “عجلة”، ومنها إلى “عصوه”، ثم بئر السلاح، وبعد ذلك تشد الرحال نحو مكة. والطريق من الحصن حتى مكة عشرون مرحلة، ولكن لصحراويته وندرة مياهه فإن حجاج عمان يفضلون التوجه والعودة بطريق البحر.


    5. طريق الحسا
    وهو الطريق الذي كانت تسلكه جموع حجاج نجد والجزيرة مارين بالدرعية فشعرا ثم مرقب، ومن هناك مرورا ببعض المراحل، حتى ذات عرق حيث مكان إحرام سكان نجد فساحة الكعبة المشرفة.


    6. طريق البصرة
    تتحرك القافلة من البصرة إلى الدرهمية، ثم إلى صفوان، ثم إلى منـزل “جهر”، وتحط رحالها للتزود بالمياه والمؤن، ثم تتجه إلى حصن النبي موسى الموجود في “أضافا”، وبعدها تتحرك القافلة مارة بالعديد من المواقع والمنازل، حتى تصل أيضا إلى “ذات عرق”، التي تعد ميقات حجاج نجد والبصرة، حيث يحرمون فيها ثم يتجهون إلى بستان بني عامر، فمكة المكرمة حيث بيت الله الحرام.


    7. طريق بغداد
    يتجمع حجاج فارس وأذربيجان وغيرها من هذه المناطق في بغداد، وتتحرك القافلة من بغداد حتى تنزل بهضبة (صرصران)، فينضم إلى الموكب جموع أخرى من الحجاج متجهين نحو هضبة (قراشر)، ومنها إلى شط الفرات، ثم إلى الكوفة، فمشهد علي المسمى (سد بيداء النجف)، ومنه إلى “متعب”، ومن هناك إلى “فرع” مرورا بكثير من المراحل، حتى يلتقي بقافلة واسط في المكان المسمى “ثعلب”، ثم تتابع القافلة سيرها.


    ويزدان الطريق من بغداد إلى مكة المكرمة بالأبنية وأسبلة المياه والخانات وغيرها من الأبنية رفيعة المستوى، وخاصة تلك التي أمرت ببنائها السيدة “زبيدة” زوجة هارون الرشيد العباسي، والسلطان ملكشاه السلجوقي. وقد حافظ عليها وعني بها السلاطين العثمانيون جميعا.

    حماية طرق الحج
    ولحماية طرق هذه القوافل كانت الدولة العثمانية تقيم الحصون والقلاع والمخافر على طول الطرق، وتوفر لها القوات التي تقوم بالحراسة وكسر شوكة قطاع الطرق والبدو والخارجين عليها. وأقامت في المدينة المنورة قلعة كبيرة وفرت لها القوات اللازمة لحفظ الأمن في المنطقة. كما كان محافظ المدينة يختار من بين كبار الضباط الذين يستطيعون القيام بالمهام المنوطة بهم على أحسن وجه، وكان يجمع في يديه بين السلطتين المدنية والعسكرية، وكان المحافظ يلقب أحيانا بشيخ الحرم النبوي. كما أنشأت الدولة العثمانية قلعة في مكان مناسب من مضيق الجديدة بناء على طلب من الأهالي لحفظ الأمن.


    كما كان الجيش السابع الميداني خاصًّا بولاية اليمن، وكانت وحداته كلها تتألف من عساكر نظامية، وكانت فرقة الحجاز المرتبطة بهذا الجيش عبارة عن ثلاث آيالات مشاة ونصف آلاى خيالة وبطارية مدفعية. وقد حرصت الدولة على وضع محطات حراسة بجوار آبار المياه على طرق القوافل، وخاصة قافلتي الحج الشامي والمصري.
    ولوقف التهديدات الخارجية لقوافل الحج والأماكن المقدسة قامت الدولة العثمانية بعمل حزام أمن حول الحجاز، يمتد هذا الحزام من سواكن وموانيء اليمن وخليج البصرة وجدة والسويس. ولقد وضعت الدولة في حسبانها أيضا حماية طرق التجارة الشرقية الوافدة من الهند.
    وكانت الدولة العثمانية فيما بعد تسعى لتطوير وتنظيم موانيء جدة والحديدة وينبوع، وإقامة الأرصفة والمرافيء، وجعلت هناك أسطولا مقيما من السفن العثمانية للعمل بشكل منتظم بين السويس وعدن. وكانت هناك تقارير تقدم من حين لآخر إلى السلاطين العثمانيين تطالب بضرورة إصلاح وتنظيم وحماية الموانيء الممتدة من العقبة حتى باب المندب؛ كما كانت هناك سفن بريدية “بوسته” تعمل بانتظام بين إستانبول والحديدة، لنقل البريد والجنود بين موانيء البحر الأحمر والحجاز.

    موكب الصرة السلطانية
    ثم تم استحداث “صُرَّه آلايي”، وهي القوات التي كانت تقوم بالإعداد للاحتفال لخروج الصرة والمحمل وموكب الحج من أمام القصر السلطاني، ثم يناط بها الحفاظ على الصرة والمحمل وقافلة الحج، حتى تصل وتعود في أمن وسلام. وكانت هذه القوات دائما في رفقة هذه المواكب، وكانت تسير برا حتى سنة 1864م مستخدمة الجمال والبغال والخيول. وبعد هذا التاريخ شرعت الدولة بإرسالها عن طريق السفن الحربية إلى بيروت أو السويس ومنها إلى جدة أو ينبوع، ثم تكمل رحلتها برفقة قوات الحجاز إلى أماكن الشعائر الدينية. وبعد افتتاح خط السكة الحديد الحجازي 1908م كانت ترسل هذه القوات أيضا برفقة هذه المؤن والهبات والأوقاف، ولا تفارقها إلا بعد أن تصل إلى هدفها. وكانت هذه القوافل إذا ما خرجت برا تتحرك من إستانبول في الثاني عشر من رجب، ولكن بعد ما تقرر إرسالها عن طريق البحر أصبحت تخرج في الخامس عشر من شعبان من كل عام. كما كان أمين الصرة الهمايونية يُختار في معظم الأحيان من بين كبار العسكريين المشهود لهم بالتميز العسكري والتدين وحسن السير والسلوك والتقى الورع وطهارة اليد والعدل، حتى يشرف بنفسه على القوات المرافقة للمحمل، وقافلة الحج. كما يقوم بتسليم الفرمان الخاص بتوزيع أموال الصرة الهمايونية على الحرمين الشريفين وأوجه التصرف والصرف منها إلى شريف مكة ومشايخ الحرمين الشريفين، بحضور رجالات الدولة العلماء وقادة القوات الموجودة في كل من مكة والمدينة وجدة والطائف، وأمراء قوافل الحج. وكان يشرف بنفسه باعتباره ممثلا للسلطان العثماني على أداء المناسك وحفظ الأمن والأمان خلال موسم الحج كله، إلى أن تغادر القوافل كلها المدينتين المباركتين عائدة إلى بلادها، فيعود أمين الصرة بعد أن يكون قد أشرف أيضا على توزيع الأوقاف والمخصصات على أهالي الحرمين، فيقدم تقريرا مفصلا إلى الصدر الأعظم وشيخ الإِسلام في الآسِتانة، وبعدها يمثل بين يدي السلطان ليقدم تقريره عما أنجزه في موسم الحج ومرئياته ومقترحاته للموسم القادم.



    نتابع لاحقا

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مكتبة السليمانية، خزينة تراث الأمة



    تعد مكتبة السليمانية بإسطنبول، من أكثر المكتبات العالمية حفظًا للمخطوطات التي يبلغ عددها نحو 67,359 مخطوطة، إضافة إلى نحو 74,000 كتاب مطبوع من الطبعات القديمة والنادرة من شتى أنواع العلوم والمعارف الإنسانية. وهي جزء من كلية السليمانية (جامع السليمانية) التي أمر ببنائها السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر.
    تبلغ مساحة المكتبة نحو خمسة آلاف متر مربع، ويتكون مبناها من قسمين متقابلين يفصل بينهما ممر يؤدي إلى جامع السليمانية، حيث يضم القسم الغربي من المكتبة، مستودعات المخطوطات والمطبوعات النادرة، كما يضم القسم الشرقي، الصالة الكبرى التي تحتوي على أقدم المخطوطات العربية والعثمانية والفارسية النادرة، والمحفوظة في خزائن زجاجية. وأقدم مخطوطة في المكتبة هي مخطوطة جزء من القرآن الكريم المكتوب بالخط الكوفي على رق الغزال، والعائد إلى القرن الثالث الهجري. ولعل المصاحف الشريفة تأتي في مقدمة المخطوطات هذه. بالإضافة إلى وجود مصاحف كتبها مشاهير الخطاطين؛ مثل المصحفين الشريفين المكتوبين بخط الخطاط المشهور “ياقوت المستعصمي”.
    هذا وقد صدرت دفاتر فهرسة لمجموعات من المخطوطات، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن فُقدت بعضها أثناء الحروب والكوارث الطبيعية التي حدثت في إسطنبول. وبالتالي أُضيفت مخطوطات أُخرى لم تكن موجودة في المكتبات أثناء عهد السلطان عبد الحميد. ثم إن هناك الفهرس الإليكتروني الذي شمل كل المخطوطات الموجودة في تركيا تقريبًا سواء المفهرس المطبوع منها على الورق أو على البطاقات غير المطبوعة

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    كنوز من الوثائق حول تونس في المصادر التّركية



    قبل سنوات زار أحد الأصدقاء التّونسيين السّفارة التونسية في أنقرة، وقابل القنصل التونسي فيها. سأل السّيد القنصل الطّالب الذي كان يدرُس في جامعة اسطنبول في مجال التّاريخ العثماني عن مجال دراسته، فردّ الطالب بحماس: “نحـن مجموعة من الطّلبة أرسلتنا وزارة التّعليم العالي في تونس لندرس اللّغة التّركية ونتخصص في مجال التّاريخ العثماني”. كان ظنّ الطالب الصّديق أن يُعجب السّيد القنصل بما قاله الطّالب، بيد أنّ جوابه كان مُحبطا ومحيرًا، قال له :
    ” ألم تجدُوا ما تدرسونه في تركيا سوى هذه اللّغة الميّتة، لماذا لم تدرسوا الاقتصاد أو الطب أو الهندسة؟
    لماذا تدرسون أشياء لا تزيدكم إلاّ فقرًا”؟


    نسُوق هذه القصّة لنعرفَ طبيعة النّظرة التي كان يُنظر بها إلى مصادرنا التّاريخية في تركيا، وكذلك حجم الإهمال الذي تعرضت له هذه المصادر. والحقيقة أنّ المرء يندهش عندما يعرف ذلك الكمّ الهائل من الوثائق المتعلقة بتونس في الأرشيفات والمكتبات التّركية. وهي وثائق في غاية الأهمّية ولا غنى عنها لمن يدرسون تاريخ تونس المعاصر. فتونس ظلت ولاية عثمانية من سنة 1574م حتى الاحتلال الفرنسي سنة 1881م، وخلال هذه الفترة كانت تونس تحظى باهتمام كبير من قبل السلطات العثمانية، وكانت هناك مراسلات وتقارير من تونس وإليها، وكانت الإدارة العثمانية تدوّن كل كبيرة وصغيرة بشأن الولايات التابعة لها، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
    غير أننا نلاحظ اليوم في جامعاتنا التونسية ضعف الاهتمام بدراسة الحضارة العثمانية والتاريخ العثماني، بالإضافة إلى النظرة السلبية التي يُنظر بها إلى الوجود العثماني في تونس، بل إن كثيرًا من المؤرخين التّونسيين يصفونه بـ”الاحتلال” و”الاستعمار” و”الاستيلاء”، ولا نعرف ماذا سيكون حال تونس لو أن العثمانيين لم يخلّصوا تونس من الاحتلال الإسباني سنة 1574م، ربما لن يكون حالنا أفضل من مُسلمي الأندلس الذين هُجروا ونُكّل بهم أيّما تنكيل.
    ومن أهم المصادر التّركية التي تزخر بالوثائق عن تاريخ تونس في اسطنبول اليوم نجد الأرشيف العثماني التّابع لرئاسة الوزراء، ومكتبة بايزيد ، ومكتبة جامعة اسطنبول، والمكتبة الشعبية (ملِّي كتبخانه سي).


    الأرشيف العثماني التابع لرئاسة الوزراء
    يقع الأرشيف العثماني التابع لرئاسة الوزراء (Basbakanlik Osmanli Arsivi ) بالقُرب من منطقة السّلطان أحمد في اسطنبول، في المكان الذي كان فيه مقرّ الباب العالي، أي مقر الحكومة العثمانية. ويعد هذا الأرشيف من أكبر الأرشيفات في العالم، ويظم نحو 150 مليون وثيقة، مدونة بلغات مختلفة؛ العثمانية والعربية والانكليزية وغيرها من اللغات. ولم يصنّف من هذا الكم الهائل من الوثائق سوى 50 % تقريبا، أي حوالي 70 مليون وثيقة.


    وتوجد في هذه الوثائق معلومات عن جميع البلاد العربية التي كانت ضمن الحكم العثماني، بما فيها تونس. وقد أحصيتُ وجود أكثر من 50 ألف وثيقة عن تونس، أغلبها باللغة العثمانية، أي التّركية القديمة التي كانت تكتب بالحروف العربية. وتوجد ضمن هذه الوثائق رسائل كثيرة باللغة العربية من بايات تونس ووزرائها إلى السّلاطين والمسئولين العُثمانيّين، كما توجد وثائق وتلغرافات في غاية الأهمية تتحدث بالتّفصيل عن الاحتلال الفرنسي لتُونس. كما توجد معلومات عن أوقاف للتّونسيين الفقراء في مدينة أزمير، ومعلومات عن التونسيين الذين قاتلوا إلى جانب العثمانيين في حرب القرم، ومعلومات عن المساعدات التي أرسلتها تونس أثناء الحرب مع روسيا سنة 1876م، ومعلومات عن التّونسيين المقيمين في اسطنبول والمساعدات المالية والمعاشات التي كانت تُقدم لهم إكرامًا لهم. ومعلومات مفصّلة عن المهاجرين التّونسيين إلى ليبيا بعد الدخول الفرنسي لتونس سنة 1881م، ومعلومات عن مقاومة التونسيين للاحتلال الفرنسي.
    والجدير بالذّكر أنّ الوثائق المتعلقة بتونس في هذا الأرشيف والمتاحة للدّراسة والبحث تتزايد كلّ فترة بعد كل عملية تصنيف جديدة، كما أنها متاحة للتصوير الرّقمي ولا توجد أية قيود على الإطلاق، بل إنّ للتونسيّين مكانة متميزة لدى الأتراك عامة، ولدى العاملين في الأرشيف بصورة خاصة. وقد ذكر لي مُدير الأرشيف أنّه توجد اتفاقية بين تونس وتركيا لتبادل الوثائق غير أنها لم تُفعّل إلى حدّ اليوم بسبب عدم حماس الجانب التّونسي في هذا الخصوص.

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    السلطان عبد الحميد وطريقة حل أزمة الإساءة للرسول الكريم



    عمت المظاهرات الاحتجاجية على الفيلم المسيء لحضرة النبي – صلى الله عليه وسلم- العالم الإسلامي، وتفاعل معها المسلمون في تركيا كسائر المسلمين – وإن بدرجات متفاوتة- على أثر بث إعلانه الدعائي في موقع اليوتيوب ولمّا تبارح ذاكرتنا إلى الآن أزمة الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول – عليه السلام- التي عايشناها في الدانمارك من ذي قبل، وبعبارة أخرى لا يزال الصراع بين العقلية الغربية والإسلام وقيمه مستمرا ً إلى الآن، ولا أدل على ذلك مثلا ً تساؤل الغربيين عن عدم خروج العشرات من المسلمين منتفضين بالمثل على إهانة الإسلام في الصين!
    إلا أني أتساءل: هل بإزهاق الأرواح نحن مجبرون على إبداء ردود فعلنا؟ و على صعيد السياسة العالمية؛ هل ماهية الضغط الذي سيمارسه العالم الإسلامي صاحب تعداد النفوس الذي يتعدى المليار نسمة على الولايات المتحدة ليس سوى الذلة والمسكنة؟ وهل كان شيء كهذا ليحدث لو كان في صحوتنا وبين ظهرانينا خليفة ننظر له باعتزاز وافتخار؟
    إنه الوقت الأنسب لنتذكر كيف كان السلطان عبد الحميد الثاني يعطي دروسه للرُّعْن في أوروبا، فكيف استطاع أن يحل أزمة الإساءة للنبي – صلى الله عليه وسلم- التي ظهرت في عهده، واضعا ً ثقله في القنوات السياسية والدبلوماسية حتى النهاية بصمت وأناة وبلا صخب؟
    في سنة 1890م فرغ الكاتب المسرحي ” أونري دي بورنييه Henri De Bornier” بعد عامين من كتابة عمل درامي بعنوان ” محمد “(Mahomet)، وأصبح جاهزا ً للعرض، وزد على ذلك أن أحد الممثلين كان سيتقمص شخصية النبي في العرض المسرحي؛ وأعظِم بها جرأة! إن الأنباء التي ستتناهى لمسامع السلطان عن هذه المسرحية التي تتضمن بعض فصولها إساءة معنوية لشخص الرسول – صلى الله عليه وسلم- وعليه فهي استهانة بشأن الإسلام والمسلمين؛ ستعمل على تحفيزه على التحرك فورا ًبصفته خليفة المسلمين ليمنع عرض تيك المسرحية لا على منصة مسرح ” كوميدي فرانسيز” (Comédie Française) فحسب؛ بل في فرنسا بأسرها.
    أما كيف تم ذلك؛ فبواسطة رسالة خاصة من السلطان عبد الحميد لرئيس الجمهورية الفرنسية ” سادي كارنو” ( Sadi Carnot) أبلغها له السفير العثماني في باريس ” صالح منير باشا”، وقد كان هذا كافيا ً لإيقاف المسرحية. ويشير الكاتب الأمريكي روبرت ج. غولدشتاين (R.J.Goldstein) في كتابه ” المنصة الرهيبة” (The Frightful Stage) إلى أنه بعد قرار مجلس الوزراء الفرنسي منع المسرحية تقدم السلطان بآيات التهنئة والشكران للرئيس الفرنسي على قراره الحكيم بأن يؤثر عدم المساس بمشاعر الرعية المسلمة على مسرحية ليس تحتها طائل، وقد كافأه السلطان بمنحه وسام الامتياز العثماني (امتياز نيشاني).
    وفي الواقع أن السلطان عبد الحميد الثاني قد وجه رسالة للحكومة الفرنسية بعنوان” بخصوص المسرحية المعدة للنيل من السمعة القدسية لحضرة محمد عليه الصلاة والسلام “، وقد نقلها السفير الفرنسي في الآستانة ” كونت مونتبلو” (Le Comte de Montebello) ، و تضمنت هذه الرسالة تحذيرات شديدة اللهجة وتهديدا ً بقطع علاقات دولته مع فرنسا حال عرض هذه المسرحية.
    ولكن مؤلف المسرحية المنحطة كان أعند من مخرجها، ولم يكن في نيته أن يبقى مكتوف اليدين، بل سعى لعرضها في بريطانيا ظنا ً منه أنه سوف يكون خارج نطاق التأثير الحميدي، وبعد قبول طلبه تقرر عرضها على خشبة “مسرح الليسيوم” (The Lyceum Theater) الذي تشرف عليه الحكومة في إنكلترا، ومع ذلك استطاع السلطان عبد الحميد الذي تمكن هذه المرة من كسب لورد سالزبوري (Lord Salisbury) وزير الخارجية المعتدل في صفه، ونجح في منع هذه المسرحية، ليس من على منصة الليسيوم فقط، بل في كافة أرجاء بريطانيا كما أشار زياد أبو الضيا في كتاب ” الأدب التركي” (Türk Edebiyatı).


    مضت ثلاث أعوام وشغل” لورد روزبري” (Lord Rosebery) وزارة الخارجية في بريطانيا محل ” لورد سالزبوري”، وكان البون شاسعا ً بينه وبين الإسلام مقارنة بخلفه، مما حدا بـ ” دي بورنييه” على التجرؤ مرة أخرى والاتفاق مع أحد المسارح في لندن على عرض مسرحيته، ولكن التوفيق لم يحالفه هذه المرة أيضا ً وذلك نظرا ً للدبلوماسية البارعة التي يتحلى بها السلطان عبد الحميد والتي وقفت حائلا ً بينه وبين عرض ملعنته الدرامية.
    وعلى نفس الشاكلة اعتُزم في باريس سنة 1900م عرض مسرحية بعنوان ” جنة محمد” (Le Paradis de Mahomet) اختلفت اسما ً وموضوعا ً عن سابقتها، ولكن المساعي الدبلوماسية أيضا ً حالت بينها وبين رؤيتها النور، وتشير وثيقة أخرى كذلك إلى أن مسرحية ” الاختطاف من السراي” (Die Entführung aus dem Serail) لموتسارت منعت من العرض في آمستردام في 1894م، كما وفقت المساعي الدبلوماسية في منع مسرحية تتعرض للسلطان محمد الفاتح أريد عرضها في روما، والمثير للاهتمام أن السلطان عبد الحميد حينما رأى أن جهوده قد لا تكفي أقحم صديقه امبراطور ألمانيا ” غليوم الثاني” (Wilhelm II) في الأمر فأصاب مبتغاه، و قد جاء خبر منع المسرحية في إحدى الصحف الإيطالية الصادرة بتاريخ 15/4/1890م وقالت كذلك: ” لقد استشاط السلطان غضبا ً بمجرد سماعه بأن المسرحية الدرامية على وشك أن تعرض وكأنه تلقى خبرا ًعن تحرك الأسطول الروسي لاحتلال مضيق الدردنيل! ولقد بدا الإمبراطور غليوم على علاقة بهذا الأمر…”.
    ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمل السلطان سنة 1893م على منع مسرحية أخرى عرضت في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان ” محمد” (Muhammed) حادت هي الأخرى عن جادة الواقع في عرض حياة نبي الإسلام، وقد تكللت حهوده بالنجاح على أثر لقائه الخاص مع السفير الأمريكي ” آلكسندر و. تيرل” (Alexander W. Terrell) وبالأخص بعد مساعيه الدبلوماسية أيضاً مع الرئيس الأمريكي “غروفر كليفلاند” (Grover Cleveland) رغم أن أمر المسرحية لم يكن من اختصاص الحكومة الفيدرالية.

    لقد كانت المواقف التي اتخذها السلطان عبد الحميد الثاني إزاء كل ما يسيء لمقام رسوله الحبيب ودينه وأجداده ويحط من قدرهم حاسمة لاهوادة ولا تنازل فيها، ولا تقبل حلول وسط حتى ولو كلفه ذلك مناصبته العداء من قبل الدول الغربية القوية، ولقد ظهر مفعول هذه المواقف جليا ً خلال فترة وجيزة فغدت المسارح تحسب ألف حساب حينما يتعلق الأمر بقبول الأعمال التي تتناول الإسلام في الموسم المسرحي وتتشدد في انتقائها.
    ختاما ً أقول: لقد نشأت عادة مقبولة بغية منع ظهور الأعمال التي تحمل في طياتها ما يسيء وينتقص من قدر حضرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أو بالسلاطين العثمانيين، سواء في فرنسا، أو في إنكلترا، أو في إيطاليا، أو في الهند التي كانت ترزح آنذاك تحت الاحتلال البريطاني، و على الصعيد الآخر نرى أن كبار السياسيين في أوروبا في ذلك الوقت لم يجدوا بدا ًمن أخذ الحساسية العثمانية المفرطة على محمل الجد، كما أن وسائل إعلامهم كانت تعمل على لفت انتباههم لهذا الأمر مع مرور الوقت. إن هذا يفصح لنا كذلك عن مدى نفوذ السلطان عبد الحميد النابع من كونه خليفة المسلمين، والذي لم يقتصر على نطاق داخلي أو على مستوى العالم الإسلامي فحسب بل تعدى أثره إلى أوروبا على غير المتوقع، ومن يتأمل كيف ضمّ السلطان إلى صفه الإمبراطور الألماني الكبير” غليوم الثاني” من أجل مسرحية يدرك بطمأنينة تامة مدى الجدية التي أخذ بها تلك الأمور ونقل هذا الشعور إلى غيره.
    ومع الأسف منذ إزاحة السلطان عبد الحميد عن سدة العرش غابت ” الدبلوماسية البيضاء” التي تستخدم سلاح الخلافة قبل سلاح النار تماما ً كما غاب على الساحة الدولية اعتبارنا ونفوذنا المستمدّ من الرابطة العثمانية ومقام الخلافة الإسلامية، وبالنظر إلى حال احتجاجاتنا المأسيّ عليه تلح علينا فكرة تدريس فنّ ” الدبلوماسية البيضاء” الذي طبقه السلطان عبد الحميد في جامعاتنا. هوذا مساق ” الحميدولوجيا” على وشك الانطلاق، فهل جامعاتنا على أهبة الاستعداد؟

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مصطفى آرمغان *
    ترجمه بتصرف: عامر الهنيني


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    السلطان محمد الفاتح أمام القضاء



    بعد فتح إسطنبول، أمر السلطان محمد الفاتح ببناء مسجد فخم لا يضاهى… وضع بين يدي رئيس المعماريين عمودين طويلين من الرخام، لإقامة قبة المسجد عليهما لتكون أعلى وأوسع من قبة أياصوفيا.

    وعند الانتهاء قام السلطان بزيارة المسجد، ولكنه فوجئ عندما رأى بأن مقاييس القبة لم تكن وفقًا لما أراد وأمر؛ إذ قصّ المعماري العمودين وقصّرهما خشية انهيار المسجد إثر زلزال… غضب السلطان لهذا الأمر غضبًا شديدًا، وأمر بأن يوقع على المعماري عقوبة مغلَّظة أدت إلى إتلاف جزء من بدنه… وبعد فترة من الزمن، ذهب المعماري إلى القاضي ورفع شكاية ضد السلطان محمد الفاتح… خلص الأمر بعد التحقيق، إلى حضور السلطان إلى المحكمة… وعندما حضر محمد الفاتح إلى قاعة المحكمة همّ بالقعود، ولكن القاضي منعه من ذلك قائلاً: “يا صاحب الجلالة، قف إلى جانب خصمك، إنك أمام محكمة العدل”!
    وفي نهاية الأمر أصدر القاضي حكمه بمعاقبة السلطان محمد الفاتح بالاقتصاص منه. أبدى فاتح إسطنبول العظيم، إذعانًا لهذا الحكم ورضاء بهذا القرار ولم تبدر منه أيّة بادرة ضد ذلك… تأثر المعماري من هذا الموقف تأثرًا شديدًا، إذ لا يكاد يصدق ما يراه بعينيه؛ قاضٍ يحكم على سلطان عيّنه، بالقصاص؟! عندئذ سارع على الفور إلى سحب شكايته والتنازل عن حقه… فقامت المحكمة بتحويل القرار إلى تعويض نقدي، حيث حكمت على السلطان الفاتح، بدفع تعويض للمعماري مقداره عشر قطع ذهبية من ملكه الخاص… كما رفع السلطان مقدار هذا التعويض إلى عشرين قطعة ذهبية، شكرًا لله لخلاصه من القصاص، وامتنانًا للمعماري للعفو عنه بعدما كان قادرًا عليه(1).
    ــــــــــــــــــــــــــــــ
    ــــــــــ
    (1) وردت هذه الرواية في كتاب “سياحتْ نامه” للمؤرخ والرحالة العثماني “أوليا شلبي”.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد

    سيادة القانون في الدولة العثمانية



    نظام سياسي تفوق على أوروبا الإقطاعية
    تمايزت أنماط الدول منذ العصور القديمة وفقًا لتأثير عوامل الدين والتقاليد والثقافات والجغرافية والاقتصاد وغيرها، ومنذ القرن التاسع عشر بدأت الدول التقليدية كالملَكِيَّات والسلْطَنات، تترك مكانها للدول البيروقراطية العصرية كالدول الشمولية أو الدول الشعبية المركزية. وأيًّا ما تكون الدول؛ تقليدية أم عصرية، وأيًّا ما تكون أنماطها وأشكالها، فإن سيادة القانون ومبدأ العدالة مقابل المزاجية والظلم، يشكلان دومًا أهمَّ عنصرين حاكمين في إدارة الدول. وفي ما يتعلق بالدولة العثمانية، فقد ظهرت تعريفات وتصنيفات كثيرة لنظامها. فقد عرف بعض الباحثين كـ”فؤاد كوبرولي” وعمر لطفي بَرْقان الدولةَ العثمانيةَ بأنها “دولة علمانية عصرية”، وأن الدساتير (قانون نامة) العثمانية التي تغطي الجوانب القانونية والإدارية للدولة قد وُضعت في ظل مقاربة وفَهْم عصريّيْن.


    وعلى النقيض منهما، يُصنف أحمد أَقْ كونْدوز -وهو باحث في الحقوق الإسلامية ومؤلف كتاب الدساتير العثمانية (Osmanlı Kanunnameleri) – الدولةَ العثمانية كدولة إسلامية. فالحقوق العرفية العثمانية عنده، متمِّمة للحقوق الشرعية، وجميع القوانين العثمانية خرجت من مصفاة شرعية لا تخالف الدين. فالخليفة أو السلطان مسؤول أمام الله، ومكلف بالخضوع لأحكام القرآن والسنة.
    وهناك مقاربة أخرى تقف بين التقييمين السابقين، وتستند إلى مفهوم صاغه صَدْري مَقْصودي أَرْسال؛ حيث ترى أن نظام الحكم في الدولة العثمانية هو نظام “نصف ثيوقراطي”، وأن معظم الدول الكبرى التي نشأت في تلك الفترة من التاريخ، هي دول نصف ثيوقراطية. فللدين تأثير هام في هذا النمط من أنظمة الحكم، حيث تكون البيروقراطية الدينية وبيروقراطية الحكم في حالة توازن داخل الدولة. ونظام الحكم في الدولة العثمانية يمكن فهمه وتصنيفه في هذا الإطار.
    من جهته، يرى “ماكس ويبر” أن أنظمة كافة الدول التي كانت قائمة قبل القرن العشرين الميلادي، هي أنظمة دول تقليدية من الوجهة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، ويزعم بأنها كانت تقوم على الحكم الملكي الوراثي، ويُقوِّم بالتالي نظام الدولة العثمانية في إطار التصنيف التقليدي، ويعتمد كثير من المؤرخين على وجهة النظر هذه، في مقارباتهم للدولة العثمانية.


    شكل ملكي ومضمون ديمقراطي

    إن الدولة العثمانية كان لها في الواقع نظام حكمها الخاص بها، وهو الذي يمكن أن نصفه بـ”النمط العثماني”. فالسلاطين العثمانيون مارسوا حكمهم بما يملكونه من صلاحيات التشريع (سن القوانين) والتنفيذ والقضاء في ظل سيادة الحقوق والقوانين، ولكن ليس على النمط الملكي المعروف أوروبيًّا في ذلك العهد. فالعبارات التي تضمنتها وثائق الحقوق العرفية العثمانية -كالحقوق الإدارية والحقوق العسكرية- وردت في القوانين التي جرى سَنُّها كالنص على أن “تراعى مصالحُ عباد الله على أنها مصالح شرعية وقانونية”، هذه العبارات لم تُهمل أو تتجاهل الدين، بل شُرّعت في ظل تكامل بين الحقوق العرفية والحقوق الشرعية، واكتسبت ماهيّتها من هذا التكامل.
    ويمكن القول بأن النظام السياسي في هذه الدولة، وإن اتخذ الشكل الملَكيَّ في الحكم، إلا أنه تجلت فيه كل الممارسات التي نراها في الديموقراطيات: فكل مواطنٍ يمكنه أن يرتقي إلى كل مقام دون مقام السلطان، وله حقوقه الكاملة في الشكوى والتقاضي والتظلم، وتقديم العرائض بمطالبه كلها، كما تجلت في هذا النظام أيضًا، بعض الممارسات الإقطاعية أو الأرستقراطية، كالأوقاف وما يشبهها من المؤسسات التي كان لها تأثيرها الفعال في الحياة الاجتماعية في الفترة العثمانية طيلة ستة قرون. وتسلّطُ بعض الآغوات والبيكوات في مرحلة التأسيس، وبعض الأعيان والولاة في عهود التخلف للدولة، وقدرتهم على التأثير في نظام الحكم، يمكن أن يُنظر إليها كممارسات إقطاعية ظهرت في مراحل ضعف السلطة المركزية. وهذا ما يجعلنا نمنح بعض الحق لمن يقيّم بنية الدولة على أنها نصف ثيوقراطية، لأن دخول البيروقراطية الدينية ضمن المكونات الأعم التي شكلت بيروقراطية النظام من خلال الخدمات العلمية كالحقوق والتعليم وما يشبهها، والصلاحيات المطلقة للقضاة في القضاء.. كل ذلك يبدو لنا تجسيدًا لنظام نصف ثيوقراطي.


    وإذا كان ينبغي تقويم ما ورد أعلاه من التصنيفات والتعريفات للدولة العثمانية في ضوء الوثائق، فإن هذه الدولة لا ينطبق عليها بشكل تام، أي نمط من أنماط أنظمة الحكم الواردة أعلاه بشكل تام، فينبغي تحليل “النمط العثماني” في الحكم، انطلاقًا من مقاربات كثيرة كالدين والحقوق والتاريخ والسياسة وغيرها.
    ونتناول بالبحث هنا، مفهوم العدالة وسيادة القانون؛ المفهومان اللذان يشكلان أرضية المبادئ التي جعلت من الدولة العثمانية ذات طبيعة عالمية، واللذان ينبغي توفرهما في أي نظام مهما كان شكل الدولة وعصرها.


    الحس القانوني وسيادة القانون
    بعد أبحاثه في الأرشيف العثماني طيلة اثني عشر عامًا، توصل الباحث “أ. حقي أوزون جارشيلي” المعروف بطول باعه في مجال البحث التاريخي، إلى أن كثيرًا من الأجانب كـ”هَمَرَ” (Hammar) وغيره من الباحثين في التاريخ العثماني، ربما كانوا يحملون أفكارًا خاطئة عن هذا التاريخ، مسجلاً هذه المعلومات المهمة: “كنت أعتبر نفسي مطلعًا على التاريخ العثماني وخبيرًا به إلى درجة كافية قبل البحث في الدساتير العثمانية. غير أني بعد الخوض في تلك الدساتير ووثائقها، أدركت مدى ضحالة معلوماتي وسطحية رؤيتي لهذا التاريخ، وتبين لي مدى قوة هذه الدولة الأطول عمرًا بعد الإمبراطورية الرومانية والتي تمددت إلى ثلاث قارات، كما أدركت سبب عدم تمزقها وتلاشيها في زمن قصير -مثلما كان حال الإمبراطوريات السلجوقية والمغولية والتيمورية- بالرغم من تعرضها للصدمات الكثيرة في مرحلة انحطاطها، وتمكّنها من الوقوف على قدميها رغم ابتلاع أراضيها قطعة قطعة. فهذه القوانين التي بلغت من القوة مبلغ العقيدة والإيمان، وتطبيقُها بشكل أو آخر حتى في مراحل ضعفها، وانتقالُها من جيل إلى جيل، واستمرارُها بالعَنْعَنَة كنصوص مقدسة، ورؤيةُ الأمة التركية نفسَها في موقع القيادة في كل حين، كلُّ ذلك مَكّنها من إنقاذ نفسها، أي إنقاذ الجامعة الإسلامية من التمزق والانحلال”.



    سر قوة العثمانيين

    إن القوانين والممارسات التي كانت سائدة حتى عهد السلطان محمد الفاتح في شكل تقاليد وأعراف، أصبحت مجموعة ومدوّنة اعتبارًا من هذا العصر. والدستور (قانون نامه) العثماني في عهد السلطان سليمان القانوني الذي يحوي “دستور التشكيلات” من عهد الفاتح والأحكام الحقوقية بشكل أعم وأكثر انتظامًا، كان واحدًا من أهم الدساتير العامة.


    لم تصدر الدساتير العثمانية من مجلس واحد كما هو الحال اليوم، غير أن إعدادها كان يتم بصورة أشمل من خلال إجراءات قانونية معينة. فمشاريع القوانين التي يعدها مسؤول الفرمانات (نيشانجي) يعرضها على الديوان الهمايوني الذي يعتبر مجلس الشورى -وهو بالطبع عضو فيه- وبعد النظر فيها والتشاور تُقدَّم للصدر الأعظم، فيعرضها بدوره على السلطان، وبعد التصديق عليها تأخذ اسم القانون والفرمان. وقد تحدّث كاتب هولندي من غير المسلمين عن صلاحيات السلطان وسيادة القانون في الدولة العثمانية فقال: “إن القوانين الإسلامية في الفكر الأوروبي، هي عبارة عن أوامر كيفية مزاجية. فالشريعة المحمدية بحسب الأفكار الشائعة في أوروبا، أعطت لشخص السلطان التفرد فيما يشاء من الأفعال والتصرفات، أي الصلاحية المطلقة، وجعلت إرادة السلطان الكيفيةُ بديلة عن القانون، فهو يَسُنُّ القوانين كما يشاء… غير أن ذلك كله بهتان عظيم إذا ما قورن بالحقيقة”.
    إن الدستور العالي العثماني الذي تم تدوين محتواه وإقراره كقانون للتشكيلات في عهد الفاتح، بقي -بتعديلات بسيط- مُطبّقًا حتى عهد التنظيمات. هذا الدستور الذي يبدأ بهذه العبارة: “هذا الدستور هو قانوني كما كان قانون آبائي وأجدادي، وقد عمل به الأبناء الكرام جيلاً بعد جيل”؛ يتناول مراتب الأعيان الكبار وأصولَ وقواعد التشريفات “الألقاب” وتشكيلات رجال الدولة، ومهامَّ الموظفين من رجال القصر، وأحكامَ وعقوبات المخالفات والجرائم التي يرتكبها أركان الدولة. ويؤكد على أهمية عدم الاكتفاء بإصدار القوانين، بل ينبغي أن تكون أيضًا موضع التطبيق الجاد، وأن تشيع ثقافة القانون والثقة به بين الناس. وقد أكد كل من “مصطفى لي” في القرن السادس عشر، و”كوبي بك” في القرن السابع عشر -وكان لكل منهما موقعه المهم في الترتيب البيروقراطي- بعد بيانهما متانة القوانين القديمة وكمالها؛ أنه عندما يُظهر جميعُ الناس خضوعهم للقانون، يمكن للحكومة أن تقوم بكل خدماتها على أكمل وجه.
    وهذا يعني أن نظام الدولة العثمانية ليس نابعًا من الممارسات المزاجية والعلاقات الشخصية، بل من بنية بيروقراطية مشكلة في إطار احترام القوانين. ويعزز هذا الطرح ما ذهب إليه خليل إِنالْجِكْ -الباحث المحلل في النمط السياسي العثماني- حيث يقول: “إضافة إلى أن مشهد الجهاز البيروقراطي العثماني في القرن السادس عشر، يسمح لنا أن نصوّب -ولو جزئيًّا- الصورة التي يعرضها “ويبر” (Weber). فالجهاز البيروقراطي في عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566م)، لا يمكن النظر إليه كمجرد جزء مُلْحَقٍ بباب الحاكم فقط، والدواوين لم تكن خاضعة للعلاقات الشخصية والتبعية المطلقة للحاكم. وفي بحث ميداني، نجد أن البيروقراطية العثمانية التي كانت تعمل نسبيًّا في نظام عقلاني، مكوّن من بنية تراثية صرفة قائمة على القواعد والأصول قد تطورت تدريجيًّا إلى نظام إدارات الحكم الذاتي”. يتبين لنا من كل ذلك أن البنية المَلكيّة التقليدية التي تصورها “ماكس ويبر” لنظام الحكم العثماني لم تكن تنطبق تمامًا عليه.
    مبدأ العدالة في نظام الحكم العثماني
    يأتي مبدأ العدالة في مقدمة أهم الخصائص التي تميز نظام الدولة العثمانية. ولقد قال “جان جاك روسو”: “إن القوانين تؤمِّن العدالةَ، وعلى الرغم من أن الله هو أصلُ العدالة ومنبعُها، فإن وجود القوانين ضرورية للحكومات”.

    واكتسب السلاطين العثمانيون مشروعيتهم من خلال تطبيقهم أحكام القرآن والسنة، والعدالة واحدة من القواعد الأساسية الأربعة للقرآن، ولذلك وضع السلاطين أنفسهم في منزلة “الأفراد” وتمسكوا بسيادة القانون. ورأوا في “الرعايا” أمانة وضعها الله في أعناقهم، وأن وظيفة السلطان تكمن في حماية هؤلاء الرعايا ورفع الظلم عنهم. ووظيفة (الحَلِّ والعَقْدِ) التي أنيطت بالحاكم تتمثل في تأمين جميع العلاقات بين الرعايا على أساس العدل بينهم. وقد قام قضاة الدولة العثمانية بتجسيد هذه الوظيفة من خلال نظام قضائيّ يشمل الإمبراطورية كلها. ومارسوا عملهم كقضاةِ محكمة عليا إلى جانب وظائفهم الأخرى في الديوان الهمايوني.


    نظام سياسي تفوق على أوروبا الإقطاعية
    وقد أثار “ليبر” (Lyber) في كتابه، الانتباه إلى أهمية العدالة عند العثمانيين بهذه العبارات الموجزة: “إن السبب الذي كان يمنح الحكم العثماني قوَّتَه ويحمي دولتَه من الزوال، يكمن في المحاسبة السريعة والأكيدة للمذنبين، وتحقيقِ العدالةِ بشكل سريع وفعال. فالمحاكم العثمانية يمكن القول بعدالتها، كما يمكن التأكيد بأن السلطان سليمان القانوني لم يأمر بإعدام أحد قبل محاكمته.. وقد تأثر بعض المراقبين الغربيين بالعدالة العثمانية التي تفوق عدالتهم في بلدانهم.. تأثروا بهذه العدالة التي تشتهر في الدولة شهرةَ النظام الصارم في الجيش، وشهرةَ نظامِ الترفيع في تسلسل الوظائف، والذي يستند إلى الأهلية والجدارة والخبرة في خدمات الدول العثمانية”.
    ولئن وقعت بعض الانتهاكات للقانون في القرون الستة من عمر الدولة العثمانية، فإنما تكون قد وقعت في الإجراءات والتطبيق، كما يمكن أن يحدث اليوم من المخالفات باسم القانون. غير أن الاستثناءات لا تنقض القواعد، والقانون والعدالة أصلان في الدولة العثمانية. ومن هذا الباب يمكن القول بأن الدولة العثمانية وإن كانت ملَكيَّة من الناحية السياسية، فإنها لا تنسجم مع الملكية الوراثية كونها نظامًا سياسيًّا أكثر تطورًا من الدول الإقطاعية التي كانت سائدة في الغرب. فلا أحد كان يملك -لا السلطان ولا غيره من حكام المناطق والأرياف- حق إصدار الأحكام الجزائية والمحاكمة. في المقابل، هذا الحق كان يملكه الأسياد الإقطاعيون في الغرب؛ فكانوا على النقيض من مركزية وسلطان القضاء في النظام العثماني، حيث لم يكن يملك الحكام المحليون في هذا النظام -حتى في القرن الثامن عشر- صلاحية المحاكمة، وهو ما يشكل علامة فارقة له عن النظام الإقطاعي الملكي. فبينما كان الإقطاعيون واللوردات في النظام الإقطاعي الذي كان سائدًا في أوروبا، يملكون حق التصرف مع رعاياهم وكأنهم قطعان من الأسرى من جملة الممتلكات أو الحيوانات.. لم يكن الولاة وأمراء السناجق وأمراء الإقطاعيات السلطانية (= سيباهي)، يملكون سوى إدارة رعاياهم في ظل الحقوق والقوانين، فليس لهم حق المحاكمات وإصدار العقوبات على هواهم.


    لقد عرف “ماكس ويبر” جميع الدول التقليدية على أنها دول ملكية وراثية، وقوَّم الدولة العثمانية ضمن هذا الإطار. ففي الأنظمة الوراثية تكون العلاقات الشخصية هي الفيصل والحكم وليست سيادة الحقوق والقوانين، ويطلق عليها “كارتر ف. فيندلي” لقب “حكم العائلة الموسعة أو الكبيرة”.. فالملك أو السلطان في أنظمة الدول الوراثية، يومٌ بدور الأب في عائلته -يتصرف كيفما يشاء- والموظفون في الدولة خدم أو عبيد له. وهذا المفهوم للدولة الملكية الوراثية التي خرجت من رحم النظام الإقطاعي الأوروبي؛ لا ينطبق على النظام العثماني.
    وكما سبق أنْ أوضحنا في هذا البحث -وهو ما أكده أوزون جارشيلي وخليل إنالجيك- فإن السلطات التي تعاقبت على الدولة العثمانية، مارست حكمها بالقوانين من خلال تنظيم بيروقراطي عقلاني نسبيًّا. وفي هذا الصدد، أشار أيضًا حقوقي هولندي نقلاً عن باحث أمريكي، إلى أن الدولة العثمانية كانت تمتلك نظامًا حقوقيًّا ومفهومًا للعدالة أرقى من دول أخرى. وما من شك كما أسلفنا في وقوع حالات ظلم في بعض مناطق الإمبراطورية التي امتدت لحقبة طويلة بلغت ستة قرون على بقعة جغرافية واسعة، وضمت في بنيتها شعوبًا وأديانًا كثيرة، غير أنه على العموم؛ روعِيَت القوانين التي ارتقت إلى درجة الإيمان بها في الإمبراطورية العثمانية منذ قيامها وحتى سقوطها، وسادت حاكمية العدالة حتى أقصى بقاعها من خلال نظام حقوقي مركزي.

    ــــــــــــ
    (*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.


    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    مراكز النشاط الاقتصادي في الدولة العثمانية

    إن شبّهنا الدولة بجسم مخلوق حي، فإن بقاء هذا الحي مرتبط بعمل أجهزته المختلفة مثل الجهاز التنفسي وجهاز الدوران، وجهاز الإفراغ…الخ، بالإضافة إلى توفر الشروط الضرورية الأخرى. فإن نظرنا إلى الدولة العثمانية من هذه الزاوية، نجد أنها لم تنشغل فقط بالحياة الدينية وبالأمور العسكرية والحربية وبالتعليم والتربية فقط، بل كانت تملك تقاليد تجارية ومؤسسات تجارية عريقة. وطوال أكثر من ستة قرون لم ينشغل المسؤولون عن إدارة الدولة بالحياة الدينية وبناء القلاع والحصون والثكنات العسكرية والمدارس والجوامع فقط، بل برزوا أيضاً في وضع تقاليد عريقة للتجارة وللمؤسسات التجارية، فبنوا المراكز التجارية والخانات والأسواق الكبيرة ومراكز كبيرة على الطرق الرئيسية للتجارة لاستراحة المسافرين والتجار والقوافل. وذلك لتشجيع التجارة وتوسيعها وفتح الأبواب أمامها. وكان هناك مراكز تُجمع فيها البضائع التجارية في الدولة العثمانية الواسعة الأرجاء وتقوّم قيمها وتُثبت أسعارها، أي كانت تعمل عمل البورصة في أيامنا الحالية. وكان يطلق على هذه المراكز التجارية اسم “بَدَسْتان” (bedesten).
    تأسست هذه المراكز أولا في مدينة “بورصه” وفي “أدرنه” ثم انتشرت منهما إلى أرجاء الدولة العثمانية. يأتي “بدَسْت” بمعنى “السوق، والبورصة، والمركز التجاري”. ويأتي جذر هذه الكلمة من العربية والفارسية من كلمة “بازِستان”، أي المكان الذي تُباع وتُشترى فيه الأقمشة. كما أطلق على “بَدَست” اسم “قيصرية” أحيانا، ومعناها “داخل القلعة”. كانت “بَدَسْتَانْ”، مركز التجارة بين المدن وكذلك بين الدول، كما كانت بمثابة المراكز التجارية في المدن، فتعد من أهم الأبنية في كل بلدة.



    التجارة الدولية
    كانت التجارة الدولية في القرن الرابع عشر بيد البرتغاليين والجنويّين (البنادقة). وكانت البضائع الثمينة تتجمع في الموانئ، حيث تتم التجارة فيها عن طريق النقل البحري بواسطة السفن. كانت الدولة العثمانية على وعي بأن ازدهار التجارة في أي بلد يساعد على ازدهار ذلك البلد، وتخلفها يعني تخلف ذلك البلد. لذا قامت بإحياء طريق الحرير التاريخي، وأمّنت بذلك تحول التجارة إلى الطريق البري مرة أخرى. لذا بنت الخانات -أي الفنادق- ومراكز التجارة على الطرق التجارية المهمة. وأنشأت هذه المراكز في داخل المدن أيضاً. واستطاعت الدولة -بتحقيقها الأمن والأمان للتجارة والتجار في أراضيها الواسعة وتيسير سبل التجارة أمامهم- السيطرة على التجارة الدولية بدءً من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر.


    البدستانات تختلف عن الخانات وعن “كَرْوان سَرايْ” (وهي أبنية محمية ومقامة على الطرق الرئيسية لاستقبال القوافل). فقد استعملت الخانات بدءً من القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر لتأمين حاجات المسافرين والتجار. وأطلق اسم “بَدَسْتان” في هذا العهد على هذه الخانات أيضاً. ولكن اقتصر اسم الـ”بدستان” في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (عهد نضوج الدولة) في جميع المدن الكبرى على مراكز البورصة والتجارة فقط، واقتصرت الخانات على أماكن استراحة المسافرين.

    “بَدَسْتان” والعمارة
    كما قلنا فإن الـ”بدستان” كانت مباني تجارية ظهرت عند ظهور الدولة العثمانية وتوسعها. ولم يكن فنها المعماري يشبه مثيلاته في حضارات الأناضول وفي الحضارة البيزنطية القديمة، كما لم يكن يشبه “القيصرية” وهي الأسواق المفتوحة وغير المسقفة والتي كانت موجودة في جنوبي شرق الأناضول؛ بل كانت تحمل السمة المعمارية للمدن “العثمانية-التركية” مثلما كانت المراكز والمباني الدينية والتجارية الأخرى الكبيرة (كجوامع السلاطين الكبرى) تحمل سمتها الخاص بها. كانت هذه المباني تحتل مركز المدينة وترمز إلى أنها مدن عثمانية.


    كانت الـ”بدستان” في الدولة العثمانية مربعة أو مستطيلة الشكل. لها قبب مغطاة بالرصاص، وتنقسم إلى أجزاء وأقسام لتكون صالحة لأفضل استخدام واستعمال، ولها جدران سميكة من الحجر، وترتفع في وسط المدينة وكأنها حصن أو قلعة، وتشرف بأبراجها على المدينة من عل، ويمكن رؤيتها من بعيد والتعرف عليها. كان لها في العادة باب أو بابان، وأحياناً أربعة أبواب رئيسية. وكانت مفتوحة على الشارع أو الشوارع الرئيسية للمدينة. كانت الـ”بدستان” مقسمة من الداخل إلى 4-20 قسما مربع الشكل، ولكل قسم قبة فوقه. ويدخل الضوء من نوافذ صغيرة موجودة في أعلى الجدران. وفي خارج بناية الـ”بدستان” تلتصق جدران الدكاكين بها، كما تنتظم الدكاكين ومحلات العمل على جانبي الطريق الخارج من الـ”بدستان”. كما توجد حول هذا المجمع دكاكين مربعة أو مستطيلة الشكل.
    تكون مداخل الـ”بدستان” في العادة مرتفعة وفخمة، كمداخل المعابد، وجدرانها الحجرية مزينة بأشكال فنية وزخارف. أبوابها من الحديد أو من خشب الأبنوس ومزخرفة كذلك بزخارف حديدية أو خشبية. ودكاكينها مصانة جيدًّا. والبناية تحتوي على دكاكين وعلى المخازن العائدة لها. وقبابها مغطاة بالرصاص لحفظ البناية من تسرب مياه الأمطار والثلوج. لذا فإن بنايات الـ”بدستان” كانت تحمل طابعًا عثمانيّاً متميزاً. ولكونها مبنية من الحجر كانت أيضاً رمز المتانة والقوة والعمر الطويل.
    وفي الخانات كانت السلالم موجودة على يمين ويسار المدخل مباشرة وتؤدي إلى الطابق الثاني بـ(20-30) درجة. وفي القسم الأمامي من الطابق العلوي يوجد “رَواق”، وفي القسم الخلفي توجد حوانيت أو متاجر. وبينما تغطي القبب أعلى الرواق تكون سقوف الحوانيت على شكل أقواس وقناطر. وكل حانوت عبارة عن غرفة واحدة. أما الحوانيت في الأركان فيكون كل منها عبارة عن غرفتين أو ثلاث غرف. ويوجد أيضاً رواق أمام المتاجر في الطابق الأرضي. وتحت هذه الحوانيت والمتاجر، توجد مخازن لخزن البضائع. وفي هذه المخازن توجد صناديق حديد تحفظ فيها الأمتعة الثمينة. ويذكر “أَوْلِيا جلبي” الإصطبلات الملحقة بهذه “الخانات”، حيث تستريح فيها الحيوانات التي تحمل البضائعَ والناسَ في القوافل. والإصطبل الموجود في “قوزاخان” في مدينة “بورصه” يعد أنموذجاً لإصطبل الجمال، حيث استعمل القسم العلوي منه لاستراحة المسافرين ولخزن البضائع. وتوجد مواقد في غرف الطابق العلوي، وترتفع المداخن من جانب القبب. وتوجد ميضأة في وسط باحة الخانات، وفي المؤخرة يوجد مسجد.
    مبادئ عمل مراكز الـ”بدستان”
    كما توجد حاليا قواعد ومبادئ معينة في المراكز التجارية وفي البورصات وفي المناطق الصناعية التعاونية حددتْها القوانين، كذلك كانت لمراكز الـ”بدستان” في الدولة العثمانية قواعد يجب العمل بها. فهي تؤسس أولاً إما بفرمان من السلطان أو بأمر من وزير. وعندما يتم بناؤها تصبح مركز جذب للتجار الأغنياء الذين يرغبون بالتعامل في مراكز تجارية آمنة. ويقول المؤرخ التركي المعروف “خليل إنالجيك”: “كان من القواعد المعروفة أن الـ”بدستان” تعد مركزا للتجارة في المدينة، وكذلك مركزاً للتجارة بين الأمم.” لذا نرى أن أسواق الـ”بدستان” ومراكزها في الدولة العثمانية كانت طوال مئات السنين محلاًّ لزيارة آلاف التجار القادمين من إيران والهند وأوروبا، ومحل تعارفهم ولقائهم وإقامتهم، ومحل بيعهم وشرائهم. وقد أنشأ السلطان محمد الفاتح بفرمان منه، “بدستان إسطنبول” والسوق المحيطة بها بعد الفتح مباشرة، لتكون مركزاً تجاريا كبيراً وآمنا على طريق الأناضول – الروملي ولمدينة إسطنبول كذلك، حيث استطاعت هذه السوق استيعاب الفعاليات التجارية الكبيرة آنذاك.


    ومع أن جزءً من إيجار الـ”بدستان” والخانات كان يذهب إلى باني هذه البنايات، إلا أن الجزء الأعظم منه كان يصرف لبناء الجوامع والمدارس الدينية والكليات ومراكز توزيع الأطعمة مجانًا للفقراء، أي كان يصرف لأعمال البر والخير. فقد صرف إيجار الـ”بدستان” التي شيدها السلطان “محمد جلَبي”، في مدينة أدرنه عام 1418م، لتعمير جامع “أسكي جامع”، وإيجارُ الـ”بدستان” التي شيدها السلطان محمد الفاتح وكذلك إيجار سوق “قبالي جارشي” للصرف على أياصوفيا التي حوّلها من كنيسة إلى جامع. وصرف إيجار الـ”بدستان” التي شيدها السلطان بايزيد الثاني في مدينة بورصه لتعمير جوامع إسطنبول ومراكز مساعدة الفقراء.
    التجارة والنشاط الاجتماعي
    لم يفصل العثمانيون الحياة التجارية عن الساحات الأخرى للحياة. واستفادوا في تأسيسهم هذا التوازن بين مناحي الحياة من خزين التجارب الإسلامية الطويلة الأمد، والتي بدأت من عهد المدينة المنورة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واستمرت طوال عصور عديدة وفي بلدان إسلامية متعددة.


    كان التجار في العهد العثماني على نوعين: التجار المتجولون، والتجار المقيمون في المدن. فكانت مباني الـ”بدستان” محل عمل التجار المقيمين في المدن ومركزاً لتعيين أسعار البضائع أيضاً، أي كانت تعمل عمل البورصة الحالية. كما كانت دائرة لاستيفاء الضرائب. وكان الموظفون الرسميون الذين يعيّنون الأسعار ويستوفون الضرائب يقيمون هنا. لذا لم يكن يسمح بزيادة الأسعار خارج الحد المعقول، أي لم يكونوا يسمحون بالتعامل بـ”السوق السوداء”.
    كانت كل “بدستان” تشكل نواة الأسواق الكبيرة. وكانت جميع أنواع السلع والبضائع تباع وتشترى فيها مثل أسواق “سوبر ماركت” في أيامنا الحالية. كان بعض هذه المراكز التجارية مراكز لأنواع معينة من البضائع ولمنتوجات أصحاب مهن معينة. مثلا هناك مركز للصياغة، أو لبيع السجاجيد أو الأقمشة أو البهارات أو الكتب أو للعطارين، وكان يوجد حولها بياعو الحاجيات اليومية من الأغذية كالفواكه والخضروات والطحين والملح…الخ. أو من أنواع الوقود كالحطب والفحم.. أو من المواد الخام كالدهون والزيوت والأصباغ.. وكذلك كان أصحاب الحرف الأخرى كالخياطين وأصحاب المطاعم وصناع الخزف..الخ، يزاولون نشاطهم هنا. كما كانت هذه الأسواق تضم الأماكن الضرورية لحاجات الناس كالمساجد وأماكن الوضوء وأماكن القراءة والمقاهي والحلاقين والحمامات…الخ.
    كان أصحاب الحرف المختلفة يعملون في الـ”بدستان” كعائلة واحدة، وكانت لهم منظمات ذات تقاليد عريقة ومستقرة مثل نقابة “الأخوة” (Ahîlik). ولم يكن يؤخذ إلى هذه النقابة من أصحاب المهن من لم يمر بمرحلة التدريب والتعليم التي تتدرج من مرحلة المتعلم الناشئ أو العامل المبتدئ إلى المتدرب إلى المعلم (المحترف). كان يتم تعليم الشباب المبتدئين الحرف المختلفة في ظل تدريب وتعليم يأخذ بنظر الاعتبار التدريب المهني والتجاري مع الحرص على ترسيخ مفاهيم أخلاقية أهمّها أن يكون كل منهم إنساناً محبًّا للخير وجاراً حسن الخلق، أي يتلقون تدريباً وتعليماً أخلاقيا أيضاً. وكان يتم ترقية هؤلاء الشباب من صنف “المبتدئ” إلى صنف “المتدرب”، ثم إلى صنف “الأستاذ” أو “الأسطة” بالتعبير السائد آنذاك في مراسيم احتفالية. وهكذا كانت “بدستان” تنشئ كادرها وتحافظ عليه.


    كانت للـ”بدستان” أربع وظائف مهمة:
    1-تعيين أسعار البضائع.
    2-فرض الضرائب على البضائع واستيفائها.
    3-خزن البضائع والسلع الغالية والثمينة العائدة للدولة أو للتجار، مثل الذهب والمجوهرات والأقمشة الغالية، والوثائق المهمة، حيث كانت هذه البضائع تحت ضمان الدولة، فتخزن بشكل آمن، ثم تعرض للبيع.
    4-كونها مقرًّا للتجار المحليّين، حيث كانوا يقومون بأنشطتهم التجارية، ومنها كانت تنطلق قوافلهم إلى البلدان الأخرى.


    كان لكل “بدستان” سَريّةُ أَمنٍ خاصة بها، وشخص مؤتمن. وكانت الأموال المفقودة (أي الأموال التي فقدها أصحابها) تبقى عنده مدة معينة. فإن لم يظهر صاحبها تسلم لبيت المال. كما كانت تودع عنده أموال اليتامى حتى يبلغوا سن الرشد. كما كانت الـ”بدستان” تقوم بوظائف شبيهة بوظائف البورصة التجارية في أيامنا الحالية (بورصة القطن أو بورصة الزبيب مثلاً).
    كانت الـ”بدستان” في بعض المدن مركز عمل التجار الذين يقومون بتجارة الأقمشة الثمينة. وكان كل منهم يملك فرمانًا من السلطان وأمرًا من القاضي كضمان وتأييد له عند قيامه بهذه التجارة. وكانت أي تجارة سِرّيّة تجرى خارج الـ”بدستان” تُعد تجارة غير قانونية ومنافسة غير شريفة بالنسبة للتجار الموجودين في الـ”بدستان” الذين يدفعون الضرائب بانتظام. فمثلاً، حدث في عام 1609م، أن طرق سمع تجار “بدستان” أن بضائع معينة (مثل العطور) تباع سراً في منطقة “غلطة” إلى العطارين، فتقدموا بالشكوى إلى السلطان وتمت معالجة الأمر. أما سيطرة تجار الأقمشة الذين هم أحد عناصر الاقتصاد المضبوط رسميًّا، فقد استمرت حتى أواسط القرن السادس عشر، حيث صدر قرار بالسماح لتجارة الأقمشة خارج الـ”بدستان” ما لم يكن هناك قرار من الحكومة بالمنع.
    نعتقد أنه من المفيد إجراء تحليل مقارن بين الـ”بدستان” التي كانت تحتلّ مكانًا مرموقًا في الحياة التجارية في الدولة العثمانية، وبين المراكز التجارية الحالية. فهذا مفيد، ليس من الناحية التاريخية فقط، بل من الناحية التجارية والاجتماعية كذلك. فمن ناحية، هناك فائدة في ضبط الفعاليات التجارية ومراقبتها، وأن تكون هذه الفعاليات على أساس مشروع وتُراعى فيها الحقوق؛ ومن ناحية أخرى، فإن عدم السماح للشخص بالعمل التجاري (إن لم يكن أهلا له ولم يدرّب بعد عليه) أيضاً من الأمور التي يجب مراعاتها.
    ______________________
    (*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.




    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    الوقف العثماني

    الأوقاف والخدمات العامة

    أُسست الأوقاف في التاريخ الإسلامي، من أجل تقديم الخدمات المختلفة إلى الإنسان والأحياء الأخرى من الحيوانات. وكانت مؤسسات الأوقاف -بلا شك- واحدةً من العناصر المؤثرة التي استطاعت الارتقاء بأنماط العيش وتأمين الحاجات الاجتماعية للناس الذين يعيشون في ظل الدولة العثمانية حتى في مناطقها النائية.
    وإذا ما تأملنا في مفهوم الوَقْفِ لدى الدولة العثمانية، نجد أنه مزيج من الشرقي الممتد من حضارة الأيغور إلى السلاجقة، والغربي الممتد من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية البيزنطية. فقد ورثت الدولة العثمانية هذا الميراث الممتزج الديناميكي، وطورته وصبغته بقيمها وثقافتها الدينية.
    لقد لعبت هذه المؤسسات القانونية، دورًا هامًّا في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية لدى الدولة العثمانية والبلدان الإسلامية كافة. يقوم النظام الوَقْفي على فعالياتٍ مؤسساتيّة قانونية، للرعاية الاجتماعية التي تضمن اسمترارية المجتمع. وبهذا المعنى، فإن فعاليات الأوقاف التي نشطت في الدولة السلجوقية والعثمانية، نمت نموًّا كبيرًا بتأثير الحقوق والأحكام الإسلامية.
    ويعتبر “أورخان غازي” ثاني سلاطين الدولة العثمانية، هو أول مَن أسس نظام الأوقاف التي نمت بشكل منسجم بالنمو الاقتصادي والسياسي للدولة. وعندما أمر أورخان غازي ببناء أول مدرسة عثمانية في إزنيك، أوقف لها من الأموال غير المنقولة (العقارات) لتسد حاجاتها من المصاريف والنفقات. واقتدت بها أوقافٌ أخرى قامت لأغراض مختلفة، كتقديم الأموال لليتامى، وللأرامل، وللغارمين المدينين، وكتوزيع الخضار والفاهكة للمواطنين، وكرعاية الكبار العاجزين كقوّاد القوارب والحمّالين، وكتأمين إرضاع الأطفال، وتجهيز البنات للزواج، وتأمين بَدَلَ الأواني والصحاف التي يكسرها الخدَم لكي لا يتعرضوا للعقاب من أسيادهم، وكإطعام الطيور، وشراء الألعاب للأطفال، وتأمين حاجيات المسافرين، والإنفاق على طلبة العلم وتأمين الإقامة لهم، وتأمين العمل للعاطلين، وكذلك التدريب المهني، ومؤازرة المفلسين والمدينين، وتزويج الشباب، وحماية الحيوانات، وتأمين نظافة الطرقات… بالإضافة إلى تأسيس أوقاف تمويلية لشق قنوات المياه، وإنشاء القناطر، وبناء سبُل المياه، وحفر الآبار، وبناء المدارس والخانات والحمامات والجوامع والطرق والأرصفة والجسور… وبتمويلٍ من الأوقاف قامت المشافي بتقديم خدماتها للمحتاجين، وتقاضى الأطباء أجورهم منها، ويجري في هذه المشافي علاج المرضى من غير تمييزٍ في لون أو عرق أو دين، ويجري كذلك تأمين الأطباء، كما يتم تقديم الدواء مجانًا إن لزم الأمر، وتقديم وجبة أو وجبتين من الطعام يوميًّا في العمارات لأبناء السبيل والمسافرين والفقراء والمساكين.

    مؤسسة الأوقاف والاقتصاد العثماني

    النظام الاقتصادي في الدولة العثمانية -إلى جانب الإقطاع الذي ورثته من الدول الإسلامية المتلاحقة- كان يقوم على مؤسسات الفتوة والآخية التي تعتمد على العدالة في أساسها. كان الاقتصاد العثماني يعتمد بنسة كبيرة على الزراعة، الأمر الذي أكسب أنظمة الأراضي مكانة متميزة ضمن البنى الاقتصادية العثمانية. ونظام الأراضي هذا، كان يتمثل بنظام التيمار؛ وهو نظام يتم من خلاله استخدام الأراضي من قبل الرعايا مقابل الوفاء ببعض الالتزامات كتوريد عُشْر المحصول لصاحب التيمار، ودفع الضرائب المقررة. كما كان أصحاب التيمار بالمقابل، ملزمين بتقديم الجنود إلى الجيش أثناء الحرب، وذلك بما يتناسب مع حجم محصول تيمارهم. ظل التيمار قائمًا كوسيلة اقتصادية للقوة العسكرية العثمانية، إذ لم تقم الدولة بجمع الموارد الزراعية في مركز واحد، إنما أعطتها لسباهية التيمار (الفرسان) لتتمكن من تأمين جنودها أثناء الحرب من جانب، ومن تأمين مواردها الزراعية أثناء السِّلم من جانب آخر، وهذا وفّر لها نظامًا ديناميكيًّا حركيًّا بلا شك.

    في القرن السادس عشر، كانت نسبة 20% من الأراضي تدخل ضمن نظام الأوقاف لدى الدولة العثمانية، وكان حوالي 15% من موارد الدخل للأوقاف تتكون من الأسهم المقبوضة من واردات الدولة. ففي هذه الحقبة، كانت واردات الأوقاف تشكل 12% من بين الواردات العامة. وقد ازدادت هذه النسبة فيما بعد لتبلغ 20%، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن واردات أراضي الأوقاف فقط هي الداخلة في حسابات النسب السابقة. هذا وقد وصلت نسبة رجال الدولة الذين قاموا بتأسيس الأوقاف في القرن التاسع عشر إلى 42%، ونسبة 16% من العلماء، و9% من أصحاب الطرق الصوفية، و2% من أصحاب الحرف والصناعات، و11% من أصحاب مختلفي المهن، و18% من النساء.
    ونظام التمويل الذي تقوم عليه الأوقاف آنذاك، يملك دورًا مهمًّا في خدمات الثقافة والتعليم والصحة والبنية التحتية وأشغال المرافق العامة والخدمات الدينية والاجتماعية، علاوةً على المساهمة في تأمين التمويل والبنية التحتية اللازمة للضمان الاجتماعي، والعمل الخيري في مختلف الميادين. ففي تركيا اليوم -مثلاً- يبلغ الإنفاق الإجمالي على الصحة، والتعليم، والضمان الاجتماعي، والفعاليات الدينية، والخدمات العامة، (100) مليار ليرة تركية! وهذا الرقم الذي يعدّ عبئًا ثقيلاً على ميزانية الدولة في عصرنا، كانت الأوقاف تقوم بحمله لوحدها في العهد العثماني.

    الأوقاف والخدمات العامة

    كانت الأوقاف تلعب دورًا مهمًّا في الإعمار والإسكان إبان العهد العثماني. فالخدمات العامة التي تتلقاها المدن، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، والخدمات التعليمية، والدينية، وكل الحاجات الاجتماعية، كانت تلبى من قبل مؤسسات الأوقاف.

    لقد تم دعم الأوقاف عن طريق مصدرين أساسيين: الأول هو المؤسسات الوَقْفِيّة القائمة على مصادر الدولة، وهي على الأغلب أوقاف يقوم بتأسيسها رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان وأبناء آل عثمان. والميزة الأساسية لهذه الأوقاف، تكمن في تحويل جزء من الأموال المخصصة للبيروقراطيين من قبل الدولة، واستخدامها في الأنشطة الوَقْفيَّة الخاصة. ونرى أن تشكيل المؤسسات الوقفية التي تستمر في عطاءاتها حول سد الاحتياجات الدينية والعلمية والصحية والثقافية للمدن، أصبحت تقليدًا متّبعًا بين رجالات الدولة. والمصدر الثاني لنظام الأوقاف، يشمل أوقاف المواطنين العثمانيين الأخيار، الذين يبتغون مرضاة الله، ويسعون وراء الأعمال الصالحة التي تفيد الشعب والمجتمع. وهذه الأوقاف وإن كانت صغيرة الحجم من حيث التمويل، فإنها لعبت دورًا كبيرًا لصالح الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
    وعليه فإن هذا النوع من نظام الأوقاف الخيرية، الذي أبدى تطورًا مستمرًّا في العهد العثماني، شكّل عنصرًا مهمًّا في تمويل الخدمات، وساهم في نمو المدن العثمانية وازدهارها. ومن ثم أدت هذه الأوقاف مهمّة كبيرة في ارتفاع مستوى المعيشة ومن ثم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في كافة أرجاء الأراضي العثمانية.
    إذن، تمتعت الأوقاف بمكانة رفيعة مرموقة لدى الدولة العثمانية، وأصبحت جزءًا أساسيًّا من حضارتها. إذ أقامت الخانات التجارية الوقفية، والأسواق لكافة الأمتعة والسلع؛ من أقمشة ومجوهرات وأسلحة… وشيدت القصور الوقفية العديدة على الطرق بين المدن والمناطق لتحط القوافل التجارية وقوافل المسافرين رحالها، وتستريح وتأمن شرَّ الأشقياء وقطاع الطرق… علاوةً على أن هذه الأوقاف، ساهمت في تطور الفنون الجميلة كالخط والتذهيب والزخرفة والأبرو (فن الرسم على الماء) وتجليد الكتب، حيث كانت سببًا لآثار فنية عالية المستوى. كما أن للأوقاف أهمية كبيرة أيضًا، في مجال اللغة والثقافة والتاريخ والقانون وحتى في الفولوكلور.
    باختصار، لم تترك الأوقاف لدى الدولة العثمانية، ميدانًا من الميادين الاجتماعية، ولا أرضًا من الأراضي العثمانية، إلا ودخلتها وقدمت الخدمات لأهلها. وبفضل هذه الأوقاف، استمرت خدمات التعليم، والصحة، والخدمات الدينية، والثقافية، من غير خلل أو تقصير، حتى في فترات المِحَن والأزمات الداخلية والخارجية للدولة.
    ومما يجدر ذكره، أن الأوقاف التي تقدم الخدمات الثقافية والاجتماعية للمجتمع اليوم، والتي تتبناها الدول وتقوم هي بإدارتها وتمويلها، كانت تؤسَّس وتُدار وتموَّل من قبل أشخاص عاديين في العهد العثماني! ومن الصعب جدًّا، أن نجد اليوم دولة من الدول، يقوم أفرادها باستقلال ذاتي بتمويل الخدمات العامة، كما كانت الحال في الدولة العثمانية.


    _______________
    نعمان ترك أوغلو | كاتب وباحث تركي.
    مؤسسة الأوقاف والاقتصاد العثماني

    اترك تعليق:


  • صباحو
    رد
    المشاركة الأصلية بواسطة التركي مشاهدة المشاركة
    ومما يزهدني في أرض أندلـسٍ *** أسمـاءُ معتمـدٍ فيها ومعتضـد
    ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
    لا تذكر الاندلس الا واستذكر هذين البيتين .. فهذه الالقاب هي من فرقتهم وجرت عليهم الماّسي والويلات ..
    اخي بالفعل موضوعك جميل واثناء القراءة في الكثير من الاحيان اندمج في الموضوع وحين اخرج احس بانني كنت في عالم وزمن اّخر .. ولولا مخافتي ان افسد الموضوع بكثرة التعليقات لكان لي على كل سطر تعليق ..
    حياك الله اخي الفاضل
    وجزيل الشكر متابعتك الدائمة للموضوع

    اترك تعليق:

يعمل...
X